مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية “مثل الماء لا يُمكن كسرها” للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن هذه المجموعة الشعرية المتميزة لم تأخذ حقها من الدراسة والنقد، ففيها تقدم الشاعرة نموذجاً لشعر المرأة يتخطى الخطوط الحمراء ويتحداها ويناقضها في مفهومها الإجتماعي والديني. هناك مقطع توقفت عنده طويلاً: على قدمي ركع الرجال، أعطنا عشبة جلجامش، عندنا نساء شبقات، من الندى يرغبن بالكثير، وبحيضهن تخضر الأرض .هذه العبارة (بحيضهن تخضر الأرض) هي ثورة على القيم والأفكار والمعتقدات الاجتماعية والدينية التي تعد المرأة في فترة الحيض مدنسة وكأن قيمتها الإنسانية هبطت. لكن فرات تربط الحيض بالحياة، تخضر الأرض كأن الحيض نسغ يمتزج بدم المرأة، كنسغ الشجر الذي يُعطي الحياة للأغصان .

في مقطع آخر: “قالوا لنا أنت له وهو لك

وخُتمنا بخاتم أحكامهم

شهود زور وقعوا على ورقة

 ختموها بخاتم الحاكم بأمر الله

زينوا لنا الفرح  والموت والحب.”

-رابعة العدوية امرأة كانت تنام تحت عباءة الرغبة وتصرخ في جلد الرجل شهوة وفي جسد المرأة شهوات. كنت النهر وأنا ضفتاه والعابرون هم الحصى في جسدي. كنت تشبه الليل وأنا أشبه الموسيقى. كنتً تُشبه الموت وأنا أشبه الحياة  لذلك لم أخلق لك ولم تُخلق لي “.

في مقطع بعنوان عانس: “دخل عليها الشجر والنهر والورد والندى، قالوا لها: جئنا لننام في سريرك لنعلن الولاء لك. غنت لها الأٌقمار، الطيور هاجرت إليها، الجبال ركعت عند قدميها – هتفوا لها: بريء رحمك لم يمسسه الرجال.”

وفي مقطع بعنوان أمومة تقول: “عندما نهضت الأمومة بكل جبروتها وصرخت: أولادي خرجوا من رحمي، شربوا من دمي. إنني أراهم يتخبطون، لا أنا منهم ولا هم مني. امرأة من بعدها قالت : قديماً كان الإنسان وقبله كان الإله–وقبلهما كانت المرأة ولأن الجميع خرج من رحمها لذلك يرجمونها بالحجارة.”

الأمومة كما تُعبر عنها الشاعرة فرات إسبر قوة ونعمة، والرحم الذي يخلق الحياة يثير النقمة لدى رجال يريدون المرأة خاضعة ويتحكمون بها، لكن المرأة هي الأصل وهي تخلق الحياة، وقد بين العلم أن الكون كله يُشبه الرحم.

في داخل المرأة عدة نساء، كأن روح المرأة أرواح داخل جسدها: “وأنا حارسة الكلمات على إيقاعها أرسمك قاتلاً مُحارباً شهيداً وبكل ألوانها. أرسمك خائناً وعاشقاً ومرتداً ولكنك في بيت شهوتي تكون واحداً وأنا امرأة عبرت وأخرى تأتي وثالثة تولد ورابعة في مخاض وخامسة في وأد وسادسة في قفص وسابعة في تابوت وثامنة في عقد زور وتاسعة مُقيدة وأنا التي عبرت – اسمعني اسمعني بلغة الطير ولغة الحجر ولغة الماء ولغة الريح أنا عابرة الأكوان مع الوجع.”

سيدة التعب

استوقفتني عبارة (سيدة التعب) وكأن التعب من مزايا وصفات المرأة خاصة في عالمنا العربي،  فالمرأة هي العطاء بلا حدود وهي من تنجب الأطفال وتربيهم وهي تعتني بالزوج وبالأهل حين يمرضون أو يصلون إلى أرذل العمر، لكن، ومن خلال تجربتي الحياتية أيضاً، لا يحق للمرأة أن تتعب، وإذا تعبت تُلام وتُتهم بالتقصير وأحياناً بالجنون. في مقطع رائع بعنوان “مثل الماء لا يمكن أن تُكسر” تقول: “صديقتي التي ماتت، لا تشبه النساء، يداها قاسيتان وبشرتها جافة، تُشبه الغبار، إنها غبارية اللون، لا تحب العطور، ذات يوم حلمت أنها تسبح في بحيرة الورد ولكنها استيقظت فجأة لترى نفسها في كومة من غبار.” وفي نهاية المقطع تقول: “ذات يوم جربت عطر النساء، صديقتي التي لا تشبهني لا تُحب العطور، هي سيدة التعب، صديقتي التي تشبهني كانت أنا، ومن يومها قررت أن أغيب معها في الغبار.” نلاحظ تكراراً كثيراً لكلمة غبار ولامرأة من غبار، فالغبار لا قيمة له وقلة من تلاحظه، وهو بلا لون مميز أو رائحة. ولقد أبدعت فرات إسبر في وصف المرأة بأنها امرأة من غبار لأنه لا أحد يحس بها وبوجع روحها وبتعبها وبأحلامها وتوقها للحرية، لتكون ذاتها، إنها دوماً المُلحقة بالآخر، كينونتها في خدمة الآخر وفي العطاء بلا حدود دون تذمر أو تعب، هي في الحقيقة كأنها كائن خفي لا أحد يراه على حقيقته، لا أحد يحس أنها متساوية تماماً مع الرجل وأن لها طموحاً وأحلاماً وشغفاً، عليها أن تكتفي فقط بعبارة (الجنة تحت أقدام الأمهات) في هذه الحالة وحدها تكون لها قيمة وتُقدس، لكن الجنة ليست تحت أقدام المبدعات اللاتي يتعرضن للاعتداء ويُتهمن بالأنانية وسوء السمعة والاسترجال، وكم من نساء يعجزن عن التعبير عن مشاعرهن وأحلامهن، كم من نساء يكدن ينهرن من التعب لكن المجتمع الذكوري زرع في نفوسهن منذ أن كن طفلات أن غاية المرأة هي الخدمة، خدمة الأسرة وأنه ممنوع عليها أن تتعب لذا تشعر أنها تعيش وهي تُخفي ذاتها الحقيقية داخل روحها، تلك الذات تُصبح صديقة المرأة تناجيها وتُفضفض لها عن تعبها. مؤثرة وعميقة تلك العبارة (صديقتي التي تشبهني كانت أنا ومن يومها قررت أن أغيب معها في الغبار).

ويبقى الحنين إلى الوطن موجعاً كالحرق، ففي مقطع بعنوان بيتنا تكتب فرات ابنة مدينة جبلة:     “آه يا بيتنا غادرك الأحبة واحداً واحداً والآخر غاب ولم تزل هناك أم تعد العشاء وقلبها لى الباب –وأب يقول تأخر المطر والأحبة لم يقرعوا الباب وما زلنا سنين انتظار. يا بيتنا ألا يزال الدرب نفسه والحارة القديمة، سوق جبلة العتيق، قلعة الرومان، نادي المعلمين، ومدرستي الثانوية؟ لملم الدمعَ يا هدب، صار بحيرة، والمراكب ما أوصلتني إلى الشط البعيد، في غفلة تُهت بحلمي وأيقظني قرع باب، أيقنت زائراً قد طل في غربتي يسأل عني، ما كان ذاك غير صوت ريح وأنين مطر.”

تُعبر فرات إسبر عن الخوف بكلمات قليلة تبدو بسيطة لكنها عميقة وتُلامس شغاف الخوف، في مقطع بعنوان “البيت الذي اسمه الخوف” تكتب: “أنا وأنت هنا  بين هذه الجدران وبيت كبير لا يُمكن أن أصف أسراره ! على بابه يقف الخوف. هل ترى هذا الشباك العالي ذا الأقفاص؟ – والرجل الحارس يراقبنا.–أتراه. كيف يحدق؟ من داخل هذه الجدران أكتب إليك أنا وأنت ولا أحد سوانا. أنا وأنت كانوا ثلاثة، كانوا أربعة وكنا كثيرات أنا ونفسي، أنا ونفسي أكثر من اثنتين ولكن في قفص واحد.

انظر. ..انظر

هذه الشجرة تشبهني تماماً وهي تموت“.

في مقطع آخر: “تسألني اليوم لماذا أنت حزينة؟ كانت الرصاصات تخترقني والقناص الذي وراء الباب وكل الذين سقطوا أمامي كانوا أنا. أنا اليوم أسألك من أنت؟ أنت لا تدري وأنا لا أدري ولكن لا بد من سؤال.”

تكتب فرات إسبرعن الحب بطريقة صوفية شاعرية، لا تستعمل كلمات تعبر عن الشهوة والرغبات، يبدو وصفها للحب أشبه بمن يصف رحيق وردة أو نسمة عليلة كأن الحب حالة وجدانية أو كأن الحب كوشاح من نور يُغلفنا. في مقطع بعنوان “كل الأضواء مطفـأة إلا ضوء قلبي إليك” : وردة الحب كم بتله لديك، كم ساق؟ أمنا الأرض مغمورة في الحب وباقي الكواكب من غيرتها تنام!  شك نساء وغيرة وهذا السفر الطويل لن يلحق بالأيام. بتلات الزهر سكرى. – هل تذهب معي الليلة إلى تلك المملكة التي يسمونها الحب، التي يسمونها الموت، وأنا بها من السحر مس جنون.”

في مقطع آخر تقول: “احملني على ظهرك يا ضوء قلبي، أنا بيت الأمنيات التي لا ! يستجاب لها. أنا العجوز التي لم تلحق الحلم وما زلت تسألني: أتريدين الصعود إلي أم أنا أهبط إليك؟”

ومن مجموعة أوراق من دفتر الورد اخترت الورقة الأولى:

“إلى وجه أمي الذي ضاع مني، إلى حبها الذي لم أستطع اللحاق به، إلى قدميها عاريتين أول الظهيرة ويديها المتعبتين قبلتي، أنا المرأة التي كنت مثلها.”

الورقة الثالثة: “الوردة التي ذبلت لم تكن في حديقة كانت في وجع النسغ، في حزن التراب.– لم تقف عند باب ولم تسأل النجم عن مدار.”

ومن مقطع تأملات امرأة : “كل الذين أحبهم ماتوا، وكل الذين لا أحبهم ماتوا، وها أنا في غابة الموت أهيم. الكراهية طائر أسود اللون يختلس النظر إلى قلبي يريد أن يقنص بذور الحب منه. – الحب طائر بلا أجنجة وحده يحلق عالياً في السموات، وحده يعرف أسرار اللغة وفك أزرارها. جسد تتقاسمه العشائر، قلب مصلوب في جدران الجسد. نحن في الماضي، نحن في الحاضر، نحن في وجع المستقبل. من خلف نظارتي أراقب الكون، أرى بشراً من كل ألوان الطيف، من خلف نظارتي أراقب ذاتي، أرى ما لا يراه أحد، رغبة في الحب ورغبة في الزوال. –أعرف أنني لم أفرح، أعرف أن الفرح لن يأتي، وسأغلق الأيام على حزنها.”

فرات إسبر شاعرة متميزة، هي تحكي عن المرأة الكونية الخلاقة القوية، والعاشقة المخذولة، لكنها حرة وتكسر القيود وتتحدى الأطر التي يسجنونها فيها. حين قرأت ديوانها “مثل الماء لا يُمكن كسرها” كنت أقرأ العالم كله من خلال رؤية امرأة تتقن الغوص في معاني الحياة والحب والموت والرغبة، هي ترسم بالكلمات عالمنا والوطن والأم والحبيب والأبناء والغربة، والأرض التي تخون أحياناً كالبرق. وأحب أن أختم بعبارة كتبتها فرات: “العمر زنزانة نعزف فيها أناشيد البقاء.”

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي “عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟”، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: “بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد”، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا لقلّة ثقافة السوريّ، بل لانشغاله بدوره في طوابير الانتظار التي لا تنتهي.

ولأنّ الأمور في الحرب لا يمكن أن تنفصل عن بعضها بسبب ترابطية عجائبية فأين طاف بها الساقي تنسكب خمراً غير مكتمل التعتيق في كؤوس تظلّ فارغةً لا تملؤها إلّا جماعية الهموم، ومنها بيت القصيدة الثاني، “أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ… فَلَيتَ دونَكَ بيداً دونَها بيدُ”. أليس من فيض المعقول أنّ هؤلاء الأحبة هم الذين تفرغ منهم البلد تباعاً، أهلها وأناسها، شبابها وشاباتها، وأليس من الأغرب أن ينتهي في كل حديثٍ مع سوريٍّ ندمه أنّه لم يهاجر، أو اشتياقه لمهاجر ربما لن يعود؟

حين جاء العيد

انتهى رمضان بكل ما حمله من مواجع لآلاف الأسر التي صامت وأفطرت على شوربة العدس وبعض الخضار بأفضل الأحوال، تفاوتت وجبات تلك العائلات، ولكنّ الجامع بينها أنّ موائد الشهر على فقرها أرهقتهم، وكذا ساروا يوماً بيومٍ حتى جاء العيد وقد يبدو غريباً أنّ شعباً لا ينتظر عيداً.

لذلك أسبابٌ من السهل معرفتها دون الحاجة لمراكز دراسات تقرأ في الحال اليومي لهؤلاء الناس، وإن بدا الحال مغرقاً في الكآبة فهل هناك فرحٌ مقرونٌ بقهر يبدأ بجودة رغيف الخبز ولا ينتهي بأشهر انتظار أسطوانة الغاز وبينهما صلاةٌ موحدة: “أعطنا خبزنا كفاف يومنا”.

معضلة مركّبة

وجد الآباء والأمهات أنفسهم قبل هذا العيد أمام معضلة مركبة أكثر مما كانت عليه قبل عامين، وقبل عام، وحتى قبل شهر، من ارتفاع أسعار لا يعرف التوقف، ارتفاع جعلهم عاجزين عن تحقيق أشهر طقس مرتبط بالعيد، وهو شراء ملابس لأطفالهم.

بحسرةٍ يتحدث المهندس جاد سلامة عن عدم تمكنه من شراء ملابس لأطفاله الثلاثة بسبب ما لقيه من ارتفاع كبير في أسعارها، حتى تلك الشعبية منها، مبدياً قلّة حيلته واستسلامه أمام عجزه عن اجتراح حلول لأمرٍ إن بدا رفاهية للكبار المدركين، ولكنّه مبعث فرحٍ تامٍ للأطفال الصغار الذين لا يعرفون من رمضان سوى أنّ نهايته مقرونةٌ بعيدٍ يعمّ فيه الفرح وتنتشر الألعاب ويرتدون فيه الملابس الجديدة.

يشرح جاد الوضع: “تكلفة ملابس كل طفل بين 400 و600 ألف ليرة سورية، أليست هذه كارثة! من أين سأجيئ بذلك الرقم المهول الذي يعادل خمسة أضعاف راتبي الشهري ثمناً لملابس ثلاثة أطفال من أدنى حقوقهم أن يرتدوا ثياباً جديدة ويحتفلوا بالعيد ويشعروا بروحانيته وطقوسه؟”

مشكلة جماعية

لم يكن الحال أفضل بالنسبة لكثر آخرين سألناهم عن شراء ملابس العيد لأطفالهم، فمثلاً اكتفت أم مازن (ربّة منزل) بالقول: “لا حول ولا قوة إلّا بالله، حتى بهجة العيد صارت مفقودة، كيف سنشرح لأطفالنا ما نمرّ به وكيف أنّنا مرغمون على ارتداء ذات الملابس حتى تهترئ!”

بدوره يسأل مجيب راشد وهو موظف آخر بعد جولة مستفيضة بالأسواق لذات الغرض عن دور الرقابة والتموين في ضبط الأسعار التي تقفز من شهر لآخر بقوله: “ألم ينخفض سعر الدولار كثيراً وحافظ على ثباته منذ شهرين على الأقل فلماذا ترتفع الأسعار بين يوم وآخر!، سألت عن سعر ملابس لطفلتي في نفس المحل وبفارق يومين اختلف السعر”.

سوق الفقراء للأثرياء

بدا الأمر أكثر غرابةً عند زيارة سوق البالة الكبير في دمشق (سوق الإطفائية)، هناك حيث جنّت الأسعار مرّة واحدة على ما قاله زائرون للسوق بقصد الشراء، أو على الأقل محاولة الشراء من سوق الفقراء، ليتضح أنّ الأسعار قفزت فجأة إلى الضعف على الأقل.

برر صاحب أحد المحال هذا الارتفاع نتيجة قلّة البضائع ومنع استيرادها والاضطرار للحصول عليها تهريباً من لبنان غالباً وبالدولار وبطرق صعبة ومكلفة جداً، وأكمل يقول: “ارتفاع الأسعار هذا طبيعي بعد موسم كامل من الكساد في المبيعات”.

وبصورة وسطية تتراوح أسعار الجينزات كمثال بين مئة ومئتي ألف ليرة سورية، وبعض الأحذية وصلت إلى 600 ألف ليرة، أما الكنزات فمتوسط سعرها 60 ألف ليرة، والفساتين كان من الصعب حصر أسعارها لشدة تفاوتها بين محل وآخر بغرابة شديدة توحي بأنّ السوق فجأة تحول لأثرياء العاصمة نابذاً فقراءها.

“شعرت أنني في سوق الصالحية ولست في سوق الفقراء، الأسواق جميعها تلفظنا، كيف يعيش أولئك الباعة دون مبيعٍ!” هذا ما قاله أحد الزائرين للسوق والذي كان يتحدث ممسكاً بحذاء “مستعمل” يتفحصه بعينيه ويكرر سؤاله للبائع: “هل فعلاً سعره 500 ألف؟”

مصائب قوم

جنون الأسواق ذلك أفضى لنشاط في عمل الخياطين بحسب رئيس جمعية الخياطة توفيق الحاج علي الذي أشار في تصريحات لموقع محلي أن “إقبال الناس على إصلاح الملابس أو تصغيرها سببه ارتفاع أسعار الجديدة بشكل مضاعف عن العام الماضي وهذا أدى إلى تزايد الإقبال على تدوير الملابس القديمة لدى الخياطين بنسبة تتجاوز 40%، في ظل تدني القدرة الشرائية لدى الأهالي، وتالياً يعتبر هذا الحل تدبيراً اقتصادياً في ظل عدم قدرة 60% من الأسر لشراء الملابس الجديدة”.

ليس واضحاً كيف حسم رئيس الجمعية أمر الأرقام بدقة، فإن كانت فقط 60 بالمئة من الأسر لم تستطع شراء ملابس جديدة لأولادها فهذا أمرٌ سيء ولكنّه غير كارثي تماماً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار شمولية دراسات الأمم المتحدة التي تؤكد أنّ 90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، وهذا المؤشر يعني عدم قدرتهم على تأمين الطعام بصورة متواصلة.

مكرهٌ أخاك لا بطل

وبمعزلٍ عن لغة الأرقام الجافة إلا أنّه ثمّة وقائع لا يمكن تجاهلها وهي فعلاً تؤكد نشاطاً في عمل الخياطين استناداً لتمكنهم من تقديم أسعار منافسة للسوق على صعيد الإصلاح والحياكة والترميم وهذا ما شرحه الخياط معاذ جبلاوي.

يقول معاذ: “الناس يعلمون أنّهم لن يحصلوا على أفضل خامة ملابس لدينا، ولكنّهم ببساطة سيحصلون على مجرد كساءٍ، على قساوة التعبير ولكن هذا هو الحال، لأنّهم لو أرادوا تفصيل ملابس من خامة ثقيلة فسيكون سعرها ينافس أفضل بضائع السوق”.

ويضيف: “ما يدفعه الزبون لدينا هو قروش أمام ما سيدفعه في السوق، لأنّه أساساً يعتمد على الترميم وإعادة استخدام المستخدم أساساً”.

ومن ناحيته يشرح عبّاس غانم وهو خياط آخر الأمر من وجهة نظره: “الأمر ليس مرتبطاً بالتفصيل، فالزبائن تأتي لتعيد ترميم القديم وتضييق ملابس الأخ الأكبر ومنحها للأصغر وهكذا، لا، الانتعاش ليس توصيفاً دقيقاً، هو إقبال متزايد نعم، ولكن له ظروفه التي لا تحقق ما يستحقه المواطن ولا تغنينا في الأرباح.”

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

لا يختلف اثنان أنّ الدراما السورية أحدثت فارقاً وصنعت بريقاً أخاذاً في فترةٍ ذهبيةٍ امتدت ما بين عامي 2000 و2010. وتحديداً ما بين مسلسل الزير سالم الذي أخرجه الراحل حاتم علي ووضع فيه الراحل ممدوح عدوان عصارة ما يمكن لكاتب المجيء به نصاً وحواراً وأحداثاً ليجعل منه العلامة الكبرى التي كرست سوريا كسيدةٍ في الأعمال التاريخية التي لا تشوب نصها ونطق حروفها وأدواتها شائبة، وكان ذلك واضحاً وجلياً في ثلاثية حاتم علي (صقر قريش–ربيع قرطبة–ملوك الطوائف).

أما في عام 2010، العام الذي سبق الحرب السورية مباشرة فقد أسدلت الستارة على النتاج الضخم والمشبع فنياً وحركياً وبصرياً وذهنياً مع مسلسل “لعنة الطين” للكاتب سامر رضوان صاحب “ابتسم أيها الجنرال” وثلاثية “الولادة من الخاصرة” للكاتب نفسه و”تخت شرقي” للكاتبة يم مشهدي وغيرهم.

في هذا العقد قدمت سوريا ثورةً في الدراما الاجتماعية التي تخطت ما عداها لتلامس شرائح المجتمع كله تاركةً خلفها سبلاً وأدوات وحكايات تنطلق من البيئة التي جاءت منها بأسلوب تنفيذ سلس ومباشر وبسيط كان كفيلاً بصنع النجوم، نجوم اليوم.

سادة الدراما

لا يزال السوريون يعتقدون أنّهم سادة الدراما، يقدمون هذه المعلومة في كل موسم رمضاني خلال العقد الفائت، ويقولون بلا تفكير بأنّهم قدموا دراما اجتاحت الوطن العربي وعلمته كيف تكون الصنعة. ولكن ماذا يعرف العرب من المحيط إلى الخليج عن الدراما السورية؟

يعرفون شيئاً واحداً (شبرية أبو شهاب) في باب الحارة، وتلك الطامة الكبرى التي أغرقت سوريا في فخّ التجهيل وأوصلت للسوريين معلوماتٍ مغلوطة عن أنّ أعمالاً كزمن العار وأحلام كبيرة وغيرهما كانت تجعل العربي يتسمر خلف الشاشة، والعربي لم يسمع أساساً بتلك الأعمال، إلا ما ندر.

صراع سوريٌّ – مصري

يتجه السوريون هذا العام في جلساتهم وعبر منتديات النقاش في مجموعات التواصل الاجتماعي بصورة غريبة لمناقشة ومقارنة الفرق بين الأعمال السورية والمصرية واضعين عشرات الملاحظات على الأخيرة موجهين انتقادهم اللاذع إلى مسلسل “الحشاشين” بطولة “كريم عبد العزيز” وإخراج “بيتر ميمي”.

ينطلق هجومهم من إشراك اللغة العربية الفصحى باللهجة المصرية في سياق العمل، لتبدأ مواجهة حامية الوطيس يبدو فيها المدافعون عن الإنتاج المصري أكثر من الرافضين له، ويبدو هذا منطقياً لبلدٍ يملك شركات إنتاج تحقق شرطاً فنياً عالي الجودة ويمكن لشركات بلدهم تقديم ما يحاكيه لولا أنّ مزيجاً من الاستسهال والمبالغة والاستعراض جمع بين شركات سوريا ومخرجيها وممثليها، على ما يقوله مهتمون بالمتابعة.

مصر قدمت هذا العام مسلسلات: الحشاشين – العتاولة – المعلم – الكبير أوي 8 – المداح – أشغال شاقه – بابا جه – أعلى نسبة مشاهدة – امبراطورية م – بيت الرفاعي – بدون سابق إنذار – جودر – كوبرا – حق عرب – خالد نور – رحيل – سر إلهي – صيد العقارب – صدفة – صلة رحم – عتبات البهجة – 100 راجل وغيرهم.

وباتت المسلسلات المصرية تبدو وكأنها تحلق وحيدة كما تفعل منذ عقود في فضاء الفن العربي متفهمةً أخيراً أنّ الجمهور لا يحتاج عملاً من ثلاثين حلقةً، وبأنّ 15 حلقة كافية وتزيد عن حاجته وتشبع ذائقته الفنية.

“بوجقة وردح”

حتى الآن لا يمكن فهم أدوات عمل الممثل السوري وثباتها في مكان اللا تطور، حيث يحافظ على مبالغات في الأداء والصياح والاستعراض تجاوزتها مدارس التمثيل، فاليوم يتجه هذه المضمار لإبكاء المشاهد بلقطة يبدو فيها البطل حزيناً بنظراته لا حزيناً لأنّه يصيح ويمزق ثيابه. وهنا يمكن فقط استحضار مشهد المصري “سيد رجب” في فيلم “وقفة رجالة” إذ استطاع إبكاء المشاهدين في صالات السينما دون أن يذرف دمعةً واحدة حين توفيت زوجته وشريكه عمره.

حتى نهاية الأسبوع الأول من رمضان كانت معظم الأعمال السورية تقوم على التنميط، واستنساخ منشورات الفيس بوك، وأحاديث الشارع الممجوجة، وما يقال عنه بالعامية الشامية “البوجقة والردح” من قبل ممثلين محترفين يفترض أنّهم قاماتٌ كبرى متناسين أنّ قسطنطين ستانيسلافسكي” صاحب فلسفة إعداد الممثل قد علمهم أهم قاعدةٍ جوهرية وهي: “تحدثوا للعين وليس للأذن، فالعين هي العضو الأكثر حساسية الذي يقود معنى الفكرة.”

تصويبٌ لا هجوم

ما يحصل الآن ليس هجوماً على الدراما السورية، بقدر ما هو محاولة تصويب للأخطاء التي تكررها كل عام، فالفرنسي المحتل حاضر على الدوام بعمل أو أكثر كل موسم، ودمشق القديمة حاضرة كما المعتاد، والفتيان الزعران وبنات الليل والراقصات حاضرات أيضاً، وكما كلّ عام يتغير اسم الكاتب وتظلّ خطوط الحبكة متشابهة.

لا يمكن القول هنا إنّ ذلك يعود لخطورة مقصّ الرقيب، فالجميع بات يدرك أنّ الرقابة على الدراما باتت أقل ممّا كانت عليه، وإنتاج عملٍ اجتماعي لا يحتاج مغامرةً أصلاً! ومن أنتج وعرض “غزلان في غابة الذئاب 2006” وثلاثية “الولادة من الخاصرة 2011-2012-2013” وغيرهم يدرك جيداً أنّ السقف يمكن أن يكون عالياً والدليل الأمثل مسلسل “الخربة – 2011” للكاتب “ممدوح حمادة” والمخرج “الليث حجو” بكل إسقاطاته السياسية الشديدة والذي عرض ولا زال على الشاشات المحلية بين وقت وآخر، إذ لا ينسى السوريون أنّ “بقرة معلم أكرم” أهم من كل شرائع وقوانين ودساتير وحياة الإنسان في بلدهم.

مقارنة ظالمة

في هذا العام حضرت سورية بجملة من المسلسلات التي تفاوتت الآراء حولها، وما قد يظلمها هو مقارنتها بأعمال أخرى صنعت خلال الحرب.اليوم ينكب جزء من السوريين على مشاهدة أعمال هذا الموسم كـ: ولاد بديعة – كسر عضم (السراديب) – مال القبان – تاج – وصايا الصبار-بيت أهلي – الوشم. وكما في كل عام عانت هذه الأعمال على قلتها من الشرط التسويقي القاسي في السوق الخليجي والذي كان أساس ازدهار الصنعة السورية مطلع الألفية الحالية.

ممثلٌ مرغم على التمثيل

تعتقد رقيّة ميمون الخريجة الجامعية أنّ أعمال هذا العام جاءت متدنية المستوى، وفي قسم كبير منها لا تناسب المشاهدة العائلية، معلّلة ذلك بكم التناول الواسع لمواضيع حساسة تتعلق بالجنس وفتيات الليل والرقص وما شابه ذلك.

تقول: “هناك كميّة لا تصدق من النكد والحزن والانحدار الفني على مستوى النص المجتر والمكرر، لنتذكر قليلاً مشاهد مرّت في تاريخ درامانا ثم لنقارن، مشهد بكاء خالد تاجا في التغريبة الفلسطينية، الحلقة الأخيرة من أسعد الوراق، الاغتصاب في زمن العار، اجتماع العائلة في أحلام كبيرة، مقتل كليب في الزير سالم، مشاهد الأصدقاء في تخت شرقي، الخازوق في إخوة التراب، كل ذلك كان قبل 2011، أما بعده فصرنا نحسّ أنّ الممثل يؤدي وظيفته مرغماً”.

فلسفة مريبة

فيما تتساءل ناهلة عويتي الطالبة الجامعية عن السرّ الذي يجعل كل الحوارات في المسلسلات السورية مغرقة في الفلسفة والسفسطائية والغرابة والابتعاد عن طبيعة المجتمع وتكوينه البسيط، دون أن تنسى استذكار مسلسل “تخت شرقي – إخراج رشا شربتجي 2010″، والذي قدم في حينه صورة أكثر قرباً من يوميات الناس في بلدهم هذا. وتعبر عن رأيها: “الراقصة لديها فلسفتها الأفلاطونية، عامل الصيانة، الطبيب، الدهّان، القاتل، الضابط، الجميع يملك فلسفة مريبة وكذلك الطفل الصغير، أليس هذا نقلاً غير مفهوم في مستوى الدراما من الإمتاع العائلي الترفيهي البسيط إلى دائرة الانعزال عن القضايا اليومية التي تخلق بيئة العمل الدرامي كما يقول صناعه؟”.

بين الواقع والامتنان والإعجاز

في خضم ذلك يرجو الشاب محمد محمد أن تعود الدراما لواقعها بعيداً عن المبالغة المهولة في ترتيب المنازل وديكورها، قائلاً: “نريد شيئاً يشبه حياتنا وبيوتنا الفقيرة لتعود الدراما ملكاً لنا”.

ومن بين تلك الآراء يظهر رأي الأكاديمي معين نصراني مغايراً  إذ يقول إنه ممتن أنّ الشركات لا زالت قادرة على أن تنتج أعمالاً في بلد حطمته الحرب، ويُشدد على فكرته: “13 عاماً من الحرب ولا زلنا ننتج فناً، هل من بلد آخر يستطيع فعل ذلك!”

من سوء حظ معين أنّ جواب سؤاله جاء سريعاً من صديقه الواقف قربه، إذ قال بعفوية: “الرحابنة فعلوا ذلك في حرب لبنان”.

ثمّة نجوم من ذهب

لم يكن غريباً أنّ معظم من التقينا بهم لم يبدوا حماساً للأعمال الدرامية السورية، وهذا طبيعي ومفهوم، فالكثير من الناس في سوريا يملكون قدرةً تحليليةً على تمييز المنتج الرديء من السيء وإجراء مقارناتٍ تأخذهم دائماً نحو طلب الأفضل في ظلّ واقعٍ فعلي يسيطر عليه الاستسهال في معظم مناحيه. إلا أنّ ذلك بطبيعة الحال لا يمكن تعميمه، ففي سوريا نجوم من ذهبٍ قادرون على المنافسة شرقاً وغرباً، ولكنّ هؤلاء النجوم يخضعون لشروط مركبة، فإما شرط إنتاجي سيء، أو أجور قليلة، أو أدوار سيئة يضطرون للقبول بها لئلا يختفوا عن الشاشة. تلك وغيرها عوامل جعلت ولا زالت من الدراما السورية منكسرةً حزينةً لا ترضي صناعها قبل جمهورها.

الهروب من الموت إلى موت أقل قسوة

الهروب من الموت إلى موت أقل قسوة

أقيم “احتفالٌ” لمركز يهوديّ إسرائيليّ في مدينة لارنكا القبرصيّة، القديمة، مطلع شهر أكتوبر الفائت، وقد تزامن ذلك مع عمليات حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة التي بدأت مؤخراً.

كان محيط المركز معزّزاً بحراسةٍ للشرطة القبرصيّة، حراسة مهيبة، لا يمكن أن تُقام أمام بيت رئيس جمهوريّة قبرص مثلاً أو حتّى قرب أيّة مؤسسةٍ حكوميّة!

وحسب ما كان يدور بين النّاس، هنا، أنّه ثمّة تخوّفاً من ردّة فعل البعض ضد إسرائيل، ممّن يعيشون في قبرص. كانت هناك صعوبة في المجتمع القبرصيّ لفهم ذلك التخوّف، هذا ما لاحظته من متابعة وسائل الإعلام المحليّة، فقد كان خطابها مرتبكاً لسببين أساسيين أبرزهما وجود جالية من جذور عربية في قبرص ترفض إسرائيل، وثانيهما أن هنالك بعض الأحزاب القبرصيّة تؤيّد القضية الفلسطينيّة وتدعم النشاط الاجتماعيّ للاجئين منهم هنا وعبر الحدود.

ترى ما هو سبب الرعب الذي يمكن أن يدفع السلطات لتشديد الحراسة الأمنيّة لمركز دينيّ قد لا يشكّل أيّة قيمة اجتماعيّة أو نفع تاريخيّ للجزيرة المتوسطية؟

يعتقد البعض أن تنامي القوّة المالية التي تحرّك جزءاً كبيراً من اقتصاد قبرص، مرتبط بشخصيات وكيانات مؤيدة أو تابعة لإسرائيل. وذلك بدوره يؤثر على القرار السياسيّ والإجراءات الأمنية المرافقة لدعم ذلك القرار؛ ألا وهو تأييد إسرائيل سياسياً، وفي الوقت ذاته هناك شريحة واسعة ترفض ذلك التأييد وكثيراً ما يؤدي هذا إلى انقسام اجتماعيّ يرفض سياسة إسرائيل بحقّ الفلسطينيين.

وفي محاولة لفهم تخوف السلطات القبرصيّة على مصالح إسرائيل في الجزيرة، لا بد من النظر إلى التغلغل الإسرائيلي في السوق القبرصيّة عبر الشراكات الاقتصادية، سواء في تجارة العقارات أو وجودها كشريك مساهِم في علامات تجارية كثيرة، وهذا بدوره يجعلنا نتلمس الاضطراب الأمنيّ الذي اندلع في المدن القبرصية مع تصاعد وتيرة الأحداث في غزة بعد السابع من أكتوبر 2023.

هناك رغبة مباشرة لدى الحكومة في كم أفواه الرافضين لسلوك إسرائيل ضد الفلسطينيين، وهذا ما سمعته كثيراً من قبارصة وعرب يعملون في شركات على أرض قبرص، وقد يكون فيها نفوذ إسرائيلي عادةً ما يتم ضبطه بالتجاهل وعدم التماس المباشر حفاظاً على المصالح المشتركة التي تفرضها قوة الأمر الواقع وقوانين الشركات والعمالة.

رجوعاً إلى ذلك “الاحتفال”، حصل حادث توقيف لمراهق سوريّ، تصادف تجواله في لارنكا القديمة، على مقربة من المركز الإسرائيليّ ذاك، حيث طلبت الشرطة القبرصيّة من المراهق بطاقة إقامته، ثم حقّقت معه عن سبب تواجده قرب ذلك المركز وقد تم اقتياده إلى مخفر الشرطة.

بعد بضع ساعات أُفرج عن الصبيّ، وتم سؤاله ما إذا كان يعرف أي أشخاص يدعمون “حماس” أو يؤيدونها، كان هناك تخوف من وجود “خلايا نائمة” حسب الإعلام القبرصيّ. وكانت صحيفة “كاثيميريني” المحلية قد وصفت الإجراءات الأمنيّة التي قامت بها السلطات بأنّها “غير مسبوقة ومشدّدة للغاية”. ويتفهّم المرء مدى حرص هذه الجزيرة على مصالحها، ولكن ما الذي سيقوم به مراهق أعزل يمشي في الطريق دون معرفته ربما بوجود شيء يرتبط بكنيس يهوديّ أو إسرائيليّ؟

إنّ المجتمع القبرصيّ بطبيعته البسيطة، ميّال إلى السّلام والترحيب بالضيوف وحتّى مشاركة ودعم اللاجئين، بالحياة والعمل، وهذا ما شهدتُ عليه خلال تجربتي طيلة السنوات الثماني التي عشتها في قبرص، تعلّمت اللغة اليونانية، مارست معظم طقوسي الاجتماعية من لقاءات وحراك ثقافي وصحافي، عملتُ في شركات قبرصيّة وعربية وكان احتكاكي اليوميّ مع القبارصة يتطوّر ويكبر دون خوف، ولكن ليس بعد الآن!

لقد كان احتكاكاً، أيضاً، مع جنسيات أخرى بحكم تنوع الوافدين إلى الجزيرة خلال العامين الأخيرين، كان للجميع مكان وفرص للحياة وفق القانون، مساحة “آمنة” يعبّر فيها كلّ واحدٍ عن نفسه، انتمائه، طقوسه وأفكاره التي لا تضرّ بمصالح البلد المستضيف، وهذا ما ندركه ونقدّره جميعاً، كجالية تتكلّم العربيّة، وكمقيمين من بلدان مختلفة، إلاّ أن التوتر الذي يُحدثه مثلاً “الإسرائيلي” في المجتمع أينما وجد وهو يحمل تلك “المظلوميّة”، يترك في النفس خيبة لا تُحتمل من عدم وضوح المشكلة لدى السلطات القبرصيّة، ومدى تفهمها لعمق المسألة التاريخيّ مع المنبت الفكريّ والعقائديّ الجاهز الذي يحمله ذلك الشخص عنيّ كسوريّ.

إنّهم ينتبهون لك حين تتكلم بالعربية عبر الهاتف أو مع عربيّ آخر. فالقبرصيّ يحبّ ثقافتنا كسوريين، يتذكرون الجولات التي كانوا يقومون به أثناء رحلتهم إلى دمشق لشراء الستائر الشهيرة من أسواقها، وتذوق الطعام والمشي في حاراتها التاريخيّة، إنّهم يعدونها مكاناً زاخراً بالحضارات والثقافة، حسب ما أجمع معظم من عرفتهم. بينما أنتبه للإسرائيلي، الزبون، الذي يقرأ اسمي على قميص العمل فيختار شخصاً آخرَ ليطلب منه خدمة داخل الشركة، لا أدري ما الذي يخيفهم إلى هذا الحدّ طالما كانوا يزعمون أنهم على حقّ (!).

تعاني الحرّية اليوم في قبرص منذ بداية أحداث غزة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، من مأزق إنسانيّ في تفسيرها الظاهري ضمن المجتمع، فكيف لها أن تكون رمزاً للكرامة وعزة النفس لدى البعض إذا كانت تحرس بيوتهم ومصالحهم البنادق وسيارات الشرطة من أجل احتفال ما؟ وكيف لها أن ترفرف في الشوارع مع أكثرية تنتمي للضحايا وترفض القتل وتمشي في لارنكا القديمة وهي تمثل مراهقاً هرب من الحرب في سورية، هرب ليجد نفسه أمام تفضيلات غريبة بسبب فئة مكشوفة عبر التاريخ تعد نفسها مصطفاة دائماً وفوق الضحايا؟

كيف لا يعود إليّ الشعور بالخوف من لاجدوى اللجوء، إذا كانت السلطات التي منحتني بموجب اتفاقيات دولية، حمايّة إنسانيّة، لأعيش في هذا البلد سوف توقفني إذا مررت في شارع أعده قبرصيّاً ويحق لي المشي فيه بموجب تلك الحماية، وما شأني إذا كان ثمة وكر قد يأوي من يحمل أفكاراً وانتماءات تُفضل استحقاق الموت لبشر دوناً عن غيرهم؟

لقد رفضتُ القتل منذ كنت في سورية، ولا أعد لغة العنف والترهيب إلا قمعاً مركباً مع أشياء أخرى كالأسباب الأمنية المفاجئة والتخوّف الافتراضيّ من ردّات أفعال الجاليات الضيفة في هذا البلد، إنه عنفٌ بطقم رسميّ مهما تمّ تجميله بـ “مظلوميّة” مُفتعلة.

لم تسلم المجتمعات التي أخلت بمسؤوليتها عن أفرادها ودفعت بهم إلى هوة الشتات، من مبضع النقد والتفكيك، وليس ذلك في سبيل إهانتها لمكوناتها الأساسية: الفرد. إنما لأنها لم تكن يوماً مجتمعات صحيّة، أي تتقبّل أمراضها وتعد العلاج نابع بالدرجة الأولى من الفرد نفسه، وليس مستورداً من مجتمعات طارئة، خارجية، وهذا ما يحدث عادة إذا كانت تلك المجتمعات نفسها حريصة على وجودها وتحترم حرية أفرادها وتتمسك بهم. وفي الحالة القبرصيّة ثمّة مجتمع يضطرب من اختلاط الحقوق الاجتماعيّة بسلطة المصالح السياسية. والمكونات المتعددة من جنسيات أخرى، في هذا المجتمع، أصبحت فاعلة بقوة كأيادٍ عاملة، أصحابها قد يقبلون بظروف غير إنسانية في سبيل اعتراف المجتمع بوجودهم، لا بدفعهم إلى شتات جديد.

إن العلّة في الفصام القائم بين الشارع والسلطة وبين المجتمع الأهلي والإدارات الحكومية، ومع مقارنة بسيطة نجد أن القبرصي بجميع الأحوال يستاء من سلوك حكومته، يعترض، لا يقبل إلّا بالوظائف المناسبة له، يرفض القرارات الرسمية، ويسخر من رئيس الجمهورية، ويضمن دستور بلاده حريته. بينما اللاجئون والعرب وبقية الجنسيات، يعانون من عدميّة الحرية وسقوطها في تفضيل الضحايا، إذ كثيراً ما يعوّل هؤلاء العابرون على كفاف عيشهم بمعزل عن قول كلمة واحدة ضد الحكومة، فالردّ جاهز: ترحيل، حرمان أو تعطيل في أوراق الإقامة! وكيف بهم الحال إذا كانت هذه الحكومة اليوم تعتقد مسبقاً أنهم مشاريع متّهمين بسبب النيّات السياسية التي تزيد في تمزيق هذا المجتمع الجديد، الشريك، من أهل البلد والجاليات الضيفة، يستوقفون هذا السوريّ ويفتشون في بيت ذاك الفلسطينيّ، ولا أحد يعلم بالضبط عن ماذا يبحثون لدى أشخاص هربوا من الموت إلى ما يعتقدون أنه محاولة حياة جديدة أو ربّما واقع جديد لموت تدرجيّ أقلّ قسوةً!

(كاتب سوري يعيش في قبرص)

آراء من حمص: “أيام العداء والخلاف ولّت تلقائياً دون جهود”

آراء من حمص: “أيام العداء والخلاف ولّت تلقائياً دون جهود”

حين اندلعت الحرب السورية بمفهومها العسكري المباشر كانت حمص تتجهز لتأخذ دورها كمدينة سيطول حضورها على مسرح الأحداث السياسية والأمنية والعسكرية تاركةً خلفها ما حصل في بانياس ومناطق أخرى كذكريات ليست غير ذات شأنٍ ولكنها جانبية إلى حدٍّ ما قياساً بمدينة كانت تحتضن تنوعاً مناطقياً وطائفياً متشعباً ومتعايشاً للغاية، ولكن في لحظة، بالضبط في لحظةٍ واحدة، انقلبت المدينة على بعضها مناطقياً ودينياً.

يوم اشتعل الفتيل

يتذكر كثر من أهالي حمص مفترقاً مهدّ لاشتعال المدينة بأكملها، كان ذلك المفترق يوم السابع عشر من نيسان 2011، أي بعد قرابة شهر بالضبط من اندلاع المظاهرات في درعا ومناطق أخرى. في ذلك اليوم هاجمت الأحياء بعضها، حرفياً ذلك ما حصل، أحياء بأسرها هاجمت أحياء أخرى لدواعٍ لا زالت حتى اليوم غير واضحةٍ وما من أحد قادرٍ على تفسيرها.

هجمات استخدمت فيها العصي والخناجر والسلاح الأبيض والفؤوس وبعض الأسلحة النارية من نوع “بومب أكشن” وبنادق الصيد. يومها سقط ضحايا في المدينة، تزامناً مع اعتصام حمص الكبير وحصار أحياء أخرى من أحياء مجاورةٍ لها، كان ذلك في الفترة التي تعرف بتولي فصائل الشرطة من كتائب “حفظ النظام” مسؤولية ضبط الأمور، قبل أن تتعسكر المدينة وتصبح بأكملها متخذةً شكل ساتر ترابي كبير يفصل بين خصمين.

المدينة المفصل في الحرب

لم تكن حمص عادية في أيّ لحظةٍ في تقرير مصير سوريا بأكملها كمدينة وسطى تقطع دمشق عن الساحل وحلب، فقد تم وصف حيّ بابا عمرو لوحده بعاصمة الثورة السورية. وفي تلك الفترة ذُكرت المدينة بالتصريحات الدولية المتواترة والمتخوفة من سيطرة الحكومة على حمص. فمثلاً تم ذكر أسماء أحياء المدينة بتصريحات هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية في حينه، وبالتحديد لا ينسى أهل حمص تصريحاتها عن “شارع الستين” المحوري في المدينة والذي كان يمثل خط تماس بين السكان المنقلبين على بعضهم.

لا يمكن تجميل سنوات الصراع

تاريخياً تعايشت تلك الفئات المتباينة في المدينة بمحبة وألفة وسلام دون أي حوادث أمنية تذكر، فتبادلوا المصالح والزيجات والعلاقات الاجتماعية والأسرية، لكن فجأة تغيّر كل شيء. لا يمكن تجميل ما حصل مهما حاول التاريخ ذلك، فالقتل عمّ المدينة، القتل الذي نفذه ساكنوها بحق بعضهم قبل وجود أي عمليات منظمة. والحديث هنا لا يخص مرحلة ما بعد اتضاح الجبهات، بل يتعلق بعائلات وأحياء حاصرت أخرى وكأنّ حرباً بينها عمرها مئات السنين لا زالت مشتعلة. ومجدداً لا زال الأمر لا يحمل أيّ مبررٍ وهذا ما سيتضح من خلال تبيان حال المدينة اليوم، وهو حال مشابه ومطابق لحال كل المدن السورية الأخرى، كدمشق وحلب واللاذقية وبانياس وغيرهم، إلا أنّ البقاء ضمن نموذج حمص يخدم الفكرة أكثر لشمولية واتساع ما حصل فيها.

ما حصل لا يكرره التاريخ كثيراً

كيف يبدو وضع حمص اليوم شباط/فبراير 2024؟

بدايةً لنعد قليلاً للوراءإلى تاريخ 2014 وهو عام خروج مسلحي حمص القديمة من المدينة بالكامل، بعيد سيطرة الحكومة على الأحياء كلها في حمص تباعاً باستثناء حي الوعر الذي لم يكن يشكل عبئاً رغم تأخر استرداده حتى آذار/مارس عام 2017، لكونه يقع أساساً في مكان غير متصل مباشرةً بالمدينة ولا يؤثر على طرق العبور الرئيسية فيها.

فعلياً منذ 2014 لم يبقَ داخل المدينة أجواء توتر تذكر، إذ انحصرت جبهات القتال في الوعر والريف الشمالي وبدأت التنظيمات المتطرفة تظهر وتتمدد باتجاه الريف الشرقي لحمص وبالتحديد في تدمر والمدن الشرقية والبادية، كل ذلك أتاح الوقت والفرصة الملائمة أمام المدنيين لاتخاذ قرارات تتعلق بمسؤولية بقائهم داخل المدينة.

من قرر المغادرة فقد غادرها مع دفعات التسويات، أما من قرر البقاء فقد أثبت بسرعة لا يمكن تصورها أنّه قادر أن يندمج بلمح البصر من جديد في مجتمع متكامل عماده ذات الناس الذين ينتمون لخلفيات طائفية ومذهبية متعددة، كان يبدو الأمر في حينه لمشاهد بعيد نوعاً من المجاملة أو الخوف أو حتى النفاق، فكيف لمتحاربي الأمس أن يتعانقوا بعد مئات آلاف المهجرين وآلاف المختطفين ومثلهم من الضحايا والجرحى؟، ولكنّ المدينة احتضنت بعضها بصورة لا يمكن أن يكررها التاريخ كثيراً.

أحياء على الحياد ولكنّها ليست بمنأى

يقول الحاج أبو ناصر والذي يعيش في حي كرم الشامي الحمصي خلال حديثه معي إنّ لحيّه خصوصية كبرى بسبب موقعه الهام قبالة جامعة المدينة وإطلالته على أحياء وطرق مهمة. ويوضح أن حيّه لم يشهد عمليات عسكرية، بيدَ أنّه شهد مظاهرات استمرت فترةً من الزمن ولكن يعيدة عن حواجز الجيش ومؤسسات الدولة.

يقول: “لم يكن كل أهل الحي رافضين للمظاهرات ولا كلهم قبلوا بها، كان هناك تخوف من اقتحام حيّنا وأن يلقى مصير أحياء أخرى، فاندثرت المظاهرات تباعاً ولم تعد هناك رغبة لدى شباننا حينها بالأمر، وربما هذا ما أبقانا أقرب للوساطة بين طرف وآخر إذ كان حيّنا معبراً آمناً للجميع دون تهديدات أمنية”.

وفي ذات الوقت يبدي الرجل أسفه أنّ المدينة تحولت لكانتونات منعتهم من الخروج من حيّهم في مرحلة معينة، وساءه انقطاعه عن رفاق له في أحياء أخرى، إما بسبب اندلاع اشتباكات لديهم، أو بسبب خلافات ايدولوجية منعت الزيارات يوم انقسمت المدينة على نفسها، مؤكداً أنّهم لم ينقطعوا عن التواصل هاتفياً، قبل أن تعود حمص كما كانت قبل الحرب تماماً.

لم يعد الخارج مفقوداً والعائد مولوداً

المهندس تامر حمدان الذي ينتمي لحي الزهراء في حمص، وقد فقد اثنين من إخوته خلال اندلاع جولات الخطف التي هيمنت على المدينة، يشرح كيف حوصر حيّهم لأكثر من عام من قبل تسعة أحياء تحيط بهم، ويقول عن تجربته: “كان الخارج مفقوداً والعائد إن عاد مولوداً، كان أقسى عامٍ يمكن أن تعيشه مجموعة من الناس مع سيل قنص وشلال قذائف لا يتوقف، معظم شهداء حيي استشهدوا داخله وهم نساء وأطفال، عدا عن الـذين كانوا على جبهات القتال، لم يكن أحد يريد أن يحصل هذا في المدينة التي تربى شعبها أنّهم إخوة”.

ويضيف: “ما حصل حصل، والغريب أنّه وكأنّه ما مرّ علينا، تلك الأحياء التي كانت تحاصرنا نقضي اليوم كل أوقاتنا فيها ومع أهلها الطيبين، وأصرّ الطيبين، تلك الحرب بدأت وانتهت دون أن نعلم لماذا، حمص اليوم وبآلاف الأدلة القاطعة تصالحت مع بعضها دون أحقاد وعادت الأمور لتسير كما قبل الحرب”.

يبتسم ويوضح فكرته بالإشارة: “من كان يتوقع يوماً أنني سأشتري غرضاً من الخالدية، وأنني سأسير في سوق الدبلان وأشتري الملابس من هناك، وأني سأشتري رأس غنمٍ من دير بعلبة، وبأني سأفتل كل المدينة وأحصل على ما أريد وأزور أصدقائي في جب الجندلي والبياضة وباب السباع وبأن الناس من تلك الأحياء ستزور الزهراء لتشتري ما تريد ولتزورنا بعد أن لم يبقَ في حمص متراسٌ واحدٌ يحجبنا عن بعض”.

لا إرهاب ولا شبيحة

تطلب فهم الجو العام في حمص وكيف تسير الحياة هناك البقاء فيها أياماً ليست بالقليلة، وعلى فترات، رُصدت خلالها آراء تكاد تكون متطابقة في طبيعتها المتسامحة، في مدينة نسيت الحرب مخلفةً جراحها وراء ظهرها، وصولاً لمقابلة عمال وموظفين يعملون في أحياء قبل سنوات كان مجرد ذكر اسمها يستفزهم ويشعرهم بالخطر.

بين أولئك العمال أبو ماجد الذي ينتمي سكناً وعيشاً إلى حي بابا عمرو الذي لم يغادره حتى وهو في أتون معركته الأشد، أبو ماجد يعمل اليوم في مطعم للوجبات السريعة في حي النزهة الذي كان يشكل خصماً لحيّه في الموقف السياسي والعسكري خلال الحرب.

أبو ماجد أوضح أنّ أيام العداء والخلاف ولّت تلقائياً دون جهود، وبأنّ في حيّه عمالٌ أيضاً من أحياء أخرى، وخلال عام عمله الثالث هذا لم يشعر لحظةً أنّه غير مرحب به وعلى حدّ تعبيره لم يعامل كـ “إرهابي” من قبل أهالي الحي، كما لم يعامل أهل حيّه بعض العاملين لديهم كـ “شبيحة”.

أطروحةٌ في العيش المشترك

في حمص حصل تصالح مجتمعي شعبي بين الأحياء ومعه عادت الخلطة الديمغرافية مناطقيا ودينيا (طائفياً ومذهبياً) بين الأحياء والقرى بعد حرب ضروس كانت تنذر بنهايات وحشية، فحتى ريفها الشمالي الذي كان يعد واحداً من أخطر بؤر التوتر حلّ به ما حلّ بأحياء المدينة من تصالح فعادت منطقة الحولة بقراها السبع ممراً لوسائل النقل التي تقل الناس بين المدينة وأرياف أخرى ممتدة حتى مدينة مصياف في ريف حماه والتي كان الوصول إليها عبر شمال حمص ممنوعاً بل حتى لم يكن هناك طريق يقود إلى ذلك الريف لشدة الاشتباكات في محيطه. وإلى جانب الحولة فتحت مناطق تلبيسة والرستن طرقها للعبور من حمص إلى حماه دون الاضطرار للالتفاف حول عشرات القرى تجنباً للرصاص والمخاطر والخطف.

مجدداً، الآن في شباط/فبراير 2024، عاد الناس للاختلاط والزيارات والعلاقات الاجتماعية والتبادلات التجارية وكأن كل من بقي قرر نسيان سنوات الحرب القاسية التي لم تخلف سوى الدم والدمار دون حلول جذرية سياسية فكان الحل بعودة الاندماج نحو الخلاص المعنوي والنفسي انطلاقاً من الترابط المجتمعي الذي يكمل بعضه في ظل استحالة عيش كل فئة منعزلة عن جوارها لتستحق حمص بكل جدارة أن تكون موضوع أطروحات أكاديمية تناقش العيش المشترك.