تدريباتنا

الهروب من الموت إلى موت أقل قسوة

بواسطة | مارس 10, 2024

أقيم “احتفالٌ” لمركز يهوديّ إسرائيليّ في مدينة لارنكا القبرصيّة، القديمة، مطلع شهر أكتوبر الفائت، وقد تزامن ذلك مع عمليات حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة التي بدأت مؤخراً.

كان محيط المركز معزّزاً بحراسةٍ للشرطة القبرصيّة، حراسة مهيبة، لا يمكن أن تُقام أمام بيت رئيس جمهوريّة قبرص مثلاً أو حتّى قرب أيّة مؤسسةٍ حكوميّة!

وحسب ما كان يدور بين النّاس، هنا، أنّه ثمّة تخوّفاً من ردّة فعل البعض ضد إسرائيل، ممّن يعيشون في قبرص. كانت هناك صعوبة في المجتمع القبرصيّ لفهم ذلك التخوّف، هذا ما لاحظته من متابعة وسائل الإعلام المحليّة، فقد كان خطابها مرتبكاً لسببين أساسيين أبرزهما وجود جالية من جذور عربية في قبرص ترفض إسرائيل، وثانيهما أن هنالك بعض الأحزاب القبرصيّة تؤيّد القضية الفلسطينيّة وتدعم النشاط الاجتماعيّ للاجئين منهم هنا وعبر الحدود.

ترى ما هو سبب الرعب الذي يمكن أن يدفع السلطات لتشديد الحراسة الأمنيّة لمركز دينيّ قد لا يشكّل أيّة قيمة اجتماعيّة أو نفع تاريخيّ للجزيرة المتوسطية؟

يعتقد البعض أن تنامي القوّة المالية التي تحرّك جزءاً كبيراً من اقتصاد قبرص، مرتبط بشخصيات وكيانات مؤيدة أو تابعة لإسرائيل. وذلك بدوره يؤثر على القرار السياسيّ والإجراءات الأمنية المرافقة لدعم ذلك القرار؛ ألا وهو تأييد إسرائيل سياسياً، وفي الوقت ذاته هناك شريحة واسعة ترفض ذلك التأييد وكثيراً ما يؤدي هذا إلى انقسام اجتماعيّ يرفض سياسة إسرائيل بحقّ الفلسطينيين.

وفي محاولة لفهم تخوف السلطات القبرصيّة على مصالح إسرائيل في الجزيرة، لا بد من النظر إلى التغلغل الإسرائيلي في السوق القبرصيّة عبر الشراكات الاقتصادية، سواء في تجارة العقارات أو وجودها كشريك مساهِم في علامات تجارية كثيرة، وهذا بدوره يجعلنا نتلمس الاضطراب الأمنيّ الذي اندلع في المدن القبرصية مع تصاعد وتيرة الأحداث في غزة بعد السابع من أكتوبر 2023.

هناك رغبة مباشرة لدى الحكومة في كم أفواه الرافضين لسلوك إسرائيل ضد الفلسطينيين، وهذا ما سمعته كثيراً من قبارصة وعرب يعملون في شركات على أرض قبرص، وقد يكون فيها نفوذ إسرائيلي عادةً ما يتم ضبطه بالتجاهل وعدم التماس المباشر حفاظاً على المصالح المشتركة التي تفرضها قوة الأمر الواقع وقوانين الشركات والعمالة.

رجوعاً إلى ذلك “الاحتفال”، حصل حادث توقيف لمراهق سوريّ، تصادف تجواله في لارنكا القديمة، على مقربة من المركز الإسرائيليّ ذاك، حيث طلبت الشرطة القبرصيّة من المراهق بطاقة إقامته، ثم حقّقت معه عن سبب تواجده قرب ذلك المركز وقد تم اقتياده إلى مخفر الشرطة.

بعد بضع ساعات أُفرج عن الصبيّ، وتم سؤاله ما إذا كان يعرف أي أشخاص يدعمون “حماس” أو يؤيدونها، كان هناك تخوف من وجود “خلايا نائمة” حسب الإعلام القبرصيّ. وكانت صحيفة “كاثيميريني” المحلية قد وصفت الإجراءات الأمنيّة التي قامت بها السلطات بأنّها “غير مسبوقة ومشدّدة للغاية”. ويتفهّم المرء مدى حرص هذه الجزيرة على مصالحها، ولكن ما الذي سيقوم به مراهق أعزل يمشي في الطريق دون معرفته ربما بوجود شيء يرتبط بكنيس يهوديّ أو إسرائيليّ؟

إنّ المجتمع القبرصيّ بطبيعته البسيطة، ميّال إلى السّلام والترحيب بالضيوف وحتّى مشاركة ودعم اللاجئين، بالحياة والعمل، وهذا ما شهدتُ عليه خلال تجربتي طيلة السنوات الثماني التي عشتها في قبرص، تعلّمت اللغة اليونانية، مارست معظم طقوسي الاجتماعية من لقاءات وحراك ثقافي وصحافي، عملتُ في شركات قبرصيّة وعربية وكان احتكاكي اليوميّ مع القبارصة يتطوّر ويكبر دون خوف، ولكن ليس بعد الآن!

لقد كان احتكاكاً، أيضاً، مع جنسيات أخرى بحكم تنوع الوافدين إلى الجزيرة خلال العامين الأخيرين، كان للجميع مكان وفرص للحياة وفق القانون، مساحة “آمنة” يعبّر فيها كلّ واحدٍ عن نفسه، انتمائه، طقوسه وأفكاره التي لا تضرّ بمصالح البلد المستضيف، وهذا ما ندركه ونقدّره جميعاً، كجالية تتكلّم العربيّة، وكمقيمين من بلدان مختلفة، إلاّ أن التوتر الذي يُحدثه مثلاً “الإسرائيلي” في المجتمع أينما وجد وهو يحمل تلك “المظلوميّة”، يترك في النفس خيبة لا تُحتمل من عدم وضوح المشكلة لدى السلطات القبرصيّة، ومدى تفهمها لعمق المسألة التاريخيّ مع المنبت الفكريّ والعقائديّ الجاهز الذي يحمله ذلك الشخص عنيّ كسوريّ.

إنّهم ينتبهون لك حين تتكلم بالعربية عبر الهاتف أو مع عربيّ آخر. فالقبرصيّ يحبّ ثقافتنا كسوريين، يتذكرون الجولات التي كانوا يقومون به أثناء رحلتهم إلى دمشق لشراء الستائر الشهيرة من أسواقها، وتذوق الطعام والمشي في حاراتها التاريخيّة، إنّهم يعدونها مكاناً زاخراً بالحضارات والثقافة، حسب ما أجمع معظم من عرفتهم. بينما أنتبه للإسرائيلي، الزبون، الذي يقرأ اسمي على قميص العمل فيختار شخصاً آخرَ ليطلب منه خدمة داخل الشركة، لا أدري ما الذي يخيفهم إلى هذا الحدّ طالما كانوا يزعمون أنهم على حقّ (!).

تعاني الحرّية اليوم في قبرص منذ بداية أحداث غزة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، من مأزق إنسانيّ في تفسيرها الظاهري ضمن المجتمع، فكيف لها أن تكون رمزاً للكرامة وعزة النفس لدى البعض إذا كانت تحرس بيوتهم ومصالحهم البنادق وسيارات الشرطة من أجل احتفال ما؟ وكيف لها أن ترفرف في الشوارع مع أكثرية تنتمي للضحايا وترفض القتل وتمشي في لارنكا القديمة وهي تمثل مراهقاً هرب من الحرب في سورية، هرب ليجد نفسه أمام تفضيلات غريبة بسبب فئة مكشوفة عبر التاريخ تعد نفسها مصطفاة دائماً وفوق الضحايا؟

كيف لا يعود إليّ الشعور بالخوف من لاجدوى اللجوء، إذا كانت السلطات التي منحتني بموجب اتفاقيات دولية، حمايّة إنسانيّة، لأعيش في هذا البلد سوف توقفني إذا مررت في شارع أعده قبرصيّاً ويحق لي المشي فيه بموجب تلك الحماية، وما شأني إذا كان ثمة وكر قد يأوي من يحمل أفكاراً وانتماءات تُفضل استحقاق الموت لبشر دوناً عن غيرهم؟

لقد رفضتُ القتل منذ كنت في سورية، ولا أعد لغة العنف والترهيب إلا قمعاً مركباً مع أشياء أخرى كالأسباب الأمنية المفاجئة والتخوّف الافتراضيّ من ردّات أفعال الجاليات الضيفة في هذا البلد، إنه عنفٌ بطقم رسميّ مهما تمّ تجميله بـ “مظلوميّة” مُفتعلة.

لم تسلم المجتمعات التي أخلت بمسؤوليتها عن أفرادها ودفعت بهم إلى هوة الشتات، من مبضع النقد والتفكيك، وليس ذلك في سبيل إهانتها لمكوناتها الأساسية: الفرد. إنما لأنها لم تكن يوماً مجتمعات صحيّة، أي تتقبّل أمراضها وتعد العلاج نابع بالدرجة الأولى من الفرد نفسه، وليس مستورداً من مجتمعات طارئة، خارجية، وهذا ما يحدث عادة إذا كانت تلك المجتمعات نفسها حريصة على وجودها وتحترم حرية أفرادها وتتمسك بهم. وفي الحالة القبرصيّة ثمّة مجتمع يضطرب من اختلاط الحقوق الاجتماعيّة بسلطة المصالح السياسية. والمكونات المتعددة من جنسيات أخرى، في هذا المجتمع، أصبحت فاعلة بقوة كأيادٍ عاملة، أصحابها قد يقبلون بظروف غير إنسانية في سبيل اعتراف المجتمع بوجودهم، لا بدفعهم إلى شتات جديد.

إن العلّة في الفصام القائم بين الشارع والسلطة وبين المجتمع الأهلي والإدارات الحكومية، ومع مقارنة بسيطة نجد أن القبرصي بجميع الأحوال يستاء من سلوك حكومته، يعترض، لا يقبل إلّا بالوظائف المناسبة له، يرفض القرارات الرسمية، ويسخر من رئيس الجمهورية، ويضمن دستور بلاده حريته. بينما اللاجئون والعرب وبقية الجنسيات، يعانون من عدميّة الحرية وسقوطها في تفضيل الضحايا، إذ كثيراً ما يعوّل هؤلاء العابرون على كفاف عيشهم بمعزل عن قول كلمة واحدة ضد الحكومة، فالردّ جاهز: ترحيل، حرمان أو تعطيل في أوراق الإقامة! وكيف بهم الحال إذا كانت هذه الحكومة اليوم تعتقد مسبقاً أنهم مشاريع متّهمين بسبب النيّات السياسية التي تزيد في تمزيق هذا المجتمع الجديد، الشريك، من أهل البلد والجاليات الضيفة، يستوقفون هذا السوريّ ويفتشون في بيت ذاك الفلسطينيّ، ولا أحد يعلم بالضبط عن ماذا يبحثون لدى أشخاص هربوا من الموت إلى ما يعتقدون أنه محاولة حياة جديدة أو ربّما واقع جديد لموت تدرجيّ أقلّ قسوةً!

(كاتب سوري يعيش في قبرص)

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

تدريباتنا