تدريباتنا

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

بواسطة | أبريل 11, 2024

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها “سِكبة رمضان” التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون طعامهم من خلالها، وتحظى برمزية إنسانية خاصة، إذ يتم من خلالها إطعام الكثير من المحتاجين دون أن يشعروا أن في الأمر شفقة أو صدقة، كما أنها تربي الأطفال في العائلة على قيم المحبة والتضامن والكرم. وقد اعتادت معظم العائلات  السورية، فيما مضى، أن تطهو كمياتٍ إضافية من الطعام، كي ترسل إلى أقاربها وجيرانها سكبة رمضان، وكانت، على اختلاف مستوياتها المعيشية، تتفنَّن في تحضير الأطباق الرمضانية التي تُزيّن مائدة الإفطار، كالكبب والمشاوي والشوربات والسلطات والفتات والمحاشي واليبرق والحلويات والعصائر وغيرها.

اليوم ومع تردي الواقع المعيشي والاقتصادي في عموم البلاد، باتت عادة “السكبة” تغيب عن طقوس رمضان، كغياب معظم الأطباق الرمضانية التقليدية عن موائد كثيرٍ من الناس، الذين أصبحوا  يكتفون بتحضير طبقٍ واحدٍ أو طبقين بسيطين في أحسن الأحوال، وإن استطاعوا فسيكتفون بشراء بعض الحلويات الشعبية الرخيصة،  كالمعروك والمشبك والناعم، بعد أن أصبحت النابلسية والمدلوقة والقطايف وغيرها من الحلويات الرمضانية حكراً على الأغنياء، كحال مختلف أنواع التمور والمشروبات الرمضانية التقليدية (التمرهندي والعرقسوس ومنقوع قمر الدين وغيرها) التي باتت أيضاً تغيب عن موائد الفقراء، بعد ارتفاع أسعارها بشكل كبير، وهو ما أدى إلى تراجع عدد البسطات الشعبية، التي اعتادت أن تبيعها في الشوارع ضمن طقوسٍ رمضانية خاصة.

“في السابق كنت أرسل إلى جيراني سكبة الكبب أو المحاشي أو الشاكرية أو أي طبق يحتوي على اللحوم، أما اليوم فقد بت أخجل من إرسال سكبة فول أخضر أو شوربة عدس أو برغل أو معكرونة أو أرز مع بعض حبوب البازيلاء، فالأطباق التي نحضرها اليوم أصبحت بسيطة وفقيرة وخالية من اللحوم والدسم، وبالكاد تكفينا”. هذا ما تقوله أم أيمن (64 عام/ ربة منزل) التي توقفت هذا العام عن إرسال سكبة رمضان لجيرانها، وتضيف: “بتنا عاجزين عن تحضير أبسط أنواع الحلويات المنزلية، وحُرمنا من معظم الأطباق الرمضانية التي اعتدنا تحضيرها لسنوات طويلة. ولكي نذكر أنفسنا بطعمها صرت أحتال على الواقع المعيشي المؤلم فأطهو طبق الشاكرية بدون لحمة، مع إضافة بعض البصل والبطاطا إلى اللبن، وأحشو الكوسا ببعض الأرز والبندورة، وأقوم بتحضير كبة البندورة أو كبة البطاطا المسلوقة، التي تخلو من اللحمة والمكسرات وتُقدم نيئة دون قلي أو شوي”.

وإلى جانب عادة “السكبة” باتت طقوس العزائم بين الأقارب والأصدقاء والجيران تغيب عن شهر رمضان، بعد أن كانوا في السابق يتسابقون إلى دعوات بعضهم على موائد الإفطار والسحور، العامرة بأطيب وأشهى الأطباق الرمضانية، ضمن طقسٍ احتفالي فريد، كان يقوي أواصر العلاقات الاجتماعية ويضفي أجواء المحبة والبهجة على شهر رمضان، فاليوم باتت معظم العائلات عاجزة حتى عن دعوة أحدٍ لزيارةٍ عادية قد لا تكلفها سوى ضيافةٍ بسيطة، وذلك بعد أن تحول 90% من الناس إلى فقراء، وانعدمت قدرتهم الشرائية في ظل انخفاض مستويات الدخل، بشكلٍ يدعو للحزن، وارتفاع أسعار جميع السلع والمواد الغذائية إلى مستوياتٍ خيالية، فعلى سبيل المثال، بلغ سعر كيلو هبرة الخاروف 225 ألف ليرة (أكثر من نصف راتب موظف حكومي)، وكيلو هبرة العجل 150 ألف ليرة، ووصل سعر كيلو قطع الفروج إلى ما بين 60 و80 ألف ليرة، فيما تخطت أسعار معظم أنواع الخضار والفاكهة (بطاطا، بندورة، خيار، كوسا، باذنجان، تفاح، برتقال) حاجز العشرة آلاف ليرة للكيلو الواحد، ووصل سعر كيلو الفليفلة والثوم والموز إلى أكثر من عشرين ألف ليرة. وبالنظر لما سبق باتت تكلفة عزيمةٍ لخمسةٍ أشخاص على إفطارٍ رمضاني تقليدي قد تتجاوز راتب موظفٍ حكومي.   

لمَّة العائلة والأقارب

تعتبر عادة اجتماع العائلة  الكبيرة، في منزل الجد أو الأب، من أبرز عادات رمضان المتوارثة منذ عشرات السنين، حيث يلتقي الأخوة والأبناء والأحفاد، ليتشاركوا في تحضير أطباق الطعام والحلويات، وليجتمعوا حول مائدة الإفطار الحافلة بأجواء المحبة والفرح والألفة. لكن تلك العادة، كغيرها من العادات، فقدت بريقها وبات حضورها ينحسر بشكلٍ كبير خلال السنوات الأخيرة، نتيجة ما فرضته ظروف الحرب وتبعاتها، والتي أدت إلى تقطع أوصال العلاقات العائلية، وتَشَتُّت كثيرٍ من العائلات، نتيجة النزوح والهجرة إلى خارج البلاد، وتباعد المسافات وصعوبة التواصل حتى بين من يعيشون ضمن المدينة الواحدة، وذلك في ظل تفاقم أزمة الموصلات وارتفاع تعرفة النقل وأسعار المحروقات. وفي ظل ذلك الواقع لم يبق سبيلٌ لاجتماع كثيرٍ من العائلات إلا من خلال التواصل الافتراضي، عبر الواتساب والماسنجر وبعض وسائل الاتصال المتاحة، كحال عائلة الموظف المتقاعد أبو أحمد (67 عام) الذي يصف لنا شعوره خلال تناول الإفطار :”منذ طفولتي اعتدت خلال شهر رمضان على طقس الإفطار الجماعي مع الأهل والأقارب، ومن ثم مع زوجتي وأبنائي وزوجاتهم وأطفالهم فيما بعد، لكنني اليوم بتُّ أنا وزوجتي نتناول إفطارنا وحيدين، بعد أن هاجر أبناؤنا الثلاثة وعائلاتهم إلى خارج البلاد، وبات من الصعب لقاء أقاربي، فمن بقي منهم في البلاد، يقيم في محافظة أخرى”. ويضيف: “لم أتصور نفسي في يومٍ من الأيام، أنا الرجل الاجتماعي المُحب لطقوس العزائم واجتماعات العائلة، أن أجلس إلى مائدة الإفطار دون إخوتي وأبنائي وأحفادي الذين أتصل بهم يومياً خلال موعد الإفطار والسحور، عَلّي أشعر ببعض الألفة وأتجنب شيئاً من الشعور بالغصَّة التي ترافقني مع كل لقمة طعام أتناولها”.

طقوس مشاهدة التلفاز

اعتادت العائلة السورية خلال رمضان أن تمضي معظم وقتها، وخاصة بين فترتي الإفطار والسحور، أمام التلفاز لمتابعة مسلسلات الدراما السورية والعربية، التي كان يتم انتظارها طيلة العام، وبعض البرامج الاجتماعية والدينية والترفيهية وبرامج المسابقات والطبخ وغيرها، لكن ذلك الطقس الرمضاني بات اليوم يختفي  نتيجة الانقطاع الطويل للكهرباء، التي جعلت التلفزيونات في  معظم بيوت الناس عاطلة عن العمل، لتحرمهم حتى من  مشاهدة حلقةٍ كاملة من أي مسلسلٍ من مسلسلات الدراما السورية التي يُفاخر صُناعها اليوم بتفوقها عربياً وبأنها عادت إلى ألقها، ناسين أن جمهورها الحقيقي محروم من متابعتها. وفي محاولة للتمسك بتلك العادة الرمضانية، بات بعض الناس يلجؤون لمتابعة بعض المسلسلات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، هذا في حال تمكنوا من تحمل تكاليف الإشتراك بباقات الإنترنت، وفي حال ساعدتهم سرعته على تحميل الحلقات، وهو ما يضطرهم للاكتفاء بمتابعة  مسلسلٍ أو اثنين، من بين عشرات المسلسلات المعروضة، ولمشاهدة حلقاتها بجودةٍ منخفضة، وبشكلٍ متقطعٍ ومتباعد، بحسب توفرها على مواقع التواصل، إذ كثيراً ما يتم حذفها قبل أن يتمكنوا من مشاهدتها.

عمل الخير بات أمراً صعباً

فيما مضى كانت تنشط  خلال شهر رمضان الكثير من الجمعيات الإنسانية والخيرية، التي يدعمها فاعلو الخير وبعض التجار والأثرياء، لتوزع الوجبات الرمضانية على الفقراء والمحتاجين خلال موعد الإفطار، سواء في الشوارع والجوامع، أو ضمن خيام الإفطار، أو من خلال زيارة بعض البيوت، لكن نشاط تلك الجمعيات انحسر اليوم بشكل كبير ليقتصر، وبشكل خجولٍ، على توزيع الماء والتمر وبعض الوجبات الخفيفة على بعض الناس في عددٍ محدود من الجوامع، وذلك نتيجة صعوبة جمع التبرعات وتراجع نسبة المتبرعين الذين تحول الكثير منهم إلى فقراء، حالهم كحال كثيرٍ من العائلات الميسورة، التي كانت في السابق تجمع كمياتٍ كبيرة من الأطعمة في علبٍ خاصة ليتم توزيعها على الفقراء في الشوارع والحدائق ومختلف الأماكن، بل أن بعض العائلات الفقيرة كانت تجمع ما فاض عنها من طعام الإفطار لتقوم بتوزيعه أيضاً، فيما كان الكثير من اللحامين و البقالين وبائعي الخضار والفاكهة وغيرهم يوزعون الكثير من الأطعمة والمواد الغذائية على عابري السبيل كنوع من أنواع الصدقة، لكن تلك العادات الإنسانية والخيرية باتت تغيب عن شهر رمضان بعد أن أصبح عمل الخير أمراً صعباً لا يستطيع معظم الناس إليه سبيلا. 

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي "عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟"، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: "بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد"، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا...

تدريباتنا