الشّتات يطارد اللاجئين السوريين مجدداً في قبرص!

الشّتات يطارد اللاجئين السوريين مجدداً في قبرص!

يعيشُ اليوم آلاف السوريين في قبرص خوفاً اجتماعياً من فقدان فرصة العيش في الجزيرة، بسبب التحريض الذي يتعرض له المهاجرون السوريون الواصلون حديثاً إلى قبرص، والذين أعُيد معظمهم إلى لبنان بعد قرار مفاجئ اتخذته قبرص بخصوصهم.

“خلال الثلاثة أشهر الماضية، كان السوريون يصلون عبر البحر إلى قبرص من لبنان كلّ يوم تقريباً” هذا ما قاله رئيس جمهورية قبرص “نيكوس خريستودوليدس” خلال حوار منذ أيام مع “شبكة المحررين الألمانية (RND).

 كما أكد أنّ “المهاجرين اليوم في قبرص يشكلون 7% من عدد سكان الجزيرة” وأضاف: “لم نعد قادرين على استقبال المزيد من اللاجئين السوريين، إنّها مسألة أمن قومي، ولذلك أخبرت الاتحاد الأوروبي بقراري حول تعليق طلبات اللجوء للسوريين في قبرص”.

وكان “خريستودوليدس” قد علّق دراسة طلبات اللجوء للسوريين في الجزيرة المتوسطية ليلة 13 نيسان/ أبريل 2024، وجاء هذا التحرك ضمن إطار الحملة الإعلامية التي شنتها السلطات الرسمية على المهاجرين السوريين الواصلين حديثاً عبر البحر، والذين تدفقوا بكميات كبيرة مقارنة مع الأشهر الفائتة، حيث أعاد خفر السواحل القبرصيّ بالتعاون مع السلطات اللبنانيّة، منذ أيام، حوالي خمسة قوارب تقلّ نحو 400 مهاجر سوريّ.

“خريستوذوليذس” قال: “إن هذا القرار مؤقت بانتظار إعادة تقييم وضع النظام السوريّ لإيجاد مناطق آمنة يمكن إعادة المهاجرين إليها” على حد تعبيره.

وأكدت منظمات حقوقية أن قبرص نفّذت خلال العام 2023 نحو (11 ألف) عملية إعادة قسرية وطوعية للمهاجرين.

وبحسب الإجراءات المعلنة، سيتمكن المهاجرون السوريون الجدد من تقديم طلباتهم، ولكن لن يتم دراستها، وسيتم بعد ذلك نقلهم إلى مراكز الاستقبال وتُقدَّم لهم مساعدات عينية؛ وهي الغذاء والإقامة، ولكن دون أوراق رسمية للإقامة. لن يحق لأولئك الذين يختارون مغادرة مركز الاستقبال الحصول على أي مزايا. بالإضافة إلى ذلك، لن يكون لهم الحق في الحصول على عمل خلال الأشهر التسعة الأولى من وصولهم.

واعتباراً من أكتوبر/تشرين الأول 2023، توجب على طالبي اللجوء الانتظار تسعة أشهر (بدلًا من شهر واحد) بعد تقديم طلب اللجوء قبل السماح لهم بالعمل. وأعرب في حينها مجلس اللاجئين القبرصي عن قلقه بأن ذلك من شأنه الدفع بالمزيد من الناس إلى العمل غير النظامي والعوز.

وأفادت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن “أعداداً متزايدة من طالبي اللجوء معرضون لخطر التشرد”، مشيرة إلى عدم كفاية الدعم الاجتماعي المقدم لهم.

وكان حزب فولت “Volt” القبرصي قد حذر من قرار الحكومة الأخير بتعليق فحص طلبات اللجوء المقدمة من المواطنين السوريين، واتهم الحزب في بيانه الحكومة بتغيير سياستها لكسر الصورة النمطية لها “دون أي تغيير جوهري”، وجاء في البيان أن “تعليق فحص الطلبات لن يكون بأي حال من الأحوال رادعاً لتدفق الهجرة من سوريا ولبنان”، مشيراً إلى أن “تعليق طلبات السوريين سيزيد الضغط على نظام إدارة اللجوء المثقل بالفعل، وسيتم وضع نصف طلبات اللجوء في الدِرج، لتواجهها خدمة اللجوء بعد بضعة أشهر، وفي ذلك الوقت سيكون العدد الإجمالي للطلبات المعلقة قد ازداد مرة أخرى بشكل كبير” بحسب البيان.

وقالت الحقوقية “كورينا ذروسيوتو” من مجلس اللاجئين القبرصي، وهو منظمة غير حكومية، للصحفيين: “إن هذا القرار لا يستند على أي أسس قانونية لاستبعاد جنسية معينة من طلبات اللجوء”. وأوضحت أنه تمت تجربة إجراء مماثل أثناء إدارة الرئيس القبرصي السابق “نيكوس أناستاسيادس”، لكنه فشل في تحقيق أي نتائج. وأضافت أن “هذا الإجراء تمت تجربته أيضاً عام 2022، في ظل الحكومة السابقة، ولم يأتِ بنتائج، كما أنه لم يقلل من وصول المواطنين السوريين”.

وخلال الأسابيع القليلة الماضية؛ زار وفد قبرصيّ رسميّ، لبنان، لمناقشة سُبل التصدي لخط الهجرة البحريّة والذي ينطلق من السواحل اللبنانية عادة- نحو سواحل قبرص، ونتج عن ذلك تنسيق سريع في سبل الإعادة القسرية لقوارب المهاجرين السوريين.

وبحسب إحصائيات مفوضية اللجوء في الأمم المتحدة – قبرص حتى أيلول – سبتمبر 2023، فقد تقدم نحو (3357) سورياً بطلبات لجوء إلى قبرص، في وقت كان هناك نحو (9477) طلباً للجوء إلى قبرص معلقاً حتى عام 2022.

وأكدت السلطات الرسمية أن قرار رئيس جمهورية قبرص بتعليق دراسة طلبات اللجوء للسوريين، سيكون ساري المفعول على الطلبات التي قُدّمت خلال الـ 18 شهراً الماضية!

ويوم الجمعة 19 نيسان/ أبريل 2024، اكتشف رادار جمهورية قبرص البحري، قاربين في المياه قبالة “كيب جريكو” وعلى متنهما (141) شخصاً؛ (92) رجلاً و (12) امرأة و(25) طفلاً و (12) قاصراً دون ذويهم. تم استقبال الأشخاص الـ 138، وهم لاجئون من سوريا، ورجل من لبنان، ورجل وامرأة من فلسطين، من قبل سفينتين تابعتين لشرطة الموانئ والبحرية وتم نقلهم إلى ميناء لارنكا حيث تم تسجيل تفاصيلهم. قالوا إنهم بدأوا رحلتهم في 11 أبريل/ نيسان 2024، من لبنان بعد أن دفعوا في السابق ما بين 3000 و3500 دولار أمريكي لشخص مجهول، وتم نقلهم إلى مركز “بورنارا” لإيواء المهاجرين المؤقت في “كوكينوتريميثيا”. وكان قد وصل منذ 31 آذار / مارس حتى منتصف نيسان/ أبريل نحو (17) قاربًا يحملون (949) مهاجراً إلى قبرص، معظمهم من السوريين.

وفي تصريحات لوزارة الداخلية القبرصية، فإن هناك نحو 10000 طلب معلق، وقد تم تنفيذ قرار الحكومة القبرصية استناداً إلى “آلية أوروبية يتم تفعليها في حالات التدفق المتزايد للمهاجرين غير الشرعيين”. وفي تقرير سابق، أشارت الوزارة إلى انخفاض طلبات اللجوء وزيادة عمليات مغادرة المهاجرين خلال العام 2023.  وبحسب البيانات، انخفض إجمالي عدد الوافدين في عام 2023 بنسبة 50% مقارنة بعام 2022. وعلى وجه الخصوص انخفض عدد الوافدين من الخط الأخضر وزاد عدد الوافدين عن طريق البحر بنسبة 355%. وبلغت طلبات اللجوء عام 2022 (21565) ومنها (4088) طلباً لسوريين. بينما عام 2023 بلغ عدد طلبات اللجوء (11617) وعدد طلبات السوريين (6148) طلباً.

وكانت المحكمة الإدارية للحماية الدولية قد تلقت (8377) قضية طعن بقرارات للاجئين، وبنحو (12300) طلب استئناف تتعلق بأجانب عُلّقت طلبات لجوئهم. وقد تمت معالجة (9818) قضية أمام المحكمة المذكورة، ولم تنجح إلا في خمسة وأربعين قضية، أي بنسبة 0.46%.

ويشار إلى أنه منذ عام 2020 إلى عام 2023، تم تسجيل زيادة بنسبة 472% في الطعون أمام المحكمة الإدارية للحماية الدولية. ومع ذلك، فقد تبين أنه في الفترة من 2022 إلى 2023، تم تسجيل انخفاض بنسبة 9٪ في الطعون. 76% من الطعون المسجلة تتعلق بمتقدمين من بلدان آمنة.

وتشير إحصائيات موقع “Eurostat” إلى أن عدد طلبات اللجوء المعلقة في قبرص حتى نهاية شهر كانون الثاني / يناير 2024 وصلت إلى (31615) طلباً، وقد تقدم خلال عام 2023 نحو (6155) سوريا بطلب لجوء في قبرص.

ومن بين هؤلاء الواصلين “عبد الكريم. ن” الذي لا يخفي تخوّفه من الترحيل رغم أنه “يعمل بالأسود” ولم يحصل بعد على أوراق تخوّله العمل والإقامة، فهو مثل آلاف الواصلين خلال العامين الماضيين “لم يأته الردّ على طلب المقابلة من أجل اللجوء” بحسب ما قاله.

فيما تحاول “دعاء. م” العمل من بيتها في بيع الأطعمة السورية عبر فيسبوك، وهي تعيل أبناءها الأربعة بعد أن قُتل زوجها في سوريا بريف دمشق عام 2014، وتؤكد: “لقد وصلت منذ خمسة عشر شهراً، وأعيش اليوم في لارنكا، ويذهب أولادي إلى المدرسة لأن أعمارهم ما بين 8 سنوات و15 سنة، لكنهم دون أوراق رسمية، ربما سوف يحصلون عليها فيما بعد بحكم اندماجهم في المجتمع، كما يحدث مع معظم الأبناء الذين يأتون مع عائلاتهم ثم يُنتزعون تدريجياً عبر المدرسة والعادات والتقاليد هنا، ليكونوا جزءاً من المجتمع المحلي. هذا لا يخيفني، ولكني أخشى ألا أستطيع إكمال الانتظار بعد تعليق طلبات اللجوء والعيش دون أوراق”.

وتشير “دعاء. م” في حديثها معنا أنها تقدمت منذ سنة بطلب لخدمة اللجوء في العاصمة القبرصية نيقوسيا، ولكنها ماتزال تنتظر رغم أن طلبها وُضع مع آلاف الطلبات في الدِرج ليذهب إلى الأرشيف حتى إشعار آخر.

ويعاني “علي ناصر” الذي يبلغ من العمر أربعة عشر عاماً، من تشوّه في فمه نتيجة حادثة صعق كهربائي في الطفولة، وهو قد وصل إلى قبرص منذ أربعة أشهر فقط، ويعمل كصانع في محل للحلاقة، ولكنه لا يملك أوراقاً، يقول: “وصلت إلى قبرص وحدي، وأهلي ما يزالون في إدلب، ولكني بحاجة للمال، أعمل عند حلاق عربي هنا وأستطيع أن أتنكر كواحد من الزبائن إذا جاءت السلطات للتأكد من أوراقي، لأنه لا يحق لي العمل دون قرار من خدمة اللجوء بالموافقة على منحي حق الحماية الثانوية وكرت الإقامة”.

ولا تقدم قبرص أية امتيازات تُذكَر لتأهيل اللاجئين (…) ومعظم من يصل إليها يطمح بالحصول على أوراق ليكمل رحلته إلى دول أكبر مثل ألمانيا وهولندا وفرنسا لكن، قبرص في جميع الأحوال نادراً ما تمنح السوريين حق اللجوء “الكامل” مع “وثيقة السفر” وهذا ما يجعل اللاجئين السوريين يزدادون فيها، لأن مشكلتها الجوهرية هي منحهم إقامة بقصد العمل والسكن وهي لا تؤهلهم للسفر إلى أوروبا إلا باستخدام جوازات سفرهم السورية وهذا أمر شبه مستحيل بسبب تعقيدات التأشيرة والفيزا، وبمعنى أدق؛ يعيش اللاجئون السوريون في قبرص ضمن سجن كبير نسبياً، أما الآن، حتى هذا السجن بات اليوم مهدداً بالتضييق بعد قرار تعليق طلبات اللجوء والضغط على السوريين دوناً عن غيرهم!

لا بد من الإشارة أخيراً إلى أن قراراً مررته الحكومة القبرصية في نهاية العام الماضي ينص على تعديلات في قواعد التجنيس والتي بحسب منظمات حقوقية قد تم إقراراها دون استشارة المجتمع المدني إلى تشديد متطلبات الإقامة، وذلك عبر إدخال شرط “الدخول غير الشرعي إلى قبرص” كمعيار للحكم على “حسن سلوك” مقدم الطلب، الأمر الذي سوف يؤثر فيما بعد على اللاجئين والمستفيدين من الحماية الثانوية والأشخاص ذوي الإعاقة بخصوص استحالة حصولهم على الجنسية القبرصية، كما أن الأطفال المولودين من أبوين لاجئين سوف يواجهون احتمال انعدام الجنسية.

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها “سِكبة رمضان” التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون طعامهم من خلالها، وتحظى برمزية إنسانية خاصة، إذ يتم من خلالها إطعام الكثير من المحتاجين دون أن يشعروا أن في الأمر شفقة أو صدقة، كما أنها تربي الأطفال في العائلة على قيم المحبة والتضامن والكرم. وقد اعتادت معظم العائلات  السورية، فيما مضى، أن تطهو كمياتٍ إضافية من الطعام، كي ترسل إلى أقاربها وجيرانها سكبة رمضان، وكانت، على اختلاف مستوياتها المعيشية، تتفنَّن في تحضير الأطباق الرمضانية التي تُزيّن مائدة الإفطار، كالكبب والمشاوي والشوربات والسلطات والفتات والمحاشي واليبرق والحلويات والعصائر وغيرها.

اليوم ومع تردي الواقع المعيشي والاقتصادي في عموم البلاد، باتت عادة “السكبة” تغيب عن طقوس رمضان، كغياب معظم الأطباق الرمضانية التقليدية عن موائد كثيرٍ من الناس، الذين أصبحوا  يكتفون بتحضير طبقٍ واحدٍ أو طبقين بسيطين في أحسن الأحوال، وإن استطاعوا فسيكتفون بشراء بعض الحلويات الشعبية الرخيصة،  كالمعروك والمشبك والناعم، بعد أن أصبحت النابلسية والمدلوقة والقطايف وغيرها من الحلويات الرمضانية حكراً على الأغنياء، كحال مختلف أنواع التمور والمشروبات الرمضانية التقليدية (التمرهندي والعرقسوس ومنقوع قمر الدين وغيرها) التي باتت أيضاً تغيب عن موائد الفقراء، بعد ارتفاع أسعارها بشكل كبير، وهو ما أدى إلى تراجع عدد البسطات الشعبية، التي اعتادت أن تبيعها في الشوارع ضمن طقوسٍ رمضانية خاصة.

“في السابق كنت أرسل إلى جيراني سكبة الكبب أو المحاشي أو الشاكرية أو أي طبق يحتوي على اللحوم، أما اليوم فقد بت أخجل من إرسال سكبة فول أخضر أو شوربة عدس أو برغل أو معكرونة أو أرز مع بعض حبوب البازيلاء، فالأطباق التي نحضرها اليوم أصبحت بسيطة وفقيرة وخالية من اللحوم والدسم، وبالكاد تكفينا”. هذا ما تقوله أم أيمن (64 عام/ ربة منزل) التي توقفت هذا العام عن إرسال سكبة رمضان لجيرانها، وتضيف: “بتنا عاجزين عن تحضير أبسط أنواع الحلويات المنزلية، وحُرمنا من معظم الأطباق الرمضانية التي اعتدنا تحضيرها لسنوات طويلة. ولكي نذكر أنفسنا بطعمها صرت أحتال على الواقع المعيشي المؤلم فأطهو طبق الشاكرية بدون لحمة، مع إضافة بعض البصل والبطاطا إلى اللبن، وأحشو الكوسا ببعض الأرز والبندورة، وأقوم بتحضير كبة البندورة أو كبة البطاطا المسلوقة، التي تخلو من اللحمة والمكسرات وتُقدم نيئة دون قلي أو شوي”.

وإلى جانب عادة “السكبة” باتت طقوس العزائم بين الأقارب والأصدقاء والجيران تغيب عن شهر رمضان، بعد أن كانوا في السابق يتسابقون إلى دعوات بعضهم على موائد الإفطار والسحور، العامرة بأطيب وأشهى الأطباق الرمضانية، ضمن طقسٍ احتفالي فريد، كان يقوي أواصر العلاقات الاجتماعية ويضفي أجواء المحبة والبهجة على شهر رمضان، فاليوم باتت معظم العائلات عاجزة حتى عن دعوة أحدٍ لزيارةٍ عادية قد لا تكلفها سوى ضيافةٍ بسيطة، وذلك بعد أن تحول 90% من الناس إلى فقراء، وانعدمت قدرتهم الشرائية في ظل انخفاض مستويات الدخل، بشكلٍ يدعو للحزن، وارتفاع أسعار جميع السلع والمواد الغذائية إلى مستوياتٍ خيالية، فعلى سبيل المثال، بلغ سعر كيلو هبرة الخاروف 225 ألف ليرة (أكثر من نصف راتب موظف حكومي)، وكيلو هبرة العجل 150 ألف ليرة، ووصل سعر كيلو قطع الفروج إلى ما بين 60 و80 ألف ليرة، فيما تخطت أسعار معظم أنواع الخضار والفاكهة (بطاطا، بندورة، خيار، كوسا، باذنجان، تفاح، برتقال) حاجز العشرة آلاف ليرة للكيلو الواحد، ووصل سعر كيلو الفليفلة والثوم والموز إلى أكثر من عشرين ألف ليرة. وبالنظر لما سبق باتت تكلفة عزيمةٍ لخمسةٍ أشخاص على إفطارٍ رمضاني تقليدي قد تتجاوز راتب موظفٍ حكومي.   

لمَّة العائلة والأقارب

تعتبر عادة اجتماع العائلة  الكبيرة، في منزل الجد أو الأب، من أبرز عادات رمضان المتوارثة منذ عشرات السنين، حيث يلتقي الأخوة والأبناء والأحفاد، ليتشاركوا في تحضير أطباق الطعام والحلويات، وليجتمعوا حول مائدة الإفطار الحافلة بأجواء المحبة والفرح والألفة. لكن تلك العادة، كغيرها من العادات، فقدت بريقها وبات حضورها ينحسر بشكلٍ كبير خلال السنوات الأخيرة، نتيجة ما فرضته ظروف الحرب وتبعاتها، والتي أدت إلى تقطع أوصال العلاقات العائلية، وتَشَتُّت كثيرٍ من العائلات، نتيجة النزوح والهجرة إلى خارج البلاد، وتباعد المسافات وصعوبة التواصل حتى بين من يعيشون ضمن المدينة الواحدة، وذلك في ظل تفاقم أزمة الموصلات وارتفاع تعرفة النقل وأسعار المحروقات. وفي ظل ذلك الواقع لم يبق سبيلٌ لاجتماع كثيرٍ من العائلات إلا من خلال التواصل الافتراضي، عبر الواتساب والماسنجر وبعض وسائل الاتصال المتاحة، كحال عائلة الموظف المتقاعد أبو أحمد (67 عام) الذي يصف لنا شعوره خلال تناول الإفطار :”منذ طفولتي اعتدت خلال شهر رمضان على طقس الإفطار الجماعي مع الأهل والأقارب، ومن ثم مع زوجتي وأبنائي وزوجاتهم وأطفالهم فيما بعد، لكنني اليوم بتُّ أنا وزوجتي نتناول إفطارنا وحيدين، بعد أن هاجر أبناؤنا الثلاثة وعائلاتهم إلى خارج البلاد، وبات من الصعب لقاء أقاربي، فمن بقي منهم في البلاد، يقيم في محافظة أخرى”. ويضيف: “لم أتصور نفسي في يومٍ من الأيام، أنا الرجل الاجتماعي المُحب لطقوس العزائم واجتماعات العائلة، أن أجلس إلى مائدة الإفطار دون إخوتي وأبنائي وأحفادي الذين أتصل بهم يومياً خلال موعد الإفطار والسحور، عَلّي أشعر ببعض الألفة وأتجنب شيئاً من الشعور بالغصَّة التي ترافقني مع كل لقمة طعام أتناولها”.

طقوس مشاهدة التلفاز

اعتادت العائلة السورية خلال رمضان أن تمضي معظم وقتها، وخاصة بين فترتي الإفطار والسحور، أمام التلفاز لمتابعة مسلسلات الدراما السورية والعربية، التي كان يتم انتظارها طيلة العام، وبعض البرامج الاجتماعية والدينية والترفيهية وبرامج المسابقات والطبخ وغيرها، لكن ذلك الطقس الرمضاني بات اليوم يختفي  نتيجة الانقطاع الطويل للكهرباء، التي جعلت التلفزيونات في  معظم بيوت الناس عاطلة عن العمل، لتحرمهم حتى من  مشاهدة حلقةٍ كاملة من أي مسلسلٍ من مسلسلات الدراما السورية التي يُفاخر صُناعها اليوم بتفوقها عربياً وبأنها عادت إلى ألقها، ناسين أن جمهورها الحقيقي محروم من متابعتها. وفي محاولة للتمسك بتلك العادة الرمضانية، بات بعض الناس يلجؤون لمتابعة بعض المسلسلات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، هذا في حال تمكنوا من تحمل تكاليف الإشتراك بباقات الإنترنت، وفي حال ساعدتهم سرعته على تحميل الحلقات، وهو ما يضطرهم للاكتفاء بمتابعة  مسلسلٍ أو اثنين، من بين عشرات المسلسلات المعروضة، ولمشاهدة حلقاتها بجودةٍ منخفضة، وبشكلٍ متقطعٍ ومتباعد، بحسب توفرها على مواقع التواصل، إذ كثيراً ما يتم حذفها قبل أن يتمكنوا من مشاهدتها.

عمل الخير بات أمراً صعباً

فيما مضى كانت تنشط  خلال شهر رمضان الكثير من الجمعيات الإنسانية والخيرية، التي يدعمها فاعلو الخير وبعض التجار والأثرياء، لتوزع الوجبات الرمضانية على الفقراء والمحتاجين خلال موعد الإفطار، سواء في الشوارع والجوامع، أو ضمن خيام الإفطار، أو من خلال زيارة بعض البيوت، لكن نشاط تلك الجمعيات انحسر اليوم بشكل كبير ليقتصر، وبشكل خجولٍ، على توزيع الماء والتمر وبعض الوجبات الخفيفة على بعض الناس في عددٍ محدود من الجوامع، وذلك نتيجة صعوبة جمع التبرعات وتراجع نسبة المتبرعين الذين تحول الكثير منهم إلى فقراء، حالهم كحال كثيرٍ من العائلات الميسورة، التي كانت في السابق تجمع كمياتٍ كبيرة من الأطعمة في علبٍ خاصة ليتم توزيعها على الفقراء في الشوارع والحدائق ومختلف الأماكن، بل أن بعض العائلات الفقيرة كانت تجمع ما فاض عنها من طعام الإفطار لتقوم بتوزيعه أيضاً، فيما كان الكثير من اللحامين و البقالين وبائعي الخضار والفاكهة وغيرهم يوزعون الكثير من الأطعمة والمواد الغذائية على عابري السبيل كنوع من أنواع الصدقة، لكن تلك العادات الإنسانية والخيرية باتت تغيب عن شهر رمضان بعد أن أصبح عمل الخير أمراً صعباً لا يستطيع معظم الناس إليه سبيلا. 

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

مع بدء الحرب السورية تمكنت المؤسسات والمنظمات غير الربحية المندرجة تحت مظلة المجتمع المدني من إثبات وجودها وترك بصمتها على أرض الميدان، فكانت الجمعيات الخيرية والمبادرات الفردية الإنسانية أولى الجهات غير الرسمية التي استطاعت توسيع دورها على خارطة العمل وإنقاذ الفئات الأكثر عوزاً وقضاء الحوائج في محاولة متواضعة لردم المسافة الطبقية بين الأغنياء والفقراء. كما كانت ضمن فرق الاستجابة الطارئة للكوارث، لاسيما أن الحاجة لهذه الجمعيات تبرز عند الأزمات لتصبح مساندة للحكومة، مع الإشارة إلى أن هذه المبادرات تنشط مع تفاقم الحالة المعيشية وتدهور الوضع الاقتصادي وارتفاع نسبة الفقر في البلاد.

  أطلقت جمعية “ساعد” حملتها الإغاثية بعنوان “خسى الجوع” في شهر رمضان، حيث تقدم وجبات الإفطار لمئات العوائل في مدينة دمشق وريفها. وبدأت الحملة منذ أحد عشر عاماً، ويقول المدير التنفيذي للجمعية مازن القاري عن هذه المبادرة الإنسانية: “هناك آلية عمل واضحة، حيث نسير وفق قاعدة بيانات تسجل فيها أسماء الأسر الأكثر عوزاً بعد دراسة وضعها وزيارتها ميدانياً. تستهدف الحملة الفئات المصنفة التالية كأولوية إطعام طوال شهر رمضان وهم الأرامل، الجرحى وأسر الشهداء والتي وصل عددهم قرابة 200 أسرة يومياًهذا العام.” ويضيف: “هناك مئات الأسر خارج التصنيف المذكور، لكن نقوم بتوزيع وجبات الإفطار لهم ليومين أسبوعياً عند حصول فائض من الطعام”.

التبرع في الأعوام الماضية أعلى منه في الحالي

استنزفت كارثة الزلزال التي وقعت في 6/ شباط 2023 جيوب المتبرعين والتجار وأصحاب الأيادي البيضاء والمجتمع الأهلي، ما انعكس سلباً على إحجام بعض المبادرات بإطلاق أنشطتها لغياب التمويل وهو العمود الفقري الذي تقوم عليه الجمعيات الخيرية. يشرح مازن القاري الوضع: “في العام الماضي خدمنا قرابة 60 ألف عائلة خلال شهر رمضان، بينما هذا العام لن يتجاوز العدد أكثر من 15 ألف عائلة، طبعاً هذا الرقم أقل بكثير من عدد المسجلين، لكننا نقدم الوجبات ونغطي الاحتياجات وفق المواد الغذائية المتبرعة المتوفرة والتي تقلصت كثيراً هذا العام نتيجة إعطاء ضحايا الزلزال الأولوية لأموال المتبرعين.” ويشير المدير التنفيذي إلى اضطرار فرع الجمعية بمدينة حلب إلى إيقاف مبادرة “خسى الجوع” لتقتصر فقط على مدينة دمشق، وذلك لغياب الدعم المالي واستنزافها لصالح متضرري الزلزال.

تتولى جمعية “مجال للخدمات الاجتماعية” توزيع وجبات الإفطار يومياً لقرابة 1250 شخصاً طوال شهر رمضان ضمن حملتها “كسرة خبز” مستهدفة الفئات الأكثر فقراً في مناطق الحسينية وعدرا والعتيبة بريف دمشق وذلك بمساندة فريق “كنا وسنبقى التطوعي.” وعن المبادرة الإنسانية، تقول المسؤولة الإعلامية نور زيادة: “لدينا برنامج محدد نستهدف فيه يومياً منطقة جديدة بريف دمشق حصراً بعد التنسيق مع الجمعيات والبلديات المتواجدة في تلك المناطق ومسح كامل للأسر المتعففة.

تضع الجمعية معايير محددة لتوزيع وجبات الطعام مستهدفة الفئات الأكثر حاجة، وهم ذوو الإعاقة والأيتام والأرامل وفاقدو المعيل وذلك بعد تقييم الوضع الراهن حسب نور.

 تعتمد المبادرات بشقها الأساسي على مجموعات من الشباب المتطوعين الذين ينفقون ساعات من يومهم في سبيل العمل التطوعي. يخصص جاد ست ساعات أسبوعياً للمساعدة في أعمال الطبخ وتوزيع الوجبات، يقول: “أنا طالب جامعي في كلية الهندسة المدنية، آتي إلى جمعية ساعد ليوم واحد في الأسبوع لتقديم يد العون، لا أستطيع المجيء يومياً بسبب دراستي، شعور العطاء جميل جداً وضروري في ظروفنا الراهنة الصعبة التي يعاني منها الجميع”.

تتفق تيا مع أصدقائها في العمل على اختيار يوم العطلة لزيارة فريق “كسرة خبز” وتوزيع الطعام والقيام بأعمال الطبخ إيماناً منها بأهمية المجتمع المدني بتحسين الحياة نحو الأفضل، تقول الشابة: “التطوع يضفي معنى إنسانياً وشعوراً إيجابياً وإحساساً بالفخر عند مساعدة الآخرين، كما أن توقيت التطوع مهم للغاية الآن، لاسيما بسبب الظروف الاقتصادية التي نعيشها”.

التحديات والعراقيل

تواجه المبادرات مجموعة من العراقيل والتحديات، أهمها أزمة الوقود لتأمين إيصال وجبات الطعام لمستحقيها، ناهيك عن ضعف التمويل. يعمل مطبخ “ساعد” على التنسيق مع فريق دراجين للتخفيف من الازدحام الخانق وتذليل العقبات المتعلقة بالمحروقات، إذ يقطع الكابتن طارق رئيس فريق دراجين “الأمل” مسافة ما لا يقل عن 30 كيلومتراً ذهاباً وإياباً إلى الريف البعيد بغية إيصال وجبات الطعام إلى الأسر المتعففة، وذلك بعد التعاون مع المخاتير. يقول الكابتن طارق عن تجربته: “نحن مبادرة إنسانية لها صفة اعتبارية وليس رسمية نحاول إكساب صفة أخلاقية لرياضة الدراجات وتطويعها لأهداف خيرية، كما يمكننا بهذه الطريقة التخفيف من الازدحام الخانق وتقليص الوقت.” لا ينكر الكابتن وجود نظرة ازدراء تجاه سائقي الدراجات وكأنهم قطاع طرق ويثيرون الفوضى والشغب والقيام بأعمال نشل وسرقة، ويعقب قائلاً: “نعمل على تغيير هذه النظرة ونشر ثقافة الدراجات في البلاد، إلى جانب غياب دعم وزارة الشؤون الاجتماعية في تسهيل ترخيص الدراجات وتخفيض رسومها المالية الباهظة جداً.”

بدورها، تؤكد نور أن تراجع الوضع الاقتصادي وغياب عنصر التمويل وغلاء المعيشة أثر سلباً على عدم الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الأسر الفقيرة وذلك بسبب الإمكانيات المادية المحدودة، وتشرح أكثر: “هذا العام مجحف والتبرع فيه أقل من العام الماضي بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة بشكل ملحوظ، ولو كان حجم التبرعات أكبر لاستطعنا تغطية أكبر عدد من العائلات، لكن بالرغم من ذلك نعمل ما بوسعنا وعلى نفس السوية بالعمل والطاقة والجهد”.

يذكر أن جمعية “ساعد” كانت قد بدأت نشاطها عام 2013 بمطبخ صغير ومجموعة صغيرة لا تتجاوز 25 فرداً من متطوعين تبرعوا بمواد غذائية من منازلهم في مقرها بالباحة الأمامية لجامع الأمويين بدمشق إيماناً بخدمة المجتمع وتقديم يد العون للفئات الأكثر عوزاً، بينما تأسست “مجال” عام ٢٠٢٠ لكنها نالت شهرتها بعد عام من انطلاقتها، إذ تهدف إلى توفير ظروف معيشة كريمة للأسر المحتاجة من خلال تأمين متطلباتها الحياتية وتحسين الأوضاع الاقتصادية لأكبر عدد من المستفيدين.

الهروب من الموت إلى موت أقل قسوة

الهروب من الموت إلى موت أقل قسوة

أقيم “احتفالٌ” لمركز يهوديّ إسرائيليّ في مدينة لارنكا القبرصيّة، القديمة، مطلع شهر أكتوبر الفائت، وقد تزامن ذلك مع عمليات حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة التي بدأت مؤخراً.

كان محيط المركز معزّزاً بحراسةٍ للشرطة القبرصيّة، حراسة مهيبة، لا يمكن أن تُقام أمام بيت رئيس جمهوريّة قبرص مثلاً أو حتّى قرب أيّة مؤسسةٍ حكوميّة!

وحسب ما كان يدور بين النّاس، هنا، أنّه ثمّة تخوّفاً من ردّة فعل البعض ضد إسرائيل، ممّن يعيشون في قبرص. كانت هناك صعوبة في المجتمع القبرصيّ لفهم ذلك التخوّف، هذا ما لاحظته من متابعة وسائل الإعلام المحليّة، فقد كان خطابها مرتبكاً لسببين أساسيين أبرزهما وجود جالية من جذور عربية في قبرص ترفض إسرائيل، وثانيهما أن هنالك بعض الأحزاب القبرصيّة تؤيّد القضية الفلسطينيّة وتدعم النشاط الاجتماعيّ للاجئين منهم هنا وعبر الحدود.

ترى ما هو سبب الرعب الذي يمكن أن يدفع السلطات لتشديد الحراسة الأمنيّة لمركز دينيّ قد لا يشكّل أيّة قيمة اجتماعيّة أو نفع تاريخيّ للجزيرة المتوسطية؟

يعتقد البعض أن تنامي القوّة المالية التي تحرّك جزءاً كبيراً من اقتصاد قبرص، مرتبط بشخصيات وكيانات مؤيدة أو تابعة لإسرائيل. وذلك بدوره يؤثر على القرار السياسيّ والإجراءات الأمنية المرافقة لدعم ذلك القرار؛ ألا وهو تأييد إسرائيل سياسياً، وفي الوقت ذاته هناك شريحة واسعة ترفض ذلك التأييد وكثيراً ما يؤدي هذا إلى انقسام اجتماعيّ يرفض سياسة إسرائيل بحقّ الفلسطينيين.

وفي محاولة لفهم تخوف السلطات القبرصيّة على مصالح إسرائيل في الجزيرة، لا بد من النظر إلى التغلغل الإسرائيلي في السوق القبرصيّة عبر الشراكات الاقتصادية، سواء في تجارة العقارات أو وجودها كشريك مساهِم في علامات تجارية كثيرة، وهذا بدوره يجعلنا نتلمس الاضطراب الأمنيّ الذي اندلع في المدن القبرصية مع تصاعد وتيرة الأحداث في غزة بعد السابع من أكتوبر 2023.

هناك رغبة مباشرة لدى الحكومة في كم أفواه الرافضين لسلوك إسرائيل ضد الفلسطينيين، وهذا ما سمعته كثيراً من قبارصة وعرب يعملون في شركات على أرض قبرص، وقد يكون فيها نفوذ إسرائيلي عادةً ما يتم ضبطه بالتجاهل وعدم التماس المباشر حفاظاً على المصالح المشتركة التي تفرضها قوة الأمر الواقع وقوانين الشركات والعمالة.

رجوعاً إلى ذلك “الاحتفال”، حصل حادث توقيف لمراهق سوريّ، تصادف تجواله في لارنكا القديمة، على مقربة من المركز الإسرائيليّ ذاك، حيث طلبت الشرطة القبرصيّة من المراهق بطاقة إقامته، ثم حقّقت معه عن سبب تواجده قرب ذلك المركز وقد تم اقتياده إلى مخفر الشرطة.

بعد بضع ساعات أُفرج عن الصبيّ، وتم سؤاله ما إذا كان يعرف أي أشخاص يدعمون “حماس” أو يؤيدونها، كان هناك تخوف من وجود “خلايا نائمة” حسب الإعلام القبرصيّ. وكانت صحيفة “كاثيميريني” المحلية قد وصفت الإجراءات الأمنيّة التي قامت بها السلطات بأنّها “غير مسبوقة ومشدّدة للغاية”. ويتفهّم المرء مدى حرص هذه الجزيرة على مصالحها، ولكن ما الذي سيقوم به مراهق أعزل يمشي في الطريق دون معرفته ربما بوجود شيء يرتبط بكنيس يهوديّ أو إسرائيليّ؟

إنّ المجتمع القبرصيّ بطبيعته البسيطة، ميّال إلى السّلام والترحيب بالضيوف وحتّى مشاركة ودعم اللاجئين، بالحياة والعمل، وهذا ما شهدتُ عليه خلال تجربتي طيلة السنوات الثماني التي عشتها في قبرص، تعلّمت اللغة اليونانية، مارست معظم طقوسي الاجتماعية من لقاءات وحراك ثقافي وصحافي، عملتُ في شركات قبرصيّة وعربية وكان احتكاكي اليوميّ مع القبارصة يتطوّر ويكبر دون خوف، ولكن ليس بعد الآن!

لقد كان احتكاكاً، أيضاً، مع جنسيات أخرى بحكم تنوع الوافدين إلى الجزيرة خلال العامين الأخيرين، كان للجميع مكان وفرص للحياة وفق القانون، مساحة “آمنة” يعبّر فيها كلّ واحدٍ عن نفسه، انتمائه، طقوسه وأفكاره التي لا تضرّ بمصالح البلد المستضيف، وهذا ما ندركه ونقدّره جميعاً، كجالية تتكلّم العربيّة، وكمقيمين من بلدان مختلفة، إلاّ أن التوتر الذي يُحدثه مثلاً “الإسرائيلي” في المجتمع أينما وجد وهو يحمل تلك “المظلوميّة”، يترك في النفس خيبة لا تُحتمل من عدم وضوح المشكلة لدى السلطات القبرصيّة، ومدى تفهمها لعمق المسألة التاريخيّ مع المنبت الفكريّ والعقائديّ الجاهز الذي يحمله ذلك الشخص عنيّ كسوريّ.

إنّهم ينتبهون لك حين تتكلم بالعربية عبر الهاتف أو مع عربيّ آخر. فالقبرصيّ يحبّ ثقافتنا كسوريين، يتذكرون الجولات التي كانوا يقومون به أثناء رحلتهم إلى دمشق لشراء الستائر الشهيرة من أسواقها، وتذوق الطعام والمشي في حاراتها التاريخيّة، إنّهم يعدونها مكاناً زاخراً بالحضارات والثقافة، حسب ما أجمع معظم من عرفتهم. بينما أنتبه للإسرائيلي، الزبون، الذي يقرأ اسمي على قميص العمل فيختار شخصاً آخرَ ليطلب منه خدمة داخل الشركة، لا أدري ما الذي يخيفهم إلى هذا الحدّ طالما كانوا يزعمون أنهم على حقّ (!).

تعاني الحرّية اليوم في قبرص منذ بداية أحداث غزة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، من مأزق إنسانيّ في تفسيرها الظاهري ضمن المجتمع، فكيف لها أن تكون رمزاً للكرامة وعزة النفس لدى البعض إذا كانت تحرس بيوتهم ومصالحهم البنادق وسيارات الشرطة من أجل احتفال ما؟ وكيف لها أن ترفرف في الشوارع مع أكثرية تنتمي للضحايا وترفض القتل وتمشي في لارنكا القديمة وهي تمثل مراهقاً هرب من الحرب في سورية، هرب ليجد نفسه أمام تفضيلات غريبة بسبب فئة مكشوفة عبر التاريخ تعد نفسها مصطفاة دائماً وفوق الضحايا؟

كيف لا يعود إليّ الشعور بالخوف من لاجدوى اللجوء، إذا كانت السلطات التي منحتني بموجب اتفاقيات دولية، حمايّة إنسانيّة، لأعيش في هذا البلد سوف توقفني إذا مررت في شارع أعده قبرصيّاً ويحق لي المشي فيه بموجب تلك الحماية، وما شأني إذا كان ثمة وكر قد يأوي من يحمل أفكاراً وانتماءات تُفضل استحقاق الموت لبشر دوناً عن غيرهم؟

لقد رفضتُ القتل منذ كنت في سورية، ولا أعد لغة العنف والترهيب إلا قمعاً مركباً مع أشياء أخرى كالأسباب الأمنية المفاجئة والتخوّف الافتراضيّ من ردّات أفعال الجاليات الضيفة في هذا البلد، إنه عنفٌ بطقم رسميّ مهما تمّ تجميله بـ “مظلوميّة” مُفتعلة.

لم تسلم المجتمعات التي أخلت بمسؤوليتها عن أفرادها ودفعت بهم إلى هوة الشتات، من مبضع النقد والتفكيك، وليس ذلك في سبيل إهانتها لمكوناتها الأساسية: الفرد. إنما لأنها لم تكن يوماً مجتمعات صحيّة، أي تتقبّل أمراضها وتعد العلاج نابع بالدرجة الأولى من الفرد نفسه، وليس مستورداً من مجتمعات طارئة، خارجية، وهذا ما يحدث عادة إذا كانت تلك المجتمعات نفسها حريصة على وجودها وتحترم حرية أفرادها وتتمسك بهم. وفي الحالة القبرصيّة ثمّة مجتمع يضطرب من اختلاط الحقوق الاجتماعيّة بسلطة المصالح السياسية. والمكونات المتعددة من جنسيات أخرى، في هذا المجتمع، أصبحت فاعلة بقوة كأيادٍ عاملة، أصحابها قد يقبلون بظروف غير إنسانية في سبيل اعتراف المجتمع بوجودهم، لا بدفعهم إلى شتات جديد.

إن العلّة في الفصام القائم بين الشارع والسلطة وبين المجتمع الأهلي والإدارات الحكومية، ومع مقارنة بسيطة نجد أن القبرصي بجميع الأحوال يستاء من سلوك حكومته، يعترض، لا يقبل إلّا بالوظائف المناسبة له، يرفض القرارات الرسمية، ويسخر من رئيس الجمهورية، ويضمن دستور بلاده حريته. بينما اللاجئون والعرب وبقية الجنسيات، يعانون من عدميّة الحرية وسقوطها في تفضيل الضحايا، إذ كثيراً ما يعوّل هؤلاء العابرون على كفاف عيشهم بمعزل عن قول كلمة واحدة ضد الحكومة، فالردّ جاهز: ترحيل، حرمان أو تعطيل في أوراق الإقامة! وكيف بهم الحال إذا كانت هذه الحكومة اليوم تعتقد مسبقاً أنهم مشاريع متّهمين بسبب النيّات السياسية التي تزيد في تمزيق هذا المجتمع الجديد، الشريك، من أهل البلد والجاليات الضيفة، يستوقفون هذا السوريّ ويفتشون في بيت ذاك الفلسطينيّ، ولا أحد يعلم بالضبط عن ماذا يبحثون لدى أشخاص هربوا من الموت إلى ما يعتقدون أنه محاولة حياة جديدة أو ربّما واقع جديد لموت تدرجيّ أقلّ قسوةً!

(كاتب سوري يعيش في قبرص)

حول الحياة اليومية للسوريين في مدينة حمص

حول الحياة اليومية للسوريين في مدينة حمص

 صباحاً شوارع حمص معتمة وغارقة بالضباب.

ما زال الوقت مبكراً لتزدحم الطرقات بالناس والدخان والروائح التي تحاصر الأوكسجين في المدينة وتطرده فرائحة الحطب ومنذ الصباح تنسل إلى الجو وتغمر الأحياء.

 تحولت المدافئ بشكل جماعي من حرق المازوت إلى حرق الخشب وكل ما يخطر بالبال، الكرتون والأحذية والورق والثياب القديمة، يحرقون كل ما يمكنهم وكل ما يتيح لهم قليلاً من الدفء فهناك الحطب، النايلون والبلاستيك، الشحاطات وأغلفة الكتب والدفاتر وغيرها من البقايا والأشياء التالفة  وقطع الأبواب المحطمة لتصبح الرائحة واخزة ومنفرة بعد احتراق الدهان. في المساء يكون الوضع أسوأ حين يشتد البرد ولن تستطيع التمييز في الشارع بين الروائح المختلطة المقبولة منها والمقززة.

حطب بأنواع كثيرة، ولكل نوع سعره الخاص، الجذور والسيقان والأغصان. هناك من يشتري الحطب بالكيلو الواحد الذي لن يكفي المدفأة سوى ساعة أو اكثر. كما صار عادياً أن ترى باعة الحطب دون أن تسأل من أين؟

وفرت مدافئ الحطب استهلاك الغاز الذي لا تنتهي أزماته  فسيدات البيوت يطبخن عليها والعائلات غالباً ما تقوم بتسخين مياه الحمام عليها لعدم توفر المازوت والكهرباء.

 في الشتاء مع البرد والمطر تبدو الحياة أصعب إذ لا تنفصل معاناة تأمين الدفء عن ظروف المعاناة المستمرة على طول الفصول مع جنون الأسعار اليومي لكل المواد والتي لا تتناسب مع موارد الإنسان الذي ينحت يومياته بأظافره في قلب الصخر.

 تقول إحدى السيدات: ”اختصرنا عدد الوجبات وفي كثير من الأيام نكتفي بالحواضر دون طبخ  بينما اللحوم صارت من الماضي، وكثير من السلع والمواد الغذائية كالفواكه وغيرها“.

يبحث الناس عن وسائل لتأمين وتحسين العيش فلا يمكن الاعتماد على الراتب ولجأ الكثير منهم لاستبدال البيوت ببيعها وشراء أصغر منها أو تغيير المنطقة إلى مناطق الضواحي للاحتفاظ بوفر مالي لفتح مشروع صغير لهذا سترى أن المحلات التجارية تتكاثر ولكنها جميعا تحت ضغط التضخم وتغير الأسعار غير المأمون. بالمقابل ارتفع إيجار البيوت بشكل لا يوصف .

البعض باع وسائل استثمار وفشل بتحسين الوضع إذ باغته ارتفاع الأسعار المفاجئ وحرمه القدرة على تحسين الوضع كما حدث في السيارات.

الاعتماد على المؤونة التي تعد جزءاً من طقوس مجتمعنا للتعامل مع تغيرات الفصول تراجع أمام صعوبة توفيرها في موسمها بسبب الغلاء وعدم توفر ظروف الاحتفاظ بها كانقطاع الكهرباء

يقول أحدهم: ”أعمل 14 ساعة يومياً، وهذا لا يكفي. انقطعت السلات الغذائية والمعونات ولا يمكن أن نتجاوز الشهر بـ 350 ألف ليرة فقط هي أجري الشهري. يساعدنا بذلك أن  الأولاد ما زالوا صغاراً. في حالات المرض نلجأ للدين الذي نحاول جاهدين الابتعاد عنه لعدم إمكانية رده، لكن لا بد منه في المرض حيث يشكل الدواء عبئاً ثقيلاً بعد أن قفزت أسعاره قفزات لا نستوعبها. الكثير من الناس لا يذهبون للطبيب في حالات المرض العادي كالكريب والرشح ويقاومون بالأعشاب فقط وهناك من يحتمل أكثر من هذه الأمراض“.

تشكل المواصلات عبئاً آخر إذ تلتهم الكثير من الراتب الشهري، وأما التعليم الجامعي فأسعار النوتات صار أيضاً يحتاج إلى دخل إضافي.

 تقول احدى السيدات وهي أم لتوأم: “أما القهر فهو كيف ستمنح طفلاً في الابتدائية مصروفه اليومي وسعر البسكويتة الواحدة لا يقل عن 2000 ليرة؟”

يتردد البعض باستلام المازوت حين يتوفر بعد غلاء سعره. في العام الماضي كثير من الأسر لم تستلمه فالحطب يبقى أرخص رغم رائحته وما يسببه من أمراض. في الطريق إلى خارج المدينة كل يوم، وحين نصل  أول جسر نرى الغابة الصغيرة  وقد  نقصت شجرة، الشجرة التي تبتعد عن الطريق العام قليلاً، التي كانت تنمو دوماً خجولة لا تلفت النظر، وكل يوم سندرك أن  الأشجار التي تسند خصر الجسر تنقص فرداً جديداً. إلا أن بقايا الجذوع بقيت قائمة فوق التراب كشواهد قبور ومبعثرة كأنها جنود سقطوا في معركة.

  ستنتبه فوراً لهذا النقص، فالأشياء التي تكمل المشهد لا نثمن وجودها إلا حين نفتقدها إذ تترك نقصاً ما في مشهد ألفته العيون وسيترك غيابه عيباً ندركه بسرعة. ثم ستنسى ذلك حين تختفي الغابة كليا، كأنها لم تكن يوما. وعلى طول الطريق ستجد أن الأشجار نقصت بطريقة مواربة كأن من قطعها ترك بعضها ليخفي ما غاب ولا أعرف ما المعيار في اختياره.

 هذا العام لاحظ الجميع أن الأعياد لم تترافق بزينة كثيرة. شكلت حرب غزة جزءاً مهما في ذلك،  لكن السبب الرئيس هو أن الجزء الأكبر من الناس بدأ بتقليص النفقات  دون تردد. ويطوف في ذاكرتي ذاك اليوم الذي يبدو الآن  بعيداً جداً حين قررنا الحصول على شجرة طبيعية لعيد الميلاد ليفرح الأطفال بها وبتزيينها. كان من الصعب الحصول عليها فالثلج قد تساقط وكان ذلك غير قانونيا، اكتفينا بغصن جميل، أحضرناه فبدا كغابة مزينة في منزلنا. أتذكر تلك اللحظة التي عشناها بسعادة بالغة و رفاهية روحية. لم تعد الأشجار تدخل إلى المنازل كغابة فرح  أو زينة للأيام التي نتوخاها في العيد، بل تدخل ميتة ومحطمة، كهذه الأيام والسنوات، ولتحترق رغم أنها لا زالت تشكل  ثروة لأملٍ بالدفء.

٤

أتذكر الآن  ما قرأته في رواية عداء الطائرة الورقية لخالد الحسيني حين يعود البطل إلى افغانستان ويجد مدينته قاحلة بلا شجرة واحدة مستغرباً ذلك، ليكتشف ان السكان قد اقتلعوا كل الأشجار للتدفئة، احترقت الأشجار ليتدفأ البشر لكنها بقيت مقيمة في ذاكرة الكاتب .

بعد سنوات طويلة من الحرب ومن معاناة البشر لا يعود بالإمكان النظر للشجر المقطوع بشاعرية  فالمهم الإنسان، المهم أن هناك أطفالاً وعوائل تتدفأ فهناك حرفياً عوائل لن تستطيع حتى شراء الحطب.

 ارتفعت أسعار زيت الزيتون بشكل صارخ وصار معتادا أن ترى من يشتري الزيت بما يكفي لطبخة واحدة أو وجبة واحدة، إلى جانب التضخم هناك هبوط الكميات بسبب الحرائق التي نالت الأشجار في مناطق كثيرة. ستشاهد من يشتري مقدار كأس الشاي زيتاً حتى أنه لا يكفي لإتمام الطبخة، الزيت الذي قد يكون عند بعض العائلات وجبة وحيدة مع الملح فيغمس الأولاد الخبز به  لعدم توفر الحواضر للعشاء.

  حين احترقت أشجار قريتنا كان الرماد يغطي الأرض، المعنى الحقيقي  لعبارة عن بكرة أبيها. رغم ذلك نجت  شجرات متفرقة على السفح كانت تبدو وحدها وسط الرماد مثل طفل مذنب، يخونها الانتصاب، وتكاد الريح التي تبعثر رماد أخوتها، تنيخها للأرض.

 قد تحمل النجاة عبء جرم الشهادة، وقد تصبح النجاة ذنباً ممضاً كجرح  لا يشفى إلا بعودة الحياة  للبقية.

أينما التقيت بالناس سترى كيف بات التوتر سمة عامة. تقول ف .ر:” كل شيء نطبق عليه التقنين إلا التوتر والعصبية والغضب الدائم، الصوت العالي صار طبيعياً، ونبرة الاستفزاز والهدوء عملة نادرة تسرب العنف إلى الأطفال نتيجة ما يعانونه ويرونه من الأهل. فالجو الأسري دوماً مشحون وتتعقد الأمور أكثر بغياب الأب الذي يعمل ساعات طويلة. وكذلك  في البيوت التي تسكنها عدة عائلات نتيجة التهجير وريثما يتمكنون من العودة لبيوتهم مما يحرم أي أسرة خصوصيتها وحميميتها وقدرتها على التفاهم “.

سيرى المراقب أن النساء اللواتي يمارسن رياضة المشي يتجهن إلى أطراف الأحياء  لجمع النباتات البرية التي ستكون وجبة شهية بدون ثمن كالخبيزة أو الهندباء، وهناك نساء يحصلن عليها من الحدائق العامة بلا تردد.

تقول م.ر إن راتب زوجها لا يكفي حتماً فتلجأ للعمل في البساتين القريبة كقطاف ورق العنب أو عناقيده أو زهور القبار قبل أن تتفتح . وهو ما انتشر  في القرى بشكل كبير والضواحي: جمع زهور القبار لصالح التجار حيث يباع بالكيلو لتصديره للخارج. أعمال موسمية مجهدة ومتعبة لا بد من ذلك للاستمرار وأي عمل سيكون مساعداً فهناك الكثير من العائلات ليس لديها أحد في الخارج ليرسل حوالات تعينها على الظروف.

لم يعد أحد يفكر بالتوفير فكل ما يحصل عليه هو قوت يومه والسؤال الكبير كيف تدبر الأسرة أمورها في هذه الأيام ستكون الإجابة عليه من الصعوبة بمكان، لأن الوضع يفوق التخيل.  

غزَّة بين البعل ويهوه

غزَّة بين البعل ويهوه

لا يمكن أن تُختزل القضيّة الفلسطينيّة في أيّ تيار أو حزب سياسيّ، سواء أكان علمانيّاً أم دينيّاً، لأنها قضيّة إنسانيّة تُعبِّر عن معاناة شعب يُستأصل من جذوره التاريخيّة؛ ولذلك ينبغي أن نفهم تاريخيّاً، تمثيلاً لا حصراً، أنَّ منظمة التحرير الفلسطينيّة وحركة حماس ليستا إلا تعبيراً عن تجليّات مقاومة الشعب الفلسطينيّ لاحتلال أرضه. وبناءً على هذا الفهم ينبغي الاعتراف بأنَّ لكلِّ فرد من أفراد الشعب الفلسطينيّ موقفاً سياسيّاً دفعه إلى أن ينتمي إلى هذا الحزب أو ذاك، وليس مقبولاً قراءة خلاف الأحزاب الفلسطينيّة مع بعضها بعضاً للتنافس على الزعامة السياسيّة للشعب الفلسطينيّ بوصفه خلافاً تصنيفيّاً، أي يؤدي إلى قبول حزب أو اتجاه من جهة مقاومته للاحتلال الإسرائيليّ وعدم قبول حزب آخر. ذلك أنَّ اعتراف الدول الغربيّة بمنظمة التحرير الفلسطينيّة بصفتها الممثّل الوحيد للشعب الفلسطينيّ هو في حقيقته اعتراف ساذج لا يدل على وعي سياسيّ حقيقيّ بالتكوين السوسيولوجيّ للمجتمع الفلسطينيّ في مسار تطوّره التاريخيّ. إذ كيف يسمح الساسة الغربيون لأنفسهم، مثلاً، بأن يقبلوا الأحزاب اليهوديّة المتطرّفة على تعدّدها وأن ينظروا في الوقت نفسه إلى حركة حماس بصفتها تنظيماً متطرّفاً، علماً أنَّ حركة حماس استقطبت خيرة أبناء الشعب الفلسطينيّ، وهذا يعني أنَّ إيديولوجيا حماس الدينيّة-السياسيّة هي إيديولوجيا مقبولة بالنسبة إلى شريحة مهمة من أبناء الشعب الفلسطينيّ؛ بل يوجد لهذه الشريحة مؤيدون -ويمكن أن يكونوا دولاً أو جماعات أو أفراداً- في أنحاء العالم كافةً.

 إذن، تنظيم حماس يؤلِّف حضوراً جغرافيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً لا يمكن حذفه من الوجود، ولن تجدي فتيلاً محاولات الساسة الغربيين وصف حركة حماس بأنها حركة إرهابيّة، لأنَّ في داخل أبناء الشعب الفلسطينيّ من أتباع حركة حماس شعوراً حاسماً ونهائيّاً بأنَّهم يحاربون الإسرائيليين، لأنهم قاموا باحتلال أرضهم، وفي رأيهم لم تسهم القوى الغربيّة في هذا الخصوص إلا في تأصيل وتبرير وتسويغ هذا الاحتلال، بل إنَّ هؤلاء الساسة الغربيين أنفسهم يحاكمون حماس على تهمة أو نقيصة وهي أنَّ حماس وفقاً لتصنيفهم تُعَدُّ حركة دينيّة متطرّفة تمارس أعمال عنف ضدّ المستوطنين الإسرائيليين المدنيين، على نحو ينسجم مع فهم زعماء حماس للعقيدة الإسلاميّة فهماً متشدّداً.

لكن لماذا لم يكترث الساسة الغربيون أنفسهم بأنَّ وجود دولة إسرائيل ينهض على مزاعم توراتيّة بأنَّ فلسطين هي الأرض الموعودة أو أرض الميعاد، وهذا ما دفع اليهود إلى الهجرة من مختلف أنحاء العالم إلى الهجرة نحو أرض الميعاد، أرض إسرائيل، فنكتشف مشهداً كوميديّاً إلى أقصى حدّ إذ اجتمع أُناس من أعراق متباعدة لا يوجد أنثربولوجيّاً أي جذر مشترك بينها تحت اسم شعب الله المختار.

قد جاء في سفر التثنية (2:14)ما يجيب عن سؤال: ما الذي يميّز شعب إسرائيل عن بقيّة شعوب العالم؟ “لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًّا فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْض.”

الحقيقة أنَّ كلَّ يهوديّ متديِّن موجود الآن على أرض ميعاده يشعر في أعماقه بأنّه قد اختاره الربُّ إلهُهُ ليكون فوق مستوى الناس كافةً من غير اليهود، ولا شك في أنَّ هذه الفكرة المرعبة يوجد فيها من التطرّف ما يقل وجوده في تاريخ النّوع الإنسانيّ. والغريب في الأمر أنَّ الساسة الغربيين في أوروبا وأمريكا يدعمون هذه الفكرة إلى أقصى حدّ، ويكرّسونها في عقل كلّ يهوديّ مقيم على أرض فلسطين، وبذلك تحوّلت الحضارة الغربيّة العلمانيّة في أوروبا وأمريكا إلى نار لقِدْرِ شعب الله المختار الذي يُطبخُ فيه أطفال غزة الأبرياء.

لقد استطاع الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه بعبقريّة فائقة أن يشخّص هذه المفارقة الحضاريّة التي تُحيّر عقل كلّ مَنْ يُفكِّر فيها، ويمكن أن أُجَلِّيها في هذا السؤال: كيف يمكن أن تتحوّل الحضارة الغربيّة التي هي جوهريّاً في فلسفتها وعلمها نقيض إسرائيل التوراتيّة إلى خادمة مطيعة لشعب الله المختار؟

لقد قارن نيتشه بين الرومان واليهود، والرومان في رأيه هم التعبير الأعمق عن الحضارة العربيّة، أما اليهود فهم التعبير الأعمق عن الشعب الكهنوتيّ.

يقول نيتشه: “كان الرومان هم الأقوياء النبلاء. وبلغوا من القوّة مبلغاً لم يصل إليه حتى الآن أحد على وجه الأرض، ولو في الحلم. كلّ أثر من آثار سيطرتهم، وصولاً إلى أدنى كتابة من كتاباتهم، مدعاة للنشوة والافتتان، شرط ان يتمكّن المرء من معرفة أيّة يد كانت وراء هذا الأثر. أما اليهود فبالعكس. لقد كانوا ذلك الشعب الكهنوتيّ الحقود بلا منازع. كانوا شعباً يملك في ميدان الأخلاق الشعبيّة عبقريّة لا مثيل لها… أيُّ الشعبين أحرز النصر مؤقتاً، روما أم ياهودا؟ لا مجال للشك في الجواب. بل حريّ أن يتفكّر المرء في المسألة التالية: أمام مَنْ ينحني الناس في روما نفسها، انحناءهم أمام القِوام الذي تتقوّم به جميع القيم العليا-وليس في روما وحدها، بل في نصف الكرة الأرضيّة، في كلّ مكان أصبح فيه الإنسان مدجّناً أو يكاد. إنهم ينحنون أمام…اليهود”. (نيتشه، أصل الأخلاق وفصلها، ترجمة: حسن قبيسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1981، ص47).

ينبغي ألا يُفهم كلام نيتشه الذي مات عام 1900  من جهة معاداة الساميّة من أجل تصنيفه ثم رفضه، فنيتشه كان ثورة فكريّة هائلة وفي جميع الاتّجاهات، غير أنَّ اللافت في كلام نيتشه وفقاً لمقاصده هو أنَّ روح الحضارة الرومانيّة الغربيّة التي كان مذهبها الفلسفيّ هو الرواقيّة التي أسّسها زينون الفينيقيّ تتناقض تناقضاً تامّاً مع الروح العبرانيّة؛ لكن أباطرة روما الذين كان منهم الإمبراطور الرواقيّ ماركوس أوريليوس انعطفوا في ما بعد بسبب الإمبراطور قسطنطين إلى حظيرة “الخراف الضالة من بني إسرائيل”!

 وها هو الغرب الآن تحديداً الغرب الأمريكيّ ينعطف عن إنجازاته العظيمة كلّها باتّجاه نوع من التطرّف يدعم إسرائيل في كلّ ما تفعله في غزّة بذريعة تطرّف حركة حماس؛ وهذه التهمة أغمضت عيون الساسة الغربيين عن جنود شعب الله المختار وهم يهدمون بيوت الفلسطينيين فوق رؤوسهم، ويقتلون الأطفال والنساء والشيوخ، ولا يقبلون من فلسطينيي غزَّة أي دفاع عن أنفسهم في وجه الحصار والقتل والهدم والحرق؛ ولذلك لم تعد معايير السياسة الأمريكيّة صالحة لإدارة الأزمات السياسيّة في العالم؛ لأنَّ “السُّعار التكنولوجيّ العسكريّ الرهيب”، على حدّ تعبير الفيلسوف الألماني هيدغر، دفع الساسة الأمريكيين إلى نوع من الجنون السياسيّ الذي يهمِّش الإنسانيّة لصالح ضرب من العِرقيّة الدينيّة، فكيف يمكن أن يقوم البيت الأبيض بتعزيز وجود شعب الله المختار في أرض ميعاده المزعومة، أي كيف يمكن له يدعم فكرة توراتيّة متطرّفة، ويرفض رفضاً قاطعاً أن يُدافع الفلسطينيون عن أنفسهم من مُنطلق دينيّ كما هو الحال مع حركة حماس.

 ولكن وإن كانت فكرة شعب الله المختار مقنعة للساسة الغربيين وفي مقدمتهم الأمريكيين من جهة اعترافهم بحق تاريخي لليهود في فلسطين فماذا سيفعلون إن كان وجود اليهود في فلسطين مجرد وجود كتابي نصي لا تؤيده أي اكتشافات آثارية أو أركيولوجية هنا سينتقلون من دون أي شك لتبرير وجودهم بذرائع إنسانية ويتناسون أن اليهود بنوا وجودهم في فلسطين على كذبة كبرى. يوجد فشل ذريع الآن عند علماء الآثار الإسرائيليين إذ لم يقدروا على إثبات وجود أي دلائل تشير إلى وجود اليهود في فلسطين بما ينسجم مع مقولات التوراة حتى أن مزاعم اليهود التوراتية أصبحت الآن بين العلماء المتخصصين مجرد أساطير.

وقد يبهرنا الفيلسوف الكنعاني أو الفينيقي فرفوريوس المتوفى في بدايات القرن الثالث للميلاد عندما نعرف أنه دعا الناس إلى التوقف عن الانخداع بأساطير اليهود. وفي غزة نفسها بخان يونس منذ أمد قريب أعلن عن اكتشاف تمثال حجري يرجع تاريخه إلى 2500 عام قبل الميلاد يمثل عناة إلهة الحب عند الكنعانيين وكأن التاريخ يريد أن يقول لأبناء غزة وجودكم حقيقي ووجود الإسرائيليين مختلق. وهنا يظهر التطرف الحقيقي للغرب الذي يهمل وقائع التاريخ ويتبع الأساطير.

لم يدمر أبناء غزة تمثال عناة، بل قبلوه بصفته جزءاً من تاريخهم وحافظوا عليه. وقد تكون روح الحضارة الغربية أقرب إلى عناة من يهوه. غير أن ما لم يفكر فيه الغربيون هو أنه رغم ضياع بلاد كنعان وحلول إسرائيل محلها فقد يصرخ تمثال عناة في يوم قادم لنداء البعل ليستعيد أرضه السليبة.