الأمومة واقع جديد واحتفالات مشتتة

الأمومة واقع جديد واحتفالات مشتتة

 تغيرت الصورة، يبدو المشهد العام مشوشاً، والأمهات يقفن على أعتاب القهر بصمت شديد، باتت الأمومة مخلباً يجرح القلوب ويوقظ ذاكرة القلب الموجوع بالغياب، فينساب التعب ملوثاً بشوق عصي على الاستجابة.

طالما كان عيد الأم مناسبة لهدية مميزة، ضخمة وغالية الثمن، ولطالما سعى الأبناء والبنات وبمشاركة الزوج أحياناً لشراء هدية جماعية وإن سعى البعض لشراء الذهب حسب مقدرتهم. لكن الغالبية توافقت فيما يشبه العرف على شراء هدية منزلية مثل طقم من القدور أو غسالة أو مجموعة كبيرة من الصحون وأدوات المطبخ.

تلعب الصورة النمطية لأدوار النساء الاجتماعية دوراً بالغاً في تضمين عيد الأم لمعنى وشكل الهدية، هي هدية تبعية متضمنة حكماً للقالب الاجتماعي التوصيفي لمهام النساء، كالطبخ والتموين وإعداد الولائم في المناسبات العائلية والغسيل وسواه من أدوار الرعاية المنزلية. المؤسف أن الهدايا رحلت مع البيوت وبقي الدور الوظيفي للنساء كما هو بفارق بسيط لكنه مؤلم وهو تشتت شمل العائلة. رحلت البيوت بهداياها وما ابتلعته الحرب أكمل عليه الزلزال، وما تبقى من البشر بعد قضم الحجر ابتلعته الهجرات.

تحتفل الأمهات اليوم بأعيادهن على شاشات الهواتف الجوالة، يستقبلن أحفادهن الذين ولدوا بعيداً جداً وخارج أسوار البلد العصي على استقبالهم على شاشات الهواتف الجوالة أيضاً. أعراس الأبناء والبنات، نجاحاتهم واحتفالات تخرجهم، رحلاتهم، مواعديهم العاطفية، وحتى لقاءات الأخوة والأخوات ببعضهم في بلدانهم الجديدة المختلفة تتابعها الأمهات عبر الشاشات الموصوفة بالذكاء والغارقة في الهجران والقسوة والاغتراب.

يتعامل الأبناء مع المستجدات اليومية بعين حذرة، يعرفون كل ما يحدث في بلدهم، أخطاء طبية بالجملة، فقدان الدواء، عجز الأمهات الجلي والواضح عن تأمين احتياجاتهن اليومية بسبب الغلاء أولاً وبسبب تردي أنواع الخدمات المقدمة وغياب أهمها كالكهرباء والماء والمواصلات.

قررت سمر أنها ستهدي أمها في يوم عيدها دعوة إلى الغداء تجتمع فيه مع شقيقاتها. يعتقد الأبناء والبنات أن تلك الدعوة هي هدية مميزة وغير تقليدية وتسعد الأمهات، لكن الأمهات لا يفكرن بالدعوات ولا يرغبن بها، يردن لقاء حقيقياً، احتضاناً شغوفاً واقعياً يمتزج فيه الجسد بالجسد وتحدق العيون بالعيون وتسمع الآذان صوت الأنفاس وصدى العواطف، باتت جملة: (المهم أنتم بخير) كذبة كبيرة ملت الأمهات من ترديدها وملّ الأبناء والبنات من سماعها.

بالأمس حصلت مرام على قسيمة تموينية بقيمة مائتي ألف ليرة كهدية مسبقة لعيد الأم من شقيقها المقيم في ألمانيا، لم تفرح بها لأنها لا تغني عن جوع تعانيه مرام مع طفلها الوحيد، تسكن في منطقة بعيدة جداً عن مركز المدينة، والمواصلات متقطعة، ما اضطرها لمغادرة بيتها في الثامنة صباحاً لتتمكن من الوصول والعودة قبل العتمة وقبل توقف المواصلات بسبب البعد وشح المازوت، اصطحبت معها طفلها، وفي مركز استلام مواد القسيمة، أعلنت لطفلها أنه حر في اختيار كل ما يشتهيه، تركت له حرية اختيار المواد التي تغطيها القسيمة، وكأنها تمنحه تعويضاً عن قسوة الحياة والحرمان الذي يعيشه. حدثٌ سيقول الجميع بأنه خاطئ ومفرط في عاطفيته وسذاجته، لكنه محاولة بائسة لإسعاد طفل محروم من الأب ومن السند العائلي ومن الأساسيات الضرورية للعيش ولتنشئة طفل ضئيل الحجم وبلا مدرسة أو رعاية وفاقد للاحتياجات الأساسية.

ثمة عنف جديد يحاصر الأمهات، في مراكز الإيواء التي ضمت الأمهات وأطفالهن الهاربين من الزلزال بعد فقدان المنازل أو تصدعها، تحولت الأمهات إلى مشاجب تحمل أخطاء أبنائها في بيئة محصورة وضيقة وخانقة. تم تأطير النساء هنا وخاصة الأمهات بأطر تقييمية قاسية يفرضها الأقوى والمتحكم بالمكان. ارتبطت كل الأخطاء بالأمهات حكماً، من بكى ابنها فهو طفل لم تضبط أمه مشاعره ولم تقوّم سلوكه كما ينبغي كي تحوز على رضى المجتمع، ومن بكت من الأمهات وصفت بأنها امرأة عاطفية وضعيفة وهشة وغير جديرة بأن تكون أماً مسؤولة عن حماية وتربية أبنائها وبناتها. ومن سرق طفلها قطعة من البسكويت أو تفاحة أو ضرب طفلاً آخر وصفت الأم بأنها هي من علمته أو دفعته للسرقة أو للاعتداء على طفل آخر.

ثمة واقع جديد تفرضه تفاصيل العيش غير الآدمية التي يعيشها الأبناء والأمهات معاً. في الحافلة الصغيرة تجلس أم وابنتها التي ولدت طفلاً مريضاً ويخضع الآن للعلاج في المنفسة، بدلاً من تهدئة الابنة تعبر الوالدة عن فرحتها بأنهم وجدوا جمعية تتبنى علاج الطفل لعجزهم عن علاجه. تقول الأم لابنتها: “الحفاضات من نوع ليبرو، وهي الحفاضات الأغلى ثمناً بين أنواع الحفاضات لجودتها.” في بلد تلجأ فيه الأمهات إلى استعمال الحفاضات التي تباع فرطاً وبالقطعة ومن النخب الثالث وربما الخامس وهي غير معقمة أصلاً والمطاط المحيط بها قاس ويسبب الحساسية لبشرة الأطفال الرقيقة.

تُعبر البنت عن قلقها بدموع محبوسة، لكن الأم تمنعها من البكاء بذريعة أن ذلك يوازي التشكيك بعدم نجاة الطفل، هكذا إذن تحرم الأمهات حتى من التعبير عن القلق على أطفالهن بغطاء من قيم تقليدية تشكك بالدعاء أو بالإرادة الغيبية المهيمنة.

والأمهات الوحيدات كيف يحتفين بيومهن؟ باتت كل الاحتفالات مكروهة، مناسبة لتذكر ماض لم يكن وردياً لكنه أفضل من أحوالهن اليوم. واقع بلا أي ضمان ولا أمل أو ثقة بأنهن سيبقين محميات أو سالمات أو أنهن سيمتن بحضور الأبناء والبنات والأحبة. تعبر أمل صراحة عن سعادتها الغامرة بسفر أولادها، تغص بدموع الشوق، لكنها تتابع قائلة: “أنا عاجزة حتى عن إعداد قالب كاتو منزلي، لا غاز ولا كهرباء ولا قدرة  مادية على شراء مكوناته، سأحتفل بنفسي وحيدة كي أضمن بقائي متمكنة من شراء حاجاتي الأساسية.” وتضيف: “العيد مجرد ذكرى ومشاعر داخلية عليها ألا تهدر مقتنياتي الشحيحة.”

 تغدو الأمومة بحد ذاتها إطاراً قاسياً ومجهداً للنساء، يُفرض على البعض ولادات جديدة رغم أن لهن عدداً كافياً من الأبناء أو البنات، وتحرم أخريات منه لأنهن زوجات لرجال متزوجين، تزوجن وقبلن زواجاً عرفياً أو سرياً طلباً للمأوى أو للدخل وربما فقط للحماية من استبداد أفراد العائلة والأقارب أو من المتحرشين والمستغلين والمتحكمين بالموارد وحتى بلقمة الطعام.

يتحول الأبناء فجأة إلى حوامل للضغط على الأمهات والنساء، تضطر النساء وخاصة الأمهات لاستنزاف طاقتهن وعواطفهن وقدراتهن الجسدية والنفسية لحماية الأبناء والبنات. تصير الأمومة مصدراً للقهر والخوف والتعب، تغدو الأمومة كما الحياة عملاً شاقاً في إطار عام غير إنساني وعنيف ينحدر بسرعة نحو الدرك الأسفل، درك مضيع للحقوق وهادر لمقومات العيش اللائق بالأمهات وبالأبناء وبالجميع. تتحول الاحتفالات مهما تغيرت لتلبية الاحتياجات الكبيرة والمتجددة، إلى مناسبات للبكاء وتأكيد الفقدان وتثبيت العجز، عجز شامل ومتمكن وهادر للقوة ولأمل.

في مواجهة الزلزال: كارثة سوريا الكبرى وجهود تطوعية جبارة 

في مواجهة الزلزال: كارثة سوريا الكبرى وجهود تطوعية جبارة 

لا يدري المرء ماذا يكتب عما حلّ بسوريا فجر السادس من شباط الجاري وتالياً، بدا الأمر كمزحة سمجة في ثوانيه الأربعين الأولى، فجأة اهتزت مدن بأكملها، أبنية، منازل، حجارة، أشجار، والكثير من الأرواح.

أرواحٌ كانت حتى الأمس القريب تتحمل شظف العيش وتكابده قهراً لتذلّه قبل أن يذلّها بلقمة عيش صار الحصول عليها صعباً، مريراً، أليماً، كليماً. فصار السائر من منزله إلى الخارج بغية الحصول على مالٍ يعينه ليسد رمق أسرته كمن يسير في حقل من الأشواك البرية، حتى حقّ في السوريين جمعاً هذه المرة، ما قاله الشاعر السوداني إدريس الجماع يوماً: “إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه، ثم قالوا لحفاةٍ يومَ ريح اجمعوه.”

 وما أكثر أيام الريح على الخارطة السورية، ما أكثرها وما أعنفها وما أعتاها، ولكن من كان يتوقع أن تتآمر الطبيعة عليهم أخيراً، بعد اثني عشر عاماً من القصف والدماء والدمار، من كان يتوقع أنّ الأسوأ لم يأت بعد؟.

جاء الأسوأ حقاً حين توقفت عقارب ساعة حياة آلاف الضحايا عند الرابعة وسبع عشرة دقيقة فجر السادس من شباط، من إدلب المكلومة، إلى حلب الحزينة، فاللاذقية الجريحة، وابنتها جبلة الثكلى، إلى طرطوس وحماه.

لأول مرّة في الحرب السورية يجد السوريّ حدثاً أكبر من تحزباته السياسية جعل الجميع في الموت سواسية، وأي ميتة؟، تلك الميتة التي يسمع قبلها استغاثات ضحاياها من تحت الركام.

جاءت المأساة لتقول إنّ الإنسانية حين تنبري لتدافع عن جراحها تكون أقوى من ألف منطق أوجدته الحرب وعززته وكرسته، أصوات تعالت من إدلب تسأل عن حال ضحايا الداخل السوري، وأصوات أخرى من الداخل السوري كسرت حاجز الفراق وسألت عن إخوانهم في إدلب.

بيد أنّ التضامن كان ناقصاً، فأرقام الوزارات المعنية في سوريا أشارت لعدد ضحايا الداخل فقط، وأرقام المعنيين في إدلب أشارت لضحايا الشمال السوري فقط، فبئس أيام صارت فيها سوريا داخلاً وخارجاً، قاتلاً ومقتولاً، كارهاً ومكروهاً.

الناس لبعضها

ليس من السهل الحديث عما جرى، هي أيام عصيبة على السوريين، أيام قاهرة مسكونة بآلام كبيرة، 300 ألف شخص خرجوا من منازلهم في حلب واللاذقية وجبلة وحماه، 300 ألف شخص فتحت لهم الشوارع صدرها رحباً تحت سماء معاندة شاءت أن ترسل غيومها أمطاراً وثلوجاً لتزيد معاناتهم.

ولكن السوريين رفضوا مبيت إخوانهم في العراء، فهبّوا على قلب رجل واحد يتداعون لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض، لإطعام المنكوبين، لتدفئتهم، لإيوائهم، من درعا إلى الحسكة، مروراً بكل محافظات البلاد.

ليس على سبيل المبالغة القول إنّ عشرات الحملات الأهلية تم تنظيمها بجهود ومبادرات فردية وجماعية من المجتمع المدني الذي أثبت نفسه كفاعل حقيقي قادر على القيام بمهامه وإن كانت تطوعية.

حملات من كل المدن جمعت ما تيسر من أدوية وطعام وأغطية وخيم وخلافه وتوجهت بها إلى المناطق المنكوبة، وفرق أخرى قوامها ممرضون وأطباء وصحيون، وفرق ساهمت ولا زالت برفع الأنقاض، كل ذلك إلى جانب عمل الهلال الأحمر السوري وبقية المنظمات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية والتي يدعمها جميعها استنفار واسع للقوات العسكرية.

إلى جانب كل ذلك استمر سيل الدعم الذي وصل ويصل تباعاً من دول عربية وغير عربية للمرة الأولى منذ بدء الحرب في سوريا، في خطوات وصفها ناشطون بـ”كسر الحصار”، ليتزامن هذا الـ “كسر” مع وسم تداوله الناشطون بكثرة يدعو لرفع العقوبات الغربية عن سوريا لتسهيل وصول المواد الأولية اللازمة للإغاثة. وعلى حد وصفهم تركيا حصلت على أضعاف ما حصلت عليه سوريا من مساعدات، رغم أنّ سوريا بطبيعة الحال تعيش حالة نكبة مستمرة منذ أكثر من عقد، حالة أدت لتخلخل ودمار البنية التحتية.

وكان قد نشر هيثم مناع الناشط والحقوقي، الرئيس السابق لهيئة التنسيق المعارضة في الخارج، بياناً من جمعيات ومنظمات مدنية وحقوقية عددها 47 طالبت جميعها برفع الحصار والعقوبات عن سوريا، وجاء في البيان: “نطالب برفع العقوبات فوراً عن سوريا والسماح بإمدادها بجميع المواد وبالوصول إليها من أجل أن لا تتحول هذه العقوبات إلى جريمة ضد الإنسانية، وتسهيل عبور قوافل المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة عبر المعابر الحدودية مع سورية، إضافة إلى السماح بجمع التبرعات المادية والعينية وإيصالها للمناطق المتضررة.”

أين المساعدات؟

اعتباراً من اليوم الثالث لما بعد الكارثة بدأت ترتفع أصوات كثيرة تسأل عن المساعدات، وهل هي فعلاً وصلت لمستحقيها؟، وإن كانت وصلت فعلام أُسر كثيرة لا زالت في الطرقات بلا مأوى أو بدون غذاء وأغطية.

وفي هذا السياق فقد انتشرت قصة “مختار قرية اسطامو” المنكوبة في ريف اللاذقية، والذي اتهم من قبل عشرات الأشخاص بسطوه على المعونات التي وصلت إلى القرية، مطالبين بمحاسبته على الفور بذريعة استغلال النكبة.

ورد المختار على الاتهامات بالقول: “استلمت من رئيس بلدية قمين ٥٠ حصة غذائية مؤلفة من معلبات اضافة الى ٥٠ بطانية و١٠ وسائد، و٣٠ حصة تفاح مغلفة، و٨ كراتين إندومي، و١٠ كراتين أقراص عجوة، و١٣ شرحة خيار وبندورة”. 

وأضاف “بحسب التعليمات فإن المساعدات مخصصة للمتضررين الذين خرجوا من منازلهم، وذوي الضحايا، لكن ما حدث هو أن الجميع كان يريد المساعدات وهذا أمر خارج عن إرادتي ولا أملك سوى تنفيذ التعليمات”.

تدخل عمرو سالم (وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك) على خط هذه القضية سريعاً مبيناً وجود مختارين في المنطقة، وكلاهما وزع تلك المعونات لأقاربهما فعلاً (غير متضررين)، مؤكداً أنّه تم حل المشكلة وإيصال المساعدات إلى مستحقيها.

قد تبدو قضية المختار ثانوية في حدث كهذا، ولكن فعلاً بدأ القلق يساور السوريين عن مصير المساعدات، خاصة أنّ الكميات التي جمعت داخلياً وخارجياً، تكفي على حد تعبيرهم- لإيواء كل متضرر بشكل تام، وقد يبدو هذا حقيقياً من حجم القوافل الداخلية والطائرات التي وصلت من الخارج.

وفي هذا الإطار يقول الصحفي بلال سليطين: “أنا أثق بـ ٩٩ بالمئة من العاملين على الأرض من جمعيات ومتطوعين في سوريا لمواجهة أضرار الزلزال ومساعدة الناس، ومن ليس له ثقة بهؤلاء هذا حقه لكن إذا كان حقاً يريد المساعدة يمكنه أن يثق بعائلته ويقدم المساعدات عن طريق أهله لكي يسلموها مباشرة للمحتاجين”.

ويشير سليطين لوجود أخطاء إلا أنّ معظمها ناتجة عن سوء التنظيم وقلة الخبرة: “لكن حجم العمل الإنساني والتعاضد واندفاع الجمعيات والمتطوعين بكبرو القلب”.

وتصف المهندسة لمياء أحمد من اللاذقية الوضع بالمأساوي والحزين وغير المقبول، وفي ذات الوقت تتهم معظم الجهات بالتقاعس.

وتشرح: “اسمحوا لي عبركم أن أوصل هذه الرسالة، ليس فقط حول إيصال المساعدات، ولكن عن الذين يلهثون لأخذها، نعم أفهم ظروف الناس الصعبة ولكن هذا ليس وقتاً مناسباً لنقاسم المنكوبين رغيف خبزهم، أقسم أنّه ثمة العشرات يصطفون على الدور ليأخذوا معونة وهم أصلاً غير متضررين أو منكوبين”.

تتابع أحمد حول مشاهداتها مؤكدةً أنّه ثمة أسر لغاية نهاية اليوم الثالث ما بعد الكارثة تنام على الأرض دون مأوى أو اهتمام، منوهةً في الوقت ذاته لضرورة الانتباه من الأفراد أو الجمعيات التي ستستغل هذا الحدث لتسوق لنفسها.

بدوره يرفض المحامي مفيد نصرة من جبلة ما ساقته المهندسة أحمد، معتبراً أنّ مدناً بأكملها منكوبة ولا يمكن استثناء أحد من حالة الجوع القائمة، وخاصةً أنّ الزلزال عززها إذ عطل الحياة والمهن واليوميات بشكل شبه تام، يقول: “المنازل التي لم تسقط على الأقل تصدعت وحال الكثير منها خطر ولجان الهندسة في حالة شبه عدم استجابة”.

ويبين نصرة أنّ لديه أخاً يعمل مياوماً وبسبب هذا الظرف هو لا يملك مالاً لإطعام أطفاله: “هذه نكبة شاملة أصابت كل العوائل رغم نسبية الأمر أحياناً”.

وفي الأثناء تداول سوريون على نطاق واسع قائمة تضم أسماء شيوخ خمسة جوامع معنية باستضافة المنكوبين متهمين إياهم بسرقة المعونات وإساءة معاملة الناس وعدم تأمين شروط تليق باستضافتهم. لم يتسن لكاتب التقرير التحقق من هذه المعلومة، التي انتشرت متزامنة مع عشرات المعلومات والبيانات والتنويهات والمنشورات التي تتهم أشخاصاً بعينهم أو بما يمثلونه من سلطة بالتقصير وسرقة المعونات.

وبحسب المحامي أحمد معروف من حلب فإنّ سرقة المعونات تندرج تحت مسمى سرقة خلال النوائب، فهي سرقة عقوبتها مشددة، حسب المادة 627 من قانون العقوبات. وقد تصل العقوبة حتى 15 سنة حبس. 

وفي هذا الإطار يتضح اتجاهان: الأول هو الدور “الجبّار” وغير المسبوق للمجتمع المدني، والثاني هو بعض ضعاف النفوس الذين استغلوا الكارثة، وعموماً هذا ليس غريباً في بلد أفرز من أمراء الحرب ما أفرزه خلال السنوات العجاف الماضية.

في الأسباب

قلّة الخبرة وضعف التنسيق أفضيا لحالة من الفوضى الشاملة في التعامل مع الحدث، وبافتراض النيّة الحسنة لجميع العاملين، إلّا أنّ هذين العاملين أديا لتشتيت الجهود باتجاهات عدة، جعلت عائلات بأسرها حتى الساعة تنتظر معونةً أو إيواءً.

وعلى الرغم من أن المئات أعلنوا فتح بيوتهم لاستقبال المنكوبين، إلّا أنّ الفوضى عينها هي ما حكمت الأمر، فقلّة أفادت قلّة، على اعتبار أنّ المعونة لم تصل بالضرورة إلى الأكثر حاجةً.

يبقى أنّ سوريا المدمّرة، المهدمة، كبُرت اليوم بأولادها، أولادها الغلابة الذين قدموا كل ما يستطيعون من تبرعات نجدةً لإخوتهم، وقد تكون الحالة الأكثر لفتاً هي تلك التي تبرعت لـ “مشروع أحمد الإنساني،” وهو مشروع طبي ناشط خلال الأزمة السورية وتطوع في عمليات الطبابة إثر الزلزال، فبحسب منشور لهم على صفحتهم الرسمية في فيس بوك، جاء إليهم رجل وتبرع بـ “جاكيت” وحيد يملكه وكان يرتديه.

روسيا و “الاستفراد”بجنوب سوريا

روسيا و “الاستفراد”بجنوب سوريا

تحاول روسيا مؤخراً فرض نفسها ووجودها أكثر في مناطق الجنوب السوري خاصة في درعا والقنيطرة، من خلال استمرار الدوريات العسكرية الروسية وزيارات وفود روسية إلى درعا، ودخولها على خط تقديم الخدمات والمساعدات للقطاعات المدنية في المحافظة.
كما زار المحافظة مؤخراً عدة شخصيات روسية رسمية وغير رسمية منهم نائب رئيس مركز المصالحة الروسية الضابط كوليت فاديم والمنسقة بين وزارتي التربية السورية والروسية سفيتلانا روديفينا، ومسؤولين في جمعيات خيرية روسية، وأكد نائب رئيس مركز المصالحة الروسي خلال زيارته إلى محافظة درعا مؤخراً عبر وسائل إعلام محسوبة على دمشق، أن روسيا مستمرة في دعم سوريا ومحافظة درعا على وجه الخصوص.

نشيد… وعلم
وافتتح الجانب الروسي في درعا يوم الخميس 18 تشرين الثاني (نوفمبر) مركزاً لتعليم اللغة الروسية في مدرسة إسماعيل ابو نبوت في مدينة درعا المحطة، بحضور شخصيات حكومية رسمية سورية من درعا مثل قائد الشرطة ومدير التربية ونائب المحافظ، وحضر الافتتاح الجنرال الروسي كوليت فاديم وسفيتلانا روديفينا المنسقة بين وزارتي التربية السورية والروسية وقوات من الشرطة العسكرية الروسية.
حيث ابتدأ الحفل برفع النشيد السوري ثم الروسي، وتخلل افتتاح المركز فقرات فنية وشعرية باللغة الروسية، وعرض مجموعة من رسومات الطلاب تعبر عن التآخي بين الشعبين السوري والروسي، وقدمت نسخة من القرآن الكريم مترجمة باللغة الروسية، ثم ألقى الضابط الروسي كلمة تعبر عن استمرار الدعم الروسي للمركز الذي سوف يشمل عددا كبيراً من الراغبين في تعلم اللغة الروسية، وسيتم دعم المركز بالتجهيزات الحاسوبية والمراجع الأدبية لتعلم اللغة الروسية. واعتبرت اكسانا غنيم أن تعلم اللغة الروسية مسألة مهمة لتعميق العلاقات الثقافية والتاريخية بين الشعبين مبينة أن المركز سيوفر المكان المناسب لممارسة الهوايات في مجال الشعر والفنون والرسم.
كما قدم الجانب الروسي مؤخراً إلى المستشفى الوطني فى مدينة درعا السورية شحنة مساعدات طبية وغذائية روسية، أرسلتها إدارة شؤون الرئيس الروسي، تضم فرشات وبطانيات وأغطية وبعض اللوازم الطبية وأدوات التعقيم ومولد كهربائي بطاقة ألف كيلوواط، لضمان استمرار عمل المستشفى والمعدات فيه، لا سيما مع الضغط الكبير الذي تشهده المشفى مع تزايد حالات الإصابة بفايروس كورونا في درعا.
كما أرسل الجانب الروسي مولدا كهربائيا للمستشفى الوطني في مدينة إزرع شمال درعا، وحضرت الشرطة الروسية برفقة بعثة من الكنيسة الروسية ورابطة المحاربين القدماء وجمعية الإخوة الروسية إلى مدينة بصرى الشام بريف درعا الشرقي، وقدمت مساعدات إنسانية ومستلزمات مدرسية للمجمع التربوي في المدينة تضمنت قرطاسية وحقائب ومعاطف لعدد من طلاب المدارس، إضافة إلى أنها قدمت أدوية وبعض المستلزمات الطبية لمشفى بصرى الشام، واطلعت على واقع المشفى في المدينة.
من جهته، أكد المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، ضمن فعاليات أعمال المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين والمهاجرين السوريين، أن «روسيا ستواصل تقديم المساعدة للشعب السوري بهدف تحسين الوضع الاقتصادي والإنساني، وهناك الكثير من العمل الدؤوب في هذا المجال مستقبلاً». وذلك بحضور ممثلين عن منظمة الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر والمنظمات الإنسانية. التي نشطت مؤخراً في درعا وخاصة في مجال الخدمات الإنسانية كترميم المدارس المدمرة خلال السنوات الماضية، وبناء مرافق صحية واقامة مشاريع زراعية كحفر الآبار وغيرها.

انفراد روسي
وفسر ناشطون في درعا ذلك بالرغبة الروسية بالانفراد بادراه المنطقة الجنوبية خاصة درعا بعد طرحها للتسويات الأخيرة، وسحب السلاح الخفيف والمتوسط من المنطقة، واعطاء صلاحيات أمنية جديدة للقوات الحكومية بملاحقة المطلوبين والرافضين للتسوية في المنطقة الجنوبية، وانهاء حالة التشكيلات والمجموعات العسكرية المسجلة لدى الأجهزة الأمنية أو الفرقة الرابعة أو الفيلق الخامس وتوحيد تبعيتها مؤخراً لإدارة المخابرات العسكرية، وتشكيل قوة عسكرية كبيرة وذات تبعية واحدة موالية لها في جنوب سوريا، تبعد أي منافسين لها في المنطقة.
ويرى مراقبون أن روسيا وإيران لا تتنافسان جنوب سوريا، وان “التعاون موجود في سوريا وحتى روسيا استخدمته مؤخراً في مشاركة قوات موالية لإيران في معارك درعا البلد قبل تطبيق التسويات الأخيرة، وهي نفسها من طلبت بانسحابها عند انتهاء مهمتها، فالتعاون بين الدول الحليفة لسوريا قائم ولكن روسيا تعارض إيران عند مصالحها في سوريا، وباعتبارات إقليمية وتعهدات روسية عام ٢٠١٨، بإبعاد ايران عن المنطقة الجنوبية، دفعت روسيا إلى ابراز سيطرة النظام الفعلية وايجاد قوة عسكرية لها في المنطقة وحكمتها مؤخراً بتبعية عسكرية واحدة تناسب النظام وتحت إدارتها وتناسب أبناء المنطقة الجنوبية الذين يفضلون البقاء في المنطقة وعدم المشاركة بأعمال عسكرية خارج المحافظة”.
فعلياً وبشكل علني لا تواجد لتشكيلات أو قوات عسكرية موالية لإيران و “حزب الله” في درعا، وإيران وحزب الله متواجدة في سوريا حتى قبل عام ٢٠١١، والظهور العسكري العلني هو ما أثار المخاوف من هيمنتها على المناطق السورية، وبقي جنوب سوريا المنطقة الأكثر حساسية بنسبة للدول الإقليمية والخليجية باعتباره بوابه سوريا الجنوبية، واستحسنت الدول فرضية سيطرة النظام على الجنوب السوري مقابل عدة تفاهمات أجرتها روسيا مع دول المنطقة قبيل السيطرة عليها عام ٢٠١٨ وكان أولها إبعاد إيران عن المنطقة، فتحاول روسيا اخذ ضمانات أكثر لسوريا أو تطبيع أكثر وإعادة قبول النظام السوري، مقابل استخدام ورقة إبعاد إيران عن المنطقة، وبالتالي إيران ووكلائها في المنطقة طالما اعتبروا سوريا صلة الوصل سابقاً مع العالم العربي، والتفاهمات أو المفاوضات الإيرانية العربية والعالمية الأخيرة تقرب المسافة من رغبات إيران بعدم دخولها بحرب ولو بالوكالة، ولن تعارض أن تكون سوريا نقطة لقاء جديدة بينها وبين الوسط العربي الذي يرغب بإبعاد إيران عن جنوب سوريا.
ولأن روسيا تشكل ثقلاً سياسياً وأمنياً وعسكرياً بالنسبة لسوريا، أن روسيا هي الدولة الوحيدة القادرة على ضبط الأمور السورية وإيقاف تسرب الممنوعات البشرية أو الاصطناعية حيث إن هناك القاعدة وداعش، هذا بالإضافة إلى قوات أجنبية كثيرة، والمخدرات والحشيشة، وقد تثق الجهات الدولية بروسيا أكثر بالحفاظ وضبط الحدود وهذا ما يرجح الكف الروسي جنوب سوريا على القوى الثانية في سوريا.

دمشقيون عراة أمام الألبسة المستعملة

دمشقيون عراة أمام الألبسة المستعملة

مع أول قطرة مطر هطلت في شوارع دمشق، بدأ الناس، كما كل شتاء، يستجمعون ذكرياتهم، عن مرويات صنعوها وعايشوها عن شتاء كان يوماً دافئاً. أيامٌ كانت تكتنز الكثير من النعمة لكل شيء فيها حتى بأبسط الأشياء. وأبسط الأشياء هنا، هو معطف محشو بالفرو الذي كان يقيهم برودة الطقس والأسى، ذلك ان السوري بات اليوم عارياً أمام يومياته المثقلة بالهموم.
لم يعد أحد يهتم بتلك الذكريات، مع الغلاء المبالغ به في أسعار الملابس الشتوية التي ترتفع أكثر فأكثر كل موسم. وكل موسم هنا تعني ما كتب للسوري أن يحياه موسماً بعد موسم ليشهد على الفقر المتنامي ينهش جسده وجسد أقرانه.
“أريد فقط أن أشعر بالدفء منذ ساعات الصباح الأولى للذهاب إلى عملي حتى الانتهاء والعودة إلى المنزل”، هذا ما قالته لنا هبة راجح (موظفة حكومية – 29 عاماً) عندما التقيتها في سوق البالة الشهير وسط دمشق والمعروف بـ “سوق الإطفائية”، وهو سوق البالة الأكبر في سورية، على مقربة من حي الحجاز الدمشقي. تضيف: “جئت إلى هنا لأشتري معطفا يدفئني في الأجواء المطرية والحرارة المنخفضة، لكني فوجئت بالارتفاع الكبير في الأسعار بعدما كانت تناسب الكثير من الزبائن مثلي في هذا السوق”.
تنظر في المعروضات، وتقول: “أنا موظفة في مؤسسة حكومية”، وتسأل: “كيف لي أن أدفع ثمن معطف يساوي راتبي الشهري كاملاً؟ هذا جنون!، وعندما اعترض يواسيني بائعو البالة بالقول هناك أنواع معاطف بجودة أقل وبها عيوب، ربما تلك تكون خياراً لا بأس به”، لكن “الغريب”، في رأيها، أنه حتى ملابس البالة أصبحت لها جودة وتصنيف وميزات وهي أيضا باتت تفرق ما بين الفقير والغني في هذه البلاد.

جولة في السوق
رافق “صالون سوريا” الشابة ميرنا عبد الباقي خلال جولتها في “سوق الإطفائية”. ترى ميرنا المشهد من بعيد: بائع على يمين السوق يصيح على مدخل محله: “الشتوي صار عنا ببلاش”، ويضيف آخر: “شو بدك بالجديد، الي ماله قديم ماله جديد”، تلك صيحات يطلقها البائعون لاستجلاب الزبائن في السوق، والمنافسة الأحد بينهم تتعلق بسعر الملابس الأرخص.
تقترب ميرنا لتسأل عن سعر معطف باللون الأسود الذي يليق على كل ملابسها الشتوية. يجيبها البائع بأنها اختارت أجمل القطع في المحل وأميزها، يضيف: “سعره ثمانون ألف”. وبعد الأخذ والرد ينهيه بخمسة وستين ألفا! (الدولار الاميركي يساوي حوالى ثلاثة الاف ليرة)، ما يدل على ضياع التسعير وكل هنا يعطي للقطعة سعرا على هوائه.
هنا تعلو على وجه ميرنا ابتسامة ساخرة، وتقول: “هذا السعر يعادل راتبي لشهر كامل، كيف لي أن دفع كل ذلك المبلغ؟”.
من مكان إلى آخر تتجول ميرنا بين المحلات للعثور على ضالتها المنشودة. وفي محل آخر لا يكلف البائع نفسه عناء النقاش مع الزبائن لأنه فعل كما كثر في السوق وعلق ورقة السعر على كل قطعة، لعله يرتاح من هم السؤال الذي أصبح على لسان الكثير من الزبائن نظرا لهول ارتفاع الأسعار في سوق البالة، السؤال الأقرب للاستغراب الذي يختصر كل ما في الخاطر من صدمة “أوووف؟”.
لم تطل جولة ميرنا كثيرا بين المحلات بعد أن فقدت الأمل في العثور على معطف مناسب بالجودة والسعر. وبعد عناء البحث عن المعطف الذي لا تجده ميرنا، تعود خالية الوفاض خارجةً من السوق عبر النفق القديم المفضي من وسط السوق إلى منطقة معروفة بمختار القنوات. تقول: “صحيح أنّني لم اشترِ المعطف الذهبي، لكني وضعت إعجابات كثيرة على الأسعار”. وتضيف: “هذه رحلتي إلى هنا وهي ليست الأولى أمضي كل يوم خميس هنا بين الأخذ والرد وفي النهاية أعود خالية اليدين لأنه إذا كان من أمل لو ضئيل أن أشتري شيئا من هنا. فبالتأكيد لا أمل لي أن اشتري شيئا من أسواق دمشق كشارع الحمرا والشعلان”، وعما سوقان شهيران في القسم الحديث من دمشق.

جنون الأسعار
“في الموسم الماضي كان سعر المعطف الشتوي يتراوح ما بين عشرة آلاف إلى عشرين ألف. اليوم أصبح سعره يتراوح ما بين أربعين إلى ثمانين ألف بحسب الجودة والنوعية وفي بعض الأحيان يصل إلى مئة ألف، أما الجينز فكان قبل أشهر يتراوح ما بين ثلاثة ألاف إلى ستة ألاف، وأصبح الأن يباع بأكثر من عشرين ألف، ناهيك عن أسعار ملابس الأطفال التي تباع بمثل أسعار ملابس الكبار، فيما تتجاوز أسعار بعض الأحذية الرياضية المئة ألف”، بحسب سالم حلوم الذي يعمل في مدرساً في احدى المؤسسات الحكومية. وسالم ، على حد وصفه، صار متمرساً ببسطات البالة لكثرة ما يقصدها لشراء ملابسه وملابس أولاده.
“كان سوق البالة الملجأ الوحيد لي ولزوجتي وأطفالي الثلاثة بعد أن هجرنا أسواق الملابس الجديدة منذ زمن، لكن الآن الوضع اختلف، الأسعار صارت جنونية، كيف لنا أن نكتسي كلنا جميعا وفق تلك الأسعار العالية والراتب الزهيد؟، وفوق ذلك مصروف المنزل وفواتير الكهرباء والغاز والماء التي بدأت هي الأخرى بالارتفاع، وإلى متى لا أحد يعلم!.”.

مبررات الجودة والسعر
يقول أحد تجار البالة لـ “صالون سوري”: “الدولار مرتبط بكل شيء حتى بأسعار ملابس البالة التي نشتريها على شكل حزم “صرة ملابس” ندفع ثمنها ابتداء من ألف دولار وصعوداً، بحسب نوعيتها، وتصل إلى سورية عبر التهريب، ما يحملنا مصاريف إضافية عادة ما تكون باهظة، وهو ما يدفعنا لرفع الأسعار، وبالطبع كل حزمة تتفاوت فيها درجة النوعية والجودة، نصنفها بحسب ما نطلق عليه “نظافة القطعة” من ممتازة، إلى جيدة، متوسطة الجودة، متوسط درجة ثانية، درجة ثالثة، سيئة، للبيع بالكيلو، للتنسيق، ولكن اليوم غالبية قطع الحزمة تكون ممزقة أو مثقوبة أو ملوثة وفيها عيوب متنوعة، وهذا ما يجعلنا نستند في ربحنا فقط على البضاعة السليمة”.
الواضح، انه باتت القدرة الشرائية للمواطنين من ذوي الدخل المحدود تكتوي بنار الأسعار، ولا يقتصر ذلك على سعر الملابس المستعملة بل أيضا على معظم الجوانب المعيشية بدءا من الطعام وليس انتهاء بالفواتير المعيشية والخدمية. وبعد أن كان سوق البالة الهدف المناسب لشريحة كبيرة من الناس يبدو أنه اليوم ما عاد يتسع لمعظمهم، ما يطرح السؤال: “ماذا بقي من خيارات للفقراء في هذه البلاد التي يسافر أطباؤها للعمل في الصومال؟”، حسب قول خبير اقتصادي يتابع الوضع المعيشي في دمشق.

المعاهد الخاصة بقعة ضوء تتحدى  مشاكل التعليم شمال سوريا

المعاهد الخاصة بقعة ضوء تتحدى مشاكل التعليم شمال سوريا

أنهى أحمد العمر دوامه في معهد “البيادر” الخاص في مدينة معرة مصرين، لينتقل الآن إلى “المعهد التخصصي” في بلدة كللي شمال ادلب ليدرس مادة الفيزياء والكيمياء لطلاب الثانوية العامة الفرع العلمي.

أحمد كما المئات من الطلاب، اتجهوا للدراسة في المعاهد الخاصة في الشمال السوري بالفترة الأخيرة، نتيجة تدهور العملية التعليمية بسبب ظروف الحرب، إذ تساهم هذه المعاهد برفد التعليم، ويدرّس فيها العديد من الأساتذة المعروفين في مختلف المواد، أغلبهم من النازحين.

منهم المدرس أحمد العمر، الذي نزح من مدينة حلب بسبب استيلاء قوات النظام عليها عام 2016، يقول أحمد :“ بعد أن انقطع الدعم المادي عن التعليم، لم يبق رواتب للمدارس العامة والحكومية بسبب الحرب، فقررت أنا ومجموعة من زملائي المدرسين أن ننشئ معهداً لتعليم المراحل الأساسية كالشهادة الإعدادية والثانوية، واعتمدنا فيها على تأسيس الطالب بالمعلومات الأساسية إضافة لمنهاجه الجديد كي يعوض فترات الانقطاع عن المدرسة ” 

تتوزع هذه المعاهد على كافة المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة،  فبحسب دائرة التربية والتعليم يوجد في إدلب نحو مائتي معهد خاص تم ترخيصها من قبل مديرية التربية، إضافة لخمسة وعشرين معهدا لاتزال قيد الترخيص، و”نظرا لأن هذه المعاهد تحظى بقبول واسع، فقد تم تقديم وتسهيل حصولها على التراخيص المطلوبة من قبل مديرية التربية” بحسب تصريح المديرية.

وبالإضافة لمساعدة الطلاب، ساهمت المعاهد الخاصة بخلق فرص عمل لعشرات المدرسين، يقول المدرس جمال وهو مدرس لمادة الرياضيات من مدينة الدانا أنه تعاقد مع عدة معاهد خاصة بآن واحد، محاولة منه لإيجاد عمل يؤمن من خلاله مصروفاً لعائلته، ويوضح جمال “ان ازدياد أعداد المعاهد الخاصة نابع أساسا من رغبة الأهالي بتعويض الفقد التعليمي لأولادهم، وتحسين ظروفهم التعليمية التي تضررت بسبب الحرب”. 

ولا تقتصر الدراسة في هذه المعاهد على ميسوري الحال، فالبرغم من أن هيا، 16عاما، تقيم مع عائلتها في مخيم للنازحين إلا أن فقر الحال لم يمنع والديها من تسجيلها في المعهد الخاص، فقد باعت أمها ما تملكه من مصاغ لتسديد أقساط المعهد.

وتختلف اقساط التسجيل بين معهد وآخر بحسب عدد الطلاب، وتجهيزات كل معهد والميزات التي يمنحها للطلبة، بحسب مدير معهد التخصصي في بلدة كللي الأستاذ مصعب عربو، وتبلغ رسوم التسجيل لمعهده ب 175 دولاراً لطلاب البكلوريا العلمي و 150دولاراً لطلاب البكلوريا الأدبي و100دولار لطلاب الشهادة الاعدادية.

 ويوضح عربو بأن “هذه الأقساط تستعمل لتغطية أجار المعهد، وكلفة تجهيزه وأجور المدرسين والدعم اللوجستي اللازم للعملية التعليمية”، وتتقاضى المعاهد الخاصة رسوم التسجيل مباشرة لكن معاهد أخرى تقبل بتقسيطها على أشهر الدراسة تسهيلا لدفع الرسوم.

تقول هبه وهي طالبة بكلوريا إن الذي شجعها على التسجيل في معهد كللي الخاص “هو القسط المريح الذي يتوزع على أشهر حيث تدفع 17 دولاراً كل شهر فقط”. 

ويختلف عدد الطلاب بين معهد وآخر بحسب القدرة الإستيعابية للمعهد، وحسب مهارة المدرسين المشرفين عليه، حيث يتفاخر الأستاذ عمر بالعدد الكبير من الطلاب الذين يدرسهم، ويرجع هذا لسمعته الحسنة في مهارته لإيصال المعلومات إلى طلابه بشكل مبسط، ويقول “أقوم بتدريس مادتي الفيزياء والكيمياء لأربع شعب في معهد واحد ناهيك عن المعاهد الأخرى التي أتعاقد معها للتدريس”.  

اضطرت بعض المعاهد إلى النزوح بكوادرها مع الأهالي بعد الهجمة على ريف إدلب الجنوبي، وسيطرة النظام على أجزاء منها، أحمد تعتاع مدير معهد الهدى في كفرنبل يقول :“ بالرغم من أننا نقلنا مقر معهدنا إلى إدلب المدينة إلا أن الإقبال عليه لايزال ممتازا، خاصة وأننا تعاقدنا مع كوادر تدريسية جيدة مما شجع الطلاب على الإقبال للتسجيل”، ويوضح تعتاع أن السبب الرئيسي الذي يقف وراء إقبال الطلاب على هذه المعاهد هو : أسلوبها وطريقتها بالتدريس الذي يختلف عن اسلوب المدارس العامة، حيث تبدأ دوامها قبل العام الدراسي، وتقوم بمراجعة المعلومات السابقة قبل البدء بالمنهاج الجديد، مما يساعد الطالب على فهم واستيعاب المعلومات الجديدة.

كما يجري التعتاع وزملاؤه اختبارات مستمرة، لمراقبة استيعاب الطلاب للدروس قبل نهاية العام الدراسي، ويجري لهم امتحانا رئيسيا مشابها للامتحان العام الوزاري، بهدف إدخال الطلاب لأجواء الامتحان، “ليعرف الطالب مستواه بشكل أفضل مما يدفعه لمضاعفة جهده” بحسب قوله

ولتشجيع الطلاب تقوم إدارات هذه المعاهد بتكريم المتفوقين من الطلاب، فقد تم تكريم 31 طالبا عام 2020، من بين المكرمين طلاب حصلوا على المجموع التام أو نقصتهم درجة واحد في معهد “الهدى” مثل عائشة خطيب، من بلدة كللي وهي تدرس في جامعة إدلب، التي تمكنت بفضل “المعهد التخصصي” من تحقيق حلمها بدخول  كلية الطب البشري.

 

سوء التغذية.. وباء يفتك بأطفال المخيمات السورية

سوء التغذية.. وباء يفتك بأطفال المخيمات السورية

تتأمل مرام حاج موسى (٢٥عاماً) طفلها رائد بحرقة وحزن، فرغم أنه بلغ العامين من عمره إلا أن حجمه ووزنه يوحيان بأن عمره لا يتجاوز ستة أشهر فقط، عيناه غائرتان وجسده نحيل، وبشرته جافة، وهو لا يكف عن البكاء المستمر.

تقول حاج موسى إن طفلها أصيب بمرض سوء التغذية منذ نزوحهم من بلدة تلمنس بريف إدلب الجنوبي بعد العمليات العسكرية التي شنها نظام الأسد على تلك المناطق، وابنها “لا يكاد يتحسن حتى يعود إليه المرض، نتيجة الفقر والأوضاع المعيشية القاسية التي تواجهنا في مخيمات النزوح شمال إدلب” بحسب قولها.

ويشهد الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام زيادة ملحوظة في حالات وأمراض سوء التغذية ومضاعفاتها الإجتماعية والنفسية، وهي تلاحق فئة الأطفال بشكل خاص، نتيجة عدم حصولهم على القدر الكافي من الغذاء اليومي بسبب الفقر والغلاء وتراجع الخدمات الطبية الأساسية.

وتوسعت الظاهرة نتيجة غلاء أسعار الحليب وعدم قدرة الأهالي على تأمينه لأطفالهم، واللجوء لبدائل كالنشاء والأرز المطحون وغيره من الممارسات غير السليمة لتغذية الأطفال والرضع.

بعد محاولات عدة لم ينجح النازح رامي الحلاق (٣٣عاماً) من تأمين حليب الأطفال لطفلته الرضيعة راما البالغة من العمر ثمانية أشهر إذ يقول” عملي متقطع وغير دائم، أبدأ بالعمل في مجال البناء المرهق منذ ساعات الصباح الباكر وحتى نهاية اليوم، مقابل أجر زهيد لا يتجاوز ال٢٥ ليرة تركية في اليوم، وهي لا تكفي لشراء الخبز وبعض الخضار لعائلتي الذين ينتظرون عودتي بما يسد رمقهم، فكيف لي أن أشتري علبة حليب الأطفال المرتفعة الثمن؟ والتي يبلغ سعرها أجر يوم كامل، وهي لا تكفي الطفل أكثر من ثلاثة أيام فقط”.

ويضيف رامي أن أوضاعهم المعيشية داخل المخيم “صعبة جداً ” فالمواد الغذائية لم تصلهم منذ قرابة السنة، فضلاً عن شح مياه الشرب، والبطالة المنتشرة بين رجال المخيم وشبابه، الذين باتوا بمعظمهم يعيشون على ما تقدمه بعض المنظمات الخيرية “التي تمر بالمخيم مرور الكرام” على حد تعبيره.

ويشير رامي إلى أن الدعم” قليل جداً لا يكاد يسد احتياجات عدة عائلات، والخضار والفواكه، كما غدت اللحوم حلماً لمعظم ساكني المخيمات”.

ومرض سوء التغذية هو مصطلح يستخدم للتعبير عن وضع لا يحصل فيه الجسم على كل المواد الغذائية الأساسية التي يحتاجها أو على جزء منها، ليتمكن الجسم من القيام بوظائفه بصورة طبيعية مثل البروتينات والفيتامينات والدهون والمعادن، أو بسبب سوء امتصاص المواد الغذائية الموجودة في الطعام رغم توفر الكمية والعناصر المطلوبة، وتتراوح حدة سوء التغذية بين الطفيفة وبين الحالات الشديدة التي تسبب أضراراً غير قابلة للإصلاح.

وعن سبب إنتشار سوء التغذية في إدلب والشمال السوري المحرر تقول نسرين مناع (٣٢ عاماً) رئيسة شعبة الصحة المجتمعية والتغذية في مديرية الصحة بإدلب “إن لمرض سوء التغذية أسباباً عدة قد تكون ناتجة عن اضطرابات استقلابية أو الآفات العضوية، اضطرابات نفسية، عادات غذائية سيئة، إنتانات مزمنة وخاصة الإنتانات العضوية، أيضاً بعض الأدوية ممكن أن تكون سبب نقص التغذية ومنها المضادات الحيوية والسيتروئيدات لأنها تزيد من حاجة الجسم للمغذيات”.

وتضيف نسرين الأسباب المعيشية “وهي الأهم  كالفقر والنزوح في البلدان التي تشهد حروباً وكوارث كمنطقتنا التي تشهد حرباً شعواء منذ أكثر من عشر سنوات” بحسب قولها.

وعن مدى خطورة المرض توضح أنه يعتبر من أهم أسباب الوفيات عند الأطفال، ويؤثر نقص التغذية على الأداء المعرفي والمدرسي عندهم، وله تأثير سلبي على الصحة الذهنية والنشاط البدني وعدم القدرة على العمل بشكل جيد، وهو يصيب كافة الفئات العمرية وبالأخص الأطفال حديثي الولادة، وقد ينتح عن سوء التغذية أمراض عدة منها الكساح وضعف النمو، ضمور الدماغ، هشاشة العظام، تضخم الغدة الدرقية وفقر الدم.

وعن إجراءات مديرية الصحة في إدلب لاحتواء المرض والحد منه تقول المناع “إن مديرية الصحة تتعاون مع المنظمات الشريكة لتأمين أماكن لمعالجة سوء التغذية، سواء ضمن المراكز الصحية أو بمراكز خاصة بسوء التغذية وتأمين المغذيات والمكملات الغذائية وتعمل على إجراء المسح الدوري لمرض سوء التغذية من خلال فرق الصحة المجتمعية التي تحول الحالات المكتشفة إلى العيادات الخاصة للبدء بعلاجها”.

وقد أحصت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، أكثر من 800 إصابة بمرض سوء التغذية، غالبيتهم يعانون من سوء التغذية الحاد وبحاجة إلى دخول المشفى بشكل سريع، وكل ذلك نتيجة سوء الأوضاع الإنسانية والطبية في المخيمات.

وبحسب منظمة الأمم المتحدة فقد تم تسجيل ٣٤ إصابة من أطفال الشمال الغربي في سوريا بحالات تقزم بسبب سوء التغذية وأن أكثر من ٨٠٪ من سكان المنطقة لا يتقاضون أجور تغطي احتياجاتهم.