أسامة إسبر: ثلاث قصائد

أسامة إسبر: ثلاث قصائد

مدينة بيضاء

 

١

هديرُ محرّكٍ يغتصبُ الصمتَ عند بزوغ الفجر.

تصفّ سيارةٌ في مرآب البناية

ثم تُطفئ محركها فتنطفئُ معه بقايا الليل.

 

٢

أصواتٌ حادةٌ للنوارس

تخرجُ من حنجرة الصباح

وتقطّع الصمتَ إلى شرائح

لا تستطيعُ الآذانُ مَضْغها

وليس لها مترجمون.

 

٣

أسمعُ في الأنباء عن آخرين

 يرتجفون من البرد في الخيام.

صاروا آخرين لأنني لستُ ذاتاً

بل مجرّد صوت هارب من صداه

أو ضيّعتْهُ الحنجرة.

 

٤

يخرج ظلي أحياناً من المجهول ويواكبني

يسير معي كأنه صديقي الوحيد.

حين يأتي مرة ثانية

سأتشبث به وأمنعه من الرحيل

سأدعوه إلى كأس

وأجعله نديمي.

 

٥

نعم، أحاول أن أُنْزلَ الدلو في البئر

رغم أن قاعها بعيد

وظمأي لا صبر له.

لكنني سأنتظر رشفةَ الماء المنقذة

لمجيئكِ في الصباح كي تفتحي النافذة

وتحرّري الضوء

وتمنحيه أفقاً.

 

٦

لا تقدموا لي النصائح حول

 ما الذي يجب فعله.

ستُمْلي الحياة عليّ كما أمْلتْ عليكم

ستمنحني حكمةً كي أرددها

لكنني لن أدوّنها ولن أنصح أحداً بتطبيقها.

 

٧

نعيش في عصر الأوبئة

في عصر الوجوه المكممة

والإنسانية المكممة

والصداقات المكممة

والقصائد والروايات المكممة

والأفكار المكممة

حتى الأشياء مذعورة

وقد يأتي يومٌ

تصير فيه الكمامة وجهاً.

 

٨

أحياناً يبثّ آخرون رسائل تعبّرُ عنهم

يتركون إشارات وعلامات

أننا لم نمرّ هنا

أو أننا مررنا ولم نر شيئاً

أو أننا على الطريق نسير لوحدنا

والمدينة القادمة ستفتح لنا أبوابها

ولن تحتفي إلا بنا.

على هذا الطريق الذي

يسير عليه الجميع

كلٌّ بقدميه أو بقدميْ غيره

أفضّل أن أتابع سيري

وأن أعتبر المسألة

 كنزهة على الشاطئ لتأمّل الغروب.

 

٩

أحتاجُ إلى مسافة مع نفسي

كما مع الآخرين،

كي أتحرّر من إملاءاتها.

ولو تيسّر لي لهربتُ منها

لكنها تتنبه إلى ذلك

وتُحْكمُ مصاريع الأنا.

 

١٠

أحياناً تأتي صورٌ إلى ذهني

من طفولتي في قريتي

للدروب حين تتحوّل إلى جداول

وللحقول حين تكتسي أطرافها بنباتات برية

وللنبع حين يقوى ويشتدّ ماؤه ويفيض

في موسم الأمطار.

ما الذي أحتاج إليه كي تنبع لغتي وتتدفق،

كي تخضرّ صفحاتي كالحقول أو تتفتّح كالأزهار؟

ما الذي أحتاج إليه غير الهواء، وأن أتنفّس

وتكون الأبواب والنوافذ مفتوحة حولي؟

 

١١

حين جَلستُ في مقعد الطائرة

وارتفعتْ ثلاثين ألف ميل فوق المحيط

شعرتُ بوطأة المقعد وضيقه.

لم أفكّر إن كان الأفق سينفتح أو سينغلق

أو بأنني سأخرج من باب المطار

 إلى ذراعين مفتوحتين

أو إلى باب مغلق.

إلى الآن أشعر أنني في المقعد فوق المحيط

أقرأ صحيفة وأواصل رحلتي

ولا مطار في الأفق.

 

١٢

لا تقلْ لي عدْ

لا تقل لي ابْق،

اتركْني، كهذه الريح

التي تهبّ ثم تهدأ

تتحوّل إلى عاصفة

ثم تسكن كجدار

دعْني أتقدم كموجة

وأتلاطم بصخور ذاتي

أو كنبعٍ لا يعرف

 من أين أتى وإلى أين سيذهب.

 

١٣

مرت أعوامٌ وسْط الثلوج

على شاطئ بحيرات

تتجمّد وتذوب منسجمةً مع دورة الفصول.

وفي وسط المدينة،

تحت جسر شيكاغو الحديدي

كان النهر يتجلّد ويتكسّر

ورأيتُ مقالع الجليد

في مجراه والبرد ينقل الألواح على كتفيه ويبني

مدينة بيضاء.

وفي هذه المدينة سميتُ نفسي ابن الثلوج،

 طفلها الذي يكبر في حدائق البياض

ثم يذوب أحياناً من الشوق.

 

١٤

تتعرى الأشجار في شيكاغو

تتوحّد مع لون السماء.

لا تصدّقُ أن خريفاً مرَّ من هنا

لأن الخضرة تتوهّج

في عُرْي الأغصان.

 

صوتي

 

١

اليوم، أدليتُ بصوتي،

بعد أن اكتشفتُ أن لي صوتاً.

 

٢

قبل ذلك كان صوتي طائراً في قفص

قبل ذلك كان صوتي ميكروفوناً محطماً

في مظاهرة فاشلة.

وسبق لي أن رأيته

 يتدلى على حبل مشنقة

حيث تولد الأصوات ميتة

ولا تكفّ مقابرها عن الاتساع.

 

٣

بعد أكثر من خمسين سنة

عشتُها بلا صوت

استيقظتُ كي أكتشف صوتي

 نائماً قربي على المخدة

كحيوان أليف

بعينين مسالمتين

وكانت أصابعي مسترخية في دفء

فروه.

 

٤

اليوم أدليتُ بصوتي

رأيتهُ يستحم بالضوء

وينشّف جسمه بالريح

و يسير بقدمين واثقتين.

 

٥

اليوم

كنتُ محظوظاً ومنكسراً

أنني أدليتُ بصوتي هنا

أنني ندبتُ صوتي هناك

فيما كنت أصافحه

 وهو يغادرني محلّقاً نحو نفسه

بجناحين منتشيين.

 

٦

غداً، حين يصل صوتي في البريد

وتحصيه الأصابع مع أصواتٍ أخرى

سينكمشُ مرتعداً من الخوف،

عارفاً أنه مجرد رقم

في لعبة تجريدية.

لكنه، على الأقل، سيكون سعيداً أنه وُلد

وأنه قادر على قلب الموازين.

 

تثمل الريح

-١-

تَثْمل الريح

أعرفُ ذلك من صوتها

حين يكون مبحوحاً ومتقطعاً

ومن سقوط جسدها الذي يترنّح.

 تلهثُ الريح

كما لو أن دروبها وعرة.

-٢-

في الأحلام

تهب الريح فوق دروب موحشة.

في الخريف

تسرق الريح الثياب الخضراء للأشجار.

-٣-

لا نستطيعُ أن نتمسك بأحلامنا

أو بأوهامنا أو حتى بأجسادنا.

لا نستطيع أن نتمسك بأجساد غيرنا

على طرقات الريح.

-٤-

وحده الجسد

يعرف أن يقرأ الريح.

قصائد متنوعة لعلاء الدين عبد المولى

قصائد متنوعة لعلاء الدين عبد المولى

  1. ثنائيّاتٌ غيرُ منتهية

سأهدأُ حين تمرّين كالعاصفةْ

وأعصفُ عند انسدالِ السّماءِ على كتفيكِ…

وأكتبُ بالماءِ فوق الزجاجِ: أحبّكِ،

ثمّ أرى الماءَ نهراً على الطاولةْ.

سأدفَعُ في النّهرِ جسمَ المساء

ألوّحُ للفجرِ كن دافئاً كشفاهِ حبيبي

إذا احتاجَ هذا النّسيمُ إلى وردةٍ سأدلّ عليكِ

وإنْ ملّ من صوته وترٌ سأدلّ عليكِ كذلكْ.

أنا الآن تحتَ جناحيْكِ مستسلمٌ للرّحيلِ إليكِ

ومهما تغبْ نجمةٌ عن معلّمها ستعودُ إليه…

وأنتِ مجرّةُ دهشةْ

أدورُ بفضلِكِ في أفقٍ يتجدّدُ من ذاتهِ…

هنا عند منعطفِ الحلْمِ أعطفُ قلبي على قدحٍ يتوهّجُ باسمكِ،

لا ليلَ يغفل عن سحرِ اسمكِ…

…حتى النهايةِ سوفَ أهدهدُ من وطأةِ الكيمياءِ

لأنّ الصّباحَ الّذي شقّني قمرينِ؛ أتى منكِ…

…لا بدّ من لغةٍ للنوافذِ حين تودّعُ ضوضاءها

ولا قلبَ يخسرُ أكثرَ ممّا خسرتُ.

ولكنّني أتمشّى على طُرُقاتٍ منَ الكلماتِ الشّريدةِ،

يتبعني ظلّكِ المريميُّ كنذرٍ قديمْ.

أردّدُ بيني وبيني نشيداً عن الخمرةِ السّرْمَديّةِ،

هلْ كنتِ تشتغلينَ إلهةَ كرْمٍ على طَرَف السّفحِ أسفلَ وادي الوجود؟

لأنّكِ أكثرُ من صورةٍ ومجازٍ وأجْملُ منْ استعارةْ

أُبعثرُ قلبي على قدميكِ ولا أتردّدُ أن أنحني لأحسّ علوَّ السّماء.

هي السّاعةُ الآنَ خمرٌ كثيرٌ تمامَ القدحْ

وصوتُ العقاربِ رخُّ المياهِ على النافذةْ.

ستمطرُ فيما يلي من شهورٍ يدايَ

لأنّكِ تحتشدينَ أمامَ الكتابةِ ملتفّةً باللغاتِ القديمةِ والقادمةْ.

علوتُ قليلاً لأن جباليَ يرعى عليها صنوبركِ الخالدُ

علوتُ لأنّكِ واحدتي في رحيلي، ولكن أنا؛ هل أنا واحدُ؟

24/3/2009

  1. لا النّافية للموت!

لا دليلَ على سعةِ الأرضِ إلاّ وجودكِ فيها

والّذي خسرتْه إناثُ القرنفلِ من لمعةِ النّهدِ

أكمَلَه صدركِ البضّ…

لا شاعرٌ قبليَ اختلّ إيقاعُهُ فتوازنَ في شفتيكِ

وأمعنَ في الخطأ النّحويّ ليضبطَ معجمهُ في لسانكِ

ما من دليلٍ على حسنِ شعري

سوى أنّ ظَهركِ أبلى بلاءً رهيفاً

بإعطاءِ سفحِ الخيالِ مجازاً جديداً…

لا دليلَ على أملٍ غير ليلٍ تسلّى

بعدّ النّجومِ على ساعديْكِ…

لا دليلَ على مطلعِ الفجرِ إلاّ اندلاعُ البلابلِ

من كتفيكِ…

لا دليلَ على صحّةِ القلبِ غيرُ اعتلالي بحبّكِ…

لا صوت نبعٍ إذا غابَ ظلّكِ

ما من دليلِ على سهري في الموشّحِ

إلا بقيّةُ أندلسٍ تحتَ عينيّ من أثرِ العنبِ

لا دليلَ على الذّهبِ

غير فركِ يدينا لأيقونةِ النّارِ ما بيننا

لتسيلَ على جانبينا خواتمَ من لهبِ

لا دليلَ على فضّةِ الحلْمِ غيرُ شروعِ القمرْ

بالولادةِ فوقَ سريركِ هذا المطرّزِ بالسّحبِ

لا دليلَ على أنّني مشبعٌ بالحنينِ سوى أنّني

أثقبُ النّايَ ثقباً جديداً

وينزفَ فيكِ مزيجاً من الانتظارْ

لا دليلَ عليّ سواكِ

أؤجّلُ تشييعَ كلّ الورودِ

إلى أن يجفّ الحليبُ

وينقطعَ العطرُ من نسلهِ

ويغادرَ قلبي محطّاته دون أي قطارْ

لا دليلَ على أنّني قد أموتُ بحبّكِ

غير انتهاءِ الحوارْ.

17/5/2009

  1. بعض من شبق الحياة

ولديّ من شبق الحياةِ فيوضُ مجنونٍ يجنُّ

ويكرهُ الأنقاض والأطلال والقصفَ الدّنيءَ

على كؤوس الماء أو أقداح خمر العارفينْ

وأحبّ ” زوربا ” في صعودِ بروقهِ الزّرقاء في أقمار موسيقى تنيرُ كوامنَ العشّاقِ وهو يدقّ أرضَ الرّوحِ يوقظُ كلّ جنّيّاتِ شهوته يرقّصهنّ حول القمح قربَ الجمر حولَ عواصفِ الفرحِ المبينْ

وأحبّ ” داليدا ” التي هزمت كثيراً لسعةَ الأفعى وظلّت تنشرُ الكلماتِ بين سطوحِ مصرَ كأنّها فلاّحةٌ مصريَّةٌ من عهدِ “يوسفَ” وهو يقلبُ في الكنانةِ قبرها يُحْيي عظامَ الحالمينْ

وأحبُّ رقصتها المشعَّةَ بالزهورِ

وبحّةَ الأعماق في روحٍ تعذّبها وتسحقُ حلمها الطّاغي

إلى أن أمهلتها الريح ثانيةً

فقالت لن أكون سوى مرايا للحنينْ

وأحبُّ أفلامَ البحار

وعالم الحيوان

أسئلةَ الصخور على الجبال

أحبُّ تحليق الطّيورِ مع الصباحِ

أحبُّ أشجار الأكاسيا في هضاب الّنورِ

أسماءَ البنفسج في الأغاني

وأحبُّ كَـوْنيَ عاشقاً متأخّراً لأطاردَ الغزلانَ في أبد الزّمانِ

وأحبّ أنّي عالمٌ تالٍ لأوّله القديمِ

وأنّني وشمُ الوجودِ على المكانِ

وأحبّ أنّي لفظةٌ خضراءُ في السّهلِ المعدِّ لمهرجانِ القطنِ في أرض الشآمِ

وأنّني في ذاتِ يومٍ سوف أدخلُ روحَ مولاي الحصانِ.

6 تشرين أول 2012

  1. ينابيع

تأخّرت البنتُ على النبع.

حين أفاقتْ، وجدتْـه قربها في السرير

 

جلس الشاعر قرب النبع،

فلم يميّـز الآخرون بينهما

 

البنت التي ذهبت تعبّىء جرّتها من النّبع،

أخطأت، فنسيت الجـرّةَ ممتلئةً، وحملت النبع على كتفها.

 

الجميع يغسل يديه بماء النيع:

من تلطّخت يداه بالدماء، ومن تضمّختْ يداه برحيق النهدين

 

والنّبع في نزوله من عليائه،

يسقي في طريقه حـتّى الأعشابَ الضّـارة!

 

مع أن النبع واقف في مكانه ثابتاً،

لكنه لا يتقدم إلاّ إلى الأمام…

 

  • ما قصتك مع النبع؟
  • منذ عرفتُكِ أصبحتُ خبيراً بعلم الينابيع.
  1. كابوس

أفاق الكابوسُ عليَّ

كنت أركبُ حبالاً مائيّةً

أدلي رجليَّ في الفراغ

أدحرجُ عن أصابعي نجوماً حجريَّةً

ربما هبطتْ من سنديانةٍ على بابِ الكهف المجاور

العصافيرُ لم تهربْ منّي مع أنّ شكلي غيرُ معروفِ الانتماء

رأسي صورةٌ عن أبي الهول إلاَّ قليلاً

صدري مغارةٌ صغيرةٌ تخرجُ منها الأعاصيرُ

يدايَ سؤالان ساقطانِ في اللاَّجدوى

قدمايَ سروتانِ متأهّبتان للشّجارِ مع الهواء

وحتى الآن لا أعرفُ لماذا أصرَّت الفراشةُ أن تتحوّلَ إلى تمثالِ شمعٍ يفتحُ فمَه ويبدأ بابتلاعي

ولا أدري أينَ كنتُ الآن لوْ لمْ يستفقِ الكابوسُ عليَّ

19 آب 2011

  1. يا جدّتي … إنها حرب

عمّـا قليلٍ سوف أسحبُ جثَّتي من شارع الذكرى لأستعصي على النّسيان

أنقرُ حبّةَ القمح الأخيرة في جِـرابِ الجدّة الأولى

أقبّلُ رأسها لتطيلَ في سردِ الحكايةْ

وأقول: لطفاً جـدَّتي لا تأخذيني للنهايةْ

سأضيعُ مثل قطيع خـرفانٍ على دربِ الذئابْ

إنْ لمْ تضيفي للكلامِ رقائقَ الحلوى

بنكهةِ نجمةٍ عذراء…

ماذا يفعلُ الأيتامُ في هذا الفراغِ سوى مواصلةِ الحنينِ

إلى أبٍ عيناهُ تلتهمانِ مائدةَ الضبابْ؟

يا جـدّتي … هي جـثّتي مستهلكةْ

لكنّها قد تُـصْلحُ الميزانَ عندَ المعركةْ.

11 نيسان 2012

  1. يومُ الأموات
  2. في يومِ الأمواتِ وقفتُ أمام السّاحرة

حملتْ بيدها باقةً من النّبات مغسولاً بالماء

رفعتُ يديَّ في الرّياح

دارت الساحرة حولي ترشّ عليَّ ماء النبات

تطيّرُ البخورَ في بيوتِ جسدي الصغيرة

تقرأُ تعاويذَ  لاأحد يفهمها إلا هيَ

وروحي التي أفلتتْ مني طائرةً بعيداً عالياً

حتى بلغتْ أعلى طيرٍ يختبىءُ في قمَّة الكاتدرائية…

***

  1. في يومِ الأمواتِ حملتُ روحي في حقيبةٍ غيرِ مرئيّة

كانت أطياف الجنازاتِ تتراءى لي في ذاكرتي

هناك في ليل مدينتي صرخات الجماجم المكسرّة

عظام تتدحرجُ على منعطفات الدمّ

بينما عيني ترى هنا مهرجانَ الألوان في لحظة استحضار الأرواح المكسيكية القديمة

أقنعةٌ لا نهاية لها

على الأرض ارتسمت أشكالُ قبورٍ

يا للدهشة

يا لموسيقى السّحر

قبورٌ مرسومةٌ بالورود؟

هل تسمحين أيتها الأرواحُ أن أغفو قليلاً إلى جانبكِ؟

أنتِ يا حارسة القبور

أيّ فرحٍ تدافعين عنه ؟

أيّ فقيدٍ تفرحين بالنّيابة عنه؟

أيّ بكاءٍ سرّيّ خلفَ هذه الورود

ها قد لمحتُ دموعاً معطّرةً من عين الوردة

وردةُ الموتى تختصرً آلافَ الجنازات في وادي المكسيكِ

وردةٌ واحدةٌ

لكنّها صيفٌ كاملٌ يبشّرُ بالشّمس

  • نيسان 2012
  1. بيت الرّوح / بيتُ الوجود

سقطتْ على منزل روحي عواصفُ اقتلعت حجارة الصوّان من أبراجها

مثلما أوقعتْ أوراق الشجر من أحلامها

وهكذا بقيتْ روحي بلا منزلٍ

كيف أبني لها حصناً يحميها من قطعانِ الرّعب ؟

أين الحجرُ الحنون؟ / الرّملُ الشمسيُّ؟ / الخشبُ المعجونُ برائحةِ الورد؟

سألتُ الشجرةَ والكهنةَ والقديسين

صوتهم في الريح قال لي:

اترك روحكَ تسافر في طرقات الغابات والسفوح الخطيرة

عليكَ أن تقطع سبع صحراوات وثماني هضاب

وفجأةً تهبّ عليكَ ريحٌ شرسةٌ تحملُ حجارةً من الصوان

تدخلُ روحكَ لقاء الموت تطيرُ تحطُّ متعبةً ممزّقةَ الأجنحة قليلةَ القوى

لكن عليها أن تكمل

بعد أن تصرعَ قوةَ الرّيح / وتردّ عنها الصوّان ذا الشّرر

هكذا كُتبَ في شعائرِ الآلهةِ

تذهب بعدها إلى شواطئ نهر المياهِ التّسعة

ثمّة كلبٌ أحمر تصعد عليه روحكَ لتجتاز النهرَ

وبعد أن تصل الشاطئ قل لها أن تغرز سهماً في حلْقِ الكلبِ

يموتُ وتفرح روحكَ

هناك الكون كلُّه بيت للروح

النجوم سقفٌ

الفراشاتُ نهاراتُ رّقصٍ

النّسيمُ الصَّباحيُّ أجراسُ ذرة كريمة

صلّ للمشرق والمغربِ

كلْ من ثمر المانجو فرحاً

اعصر سلال الجوافة

اسقِ حتّى قطيعَ الذّكريات

اغسلْ بماء الشمسِ قلبكَ

اتّحدْ مع أجزاء الوجود.

الوجودُ حصنُ الرّوح القوي

الوجودُ عطرٌ لوردة الرّوح.

19 نيسان 2012

على طرقي البحرية: مجموعة شعرية جديدة للشاعر السوري أسامة إسبر

على طرقي البحرية: مجموعة شعرية جديدة للشاعر السوري أسامة إسبر

يصدر قريباً عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع في الأردن مجموعة شعرية جديدة بعنوانعلىطرقي البحريةللشاعر والمترجم السوري المقيم في أميركا أسامة إسبر. 

تجدر الإشارة إلى أن أسامة إسبر، شاعر ومترجم سوري يعمل محرراً في موقع “جدلية” وموقع “تدوين للنشر”  وكصحفي ومترجم مستقل. صدرت له أربع مجموعات شعريّة هي “شاشات التاريخ”، “ميثاق الموج”، “تتكررفوق المنفى”، و”حيث لا يعيش”. كما صدرت له مجموعتان قصصيتان هما “السيرة الدينارية” و”مقهى المنتحرين”.

ومن أحدث ترجماته عن الإنجليزية “الكاتدرائية و”أساليب شائعة” لريموندكارفر، رواية “أسنان بيضاء” لزيدي سميث، “الفناء الإسمنتي” لإيان مكيوان، ورواية “التراب الأميركي” لجينين كمنز، ورواية “كندا” لرتشارد فورد، ورواية “توقيعه على الأشياء كلّها” لإليزابيث جلبرت، جوزف أنطون (سيرة ذاتية) لسلمان رشدي وغيرها من الكتب الأخرى.

اخترنا القصيدة التالية من المجموعة الشعرية:

 خطوات من زبد

القمرُ فوقكَ يُضيءُ نفسهُ،

وعلى مذبحكَ

تقدّمُ الأمواجِ أضحياتها لإلهٍ من رمل.

أنظرُ إلى ضوء الشمس المائلة للغروب

وهو يسرق تقاطيع الأشياء
وأقول:
هل أسمع صوتَ بحركَ يتموّج
أم اضطراب أعماقي؟
أراك منفصلاً عني
معلقاً كلوحةٍ في فضاء
أحاول أن أقرأه بلغةٍ،
ابنةِ اللحظة،
فيغلبني الصمت.
يا شاطئ أسيلومار
أشعر كأنني أسيرُ
على شاطئ حياتي
بخطواتٍ من زبد. 

********

ظلال

 كان لظلالنا حضورٌ،

آثارُ أقدامٍ على الرمال.

كانت دليلاً على أن أجسادنا مرَّتْ من هنا،

تحت شمس الظهيرة،

التي كانت تسوقُ قطيع الظلال

بأسواطٍ من الضوء،
كي تعانق الأمواج

في حفلاتِ الزبد.
كان المحيط يتسلّى بأعشابه
يرسم بها أشكالاً

سُرعان ما يمحوها،

ولم يكن يجاريه في مهنته أحد.

********

قطعة خشب

 قطعةُ خشبٍ

طرحَها البحرُ على الرمال.

كانت فيما مضى طريقاً مُورقاً

سارت عليه الثمار.

كانت متكأً
عتبةً لحضورات أطلّت بوجهها.

كان اللحاء متقشّراً

بدا كبشرةٍ

تتجمّع فيها فراغات المنفى.

شعرتُ لوهلةٍ أنها يد

حركّت أصابعها كي تصافحني

وصدقاً شعرتُ بملمس تلك الأصابع

وسرتُ على الشاطئ كالمجنون

باحثاً عن عودٍ أو غيتار

ورقة أو قلم

كي أنقلَ الرسالة.

********

 جناح محلق

 ثمة مدنٌ

تقرأ شهواتها

في جناحٍ مُحَلِّقٍ

تتعرّى في النهار

تُبرِّدُ البيرة متلهّفةً

كي تَروي ظمأها

وتمسح الرغوة وهي تبتسم
ثم تعيش لحظتها
في رقصةٍ أو أغنيةٍ أو عناق.

 ثمة مدنٌ

تتمدّد على شواطئها وتسترخي

تمسّد ظهر الضوء كأنه كلبٌ.

علامة حُبّ

علامة حُبّ

لن يهزمنا جيشُكِ أيَّتُها العمَّة الغرابة.

لا حاجة لي بحافِلةٍ؛

أحملُ المحطّاتِ على ظَهري

وأربطُ القطارَ الأخيرَ

بإصبعِ ريحٍ تتخاصَرُ مع حُلمي.

ما أن مررتُ أمامَ الأبوابِ المصقولةِ بالخوف

حتّى اهتزَّتْ أقفالُها كعروشٍ تنهارُ

جناحايَ قلادةُ الغُيومِ

وقلبي وشمُ الأسئلة.

القُبَّعةُ فوقَ رأسي خُدعةٌ

ظلُّها هو المعنيُّ بالأمرِ

أنْ يُغطّي سهلاً من الأنسامِ

وتلالاً من العُشبِ الطَّموح.

في مُحيطِ كُلِّ أُغنيةٍ جزيرة

تستطيعُ الرُّسوَّ بسلامٍ

لكنَّ خُطايَ التي التحقتْ بالمُوسيقى

لن تكفَّ عنِ البَحث

عن لحنٍ غريب.

الحيادُ يُعطِّلُ المشاعرَ

أنا كُلِّيّ في مدىً

ولو كنتُ بعضي

لقتلني المللُ المُزهرُ كسلاسلَ.

_ بمَ أُكافئُ الطّائِرَ القادمَ من المجهول..؟!!

… حمَلَ لي علامةَ حُبٍّ

وطمأنني بالاقتراب

وأنَّ قفزاتي القادمة ساحاتُ تجريبٍ أخضر

وأنَّني مهما كنتُ أسيرَ عاصمتي

سأجدُ في النِّداءِ ملاذاً لانزياحٍ خاطف.

لفظتانِ هادئتانِ معكِ

قد تكفيانِ لزيارةِ الوردة

ثُمَّ تجاوزها

إلى حيثُ يتعرّى الرّحيقُ

ويكشفُ عن سرِّه.

المُقامُ يضيقُ

بألوانِ المَجازِ

والأشواقُ تتَّسِعُ

كحقلِ ألغامٍ مُموَّه.

ثلاثُ قصائد

ثلاثُ قصائد

سَقْسَقَةٌ

 

من غابةٍ إلى غابةٍ، من شجرةٍ إلى شجرةٍ، من غصنٍ

إلى غصنٍ أنصِتِي جيِّـداً! — من حَنْجَرَةِ هازجةِ

الزَّيتونِ إلى حَنْجَرَةِ قُبَّرةِ الشَّواطئ، من حَنْجَرَةِ قُبَّرةِ

الشَّواطـئ إلى حَنْجَرَةِ جُشْـنَةِ الغَيْـط، مـن حَنْجَرَةِ

جُشْـنَةِ الغَيْـطِ إلى حَنْجَرَةِ عـصـفـورِ الشَّـوك، مـن

حَنْجَرَةِ عصفورِ الشَّوكِ إلى حَنْجَرَةِ أبي حنَّاءالأحراش

الأحمر، مـن حَنْجَرَةِ أبـي حنَّاء الأحراش الأحمر إلى

حَنْجَرَةِ سُمـنةِ الصُّخور الزَّرقاء، مـن حَنْجَرَةِ سُمـنةِ

الصُّخـور الزَّرقـاء إلى حَنْجَرَةِ نِمْـنِـمَـةِ الشَّـجر، مـن

حَنْجَرَةِ نِمْنِمَةِ الشَّجر إلى حَنْجَرَةِ نُقشارةِ الجبال، من

حَـنْجَـرَةِ نُـقـشـارةِ الـجبـال إلى حَـنْجَـرَةِ قُـرقُــفِ

المستنقعات، مـن حَنْجَرَةِ قُـرقُـفِ المستنقعات إلى

حَنْجَرَةِ الصُّفَير الذَّهبيِّ، من حَنْجَرَةِ الصُّفَير الذَّهبيِّ

إلى حَـنْجَـرَةِ زرزورِ سُـقَطـرى، مـن حَنْجَـرَةِ زرزورِ

سُـقَطـرى إلى حَنْجَرَةِ زُمَيرِ الثُّلوج، مـن حَنْجَرَةِ زُمَيرِ

الثُّلوج إلى حَنْجَرَةِ شَرْشُورِ الكرز، من حَنْجَرَةِ شَرْشُورِ

الكـرز إلى حَـنْجَرَةِ دُرْسَـةِ القصـب، حَـنْجَرَةِ دُرْسَـةِ

القصـب إلى حَنْجَرَةِ الحسُّـون الأخضـر أردِّدُ

بحناجر كلِّ المجنَّحات

أحبُّكِ

أحبُّكِ

أحبُّكِ.

 

*

 

قنديلٌ

 

ربَّما في سَهْلٍ بعيدٍ

حرَّكَتْ ريحٌ خفيفةٌ زهرةَ دِرْيَاسٍ ثُمانيَّةِ البتلات.

ربَّما في أجمةٍ بعيدةٍ

حرَّكَتْ ريحُ زهرةِ الدِّرياسِ رموشَ مُوظٍ حزين.

ربَّما في مستنقعٍ بعيدٍ

حرَّكَتْ ريحُ المُوظِ ريشَ لقلقٍ أصفرِ المنقار.

ربَّما في خليجٍ بعيدٍ

حرَّكَتْ ريحُ اللَّقلقِ شراعَ زورقٍ أزرق.

ربَّما في نافذةٍ بعيدةٍ

حرَّكَتْ ريحُ الزَّورقِ أهدابَ ستارةٍ بيضاء.

ربَّما في حديقةٍ بعيدةٍ

حرَّكَتْ ريحُ السِّتارةِ شَعْرَ امرأةٍ وحيدة.

ربَّما في غرفتي الآنَ

حرَّكَتْ ريحُ زهرةِ الدِّرْياسِ والمُوْظِ

واللَّقلقِ والزَّورقِ والسِّتارةِ والمرأةِ

 شعلةَ قنديلي وأطفأتْها.

 

*

 

مَلَنْخُوليا

 

القمرُ على الدَّرجات الحجريَّة المهجورة

أصيصُ حبقٍ منسيٌّ أيضاً

قطٌّ خَدِرٌ 

  حفيفُ 

   نَقْلِ

    نِعَالِ

       كآبتي

   في صعودها ونزولها.

 

 

 

 

 

 

الدُّمى

الدُّمى

” بعد أن تَسقط الفراشة، يختلج اللَّهب قليلاً ثم يشبُّ. قشعريرةُ الندمِ تمرينٌ منشِّطٌ لكلِّ قاتِل.”

مزّقتُ الصفحتين. إنّ ما أكتبه قُرب الموقد بعيدٌ عن الشِّعر بُعدَ المتنزّهِ عن الغريق.

نُسقى العتمةَ بجرعاتٍ دقيقة. تتوسع الأحداق لتلبّي وظائفَ أخرى غير الرؤية. نحوم حول النيران لا لنَدفأَ بل لنطارد الأخيلة ونراقص أنسام الذكرى. تَخْدَرُ أيدينا بين الأزرار والشاشات كي نَقْنع أنّ الجلوس ارتحالٌ والظلامَ معرفة. تكتسب أصواتنا، يوماً بعد يوم، بحّةَ الأسرى الرتيبة، مترددةً في المجال المتوسط بين غمغماتِ الناجين من الزلزال وصراخِ المجروفين بالسيل.

تخجلنا الفرحة حين يعود التيّار، نكاد من شدة التقوّس أن نسجد لوليِّ نعمة الكهرباء. نكتشف أن أيامنا مقسومة بين شوطين: التزاحم على الخروج من الكهف كي نلعن وحشتَه، والتباري على العودة إليه لإكمالِ زخرفتِه.

ثم نتناسى. لدينا غرائز لا تلبَّى إلا في النور، وأخرى لا بدَّ من تأجيلها كي تستعر وتُسْكِر حين يعمُّ الظلام.

إننا مصفوفون على الحبال، مدهونون بكل ألوان الطيف. فلْيَعرِضْ محرِّكُ الدمى ما يشاء.

لكنْ. هناك، في الشارع، تحت المصابيح تصطخب الحقائق.

تَطمر الجبّالةُ آخِرَ بستانٍ، لينهضَ البرج مسوَّراً بالنباح، متباهياً بما جنتْهُ السياط.

يومئ الصائغ للسيدة الواقفة خلف الميزان أن تخلع إسوارةً أخرى، وهو يهاتف الشبحَ الممسك بخناقِ ابنِها.

تنهال الملامات على عامل الفرن لأنه انشغل عن تقليب الفطائر باستقبال من جاؤوا يهنئونه بماجستير الهندسة.

ستقول يا صديقي: ( إن هذا بعيدٌ أيضاً عن الشِّعر، إن الشعر كشفٌ للغامض وصبوةٌ إلى البعيد وارتقاءٌ للمطلَق.)

أزِحْ هذا السقفَ المطبق عن أضلاعي، واسرحْ ما شئتَ في براري الصوَر.

اغمرني بالنور، وهنيئاً لك اللَّهوُ بشبّابات الظلام.

جِدْ لي ينبوعاً أرتمي فيه، ومبارَكةٌ عليك مواويلُ الظمأ.