by وداد سلوم | May 24, 2025 | Cost of War - EN, Culture - EN, News - EN, Reports - EN, Reviews - EN, العربية, بالعربية, All Reports, Articles - EN
عندما سئل المخرج زياد كلثوم صاحب فيلم “طعم الإسمنت” (من مواليد حمص 1981) عن سبب اختياره عنوان (الرقيب الخالد) لفيلمه أوضح أن ذلك يشبه رداً على شعار درج ردحاً من الزمن لتمجيد حافظ الأسد وهو تسميته بالقائد الخالد.
والرقيب في الفيلم هو المخرج ذاته، فالفيلم تسجيلي على نمط سينما الواقع، وثائقي يرصد ويسجل مرحلة محتشدة بالأحداث في عام 2012 أي بعد عام من بدء الثورة السورية، وانتقالها إلى المواجهة العسكرية مع النظام في ريف دمشق، وهي فترة خدمة كلثوم العسكرية في المليحة (ريف دمشق) وحيث يتم إطلاق القذائف منها، على الغوطة الشرقية وغيرها، بينما يمضي باقي يومه في العمل كمساعد مخرج مع الأستاذ محمد ملص أثناء تصويره فيلم (سلم إلى دمشق) .
يبدأ الفيلم في صورة توحد الكاميرا مع المخرج وكأنها عينه فتبدو الصورة مقلوبة أثناء استلقائه وتبدأ بالتصحيح في نهوضه وهو نفس المشهد الذي يبدأ به يومه حين إعلان انشقاقه عن الجيش لعدم موافقته على الصراع المسلح الحادث وتدخل الجيش النظامي لصالح السلطة، وكأن العالم مقلوباً يُصحح بفعل النهوض والحركة أي الفعل، كما يتم تصحيح مواقف الناس بإعلان الرفض.
يبدأ كلثوم إذاً تصوير رحلته اليومية إلى المليحة مكان خدمته الإلزامية في طريق كئيب وتحت صوت الطائرات التي تقصف ريف دمشق متجاوزاً الحواجز العسكرية وصولا إلى قطعته، تتأرجح الصورة أثناء ذلك لأن التصوير ممنوع في القطعة العسكرية فاستعان كلثوم بكاميرا الموبايل ليتمكن من ذلك دون لفت الانتباه، وهذا التأرجح هو تعبير عن الاضطراب الذي يشكل المناخ العام، والاضطراب الذاتي الذي يعيشه السوريون حيال الوضع القائم.
يبدو المكان (في القطعة العسكرية) ضيقاً حين يدخل الرقيب المجند إلى مبنى القطعة العسكرية وكأنه يشير إلى الضغط النفسي الذي يسببه المكان ذو الجدران المليئة بالشعارات والملصقات التي تمجد شخصية الرئيس الحاكم (بشار الأسد) ووالده من قبله إذ تملأ الجدران صورهما، ترصد الكاميرا التفاصيل اليومية لحياة المجند في المكان ومحيطه حيث تربض الدبابات التي تقصف المناطق الأخرى ويتم قص الأشجار لإفساح المكان لها.
تسقط الأشجار أرضاً وهي التي تموت واقفة كرمز للصمود، بينما يلتفت المخرج ليصور لنا الشعار المكتوب “لن تركع أمة يقودها القائد…” وكأن ثمن بقائه إركاع كل رمز وكل إنسان. بهذه الطريقة يلعب كلثوم على المتناقضات لإظهار الفكرة ووضع المقولة بين يدي المشاهد وهو ما نلمسه في أكثر من مشهد وأكثر من مكان.
يتابع كلثوم يومه ليستعرض الجزء الذي يعمل به كمساعد للمخرج المعروف محمد ملص حيث يقوم بتصوير زملائه في فريق ملص أثناء قيامهم بالتصوير، طارحاً الأسئلة المقلقة للجميع في تلك الفترة عن موقف الأشخاص مما يدور في الساحة وعن رؤيتهم للمستقبل بل يمتد بذلك إلى الشارع فيسأل بعض المارة والناس العاديين، منهم من هو معروف مثل كروان المتابع الشهير الذي التصق اسمه بسينما الفردوس أقدم سينما في دمشق، ومن حديث عابر يستجره كلثوم للحديث عن مشاعره العميقة فابنه استشهد منذ مدة وما زال يبكيه، يصور أثناء ذلك كلثوم إعلانات العروض في سينما الفردوس ليشير إلى البعد الشاسع بين الواقع وما يدور من حرب سورية/سورية متصاعدة وبين الشارع الثقافي، وتردي واقع السينما سواء في نوعية العروض كما نرى في الإعلانات أو بنسبة المشاهدين المنعدمة نتيجة الوضع الأمني.
في هذا التداخل يرصد كلثوم واقع السينما في الحرب، بينما في المقلب الآخر نرى عمل محمد ملص في هذا الواقع المتأزم ضرباً من المغامرة بإصراره على استكمال تصوير فيلم (سلم إلى دمشق). وينتقل كلثوم إلى إجراء لقاءات مع فريق العمل. تقول مساعدة ملص: “نصور فيلماً عن مدينة دمشق قبل أن تندثر”، والاندثار هنا ليس فقط احتمال التدمير في الحرب الدائرة بل بفعل الغبار بمعنى عدم التطور وإيقاف زمن المدينة على توقيت الديكتاتورية. وهم في الحقيقة يصورون الحياة السرية للمجتمع أو الجانب غير المصرح به فتظهر لقطات تصوير اعتقال أحدهم، ويقوم بالدور الراحل غسان الجباعي، الذي يحكي قصة المشهد مشيراً إلى أن المشهد بسيط جداً أمام ما يحدث في الواقع خارجاً ويبتسم في همسه لكاميرا كلثوم واضعاً الملح في قلب الجرح السوري.
يوثق كلثوم مصاعب السينما في الظرف الراهن وهو ما يشير إليه ملص الذي ينظر إلى الأرض بحرقة وهو يسمع القصف الممتد ويرصد معاناة الفريق أثناء التصوير فصوت الطائرات الذي يرغمهم على إعادة المشهد عدة مرات يضع معظم الممثلين في حالة من التوتر والغبن والقهر المكتوم.
أحد الممثلين من الحجر الأسود حيث قصف بيته ورفاقه، يبكي ويبكي ويشرب لينسى ولكن عبث، هي ذات المعاناة في عين ترما وغيرها من ضواحي دمشق وريفها حيث يراقب الجميع سقوط الصواريخ وكأنها تسقط في قلوبهم.
يقوم كلثوم بتصوير صعوبات صناعة السينما في تلك الفترة وإرهاصاتها وواقع صالات العرض الفارغة وصولاً إلى واقع السينما العسكرية أو ما يسمى سينما باسل الأسد حيث تمت تسمية كافة المنشآت باسم الابن الراحل لحافظ أسد، الشقيق الأكبر لبشار الأسد، سواء المنشآت الرياضية أو الصحية أو الثقافية. كان اسمه يحتل البلاد دون أن يكون له أي أثر يذكر على المستوى العام، وكأن هذه البلاد مسجلة كملك شخصي للعائلة الحاكمة، أو أن قدرها أن تبقى لإحياء ذكرى موتاهم (الأب والابن) وربما هذا ما يأخذنا أيضاً إلى قول مساعدة ملص “دمشق قبل أن تندثر” كحاضرة مدنية وثقافية .
كانت سينما الجيش، أو كما يسمونها سينما باسل الأسد، عبارة عن صالة فارغة وأفلام على الرفوف تحت الشعارات التي يتم أدلجة العسكريين بها.
تتوجه الكاميرا إلى الممثلين الذين يعكسون في إجاباتهم تناقض الشارع السوري في موقفه تجاه الحرب الدائرة، فنرى من تأذى شخصياً من القصف رغم عدم مشاركته بأي نشاط أو عمل مسلح، وبين الواقعين تحت ديماغوجية السلطة ودعاياتها.
بين الوعي الكامل للظلم الحادث وللقتل الذي تمارسه السلطة الديكتاتورية وإحساس القهر والظلم والتعاطف الضمني مع الثوار وبين الذين عانوا ظلماً من الاعتقال والتعذيب الذي أبعدهم عن ساحة المشاركة بالعمل السياسي.
يتجلى التناقض في موقف إحدى الممثلات التي تصرح بانحيازها لجانب السلطة وترى أن الطائرة قادرة على التمييز بين البريء والمجرم أثناء القصف، بل تخاف على الطيار متجاهلة موت الأبرياء ومنهم أهل زملائها في العمل.
يشبه ذلك مشهد كروان الذي خسر ابنه وأحلامه وهو يردد ما تتناقله الأخبار الرسمية وكأنه يردد شعارات السلطة الجوفاء ذاتها معزياً نفسه أن ذلك حدث من أجل البلاد.
هذا الفصام الذي يصوره كلثوم للأشخاص ليس خارجياً فقط، بين الأشخاص وعلى صعيد المجتمع بل هو على الصعيد الداخلي في ذات الأشخاص. فمنذ بداية الفيلم لا نرى الشخص وإنما نرى ظلاً يتحرك وأقداماً ورغم أن هذا قد يكون بسبب تقنية التصوير لكنه يشكل أيضاً إيماءة إلى تحول البشر إلى ظلال تعيش انفصامها عن نفسها أولاً وعن رغبتها الحقيقية بسبب الخوف المسيطر. يقول أحد المارة للكاميرا (نعم أحب بشار الأسد) ثم يقول لكلثوم همساً: فيني ما قول هيك؟ بيشحطوني، في تعبير عن ذلك الخوف الذي يمسك الألسنة والفصام عن الواقع فالحياة العادية تستمر تحت وقع قصف الطائرات وتستمر الحركة في المدينة، التي تدفن على مهل.
يقول ملص الذي يطيل الصمت تحت صوت القصف متأملاً الخوف يسيطر على الجميع من الاتجاهين، سواء من قصف الطيران المستمر أو ممن يوقف الناس ويقتلهم على الهوية .
الخوف الذي يتحرك في العيون، خوف الجدة الحمصية التي تمثل دوراً في فيلم ملص تقول فيه عبارة واحدة، تجلس في ثياب الصلاة صامتة ومراقبة، يقترب منها كلثوم ويسألها عن نزوحها من حمص فتتردد وتتلكأ وكأن هذه الجرأة بالتعبير تكلف كثيراً، ثم تجيب بأنها فقدت ابنيها وحفيدها في قصف حي باب السباع في حمص.
نصل ذروة الفصام في مشهد تداخل ظلي المخرج ليشكلا شخصاً واحداً وذلك حين يقرر الانشقاق عن الجيش النظامي إثر المشاهد التي يراها ويصورها من إصابات وسقوط القتلى من الطرفين فيخرج من مكان خدمته العسكرية حيث تتابع الدبابات إرسال الموت إلى أماكن شتى. يخرج كلثوم من المبنى بشعاراته البائدة إلى غير رجعة في مشهد عميق وعالي الفنية يظهر فيه هذا التداخل بالظلال مشيراً إلى انتهاء الفصام واستعادة الرقيب المجند كلثوم لذاته وحياته التي يريدها باتخاذ القرار الذي يعلنه وهو انشقاقه عن الجيش موثقاً ذلك بعبارة ينتهي فيها الفيلم: أنه يرفض المشاركة بالعنف الدائر جملة وتفصيلاً ويعلن حفاظه على سلاحه الوحيد الكاميرا.
يلاحظ المشاهد أن المخرج وازى بين فيلمه وبين فيلم (سلم إلى دمشق) وكأن هناك فيلماً داخل الفيلم حتى أن صرخة البطل الأخيرة (حرية) في فيلم ملص تتوازى مع انشقاق الرقيب في فيلم كلثوم وفي المشهد الأخير منه حين ينظر إلى الأعلى كأنه يراقب مسار تلك الصرخة التي تحلق مع أرواح الناس.
فيلم كلثوم فيلم مبكر عن أحداث الثورة السورية صور في 2012 وتم إنتاجه في 2014. حاز على جائزة BBC للأفلام الوثائقية عام 2015 وجائزة مهرجان لوكارنو بسويسرا.
تم عرض الفيلم في مدينة حمص في افتتاح مجتمع حمص السينمائي وهو نشاط منبثق عن مبادرة حمص عاصمة السلام، فتمكن السوريون حضور الفيلم أخيراً، كما استضيف المخرج للإجابة عن تساؤلات الجمهور.
بعد أن بقيت أفلام الشباب المعارض غائبة عن الجمهور في سوريا رغم أنها تجوب العالم وتحصد الجوائز، ورغم أنها عنهم وعن آلامهم.
by محمّد حلّاق الجرف | May 20, 2025 | News - EN, Reports - EN, العربية, بالعربية, All Reports, Uncategorized, Articles - EN
من بين تعريفات عديدة للدّين، فإنّ الدّين هو عبارة عن مجموعة من العقائد المعرّفة تعريفاً اجتماعياً، وهذه العقائد تتعلّق، بشكلٍ أساسيّ بالنّظرة، والمعنى، والغاية النّهائية من الحياة. لذا، لا تُعنى العلوم الاجتماعية بمسألة إثبات وجود الله من عدمه، ولا بوجود أو عدم وجود كائنات وحيوات أخرى، هذه مسائل تُترك لاختصاصات بحثية مغايرة. الانشغال الأساسيّ للعلوم الاجتماعية هو في الكيفية التي تُؤثّر بها العقائد الدّينية الخاصّة على السّلوك الإنساني، وعلى العلاقات والأنساق الاجتماعية. لذلك، فإنّ اهتمام هذه المقالة سينصبّ على الآلية التي تعامل بها النّظام السّوري البائد، وربّما النّظام الحالي أيضاً، مع الوظيفة الاجتماعية للدّين، بمعنى تكييف الدّين لخدمة شرعنة النّظام، وبقائه، واستمراره.
مجتمع متنوّع أمْ مجتمع فسيفسائي؟
المؤشّرات الإحصائية تدلّ على تنوعٍ قوميّ ودينيّ كبيرين في سوريا، فوفقاً لدراسة إحصائية حديثة أعدها موقع The world factbook بعد سقوط نظام الأسد، فإنّ عدد سكّان سوريا كان تقريباً 23.8 مليون نسمة، يتوزعون عرقياً إلى عرب سنّة بحدود 50%، وعرب علويين 15%، وعرب مسيحيين 10%، وكُرد بحدود 10%، و15% هم من باقي الأقليات (دروز، واسماعيليون، وشيعة، وآشوريون، وتركمان، وأرمن)، وآخرين 10%.
هذا التّنوع الهائل للمجتمع السّوري، وبرغم التّعايش المشترك بين مكوّناته لمئات السنين، لمْ يجعل من سوريا مجتمعاً متنوّعاً بقدر ما رسخّه كمجتمعٍ فسيفسائي تعيش مكوّناته شبه معزولة عن بعضها، تُجاور بعضها البعض دون أيّ تداخل تقريباً، إذا ما استخدمنا التّمييز الدّقيق للباحث اللبناني حليم بركات للتّفريق بين المجتمعات المتنوّعة والمجتمعات الفسيفسائية.
هذ التّنوع كان يحمل في طيّاته دوماً بذور الانفجار، وهو الأمر الّذي تطلّب قدراً كبيراً من الحنكة في إدارته لأنّ الفشل في ذلك كان يعني تحويله إلى نقمة بدلاً من أن يكون موضع غنىً ثقافي ومعرفي. وبالفعل فإن السّبب الرّئيس في اتساع الشّروخ بين المكوّنات المجتمعية المختلفة في المجتمع السّوري لا يعود برأينا إلى تنوّع هذه المكوّنات، وإنما إلى وجود إدارة سيئة للتنوّع كانت تضغط بثقلها الأمني عليه لتحافظ على صورته
التعايشية الجميلة، الأمر الّذي استمرّ مع السّلطات الجديدة بصورةٍ أكثر فظاظة، وإنْ كانت أخفّ ثقلاً من النّاحية الأمنية، لكنّ الثّابت لدينا، أنّ إدارة النّظامين، الحالي والسّابق، لا تبدو آبهة بما تخلفه هذه الطرائق من احتقانات وأحقاد في داخل المجتمع.
فبالنسبة للنّظام السّابق، فقد اعتمد، ومنذ وصل الأسد الأب إلى الحكم وحتّى وفاته، على لعبة توازنات دقيقة بين كلّ أطياف النّسيج السّوري، بحيث لم يُبعد أياً منها عن السّلطة، كما أنّه لم يُعطِ أيّا منها سلطة مطلقة. ونشأت في سورية سياسة “محاصصة مستترة” غير مقوننة ولكنّها ترسخّت بالعرف بحيث تتقاسم القوميات والطوائف المناصب السّياسية الرّئيسة بما يناسب نسبتها من عدد السّكان الإجمالي، وبحسب توزعها في المدن السّورية الكبرى، فرئيس الوزراء ووزير الخارجية ورئيس هيئة الأركان من الطّائفة السّنية، ووزيري السّياحة والصّناعة مسيحيان، ووزير الإعلام علوي، وهناك وزير دولة للطّائفة الاسماعيلية.. الخ. وبقيت المفاصل الأمنية بيد المقربّين جداً من النّظام، وخصوصاً العلويين منهم.
هذا المحاصصة الدّقيقة المستترة أُضيف إليها تحالفٌ معلن بين البرجوازية السّنية في الحواضر الكبرى، كدمشق وحلب وحمص، وبين هذا النّظام، بحيث أمسكت الدّائرة الضّيقة للنّظام بالشّؤون الأمنية والسّياسية، وتُرك الشّأن الاقتصادي لتجّار وصناعيي دمشق وحلب، دون أن يغفل عن بالنا أنّ الأسد الأب قد قام في عقد التّسعينات بتشجيع أبناء المسؤولين على الدّخول في مشاريع صناعية وتجارية وعقارية كبيرة في محاولة منه لخلق برجوازية ثالثة، تُكافئ برجوازيتي دمشق وحلب. هذه البرجوازية الجديدة لم تقتصر على العلويين، أي أنّها لم تكن برجوازية علوية بقد ما كانت برجوازية سلطة أفضت في النّهاية إلى ما بات يُعرف بـ “رأسمالية المحاسيب”.
أدوتة (Instrumentalisation) التّنوع، والمجتمع المضاد
يُقصد من أدوتة التّنوع استثماره من قبل السّلطة لقضايا سياسية داخلية أو خارجية، وهذا ما ظهر بوضوح من خلال نجاح النّظام السّوري السّابق، وعلى مدار الخمسين عاماً الماضية، في خلق المجتمع المضاد الذي كان بمثابة الدّرع الذي حمى هذا النّظام على مدى أكثر من كل الاهتزازات والتغييرات التي اجتاحت منطقتنا معتمداً في ذلك على مكنة إعلامية نشطة، وعلى تحويل النّقابات والمؤسّسات الحزبية والمدنية إلى مجرّد أشكال صورية. ويبدو أنّ النّظام الجديد، وحسْب ما يظهر إلى الآن، يعتمد آلية مشابهة، ذلك أنّ الأنظمة تأتي، عادةً، بناءً على سيرورة سياسية طبيعية تُتيح المجال للتّنافس بين الشّخصيات والقوى والأحزاب السّياسية تنتهي بالانتخابات التي تُتوّج حزباً ما، أو تحالفاً ما على رأس السّلطة لأجل محدّد اعتماداً على حجم قاعدته الاجتماعية. في سوريا، وحتّى الآن، لم نرَ مجتمعاً يُنتج سلطة كما يُفترض في الحالات السّياسية الطّبيعية، بل سلطةً خلقت، وسلطة حالية تسعى لخلق، مجتمعها الخاص بها، والمتعالي عن بقية النُّسج الاجتماعية. هذا المجتمع سيشكّل “حواضن” للنّظام أسماه الدّكتور حسّان عبّاس بـ “المجتمع المضاد”.
هذا “المجتمع المضاد” ناتجٌ، في جوهره ووظيفته، عن تشوّه بنيوي في العلاقة بين السّلطة والمجتمع، ويُفضي إلى نوعين من التّشكيلات، أولها تشكيلٌ سياسي-أمني تتجلّى صورته بالمؤسّسات المرتبطة بالاستبداد (الجيش والأجهزة الأمنية)، والنّوع الثّاني تشكيلٌ اجتماعي هو خليط من نخب ثقافية، ومن جماعات اقتصادية (برجوازية تقليدية، أو دينية، أو طفيلية). كما أنّ “المجتمع المضاد” يقف بين السّلطة والمجتمع ليكون الجسر الواصل بينهما من جهة، وأيضاً ليكون الحُصْن الذي يحمي السّلطة من المجتمع الحقيقي من جهة أخرى. وفي المجتمع المضاد تتحول الأجهزة الوطنية والمؤسّسات المدنية إلى مؤسّسات حماية للسلطة، لا يختلف في ذلك الجيش الحامي للسّلطة، أو النقابات القائمة على مبدأ حماية المجتمع من السلطة.
خاتمة
ما يثير التحفّظ لدينا، هو الخوف من تكرار التجربة، الخوف من أنْ تقوم السّلطة الحالية، وبحسب منهجها حتّى الآن، بخلق “مضادٍ” خاصّ بها يعتمد على تغييب السّياسة لصالح أصوات الكراهية والتّحريض الطّائفيين، وأنْ تعتمد عوضاً عن المواطنة على “عصبية الامتيازات”.
على الجانب الآخر، لم تتمكّن النّخبة المعارضة للنّظام من الخروج من هذه الأطر بعد قيام ثورة 2011، خصوصاً بعد انتقالنا من مرحلة السّلمية إلى العسكرة، فقامت هي أيضاً بخلق “مجتمع مضادٍ” خاصّ بها يعتمد على تغييب السّياسة لصالح أصوات طائفية ولغة كراهية لم يعتد السّوريون عليها سابقاً مستغلةً الإمكانات المالية والإعلامية الكبيرة التي قدمتها بعض دول المنطقة لها. وقامت أيضاً بخلق “مؤسّسات مدنية” خاصّة بها وكيانات سياسية هشّة وقفت سداً لها في وجه مجتمع الثّورة الحقيقي الذي توارى عن المشهد بعد الأشهر الأولى للثّورة. وفي الحالتين، حالة النّظام وحالة مؤسّسات المعارضة، فقد اعتمد الجانبان على ما يمكن تسميته بـ “عصبية الامتيازات”، عصبية المستفيدين بغضّ النّظر عن طائفتهم. وبالفعل، فقد بتنا نرى مسؤولين، ومثقفين، ومفكرين سوريين، يستخدمون منهجاً سكونياً لتفسير أعمال العنف من خلال اللجوء إلى قراءة تعتمد أساساً على رؤية للطوائف وتواريخها، وتبحث عن نزاعات “جوهرانية” بين هذه الكيانات بحيث يسهل في ظلّها التعتيم على السّياق التّاريخي للأحداث. بينما يركّز المنهج الدّيناميكي على المحتوى الاجتماعي-التّاريخي للدّين ضمن إطار الصّراعات القائمة في المجتمع، ويؤكّد على أنّ التشكيلات السياسية-الدّينية إنّما تنبثق عن واقعٍ اجتماعي، واقتصادي، وسياسي، وتاريخي معقّد وهي تتطوّر بتطوّر هذا الواقع.
وعموماً، لا يستخدم الدّين، كنسقٍ ثقافي، من قبل الأنظمة، سوى بغرض تثبيت شرعيتها الضعيفة أصلاً، وحمايتها من حراك المجتمع المدني الحقيقي.
by عامر فياض | May 18, 2025 | Cost of War - EN, News - EN, Reports - EN, العربية, بالعربية, All Reports, Articles - EN
“واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد” هو شعار لطالما ردده السوريون\ات، على اختلاف الطوائف والانتماءات، خلال المظاهرات التي عمت مختلف المحافظات السورية منذ اندلاع الثورة السورية التي نادت بالحرية وإسقاط النظام. الشعار ذاته عاد ليصدح في الساحات والشوارع خلال الاحتفالات بسقوط النظام البائد وولادة سوريا الجديدة التي لطالما حلم السوريون\ات بولادتها. اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسة أشهر على سقوط النظام، وفي ظل ما شهدته البلاد من أحداثٍ مؤلمة، يطرح كثير من السوريون\ات سؤالاً ملحاً ومؤلماً: هل الشعب السوري شعب واحد؟
لا يخفى على أحدٍ أن النظام البائد يتحمل المسؤولية الكبرى تجاه ما يحدث اليوم في البلاد، نتيجة تخريبه الممنهج لها لأكثر من نصف قرن، ونتيجة ممارساته الاستبدادية وسياسات القمع والتهميش والقهر التي مارسها بحق الشعب، قبل أن يقمع ثورته بشتى السبل والوسائل الإجرامية والوحشية، التي جرَّت البلاد إلى مستنقع حرب مدمِّرة أجهزت على ما تبقى منها، وأدت إلى تهجير ونزوح أكثر من ثلث الشعب الذي أصبح منقسماً إلى عدة شعوب. ولكن رغم ذلك، كان من المتوقع، بعد سقوط النظام وانتصار الثورة، أن يعود الشعب السوري ليتكاتف وينهض بالبلاد كشعبٍ واحد، إلا أن الواقع لم يكن بحجم الأحلام والأمنيات.
يحاول اليوم معظم المُصطفين\ات إلى جانب النظام الجديد، حصر شكل الإنتماء الوطني بالولاء المطلق لهذا النظام والخضوع لأدوات سلطته الناشئة التي بدأت تفصّل سوريا على مقاسها، وتنزع الصفة الوطنية عن كل من لا يتبع نهجها، رغم اتهام جزء كبير من السوريين\ات لها بأنها حولت البوصلة الوطنية من الانتماء لسوريا الثورة إلى الانتماء الديني والمناطقي، خاصة بعد إصدار الإعلان الدستوري الذي خيَّب آمال الكثيرين، ومن ثم تشكيل الحكومة التي وصفها الكثيرون بأنها حكومة لون واحد، غاب عنها إشراك العديد من الشخصيات الوطنية والثورية المشهود لها بكفاءتها وخبرتها، فيما حظيت الشخصيات المحسوبة على السلطة بأكثر من نصف التشكيلة الوزارية واستأثرت بالوزارات السيادية، ما جعل تلك الحكومة تتلقى الكثير من الانتقادات كونها لم تسع لبناء مؤسسات الدولة على أسس وطنية ومدنية، وتجاهلت مبادئ الشراكة والمواطنة بإقصائها شرائح ومكونات واسعة من السوريين\ات، في وقت يحتاجون فيه لمد جسور المواطنة والتعاون فيما بينهم للنهوض بالبلاد، التي ما زالت مقطعة الأوصال وأبعد من أن تكون كياناً واحداً، فجزء من شمالها تسيطر عليه فصائل تابعة لتركيا، التي تحتل مناطق حدودية واسعة، وشمال شرقها تسيطر عليه قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، وجنوب شرقها تسيطر عليه قوات تابعة لأمريكا، فيما ما يزال الجنوب تحت سيطرة الفصائل والقوى المحلية، وما زالت البادية تضم بقايا لتنظيم داعش.
وفي وقت تحتاج فيه البلاد لتأسيس جيشٍ وطني يضم جميع مكونات الشعب، تم تشكيل الجيش الجديد من فصائل عسكرية محابية للسلطة، ومحسوبة عليها، كهيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها، والتي تحمل بمعظمها أيديولوجيات جهادية ودينية تغلب على الأيديولوجيات الوطنية، وتسعى لتحقيق مكاسب فردية وسلطوية بدلاً من المكاسب الوطنية، فيما غاب عن تشكيل الجيش أي حضور فعلي للضباط المنشقين ذوي الخبرة العسكرية والذين انحازوا للثورة، وهو ما سيشكل، بحسب كثير من الآراء، تهديداً واضحاً لمفهوم الشراكة الوطنية ولمستقبل الهوية السورية الجامعة.
خيبات أمل وتخوين وانقسام
مع سقوط النظام البائد، تأمل سوريو الداخل بإمكانية عودة النخب السياسية والثقافية والوطنية من الخارج ليساهموا معها في بناء سوريا الجديدة، لكن معظمهم صدموا وأصيبوا بخيبة أمل بعد عودة كثير من الشخصيات إلى البلاد، إذ اكتفى بعضها بزياراتٍ قصيرة، كانت أقرب إلى السياحة الثورية، واقتصرت على الإقامة في الفنادق والتقاط الصور في ساحة الأمويين وشوارع دمشق، والجلوس لساعات في المقاهي، التي اكتظت بالنشطاء المدنيين والسياسيين، وخوض نقاشاتٍ عامة بعيدة عن الواقع. وقد سعت بعض الشخصيات منذ وصولها إلى سوريا إلى خطف الأضواء وتَصدّر المشهد السياسي والثقافي، ولو بشكلٍ صوري، من خلال تقديم بعض المحاضرات والندوات التي تقترب إلى التنظير وتبتعد عن الممارسة العملية، وذلك على حساب الكثير من النخب الثقافية التي لم تغادر سوريا طيلة الحرب، فيما سعت شخصيات أخرى إلى التقرب من السلطة والدفاع عنها لتحقيق مكاسب شخصية وللحصول على مناصب حكومية.
إلى جانب ذلك أدى الانقسام السياسي بين السوريين\ات إلى تقزيم وتخوين الكثير من الشخصيات المحسوبة على الثورة والتي كانت تُعتبر شخصيات وطنية جامعة، فاليوم أصبح هناك جيوش إلكترونية مهمتها رصد منتقدي أداء السلطة لتقوم، عبر ضخٍ وتحريض شعبي واسع، بالإساءة إليهم وشيطنتهم وقذفهم بعشرات التهم الجاهزة :(فلول نظام، مرتزقة، انفصاليون، عملاء لإسرائيل.. الخ) وهو ما حصل، على سبيل المثال لا الحصر، مع الفنانة يارا صبري بعد انتقادها لبعض ممارسات السلطة، رغم مواقفها الداعمة للثورة، ومع الفنان سميح شقير بعد نشره أغنيته الجديدة مزنر بخيطان التي تحدثت عن المجازر والانتهاكات التي تعرض لها أبناء الطائفة العلوية، رغم تأييد كثير من السوريين\ات لتلك الأغنية التي عدّوها امتداداً للمشروع الفني لشقير الذي يقف في وجه جميع أشكال الظلم والاستبداد. وبالمقابل تخرج اليوم الكثير من أصوات معارضي السلطة الجديدة لتتهم جميع مؤيديها بأنهم سلفيون وتكفيريون ويسعون لاستعادة أمجاد بني أمية. كل ذلك يحدث في ظل تأخُر تطبيق العدالة التي انتظرها الشعب طويلاَ، وفي ظل تنامي الخوف بين أبناء الشعب، وغياب شخصيات وهويات وطنية يمكن للسوريين أن يُجمعوا عليها.
في غياب العدالة الانتقالية
كان من المفترض أن تمثّل الثورة انتصاراً للعدالة، وأن تنصف جميع الضحايا وتعاقب جميع مجرمي الحرب، بغض النظر عن طوائفهم، من خلال تطبيق العدالة الانتقالية وتشكيل محاكم قانونية ونزيهة، وليس من خلال أعمال الثأر والانتقام وإعادة إنتاج الظلم والاستبداد بشكلٍ جديد، الأمر الذي خلق انقساماً كبيراً بين أبناء الشعب السوري وفتح الباب أمام النقاش الثأري فيما بينهم، في ظل تحول الكثير من ضحايا الأمس إلى جلادي وشامتي اليوم. وقد تجلى ذلك كله بوضوح خلال المجاز والانتهاكات التي ارتكبت بحق أبناء الطائفة العلوية في الساحل وحمص وحماة. فبينما رأى البعض أن ما حدث هو جرائم ضد الإنسانية، وعلى الشعب السوري أن يقف برمّته ضدها، خرجت بالمقابل أصوات كثيرة لتُبرر ما جرى تحت ذريعة أن جميع الضحايا هم من فلول النظام، بل خرجت أصوات طائفية وثأرية لتشمت بالضحايا وتدعو لمعاقبة الطائفة، التي تحولت برمتها، بحسب تلك الأصوات، إلى طائفةٍ أسدية وامتداد للنظام، ولا عدالة إلا بقتل أبنائها. تلك الأصوات لم تكتف بذلك بل اتهمت المدافعين عن الطائفة بأنهم أيضاً من فلول النظام، وهو ما حدث خلال الوقفة الاحتجاجية التي أُقيمت في ساحة المرجة للتضامن مع ضحايا المجازر، حيث خرجت أصوات معارضة وقفت بوجه المشاركين، مرددةً هتافات طائفية، ومتهمة إياهم (رغم حملهم لشعارت تتضامن مع شهداء الأمن العام) بأنهم فلول وعملاء، وبأنهم تقاعسوا عن التضامن مع ضحايا مجازر النظام البائد خلال الثورة، ليتطور الأمر إلى عراك بالأيدي، على الرغم من أن معظم المشاركين بالوقفة كانوا من أنصار الثورة ومن المعتقلين.
تلك الجرائم، التي أدت إلى إحداث موجات نزوح وهجرة إلى خارج البلاد، خلقت حالة من التفكك المجتمعي وفقدان الثقة في السلطة الجديدة وخياراتها وممارساتها، في ظل غياب قانون يحاسب مرتكبي الجرائم (التي وُضِعت بمعظمها تحت مسمى الأخطاء الفردية) وتأخر تطبيق العدالة الانتقالية، التي أصبحت في كثير من الأحيان تقوم على مبدأ الثأر والإنتقام بدلاً من العقوبة القانونية. كل ذلكسيؤسس لمظلومية كبيرة لدى أبناء الطائفة العلوية، خاصة مع تسريح الكثير منهم من وظائفهم، وسيعزز حالة الخوف الشعبي من إمكانية تكرار ممارسات النظام البائد بطرق وأدوات جديدة، وسيفاقم حالة الانقسام بين أبناء الشعب السوري.
الخطاب الطائفي يهدد وحدة الشعب
من كان يصدق في بلدٍ عريق كسوريا، أن تسجيلاً صوتياً مجهول المصدر، يتضمن إساءة للنبي الكريم محمد، نَسبه البعض إلى أحد أبناء الطائفة الدرزية، سيعرض الطائفة بأكملها للخطر؟ فعقب انتشار ذلك التسجيل خرجت مظاهرات في عدد من الجامعات السورية، حملت عبارات طائفية وعدائية ضد الطائفة الدرزية وأدت لاعتداءات لفظية وجسدية على طلبةٍ من أبنائها، أعقبها خروج مظاهرات في مدينة حماة ودمشق، دعت لمحاسبة الطائفة وحملت شعاراتٍ عدائية وثأرية، ترافقت مع حملةٍ تحريضية ممنهجة على مواقع التواصل الاجتماعي، طالت بعض المرجعيات الدينية والاجتماعية واتهمتها بالعمالة والإنفصالية، وساهمت في تأجيج الحقد الطائفي والكراهية وتفاقم حجم التوتر في الشارع، ليتطور الأمر إلى اعتداءات مسلحة على أبناء الطائفة من قبل بعض الفصائل غير المنضبطة، بدأت بمحاولة اقتحام مدينة جرمانا وأدت لوقوع اشتباكات على أطراف المدينة مع أبنائها الذين ينتمي بعضهم للأمن العام، أعقبها اقتحاملمدينة صحنايا وارتكاب عشرات الجرائم والانتهاكات، لتنتقل الاشتباكات إلى محافظة السويداء التي تعرضت لعددٍ من الهجمات المسلحة. وقد أدى ذلك كله لسقوط عشرات الضحايا، وتسجيل الكثير من حالة النزوح، وخلو الجامعات السورية من الطلبة الذين ينتمون للمكون الدرزي، بعد أن شعروا بخطرٍ يتهدد حياتهم، في مشهدٍ يعكس خطورة الاحتقان الكامن داخل المجتمع السوري، ويكشف ضعف قدرة المؤسسات الحكومية على حماية السلم الأهلي، خاصةً في ظل وجود أطراف إقليمية راحت تستغل الوضع لتساهم في زرع الشقاق بين السوريين. كل ذلك جعل الكثير من السوريين\ات، وخاصة أبناء الطائفة الدرزية، يشعرون بخيبة أملٍ كبيرة تجاه بعضهم البعض، فخرجت أصوات عديدة لتندد وتعاتب من حرضوا على عقاب الطائفة وتخوينها، فيما خرجت أصوات أخرى لتذكرهم بما قدَّمه أبناء الطائفة لأخوتهم السوريين طوال سنوات الحرب. وبالمقابل خرجت الكثير من الأصوات، التي أغفلت السبب الأساسي للمشكلة، لتبرر ما حصل تحت ذريعة وجود جماعات خارجة عن القانون من أبناء الطائفة الدرزية، ووجود الكثير من السلاح غير المنضبط في حوزتها، ودعوة بعض مرجعياتها الدينية لطلب الحماية الدولية، في مشهد يعكس مدى تفاقم الخلاف والانقسام بين مكونات الشعب.
بالنظر للواقع المؤلم الذي تعيشه البلاد اليوم، يرى كثير من السوريين أنها لن تتعافى إلا بإعادة صياغة هويةٍ وطنية جامعة لكافة أطياف المجتمع، تعلو فوق الصراعات الطائفية والعرقية والمناطقية، وتقوم على الإنتماء الوطني المبني على أسس المواطنة المتساوية، التي تضمن حقوق وكرامة الجميع دون تمييز، ولكن قبل هذا ينبغي أولاً الإسراع في تطبيق العدالة الإنتقالية وتشكيل محاكم عادلة ونزيهة، لمعاقبة مرتكبي الجرائم، وتفعيل دولة القانون وإشراك جميع السوريين في عملية بناء الدولة.
by أوس يعقوب | May 15, 2025 | Cost of War - EN, News - EN, بالعربية, All Reports, Articles - EN
تبرز قضية المقاتلين الأجانب المنتظمين في صفوف عدد من الفصائل المسلّحة الموجودة اليوم على الأراضي السورية، كأحد أبرز القضايا التي وُصفت بـ “الحساسة” في رد القيادة السورية الجديدة على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وهي في نفس الوقت من أبرز القضايا المختلف عليها على الصعيد المحلي والعربي والإقليمي والغربي، في ظل تعقيدات المشهد الأمني والسياسي السوري خلال الشهور الخمسة الأولى للسلطة الحاكمة برئاسة أحمد الشرع، خاصّة بعد مجازر الساحل التي وقعت بين السادس والعاشر من مارس/ آذار الماضي، والتي أعادت فتح العيون على ملف المقاتلين الأجانب، لا سيّما إثر ثبوت ضلوعهم مع فرق محلية -وصفت من قِبل السلطات السورية بـ “غير منضبطة”، بالوقوف خلف المجازر التي خلّفت أكثر من 1600 قتيل مدني غالبيتهم الساحقة من الأقلية العلوية، بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”.
وتحدّث “المرصد” الحقوقي (مقرّه في المملكة المتّحدة)، عن ارتكاب قوات الأمن العام ومجموعات رديفة لها مجازر وعمليات “إعدام ميدانية” بحق الأقلية العلوية، وقعت غالبيتها يومي 7 و8 مارس/ آذار.
وإزاء حساسية هذا الملف الذي يجب حله والبت به سريعاً، جراء وطأة الضغوط المحلية والإقليمية والدولية، التي تضع القيادة السورية الجديدة على محك الاختبار الجدّي لمدى قدرتها على التعامل مع الملفات الشائكة، سعينا في هذا المقال إلى معرفة إلى أي دول ينتمي المقاتلون الأجانب؟ وكم يبلغ عددهم؟ وأين يتوزعون داخل سوريا؟ وما هو مصيرهم مع تضارب الآراء بين الدعوة لدمجهم في المجتمع المحلي، ودعوات لرفض منحهم أي صفة رسمية داخل المؤسّسات الأمنية والعسكرية السورية؟ وكيف ترى الإدارة الجديدة في دمشق صيغة التجاوب مع تخفيف ورفع العقوبات الأميركية لإنعاش اقتصاد البلاد المنهار جراء الحرب التي استمرت لما يقرب من 14 عاماً، والتي فرضت خلالها الولايات المتّحدة وبريطانيا وأوروبا عقوبات صارمة على الأفراد والشركات وقطاعات كاملة من الاقتصاد السوري في محاولة للضغط على الرئيس السابق بشار الأسد؟
وفقاً لتقارير صحافية متعدّدة ومصادر بحثية ومنظّمات معنية بمتابعة ملف هجرة المتطرّفين، فإنّ نسبة المقاتلين الأجانب من مجموع مقاتلي “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، التي سيطرت على زمام الحكم في البلاد بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، تبلغ نحو 30%. وقد جاءت هذه النسبة المئوية على لسان زعيم (جبهة النصرة) في حينها عام 2015 خلال لقاء تلفزيوني، إذ قال أحمد الشرع، الذي كان يعرف بـ “أبي محمد الجولاني” حينها، إنّ “من بين المهاجرين أوروبيون وقلّة أميركية مع وفرة في الآسيويين وتواجد لشيشان وروس وعرب”، وتابع: “هؤلاء أناس مسلمون أحبّوا أن يناصروا أهلهم والإسلام، ولا ينازعون أحداً في ملك أو شيء، وهم يتقدّمون الصفوف الأولى ويقاتلون، وكل الساحة بكل فصائلها تشهد للمهاجرين في شجاعتهم وتقدّمهم”.
وبعد انتصار الثورة السورية، قال الشرع لوسائل إعلام عربية ودولية: إنّ “المقاتلين الأجانب كانوا ركيزة أساسية في النصر، ويجب مكافأتهم لقاء ما بذلوه”، وعليه أجرى خلال وقت مبكر من وصوله إلى الحكم تعيينات وترفيعات لضباط أجانب إلى مناصب عسكرية عليا، شملت رتب عقيد وعميد ولواء، أثارت استغراب وقلق السوريين والقوى الإقليمية والدولية على حدٍّ سواء.
تشير معلومات متقاطعة عن مصادر مطّلعة، أنّ من بين الذين نالوا رتباً عالية كل من “كلمن عبدل بشاري” (خطاب الألباني)، وهو ألباني الجنسية ويقود منذ أعوام “جماعة الألبان” في سوريا، و”ذو القرنين زنور البصر عبد الحميد”، المعروف باسم (عبدالله الداغستاني)، وهو قائد “جيش المهاجرين والأنصار”، والتركستاني “عبد العزيز داوود خدابردي”، والطاجيكي “مولان ترسون عبد الصمد”، والمصري “علاء محمد عبد الباقي”، والطبيب الأردني من أصل فلسطيني، “عبد الرحمن حسين الخطيب”، وكان يعرف سابقاً بلقب (أبو حسين الأردني)، الذي مُنح رتبة عميد، وفي ما بعد عهد إليه قيادة “فرقة الحرس الجمهوري السوري”، وهي فرقة ضاربة في الجيش السوري، عدداً وعتاداً، وإليها تُنسب مواجهات الحدود اللبنانية خلال الأسابيع الماضية. الخطيب طبيب تخرج في جامعة عمان واعتقل هناك بتهمة الانتماء لـ “التيار السلفي” قبل أن يغادر السجن ويتّجه إلى سوريا ملتحقاً بصفوف (جبهة النصرة) عام 2013.
علاوة على هؤلاء هناك التركي “عمر محمد جفشتي” الملقب بـ (مختار التركي)، الذي أسندت إليه مهمة قيادة “فرقة دمشق” أو ما يعرف بـ “حامية دمشق”، وهي فرقة عسكرية ضاربة أيضاً. و”جفشتي”، وعلى رغم أنّه مطلوب من الجانب التركي، فإنّه تولى دور الوسيط في ملفات عدّة بين “هيئة تحرير الشام” والقيادة التركية خلال أعوام الثورة السورية! وقد تولى أيضاً نحو خمسين شخصية أخرى من قيادات المقاتلين الأجانب مهام ومسؤوليات أقل في “غرفة العمليات العسكرية” لكن خروج أسماء التعيينات اللاحقة لـ “مؤتمر النصر” شكّل مزيجاً من صدمة وخيبة للسوريين بمختلف أطيافهم من جهة، ولأوساط المراقبين للشأن السوري من جهة ثانية، وللغرب الذي رأى بعض مسؤوليه في عدد من التعيينات تحدّياً للمجتمع الدولي، على قاعدة أنّ بعض من تسلّم المناصب الكبرى مدرج على لوائح العقوبات الأوروبية والأميركية، ومدان بمجازر حرب وإبادة وجرائم ضد الإنسانية.
- خريطة تمدّد المقاتلين الأجانب في الأراضي السورية
نظراً إلى السرية الواسعة التي كانت تحيط بملف المقاتلين الأجانب في سوريا، فقد كان يصعب-ولا زال استخلاص أرقام دقيقة لعددهم، فيما ترجّح التقارير الصحافية أن يكون بالآلاف.
وبحسب تلك التقارير، يبرز عناصر الإيغور (تركستان) كأوسع وأكثر شريحة تشدّداً في صفوف المهاجرين، ومعظمهم منظّم في صفوف “هيئة تحرير الشام”، وترجّح مصادر مطّلعة أن يراوح عددهم ما بين 1500 و2000 مقاتل من دون إحصاء رسمي. ويتمركزون بصورة أساسية داخل مدن جسر الشغور في ريف إدلب وداخل جبلي التركمان والأكراد شرق محافظة اللاذقية شمال غربي سوريا. وينشطون تحت اسم “الحزب الإسلامي التركستاني”، وحيالهم تبدي الصين تخوّفات وتهديدات ومواقف حاسمة لخصوصية ملفهم القومي في سياق محاربتها للإرهاب وخشيتها من إعادة تصديرهم.
وتضم كتيبة “فرقة الغرباء” بين 300 إلى 400 مقاتل من الطاجيك والأوزبك، واندمجت مع “هيئة تحرير الشام” عام 2017، وأسهمت معها في معاركها تحت مسمى “لواء عمر بن الخطاب”.
ويقدّر عدد كتائب “أجناد القوقاز” بالمئات، وهم من جنسيات شيشانية توزعوا بين كتيبتي “أجناد القوقاز” و”جند الشام”. كذلك هناك “ملحمة تاكتيكال” التي تضم مقاتلين إيغور شديدي التدريب والخبرة ويطلق عليهم اسم “العصائب الحمراء”.
وهناك تنظيم حراس الدين (فرع القاعدة) تأسّس عام 2018 من مقاتلين أتراك وعرب من تونس ومصر والأردن والمغرب وغيرها، وما زالت حتى اليوم تستهدف قوات التحالف الدولي تحركاتهم في مدينة إدلب، إضافة لمهاجرين تركمان وغيرهم تأسّسوا عام 2013 وانضموا إلى كتائب متفرقة، وجميعها شاركت في معركة “ردع العدوان” (التي بدأت في شمال سوريا ثم وصلت دمشق في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024)، والتي شاركت في إسقاط نظام بشار الأسد.
ومع الإطاحة بالأسد، تحرّرت تلك الكتائب جغرافياً وتمكّنت من الخروج جزئياً من ريفي إدلب وحلب والتمركز في جبهات أبعد على الخريطة السورية، فقد استقرّت كتائب أجنبية في ريف جبلة قرب اللاذقية، وفي مناطق متفرقة من اللاذقية وريفها وقرب قرية الحميدية جنوب محافظة طرطوس الساحلية، وفي مناطق مجاورة للعاصمة دمشق ومحافظتي حمص وحماة وسط البلاد، متّخذة من معسكرات لكتائب وألوية سابقة للجيش المنحل مقاراً لها، وجميعها تُنسب إليها الاستفزازات والانتهاكات وحالات القتل والخطف والسلب التي يتعرّض لها أبناء وبنات الطائفة العلوية بالدرجة الأولى، إضافة لوجودها المستمرّ في إدلب وحلب بصورة رئيسة.
من المطالب الأميركية الثمانية من القيادة السورية الجديدة لـ “بناء الثقة” بين البلدين، والبدء في تخفيف العقوبات وإعطاء رخصة لمدّة سنتين، مطلب ذو صلة مباشرة بملف المقاتلين الأجانب، وهو “تشكيل جيش مهني وعدم وضع أيّ من المقاتلين الأجانب في مناصب قيادية أو أمنية حساسة داخل أجهزة الدولة السورية”، وذلك بحسب ما جاء في رسالة تسلّمها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني من نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركي، ناتاشا فرانشيسكي، في لقاء جمعهما على هامش “مؤتمر المانحين لسوريا” في بروكسل في 18 مارس/ آذار الماضي.
الردّ السوري على مطالب الإدارة الأميركية، جاء برسالة مكتوبة بعثت بها الخارجية السورية إلى واشنطن، قالت فيها إنّها طبقت معظم المطالب، لكنّ البعض الآخر يتطلّب “تفاهمات متبادلة” مع واشنطن، التي عكفت بدورها على دراسة ما ورد بالرسالة.
وتعهدت سوريا في رسالتها بإنشاء مكتب اتصال في وزارة الخارجية مهمته البحث عن الصحافي الأميركي المفقود أوستن تايس، كما تورد بالتفصيل إجراءاتها للتعامل مع مخزونات الأسلحة الكيماوية، ومنها تعزيز الاتصال بمنظّمة حظر الأسلحة الكيماوية. لكن الرسالة لم تورد الكثير من التفاصيل عن مطالب رئيسة أخرى، مثل إبعاد المقاتلين الأجانب والسماح لأميركا بشن ضربات لمكافحة الإرهاب.
بحسب وكالة “رويترز”، فقد أكدت الرسالة التي تم توجيهها في 14 أبريل/ نيسان المنصرم، أنّ المسؤولين السوريين ناقشوا مسألة المقاتلين الأجانب مع المبعوث الأميركي السابق دانيال روبنستاين لكنّ المسألة “تتطلّب جلسة مشاورات أوسع”.
كما ذكرت الرسالة أنّ ما يمكن تأكيده في الوقت الحالي هو أنّ إصدار الرتب العسكرية تم تعليقه بعد الإعلان في وقت سابق عن ترقية عدد من الضباط الأجانب في مناصب عليا بالجيش السوري، في إشارة واضحة إلى تعيين ضباط أجانب في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. ولم تذكر الرسالة ما إذا كان قد تم تجريد هؤلاء الضباط الأجانب من الرتب التي حصلوا عليها، ولم تشر أيضاً إلى الخطوات التي سيتم اتّخاذها في المستقبل.
وذكرت الخارجية السورية في رسالتها أيضاً، أنّها تأمل في أن تؤدّي الإجراءات المتّخذة، التي وصفتها بأنّها “ضمانات”، إلى اجتماع لمناقشة كل نقطة بالتفصيل، بما في ذلك إعادة فتح السفارات ورفع العقوبات.
وقالت المندوبة الأميركية لدى مجلس الأمن، دوروثي شيا، في 25 الشهر المنصرم، إنّ السلطات الجديدة في سوريا مسؤولة عن مكافحة الإرهاب، وعدم الاعتداء على دول الجوار، وإبعاد المقاتلين الأجانب.
“رويترز” نقلت عن مصدر مطّلع على نهج الحكومة السورية بهذا الشأن، عقب توجيه الرسالة للإدارة الأميركية، أنّ دمشق ستؤجل التعامل مع هذه القضية قدر الإمكان نظراً لأنّها ترى أنّ المقاتلين الذين ساعدوا في الإطاحة بنظام الأسد من غير السوريين يجب أن يعاملوا معاملة حسنة.
ورغم جهود دمشق المعلنة، لاحظ مراقبون وجود بعض الثغرات في رسالة الخارجية السورية، أبرزها عدم تقديم تفاصيل دقيقة بشأن خطط إخراج المقاتلين الأجانب من سوريا، أو آلية التعاون العملي مع واشنطن في تنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب. وتبقى هذه القضية وغيرها من القضايا العالقة بمثابة اختبارات حقيقية أمام أيّ تقدّم في المحادثات غير الرسمية بين الطرفين.
تحدّيات وعوائق متعدّدة تقف أمام القيادة السورية الجديدة، لجهة إعادة بناء جيش سوري وطني جامع يمثّل جميع السوريين بكافة طوائفه ودياناته وأعراقه، وقد جاء تعيين قائد الإدارة السياسية أحمد الشرع، للقائد العسكري لـ “هيئة تحرير الشام”، المهندس مرهف أبو قصرة، وهو من خارج المؤسّسة العسكرية، وزيراً للدفاع، بعد التشاور مع قادة فصائل المعارضة السورية، التي انضوت في عملية “ردع العدوان” دون بقية الفصائل، سواء في “الجيش الوطني”، أو في درعا والمنطقة الجنوبية، ما أثار حينها مخاوف من استئثار “تحرير الشام” بالسلطة، لا سيّما أنّها وضعت قياديين فيها، في مفاصل القرار السياسي والاقتصادي ولاحقاً العسكري، منذ تسلّمها السلطة في البلاد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024.
منذ اليوم الأول لتسلّمه وزارة الدفاع وجد مرهف أبو قصرة نفسه في مواجهة ملفات عسكرية معقدة، لعلّ أبرزها ملف دمج عشرات الفصائل التي ينضوي أغلبها في “الجيش الوطني السوري”، الذي شكّلته تركيا قبل أعوام عدّة، في الجيش السوري الجديد للقضاء نهائياً على الفصائلية التي تُعدّ بمثابة قنبلة موقوتة سيؤدّي انفجارها إلى تأزيم الأوضاع الأمنية. وكذلك ملف استيعاب المقاتلين الأجانب في الجيش السوري المقبل، بالإضافة إلى تركة ثقيلة تركها النظام المخلوع الذي حوّل الجيش إلى مليشيات تقاتل من أجل بقاء بشار الأسد في السلطة لا أكثر.
باحثون عسكريون وضباط منشقّون عن جيش الأسد يرون، أنّ أهم التحدّيات التي ستواجه وزارة الدفاع السورية المقبلة، هي “إعادة هيكلة الجيش وتنظيمه على أسس سليمة، خصوصاً أنّ القدرات والمقدرات التسليحية البرّية والبحرية والجوّية قد دمّرها الجيش الإسرائيلي بنسبة قد تصل إلى أكثر من 80%. وأنّه يجب دمج الفصائل في الجيش السوري بشكل مدروس جيداً، وأن يكون كاملاً، بحيث ينصهر الجميع في المؤسّسة المقبلة، ولا يكون دمجاً شكلياً بحيث تبقى بعض الفصائل بمسمّياتها الحالية ويكون ولاؤها لقائد الفصيل أو لقوى خارجية أو إقليمية”.
كما تبرز معضلة التعامل مع مصير صفّ الضباط والضباط المنشقّين عن جيش الأسد خلال سنوات الثورة، وإعادة الاعتبار لهم ومنحهم حقوقهم المادية والمعنوية المصادرة منذ بداية انشقاقهم، وترفيعهم إلى الرتب التي يستحقونها، ودمجهم في الجيش المزمع تشكيله من قِبل وزارة الدفاع في الحكومة السورية الجديدة.
by طارق علي | May 11, 2025 | Cost of War - EN, News - EN, Reports - EN, العربية, بالعربية, All Reports, Articles - EN
مع بداية تواتر انشقاق الضباط والعناصر عن الجيش السوري النظامي عقب اندلاع ثورة آذار/مارس 2011، بدأ ينمو حلمٌ كبير لديهم بأنّ أمامهم فرصةً تاريخية لإعادة بناء مؤسسة عسكرية ذات عقيدة وطنية راسخة وجامعة وغير متورطة بسفك الدم السوري أو التغول على أفراده، مؤسسة تحمي حدود البلاد وأمنه وتحفظ وحدته وتقوم على سيادته واستقلاله ودرء محاولات الفتنة داخله وصدّ أي عدوان قد يحمله الخارج.
بذلك سلّم الضباط واستسلموا لأحلامهم تاركين خلف ظهورهم رتبهم العسكرية بما فيها من نجومٍ ونسورٍ، تاركين الامتيازات والأفضلية والقدرة على الترقي والصعود الإضافي في سلم التراتبية العسكرية بما يحمله من امتيازات إضافية. ذهبوا للمجهول في رهان على الحاضر المحمول على الوعي الشعبي الرافض لوجود الأسد في سني الثورة الأولى وتصاعد المعارك التي أبوا أن يكونوا جزءاً مشاركاً فيها ضدّ أبناء جلدتهم. انتظروا بعد ذلك، انتظروا كثيراً، حاربهم جيش النظام، حاربتهم النصرة، حاربهم داعش، حاربتهم مختلف الفصائل، حتى أنّ بعضها تخلى عن مواجهة النظام وتفرغ لمحو أثر الجيش الحر. ظلّوا صابرين ومحاولين المرابطة ما أمكن بانتظار فرجٍ كانوا أول من بشر به وأكثر من فرح به مع سقوط النظام السوري وبشار الأسد في فجر الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، لكنّ ما حصل بعد ذلك جاء مغايراً، مخالفاً، صادماً، وغير متوقع إطلاقاً بالنسبة لهم، فتحرير طال انتظاره عمد إلى تهميشهم بشكل فاضح لا يرقى لمكافأة ثوريين شرفاء في أحيانٍ كثيرة.
التفوق العقيدي الشرعي
كانت الصدمة الأولى لأولاد المدرسة العسكرية النظامية من المنشقين مع تركزهم في مناطق شمال سوريا عقب قضم النظام السابق للمناطق واحدةً تلو الأخرى، وهناك شاهدوا وشهدوا على عقيدة قتالية مختلفة تماماً عما عهدوه، عقيدة لم تكن وطنية خالصة، حتى أنّها لم تحظ بالشكل الحداثي لإنشاء الجيوش الوطنية، بل كان يغلب عليها الطابع الأيديولوجي المغلق والمعلق على مرجعية شرعية إسلامية صارمة وحازمة لها منظروها وقادتها ومعتنقوها.
على رأس تلك القوى كانت “هيئة تحرير الشام” التي تحولت من داعش إلى النصرة فالهيئة بحدود عام 2016 ضمن تحول براغماتي يحمل رسائل دولية عميقة، ورغم ذلك لم تتخل عن عقيدتها التعبوية القائمة على القول الشرعي: “المقاتل ذو القضية هو ذاك الذي يحمل السلاح في سبيل إقامة شرع الله، لا في سبيل القتال من أجل (وطن) محدود أو دفاعاً عن دولة محددة بعينها”.
وزير الداخلية الحالي: المنظّر الجهادي السابق
في خضم تلك الأحداث ومع موجة بروز الشرعيين والأمراء في الهيئة بدأ يظهر اسم أنس خطاب حاضراً بقوة في صفوف الهيئة داخل إدلب، أنس الذي بات وزير الداخلية السوري في الحكومة التي شكلها الشرع أواخر آذار/مارس الفائت، بعد أن كان تسلّم منصب مدير الاستخبارات العامة في الأشهر التي سبقت تشكيل الحكومة الانتقالية. وكان الرجل إياه صاحب الأساس المركزي في تشكيل تلك العقيدة الشرعية السابقة، انطلاقاً من وجهة نظرٍ تؤكد أن الوطنية بمفهومها الطبيعي المتعارف عليه تشكل طعنةً وخيانةً للإسلام، وفي هذا الإطار وضع واحداً من أشهر مؤلفاته البحثية الكثيرة حول الجهاد والدولة، والذي حمل اسم: “حكم الانتساب للجيوش والجماعات الوطنية“. وفيه يقول: “الانتساب إلى الجيوش الوطنية التي تخدم الأنظمة الظالمة، يعني الخروج عن طريق الجهاد في سبيل الله والاقتتال من أجل مصلحة الأوطان بدلاً من مصلحة الأمة الإسلامية”. خطاب يرى أن الجيوش النظامية التي تحارب من أجل “دول” و”أوطان” ليس لها مكان في الفكر الجهادي. ويؤكد في موضع آخر: “الوطنية مذهب مستورد من أعداء الإسلام، يهدف إلى صرف المسلمين عن الولاء لله ورسوله، وتفتيت وحدة الأمة الإسلامية.”
اعتبر أيضاً أنّ أي ارتباط بالجيوش الوطنية كفر. وقد قال في هذا السياق: “الانتماء إلى الجيوش الوطنية التي تخضع لأنظمة علمانية أو قومية يُعد خيانة لله ورسوله”.
إرث الثورة الثقيل
الرؤية التنظيرية الجهادية العابرة للحدود والقارات كانت الطعنة التي منعت الضباط المنشقين من تسلّم أي مناصب قيادية أو حتى إيجاد موطئ قدمٍ يعتد به داخل جسد الجماعات الجهادية في الشمال والشمال الغربي من الأراضي السورية (ريف حلب وإدلب). وبناء على ذلك تمّ إقصاؤهم عن المشهد العسكري الفاعل مع اتهامات طالت بعضهم بخيانة العقيدة القتالية نفسها، فتراجعوا نحو المخيمات ودول المهجر منفكين قسراً عن التفكير من جديد بإعادة بناء جيش وطن. أحد أولئك الضباط الذين انشقوا عام 2012 قال في حديث لـ “صالون سوريا” طالباً عدم الكشف عن اسمه: “لم يعد هناك قيمة لابن الأرض، صرنا محض لاجئين في بلد دافعنا عنه بمآقي العيون، اليوم لا مكان لنا أمام الأفكار العابرة للحدود”.
يخشى بعض الضباط المنشقين من تبعات انتقامية في حال ظهور تصريحاتهم بأسمائهم الحقيقية، لذا سيستعمل “صالون سوريا” اسماً مستعاراً وهو سامر لضابط منشق برتبة رائد قال: “نحن في عزلة عن مجريات الأحداث، لا أحد يريد إشراكنا، لم تعد هناك فرصة أو وقت أو إمكانية أو أمل في بناء جيش وطني ذي عقيدة قومية خالصة، الآن زمن الأجانب الذين يتولون القيادة، الأجانب القادمين من الأراضي البعيدة، هؤلاء إرث الثورة الثقيل، الثقيل عليها وعلى قادة البلد الحاليين”.
بين العقيدة الجهادية والولاء الوطني
بعد سقوط نظام بشار الأسد واجه النظام الجديد معضلة في التفاضل بين أصحاب العقيدة الوطنية التقليدية، وأصحاب العقيدة العابرة للحدود، فمالوا نحو الأخيرة نظراً لما أبدته من شراسة وولاء خلال سنوات الثورة. وقد عبر الشرع ذاته عن ذاك حين أشار مؤخراً في لقائه مع صحيفة “نيويورك تايمز” إلى إمكانية تجنيس بعض أولئك المقاتلين لما أبدوه من تواجد وثبات إلى جانب الثورة خلال مراحلها الطويلة. وفي هذه السياق، نجد أن خطاب في مؤلفاته لا يكتفي بانتقاد الوطنية، بل يذهب أبعد من ذلك عندما يشير إلى ما يراه تحريفًا للمفاهيم الإسلامية من خلال الانخراط في الجيوش النظامية، حيث يرى أنّ “من يقاتل في سبيل فكرة وطنية ليس أكثر من أداة في يد الطواغيت الذين يزعمون أنهم يدافعون عن حدود مصطنعة بين المسلمين”.
لا يمكن فصل الرؤية الجهادية للهيئة التي تمتلك بين جناحيها زهو 7500 مقاتل أجنبي عن السياق العام الذي جعل خطاب يؤكد في مؤلفه المذكور أنّ المنشقين غير قادرين على التمييز بين العقيدة الجهادية والولاء الوطني. وعليه، ومع تعيينات الانتصار التي قادتها “هيئة تحرير الشام” أصبح قائد الحرس الجمهوري أردنيًا من أصول سلفية جهادية، وقائد حامية دمشق (فرقة دمشق) تركيًا، مع ما يزيد عن 50 تعيينًا أجنبيًا في قيادة العمليات العسكرية. وترفيع عددٍ من الأجانب لرتب عسكرية عليا، فيما تضاءل دور الضباط السوريين الذين بقوا في المناصب الشكلية غير المؤثرة فعلياً أو الذين تم تهميشهم عملياً.
الأمر برمته لم يمكن مرتبطاً بمسألة بناء قوة قتالية وحسب، بل بما هو أبعد من ذلك لناحية الضمان الفكري والأيديولوجي المبني على الولاء الشرعي ما فوق الوطني، وذلك لأنّ “المجاهد الحق” لا يقاتل من أجد “الحدود” أو “الدولة” بل من أجل إقامة “شرع الله وحدوده”. ويجسد خطاب ذلك الاعتقاد في قوله ضمن مؤلفه في “حكم الانتساب للجيوش”: “القتال من أجل الوطن هو فكرة ضالة، والأمة لا تتحقق بالحدود المصطنعة التي يفرضها أعداء الإسلام”.
وما الشام إلّا بداية “الفتح المبين”
يبدو الواقع في سوريا اليوم زجاجياً للغاية، مهيأ للتحطم في أي ثانية أو مفترق، يعكس تحولاً خطيراً في بنية بناء ما بعد التحرير وسط سيل تساؤلات عن سوريا المستقبل مع الأخذ بعين الاعتبار الضغوط الأميركية المتنامية ذات الشروط الثمانية لرفع العقوبات الجزئي عن سوريا، ومن بين أبرزها تحييد الجهاديين وإبعادهم عن المشهد. ويزداد الأمر تعقيداً في الحين الذي يبدو فيه أن “الجيش الوطني الجديد” هو جيش يملك في حيز واسع منه عقيدةً جهادية إقصائية تتمثل في فصائل مرتبطة بوزارة الدفاع ولا تمتثل لأوامرها ولا تتوانى عن ارتكاب المجازر والانتهاكات. وأبرز مثال على ذلك المجازر التي ارتكبت ضد علويي الساحل ودروز الجنوب الحاضرة بقوة كملف يزيد الضغط على الحكم الانتقالي القائم حالياً بفعل الابتزاز السياسي الدولي. يضاف لكل ذلك أنّه لم يعد يمكن التعامي عن أنّ الجيش السوري الآن هو من لونٍ واحد، وفكرٍ واحد، وأيدولوجيات مقلقة، ايدولوجيات يمكن أن تكفّر الشرع ذاته لانفتاحه على الغرب في تحول براغماتي تحتاجه سوريا فعلاً، مع خلعه عباءة الماضي الجهادي ونفض غبارها وارتداء البزة الرسمية وتصريحه المتكرر أنّ الثورة انتهت وحان وقت بناء الدولة بالعقلية الجامعة لأبنائها، وهو ما لا يعيره الجهاديون أي انتباه ضمن مشروعهم الجهادي الواسع، فالتركتساني والإيغوري والشيشاني والعشرات الذين ينتمون إلى جنسيات أخرى لا تعنيهم تلك البنيوية الحتمية لإعداد مشروع صياغة شكل “دولة” إذ إنّ حلم “الخلافة” لا زال يطارد أحلامهم، وما الشام إلّا بداية “الفتح المبين” بناء على تواصل مباشر متعدد مع مقربين من أولئك المقاتلين.
الظاهر والباطن
ورغم الاعتراف الواسع ببراغماتية وانفتاح المستوى السياسي السوري الأعلى على القضايا المحلية والإقليمية والدولية من منظور دولة قائمة تسعى لكسب الشرعية، يبقى تحدي الخلفية الجهادية للمقاتلين الأجانب ماثلاً، وتبقى الأيديولوجية الداعمة لهذا التوجه والتي يؤكدها خطّاب ضمن المؤلف التنظيمي المذكور سلفاً قائلاً: “القتال من أجل الوطن هو فكرة ضالة، والأمة لا تتحقق بالحدود المصطنعة التي يفرضها أعداء الإسلام”.
وعليه، يرى الضباط المنشقون (وهم بحدود سبعة آلاف ويزيد عدا عن العناصر) أنّ هذا الموقف، إذا استمر في الهيمنة على القرار العسكري في سوريا ما بعد الأسد ولو من تحت الطاولة، أو في باطن الأفكار، فقد يُفضي إلى المزيد من العزلة السياسية والعسكرية، ويعرّض سوريا لخطر فقدان هويتها الوطنية الجامعة لصالح فكر جهادي لا يعترف بالحدود الجغرافية أو الوطنية.
لكلّ مرحلة خطابها
بناء على كل ما سبق، فإنّه لا يمكن التغاضي عن الآثار المستقبلية لهذا التوجه القاعدي في هرم السلطة التي قد تصبح ذاتها بوابة عبور نحو معركة داخلية–خارجية لا تعترف في لحظة بالحدود والجغرافية والمواثيق والأسس والمعاهدات والعيش المشترك أو التشاركي، وحينها يصير الاحتكام إلى المرجعيات الدينية المهيمنة أساساً لا يمكن تجاوزه، وسبيلاً مفروشاً بالزهور لنمو قوى كداعش من جديد. سوريا اليوم في ظلّ معادلة شديدة التجاذب بين جيش سابق جرى تسريحه بالكامل، وجيش من المنشقين تم الاستغناء عن خدماتهم ويرزحون تحت مظلومية كبرى تضحي بمستقبلهم السياسي والعسكري، وجيش جهادي لا يملك البذور الوطنية لرؤية سوريا الجديدة.
وفي هذا الإطار يقول الخبير الدبلوماسي ماهر سمارة لـ “صالون سوريا”: “سأكتفي بالقول إن الشرع محاط بالألغام كيفما اتجه، تفكيك الحاضنة الجهادية أمرٌ شبه مستحيل، الرئيس الجديد من خلال تحليل سياقات خطاباته ولقاءاته يبدو منفتحاً ومتمسكاً بمشروع شامل وجامع، ويحيط به على المستوى الأقرب في الدائرة الضيقة أشخاص يشاركونه التوجه، ومن أبرزهم الشيباني وزير الخارجية، وأبو قصرة وزير الدفاع، وخطاب وزير الداخلية نفسه رغم كل مؤلفاته الجهادية، ولكنّ الجميع الآن مؤمن أنّ لكل مرحلة خطابها ولكلّ زمانٍ دولة ورجال، فمرحلة إدلب وعزلتها كانت تفرض أسلوباً في التعاطي العقائدي المختلف تماماً عن حال حكم سوريا بأكملها حالياً، وهذا الدرس الأكبر الذي يجب التعويل عليه، فما بعد التحرير يجبّ ما قبله.”
by مفيد عيسى أحمد | May 7, 2025 | Cost of War - EN, News - EN, العربية, بالعربية, All Reports, Uncategorized, Articles - EN
في بداية عام 2017 أنهيت زيارة لقرية “كوكب” الواقعة في “ضهر الزوبة” في بانياس والتابعة لقرية البساتين، وكان لي أن أعود باتجاه طرطوس سالكاً طريقاً من اثنين: إما عبر قرية الزوبة ثم الخريبة وضهر صفرا، ثم الروضة؛ لأصل إلى الطريق السريع بين طرطوس واللاذقية، وإمّا عبر الطريق الثاني الذي ينحدر في قرية البساتين ليصل مباشرة إلى الطريق السريع، وهو طريق أقصر وأسهل من الطريق الأول لكنه مقلق ويلزمه الحذر كما قيل لي والسبب أن أهل البساتين “سنّة” وهم معارضون في أغلبهم.
في ذلك الوقت كان يبدو أن النظام في سورية قد انتصر وأن المعارضة بصفتها السنيّة الغالبة قد خاضت معركتها وهُزمت، لكن سكان القرى العلويين المحسوبين على النظام، ما زالوا يتجنبون الاحتكاك بهم.
سلكت طريق البساتين بناء على تطمين من كنت ضيفاً عندهم، فقد قال صاحب البيت: “عم، لن يتعرّض لك أحد، أهل البساتين طيبون، عشنا وإياهم دهراً ولم يتعرض أحد للآخر إلى أن حدث ما حدث” وهو بذلك يشير إلى ما جرى من قتل في قرى البساتين والبيضا، وقد أكّد لي أن أهل “كوكب ” لا علاقة لهم به، فالذي ارتكبه هم مجموعات قدمت من الشمال تابعة لـ”هلال الأسد” الذي قُتل فيما بعد في معركة شمال اللاذقية.
انحدرت في قرية البساتين، وبعد أن قطعت مسافة قصيرة توقّف رجل على يمين الطريق؛ قبل أن أصل إليه بخمسين متراً وحياني بطريقة لن أنساها أبداً، انحنى انحناءة خفيفة ورفع يده إلى محاذاة رأسه بما يشبه التحية العسكرية وغض بصره عني.
تكررت التحية أكثر من مرة مع أكثر من شخص وكلما سلكت ذلك الطريق. تلك التحية التي يمكن تسميتها تحية الخوف والانكسار، قد تركت في نفسي أثراً وأسفاً عميقاً، فقد أحزنتني وضايقتني، ذلك الضيق الذي يتأتى من ضيم لا ترضاه، لكن لا تملك حياله شيئاً.
لسنا بصدد الكلام عن أسباب المجزرة التي حدثت حينها والتي قيل إنها رد فعل عما اقترفه أهالي البيضا والبساتين بحق عسكريين ومدنيين تم قتلهم هرساً في معصرة زيتون، وعلى ما حدث في بانياس البلد، كقتل “عماد جنود” وهجوم جسر القوز على رتل الجيش.
لكن عليّ أن أذكر نقلاً عن شهود عيان أن ضحايا تلك المجزرة كان الكثير منهم من الأبرياء ومن مؤيدي النظام حينها أو من الحياديين الذين لم يكن لهم موقف سياسي معلن من النظام أو الحراك السياسي الذي اعتمل في سوريا ومنها بانياس، أولئك الذين اختاروا الاهتمام بحياتهم اليومية وعدم الانجرار إلى أي نشاط سياسي أو فعل راديكالي.
أحد شهود العيان روى لي أن أحد أهالي البساتين كان يعمل على جرار في حراثة الأرض في قرية “كوكب” أوقف جراره ليعود إلى البساتين، حاول من روى لي (وهو علوي) وأشخاص آخرون منعه من العودة وإبقاءه لحمايته، لكنه أصر على العودة وهو يقول: “لم أفعل شيئاً ولست ضد الدولة، ولا يمكنني أن أترك أهلي.” ترك جراره وذهب ولم يعد أبداً.
وروى لي آخرون أنه تم إرسال تحذير من أهالي قرية كوكب “العلوية” إلى أهل البساتين والبيضا بأن هجوماً على وشك أن يقع على القريتين لا علاقة لهم به، وعليهم أن يكونوا حذرين.
تجاوب مع التحذير من تورّط في أعمال دموية ومظاهرات وهربوا، وبقي من لم يرتكب شيئاً لظنهم أنه لن يطالهم سوء، وهم من صاروا ضحايا.
قِيل الكثير عما حدث في سياق هياج جمعي يحدث عادة في مثل هذه الظروف، حيث لم يتم التمييز بين البريء والمذنب، فالكل مذنبون في نظر القتلة، المرأة التي التجأت إلى خم الدجاج لتختبئ مع أولادها وقُتلت، شيخ الجامع صاحب الموقف المعتدل الرصين، معلم المدرسة المنفتح…
هذا الهياج نفسه هو الذي حكم ما جرى في المذابح الأخيرة التي ارتكبت بحق العلويين في بانياس وجبلة واللاذقية، وفي حمص وقرى حماه وغيرها، مع فارق لا بد من ذكره وهو الدافع ومعطيات المرحلة.
ارتكبت تلك المذابح وما زالت بسبب مباشر هو تذرّع من ارتكبها بمحاولة انقلاب قام بها كل من “غيّاث دلا” و”مقداد فتيحة” كقادة لفلول النظام البائد. والمفارقة أن تحدث تلك المحاولة في قرية تبعد عن العاصمة ثلاثمائة كيلومتر، وقد ادعى من قال بذلك أنّ تلك المحاولة كانت تضم قسد والدروز، غير أنه بعد يومين من المذبحة تم توقيع اتفاق بين الشرع وعبدي، ومن غير المعقول أن يتم توقيع اتفاق في ظرف كهذا، ووضع سياسي حاد ومصيري حيث أحد الطرفين يسعى لإنهاء الآخر بهذه السرعة.
السبب غير المباشر والأقرب للواقع؛ هو الرغبة بالثأر والانتقام ممن يُعتبر حاضنة للنظام البائد، والحاضنة المقصودة هنا طائفية وليست سياسية، تلك الرغبة المخبوءة كالجمر تحت الرماد والتي تنفخ عليها من وقت إلى آخر أحداث وتداعيات خاصة في سنوات الحراك السياسي الأخيرة التي أزكت التناقضات السياسية وجعلتها أكثر حدة وبلبوس طائفي واضح.
بخصوص ذلك نُشرت بعض الخرائط شاهدت إحداها على شاشة إحدى الفضائيات العربية في عام 2011 وقد كتب على منطقة الساحل السوري “Killing zone“ منطقة القتل، وهذا يؤكد ما كان مبيتاً للمنطقة الساحلية.
التخطيط لما ارتكب في هذه المجازر كان واضحاً رغم التسويق الإعلامي لها بأنها أتت نتيجة “فزعة”، وهذه الكلمة بالذات تحمل معنى تراحمياً اجتماعياً يشي بطبيعة من استخدمها وتجاوب معها، كأنهم فعلوا ذلك لدرء خطر محدق داهم وهي سمة غالبة في المجتمعات البدوية.
الأكثر تأثيراً كانت الدعوة إلى الجهاد ذات البعد الديني التكليفي- فرض عين- وقد انطلقت من مآذن الجوامع في عدة مدن سورية، وتمّ بثّ هذه الدعوة وصور للتجمعات التي تآلفت تجاوباً معها بشكل مباشر على قناة الجزيرة، بالصوت والصورة، فتعالت صيحات وشعارات صريحة وبحماس واندفاع شديد تدعو إلى ذبح العلوية والقضاء عليهم.
المذابح التي ارتكبت ووثقت كانت دموية مفرطة وقاسية جداً، وفق شهادات لمن بقي حياً كان القتل يتم بعد سؤال الضحية “أنت شو؟”، رغم أنهم يعرفون انتمائهم الطائفي، لكن للسؤال هنا بعداً آخر هو الإذلال والتشفي قبل القتل.
روت زوجة المهندس “نبيل حبيب” أنهم دخلوا المنزل وسألوا زوجها بأسلوب فظ: “شو دينك؟” أجاب: “أنا مسلم.” أردفوا: “مسلم شو؟”
أجاب: “مسلم…” وصمت، ردوا بعنف: “مسلم سني أم علوي؟”
قال بهدوء: “علوي…”
ضربوه بأخمص البندقية وصرخوا: “إلى السطح.. اطلع عالسطح يا خنزير،” حيث حدثت المقتلة له ولجيرانه.
ضحايا المجازر كانوا أبرياء، تم انتقاؤهم من كوادر علمية واجتماعية وفق معلومات وتوجيهات حددت مكانهم وانتماءهم، وكأن القتل كان محملاً على الخريطة، إضافة إلى القتل العشوائي، فأول من قتلوا عجوزاً عمره ستة وثمانون عاماً، تصادف أن وجد في طريقهم، “قرب كراجات السرافيس”.
الصحافية ثناء عليان روت كيف قتلوا زوجها، فقد كتبت تنعيه على صفحتها “زوجي لم يكن فلولاً ولم يقاتل أحداً.. دقو الباب ولما فتح سألوه: أنت علوي أم سني؟ وبناء على جوابه تم قتله بدم بارد بعد أن أخذوا سيارته وموبايلي وموبايله… رحمة الله عليه رحمة واسعة..”
المفارقة أنه تم قتل امرأة خنقاً لجأت إلى خم الدجاج كما حدث في البيضا، ولكن في قرية “بصيرة الجرد” على أطراف جرد صافيتا.
في خضم ذلك الهياج الذي نتج عنه القتل وحرق المنازل والسيارات والتنكيل بالضرب وغيره، لا بد من ذكر ما هو إيجابي؛ المتمثل بمبادرة عائلات سنيّة لحماية المستهدفين العلويين. والغريب أن هناك عناصر من الفصائل الذين قدموا مع من ارتكب المذابح عملوا على نجاة عدد من الأهالي العلويين، وهناك حالات توثق ذلك، فمثلاً أحد عناصر الفصائل نقل بسياراته عائلات من القصور ساحة الذبح إلى مساكن المصفاة، وآخر حمى بناية بأكملها بالإدعاء أن ليس فيها أحد، وحوادث أخرى. توثق ترحيل أهالي خلسة.
حادثة لها دلالاتها المختلفة روتها تلك الأم التي وضعت مولودها قبل أوانه وكان لا بد له من حاضنة في مشفى بانياس الوطني، وهي من قرية علوية، اقتربت منها ممرضة سنيّة وقالت لها: “لا تقولي إنك علوية، سيقتلونك ويقتلوا الطفل، قولي إنك سنيّة.” ومضت لتجلب لها حجاباً وضعته على رأسها. هذا يوضّح فرقاً واضحاً وهو أن الهياج الطائفي وصل إلى حد الرغبة في إفناء الآخر “العلوي” والغريب والمؤسف أنه شمل الطبقة المثقفة والأكاديمية، فكيف لطبيب أن يأمر أو يتسبب بقتل طفل!
خلال أربعة عشر سنة حدثت مجازر كثيرة بحق العلويين والسنّة، لكن لم يستشر الهياج الطائفي كما حدث في مجازر العلويين الأخيرة، إلى درجة بدا وكأن الأمر غريزي موزع بين غريزة القتل وغريزة المحافظة على البقاء..منذ أيام شاهدت نفس التحية؛ تحية الانكسار والخوف التي رأيتها سابقاً وأنا أعبر قرية البساتين، لكن هذه المرة رأيتها على الحواجز، يؤديها من يعبر من العلويين.