حول المشروعية في مراسيم العدالة الانتقالية السورية


حول المشروعية في مراسيم العدالة الانتقالية السورية


شكّل سقوط النظام السوري لحظة انعتاق سياسي كبيرة؛ لقد كان بمثابة مرآة عاكسة لانهيارٍ طويل الأمد في معنى الدولة ومفهوم الجماعة. انكشفت البلاد على تيهٍ سياسي لم يصنعه الحدث وحده، بل راكمته سنوات القمع، حتى بات غياب السياسة هو السياسة، وغياب العقد هو قاعدة العيش. انحسرت مشاغل السوريين، بعد زوال القبضة المركزية، إلى تفاصيل عابرة، بعيداً عن صياغة مشروع وطني جامع. راحوا يتقاذفون التهم كمن يتنازع على ظل وطن منهار: “أنتم من دمّر”، “نحن من خُذل”. ومع كل تبادل للاتهام، كانت فكرة الـ”نحن” الوطنية تتآكل، ويصعد من تحتها طيف الطائفة، والعشيرة، والجهة، والنجاة الفردية.

وكلّ ذلك كان نتيجة لطبيعة الدولة التي حكمتهم، والتي لم تشكّل يوماً عقداً جامعاً، بل كانت منظومة أمنية محكومة بمنطق الشكّ والسيطرة. في صيغتها العميقة، لم تُبنَ الدولة السورية على المواطنة، كما رأينا، بل على الإذعان: صمتٌ مقابل الأمان، طاعةٌ مقابل البقاء، وذاكرة معلّقة مقابل النجاة. وما كان يُروّج له كهوية وطنية، لم يكن أكثر من قناع هشّ، يخفي تحته نظام فرز اجتماعي قائماً على الولاء وتوزيع الخوف.

في هذا السياق، بدا أن النظام السوري السابق لم يطبق نظرية “هوبز”، بل انقلب عليها. فهوبز تخيّل العقد كوسيلة لخروج الإنسان من حالة الطبيعة، من الخوف المطلق إلى سلطة تحفظ الحياة. أما في سورية، فكانت السلطة هي من يُدير الخوف، ويُعيد إنتاجه، ويُحوّله إلى نظام حكم. تحوّل العقد من أداة لدرء الفوضى إلى وسيلة لتأبيدها، ومن أفق لتنظيم الجماعة إلى شبكة تُخضِع المجتمع باسم حفظ الدولة. وإذا كان “هوبز” قد افترض أن السيادة هدفها الحياة، فقد جعلها النظام أداة لحصارها. 

وحين انفجرت الثورة السورية (مارس / آذار 2011)، لم يكن الناس يثورون ضد عقد اجتماعي هشّ، بل يطالبون بكتابته لأول مرة. إلا أن غياب هذا العقد، الذي كان مستتراً بقوة القمع، ظهر فجأة كفجوة لا تسد. يوم سقط نظام الأسد لم تنهض بدائل سياسية، بل تصدّعت البلاد على وقع الولاءات القديمة، وتحوّل الغياب إلى تشظٍّ في كل الاتجاهات. لم تسقط دولة، بل سقط معها التصوّر عن إمكانية الاجتماع نفسه.

في هذا الفراغ المفتوح على كل الاحتمالات، جاءت المراسيم الانتقالية كإشارات لبداية ما يُفترض أنه مسار عدالة ومصالحة وطنية. لكنها، وقد فُرضت من أعلى ومن خارج أي تعاقد مجتمعي حقيقي، سرعان ما بدت محكومة بمنطق الانتقاء، أكثر من سعيها إلى تحقيق عدالة شاملة. وهنا تتبدّى الإشكالية الأعمق: هل يمكن لعدالة انتقالية يشوبها عيب الانتقاء، أن تؤسس لعقد اجتماعي جديد؟ أم أنها، بهذا العيب البنيوي، تتحوّل إلى أداة ناعمة لإعادة تدوير عقد الطاعة القديم، وإلباسه لغة قانونية خالية من الروح؟

من الناحية الشكلية، بدت هذه المراسيم كمحاولة للاعتراف بمرحلة ما بعد الانهيار، وكإشارة رمزية إلى نية معالجة إرث الانتهاكات. لكنها، في جوهرها، لم تكن أكثر من محاولة لإدارة الفراغ لا لملئه، ولم تأتِ في إطار تعاقدي حقيقي أو برؤية جامعة. لقد كُتبت من خارج المجتمع، وبقيت أسيرة لما تسمح به البُنية الجديدة، لا لما تتطلبه الحاجة التأسيسية لإعادة بناء المعنى الوطني المشترك.

مرسوم “هيئة العدالة الانتقالية” (رقم 19 لعام 2025) وُلد بلا صلاحيات تنفيذية واضحة، ولا ضمانات استقلال عن مراكز القوى الجديدة. أما مرسوم “هيئة المفقودين” (رقم 20)، فقد اكتفى بتسجيل البيانات الإدارية، دون التزام فعلي بكشف الحقيقة أو إنصاف الضحايا أو محاسبة الجناة. غابت في هذه المراسيم آليات المشاركة، والإقرار بمسؤولية الدولة السابقة، وخارطة الطريق التي يمكن أن تعيد الاعتبار للعدالة كمطلب وطني لا كهيكل إداري.

وما يزيد هذا الغموض أخلاقياً وخطورة سياسية، هو أن هذه المراسيم تجاهلت ضحايا فاعلين آخرين، كالذين سقطوا على يد تنظيم داعش، أو اختفوا في مناطق خارجة عن سيطرة النظام. هذا الإقصاء ليس تفصيلاً إجرائياً، بل يشكّل بذرة تفكك إضافية: فعندما تُقصى جماعات بأكملها من مسار العدالة، ويُترك ألمها في الظل، فإنها لا تندمج في مشروع الدولة، بل تتكتل خارجها. تتكوّن حينها ذاكرة مظلومية موازية، قابلة للاستثمار في منطق الثأر أو الانعزال، أو حتى الرفض التام لفكرة التعايش تحت مظلة عقد لم يعترف بها، ولم يحتسبها كطرف فيه.

إن تجاهل هذه الشرائح من الضحايا لا يعمّق الانقسام فحسب، بل يُهدد كل إمكانية لبناء وطن يضم الجميع. العدالة الانتقائية لا تصالح أحداً، بل تُراكم مشاعر الغبن، وتحوّلها إلى قنابل اجتماعية مؤجلة. فالعدالة، كي تؤسس لعقد جديد، يجب أن تكون شاملة، لا في إجراءاتها فقط، بل في رؤيتها لسوريا كوطن تعددي، جُرحه موحّد، وإن اختلفت الأيدي التي أصابته.

لكن خطورة الانتقاء لا تقف عند حدود من تم إسقاطهم من سجل الضحايا، بل تمتد إلى الفاعلين الرماديين الذين ظلّوا عالقين بين خانة الجاني والمجني عليه. هؤلاء الذين لم يطلقوا النار، لكنهم سكتوا حين أُطلق، أو شاركوا في إدارة الحياة اليومية تحت سلطات أمر واقع، أو غلّفوا الصمت بالخوف، والتواطؤ بالحكمة، والنجاة بالبراغماتية. لم تكن خياراتهم بالضرورة خيانة، لكنها كانت فعلاً سياسياً من نوعٍ مختلف، لا يعترف به خطاب العدالة الكلاسيكي.

يغدو اختزال العدالة في المحاكم والقوانين ضرباً من السطحية. في سورية، كانت الجريمة متغلغلة في النسيج السياسي والاجتماعي، لا فقط في غرف التحقيق. لذا فإن أي مشروع للعدالة في مرحلة ما بعد الحرب يجب أن يتجاوز التعويضات والمحاسبة، ليمسّ الجرح الأعمق: أزمة الثقة، وتفكك العقد الاجتماعي، وغياب المساحة المشتركة التي يمكن أن تلمّ شتات السوريين. إنّ مواجهة النظام السابق لا تبدأ وتنتهي في المحاكم، بل في قاعات الذاكرة، في الحقول التي مات فيها الأبرياء بصمت، في الحارات التي تحوّلت إلى خطوط تماس، وفي بيوت الناجين الذين لم يجدوا من يسمعهم. لهذا، لا يكفي أن تصدر مراسيم “تنظيمية” لتكون لنا عدالة، بل نحتاج إلى شجاعة ثقافية لطرح السؤال المؤلم: “من نحن بعد كل هذا الألم؟ وما الذي يجعل منا شعباً قادراً على العيش معاً من جديد؟”

وإن كانت العدالة الانتقالية تتموضع غالباً في أروقة المحاكم، فإن العدالة التصالحية تُبنى في المجتمع، بين الناس، بالاعتراف والمواجهة وإشراك أهالي الضحايا أنفسهم. من دون ذلك، لا يمكن لمجتمع أن يُشفى، ولا أن يطوي صفحة الماضي دون الوقوع في منطق الثأر أو الإنكار. على الأقل، لا بد من طرح رمزي من هنا تأتي الحاجة إلى مساحات رمزية-أخلاقية”، مستوحاة من تجربة “الغاشاشا” تلك المحاكم الشعبية التي سمحت للقاتل والناجي بالجلوس في المكان ذاته في رواندا، ولكن بما يتناسب مع السياق السوري. ليست هذه محاكم جنائية، بل فضاءات تُحاكم فيها الذاكرة الصامتة.

إن ما تبقّى من العقد الاجتماعي في سورية ليس سوى أطلال شرعية لم تُبنَ قط، و إرث ثقيل من الخضوع المغلّف بلغة الدولة. ومع ذلك، لا تزال إمكانات العقد قائمة، وإن كانت مشروطة. فالعقد، ليس نموذجاً مستورَداً من التجربة الأوروبية، إنه ديناميكية تفاوضية تُبنى بتراكم الاعتراف، وبنبذ العنف، وبتطوير شرعية مكتسبة لا مفروضة. الشرط الأول لذلك هو الانتقال من منطق القسر إلى منطق التعاقد؛ من احتكار السياسة إلى تعميمها كحيز عمومي مفتوح. وهذا لا يتم عبر نصوص فوقية، بل بإعادة هندسة الثقافة السياسية ذاتها، لتكون ثقافة الاختلاف والمصلحة العامة، لا ثقافة الاصطفاف والارتهان.

كما تبرز العدالة الانتقالية كحقلٍ حاسم في هذا التحوّل: فهي مسار لتسوية انتهاكات الماضي، ولحظة تأسيس ثقافي وأخلاقي تُختبر فيها قدرة المجتمع على مغادرة ثقافة العنف نحو ثقافة التفاوض. فإن بقيت العدالة انتقائية، تُدار بالأدوات نفسها التي صنعت القهر، فإنها لا تفتح أفقاً جديداً، بل تُعيد إنتاج ما كان، بلغة أكثر نعومة. أما إذا تحوّلت إلى أفق تفاوضي فعلي، يُعيد توزيع الاعتراف ويكسر صمت الضحايا، فإنها قد تشكّل نقطة انطلاق لعقد اجتماعي حقيقي، ينهض على توازن الذاكرة والمسؤولية المشتركة.

في مجتمعٍ لم تُمارس فيه السياسة إلا كقسر، ولم تُبْنَ فيه الدولة إلا على إخماد الصوت، لا يكون سؤال العدالة سؤالاً تقنياً، بل سؤالاً على صورة العقد نفسه: هل نريد أن نُبنى كجماعة سياسية حقيقية، أم نعيد تمثيل الطاعة تحت مسميات جديدة؟ العدالة، إذاً، ليست ما يسبق العقد، ولا ما يليه، بل هي محكّه الأول، واختباره الأشد وضوحاً.

متحوّر البعثية في سورية اليوم

متحوّر البعثية في سورية اليوم

خلّفت الحقبة الأسديّة حُطاماً ثقافيّاً ولغويّاً ثقيلاً، إذ وجد السوريون أنفسهم محاصرين داخل منظومة خطابية مشوّهة، نشأت على مدى عقود من هندسة المعاني وتزييف المفاهيم. لم تكن اللّغة مجرّد وسيلة للتعبير، بل تحوّلت إلى أداة ضبط وهيمنة، تجاوزت دورها الطبيعي، لتُعاد صياغة مفاهيم مثل “الحريّة” و”المقاومة” وتُدمج قسراً في منظومة الإخضاع.

شعار “المقاومة”، مثلاً، ظل مرفوعاً في كلّ خطاب سياسي أو إعلامي رسمي، لكنه لم يرتبط قطّ بمسار حقيقي لاستعادة الأرض أو السيادة. لقد أصبح غطاءً أيديولوجياً لتغلغل الميليشيات الإيرانية في البنية السورية، ولإضفاء الشرعية على مصادرة ممتلكات النّاس وتوسيع نطاق التدخلات الأمنية والعسكرية في المجتمع. هكذا، تحوّل العنف المفرط ضدّ المطالبين بالحرية إلى مكوّن عضوي في سرديّة الدولة.

في المدارس، كانت مفردة “حرية” تُلقَّن للأطفال كلّ صباح كجزء من الشعارات البعثيّة، فيما كان الخوف يحكم الحياة المدرسية، ويشلّ قدرة التلاميذ على التفكير النقدي أو التعبير المستقل. وفي الإعلام الرسمي، ساد قاموس شعاراتي مغلق: “الصّمود”، “التصدي”، “المؤامرة الكونيّة”… كلّها صيغ لغوية خُلقت لا لكشف الواقع، بل لحجبه. ومع الوقت، لم تعد اللّغة أداة تفكير، غدت سياجاً ذهنياً يُحاصر الوعي ويمنع نشوء أي بديل سردي.

حتى في القضاء، تحوّل الخطاب إلى أداة قمع، فالمصطلحات نفسها -“وهن نفسية الأمة”، “إضعاف الشعور القومي”- كانت تُستخدم كذرائع جاهزة لإدانة المعارضين والناشطين الحقوقيين. هذه العبارات الفضفاضة شكلت امتداداً مباشراً للخطاب الأمني، ارتدى عباءة القانون ليمنح شرعية لأحكام جائرة تصل إلى الإعدام أو السجن المؤبّد بحق السوريين.

في الإعلام الرسمي، تبنّى نظام الأسد، خطاباً تخوينياً ممنهجاً تجاه كل من خالفه، مستخدماً عبارات تُسقط المعارضين من موقع المواطَنة إلى موضع الشبهة والعمالة. وُصف المعارضون، وخصوصاً من بقوا داخل البلاد، بأنهم “يضعفون الروح الوطنية” أو “يخدمون أجندات خارجية”، وهي تعبيرات تحوّلت إلى أدوات ترهيب، صاغت مساحة عامة مخنوقة، صارت فيها كلّ كلمة محسوبة، وكلّ نية عرضة للتأويل.

هكذا، تسللت لغة التخوين إلى المخيلة العامة، واستقرت في لاوعي الجماعة كأداة رقابة داخلية. فحتى التعبير العابر عن تعاطف مع الثورة أو نقدٍ لمظاهر الفساد، كان كفيلاً بتحويل صاحبه إلى مشتبه به. لقد تحوّل الخوف من الكلمة إلى سياسة يومية، وجعل من بيئة العمل والمحيط الاجتماعي مصيدة دائمة، تُنصَب لمن يخرج عن القاموس الرسمي. لم تكن هذه حالة أمنية فحسب، بل منظومة خطابية متكاملة تنزع الشرعية عن أي اختلاف.

في المقابل، أُفرغت مفاهيم “الوطنية” و”المقاومة” من مضامينها الحقيقية، وأُعيد تدويرها لخدمة منطق السلطة. بدا نظام الأسد وكأنه يحتكر حق تعريف الوطنية، كما يحتكر حلفاؤه، وفي مقدمتهم حزب الله اللبناني، حق النطق باسم “المقاومة”. هذا الحزب الذي تأسس في سياق الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، تحوّل تدريجياً إلى أحد أبرز أدوات النفوذ الإيراني في المنطقة، وشارك عملياً في قمع السوريين تحت راية تلك “المقاومة” التي جُرّدت من معناها التحرري.

لم يكن اغتيال حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، نهاية مسار سياسي فحسب، بل لحظة انهيار لخطاب بُني طويلاً على خديعة مزدوجة: خديعة تمثيل المقاومة، وخديعة تأبيد السلاح بذريعة الدفاع عن الوطن. لقد احتكر الحزب حتى نيات المقاومة، وقرنها برؤية إيرانية فوق وطنية، لا تعبّر عن تطلعات اللبنانيين، بل عن استراتيجيات محورٍ يستخدم مفردات الصراع كذخيرة سياسية.

امتدت المأساة السورية من نظام قمعي أسقط البلاد في أزمات متلاحقة، إلى ما هو أعمق وأخطر: إلى الذهنية التي زرعها داخل المجتمع ومؤسساته، والتي ما تزال تواصل إعادة إنتاج نفسها بمرونة مثيرة للقلق. ذهنية تقوم على الشخصنة والولاء والمحسوبية، وقد تسللت حتى إلى مساحات التغيير، فعطّلت تشكّل خطاب بديل يعكس، بصدق، تطلعات السوريين.

في كثير من الحالات، تتخذ شعارات التغيير طابعاً شكلياً، ويجري استنساخ أدوات الخطاب القديم: من المبالغة التعبوية، إلى تحويل النقد إلى خيانة، وانتهاءً بتضييع البوصلة في معارك جانبية تستنزف الطاقات من دون إنتاج لغة سياسية جديدة. في المؤسسات العامة، وخصوصاً في الإعلام، ما تزال هذه الذهنية حاضرة بوضوح. ورغم توقف البث الرسمي للتلفزيون السوري لفترة طويلة، وعودته عبر بث تجربي لـ “الإخبارية السورية” بمحاولات خجولة للنهوض بإعلام احترافي لا يزال يتطلّب زمناً طويلاً، فإن كثيرين ممن احتفظوا بمواقعهم من الحقبة السابقة ما زالوا يتعاملون مع هذه المؤسسات بوصفها مساحات نفوذ شخصي وولاء سياسي، لا منصات لخدمة الجمهور أو لبناء إعلام مستقل.

المنطق نفسه يتكرر: أي منصب يصبح أداة لترسيخ السيطرة وتصفية الحسابات، بدلاً من أن يكون مسؤولية عامة أو فرصة لتطوير العمل. حتى لغة التخوين لم تغادر المشهد، بل أعيد تدويرها داخل الأطر “المجددة”، تُستعمل بالعبارات نفسها تقريباً التي استخدمها النظام ضد معارضيه، لكنها توجَّه اليوم ضد كل من يطمح إلى تجديد أو انفتاح.

استمرار هذه الثقافة يعني بقاء مؤسسات الدولة رهينة لتوجهات أيديولوجية قديمة، لا علاقة لها بمتطلبات المرحلة الانتقالية ولا بتطلعات الناس. وإذا أراد السوريون تجاوز هذا الركود، فعليهم أن يبدأوا من الجذر: تفكيك هذه الذهنية داخل المؤسسات وضمن الخطاب العام ذاته، ذلك الذي يُفترض أن يعيد بناء العلاقة بين الناس والدولة، على أساس جديد ومنطِق مغاير.

إنها أزمةٌ نفسية أيضاً، لا سياسية فقط. وما كشفته إشاعة عودة ماهر الأسد، شقيق الرئيس المخلوع، من حجم التفاعل الإيجابي في أوساط معينة، يعكس قابلية بعض الشرائح الاجتماعية لإعادة تدوير النظام ذاته، لا لضعف الذاكرة فقط، بل لأن أدوات الهيمنة الثقافية القديمة لم تُفكَّك بعد. لقد تَكرّس في المخيال الشعبي نوعٌ من الحنين المضاد للثورة، لا بفعل القناعة، بل نتيجة التآكل الطويل لمعاني التغيير، وسقوط نماذج البديل في فخ الخطاب نفسه الذي أرادت تجاوزه.

لكي نحرر أنفسنا، علينا أن نحرر اللّغة أولاً. يجب أن نفكك الخطاب القديم ونُزيل عنه طابع القداسة الذي جُمِّل به لعقود. علينا أن نُعيد النظر بجرأة في الدساتير التي وُضعت لتقييد الحريّة، وفي القوانين التي شُرعت لتكون أداةً في يد السلطة على حساب حقوق الإنسان وكرامته. لا يمكننا أن نسعى نحو صياغة مستقبلٍ عادل إذا لم نفهم آليات الظلم التي قيدتنا في الماضي. إن إزاحة الحرس القديم لنظام الأسد من مؤسسات الدولة تُعد خطوة ضرورية لبناء سورية الجديدة. يجب تفكيك الشبكات التي ما زالت تعمل في الظل داخل مؤسسات مثل مبنى التلفزيون السوري، الذي يعج بالمخبرين وعملاء النظام. هؤلاء الأشخاص ليسوا فقط بقايا نظام الاستبداد، بل إنهم أداةٌ استخدمها النظام لإيصال زملائهم إلى المعتقلات أو دفعهم نحو النفي خارج البلاد هؤلاء كشفتهم لغتهم العنيفة في التعبير عن ذاتهم كما شاهدنا في أحد منتديات الإعلام بعد سقوط النظام، وسط دمشق عبر سلوك “التشبيح” لمذيعة سابقة في قناة الإخبارية السورية، والتي كانت أبرز أقنية النظام السابق في تشويه الثورة السورية.

التغيير السياسي الحقيقي في سورية يبدأ بإعادة صياغة الخطاب العام ليعكس تطلعات الشعب للحرية والكرامة. المبادرات الإعلامية المستقلة، مثل منصات التوثيق الحقوقية، أثبتت أن السوريين قادرون على تجاوز خطاب النظام التقليدي الذي كان يقوم على التخوين والانقسام. هذه المبادرات تمثل خطوة عملية نحو خلق بديل يعبر عن معاناة السوريين بموضوعية. ولتحقيق المزيد من التقدم، يجب تعزيز هذه المنصات بدعم تقني ومادي لتوسيع نطاقها، مع التركيز على تدريب كوادر جديدة تمتلك أدوات التعبير المهني والحقوقي. كذلك، يمكن تطوير مشاريع تعليمية تهدف إلى رفع وعي الأفراد بحقوقهم السياسية والاجتماعية، مما يُمكّنهم من المشاركة الفاعلة في صياغة مستقبلهم.

على المستوى القانوني، ينبغي الضغط لإلغاء القوانين التي تُجرّم التعبير الحر، والعمل على إصدار تشريعات تضمن حرية الإعلام والتعبير عن الرأي، كخطوة أولى في استعادة الثقة بين المواطن والدولة. التحدي الأكبر في سورية هو تفكيك الثقافة البعثية التي كرست الولاءات الشخصية والمحسوبية داخل المؤسسات. لتحقيق ذلك، يجب إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية على أسس الكفاءة والشفافية، مع استبدال المسؤولين المرتبطين بالولاءات القديمة بكفاءات مستقلة.

على المستوى الثقافي، ينبغي إطلاق برامج تعزز قيم المواطنة والحقوق، مثل ورش عمل مجتمعية لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة. إصلاح التعليم والإعلام ليعكسا قيم الحرية والعدالة، إلى جانب إصدار قوانين تحمي حرية التعبير وتكافح الفساد، هي خطوات أساسية لرسم مستقبل جديد.

لا تكفي الثقة في توجهات القيادة الجديدة والتي ربّما تلعب دوراً محورياً، نظراً للتحرك البطيء الذي تنتهجه ولأن هذه الثقة تتطلب برنامجاً واضحاً يضمن المحاسبة والشفافية ويعزز التنوع في اختيار القيادات. على القيادة أن تدرك أن استبدال القيادات الكبيرة في البلاد لا يكفي، بل يجب تقديم نموذج إداري جديد يقطع مع الماضي ويؤسس لدولة المؤسسات الديموقراطية، لقد كشفتهم لغتهم البعثية ولم يعد بالإمكان الاعتماد عليهم أبداً.

هل يمكننا قراءة التاريخ بعين متجردة؟ وكيف يمكننا فهم الحاضر بعقلية تحليلية بعيداً عن الانحيازات؟ الأهم من ذلك، كيف نصنع مستقبلاً يتقاطع مع طموحات الشعب السوري المتنوع؟ هذه الأسئلة ليست مجرد استفسارات، بل دعوات ملحة للعمل والتفكير النقدي. في هذا السياق، يجب النظر بتمعن إلى طبيعة اللغة التي يستخدمها السوريون لفهم متغيرات الدولة في ظل الثورة. فالمسألة، رغم بدايتها اليوم، ستخضع للنقد والتطوير، لكنها لاحقاً قد تتحول إلى انعكاس لاستمرارية نمط الدولة القديمة، ما لم يتم تفكيكها جذرياً. الانتقال إلى مفردات جديدة تعبّر بصدق عن المرحلة الراهنة يتطلب التخلص تدريجياً من ركائز الدولة التي لا تزال تحمل ذهنية الماضي، سواء كانت أساسية أو ثانوية. هذه الركائز، بألفاظها وأدواتها، تعكس تصوراً مسبقاً للمستقبل وتمنع التفكير خارج إطار الدولة الشمولية والقبضة الأمنية. لم يعد اليوم بمقدور أحد تهديد السلطة بنفس أدوات النظام الساقط، كاستخدام المخابرات كوسيلة قمع، لكن التخلص من هذه الذهنية يتطلب تحولاً جذرياً في الفكر والممارسة على المستويين الفردي والمؤسسي.

النّظام والدّين في سوريا: المجتمع المضاد وعصبية الامتيازات

النّظام والدّين في سوريا: المجتمع المضاد وعصبية الامتيازات

من بين تعريفات عديدة للدّين، فإنّ الدّين هو عبارة عن مجموعة من العقائد المعرّفة تعريفاً اجتماعياً، وهذه العقائد تتعلّق، بشكلٍ أساسيّ بالنّظرة، والمعنى، والغاية النّهائية من الحياة. لذا، لا تُعنى العلوم الاجتماعية بمسألة إثبات وجود الله من عدمه، ولا بوجود أو عدم وجود كائنات وحيوات أخرى، هذه مسائل تُترك لاختصاصات بحثية مغايرة. الانشغال الأساسيّ للعلوم الاجتماعية هو في الكيفية التي تُؤثّر بها العقائد الدّينية الخاصّة على السّلوك الإنساني، وعلى العلاقات والأنساق الاجتماعية. لذلك، فإنّ اهتمام هذه المقالة سينصبّ على الآلية التي تعامل بها النّظام السّوري البائد، وربّما النّظام الحالي أيضاً، مع الوظيفة الاجتماعية للدّين، بمعنى تكييف الدّين لخدمة شرعنة النّظام، وبقائه، واستمراره. 

مجتمع متنوّع أمْ مجتمع فسيفسائي؟

المؤشّرات الإحصائية تدلّ على تنوعٍ قوميّ ودينيّ كبيرين في سوريا، فوفقاً لدراسة إحصائية حديثة أعدها موقع The world factbook بعد سقوط نظام الأسد، فإنّ عدد سكّان سوريا كان تقريباً 23.8 مليون نسمة، يتوزعون عرقياً إلى عرب سنّة بحدود 50%، وعرب علويين 15%، وعرب مسيحيين 10%، وكُرد بحدود 10%، و15% هم من باقي الأقليات (دروز، واسماعيليون، وشيعة، وآشوريون، وتركمان، وأرمن)، وآخرين 10%.

هذا التّنوع الهائل للمجتمع السّوري، وبرغم التّعايش المشترك بين مكوّناته لمئات السنين، لمْ يجعل من سوريا مجتمعاً متنوّعاً بقدر ما رسخّه كمجتمعٍ فسيفسائي تعيش مكوّناته شبه معزولة عن بعضها، تُجاور بعضها البعض دون أيّ تداخل تقريباً، إذا ما استخدمنا التّمييز الدّقيق للباحث اللبناني حليم بركات للتّفريق بين المجتمعات المتنوّعة والمجتمعات الفسيفسائية. 

هذ التّنوع كان يحمل في طيّاته دوماً بذور الانفجار، وهو الأمر الّذي تطلّب قدراً كبيراً من الحنكة في إدارته لأنّ الفشل في ذلك كان يعني تحويله إلى نقمة بدلاً من أن يكون موضع غنىً ثقافي ومعرفي. وبالفعل فإن السّبب الرّئيس في اتساع الشّروخ بين المكوّنات المجتمعية المختلفة في المجتمع السّوري لا يعود برأينا إلى تنوّع هذه المكوّنات، وإنما إلى وجود إدارة سيئة للتنوّع كانت تضغط بثقلها الأمني عليه لتحافظ على صورته

التعايشية الجميلة، الأمر الّذي استمرّ مع السّلطات الجديدة بصورةٍ أكثر فظاظة، وإنْ كانت أخفّ ثقلاً من النّاحية الأمنية، لكنّ الثّابت لدينا، أنّ إدارة النّظامين، الحالي والسّابق، لا تبدو آبهة بما تخلفه هذه الطرائق من احتقانات وأحقاد في داخل المجتمع.

فبالنسبة للنّظام السّابق، فقد اعتمد، ومنذ وصل الأسد الأب إلى الحكم وحتّى وفاته، على لعبة توازنات دقيقة بين كلّ أطياف النّسيج السّوري، بحيث لم يُبعد أياً منها عن السّلطة، كما أنّه لم يُعطِ أيّا منها سلطة مطلقة. ونشأت في سورية سياسة “محاصصة مستترة” غير مقوننة ولكنّها ترسخّت بالعرف بحيث تتقاسم القوميات والطوائف المناصب السّياسية الرّئيسة بما يناسب نسبتها من عدد السّكان الإجمالي، وبحسب توزعها في المدن السّورية الكبرى، فرئيس الوزراء ووزير الخارجية ورئيس هيئة الأركان من الطّائفة السّنية، ووزيري السّياحة والصّناعة مسيحيان، ووزير الإعلام علوي، وهناك وزير دولة للطّائفة الاسماعيلية.. الخ. وبقيت المفاصل الأمنية بيد المقربّين جداً من النّظام، وخصوصاً العلويين منهم.  

هذا المحاصصة الدّقيقة المستترة أُضيف إليها تحالفٌ معلن بين البرجوازية السّنية في الحواضر الكبرى، كدمشق وحلب وحمص، وبين هذا النّظام، بحيث أمسكت الدّائرة الضّيقة للنّظام بالشّؤون الأمنية والسّياسية، وتُرك الشّأن الاقتصادي لتجّار وصناعيي دمشق وحلب، دون أن يغفل عن بالنا أنّ الأسد الأب قد قام في عقد التّسعينات بتشجيع أبناء المسؤولين على الدّخول في مشاريع صناعية وتجارية وعقارية كبيرة في محاولة منه لخلق برجوازية ثالثة، تُكافئ برجوازيتي دمشق وحلب. هذه البرجوازية الجديدة لم تقتصر على العلويين، أي أنّها لم تكن برجوازية علوية بقد ما كانت برجوازية سلطة أفضت في النّهاية إلى ما بات يُعرف بـ “رأسمالية المحاسيب”.

أدوتة (Instrumentalisation) التّنوع، والمجتمع المضاد 

يُقصد من أدوتة التّنوع استثماره من قبل السّلطة لقضايا سياسية داخلية أو خارجية، وهذا ما ظهر بوضوح من خلال نجاح النّظام السّوري السّابق، وعلى مدار الخمسين عاماً الماضية، في خلق المجتمع المضاد الذي كان بمثابة الدّرع الذي حمى هذا النّظام على مدى أكثر من كل الاهتزازات والتغييرات التي اجتاحت منطقتنا معتمداً في ذلك على مكنة إعلامية نشطة، وعلى تحويل النّقابات والمؤسّسات الحزبية والمدنية إلى مجرّد أشكال صورية. ويبدو أنّ النّظام الجديد، وحسْب ما يظهر إلى الآن، يعتمد آلية مشابهة، ذلك أنّ الأنظمة تأتي، عادةً، بناءً على سيرورة سياسية طبيعية تُتيح المجال للتّنافس بين الشّخصيات والقوى والأحزاب السّياسية تنتهي بالانتخابات التي تُتوّج حزباً ما، أو تحالفاً ما على رأس السّلطة لأجل محدّد اعتماداً على حجم قاعدته الاجتماعية. في سوريا، وحتّى الآن، لم نرَ مجتمعاً يُنتج سلطة كما يُفترض في الحالات السّياسية الطّبيعية، بل سلطةً خلقت، وسلطة حالية تسعى لخلق، مجتمعها الخاص بها، والمتعالي عن بقية النُّسج الاجتماعية. هذا المجتمع سيشكّل “حواضن” للنّظام أسماه الدّكتور حسّان عبّاس بـ “المجتمع المضاد”. 

هذا “المجتمع المضاد” ناتجٌ، في جوهره ووظيفته، عن تشوّه بنيوي في العلاقة بين السّلطة والمجتمع، ويُفضي إلى نوعين من التّشكيلات، أولها تشكيلٌ سياسي-أمني تتجلّى صورته بالمؤسّسات المرتبطة بالاستبداد (الجيش والأجهزة الأمنية)، والنّوع الثّاني تشكيلٌ اجتماعي هو خليط من نخب ثقافية، ومن جماعات اقتصادية (برجوازية تقليدية، أو دينية، أو طفيلية). كما أنّ “المجتمع المضاد” يقف بين السّلطة والمجتمع ليكون الجسر الواصل بينهما من جهة، وأيضاً ليكون الحُصْن الذي يحمي السّلطة من المجتمع الحقيقي من جهة أخرى. وفي المجتمع المضاد تتحول الأجهزة الوطنية والمؤسّسات المدنية إلى مؤسّسات حماية للسلطة، لا يختلف في ذلك الجيش الحامي للسّلطة، أو النقابات القائمة على مبدأ حماية المجتمع من السلطة. 

خاتمة 

ما يثير التحفّظ لدينا، هو الخوف من تكرار التجربة، الخوف من أنْ تقوم السّلطة الحالية، وبحسب منهجها حتّى الآن، بخلق “مضادٍ” خاصّ بها يعتمد على تغييب السّياسة لصالح أصوات الكراهية والتّحريض الطّائفيين، وأنْ تعتمد عوضاً عن المواطنة على “عصبية الامتيازات”.

على الجانب الآخر، لم تتمكّن النّخبة المعارضة للنّظام من الخروج من هذه الأطر بعد قيام ثورة 2011، خصوصاً بعد انتقالنا من مرحلة السّلمية إلى العسكرة، فقامت هي أيضاً بخلق “مجتمع مضادٍ” خاصّ بها يعتمد على تغييب السّياسة لصالح أصوات طائفية ولغة كراهية لم يعتد السّوريون عليها سابقاً مستغلةً الإمكانات المالية والإعلامية الكبيرة التي قدمتها بعض دول المنطقة لها. وقامت أيضاً بخلق “مؤسّسات مدنية” خاصّة بها وكيانات سياسية هشّة وقفت سداً لها في وجه مجتمع الثّورة الحقيقي الذي توارى عن المشهد بعد الأشهر الأولى للثّورة. وفي الحالتين، حالة النّظام وحالة مؤسّسات المعارضة، فقد اعتمد الجانبان على ما يمكن تسميته بـ “عصبية الامتيازات”، عصبية المستفيدين بغضّ النّظر عن طائفتهم. وبالفعل، فقد بتنا نرى مسؤولين، ومثقفين، ومفكرين سوريين، يستخدمون منهجاً سكونياً لتفسير أعمال العنف من خلال اللجوء إلى قراءة تعتمد أساساً على رؤية للطوائف وتواريخها، وتبحث عن نزاعات “جوهرانية” بين هذه الكيانات بحيث يسهل في ظلّها التعتيم على السّياق التّاريخي للأحداث. بينما يركّز المنهج الدّيناميكي على المحتوى الاجتماعي-التّاريخي للدّين ضمن إطار الصّراعات القائمة في المجتمع، ويؤكّد على أنّ التشكيلات السياسية-الدّينية إنّما تنبثق عن واقعٍ اجتماعي، واقتصادي، وسياسي، وتاريخي معقّد وهي تتطوّر بتطوّر هذا الواقع. 
وعموماً، لا يستخدم الدّين، كنسقٍ ثقافي، من قبل الأنظمة، سوى بغرض  تثبيت شرعيتها الضعيفة أصلاً، وحمايتها من حراك المجتمع المدني الحقيقي. 

تبادل الموت وتحية الخوف والانكسار

تبادل الموت وتحية الخوف والانكسار

في بداية عام 2017 أنهيت زيارة لقرية “كوكب” الواقعة في “ضهر الزوبة” في بانياس والتابعة لقرية البساتين، وكان لي أن أعود باتجاه طرطوس سالكاً طريقاً من اثنين: إما عبر قرية الزوبة ثم الخريبة وضهر صفرا، ثم الروضة؛ لأصل إلى الطريق السريع بين طرطوس واللاذقية، وإمّا عبر الطريق الثاني الذي ينحدر في قرية البساتين ليصل مباشرة إلى الطريق السريع، وهو طريق أقصر وأسهل من الطريق الأول لكنه مقلق ويلزمه الحذر كما قيل لي والسبب أن أهل البساتين “سنّة” وهم معارضون في أغلبهم.

في ذلك الوقت كان يبدو أن النظام في سورية قد انتصر وأن المعارضة بصفتها السنيّة الغالبة قد خاضت معركتها وهُزمت، لكن سكان القرى العلويين المحسوبين على النظام، ما زالوا يتجنبون الاحتكاك بهم.  

سلكت طريق البساتين بناء على تطمين من كنت ضيفاً عندهم، فقد قال صاحب البيت: “عم، لن يتعرّض لك أحد، أهل البساتين طيبون، عشنا وإياهم دهراً ولم يتعرض أحد للآخر إلى أن حدث ما حدث” وهو بذلك يشير إلى ما جرى من قتل في قرى البساتين والبيضا، وقد أكّد لي أن أهل “كوكب ” لا علاقة لهم به، فالذي ارتكبه هم مجموعات قدمت من الشمال تابعة لـ”هلال الأسد” الذي قُتل فيما بعد في معركة شمال اللاذقية. 

انحدرت في قرية البساتين، وبعد أن قطعت مسافة قصيرة توقّف رجل على يمين الطريق؛ قبل أن أصل إليه بخمسين متراً وحياني بطريقة لن أنساها أبداً، انحنى انحناءة خفيفة ورفع يده إلى محاذاة رأسه بما يشبه التحية العسكرية وغض بصره عني.

تكررت التحية أكثر من مرة مع أكثر من شخص وكلما سلكت ذلك الطريق. تلك التحية التي يمكن تسميتها تحية الخوف والانكسار، قد تركت في نفسي أثراً وأسفاً عميقاً، فقد أحزنتني وضايقتني، ذلك الضيق الذي يتأتى من ضيم لا ترضاه، لكن لا تملك حياله شيئاً.

لسنا بصدد الكلام عن أسباب المجزرة التي حدثت حينها والتي قيل إنها رد فعل عما اقترفه أهالي البيضا والبساتين بحق عسكريين ومدنيين تم قتلهم هرساً في معصرة زيتون، وعلى ما حدث في بانياس البلد، كقتل “عماد جنود” وهجوم جسر القوز على رتل الجيش.

 لكن عليّ أن أذكر نقلاً عن شهود عيان أن ضحايا تلك المجزرة كان الكثير منهم من الأبرياء ومن مؤيدي النظام حينها أو من الحياديين الذين لم يكن لهم موقف سياسي معلن من النظام أو الحراك السياسي الذي اعتمل في سوريا ومنها بانياس، أولئك الذين اختاروا الاهتمام بحياتهم اليومية وعدم الانجرار إلى أي نشاط سياسي أو فعل راديكالي. 

أحد شهود العيان روى لي أن أحد أهالي البساتين كان يعمل على جرار في حراثة الأرض في قرية “كوكب” أوقف جراره ليعود إلى البساتين، حاول من روى لي (وهو علوي) وأشخاص آخرون منعه من العودة وإبقاءه لحمايته، لكنه أصر على العودة وهو يقول: “لم أفعل شيئاً ولست ضد الدولة، ولا يمكنني أن أترك أهلي.” ترك جراره وذهب ولم يعد أبداً.

وروى لي آخرون أنه تم إرسال تحذير من أهالي قرية كوكب “العلوية” إلى أهل البساتين والبيضا بأن هجوماً على وشك أن يقع على القريتين لا علاقة لهم به، وعليهم أن يكونوا حذرين.

 تجاوب مع التحذير من تورّط في أعمال دموية ومظاهرات وهربوا، وبقي من لم يرتكب شيئاً لظنهم أنه لن يطالهم سوء، وهم من صاروا ضحايا. 

قِيل الكثير عما حدث في سياق هياج جمعي يحدث عادة في مثل هذه الظروف، حيث لم يتم التمييز بين البريء والمذنب، فالكل مذنبون في نظر القتلة، المرأة التي التجأت إلى خم الدجاج لتختبئ مع أولادها وقُتلت، شيخ الجامع صاحب الموقف المعتدل الرصين، معلم المدرسة المنفتح…

هذا الهياج نفسه هو الذي حكم ما جرى في المذابح الأخيرة التي ارتكبت بحق العلويين في بانياس وجبلة واللاذقية، وفي حمص وقرى حماه وغيرها، مع فارق لا بد من ذكره وهو الدافع ومعطيات المرحلة.  

ارتكبت تلك المذابح وما زالت بسبب مباشر هو تذرّع من ارتكبها بمحاولة انقلاب قام بها كل من “غيّاث دلا” و”مقداد فتيحة” كقادة لفلول النظام البائد. والمفارقة أن تحدث تلك المحاولة في قرية تبعد عن العاصمة ثلاثمائة كيلومتر، وقد ادعى من قال بذلك أنّ تلك المحاولة كانت تضم قسد والدروز، غير أنه بعد يومين من المذبحة تم توقيع اتفاق بين الشرع وعبدي، ومن غير المعقول أن يتم توقيع اتفاق في ظرف كهذا، ووضع سياسي حاد ومصيري حيث أحد الطرفين يسعى لإنهاء الآخر بهذه السرعة.

السبب غير المباشر والأقرب للواقع؛ هو الرغبة بالثأر والانتقام ممن يُعتبر حاضنة للنظام البائد، والحاضنة المقصودة هنا طائفية وليست سياسية، تلك الرغبة المخبوءة كالجمر تحت الرماد والتي تنفخ عليها من وقت إلى آخر أحداث وتداعيات خاصة في سنوات الحراك السياسي الأخيرة التي أزكت التناقضات السياسية وجعلتها أكثر حدة وبلبوس طائفي واضح.

 بخصوص ذلك نُشرت بعض الخرائط شاهدت إحداها على شاشة إحدى الفضائيات العربية في عام 2011 وقد كتب على منطقة الساحل السوري “Killing zone“ منطقة القتل، وهذا يؤكد ما كان مبيتاً للمنطقة الساحلية.

التخطيط لما ارتكب في هذه المجازر كان واضحاً رغم التسويق الإعلامي لها بأنها أتت نتيجة “فزعة”، وهذه الكلمة بالذات تحمل معنى تراحمياً اجتماعياً يشي بطبيعة من استخدمها وتجاوب معها، كأنهم فعلوا ذلك لدرء خطر محدق داهم وهي سمة غالبة في المجتمعات البدوية. 

الأكثر تأثيراً كانت الدعوة إلى الجهاد ذات البعد الديني التكليفي- فرض عين- وقد انطلقت من مآذن الجوامع في عدة مدن سورية، وتمّ بثّ هذه الدعوة وصور للتجمعات التي تآلفت تجاوباً معها بشكل مباشر على قناة الجزيرة، بالصوت والصورة، فتعالت صيحات وشعارات صريحة وبحماس واندفاع شديد تدعو إلى ذبح العلوية والقضاء عليهم. 

المذابح التي ارتكبت ووثقت كانت دموية مفرطة وقاسية جداً، وفق شهادات لمن بقي حياً كان القتل يتم بعد سؤال الضحية “أنت شو؟”، رغم أنهم يعرفون انتمائهم الطائفي، لكن للسؤال هنا بعداً آخر هو الإذلال والتشفي قبل القتل.

روت زوجة المهندس “نبيل حبيب” أنهم دخلوا المنزل وسألوا زوجها بأسلوب فظ: “شو دينك؟” أجاب: “أنا مسلم.” أردفوا: “مسلم شو؟”

أجاب: “مسلم…” وصمت، ردوا بعنف: “مسلم سني أم علوي؟”

قال بهدوء: “علوي…”

ضربوه بأخمص البندقية وصرخوا: “إلى السطح.. اطلع عالسطح يا خنزير،” حيث حدثت المقتلة له ولجيرانه. 

ضحايا المجازر كانوا أبرياء، تم انتقاؤهم من كوادر علمية واجتماعية وفق معلومات وتوجيهات حددت مكانهم وانتماءهم، وكأن القتل كان محملاً على الخريطة، إضافة إلى القتل العشوائي، فأول من قتلوا عجوزاً عمره ستة وثمانون عاماً، تصادف أن وجد في طريقهم، “قرب كراجات السرافيس”.

الصحافية ثناء عليان روت كيف قتلوا زوجها، فقد كتبت تنعيه على صفحتها “زوجي لم يكن فلولاً ولم يقاتل أحداً.. دقو الباب ولما فتح سألوه: أنت علوي أم سني؟ وبناء على جوابه تم قتله بدم بارد بعد أن أخذوا سيارته وموبايلي وموبايله… رحمة الله عليه رحمة واسعة..”

المفارقة أنه تم قتل امرأة خنقاً لجأت إلى خم الدجاج كما حدث في البيضا، ولكن في قرية “بصيرة الجرد” على أطراف جرد صافيتا. 

في خضم ذلك الهياج الذي نتج عنه القتل وحرق المنازل والسيارات والتنكيل بالضرب وغيره، لا بد من ذكر ما هو إيجابي؛ المتمثل بمبادرة عائلات سنيّة لحماية المستهدفين العلويين. والغريب أن هناك عناصر من الفصائل الذين قدموا مع من ارتكب المذابح عملوا على نجاة عدد من الأهالي العلويين، وهناك حالات توثق ذلك، فمثلاً أحد عناصر الفصائل نقل بسياراته عائلات من القصور ساحة الذبح إلى مساكن المصفاة، وآخر حمى بناية بأكملها بالإدعاء أن ليس فيها أحد، وحوادث أخرى. توثق ترحيل أهالي خلسة.

حادثة لها دلالاتها المختلفة روتها تلك الأم التي وضعت مولودها قبل أوانه وكان لا بد له من حاضنة في مشفى بانياس الوطني، وهي من قرية علوية، اقتربت منها ممرضة سنيّة وقالت لها: “لا تقولي إنك علوية، سيقتلونك ويقتلوا الطفل، قولي إنك سنيّة.” ومضت لتجلب لها حجاباً وضعته على رأسها. هذا يوضّح فرقاً واضحاً وهو أن الهياج الطائفي وصل إلى حد الرغبة في إفناء الآخر “العلوي” والغريب والمؤسف أنه شمل الطبقة المثقفة والأكاديمية، فكيف لطبيب أن يأمر أو يتسبب بقتل طفل!

خلال أربعة عشر سنة حدثت مجازر كثيرة بحق العلويين والسنّة، لكن لم يستشر الهياج الطائفي كما حدث في مجازر العلويين الأخيرة، إلى درجة بدا وكأن الأمر  غريزي موزع بين غريزة القتل وغريزة المحافظة على البقاء..منذ أيام شاهدت نفس التحية؛ تحية الانكسار والخوف التي رأيتها سابقاً وأنا أعبر قرية البساتين، لكن هذه المرة رأيتها على الحواجز، يؤديها من يعبر من العلويين.

اللّاأدرية الطارئة في سورية

اللّاأدرية الطارئة في سورية

تتّضح ملامح ما يمكن تسميته بـ “اللّاأدرية السياسية” من خلال مراقبة تفاعلات الرأي العام السوري، وتحليل الخطاب الشائع على المنصات الإعلامية، إضافة إلى التواصل مع فاعلين سياسيين وإعلاميين داخل البلاد وخارجها. هذا التيار، الذي يتمدد تدريجياً دون أن يُعرّف نفسه بوضوح، يتخذ من الشك المطلق والنقد العدميّ موقعاً مريحاً خارج الاستقطابات الحادة، لكنّه في الجوهر لا يفعل سوى إعادة تدوير الذهنية التي رسّخها نظام الأسد لعقود: الارتياب، المواربة، ورفض أي سرديّة لا تنسجم مع بنيته السلطويّة.

وحين تتحوّل العواطف إلى منطلق للموقف السياسي، فإنها غالباً ما تعجّل في إفشال أي هدف جماعي. فالانحياز الغريزي، رغم صدقه الإنساني، لا يكفي لتأسيس مشروع تغيير قادر على الصمود. وحين يُختزل الفعل السياسي في ردة فعل وجدانية، تتحول الأفكار إلى ضجيج لا ينتج موقفاً، ويغيب عنها التقدير العقلاني للمصلحة العامة. في هذا الفراغ، تبرز “اللّاأدرية” كحالة تبدو وكأنها ترفض التورّط العاطفي، لكنّها في الواقع لا تنتج فهماً أعمق، بل تقف عند سطح التعقيد دون تجاوزٍ أو انحياز، فتتعامل مع الواقع بوصفه عبئاً لا يُحتمل لا مشروعاً يجب التفكير والمشاركة فيه.

لقد شكّلت “الأسديّة” على مدى عقود منظومة ثقافية – أمنية متكاملة، هدفت إلى إنتاج وعي سياسي معادٍ للتنوّع، ومهيأ لتقبّل السلطة نقيضاً للفوضى. لم تكتف هذه المنظومة بقمع السياسة، بل أعادت تشكيل المجتمع من الداخل عبر ترسيخ صورة نمطية لكلّ منطقة ولهجة وطائفة، تُعيد تصنيف السوريين ضمن هرم خفي من التحقير والتمييز والاختزال. بهذه الأدوات، اشتغل النظام السابق على تفكيك أي إمكانية لتماسك وطني، مُغذّياً الشك المتبادل والتبعية كضمانة للاستقرار.

كما أن المفارقة الأوضح في خطاب اللّاأدرية أنه يستبطن أدوات النظام السابق نفسه، دون أن يعلن ذلك أو يعيه أحياناً. التهكّم على الهويات، السخرية من التعدّد، وشيطنة كلّ مبادرة سياسية أو مدنية بوصفها مشبوهة أو محكومة بالفشل مسبقاً، ليست سوى امتداد لمنطق السلطة القديمة في لباس نقدي. لا يوجد فارق جوهري بين من يقول “الكلّ كاذبون” ومن قال لسنوات: “لا أحد سواي يستحق الحكم”. ومع تفكك النقاش العام، وصعود اللّاأدرية كخطاب سائد وسط انقسامات السوريين، بتنا أمام حالة من العطالة السياسية تتغذّى من اللّامبالاة، وتعيد إنتاج العدمية كواقع متنامٍ. هي حالة ترفض الواقع، لكنّها أيضاً لا تقدم بديلاً له، ولا تؤمن بإمكانية تغييره.

يتبنى هذا التيار موقفاً منفراً من الجميع: لا يثق بالحكومة، ولا بالمعارضة، ولا حتى بالمجتمع المدني. لكنّه في المقابل، يُبدي حنيناً خفياً إلى بعض رموز النظام السابق ممن لم يتورطوا مباشرة في الدم، كما في حالة وزير الخارجية الأسبق فاروق الشرع، الذي تحوّل لدى شريحة من الموالاة والصامتين وبعض من يسمّون أنفسهم “ثوّار ما بعد النظام”، إلى مرجعية رمزية أو “حل توافقي”. هذه النزعة تعبّر عن تمسّك خفي ببقايا النظام، رغم التفاوت في عمق الولاء له. إنها محاولة لإعادة تدوير واجهات الأسدية تحت غطاء الحياد أو “الخبرة”، وهي في جوهرها لا تُنتج مشروعاً بقدر ما تعرقل أي محاولة جدية للتجريب ولبناء بديل. هكذا تتحوّل اللّاأدرية من موقف حيادي إلى أداة تعطيل فعلي.

لا يعني هذا أن النقد مرفوض؛ بل على العكس، لا يمكن لأي عملية سياسية أن تنضج دون نقد صارم. لكنّ الفرق شاسع بين النقد كأداة تحليل وتطوير، والنقد بوصفه منهجاً للتقويض المستمر. اللّاأدرية كما تتجلى اليوم ليست نتاج مراجعة عقلانية، إنما هي إفراز مباشر لثقافة سياسية مشوّهة، نشأت في بيئة قمعية ترى في كلّ اختلاف تهديداً، وفي كلّ مبادرة خديعة محتمَلة. وما يعمّق هذه الأزمة هو عودة بعض المنصّات إلى استثمار الانقسام الطائفي والمناطقي في الخطاب السياسي، لا بهدف إنصاف الضحايا أو ترميم الذاكرة، بل لتثبيت سلطات جديدة وإعادة إنتاج نفوذ قديم بلغة محدثة. إن سرديّات المظلومية حين تتحول إلى أداة نفوذ، تفقد قيمتها الأخلاقية، وتعيد تكرار منطق النظام بأدوات رمزية مختلفة.

مؤخراً، لم يُعامَل سقوط الضحايا من السوريين\ات كفرصة لإعادة التفكير بأسس بناء الدولة، من عدالة وقانون والتزام عام بالسلم الأهلي، بل جرى التعامل معه كحدث عابر، يُستهلك إعلامياً، ويُستخدم لتحريك الاصطفافات والانفعالات. هذا التعامل السطحي أخفى خلفه واقعاً مريراً: أكثر من 85% من السكان تحت خط الفقر وذلك يدفع بالمجتمع لكوارث غير متوقعة. آلاف العائلات ما تزال تعيش في الخيام، وجزء من البنية الأمنية موزعة بين ميليشيات تنسب نفسها للدولة لكنّها تمارس سلطتها بمنطق العصابة، وكيانات مناطقية تتصرّف من خلف متاريس الهويات الضيقة. في هذا السياق، عاد إلى الظهور مجدداً خطاب تمجيد الشخصيات، وتقديس “القائد”، كأن الوعي السياسي السوري لم يغادر بعد منطق الفرد المنقذ، رغم كل ما مرّ به من تجارب دامية. هناك من يريد تذويب الدولة في ذهنية إدارة المناطق المحررة!

أعتقد أن أحد الأسباب الجوهرية لتنامي اللّاأدرية السياسية في سورية اليوم هو غياب الثقة بإمكانية قيام جهاز أمني وطني عادل. فحين تستمر فوضى السلاح والانتهاكات، يشعر معظم المواطنين أنه لا يوجد فرق جوهري بين ما كان وما هو آتٍ. في هذه البيئة، تتغذّى اللّاأدرية على الشعور بالخذلان، وعلى الإحساس بأن أدوات القمع القديمة أُعيد تدويرها بأسماء مختلفة. إن كلّ تجاوز أمني غير خاضع للمحاسبة، وكلّ عنصر يمارس سلطته بدافع شخصي أو انتقامي، لا يعمّق فقط الفجوة مع الدولة، بل يعيد إنتاج المبررات الكاملة للحياد، للشك، وللسقوط في خطاب “لا أحد يستحق الثقة”.
وإن عدم خضوع المؤسسة الأمنية الجديدة لمراجعة جذرية ضمن إطار العدالة الانتقالية لا يعزز فقط استمرار الفوضى، بل يشرعن انسحاب معظم النّاس من المجال السياسي، ويحولهم إلى مراقبين ناقمين. من هنا، فإن إصلاح الأمن هو صمام أمان للثقة العامة، ولإمكانية تفكيك اللّاأدرية كموقف دفاعي متفاقم في المجتمع السوري.

إنّه لمن الأخطاء القاتلة أن يظن السوريون أن سقوط رأس النظام كافٍ لإغلاق صفحة الاستبداد. ما لم يُهدم ميراث الأسد في العقول، ستظل السياسة في سورية أسيرة الانفعال، والتردد، والانتظار. والمجتمع الذي لا ينتج سياسة، سيظل يدور في فلك السلطة، أيّاً كان شكلها. واللّاأدرية التي تتفشى اليوم تعبّر عن تيه صارخ. وهي انسحاب من الفعل العام باسم الحذر. هذا النوع من الانسحاب يُضعف المجتمع، ويقوّي بقايا المنظومة القديمة، التي ما زالت حيّة في ثقافة التهكم، وفي رفض التعدد، وفي احتقار كل مبادرة لا تأتي من “المعروفين”.

إذا أراد السوريون أن يبنوا بلداً جديداً بحق، فعليهم أن يتجاوزوا مرحلة الغضب، ويتخلّوا عن ردّات الفعل المتسرّعة، ويتقنوا العمل السياسي بمعناه العميق: التنظيم، التخطيط، المحاسبة، وتحمّل المسؤولية. لا خلاص من ميراث الأسد إلاّ بممارسة عكسية تماماً لكلّ ما كرّسه في النّاس: منطق الفرد، هوس الأمن، تحقير الاختلاف، وتسميم الثقة بين المواطنين. واللّاأدرية ليست مرحلة، بل مأزق قابل للتجذّر. والخروج منها يبدأ بالاعتراف أن الدولة لا تُبنى من الغضب والسخرية، ولا من الحنين للماضي، بل من إرادة واعية حاضرة، تُدير التناقضات بدل أن تهرب منها.

هل طغى الاتفاق على صوت المجزرة؟

هل طغى الاتفاق على صوت المجزرة؟

بعد أربعة أيام دامية في مناطق الساحل السوري وبعد صرخات الموت التي بلغت الآفاق والتي طغت على المشهد العام، أكد كثيرون أن ما يجري نوع من الإبادة الجماعية، حيث لم يتح للناجين دفن موتاهم ومازال أغلبهم لغاية اللحظة يهيم على وجهه في الأحراش والغابات والتلال. وعلى وقع أصوات العويل والندب والصراخ وفي جو تنتشر فيه رائحة الموت الفاغر أشداقه، يأتي توقيع اتفاق تعثر طويلًا في توقيت حرج ومقلق.

 ماذا يعني أن يأتي توقيع الاتفاق بين الأكراد والحكومة السورية في هذا التوقيت؟ ما الذي طرأ وما الجديد الآن؟ من منهما يحتاج الآخر ومن منهما قدم تنازلات للآخر وأين موقع العصا الأميركية في هذا الأمر؟

تساؤلات كثيرة تحوم حول هذا الاتفاق: هل جاء ليحول الأنظار عن المجزرة التي لم تتوقف حتى تاريخ إعلانه أم هو مناورة كي ينشغل الرأي العام بقصة جديدة تتعلق بقضية حساسة تهم كافة أطياف ومكونات الشعب السوري؟ هل ثمة ما يعوض هذا بذاك، فالمذبحة المفتوحة التي تمت وتتم على المكون العلوي السوري وسرقة بيوت العلويين وأرزاقهم وحرق أملاكهم والرعب الذي لاحقهم من جراء التنكيل بهم ضجت أخبارها وعمت حدود الكون رغم محاولات إنكارها. هل هي محاولة لتغييب المشهد النازف، لذا كان لابد من استعجال الاتفاق للتغطية على تداعياته السلبية التي تشير بعصا الإدانة لمن استجلب شذاذ الآفاق ليرتكبوا المجزرة. 

الكل يستثمر في دماء السوريين فمن خلال النفير العام الذي أعلن في سوريا لكل جهاديي المنطقة، تمت معرفة العدد الكبير للمتشددين الموجودين ومآلات استثمارهم في منطقة أخرى أو التخلص منهم بعد أن أدوا أدوارهم المرسومة لهم ونفذوا المطلوب منهم. ويُشاع أنه حتى الدول الأوربية لاحقت وحصرت أعداد المؤيدين للمقتلة والزاعقين عبر وسائل التواصل الاجتماعي تمهيدا لطردهم واستخدام ذلك كذريعة للتخلص من أعداد اللاجئين المتنامية.

لا أحد باعتقادي إلا ويرغب بسورية موحدة من أقصاها إلى أقصاها رغم واقع التجزئة في الجغرافية السورية ودعوات التقسيم التي تخيم في الأفق وتركة النظام البائد المجرم والخراب الذي أمست البلاد عليه بعد رحيله، لذا من الطبيعي التساؤل عن تفاصيل الاتفاق، وهل سيكون بوابة للتخلي عن سياسة التهميش الذي رافق السياسة السابقة للحكومة الانتقالية على صعيد المشاركة والتشاركية بالفعل لا بالقول، وهل ثمة متغيرات تلوح في الأفق؟

طلب أحد القتلة من زميله أن يتوخى الحذر في القتل كي لا يخلط بين المستهدفين لأن كثيراً من العلويين يشبهون السنة في لهجتهم ولباسهم وسلوكهم وعاداتهم، هذا الكلام وإن كان لا يقصده قائله يؤكد أن الشعب السوري واحد ويعيش مع بعضه ويشبه بعضه على مدار عقود من التواجد المشترك قبل أن تلوثه سياسة الأجندات الحاقدة إلا أن هناك تساؤلات حول ما لم يرد في ما هو معلن من الاتفاق: هل ستسلم إدارة الساحل السوري للأكراد كنوع من التشاركية وبديلاً عن الأمن العام الذي صار بينه وبين سكان المنطقة ما صنع الحداد وانقطع حبل الثقة رغم ما يتردد من أن المقصود فلول النظام المجرم ولكن كثافة الضحايا المتعلمين من أطباء وصيادلة وخريجي جامعات ومعارضين أكل السجن من زهرة شبابهم تكذب تلك الرواية.                          

  السيناريو قد يبدو مقبولًا وخاصة إذا تم السعي كي تكون الديمقراطية والقبول بالآخر هدفاً، وإذا جنحوا صوب السلم الأهلي ورأب الشرخ الاجتماعي الحاصل بتأثير الواقع المتفجر، وخاصة أن الواقع الاجتماعي المنفتح متقارب بين الأكراد والعلويين. من ناحية أخرى قد يمنع هذا إمكانية مواجهة عسكرية بين السوريين ويحول دون المزيد من الاقتتال وحقن دماء بشر تعبت من الموت، بالإضافة لحل مشاكل اقتصادية باتت تثقل كاهل الحكومة السورية. 

 ثمة من يقول أن الاتفاق سيتمخض عن إعادة انتشار لقوات قسد بالساحل السوري وهذا ما نتلمسه في الأقوال الشفوية التي تنتشر هنا وهناك والتي تهيأ لذلك تحت تسمية الجيش السوري، وسيتم استبعاد المجاهدين المتشددين بفصائلهم المتعددة بكل الوسائل الممكنة. ولا أستبعد هنا الصدام المسلح مع من يرفض منهم وبالمقابل قطع طريق التدخل على تركيا في سوريا بحجة الملف الكردي لأن الكرد وفق الاتفاق صاروا ضمن الدولة السورية ما لم يحدث طارئ يقوض هذه الإمكانية.                                                                           

يقال إن مظلوم عبدي مع حفظ الألقاب جاء إلى دمشق على متن طائرة أميركية لذا من نافلة القول إن أميركا هي الراعي الرسمي للاتفاق، هذا إن لم يكن قبول إذعان، إذ صرنا نستغرب وللأسف أن يكون للسوري فعل حقيقي وأن يكون فاعلًا بقضايا تخصه وتخص حاضره ومستقبله، وهل بالإمكان يوماً أن نتخلى أن يكون دورنا كدمى في مسرح عرائس تدار أفعالنا بخيوط خفية تحاك عن بعد؟                                                                              

في الحقيقة إن كل ما يوحد السوريين هو أمر إيجابي، وهذا كلام لا غبار عليه ولكن في زحمة الدم يحق لنا أن نتساءل عن التوقيت والجدية، وـما وراء الاستعجال فيه بعد التعثر الكبير، كما يحق لنا أن نتساءل عن حرمة الموت في ضجيج الفرح الإعلامي والرقص في الساحات العامة وإطلاق الأعيرة النارية والرصاص وتضخيم المشهد لصرف الأنظار عن رائحة الدم الطازج.                                                                            

هل هذا الفرح طبيعي وهل هو مناسب؟ يجب أن يكون هنالك إعلان ليوم حداد وطني شامل كما يجري في كل دول العالم، حداد على أرواح الأبرياء الذين قضوا سواء من الأمن العام أو المدنيين ومعالجة الحقد والسعار الطائفي الذي انفلت من عقاله.

ما زلنا نترقب القطبة المخفية فيما يدور حولنا وننتظر ما تحت الطاولة أن يخرج للعلن وخاصة في ظلال الموت الذي لم يبتعد عن واقع السوريين على اختلاف أطيافهم وتوجهاتهم. وما زالت أعيننا شاخصة إلى الحل الديمقراطي والحرية والعدالة التي خرج آلاف السوريين والسوريات من أجلها وتضحياتهم شاهدة ملء العين والبصر وستظل هذه المطالب متجددة ومستمرة مهما طال الزمن لأنها محقة.