حول الحياة اليومية للسوريين في مدينة حمص

حول الحياة اليومية للسوريين في مدينة حمص

 صباحاً شوارع حمص معتمة وغارقة بالضباب.

ما زال الوقت مبكراً لتزدحم الطرقات بالناس والدخان والروائح التي تحاصر الأوكسجين في المدينة وتطرده فرائحة الحطب ومنذ الصباح تنسل إلى الجو وتغمر الأحياء.

 تحولت المدافئ بشكل جماعي من حرق المازوت إلى حرق الخشب وكل ما يخطر بالبال، الكرتون والأحذية والورق والثياب القديمة، يحرقون كل ما يمكنهم وكل ما يتيح لهم قليلاً من الدفء فهناك الحطب، النايلون والبلاستيك، الشحاطات وأغلفة الكتب والدفاتر وغيرها من البقايا والأشياء التالفة  وقطع الأبواب المحطمة لتصبح الرائحة واخزة ومنفرة بعد احتراق الدهان. في المساء يكون الوضع أسوأ حين يشتد البرد ولن تستطيع التمييز في الشارع بين الروائح المختلطة المقبولة منها والمقززة.

حطب بأنواع كثيرة، ولكل نوع سعره الخاص، الجذور والسيقان والأغصان. هناك من يشتري الحطب بالكيلو الواحد الذي لن يكفي المدفأة سوى ساعة أو اكثر. كما صار عادياً أن ترى باعة الحطب دون أن تسأل من أين؟

وفرت مدافئ الحطب استهلاك الغاز الذي لا تنتهي أزماته  فسيدات البيوت يطبخن عليها والعائلات غالباً ما تقوم بتسخين مياه الحمام عليها لعدم توفر المازوت والكهرباء.

 في الشتاء مع البرد والمطر تبدو الحياة أصعب إذ لا تنفصل معاناة تأمين الدفء عن ظروف المعاناة المستمرة على طول الفصول مع جنون الأسعار اليومي لكل المواد والتي لا تتناسب مع موارد الإنسان الذي ينحت يومياته بأظافره في قلب الصخر.

 تقول إحدى السيدات: ”اختصرنا عدد الوجبات وفي كثير من الأيام نكتفي بالحواضر دون طبخ  بينما اللحوم صارت من الماضي، وكثير من السلع والمواد الغذائية كالفواكه وغيرها“.

يبحث الناس عن وسائل لتأمين وتحسين العيش فلا يمكن الاعتماد على الراتب ولجأ الكثير منهم لاستبدال البيوت ببيعها وشراء أصغر منها أو تغيير المنطقة إلى مناطق الضواحي للاحتفاظ بوفر مالي لفتح مشروع صغير لهذا سترى أن المحلات التجارية تتكاثر ولكنها جميعا تحت ضغط التضخم وتغير الأسعار غير المأمون. بالمقابل ارتفع إيجار البيوت بشكل لا يوصف .

البعض باع وسائل استثمار وفشل بتحسين الوضع إذ باغته ارتفاع الأسعار المفاجئ وحرمه القدرة على تحسين الوضع كما حدث في السيارات.

الاعتماد على المؤونة التي تعد جزءاً من طقوس مجتمعنا للتعامل مع تغيرات الفصول تراجع أمام صعوبة توفيرها في موسمها بسبب الغلاء وعدم توفر ظروف الاحتفاظ بها كانقطاع الكهرباء

يقول أحدهم: ”أعمل 14 ساعة يومياً، وهذا لا يكفي. انقطعت السلات الغذائية والمعونات ولا يمكن أن نتجاوز الشهر بـ 350 ألف ليرة فقط هي أجري الشهري. يساعدنا بذلك أن  الأولاد ما زالوا صغاراً. في حالات المرض نلجأ للدين الذي نحاول جاهدين الابتعاد عنه لعدم إمكانية رده، لكن لا بد منه في المرض حيث يشكل الدواء عبئاً ثقيلاً بعد أن قفزت أسعاره قفزات لا نستوعبها. الكثير من الناس لا يذهبون للطبيب في حالات المرض العادي كالكريب والرشح ويقاومون بالأعشاب فقط وهناك من يحتمل أكثر من هذه الأمراض“.

تشكل المواصلات عبئاً آخر إذ تلتهم الكثير من الراتب الشهري، وأما التعليم الجامعي فأسعار النوتات صار أيضاً يحتاج إلى دخل إضافي.

 تقول احدى السيدات وهي أم لتوأم: “أما القهر فهو كيف ستمنح طفلاً في الابتدائية مصروفه اليومي وسعر البسكويتة الواحدة لا يقل عن 2000 ليرة؟”

يتردد البعض باستلام المازوت حين يتوفر بعد غلاء سعره. في العام الماضي كثير من الأسر لم تستلمه فالحطب يبقى أرخص رغم رائحته وما يسببه من أمراض. في الطريق إلى خارج المدينة كل يوم، وحين نصل  أول جسر نرى الغابة الصغيرة  وقد  نقصت شجرة، الشجرة التي تبتعد عن الطريق العام قليلاً، التي كانت تنمو دوماً خجولة لا تلفت النظر، وكل يوم سندرك أن  الأشجار التي تسند خصر الجسر تنقص فرداً جديداً. إلا أن بقايا الجذوع بقيت قائمة فوق التراب كشواهد قبور ومبعثرة كأنها جنود سقطوا في معركة.

  ستنتبه فوراً لهذا النقص، فالأشياء التي تكمل المشهد لا نثمن وجودها إلا حين نفتقدها إذ تترك نقصاً ما في مشهد ألفته العيون وسيترك غيابه عيباً ندركه بسرعة. ثم ستنسى ذلك حين تختفي الغابة كليا، كأنها لم تكن يوما. وعلى طول الطريق ستجد أن الأشجار نقصت بطريقة مواربة كأن من قطعها ترك بعضها ليخفي ما غاب ولا أعرف ما المعيار في اختياره.

 هذا العام لاحظ الجميع أن الأعياد لم تترافق بزينة كثيرة. شكلت حرب غزة جزءاً مهما في ذلك،  لكن السبب الرئيس هو أن الجزء الأكبر من الناس بدأ بتقليص النفقات  دون تردد. ويطوف في ذاكرتي ذاك اليوم الذي يبدو الآن  بعيداً جداً حين قررنا الحصول على شجرة طبيعية لعيد الميلاد ليفرح الأطفال بها وبتزيينها. كان من الصعب الحصول عليها فالثلج قد تساقط وكان ذلك غير قانونيا، اكتفينا بغصن جميل، أحضرناه فبدا كغابة مزينة في منزلنا. أتذكر تلك اللحظة التي عشناها بسعادة بالغة و رفاهية روحية. لم تعد الأشجار تدخل إلى المنازل كغابة فرح  أو زينة للأيام التي نتوخاها في العيد، بل تدخل ميتة ومحطمة، كهذه الأيام والسنوات، ولتحترق رغم أنها لا زالت تشكل  ثروة لأملٍ بالدفء.

٤

أتذكر الآن  ما قرأته في رواية عداء الطائرة الورقية لخالد الحسيني حين يعود البطل إلى افغانستان ويجد مدينته قاحلة بلا شجرة واحدة مستغرباً ذلك، ليكتشف ان السكان قد اقتلعوا كل الأشجار للتدفئة، احترقت الأشجار ليتدفأ البشر لكنها بقيت مقيمة في ذاكرة الكاتب .

بعد سنوات طويلة من الحرب ومن معاناة البشر لا يعود بالإمكان النظر للشجر المقطوع بشاعرية  فالمهم الإنسان، المهم أن هناك أطفالاً وعوائل تتدفأ فهناك حرفياً عوائل لن تستطيع حتى شراء الحطب.

 ارتفعت أسعار زيت الزيتون بشكل صارخ وصار معتادا أن ترى من يشتري الزيت بما يكفي لطبخة واحدة أو وجبة واحدة، إلى جانب التضخم هناك هبوط الكميات بسبب الحرائق التي نالت الأشجار في مناطق كثيرة. ستشاهد من يشتري مقدار كأس الشاي زيتاً حتى أنه لا يكفي لإتمام الطبخة، الزيت الذي قد يكون عند بعض العائلات وجبة وحيدة مع الملح فيغمس الأولاد الخبز به  لعدم توفر الحواضر للعشاء.

  حين احترقت أشجار قريتنا كان الرماد يغطي الأرض، المعنى الحقيقي  لعبارة عن بكرة أبيها. رغم ذلك نجت  شجرات متفرقة على السفح كانت تبدو وحدها وسط الرماد مثل طفل مذنب، يخونها الانتصاب، وتكاد الريح التي تبعثر رماد أخوتها، تنيخها للأرض.

 قد تحمل النجاة عبء جرم الشهادة، وقد تصبح النجاة ذنباً ممضاً كجرح  لا يشفى إلا بعودة الحياة  للبقية.

أينما التقيت بالناس سترى كيف بات التوتر سمة عامة. تقول ف .ر:” كل شيء نطبق عليه التقنين إلا التوتر والعصبية والغضب الدائم، الصوت العالي صار طبيعياً، ونبرة الاستفزاز والهدوء عملة نادرة تسرب العنف إلى الأطفال نتيجة ما يعانونه ويرونه من الأهل. فالجو الأسري دوماً مشحون وتتعقد الأمور أكثر بغياب الأب الذي يعمل ساعات طويلة. وكذلك  في البيوت التي تسكنها عدة عائلات نتيجة التهجير وريثما يتمكنون من العودة لبيوتهم مما يحرم أي أسرة خصوصيتها وحميميتها وقدرتها على التفاهم “.

سيرى المراقب أن النساء اللواتي يمارسن رياضة المشي يتجهن إلى أطراف الأحياء  لجمع النباتات البرية التي ستكون وجبة شهية بدون ثمن كالخبيزة أو الهندباء، وهناك نساء يحصلن عليها من الحدائق العامة بلا تردد.

تقول م.ر إن راتب زوجها لا يكفي حتماً فتلجأ للعمل في البساتين القريبة كقطاف ورق العنب أو عناقيده أو زهور القبار قبل أن تتفتح . وهو ما انتشر  في القرى بشكل كبير والضواحي: جمع زهور القبار لصالح التجار حيث يباع بالكيلو لتصديره للخارج. أعمال موسمية مجهدة ومتعبة لا بد من ذلك للاستمرار وأي عمل سيكون مساعداً فهناك الكثير من العائلات ليس لديها أحد في الخارج ليرسل حوالات تعينها على الظروف.

لم يعد أحد يفكر بالتوفير فكل ما يحصل عليه هو قوت يومه والسؤال الكبير كيف تدبر الأسرة أمورها في هذه الأيام ستكون الإجابة عليه من الصعوبة بمكان، لأن الوضع يفوق التخيل.  

الدولار ومعضلة الحياة اليومية في سوريا

الدولار ومعضلة الحياة اليومية في سوريا

“نشتري عبوة المياه على تسعيرة الدولار في بلد المياه الجوفية، ونقبض رواتبنا الشهرية بالليرة السورية، وحين نذكر كلمة دولار ولو في محادثة فيس بوك نتعرض للمحاسبة، أليس هذا عجب العجاب!”

بهذه الكلمات الغاضبة تلخص المهندسة سما الحلبي معاناة السوريين مع تسعير يومياتهم على مقاس العملة الخضراء في معادلة رياضية–اقتصادية عجيبة لا يمكن معها تفسير تسعير جرزة البقدونس المزروعة في سهول الغاب بالدولار وصولاً للمنازل مروراً بكل ما يخطر ولا يخطر على البال.

“مصروف الشهر”

لم يعد خافياً على أحد–إلّا الحكومة على ما يبدو أنّ نسق الحياة اليومية للمواطنين يسير على إيقاع بورصة التجار المحسوبين عليها والذين تنكرهم واصفةً إياهم بالمضاربين والمتلاعبين بالعملة. ومن نافلة القول أنّ العملة الوطنية هي عماد الأمن القومي، فكيف يستوي ذلك سوى في مشهد اقتصادي يمتلك من الغرائبية ما يجعله جنائزياً على جيوب المواطنين الحالمين القابضين على الجمر بيد والقابضين مصروف شهرهم باليد الأخرى.

كلمة “مصروف الشهر” ليست محض تعبير مجازي في سياق مقال صحفي، بل هي نكتة سوداء اجترها السوريون واصفين ما تمنحهم إياه الحكومة شهرياً بـ “المصروف أو الخرجية”. وحقيقةً الأمر كذلك فعلاً، فحين يكون متوسط المرتب الحكومي نحو 15 دولار شهرياً فتلك معضلةٌ تسقط حكومات، يقول سوريون على الدوام.

بيدٍ من حديد

في وقت يهيمن فيه الدولار على كل تعاملات السوق تجرم الحكومة والقانون السوريان بأشد العقوبات أي شكل من أشكال التعامل به على صعيد التداول وضمناً إتمام عمليات البيع والشراء بعد أن صار شراء سيارة يحتاج لأكياس كثيرة من العملة المحلية التي كادت تصير بلا قيمة. في القانون السوري تصل عقوبة استخدام الدولار لسبع سنوات من السجن ويمكن تشديدها لعشرين سنة في حالة وجود قطع مالية مزيفة.

تجاهل القانون، في تورية غير مفهومة أو على الأقل غير مشروحة للعوام، أن كل شيء في حياة السوريين يسير وفق تسعيرة الدولار في السوق السوداء، السوق السوداء ذاتها التي تسعّر الحكومة بموجبها بشكل نسبي أسعار بعض الأساسيات كحال المشتقات النفطية.

فرضت الهيمنة الدولارية على الناس في معاملاتهم اليومية استخدام تلك العملة لإتمام عمليات البيع والشراء في مجازفة عالية المستوى تقودهم إلى السجن في حال وشى أحد بالبائع أو المشتري أو لو تم القبض عليهما في أي حال من الأحوال أو لو اختلف الطرفان لسبب ما.

قانون يعاقب ولا يحمي

فؤاد اسم مستعار لشاب وقع ضحية التعامل بالدولار الذي لا يمكن تأطيره قانونياً، حيث واجه مشكلة في تحصيل بقية ثمن سيارته التي باعها بالدولار لشخص آخر، يقول لـ “صالون سوريا”: “بعت السيارة بالدولار لأنّ ثمنها سيملأ حقائب كثيرة بالليرة السورية، ولأنّ عملتنا تفقد قيمتها بشكل ساعي، لذا عمدت كما يفعل الجميع للبيع بالدولار وبشكل سري بيني وبين المشتري الذي لم يكن لديه مشكلة، وبالفعل اتفقنا على الثمن ودفع لي ثمنها على أن يبقى ألف دولار لحين فراغها النهائي”.

ويضيف: “بالفعل فرغتها له لاحقاً وطلب مني التريث بضعة أيام حتى يرسل لي ما تبقى من المبلغ، ولكني شعرت أنّه يماطل، ثمّ في النهاية ما كان منه إلا أن قال لي: ليس لك شيء عندي، اشتكِ للشرطة لو شئت”.

فعلياً لا يستطيع فؤاد التشكي لأنّه سيسجن هو أولاً قبل أن يسجن الطرف الآخر، وهذا ما استغله المشتري، وقد استشار فؤاد الكثير من المحامين حسب قوله، لكنّ الجميع أشار إليه بذات النتيجة وهي أنّ الحبس مصيره نتيجة تعامله بالدولار في الشراء والمبيع، لذا اختار السكوت وتناسي ما جرى له كحل قسري وحيد.

حفاظ على المدخرات

ارتباط أسعار كل شيء في حياة السوريين بالعملة الصعبة خلق حالةً من التحدي الجماعي الشعبي للحكومة والقانون، حتى أنّ كمية الدولار المتوافرة في السوق باتت ملحوظةً، وحتى أنّ كثيرين من السوريين من أصحاب المهن الخاصة أو مصادر الرزق المتعددة يعمدون بصورة متواصلة لتحويل ما يجنونه من أموال إلى العملة الصعبة أو الذهب كخيار بديل.

وفي هذا الإطار يوضح الصناعي مازن ملوح لـ “صالون سوريا” وجهة النظر العامة قائلاً: “لنقل مثلاً إن سعر سيارة من نوع كيا ريو كان نحو 50 مليوناً العام الماضي، واليوم سعرها حوالي 200 مليون، هذا أوضح مثال عن الانهيار، اليوم ثمنها 200 مليون ولو حصل لك ظرف ولم تشترها فوراً فإنك ستشتريها بعد شهر بـ 210 أو 220 مليون أو أكثر، لذلك الناس تحوّل أموالها للذهب أو الدولار، الأمر ليس تجارة لمعظمهم، بل هو حفاظ على قيمة مدخراتهم بالمقام الأول”.

الادخار دون الاتجار

ومن جانب آخر ثمة أشخاص يخافون قوانين تجريم التعامل تلك، لكنهم يعرفون كيف يلتفون عليها، فلا يبيعون أغراضهم (منازل – عقارات – سيارات – موبايلات وغيرهم) بالدولار ولكنهم يسعرونها به ويقبضون الثمن بالعملة المحلية المقابلة له ثم يبدلونها بالدولار من جديد (سراً) وعبر وسطاء موثوقين من قبلهم.

كل ذلك لئلا يقع عليهم جرم التعامل بالدولار ومن الضروري الإشارة أن الحيازة بقصد الادخار الشخصي مسموحة، أي أن يكون لدى الشخص أيّ مبلغ كان من الدولار ومهما كبر فالأمر مسموح، لكن على أن يظل داخل منزله دون أن يخرج منه دولاراً واحداً للخارج.

يُستدل على ذلك بوضوح من خلال عمل الضابطة الشرطية التي يتم إبلاغها بقضايا سرقة منازل ويكون من ضمن المسروقات مبالغ مالية بالعملة الصعبة، فتكون الضابطة معنية في حال إلقاء القبض على اللصوص بإعادة تلك المبالغ لأصحابها دون مصادرتها ما لم يثبت أنّها خضعت للتداول بأي شكل.

ولإتمام الحيازة يجب أن تكون تلك المبالغ قد تم الحصول عليها عبر تبديلها من المصارف الحكومية المرخصة أصولاً وهو ما لا ينتهجه الناس لأنّ قيمة الدولار مثلاً في تسعيرة المصرف المركزي 11 ألف بينما وصلت قيمته في السوق السوداء أواسط آب/أغسطس المنصرم إلى نحو 16 ألف ليرة سورية، إلا أنّ ذلك أيضاً لا يشكل فرقاً كبيراً بعد أن تصير الأموال ضمن منزل الحائز فمن الصعب إثبات مصدرها، ليصير التوجه إلى التنبيه بعدم التداول بها لتسري عليه قانونية الحيازة الشخصية بقصد الادخار دون الإتجار.

المهم في القضية هو عدم ضبط عملية التداول خلال حصولها، أو عدم وجود فواتير مكتوبة باليد تثبت التعامل بالدولار، أو عدم القبض على الشخص خلال لحظة تصريف المبلغ، فيما يكفي وجود اعترافات متطابقة على المصّرف لأشخاص متعددين لإلقاء القبض عليه.

“أنبياء” الاقتصاد الجدد

مراراً، قررت الحكومة مجاراة السوق السوداء على قاعدة أنها الأحق بجمع الدولار الذي بحوزة مواطنيها. نسبياً لم تنجح، فقد انتصرت السوق السوداء عليها مجدداً، في علاقة تبادلية شائكة ليست ببعض رموزها أكثر من شريكة في لعبة التدوير تلك، هذه اتهامات يسوقها الناس معبرين عنها في غير مكان.

فالحكومة تضرب الصرافين غير الشرعيين، تطارد عمليات التبادل التجاري، تصادر العملة الأجنبية من الأسواق، لكنّها، مع كل ما فعلته، لم تستطع أن تؤثر في مجتمع بات لا يثق بعملته.

وفي ظل كل تلك الفوضى النقدية التي تعيشها سوريا ثمة سوريون لا يعرفون كيف هو شكل الدولار حتى، لكنهم يشترون قرص الفلافل على تسعيرة الورقة الخضراء وعلى مزاج “أنبياء” الاقتصاد الجدد الذين يحاصرون السوريّ في غرفة نومه حتى كادوا يفرضون عليه ضرائب الإنجاب.

الأعياد في زحمة الحرب: الاحتفال من أجل البقاء

الأعياد في زحمة الحرب: الاحتفال من أجل البقاء

لم تنته الحرب، والرصاص تحوّل إلى تفصيل جزئي في زوايا الذاكرة، الإنهاك المعيشي هو السمة الأبرز، لكن روائح الحنطة المسلوقة المزينة بالقرفة تفوح من بعض البيوت. إنها الوجبة الساحرة والملهمة لطقس احتفالي بمناسبة عيد البربارة، أو عيد الحنطة كما تحب الغالبية تسميته، لذلك يحتفل السوريون بعيد البربارة بالحنطة المسلوقة مع القرفة واليانسون ومحلاة بالسكر أو بالدبس أو مطبوخة مع اللحم وخاصة لحم الدجاج. إنها مظاهر احتفالية لكنها تعيد الكرة إلى ملعبها الأول منذ سنوات طويلة وبعيدة جداً، لتشابه الأحوال الاقتصادية، حين كان للاحتفالات توظيف غذائي أهم من الديني، لدرجة أن عيد البربارة مثلاً يتحول إلى طقس غذائي بحت، كما يتحول يوم الأحد إلى موعد أسبوعي لأكل اللحم. حتى أن القصابين لا يقومون بعملية الذبح إلا مساء الأحد أو في صباحه.

لم تنته الحرب، وفي تفاصيل العيش تدور رحى حرب أكثر سطوة وشمولاً، إنها حرب الخوف من الجوع والتردي الواسع للقوة الشرائية للسكان، لكن الغالبية مصرة على الاحتفالات على الرغم من استنكاف البعض عن إضاءة أشجار الميلاد أو تركيبها، حتى أن البعض استغنى نهائيا عن الاحتفال بالأعياد. إلا أن بضعة أشجار تبدو واضحة على بعض الشرفات وخلف زجاج واجهات البيوت، عدا عن وجودها في واجهات أو زوايا المحال التجارية في غالبية الأسواق والأحياء المزدانة بالأضواء رغم شح الكهرباء. تبدو أشجار الميلاد وكأنها قد تحولت لفعل يعاند الحرب ويصر على البقاء ولو بأضواء باهتة ومتناوبة تخضع لساعات التقنين الطويلة والمعتمة، كما يلاحظ احتواء الواجهات التجارية على ملابس أو معروضات بألوان محددة ترتبط بأعياد الميلاد كالأحمر والأخضر والذهبي، بل ويمكن وبكل وضوح ملاحظة أشجار ميلاد عملاقة موضوعة في ساحات الأحياء والقرى وبعض المناطق التي قررت إعلان المظاهر الاحتفالية رغم كل الخراب. هناك تنتصب أشجار بكامل زينتها لكنها غير مضاءة أبداً بلون أخضر داكن كئيب وبزينة باهتة لا يزورها الضوء إلا لماماً، لكنها تبقى مساحة متفردة ليجتمع حولها الأطفال أو أفراد العائلات لالتقاط الصور التذكارية، والصورة تصير صفعة مدوية في مواجهة كل هذا الخراب.

 اللافت في احتفالات هذا العام هو التحضيرات المسبقة لاحتفالات غنائية واسعة، ويبلغ التزامن حده الأقصى في الإعلان عن حفلات ميلادية لكورالات كبيرة العدد وفي نفس التوقيت في طرطوس وحمص مثلاً في الثاني عشر من شهر كانون الأول\شهر الميلاد.

أوجد السوريون والسوريات مساحات احتفالية رغم كل الضيق، لم يتوقفوا يوماً عن الغناء ولا عن عزف الموسيقا ولاعن تشكيل الكورالات والجوقات الاحتفالية التي تستعيد الإرث الجميل لأغان تراثية أو لأغاني فيروز المشهورة والمحببة. وكذلك الأغاني الميلادية والأغاني الاحتفالية بالسنة الجديدة، وكأن شيئاً لم ينقطع أبداً، وكأن خيوط الحياة السعيدة ما زالت مرتبطة ببعضها بوشائج إبداعية والأهم أنها جماعية ومعلنة ومشرعة أمام الجميع.

 من زاوية معتمة في بيته يراقب جواد حركة العابرين في الشوارع المظلمة، يلتمع ضوء شجرة ميلاد على زاوية مقابلة، تراوده فكرة طريفة، سيذهب إلى ذاك المنزل وبيده هدية لطفل المغارة، المسيح، هدية عبارة عن حبة حلوى كمعايدة له بعيد الميلاد أو بيوم ميلاده، وربما يكتب له رسالة مختصرة جداً قائلاً له، كن معنا، فقلوبنا تحتاج دفء المحبة ونحن نحتاج السلام والراحة.

 ينتظر السوريون الأعياد ليكونوا على مواعيد لشراء الملابس والأحذية وربما وجبات الطعام المميزة اللازمة لهم والتي يؤجلونها لأوقات الأعياد فتصير فرحتهم بها مضاعفة، فرحة تلبية الاحتياجات وفرحة استقبال الأعياد بملابس جديدة وأنيقة تفرح الصدور وتدعم القلوب المنتظرة للحظات فرح حقيقية.

 لكن العيد هذا العام أجبر وعد على بيع خاتم زواجها، وهو القطعة الذهبية الوحيدة التي أبقتها الحرب لها. فور بيعها لخاتمها اشترت حذاء لابنها الأصغر، الذي انتظر طويلاً وهي تؤمله بأنها ستشتري له ما يريده. والحقيقة أنه لا يريد شيئاً بدافع الاقتناء أو الاشتهاء أو مجرد الرغبة، بل يحتاج الكثير من الأساسيات بدءاً من الملابس الداخلية وصولاً إلى معطف مناسب وكاف لرد البرد القارس في مواجهة غياب التدفئة بكافة أشكالها، كما اشترت بعض المؤونة للمنزل الخالي بكل ما في الكلمة من معنى من كل مقومات الاحتياج وخاصة زيت الزيتون والسكر والأرز ومواد التنظيف، عدا عن ضرورة دفع بعض الفواتير اللازمة والمتأخرة.

هنا تبدو الإشارة ضرورية جداً إلى أن ابن وعد عضو في فريق الكشاف العائد لإحدى الكنائس التي تحتفل بعيد الميلاد. إنه يحتاج حذاءً جديداً ليس فقط لأن حذاءه مهترئ، بل من أجل الاحتفال بمظهر لائق ويناسب العيد ولا يخدش حاله المهترئ مشاعر وعيون المحتفلين الذين يؤدي الفتى الألحان لهم. سيكون هناك في الطريق ليعزف الألحان الكورالية والميلادية الاحتفالية ليسعد الناس المحتفلة بالأعياد، ليتذوقوا نكهة العيد السعيد ولكي يقول الجميع إن العيد قد مر من هنا، لكن ثمة أم عرفنا قصتها بالصدفة تروي أنها باعت خاتم زواجها من أجل حذاء العيد لابنها.

 لم تنته الحرب، وكل الأعياد وأشجار الميلاد عاجزة عن تدفئة قدمي طفل يعزف الموسيقا احتفالاً بالعيد لإسعاد الناس وبقائهم في مواجهة الخراب.

 لم تنته الحرب ولن تنتهي الأعياد والأشجار باقية ما بقيَ الناس والزينة والأضواء والألوان والموسيقا والأغاني ستبقى امتداداً للذاكرة ولقوة الوجود، لكن الرسائل ليست في عناوينها دوماً، بل في مضامينها المضمرة والساطعة في حزنها وعجزها، في الحكايات التي تدور وراء الأبواب من أجل تلبية الحاجات الأساسية، في خواتم الزواج المباعة على وعد بالانفراج والكرامة والأمان. وربما ستبقى على موعد مع ابتسامة طفل يجدد حذاءه المهترئ، الذي أصرت أمه على أن يحتفل وأن يشارك الناس ألحانه الاحتفالية بحذاء جديد، طالما كانت وستبقى أحذية الأطفال وصمة عار على جبين الحروب، طالما سيكون حضور الأطفال والموسيقا والأغاني والحكايات صفعة على وجوه الحرب، المتعددة التي بات لزاماً أن تتوقف.

 على الأرض السلام وفي الناس المسرة.

“الميت لا يجر ميتاً”: عن تباين مواقف السوريين والسوريات من حرب غزة

“الميت لا يجر ميتاً”: عن تباين مواقف السوريين والسوريات من حرب غزة

يعرف السوريون\ات الحرب جيداً، اختبروها بكل عنفها، واختبروا كل أشكال القتل والتغييب والتدمير والجوع والنزوح واللجوء والموت داخل سوريا وخارجها. ماتوا على الحدود وفي البحر وفي بلدان الشتات الممتد. يعرف السوريون فلسطين جيداً، يعرفون شعبها ومعنى الحروب الطويلة والإصرار على حق البقاء أحياء على أراضيهم والتمسك بحق العودة.

ولكن معرفة الحرب لاتكفي للجمها. وإن كان لدماء الضحايا وخاصة المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ وعجزة قول بليغ وصريح دونما إفصاح: “يجب وقف هذه الحرب وفوراً.”

يمكن القول إنه ثمة تبدل شبه عام وخاصة في سورية في الموقف من الحروب، لم تعد الغالبية تراها حلاً ولا وسيلة لتثبيت الحقوق أو استعادتها، ومن كان يخاف متردداً في إعلان مسؤولية مشرعي القتل والتدمير عن دم الضحايا، بات يعلن موقفه بعالي الصوت، وإن شابَ ذلك بعض التردد خشية ردات فعل أولي الأمر.

ترددت عائشة في إعلان رفضها لحماس مع أنها افتتنت بطريقة الاختراق الفلسطيني، كان ثمة إبهار ينتصر لإرث طويل من الظلم والتمييز وهضم الحقوق الأساسية ونكرانها. يحيا السوريون كما جلّ أبناء منطقتهم في خضم هزائم داخلية وإقليمية. لا يملكون قرار الحرب ولا قرار السلم، ويعيشون في مواجهة ركون وصمت ممتد وضعيف، صمت مرتهن للأقوى ومتلاعب به.

 تخاف عائشة إعلان موقفها في بيئتها الضيقة لأنهم سيخونونها، سيعدونها ضد القضية الفلسطينية وضد أشقائها الفلسطينيين. حاولت أن تطرح وبشكل موارب فكرة الحوار، فكرة أننا تعبنا من حرب الاستنزاف الطويلة والتي تُقدم كمبررات لترك بلادنا ساحة حرب مستمرة، لكنها فشلت، لم تجدِ نفعاً كل محاولاتها لفصل حق المدنيين بالحياة والحماية عن التحكم بقرار المدنيين ومصادرته ضمناً وعلناً تحت شعارات كرهتها الشعوب وتحاول الهرب منها. لكن لا فكاك أبداً، كل طرف يعتبر المدنيين ملعبه، مساحة لصراعاته، ومداً بشرياً يحق له التصرف به، بل وإهداره، تصرخ عائشة لقد دفعنا طويلاً أثمان حروب بالوكالة يراق فيها دمنا وتهدر حيواتنا.

في الحقيقة يبدو أن اختلاف المواقف لم يكن يخص الموقف من الضحايا المدنيين أبداً، فالمواقف هنا حاسمة ضد الحرب وضد المعتدين وضد كل أشكال وأدوات القتل الهمجية والمنفلتة من كل الضوابط الإنسانية والأخلاقية، مواقف متضامنة مع المدنيين العزل حتى درجة التشارك في ذات السردية. يعرف السوريون\ات جيداً معنى هدم البيوت والنزوح واللجوء إلى المدارس والجوامع والشوارع، تقول سوسن: “عندما أرى الصور أستعيد رائحة البارود وغبار الهدم وتداهمني شراسة الخوف من كل شيء، لا شيء مجهول في ظل تغول مرعب يهدف إلى الإبادة دون أي رادع أو تردد أو التزام. لكن الرعب متجدد والموت عام مع أنه متعدد ومتنوع الأشكال.” وأضافت سوسن بأنها لم تعد قادرة على النوم منذ السابع من أكتوبر، خاصة بعد حادثة خسارة المراسل الصحفي وائل الدحدوح لأفراد من عائلته حيث لجأوا لأماكن وصفت بأنها آمنة، حادثة مأساوية ومثلها الكثير من الحوادث التي حفرت عميقاً في وجدان السوريين والسوريات وحرمتهم من النوم ومن راحة البال أيضاً، في ظل احتمالات حرب مفتوحة قد تطال سوريا أيضاً، لم يعد أحد قادراً على تقبل الحرب ولا استعادة أحداثها وتفاصيلها.

يرفض السوريون والسوريات الحرب وأي امتداد لها، لا قدرة  لهم على تحمّل خسارات مرهونة ومفروضة من قبل الأقوى.

يصرخ السوريون\ات “لماذا تركت أهل غزة وحدهم يا الله!” وهم يعلمون أن الخسارات المتعاظمة والواسعة لن تغير الصورة العامة للمشهد الدامي ولا الوقع القاسي والتمييزي الظالم في أصله، بل ستترك ندباً غائرة لمئات السنين القادمة. بات الجميع يخاف من شدة العنف المتصاعد والمتسلسل والقاتل لأي أمل بالسلام والعيش الكريم والحفاظ على الحقوق وخاصة الحق بالحياة.

من جهتها، سخرت نهاد بمرارة فائقة من بعض الدعوات التي وجهت عبر وسائل التواصل الاجتماعي لفتح معبر رفح لإجلاء الأجانب والجرحى والمرضى، أو لتأمين خط إنترنيت خاص لغزة لمتابعة ما يجري عن كثب ولإيصال الحقائق وعدم ترك أهل غزة في العتمة والصمت المطبق. يعرف الجميع أن النداءات الشعبية في بلاد لا يتم فيها احترام رأي شعوبها لن تصل أسماع أحد. لن يسمع أحد من المتنفذين أوأصحاب القرار أو المسؤولين أو القتلة، أصوات التضامن والمتضامنين في بلاد تسودها تقاليد ثابتة ومبرمة في إسكات كافة الأصوات المناهضة لتغول طرف ضد طرف أو للمطالبة بالحقوق المشروعة.

ثمة سبب آخر لاستنكاف السوريين والسوريات عن إعلان التضامن، رغم كل الخيبة والصدمة التي ألمت بهم من هول ما يحدث لأشقائهم وخاصة المدنيين العزّل، هم متعبون جداً، يتجلى نضالهم الحقيقي على أفران الخبز وفي الأسواق لتأمين الحد الأدنى من العيش وفي الشوارع البائسة بانتظار وسائل نقل لن تأتي أبداً، وإن وصلت ستصل بأسوأ حال وأرذل شكل. تقول لينا: “الميت لا يجر ميتاً، ونحن موتى على قيد الحياة، لابل يترجى بعض السوريين الموت باعتباره حسن الخاتمة والمنفذ الوحيد للراحة الأبدية والخلاص النهائي من ظلمة العيش وقساوته وانغلاق كل أبواب الانفراج.”

الدم ليس وجهة نظر، والسوريون والسوريات مجروحو الكرامة، لم يتضامن معهم أحد في موتهم، تركوا لوحدهم وفقدوا كل أشكال التضامن، ضاعت خارطة التضامن. من الصعب جداً أن ينسى الغرقى تنكر الآخرين لهم، وفاقد التضامن لا يعطيه ويعجز عن التضامن مع سواه.

يمكن اعتبار تغيّر مواقف السوريين والسوريات وتباين ردود أفعالهم محصلة طبيعية لسلسلة كاملة من التهميش والانزواء عن الشأن العام. الدم ليس وجهة نظر مطلقاً، لكن الموتى لا يمكنهم نقل الموتى الآخرين إلى المقابر. بلاد تحولت إلى قبر كبير، بلاد الأكفان أوطاني، وأهل غزة يُبادون بتعنت وهمجية غير مسبوقة يتحمل مسؤوليتها الجميع، والنأي بالنفس عن الإدانة مجزرة جديدة ومستمرة، وأشد أنواع القتل فتكاً هو الصمت، ومن يملك المقدرة على الفكاك من وصمة وعقدة الصمت قد يكون هو الناجي الوحيد.

آثارُ الجزيرة السورية: ضَحيَّة الإرهاب والنهب

آثارُ الجزيرة السورية: ضَحيَّة الإرهاب والنهب

منذُ ما يزيد على عقدٍ ونيِّف، ما برحت أرضُ الجزيرة السورية تنزف وهي تستنجد كلَّ من له رحم بها، وكل من وَطِأَها، وهي الثكلى بأديمها وحجرها وشجرها وأبنائها، تصرخُ بكل لغات البشر المحكية والمنسية، أَلَمَ انتزاع الحضارة من التراب الذي احتضنها لآلاف السنين.

فَمَعَ بداية الأزمة السورية في العام2011 ، وخروج معظم مناطق الجزيرة عن سيطرة الدولة السورية، بدأت أُولى حلقات أبشع سيناريو تدنيس ونهب وتشويه وسرقة لآثار الجزيرة السورية، على طول نهر الفرات ورافده الخابور، فما أن طغى الارهاب بكلِّ أطيافه ومسمَّياته تلك التلال، حتى عاثَ في الأرض الفساد، وأخرج منها النفائس والكُنوز، وهدم المعالم والأطلال وخرَّب سوياتِها الأثرية، ونهب الذهب والتحف الآثارية، وقام بتهريبها وبيعها إلى جهاتٍ مجهولةٍ خارج البلاد.

الإرهابُ وسرقةُ الآثار:

لعب الإرهاب المسلَّح دوراً هدَّاماً بحقِّ التراث الإنساني والحضاري في سُورية، وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ اعتبار تدمير التراث الثقافي جريمة حربٍ، يعكسُ في الوقت نفسه أهميةَ التراث الثقافي والحضاري للإنسانية، لترسيخ الأمنِ والسلام العالميِّين.

فَالغِنَى الآثاري لأيِّ حضارةٍ أو أمةٍ، هو إرثٌ ثقافي يعكس أصالةَ الوجود وثراء الفكر الإنساني، ويضفي قيمة للإنسانية جمعاء، ويُزيد صلتَنا بذاكرتنا وجذورنا، ويجعلُ من التعايُش والتنوع الفكري والثقافي هوية وسمة تُلازم الإنسان على مرِّ الأزمان.

تُعدُّ الحسكة واحدةً من أغنى المُحافظات السورية بالمواقع الآثارية، على امتدادٍ تاريخي وحضاري لبلاد الرافدين العريقة، لذا شكَّلت هذه المُحافظة على مدى عَقدٍ ونيِّفٍ طوال الحرب، هدفاً رئيساً للتنظيمات الإرهابية والميليشيات المُسلحة في عمليات النهب والتدمير التي طالت الكنوز الأثرية فيها، واُستخدمت كَوَقودٍ لإذكاء الحرب، فالأطماع الأجنبية بثروات ومقدرات الوطن السوري لم يُعرف لها حدٌّ ولم يُدَّخر لسواها حقد، فكان لتاريخ وحضارة هذه الأرض، التي ما أنْ تخطوَ بها حتى يهيم بك طيفٌ ويملؤك حضور لشعوبٍ عاشت وتنقَّلت وحضارات قامت واندثرت، وقلاع ومدن ما تزال ترقد بصمتٍ تحت الرمال، تُغْمِضُ عيناً والعين الأخرى مفتوحة تنظر للُّصوص وشذَّاذ الآفاق وقُطَّاع الطرق والجهلة، وهم ينبشُونها ويُجهضون ما في أحشائها؛ نصيبٌ من الهمجية الغربية والحقد الدفين لكلِّ ما يمتُّ لهذا الشرق العريق بِصِلَة، ولكلِّ ما يُذكِّرهم بهزائمهم المدوِّية أمام الحضارة والإنسانية.

حيثُ أعلنت دائرةُ الآثار والمتاحف في مُحافظة الحسكة في العام 2015، تسجيلها 100 حالةِ اعتداءٍ على المواقع الأثرية في المُحافظة، معظمها في المناطق الجنوبية منها، وصرَّح وقتئذٍ رئيس الدائرة خالد أحمو في لقاء صحفي أن عمليات الاعتداء ظلَّت مستمرة وبشكل خاصٍّ في المناطق غير الآمنة، لافتاً إلى أن عمليات الحفر العشوائي وسرقة القطع الأثرية، تشكلُ أبرز أنواع الاعتداءات التي طالت المواقع الأثرية.

شاديكاني خاوية على عروشها:

أوضحَ أحمو أنَّ مِنْ أهمِّ المواقع الأثرية التي تعرَّضت للاعتداء، هو تل عجاجة قائلاً أن “أكثر من 40% من تل عجاجة تعرَّضَ للهدم والجرف على يد مُسلحي داعش، بالإضافة إلى حفر خنادق داخل حرم الموقع الأثري”. ويضيف “دُمِّرت عن بكرة أبيها سويَّات أثريَّة لا تُقدَّر بثمن تعود للفترة الآشورية”، وتل عجاجة يبعدُ عن مركز مُحافظة الحسكة حوالي 35 كم إلى جنوبها الشرقي، ويتوضَّع على كتف نهر الخابور من جهة الغرب، ويُعد الأهم في المنطقة من حيث قيمته الأثرية، فعليه قامت عاصمة الدولة الآشورية المتأخرة (شاديكاني). يُذكر أنَّ التحريات الآثارية في هذا الموقع قد بدأت عام 1850، على يد أَوستن هنري لايارد Austen henry Layard، الذي كشف فيه عن تمثالٍ لثور مجنح ما يعرف بـِ لاماسو lamassu والذي أكَّد بدوره أن هذا الموقع يعود للعاصمة الآشورية المفقودة (شاديكاني)، وقامت طائفة من علماء الآثار لفترات مُتقطعةٍ بمسوحات أثرية للموقع، وللعديد من المواقع الأثرية على طول نهر الخابور، ومنهم فان موريس وماكس فون أوبنهايم وماكس مالوان والذي زارها برفقة زوجته الروائية الشهيرة أجاثا كريستي.

وفي إطار التعرُّف على أهم المواقع المنهوبة التقى “صالون سوريا” بأبو محمد ذلك الفلاح الخمسيني الذي كان يسقي أرضه القريبة من تل عجاجة وعند سؤاله عمَّا تحمله ذاكرتهُ عن تلك الليالي قال:”إنَّ تنظيم داعش الإرهابي لم يترك حجراً على حجر، وقد بدأ بتخريب كل هذه التلال بِحُجَّة تسوية أضرحة الأولياء في مقابر المنطقة بدعوى الشرك”. ويكمل أبو محمد حديثه مُتَلفِّتاً: ” كان تنظيم داعش يُجبر المواطنين المُستتابين على الحفر وهدم القبور لتغطية أعمال التنقيب والسرقة، واستمرَّ الحفر في تل عجاجة طَوال الليل ولم يكن يجرؤ أحد على الاقتراب أو السؤال، كما استخدموا الجرَّافات في التنقيب إضافة إلى الحفر اليدوي”

ويعلّقُ مأمون عبد الكريم المدير العام السابق للآثار والمتاحف في سورية: “بضربة جرافةٍ، أحرق هؤلاء الهمج صفحات من تاريخ بلاد ما بين النهرين ” مُضيفاً ” خلال شهرين أو ثلاثة، أزالوا ما كان إخراجه يتطلَّب خمسين عاماً من التنقيب عن الآثار”.

كما أكَّد على تعرُّض تل طابان الأثري، والذي يأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، للاعتداء من قبل التنظيمات الإرهابية، مُشيراً إلى أنَّ البعثة اليابانية اكتشفت فيه خلال مواسم التنقيب في العقود الماضية مجموعة من السويَّات الأثرية لقصورٍ وأبنيةٍ وأفران أثرية، ما أكسب هذا الموقع شهرةً، وجعله في قائمة الاستهداف الإرهابي، غير أنَّ أعمال التنقيب فيه توقَّفت منذ بدء الحرب في سورية.

تماثيل آشورية أسيرة في قبضة داعش:

ويُذكر أن تنظيم داعش الإرهابي عَثَرَ عام 2014 خلال تنقيباته في تل عجاجة الأثري على تمثالٍ آشوري، وقام عناصر التنظيم بتحطيمه أمام العامة في منطقة الشدادي، بذريعة أن هذه التماثيل كانت فيما مضى تعبد كآلهة، وفيها ما يدعو إلى الشرك والوثنية. ويوضّح مأمون عبد الكريم قائلاً ” وجدوا تحفاً كانت لا تزال مدفونة، من تماثيل وأعمدة “، فكل ما قامت به التنظيمات الإرهابية من استهداف للمواقع الأثرية يعد اعتداءً على ذاكرتنا وتاريخنا ومحاولة لاجتثاث جذورنا، وتعمّد لطمس هوية وتراث شعوب المنطقة وتاريخها وثقافتها، وهي تسعى جاهدة لسرقة وتشويه وتخريب ومحو كل ما شيدته هذه الأمم والحضارات.

وفي هذا السياق، جدَّد رئيس دائرة الآثار والمتاحف دعوتَهُ للمجتمع المحلي في الحسكة، إلى التعاون مع الدائرة في الحفاظ على المواقع الأثرية وحمايتها، على الأقل في إطار توثيق التعديات على المواقع الأثرية، مؤكداً أنَّ هناك الكثير من المواقع الأثرية في المحافظة كان يصعُب الوصول إليها في تلك الفترة، بسبب تهديدات الجماعات الإرهابية إبان سيطرتهم عليها، وأشار إلى أن دائرة الآثار لم تتمكن من الحصر الدقيق لعمليات النهب التي تعرَّضت لها المواقع، ولم تتمكن من معرفة حجم الضرر الذي لَحِقَ بالسويَّات الأثرية للمواقع المنهوبة، بسبب الأوضاع الأمنية في المنطقة؛ بما فيها تل الشدادي الذي تعرض هو الآخر للاعتداء والتخريب من قبل التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة المتلاحقة والتي قامت بتجريف التل وحفر الأنفاق فيه، إضافةً للتلال المُتناثرة على طول ضِفاف نهر الخابور، فقد تعرَّضت هي الأخرى للنَّبش والتخريب وَشُوِّهت معالمها وسويِّاتها الأثرية بفعل الحفر غير الشرعي والهمجي الذي طالها.

وتضم مُحافظة الحسكة وفقَ سجلَّات دائرة الآثار والمتاحف، ما يقارب  1024موقِعاً أثرياً مُسجَّلاً وغيرَ مُسجَّل، الأمر الذي يعزِّز من أهميتها الأثرية بالنسبة للتراث الإنساني العالمي، ويضَعُها في مرمى الاستهداف من قِبَلِ التنظيمات الارهابية المسلَّحة ولصوص الآثار.

نهب وتهريب الآثار السورية بشراكةٍ وتغطيةٍ امريكيةٍ:

بعدَ تفشّي ورم الميليشيات والجماعات الإرهابية في عضد الوطن السوري، أضحى كُلُّ شيء مباحاً، والتنافس على سرقة مقدَّرات سورية واغتنام ثرواتها وآثارها، أصبح هدف جميع الميليشيات والفصائل المسلحة المتناحرة في الداخل السوري، ومؤخراً، بدا واضح للعيان شكل المؤامرة الممنهجة لنهب وتشويه وطمس أقدم حضارات ومدن العالم.

على إثر الهزيمة التي اُلحقت بتنظيم داعش، وخروج الجزيرة السورية من تحت الدلف الداعشي الى مزراب ميليشيا قسد المدعومة أمريكياً، عادت فصول التخريب والسرقة المنظمة للآثار على يد مسلحي ميليشيا «قسد»، والتي بدأت بشكلٍ مرحلي ومنظَّم بتخريب وحفر وتنقيب للمواقع الأثرية المهمة والمعروفة في الجزيرة السورية.

ولاحقاً، في العام 2020، كانت تقارير ومعلومات نُشرت على مواقع إخبارية سورية، إضافة الى موقع «سبوتنيك» تؤكد أنَّ الجيش الأمريكي، بالتعاون مع مسلحي ميليشيا «قسد»، وعدد من الخبراء الأجانب أقدم على تنفيذ عمليات حفرٍ وتنقيب وسرقة للآثار، ضِمنَ المواقع التاريخية الأثرية المعروفة في محافظة الحسكة.

وقالت وكالة «سبوتنيك»، إن عمليات تنقيب وسرقة مُنظَّمةٍ تتعرَّض لها المواقع الآثارية السورية، حيث بدأ الجيش الامريكي بالتعاون مع تنظيم «قسد» وخبراء أجانب من جنسياتٍ مختلفة، عمليات تنقيبٍ جديدة، ضمن قرية الغرّة في منطقة جبل عبد العزيز الواقعة على بعد 35 كم جنوب غرب محافظة الحسكة، وذلك بهدف سرقة الآثار واللقى في المنطقة. 

وأوضحت، أنَّ مجموعة من الخبراء الأجانب تفقَّدت بحماية عسكرية، موقع قرية الغرَّة الأثري، لتبدأ بالفعل عمليات حفر وتنقيب بالتزامن مع منع السكان من الاقتراب من مواقع التنقيب، وأشارت الى أنَّ عمليات التنقيب والحفر والسرقة تتم في عدد من المواقع الأثرية ضمن قرية الغرّة، أهمها مسجد الشيخ عبد العزيز الأثري القديم، وفي موقع البرغوث «آثار القلعة القديمة»، وفي موقع العلَّاجة «نبع المياه والكنيسة القديمة». 

‏‏وأضافت مصادر رسمية في مديرية الآثار والمتاحف في الحسكة أنَّ عدداً كبيراً من المواقع والتلال الأثرية في المحافظة تتعرَّض لتعدياتٍ، تضمنت حفريَّات بأدواتٍ بدائية وتخريباً للسويَّات الأثرية مثل موقعي «قبة منصور والمدينة الأثريين» في الريف الشرقي لمدينة الحسكة.

وأوضحت المصادر في المديرية، أنَّ أكثَرَ المواقع التي تعرَّضت للسرقة والتخريب هي المواقع والتلال الأثرية في المنطقة الجنوبية، وخاصة المحيطة بالتلال الأثرية مثل تل طابان وتل تنينير وقلعة سكرة جنوب غرب مدينة الحسكة وتل الشدادي، وأنَّ العديد من المواقع الأثرية تعرَّضت للتخريب والتجريف بآلياتٍ ثقيلة من قبل الميليشيات المسلحة وذلك بهدف حفر الأنفاق في التلال، ما أدى لتخريب عدد من الممرات والجدران المزخرفة والقصور، وإلحاق الضرر بالسويات الأثرية تزامناً مع نهب اللقى والآثار.

وأكَّدت أنَّ السنوات الماضية من الحرب، شهدت أكبر سرقة في تاريخ مُحافظة الحسكة الأثري، من قبل المجموعات المسلحة التي تناوبت السيطرة على المناطق الريفية بدءاً من ميليشيات «الجيش الحر» ثم تنظيم «جبهة النصرة» الإرهابي وبعدها «تنظيم داعش» الإرهابي وصولاً إلى ميليشيا «قسد» والجيش الأمريكي الذي عمل بالتعاون مع «قسد» على حفر عشرات التلال الأثرية بِحُجةِ إقامة الدشم والتحصينات العسكرية في عمليات سرقة ممنهجة ومنظمة للآثار السورية.  

ونقلاً عن مصادر مُطَّلعة، أفادت بأن القوات الأمريكية تقوم بالتعاون مع ميليشيا «قسد» بتسهيل عملية نهب ونقل الآثار والكنوز التاريخية السورية، وكشفت أن عناصر ميليشيا قسد خلال عامي 2018 ــ 2019 قامت وبدعم أميركي، بنقل مجموعة من الخبراء الآثاريين بينهم جنسيات إسرائيلية وأمريكية، إلى مواقع أثرية وتاريخية مهمة ومنها (تل حلف) برأس العين إضافة إلى كل من (تل الفخيرية وتل بوقا وتل بيدر) وعدد من التلال الأثرية بريف المالكية، وقامت بعمليات تنقيب وسرقة وتهريب للآثار باتجاه فلسطين المحتلة وأربيل في العراق ومنها إلى دول أوربية.

اعتداءاتٌ وسرقاتٌ أثرية بالجملة:‏

وفي إطار توثيق الاعتداءات التي يُنفِّذها مسلحو قسد بدعمٍ أمريكي، نشرت وكالة الأنباء السورية Sana عدة تقارير، أكدت فيها استمرار دعم وتعاون القوات الأمريكية منذ العام  2014مع ميليشيا قسد، بالتنقيب والبحث عن الآثار في مواقع عدة شمال محافظة الحسكة، أهمها تل علو في منطقة المالكية وتل محمد الذياب وتل مزكفت بريف بلدة القحطانية، وتل عربيد على طريق الحسكة – القامشلي وتل كريرش بريف القامشلي، وتل براك، وتل ليلان بريف منطقة تل براك بريف المحافظة، والتي تعد من أبرز التلال الأثرية التي تعرضت للسرقة ولعمليات تنقيب منظَّمة من قبل خبراء أجانب يتم حراستهم من قبل عناصر ميليشيا قسد.

وكشفت الوكالة نقلاً عن مصادر محلية في ريف مدينة القامشلي أن “قوات الاحتلال الأمريكي التي تتمركز قرب تل موزان (أوركيش) جنوب عامودا، منذ عام 2014، وسَّعت دائرة المناطق التي تعتبرها مناطق عسكرية محظورة، بالتعاون مع ميليشيا قسد، وأخضعت المنطقة لإجراءاتٍ أمنيةٍ مشددةٍ، لتسهيل إخراج اللقى الأثرية التي سرقوها من التل وتهريبها إلى أوروبا.

فلم تُفلح التعويذات المنقوشة بالمسمارية الهورية للإله لوبَغادا حامي المعبد أن توقف اعتداءات ميليشيا قسد وداعميها، وأن تقضي على كل من يعبث ويدنِّس معبده المُقدَّس.

وتضيفُ المصادر في مديرية آثار الحسكة، أن قوات الاحتلال الأمريكي بالتعاون مع ميليشيا “قسد”، استولت على مواقع أثرية تُعدُّ من أهم المواقع الآثارية عالمياً، مثل تل بيدر ومنطقة الحمة واللايف ستون وتل موزان، وعدد من التلل في ريف القامشلي الشرقي، وتقوم بعمليات تنقيب وسرقة اللقى الأثرية وتهريبها إلى مناطق مجهولةٍ خارج البلاد.

وفي بلدة القحطانية بريف القامشلي الشرقي، أفادت مصادر أهلية إلى أنَّ ” القوَّات الأمريكية نقلت مجموعاتٍ من اللقى الأثرية من تل قرية محمد الذياب وتل ليلان الأثري، وهما تلَّان حوَّلهما الاحتلال الأمريكي، لمنطقةٍ عسكريةٍ ونهب كل محتوياتهما من اللقى الأثرية من أختام وتماثيل وذهب، ونقلها إلى قواعده غير الشرعية بريف الحسكة تمهيداً لتهريبها خارج البلاد”.

من جهة أخرى، أكَّدت مصادر من أهالي المنطقة في ريف اليعربية “أنَّ مسلحي ما يسمى “الصناديد” التابعة لميليشيا “قسد” أقدمت على سرقة إحدى اللقى الأثرية وهي عبارة عن تمثالٍ نادر من قرية قسروك في ريف اليعربية، ونقلوها إلى جهة مجهولة”، وتستمر قوات الاحتلال الأمريكي وميليشيا “قسد” باستخراج الآثار في المناطق التي تسيطر عليها في محافظتي الرقة والحسكة، ومنها بلدتا القحطانية وعامودا بريف القامشلي.

كذلك حاولت الأخيرة السيطرة على تل الذهب القريب من قرية تل الذهب الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية، لتسهيل دخول قواتها ونهب ما فيها من آثار، لكنها فشلت في ذلك لوقوف الأهالي بوجه الآليات العسكرية ومنعها الدخول إلى المنطقة.

عمليات التنقيب مُستمرة:

ما تزال آثار الجزيرة السورية رهن عبث عناصر ميليشيا قسد وداعميها، ففي شهر آذار من العام 2021، باشرت ميليشيا قسد عمليات حفر وتنقيب في منطقة أثرية جديدة بمحيط بلدة القحطانية، في تل قرية الدرك (دوكر) تقع على بُعد  5كم غربي بلدة القحطانية.

ونقلاً عن مصادر محلية، أفادت أن عناصر ميليشيا قسد استأنفت عمليات الحفر على جانبي التل الأثري الواقع في قرية الدرك، وذلك باستخدام وُرش وآليات هندسية، وكشفت المصادر أن ميليشيا قسد منعت الأهالي من التوسُّع في بناء المنازل بالقرب من التل المذكور كونه من التلال الأثرية المهمة، وبالرغم من ذلك قامت ميليشيا قسد بجلب آليات هندسية من منطقة مركدة، وباشرت بأعمال حفر أنفاق عميقة في التل، بِحُجة تحويله إلى مخزن للأسلحة والذخائر، لتغطية عمليات التنقيب عن الآثار ونهبها.

استياءُ المُكوّن العربي من السرقة الممنهجة للآثار على يد ميليشيا قسد:

تقوم فيما يعرف بالإدارة الذاتية بِدعمٍ وتغطية أجنبية بأعمال تنقيب وحفريات مستمرة تستهدف جميع المواقع الأثرية في منطقة الجزيرة السورية الخاضعة لسيطرة قسد، ويعزو الأهالي عمل الأخيرة إلى خلط الأوراق ومسح الهوية الثقافية للمنطقة وتشويه التراث الحضاري لسورية الأم، واللعب على وتر عرقي بتغيير ديموغرافيا المنطقة وتحييد الأسماء الأصيلة للمناطق والأماكن، وطبعها بطابعها الخاص، وذلك محاولة منها لإعادة تشكيل المنطقة من جديد بما يتلاءم مع أجندة ميليشيا قسد.

وفي السياق ذاته عبَّر محمود وهو مُعلِّم مدرسة عن امتعاضه قائلاً “إن اعتداءات ميليشيا قسد على آثار الجزيرة هو انتهاك صارخ لتاريخنا وذاكرتنا، فما ارتكبته داعش بهمجيتها وفكرها الظلامي ليس بأشدّ وطأة مما تقوم به قسد، فهي تسرق آثارنا على عينك يا تاجر بتغطية وحماية أجنبية” ويُضيف ” إسرائيل وفرنسا وتركيا وراء القصة.. العداء بيننا تاريخي ومعركتنا وجودية”.

حصيلة الاعتداءات التركية على الآثار السورية:

إضافةً للانتهاك الصارخ للأرض السورية، يقوم الاحتلال التركي، إلى جانب سلسلة اعتداءاته وممارساته الضاربة بالقانون والأعراف الدولية عرض الحائط، بإضافة فصل إجرامي متكامل يتعلَّق باعتدائه على الآثار السورية تخريباً ونهباً وسرقةً، في جميع المناطق التي احتلها وبسط سيطرته عليها عبر المجموعات الإرهابية التي تعمل تحت رايته، وتنفِّذ أجندته الاستعمارية؛ وتسهيل عمليات تهريب اللقى والآثار السورية عبر أراضيه ومنها إلى أوروبا.

وفي لقاءٍ صحفي أجرتهُ وكالة سبوتنيك، تحدَّث فيه محمود حمَّود، المدير العام للآثار والمتاحف في سورية، عن الكارثة الكبرى التي لحقت بالآثار السورية نتيجة الحرب الدائرة في البلاد، ويقول حمَّود: “تعرَّضت الآثار السورية لكارثةٍ كبيرة، نتيجة اعتداءات المجموعات الإرهابية المختلفة، وفي سورية ما لا يقل عن 10 آلاف موقع أثري، تعرَّض الكثير منها للدمار والنهب والتنقيبات غير الشرعية”. ويضيف حمَّود:”هناك ما لا يقل عن مليون قطعة أثرية نُهبت خارج القطر عبر الحدود خاصةً التركية والفلسطينية المحتلة والأردنية”

وأشار حمَّود إلى الدور الكبير والإجرامي الذي لعبته تركيا في التخريب الذي لحق بالمواقع الأثرية في المناطق التي تقع تحت سيطرتها، وأفاد أيضاً بأنَّ “الدمار أصاب أيضاً المواقع الأثرية التي احتلها الجيش التركي وقصفها قبل أن يحتلها”. ويكمل: “هناك تنقيبات مُخيفة تتم على يد المجموعات الإرهابية التي تعمل تحتَ راية الاحتلال التركي للمنطقة، وكان هناك استباحة لهذه المواقع الأثرية، مثل موقع جنديروس الذي نقَّبت فيه بعثة سورية ألمانية حتى عام 2010”.

الاعتداء على الأثار اعتداء على الذاكرة الإنسانية:

‏‏إنَّ الممتلكات الثقافية لايّ أمة هي جزءٌ لا ينفك ولا يتجزأ من ذاكرتها وتاريخها الحضاري، وسلامته مؤشرٌ لقدرتها على الاستمرار والتواصل بين أجيالها المتعاقبة، فالاعتداء عليها يُعدُّ جُرماً ضد الإنسانية جمعاء، وانتزاعاً للهُوية التاريخية لشعبها، بل إنَّه في حالات معينة يتعدَّى الاعتداء على خصوصية شعب ما، ويصبح اعتداءً على الميراث الإنساني بشكلٍ عام، ‏فالعديد من المواقع التاريخية والأثرية لا تقتصر أهميتها على شعبٍ محددٍ وإنما أصبحت تؤلفُ جُزءاً من ميراث الإنسانية عامة، لذا فإن واجب حمايتها وضمان سلامتها يقعُ على عاتق الإنسانية كلها، ومهمَّة رئيسة من مهام المجتمع الدولي.

كما أنَّ اعتبار تدمير التراث الثقافي جريمة حرب، يعكس أهمية هذا التراث للسلام والأمن العالميَّين، فهذا التدمير أصبح وسيلة من وسائل الحرب، تستهدف تدمير المجتمعات على المدى البعيد، وذلك في إطار استراتيجية مُتطرفةٍ للتطهير الثقافي، لذلك فإنَّ حماية التراث الحضاري ليست مسألة ثقافية فحسب، بل هي ضرورة أمنية وجزء لا يتجزأ من ضرورة حماية الحياة البشرية والدفاع عنها.

صمْتُ المُجتمع الدَّولي:

على الرغم مما حدث ويحدث من تدمير للمواقع الأثرية في سورية ونهب لمحتوياتها، إلَّا أنَّ المجتمع الدَّولي يبدو عاجزاً عن مُحاسبة مرتكبي هذه الجرائم، كأنَّه بصمته شريكٌ في الجرائم الوحشية المُرتكبة بحق هذا التراث، وكأنَّه يوجَّه رسالة مفادُها أنَّ تراث هذا الشعب مُهدَّد بالزوال.

إضافة إلى أنَّ الأعمال الإرهابية لا تسعى فقط لتقويض المجتمعات والدول والبُنية الديموغرافية لها، بل تهدف أيضاً للقضاء على كل ما يرمز لهذه الأمم والحضارات، من إرث حضاري وثقافي غني ومتنوع، والذي يشكل أمثولة ثقافية تُمكننا من التعرُّف من خلالها على تاريخ وثقافة هذه الحضارات حياتها وفكرها وعقائدها، وليس غريباً المطالبة بحماية التراث الثقافي ومُكافحة سرقة الممتلكات الآثارية والاتِّجار بها، في زمنٍ تتعرَّض فيه البشرية لمخاطر مُتَعددة نتيجة الحروب والنزاعات المسلَّحة الدائرة في المنطقة، فالممتلكات الثقافية ليست مُجرد تماثيل وحجارة تُعرض في المتاحف أو سلع يتم تَداوُلها في الأسواق، بل هي تجسيدٌ لتاريخ أمَّةٍ وهُويَّة شعبٍ وثقافتهِ، وفقدانها بفعل السرقة والاتِّجار غَيْر المشروع، قد يؤدي الى تفكّك المُجتمعات وعدم قدرتها على التعافي بعد الحروب، إنها باختصار ذاكرتنا وجُذورنا المُتَغلغِلة في رحم الأرض.

غابات سوريا في الزوبعة

غابات سوريا في الزوبعة

     ها هو البردُ يقترب في سوريا، ويشعر الناس مع اقترابه برعب كيانيّ، إذ سينتقلون من أعلى ذروات الحرارة في الصيف إلى أخفضها في الشتاء دون المرور بخريف حقيقيّ بسبب ما يجري من تغيُّرات مُناخيّة، وإذا لم يحضِّروا أنفسهم لمواجهة عواصف الثلج والزمهرير والصقيع، فستكون النتائج كارثيّة، وليس في وسع سكان المدن فعل شيء سوى انتظار حصصهم الشحيحة من مادة المازوت التي لن تكفي أكثر من أيام معدودات، فمن كان منهم مالكاً للمال يمكن أن يشتري المزيد من هذه المادة من السوق السوداء بأسعار مرتفعة جداً؛ أما من لا يملك المال فيجب عليه أن يتدرّب مع عائلته على ارتداء الملابس السميكة ولفِّ الجسم بالأغطية إلى أن ينقضي الشتاء، مُعَرِّضاً نفسه وأطفاله لأمراض من أنواعٍ مختلفة يزيدها هولاً ضعف المناعة بسبب سوء التغذية، علاوة على ما قد تتعرّض له العائلات من اضطرابات نفسيّة، تحديداً النساء والأطفال، بفعل الضائقة الشديدة التي تمر بها البلاد.

     لكن نجد اختلافاً في الموقف من هذه المعاناة بين سكان المدن وسكان الأرياف في سوريا، إذ إنَّ بعض سكان الأرياف أشدّ مراساً في مواجهة صعوبات الحياة في الشتاء من سكان المدن، ويبدو أنَّ بينهم رجالاً احتفظوا بجينات وراثيّة يمكن أن تحوّلهم إلى شخصيات مختلفة في أوقات المحن ليستعيدوا قدرة أسلافهم على مواجهة قسوة الحياة، إذ يخرج الكثير منهم في هذه الأيام إلى الغابات من أجل جمع الحطب، أو قطع الأشجار للحصول على مورد للتدفئة في هذه الظروف العصيبة، وتأمين مخزون يكفيهم الشتاء كلّه، وكأنهم يتحدون الطبيعة من أجل البقاء كما فعل أسلافهم من مئات السنين.

     ويمكن تحليل هذا الوضع من أوجه مختلفة: إذ إنَّ قطع أشجار الغابات من دون أيّ شك يتسبب في الاحتباس الحراريّ وهو ظاهرة مُناخيّة خطيرة تؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة وإطلاق غازي ثاني أكسيد الكربون والميثان وغيرهما بكميات أكثر من المعتاد على نحو يفضي إلى نضوب المياه، كما يؤدي قطع الأشجار وإزالة الحِراج إلى نفوق الحيوانات البريّة، واتّساع رقعة التصحّر، علاوة على اتّجاه السكان على نحو حتميّ إلى الهجرة في المستقبل من مناطقهم بسبب تغيرات سلبية قاسية في العوامل المُناخيّة. ولا بدّ في هذا السياق من التمييز بين الأشخاص الذين يقومون بهذه الأفعال تبعاً لغاياتهم. ذلك أنَّ هناك أشخاصاً امتهنوا مهنة قطع الأشجار وإزالة الحِراج، لاستخدام أخشابها في البناء، او لبيعها كوقود (=فحم أو أخشاب مُقَطَّعة)، كما يمكن أن تتم إزالة الغابات أو البساتين من أجل الحصول على أراض صالحة للبناء من أجل السكن أو إنشاء المصانع أو المشاريع المختلفة، وهذا يجب مواجهته بكلّ الطرق المتاحة من أجل منع البلاد من الاتّجاه نحو الخراب الحقيقيّ.

     بيد أنّه ماذا يمكن نفعل أو نقول لقرويين فقراء يعيشون في أصعب الظروف وأقساها في تاريخ البشريّة، إذا قاموا بقطع الأشجار لتدفئة أطفالهم وشيوخهم ومرضاهم، فهل يمكن لنا أن نقنعهم بنظرياتنا عن الإيكولولوجيا والهيدرولوجيا وعلم الحفظ الحيويّ؟

   لا شك في أنَّ نظرات هؤلاء إلينا ستتحوّل إلى نظرات ازدراء، لأنهم سيتأكدون حينها من أننا سطحيون جدّاً لنقبل فناء الإنسان وبقاء الطبيعة، فما قيمة الطبيعة الخلّابة إذا كانت قبراً كونيّاً لأسمى الكائنات فيها؟

    لقد كان شعار الرواقيين كما كرّسه زعيم مذهبهم زينون الفينيقيّ-السوريّ هو “العيش في وفاق مع الطبيعة”، وهذا يعني أن يقبل الإنسان عن طيب خاطر كلّ ضربات القدَر بالمعنى الواسع؛ لكن شريطة أن يؤدي واجبه كاملاً في مواجهتها حتى لا تفتك به وتزيله من الوجود. وهذا ما يفعله أبناء سوريا في الوقت الراهن، فهم يواجهون القدر بمختلف معانيه، ويجب أن نعرف أنَّ القدَر بالمعنى الرواقيّ مختلف عن القدَر بالمعنى اللاهوتيّ أو الدينيّ. إنّه يعني كلّ ما يصيب الإنسان من مصائب مهما كانت أسبابها، لكن شريطة تقبُّلها ومواجهتها في آن واحد!

     وإذا مزجنا تجربة السوريين الحاليين بتجربة أسلافهم الفينيقيين الذين كان زينون نفسه واحداً منهم، لاكتشفنا أنَّ أشجار غابات فينيقيا لم تُقطع قديماً إلا لصناعة سفن مخرت عباب البحار لإنشاء مستوطنات على مختلف سواحل البحر الأبيض المتوسط، ولنقل أدوات التطور الحضاري وفي مقدمتها الأبجدية الألفبائيّة الصوتيّة إلى اليونان وروما ومنهما إلى سائر أنحاء أوروبا وأجزاء كثيرة من العالم.

     لقد كانت جبال الساحل السوري التي كانت تشمل تاريخيّاً جبال لبنان مغطاة بأعظم الغابات الغنية بالحياة البرية بمختلف أشكالها؛ لكنها الآن مع مجيء عصر العولمة تتحوّل إلى جبال جرداء مقفرة، أو إلى صُقعٍ بَلْقَعٍ على حدّ تعبير العرب القدماء حينما يصفون أرضاً خاوية من كلّ شيء.

    غير أنّه يجب فهم معاناة القرويين في هذه الجبال والتعمُّق في معاناتهم إلى أبعد حدّ ممكن، فقد تعاقبت أجيال عديدة منهم طوال قرون من أجل جعل هذه الجبال صالحةً للحياة الإنسانيّة، ولا يمكن إلا أن يشعر كلّ واحد منهم بألم كبير حينما لا يجد أمامه أي إمكانيّة للمحافظة على حياته وحياة عائلته إلا باللجوء لقطع أشجار لها رمزيّة كبيرة في عقولهم ونفوسهم، وكـأنّي بواحدهم حينما يضطر لقطع إحدى الأشجار يشعر بأنّه يجتثُّ ذاته من جذورها؛ ولكنه لا يفعل ذلك إلا مرغماً، وقد وصل الأمر بأشخاصٍ إلى حدّ قطع أشجار جوز أو مشمش أو زيتون محيطة بمنازلهم ويستفيدون من ثمارها، لأنهم يخشون من هول البرد القادم إليهم، على نحو لا تمكن مقاومته، فيُقدمون على قطع هذه الأشجار بعد إحجام، لكنهم يفعلون ذلك لاعتقادهم أنَّ بقاء أطفالهم أكثر أولويّة من بقاء الأشجار، ولا بدّ أن يأتي يوم في رأي هؤلاء يمكن فيه غرس الأشجار من جديد، أعني غرسها في تربة صالحة، غير هذه التربة الحالية التي أصبحت مَوْحِلاً للفساد الداخليّ والتآمر الخارجيّ بمختلف أشكالهما.

     وينطبق هذا الأمر على مختلف مناطق الغابات في سوريا، سهولاً وهضاباً وجبالاً وسواحل، وأعتقد أنَّ التنوّع الأنثروبولوجي الرائع في الشعب السوري تبعاً لتوزّع السكان في التضاريس المختلفة يحمل غنى إنسانيّاً لا مثيل له في التاريخ، فحتى التنوّع السكانيّ في الولايات المتحدة الأمريكيّة هو في العمق تنوّع مصطنع قائم على اجتماع أو جمع شعوب من مختلف أصقاع الأرض لتكوين أُمّة عالميّة؛ أما في سوريا فالأمر مختلف، فنجد طبيعة مخصوصة حتى على مستوى الشكل والهيئة والملامح واللهجة على نحوٍ يدلّ على غنى إنسانيّ عظيم؛ لكن أين من المشتاق عنقاء مُغْرب؟

     لقد دنَّست هذا التنوّع السوري العظيم العرقيّة والطائفيّة والحزبيّة، لكن رغم كلّ شيء يبقى كلّ سوريّ مشدوداً نحو ما أسماه الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر ببراعة كبيرة “نداء الأصول”. نعم إنَّ صوت النداء يتردّد في سمع كل سوريّ من أجل إعادة خلق سوريا من جديد. ولقد أبدعَ أنطون سعادة حين تحدّث عن أصل القوميّة، فأكّد أنَّ ما يحدّد الانتماء القومي هو “البريَّة”، ويقصد أنَّ البريّة أو أرض الغابات التي شاهدها المرء لأول مرّة في حياته هي التي توحّده مع أشخاص شاهدوا المنظر نفسه، ولا يجب أن يوحّده مع الآخرين، قوميّاً، أي عامل آخر، سواء أكان عرقيّاً، أم دينياً، أم لغويّاً.

    ها هي الآن تُقطع أشجار هذه البريّة السوريّة بعد أن اقتُطعت أجمل أراضيها سابقاً من المحتلين والمستعمرين، بسبب زوبعة مدمِّرة هائلة سحقت بعواصفها الرعديّة ورياحها الثلجيّة وأمطارها الغامرة كلّ شيء؛ لكن أفلاطون قال مرَّةً وبحقّ: “إنَّ كلَّ ما هو عظيم يكمن في الزوبعة”. وأراد من ذلك أنّه لن يبقى بعد الزوبعة إلا الأصيل والجوهري وسيتلاشى كلّ ما هو عرضي وعابر، لذلك مهما حدث ستبقى ماهيّة الشعب السوريّ خالدة، ولم يكن الفينيقيون السوريون القدماء إلا معلّمين لأفلاطون نفسه حينما تحدّثوا عن طائر الفينيق الذي سينبعث من رماده، ولن يتجدد طائر الفينيق وحدَه، بل ستتجدّد معه هذه الغابات ليحلّق فوقها مُطلقاً صيحة الرجوع.