أطفال مجهولي النسب في ادلب… معاناتهم واحلامهم

أطفال مجهولي النسب في ادلب… معاناتهم واحلامهم

كان عبد الله الحمود (32 عاماً) من مدينة الدانا يمشي سريع الخطى وسط الظلام في 10 شباط/ فبراير من العام الحالي، حين استوفقه صوت بكاء طفل في الجوار. توقف قليلاً وأشعل كشاف هاتفه الجوال لتفقد المكان، فوقعت عيناه على طفل بعمر شهر تقريباً، بلفافة بيضاء مرمي على جانب الطريق.
يقول الحمود لـ “صالون سوريا”. “لم أكن أصدق أن أحداً ما يمكنه أن يتخلى عن طفله، حتى رأيت ذلك بأمّ عيني”. ويضيف: “حزنت لحال الطفل الذي تبدو على وجهه آثار خدوش من مخالب قطط أو كلاب، وحملته بين ذراعي ومضيت به إلى المنزل، حيث قامت زوجتي بإرضاعه وتغيير ملابسه وأحاطته بالرعاية”. ويشير الحمود أنه قام في اليوم التالي بتسليم الطفل لمخفر الشرطة الموجود في البلدة للبحث عن أهله وذويه.
تزداد ظاهرة التخلي عن أطفال حديثي الولادة بشكل ملحوظ في مناطق محافظة إدلب، إذ يعمد أشخاص إلى ترك أطفال حديثي الولادة أمام المساجد أو في الحدائق العامة أو إلى جانب الطرقات، ويغادرون المكان، ليتم العثور عليهم واحتضانهم من قبل أسر مقتدرة، يوجد لديها رغبة في وجود فرد معها من خارج العائلة، علماً أن بعض الأطفال يتم العثور عليهم بعد أن يفارقوا الحياة نتيجة الجوع أو البرد. وكانت آخر حادثة فجر يوم الأربعاء 27 من تشرين الأول/أكتوبر، حين عثر شاب على جثة طفل حديث الولادة مرمياً قرب حاوية للنفايات في مدينة معرة مصرين بريف إدلب الشمالي.

اضطهاد مجتمعي
المرشدة الاجتماعية سلام عربو (34 عاماً) من مدينة إدلب، تعزو السبب الأساسي لتخلي البعض عن أطفالهم إلى الفقر والأوضاع المعيشية المتردية وعجز الكثيرين عن تأمين احتياجات أطفالهم وتحمل أعبائهم، إلى جانب التفكك الأسري، وتخلي بعض الأزواج عن أسرهم بعد سفرهم إلى خارج البلاد”. وتضيف العربو أن السبب الآخر هو “انتشار ظاهرة الزواج المبكر، وتزويج الفتيات من مقاتلين أجانب مجهولي الاسم والنسب، جاؤوا من بلدانهم إلى سوريا للمشاركة في القتال، حيث تضطر الزوجة تحت ضغط الأهل إلى التخلي عن أطفالها بعد مقتل الزوج، أو اختفائه فجأة، أو عودته إلى بلده، وخاصةً مع عجزها على رعايتهم والإنفاق عليهم، إضافة إلى أنّ هذا الطفل سيظلّ مجهول النسب وبدون أي أوراق ثبوتية”. وتشير العربو إلى سبب آخر وهو “العلاقات غير الشرعية أو تعرض بعض النساء للاغتصاب ما يدفعهن للتخلي عن المواليد، خشية تعرضهن للقتل أو العار المجتمعي”.
وتحذر عربو من “تفاقم تلك الظاهرة، وضرورة إيجاد حلول عاجلة لحماية الأطفال من الاستغلال والاضطهاد والتمييز المجتمعي الذي قد يتعرضون له باعتبارهم أطفالا لقطاء بحسب نظرة المجتمع”. وتشير أن الحلول “تكمن في عودة النازحين وتحسن الأوضاع المعيشية للأهالي، وتوعية الأسر بضرورة ترشيد الإنجاب، فضلاً عن ضرورة إطلاق حملات لرفع الوعي من أجل المساعدة في دمج هؤلاء الأطفال بالمجتمع”.

التبني “حرام”
ويقوم بعض السكان ممن يجدون هؤلاء الأطفال بضمهم إلى رعايتهم، لكنهم يواجهون مصاعب ومعوقات في تسجيل نسب هؤلاء الأطفال. جمال السلوم (39 عاماً) من بلدة أطمة الحدودية مع تركيا، بادر مع زوجته لكفالة طفل حديث الولادة تم العثور عليه على باب أحد المساجد في البلدة. وعن ذلك يقول لـ “صالون سوريا”: “بعد زواجي من ابنة عمي منذ 11 عاماً لم نرزق بأطفال، لذلك اتخذنا قرار تربية طفل تم العثور عليه في البلدة بداية عام 2021”.
ويشير السلوم أنه مازال “غير قادر على تسجيل الطفل على خانته، في دوائر النفوس المحلية التابعة لهيئة تحرير الشام، على اعتبار أنّ التبني محرّم في الدين الإسلامي، كما أنه غير قادر على التوجه إلى مناطق سيطرة القوات الحكومية السورية من أجل تسجيله خوفاً من الاعتقال”. ويضيف السلوم: “أخشى على هذا الطفل من المستقبل، لأنه سيبقى مجهول النسب، وسوف يعيش محروماً من حقوقه المدنية، من تعليم ورعاية صحية، ولن يتمكن من الحصول على أوراق ثبوتية”.

مركز “بيت الطفل”
أمام هذا الواقع ومع انتشار ظاهرة الأطفال مجهولي النسب، قام ناشطون بافتتاح مركز لرعاية هؤلاء الأطفال، وغيرهم ممن تخلت عنهم عائلاتهم بسبب الفقر والعنف الأسري. يونس أبو أمين مدير قسم إدارة الحالة في مركز “بيت الطفل”، يقول لـ “صالون سوريا”: ” مجهول النسب هو الطفل الذي عثر عليه ولم يعرف والده، أو الأطفال الذين لم يثبت نسبهم وليس لديهم معيل”. ويضيف: ” افتتحت منظمة “بيت الطفل” مركزاً لرعاية الأطفال المنفصلين عن أسرهم، والأطفال مجهولي النسب في مدينة سرمدا شمال إدلب، وقد وصل عدد الأطفال المسجلين ضمن المركز إلى 167 طفلاً، من عمر يوم واحد وحتى 18 عاماً، منهم من عملنا على لم شملهم مع أسرهم أو أسر بديلة، ومنهم من يقيمون حالياً في المركز، ويحصلون على كافة الاحتياجات من مأوى ومأكل وتعليم ورعاية صحية”. ويشير أن الطفل لحظة وصوله إلى المركز يتم تسجيله في سجلات المركز، وتحويله لقسم المأوى، ثم العمل على لم شمله مع أهله أو أقاربه أو أسرة بديلة ترغب برعايته .
ويبين أبو أمين أن المركز يضم 20 موظفاً، “يقدمون الرعاية والدعم نفسي والتعليم، ويعملون في توفير جو ملائم ومناسب للأطفال، كما يعملون على دعمهم نفسياً بهدف إخراجهم من الضغوطات النفسية الصعبة”. ويؤكد أن المركز يتلقى “تبرعات فردية شحيحة لتغطية نفقاته، رغم حاجته الماسة لتأمين دعم يكفي لفترة مناسبة للمستقبل، لأن حالات الأطفال مرتفعة الخطورة، ويحتاجون لرعاية طويلة الأمد وبالأخص الأطفال حديثي الولادة”.
كان الطفل حسن (10 سنوات) النازح من ريف إدلب الجنوبي إلى مدينة إدلب يبيت في العراء، حين صادفه أحد المارة، واتصل بفريق “بيت الطفل” الذين اصطحبوه إلى المركز لإيوائه وتأمين احتياجاته، والتواصل مع أسرته للم شمله، لكنه فضل البقاء في المركز.
وعن معاناته يقول لـ “صالون سوريا”: “بعد وفاة أمي بغارة حربية منذ سنتين، قام والدي بالزواج من امرأة أخرى، ثم سافر برفقتها إلى تركيا، وبقيت في رعاية عمي الذي يضربني باستمرار وأجبرني على ترك المدرسة والتوجه لمساعدته في ورشة تصليح الدراجات النارية، الأمر الذي دفعني للهرب من المنزل”. ويؤكد الطفل بأنه عاد إلى مقاعد الدراسة، ويتلقى الرعاية الكاملة في المركز، ويلعب مع بقية الأطفال ويتعاملون معه كأخوة”.
وعن أمنيته يقول:” أتمنى أن تعود أمي إلى الحياة، ونعود معاً إلى المنزل، لأنني أفتقدها كثيراً”.

جندي ذواق في غرفة منسية

جندي ذواق في غرفة منسية

حان وقت تدخين سيجارة على الشرفة المطلّة على قطعة عسكرية قريبة من المنزل. أغنية للياس خضر تصدر في كل مرة من ذات الغرفة المحصّنة التي نجت من أثار الحرب خلال سنوات مضت. ليس مستغرباً أن تسمع نغمة حزينة قادمة من نقطة عسكرية، فيها جنود منسيون لا يعزّيهم سوى الألحان الحزينة التي تؤنس وحدتهم، ومن يجيد العزف على تلك الأوتار أكثر من ياس خضر.
ساعات مرت على موعد السيجارة التالية، لا يزال صوت خضر يصدح في المكان، وكأنه يقيم حفلاً في تلك الغرفة الإسمنتية ذات المظهر الباهت. فضولٌ يلازمني على مدى أيام، من هو ذا صاحب الذوق الرفيع المشبع بالأحزان الذي يُطرب ليالي هذه المنطقة المهجورة؟
مضت أيام. أشتري بعض رُزم “الخبيّزة” والبصل؛ لأعد غداء اليوم. يقف إلى جواري شاب يبدو وأن وجهه اسمرّ مؤخراً، لا تتناسب البدلة العسكرية التي يرتديها مع معالمه الطفولية التي تدعوك للصراخ في وجهه “اخشوشن يا فتى!”.
يشتري ذاك الفتى البرتقال وبقايا عنب تتواجد لدى البائع، رغم أننا دخلنا في أوائل أيام الشتاء. يقول البائع إن هذا الصنف من العنب الأحمر يبقى “على أمّه” حتى وقت متقدم من السنة، إذ يلتقي مع موسم النبيذ. يتحدث الجندي عن النبيذ بحسرة “فمن من الممنوع شرب الخمور في القطعة العسكرية”، وتبدو في حديثه رغبة في ثمالة تُذهب عقله لساعات فينسى قيود البدلة التي يرتديها والحُجرة التي يمكث فيها.
“يبدو أنه جندي غرّ مبتدئ” -يهمس البائع في أذني-. لكن ما بدا لي أن صدفةً ما، جمعتني بذاك الذي يستمع إلى ياس خضر دوماً، لحقتُ به، وناديته، ولم يخذلني حدسي.
تُخفي تلك الغرفة الإسمنتية الباهتة خلف جدرانها قصة جندي لم يتبقَ له من الذاكرة سوى شريط “كاسيت” يضم 23 أغنية للمطرب العراقي الياس خضر، يشغّله عبر آلة عفى عليها الزمن، لكنها لا زالت تستطيع تشغيل ذاك الشريط الذي يحتفظ به الجندي من منزله الذي دمرته الحرب فوق رؤوس عائلته.
نجا من المنزل القليل من الأثاث غير المهم، وذاكرة حزينة انتشلها من تحت الأنقاض وقرر الهروب بها إلى حيث لا خراب ولا دماء، لكنها كانت بمثابة لعنة وسوء طالع، أحبط آماله بالسفر لاستكمال دراسته واستعادة حياته السليبة.
الشاب الطري الرقيق، الذي اشتد عوده واسمرّ جبينه بفعل القسوة التي تجرّع كأسها حتى التخمة، ابتداء من خسارة عائلته إلى ضياع أحلامه، وليس انتهاءً باستبدال الآلة التي كانت تلامسها أصابعه، فبغضون سنوات بات زناد البندقية هو الشيء الوحيد القريب من ملمس يديه، بعد أن كان معتاداً على مداعبة أوتار العود في سهرات الطرب مع أصحابه وعائلته.
“وضعتني هذي السنوات في حجرة منسية، لا أجني منها سوى الوحدة والحزن والعجز، لم أتخيل يوماً أنني سأخدم بهذي الطريقة، بأن أكون عاجزاً إلا عن البكاء والاستماع لشريط الياس خضر، كل ما تبقى لي من أبي”.
يقول “صاحب الذوق الرفيع” بأنه لم يرغب منذ بداية الحرب بأن يُحسَب على أي طرف أو حتى يوضع بمواجهة أيّ منهم، معتبراً أنه يقضي مع رفاقه الجنود سنوات الخدمة دون أي جدوى، بل وتأخذ “نوبات الحرس” من عمرهم ربيعه. وفوق هذا كله “نُحسب لدى شريحة واسعة من أبناء البلد على أننا أعداء ومجرمون، فماذا اقترفنا لنحاسب بكل هذه القسوة؟”.
يقول “صاحب الذوق الرفيع” بأنه لم يرغب منذ بداية الحرب السورية بأن يُحسَب على أي طرف أو حتى يوضع بمواجهة أيّ منهم. معتبراً أنه يقضي مع رفاقه الجنود سنوات الخدمة دون أي جدوى، بل وتأخذ “نوبات الحرس” من عمرهم ربيعه. وفوق هذا كله “نُحسب لدى شريحة واسعة من أبناء البلد على أننا أعداء ومجرمون، فماذا اقترفنا لنحاسب بكل هذه القسوة؟”.
شريطٌ قديم حزين، “تعلكه” آلة التسجيل كل يوم، تماماً كما نجترّ أيامنا هنا -يصف الجندي حاله-.. ويتابع: “تذهب بنا ذاكرتنا برحلة يومية طويلة، تأخذني هذه الآلة إلى حيث أبي كان يُغذّينا بمخزونه الموسيقي الرهيب.. أستذكر كل تلك المشاهد فتستيقظ الأبوّة في داخلي. تدفعني لتسجيل شريطي الخاص عندما أهدم جدران هذه الحجرة الكئيبة.”
يتوجه لي بالكلام: ” لن أورث لابني شريطاً حزيناً كهذا، هو العهد الذي أحيا لأجله، ولكن إن حدث وسردتَ قصتي لأحد ف “احكي لهم يا صاحبي.. ما ظل صبر عندي”.
وهاج عزام

العيش في سوريا…فصول من الغربة

العيش في سوريا…فصول من الغربة

لا تقتصر الغربة في سوريا اليوم على السفر خارج بلاد مزّقتها الحرب.  إذ تحوّلت إقامة السوري في محافظة خارج “الحدود” الصغيرة لمسقط رأسه، بمثابة غربة داخلية فُرضت على من بقي داخل مناطق الحكومة السورية.

منذ سنوات، يعيش سهيل العامل بمديرية الاتصالات بدمشق، في غرفة مستأجرة في حي المزة، بعيداً عن أهله المقيمين في حمص. يزور أهله مرتين بالسنة، إلا إن حصل طارئ ما، وذلك لارتفاع أجور النقل بين المحافظات السورية، حيث تُكلّفه تلك المسافة القصيرة نسبياً ما يقارب العشرين ألف ليرة!

ورفعت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك التابعة للحكومة السورية أجور النقل بين المحافظات عدة مرات، تزامناً مع رفع أسعار المحروقات.

معاناة سهيل لا تقتصر على دفع أجور النقل، فهو يعطي عائلته أيضاً بعض المال مما يضطره للاستدانة من زملائه ليتمكن من الصمود حتى نهاية الشهر. يقول سهيل: “أشعر بالحرج من أهلي. لا أستطيع إعطاءهم المال، لهيك قررت ما سافر إلا مرتين بالسنة، لأن كل مرة بسافر بصرف أقل شي 70 ألف ليرة وأنا راتبي 90 ألف”.

إن كانت هذه هي معاناة المسافر من دمشق إلى حمص، فكيف هو حال من يسافر إلى دير الزور إذاً؟ عبد الجواد من منطقة الميادين بريف دير الزور، يسكن في دمشق منذ عشر سنوات هرباً من ويلات الحرب، ومنذ ذلك الحين لم يزر أهله سوى مرة واحدة ويقول: “توبة ما بقا عيدها”. يتذكّر عبد الجواد كيف قرّر زيارة أهله بصحبة عائلته عام 2018، بعد أن ادّخر القليل من المال هو وزوجته. وبعد ساعات طويلة من السفر وكانوا في منتصف الطريق الفاصل بين دمشق والميادين، بدأت تتوالى الحواجز من مختلف الأطراف المتنازعة.

ألف وألفين وألف؛ “شعرت أنني في ملهى ليلي أوزّع الأموال على الراقصات ولكن خارج إرادتي”، يقول عبد الجواد إن الحواجز تطالب الركاب بدفع الأموال لتسمح لهم بالمرور. ويضيف “في النهاية ما ضل معي مصاري وهددني أحد ضبّاط الحواجز بإبني، بعدين عطيتهم ساعتي ومن وقتها حرمت سافر لعند أهلي”. يؤكد عبد الجواد أن توزيع الأوراق النقدية تكرّر معه في رحلة العودة، بعدما استدان من أهله مبلغاً كبيراً ليتمكن من تسديد فاتورة الحواجز والسفر.

من جهة أخرى، ترتفع حالات سلب الأموال عند الحواجز على اختلافها في الطرقات التي تفصل المحافظات السورية بعضها عن بعض، وأغلب تلك الحواجز يلجأ إلى ابتزاز المسافرين بمسألة التخلّف عن الخدمة العسكرية الإلزامية، حتى وإن كانت بحوزة المسافر أوراق تأجيل نظامية.

الغربة الداخلية في سوريا لا تقتصر على صعوبة التنقل بين المحافظات، بل وصلت إلى الخوف من الوقوع كضحية بين طرفين متنازعين في الحرب السورية.  أحمد من محافظة إدلب، عسكري في القوات النظامية، بعد أن ألقى القبض عليه حاجز مع انتهاء تأجيله الدراسي قبل خمس سنوات. “كنت أخطط للعودة إلى إدلب ثم السفر إلى تركيا، لكن أحد الحواجز على طريق دمشق – حمص أوقف الباص وقام بالتفتيش بشكل كبير”. ويوضح أحمد أنه منذ ذلك الحين لم يتمكّن من الذهاب إلى ضيعته في إدلب كونها خاضعة لسيطرة المعارضة، وفي حال سفره إلى هناك يتوقع أن يتم اعتقاله. يقول بحرقة: “لم أر أمي وأهلي من خمس سنوات ونحن بنفس البلد.. ما في كلام بيوصف هي الحالة”.

سهيل وعبد الجواد وأحمد ليسوا إلا جزءاً من مئات آلاف السوريين، الذين يعانون من الغربة داخل وطنهم. فالغربة ليست محصورة بمن قرّر الهرب من ويلات الحرب العسكرية والاقتصادية إلى شتى أصقاع العالم، وقد صل عدد اللاجئين السوريين في العالم إلى أكثر من 5.6 مليون؛ أبرزهم في تركيا والأردن ولبنان وألمانيا حسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

أما أولئك الذين يعيشون داخل سوريا، فكثير من بينهم ينتظر فرصة للسفر ويحاول بشتى الطرق، في ظل تراجع المستوى الاقتصادي والمعيشي بشكل كبير، وكانت آخر الواجهات بيلاروسيا للوصول إلى أوروبا.

وصل آلاف المهاجرين من سوريا إلى بيلاروسيا في الشهور الأخيرة على أمل الوصول لبولندا، ومن ثم إلى دول الاتحاد الأوروبي، لكنهم اصطدموا بإجراءات مشدّدة من الشرطة البولندية وسط البرد والإذلال والجوع، ليكون قدر السوري “التعتير” داخل الوطن وخارجه.

في سجن “الدواعش” شرق سوريا

في سجن “الدواعش” شرق سوريا

مالك الشاب السوري البالغ من ثلاثين عاماً المتحدر من مدينة الباب بريف حلب الشرقي، “نزيل” مستشفى سجن الثانوية الصناعية مشددة الحراسة في مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا، يبدأ رواية قصته من أن العام 2014 سيبقى “تاريخاً محفوراً” في ذاكرته طوال عمره بعدما تغيرت مسيرة حياته رأساً على عقب. يعتقد بأنه سيدفع ثمن هذه التجربة طوال عمره حيث شن جهاديو تنظيم “داعش” المتطرف أكثر من 100 هجوم انتحاري على مسقط رأسه، آنذاك ذاعت سمعته بالترهيب والقتل والأجرام وسقطت الكثير من المدن والبلدات سريعاً دون مواجهة في قبضته، الأمر الذي دفع هذا الشاب وغيره القتال الى جانب التنظيم وانتهى بهم المطاف أما أسرى في غياهب هذا السجن؛ أو انهم قتلوا.

طيران التحالف
في غرفة طبية داخل مستشفى السجن، جلس مالك وهو ضخم البنية ذو شعر كثيف، ظهرت يده اليمنى مربوطة بالجبسين تبدو مكسورة. قال ان يده وقعت بعد حادث تدافع أثناء أعمال عنف وشغب وقعت بداية الشهر الحالي. وعلى الرغم من صغر سنه، فان الشيب غزا شعره. ولدى حديثه إلى لـ “صالون سوريا”، حاول استرجاع بداياته، ليقول: “نعم شاهدت كيف قام عناصر التنظيم بالذبح وقطع الرؤوس وتنفيذ التفجيرات. وبعد سيطرتهم على الباب كثف عملياته الانتحارية عبر أحزمة ناسفة وعلى متن الدراجات النارية وبعض هذه المشاهد رأيتها بأم عيني”.
وبعد توسع حروب التنظيم في الأراضي السورية ووصوله الى مدينة إدلب غرباً وحلب شمالاً ودمشق، إضافة الى مدن تدمر وحمص وسط البلاد، أكد هذا المقاتل أن الكثير من قادة التنظيم أدركوا حينذاك أنهم “خرجوا عن المسار الدعوي الجهادي”. وعن المعركة التي قسمت ظهر التنظيم المتشدد علق قائلاً: “كانت معركة عين العرب (كوباني) بعد دخول طيران التحالف الدولي للمعركة التي الحقت الهزيمة بالتنظيم، وقتها لو أكملت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وشنت هجوماً على باقي المنطقة سيما الرقة لاستسلم التنظيم في معقله الرئيسي”.

الارض فراش
في جناح مشفى سجن الصناعة بالحسكة، أفترش أكثر من 500 مصاب ومريض الأرض أو كانوا يرقدون على أسرة قليلة. بعضهم، نام تحت السرير وهذا المكان عبارة عن عنبر كبير بالإمكان مشاهدة أكياس من الخبز الطازج أو المجفف معلقة على الجدران. وتحولت علب المواد الغذائية مثل الزيت والحلاوة والطحينية إلى كاسات لشرب المياه أو مخصصة لرمي النفايات. هنا يمنع بإدخال أي مواد قاسية حديدية او زجاجية خشية من تنفيذ استعصار او الهجوم عل عناصر الحراسة بالسجن.
وجميع نزلاء المشفى كانوا يرتدون زي موحد برتقالي اللون، لكن البعض قاموا بتحويل البطانيات والأغطية الى ملابس بلون رمادي داكن مصنوعة يدوياً للحماية من برودة الطقس.
ومنشأة سجن الثانوية الصناعية بالحسكة من بين 7 سجون منتشرة في شمال شرقي سوريا يحتجز فيها عناصر كانوا ينتمون إلى التنظيم، تخضع لحراسة وإدارة قوات “قسد”، ومراقبة ودعم مالي من التحالف الدولي بقيادة واشنطن. وتشير إحصاءات إدارة السجون بالإدارة الذاتية إلى وجود نحو 12 ألف شخص كانوا ينتمون إلى صفوف التنظيم المتشدد، بينهم 800 مسلح يتحدرون من 54 جنسية غربية، وألف مقاتل أجنبي من بلدان الشرق الأوسط، على رأسها تركيا وروسيا وشمال أفريقيا ودول آسيوية، بالإضافة إلى 1200 مسلح يتحدرون من دول عربية، غالبيتهم قدموا من تونس والمغرب، كما يبلغ عدد المتحدرين من الجنسية العراقية نحو 4 آلاف، والعدد نفسه يتحدرون من الجنسية السورية.

نادم… وينتظر
في غرفة للتحقيق تابعة لإدارة السجن، جلس التونسي مصطفى ودخله عامه الثاني بعد الثلاثين ينحدر من مدينة صفاقس الواقعة جنوبي تونس. يقول إنه كان يعيش في مدينة سوسة المطلة على البحر الأبيض المتوسط، حيث منزله يقع على بعد أمتار من شواطئ البحر وكان يهوى ارتياد المقاهي والحفلات ويقضي معظم وقته برفقة أصدقائه وأبناء الجيران.
شاب نحيل البنية قصير القامة ذو لحية وشعر أسود اللون. بقي صامتاً ولم يبد أي تعليق عندما سُئل عن مشاهد القتل التي طالت مئات الصحافيين والمتطوعين الغربيين والناشطين السوريين الذين فُصلت رؤوسهم عن أجسادهم، لكن تحدث بحماسة عن “طريق الجهاد” ليقول: “يجب على المرء ان يفكر مائة مرة قبل سلوكه، لم تكن هناك خطط واضحة لي في الحياة والكثير من الأمور اعترضت طريقي، والنتيجة أنا سجين ومحتجز هنا”، لافتاً ان أكثر الأشياء التي يستطيع التحدث عنها بإيجابية تعرفه على زوجته، وأضاف: “أحب زوجتي وانجبت منها طفلين وهذا أكثر أمر إيجابي بحياتي، اما باقي الأمور لست راضي عنها لكن لا استطيع تغير شيء”.
ونقل التونسي إنه كان يعمل في المكتب الإعلامي للتنظيم ينتبج التقارير والمواد المصورة المرئية وينشرها على حسابات التنظيم، إضافة الى إعداد كتيبات وأوراق دعوية تنشر بين صفوف المقاتلين وعوائلهم. أدعى كيف حاول الهروب أكثر من مرة برفقة زوجته وأطفاله وقبض عليهم بتاريخ بداية 2019، ومن أصعب الذكريات المثقلة لديه لحظة أخبار والدته وصله الى سوريا سنة 2012، وقال: “أغمي على والدتي وتوسلت كثيراً بالعودة للمنزل والعدول عن قراري، ما كان في مجال أبداً وفي كل مرة أتصل بها مع والدتي تقول لي يجب ان تعود للمنزل”.
وأعترف ان أصعب لحظة ستكون لديه عندما يلتقي بها مكبل اليدين ومتهم بـ “دعوى إرهابية”، ليقول: “صفحة الجهاد طويت عندي والسنوات كانت كافية حتى أتخذ قراري هذا، انتظر معرفة مصيري وعائلتي بعد خروجي من السجن لكن حتماً سأكمل حياتي بشكل طبيعي”.

زحمة… وأبواب
داخل إحدى الزنازين، مهاجع مكتظة موصدة بأبواب مطلية بلون أخضر مرقمة بأحرف إنجليزية، إحداها بلوك (C4) وكتب عليها رقم 120 حيث أشار الحارس إلى عدد نزلائه. بداخلها رجال لحاهم طويلة بملامح أوروبية وروسية وآسيوية وعربية وتركية، قدموا من آلاف الكيلومترات للعيش في وهم طالما حلموا بتحقيقه، بينما أضواء المكان كانت خافتة مع صعوبة وجود بقعة فارغة بسبب تمدد الرجال على الأرض أو الوقوف بجانب الجدران لزحمة المكان، بعضهم كان يقوم بحك جلده وكثيرون منهم ناموا على فراش بسيط وآخرون انتظروا عند باب الحمام الوحيد.

الخوف من الاعدام
في مجموعة ثانية مكتظة، ظهر رجل طويل بلحية غير مهذبة وشعر أشعث كثيف يبدو أنه روسي الجنسية من ملامح وجهه. كان يلبس سترة مصنوعة من أغطية السجن، قال بمفردات عربية ركيكة إن ظروف احتجازه هي “صعبة للغاية وأنه لا يرى الشمس ومتى سأخرج من هنا”، وبحسب حراس السجن، يخرج هؤلاء في كل أسبوع مرة واحدة ولمدة ساعة لساحة مخصصة للترويض.
وتساءل سجين عراقي هل سيتم تسليمه إلى حكومته حيث تنفذ أحكام الإعدام، ووقف عند الباب ليقول: “أخاف تسليمي للحكومة العراقية والميلشيات الشيعية، قاتلنا لجانب التنظيم خشية من هذه الجماعات، أملي تسليمي لدولة ثالثة او محاكمتي هنا على نقلي للعراق”.
وبعكس مطالب هذا السجين العراقي، قال أخر فرنسي الجنسية من أصول مغربية أنه سلم نفسه برغبته الى قوات التحالف، مضيفا: “لقد قمت بتسليم نفسي وأتحمل العواقب، على حكومتي إعادتي ومحاكمتي أمام قضاء بلدي”.
وحسب إدارة السجون ومسؤولي الإدارة لم يسبق لهؤلاء المحتجزين الخضوع لعمليات استجواب أو تقديمهم للقضاء، وهم منقطعون عن العالم الخارجي ولا يعرفون التطورات الميدانية التي شهدتها المنطقة خلال فترة احتجازهم، التي مضى عليها عامان ونصف العام، ويخضع لرقابة صارمة على مدار 24 ساعة عبر تفقدهم ومراقبتهم بكاميرات ضوئية وحرارية، وأجهزة لاسلكية متطورة لتتبع تحركاتهم وتصرفاتهم.

لغة فصحى
وفي غرفة التحقيق سمحت إدارة السجن بمقابلة مواطن ألماني تحدث بلغة عربية فصحى، ورفض ذكر أسمه أو مهامه القتالية في صفوف التنظيم. وبحسب ملفه كان رامي سلاح رشاش (بيكيسي) حيث سافر نهاية 2012 جواً الى مصر ومنها أكمل الرحلة نحو تركيا ودخل الى مدينة إدلب غربي سوريا عبر شبكة أسماء وهمية. خضع وقتذاك لـ “دورة قتالية وشرعية”، وبقي هناك قرابة عام وبعد انقسام “جبهة النصرة” (التي سمت لاحقا بهيئة تحرير الشام) عن تنظيم “داعش”، التحق بصفوف الأخيرة وقصد مدينة الرقة التي كانت يومذاك العاصمة الإدارية للتنظيم، ويعزو السبب الى انه “رفض تسميته بالتنظيم. لقد كانت دولة والراية والمنهج واضح لذلك أخترت القتال الى جانبها، وأكثر من 90 بالمائة من المهاجرين التحقوا بها”.
وبعد 3 سنوات من قدومه الى سوريا وتحديداً سنة 2015 دخلت حياته مواطنه ألمانية تعرف عليها عن طريق مكتب الزواج، وقال ان أحدهم دله عليها وقرر الزواج بها. واضاف: “كانت قبل سفرها لسوريا مطلقة ولديها أبنة، عشنا بالرقة وأنجبنا طفل هناك، وبعد عام تزوج من عراقية وأنجبت طفل ثاني منها”، وعن زواجه الثاني ارتسمت على وجهه الهادئ ابتسامة ليقول: “الشرع حلل الزواج من أربعة شرط العدل، فقررت الزواج من عراقية لتمتين العلاقة بين الأنصار والمهاجرين”.
وهذا الألماني والعراقي والتونسي والسوري وجميع القابعين في سجون تقع شرقي الفرات كانوا مقاتلين في صفوف التنظيم واستطاع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، بالتعاون مع “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية – العربية، في مارس (أذار) 2018 القضاء على آخر جيوب (داعش) في بلدة الباغوز شرقي دير الزور الواقعة أقصى شرق سوريا، معلناً تحرير جميع المناطق التي كان يسيطر عليها التنظيم في سوريا والعراق منذ 2014.
آنذاك نقل الرجال إلى سجون ومحتجزات فيما أخرجت النساء والأطفال إلى مخيمي “الهول” و “روج” للنازحين بمدينة الحسكة. أما الأطفال الذين تجاوزت أعمارهم 10 سنوات فرحلوا إلى سجن الأحداث في قرية تل معروف التابعة لمدينة القامشلي شمال شرقي سوريا.

سوء التغذية.. وباء يفتك بأطفال المخيمات السورية

سوء التغذية.. وباء يفتك بأطفال المخيمات السورية

تتأمل مرام حاج موسى (٢٥عاماً) طفلها رائد بحرقة وحزن، فرغم أنه بلغ العامين من عمره إلا أن حجمه ووزنه يوحيان بأن عمره لا يتجاوز ستة أشهر فقط، عيناه غائرتان وجسده نحيل، وبشرته جافة، وهو لا يكف عن البكاء المستمر.

تقول حاج موسى إن طفلها أصيب بمرض سوء التغذية منذ نزوحهم من بلدة تلمنس بريف إدلب الجنوبي بعد العمليات العسكرية التي شنها نظام الأسد على تلك المناطق، وابنها “لا يكاد يتحسن حتى يعود إليه المرض، نتيجة الفقر والأوضاع المعيشية القاسية التي تواجهنا في مخيمات النزوح شمال إدلب” بحسب قولها.

ويشهد الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام زيادة ملحوظة في حالات وأمراض سوء التغذية ومضاعفاتها الإجتماعية والنفسية، وهي تلاحق فئة الأطفال بشكل خاص، نتيجة عدم حصولهم على القدر الكافي من الغذاء اليومي بسبب الفقر والغلاء وتراجع الخدمات الطبية الأساسية.

وتوسعت الظاهرة نتيجة غلاء أسعار الحليب وعدم قدرة الأهالي على تأمينه لأطفالهم، واللجوء لبدائل كالنشاء والأرز المطحون وغيره من الممارسات غير السليمة لتغذية الأطفال والرضع.

بعد محاولات عدة لم ينجح النازح رامي الحلاق (٣٣عاماً) من تأمين حليب الأطفال لطفلته الرضيعة راما البالغة من العمر ثمانية أشهر إذ يقول” عملي متقطع وغير دائم، أبدأ بالعمل في مجال البناء المرهق منذ ساعات الصباح الباكر وحتى نهاية اليوم، مقابل أجر زهيد لا يتجاوز ال٢٥ ليرة تركية في اليوم، وهي لا تكفي لشراء الخبز وبعض الخضار لعائلتي الذين ينتظرون عودتي بما يسد رمقهم، فكيف لي أن أشتري علبة حليب الأطفال المرتفعة الثمن؟ والتي يبلغ سعرها أجر يوم كامل، وهي لا تكفي الطفل أكثر من ثلاثة أيام فقط”.

ويضيف رامي أن أوضاعهم المعيشية داخل المخيم “صعبة جداً ” فالمواد الغذائية لم تصلهم منذ قرابة السنة، فضلاً عن شح مياه الشرب، والبطالة المنتشرة بين رجال المخيم وشبابه، الذين باتوا بمعظمهم يعيشون على ما تقدمه بعض المنظمات الخيرية “التي تمر بالمخيم مرور الكرام” على حد تعبيره.

ويشير رامي إلى أن الدعم” قليل جداً لا يكاد يسد احتياجات عدة عائلات، والخضار والفواكه، كما غدت اللحوم حلماً لمعظم ساكني المخيمات”.

ومرض سوء التغذية هو مصطلح يستخدم للتعبير عن وضع لا يحصل فيه الجسم على كل المواد الغذائية الأساسية التي يحتاجها أو على جزء منها، ليتمكن الجسم من القيام بوظائفه بصورة طبيعية مثل البروتينات والفيتامينات والدهون والمعادن، أو بسبب سوء امتصاص المواد الغذائية الموجودة في الطعام رغم توفر الكمية والعناصر المطلوبة، وتتراوح حدة سوء التغذية بين الطفيفة وبين الحالات الشديدة التي تسبب أضراراً غير قابلة للإصلاح.

وعن سبب إنتشار سوء التغذية في إدلب والشمال السوري المحرر تقول نسرين مناع (٣٢ عاماً) رئيسة شعبة الصحة المجتمعية والتغذية في مديرية الصحة بإدلب “إن لمرض سوء التغذية أسباباً عدة قد تكون ناتجة عن اضطرابات استقلابية أو الآفات العضوية، اضطرابات نفسية، عادات غذائية سيئة، إنتانات مزمنة وخاصة الإنتانات العضوية، أيضاً بعض الأدوية ممكن أن تكون سبب نقص التغذية ومنها المضادات الحيوية والسيتروئيدات لأنها تزيد من حاجة الجسم للمغذيات”.

وتضيف نسرين الأسباب المعيشية “وهي الأهم  كالفقر والنزوح في البلدان التي تشهد حروباً وكوارث كمنطقتنا التي تشهد حرباً شعواء منذ أكثر من عشر سنوات” بحسب قولها.

وعن مدى خطورة المرض توضح أنه يعتبر من أهم أسباب الوفيات عند الأطفال، ويؤثر نقص التغذية على الأداء المعرفي والمدرسي عندهم، وله تأثير سلبي على الصحة الذهنية والنشاط البدني وعدم القدرة على العمل بشكل جيد، وهو يصيب كافة الفئات العمرية وبالأخص الأطفال حديثي الولادة، وقد ينتح عن سوء التغذية أمراض عدة منها الكساح وضعف النمو، ضمور الدماغ، هشاشة العظام، تضخم الغدة الدرقية وفقر الدم.

وعن إجراءات مديرية الصحة في إدلب لاحتواء المرض والحد منه تقول المناع “إن مديرية الصحة تتعاون مع المنظمات الشريكة لتأمين أماكن لمعالجة سوء التغذية، سواء ضمن المراكز الصحية أو بمراكز خاصة بسوء التغذية وتأمين المغذيات والمكملات الغذائية وتعمل على إجراء المسح الدوري لمرض سوء التغذية من خلال فرق الصحة المجتمعية التي تحول الحالات المكتشفة إلى العيادات الخاصة للبدء بعلاجها”.

وقد أحصت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، أكثر من 800 إصابة بمرض سوء التغذية، غالبيتهم يعانون من سوء التغذية الحاد وبحاجة إلى دخول المشفى بشكل سريع، وكل ذلك نتيجة سوء الأوضاع الإنسانية والطبية في المخيمات.

وبحسب منظمة الأمم المتحدة فقد تم تسجيل ٣٤ إصابة من أطفال الشمال الغربي في سوريا بحالات تقزم بسبب سوء التغذية وأن أكثر من ٨٠٪ من سكان المنطقة لا يتقاضون أجور تغطي احتياجاتهم.

بعد الاستراحة: النقل في دمشق والحلم مقعد بكرامة

بعد الاستراحة: النقل في دمشق والحلم مقعد بكرامة

أن تتعلم الركض، التسلق، والسباق، كنوع من أنواع الرياضة هذا أمر طبيعي، وربما هواية تحب تنميتها، لكن في سوريا وفي دمشق بالتحديد يجب أن تستخدم هذه الأنواع من الرياضة للركوب في “السيرفيس، والباص الأخضر.”

فقط في بلاد الحرب تحني ظهرك وتدخل وسيلة النقل البيضاء، وعندما تريد أن تستدير لتجلس، تأتيك ضربة ركنية من اليمين أو اليسار من شريكٍ آخر في الوطن، ليخرجك مرة أخرى إلى الطريق وتعاود رحلة البحث عن مقعدٍ في سرفيس أبيض، لأن التكسي الصفراء رفاهية أول الشهر فقط لموظف أو طالب أراد أن يرفه نفسه بمبلغ من تعبه الشهري!

ربما إن سمع هذا الحديث مواطن أجنبي، يتخيل أنه مشهد من كوميديا سوداء فقط، لتشرح حقبة زمنية من تاريخ ما في البلاد، لكنها الحقيقة المُرة عن أزمات المواصلات وحلم مقعد السيرفيس الكريم حتى إن توفر البينزين.

بين سطور هذا التقرير، أقدم عرضاً عن أحلام شباب وشابات بمقعد سرفيس بكرامة، ومواقف مضحكة حصلت معهم بغية الركوب تحت سقف سرفيس أبيض!

حطَ الوقود الرحال!

لمدة خمسة عشر يوماً، شعرت رشا (الموظفة في شركة خاصة) أن دمشق فارغة وأنها مواطنة معززة مكرمة تحصل يومياً على مقعد سرفيس قرب النافذة، حيث تنبي أحلامها لمدة 10 دقائق حتى تصل لمنزلها في العشوائيات. لم تعش رشا هذه التجربة منذ أن وصلت دمشق، مع أزمة وقود أو بدون أزمة وقود، وتعقب أنها لا تتذكر متى آخر مرة، قبل هذه المرة ركبت فيها السيرفيس بكرامة، ولم تستند على حضن شاب أو فتاة.

في بلاد العالم تختلف أحلام الناس، فهناك من يحلم بسيارة خاصة موديل هذا العام، ومنهم من يحلم بكاميرا حديثة، وآخر بمنزل في منطقة فخمة، لكن كل هذه الأحلام عند غالبية الشباب والشابات السوريين/ات، تتلخص بمقعد في وسيلة نقلٍ عامة. بات الحلم بـ”المقعد الذهبي” أمنية للكثيرين بأن يجلسوا معززين مكرمين بـ100 ليرة سورية تقلهم بين أطراف العاصمة وتشكل جزءاً لا بأس به من دخلهم الشهري. منذ عشرات السنين تعاني دمشق تحديداً مقارنةً ببقية المحافظات السورية ازدحاماً شديداً في وسائط النقل العامة، تضاعفت هذه الأزمة منذ بداية الحرب إلى اليوم، حيث زداد عدد الوافدين من مناطق الصراع إلى العاصمة وضواحيها الآمنة.

هدأت شوارع دمشق قسراً خمسة عشر يوماً، وأعلنت الجهات المعنية تخفيض الدوام في المؤسسات الرسمية، والاستغناء ببعضها عن موظفي الريف، حتى حطت ناقلات النفط رحالها منتصف الأسبوع الماضي، لتعلن الجهات المعنية عودة المدارس والجامعات الحكومية والخاصة، بعد أن أغلقت هي الأخرى خلال عامٍ مرتين، أول مرة بسبب كورونا، والثانية بسبب أزمة الوقود في البلاد.

اليوم الأول!

أكثر من 100 مواطن ينتشرون عند ساحة الهدى في منطقة المزة غرب العاصمة، هي تركض باتجاه سرفيس رفض التوقف، وآخر يصيح بمواطن ينافسه على مقعد، ومن ينظر من بعيد يشعر أن مخرجاً تلفزيوناً يجب أن يصرخ (cut)، لإيقاف هذا الازدحام، إنه اليوم الأول للإعلان عن عودة الحياة إلى مجاريها بعد إيقاف دام خمسة عشر يوماً، ريثما حطت ناقلات النفط القادمة من دول الجوار رحالها في المتوسط. أجبر فجر (25 عاماً، طالب الطب)، أن يركب التكسي ليلحق محاضراته، وبلغت تكلفة 5 دقائق من الركوب في التكسي 3000 آلاف ليرة سورية. وفي التاكسي دار بين فجر وشوفير التكسي حديث يُشابه معضلة من أتى أولاً البيضة أم الدجاجة في وضع لا يتوقف فيه اللوم بين الزبون وسائق التكسي؛ ففجر يعاني من كونه طالباً ومصروفه الشخصي من أهله، بينما يعاني شوفير التكسي من كونه معيلاً لأسرته.

عاد الازدحام إلى شوارع دمشق مجدداً، لكن هذه المرة مع وقود لوسائط النقل وصعوبة رغم ذلك في الحصول على مقعد في المدينة التي حضنت غالبية الوافدين من المحافظات السورية نتيجة فترات الصراع وممن اتخذوا من دمشق مكاناً دائماً للإقامة ما أدى لمضاعفة مشكلات النقل في العاصمة.

مغامرات بالسيرفيس!

قبل أعوام كانت إيلا أحمد 30( عاماً)، تخجل من أن تركب في المقعد بجانب سائق “السيرفيس”، وتنتظر أخاها أو ابن عمها كي تتجرأ على فعل ذلك لأن المجتمع لم يكن يحبذ هكذا تصرف على حد تعبيرها، لكن في زمن صعوبة الركوب حتى في وسائط النقل العامة اليوم، بات كل شيء مباحاً للحصول على مقعد أو على سقف “سيرفيس ينقلها إلى بيتها”. تتحدث إيلا عن موقف حصل معها: “ركضتُ لأجلس بجانب سائق السرفيس كما كل يوم، ودون أن أنتبه جلست بحضن شاب حتى وصلت منتصف الطريق لتدرك ذلك نتيجة تعبها”.

تتعدد المواقف التي حصلت مع السيدات السوريات في أزمات الوقود المتكررة وأثناء فترات الازدحام الشديد في أوقات الذروة في العاصمة. فمثلاً حصلت ميريام 27( عاماً) منذ أسبوع على مكان في “السرفيس”، حيث جلست على رجليْ فتاة أخرى، ليأتي القدر ويفاجئ الركاب بحادث بسيط جداً أجبر السائق الضغط على ” الفرام”، لتجد نفسها بحضنٍ عجوز سبعيني. بينما تشير سوسن 40( عاماً) أنها تجلس بأي طريقة لتحصل على مقعد في سيرفيس يقلها إلى “قطنا” في ريف العاصمة البعيد، وكذلك الناس الآخرين، وحصل معها أن رجلاً من عمرها تقريباً، استأذن الجلوس على طرف ساقيها، لتكتشف أنه زميلها في مكان العمل، قبلت بكل صدرٍ رحب، وتتابع في وسائط النقل العامة “كلنا أهلية بمحلية”. بينما لم تكترث رهف (22عاماً) لتنورتها القصيرة وجلست على المقعد الجانبي مع 4 أشخاص ليسند الشاب يده على أرجلها، ويعتذر لها “عفوا أختي!” الحياة في مجتمع “السرافيس” ووسائط النقل الجماعية العامة مليئة بالمغامرات والقصص التي ربما يؤلف أحد عنها يوماً قصة تشبه ألف لية ولية.

ضحايا الوقود!

بعد انتظار دام أكثر من ساعة قرب شارع العابد وسط دمشق، وهو الطريق اليومي للصحفية الثلاثينية خلود التي يئست من الفوز بمقعد في سرفيس في اليوم الأول من عودة العمل الطبيعي لوسائط النقل العامة بدأت توقف “تكاسي الأجرة” التي طلبت أقل واحدةٍ منها بأجرة “3500 ليرة سورية” وأكثر واحدة بأجرة “5000 ليرة سورية” لمسافة لا تتجاوز السبع دقائق في السيارة!

حوار ولوم بين سائق التكسي “العشريني” والصحفية يشبه الحوار الذي دار بين فجر طالب الجامعة وسائق التكسي الآخر، ربما الحديث بات “كليشية” جاهزة بين السوريين في وضع بات الجميع فيه ضحايا للوقود مثلما هم ضحايا للحرب الطويلة. وأشار السائق أنه خرج مسافة 25 كم إلى منطقة الصبورة، حتى استطاع الحصول على لتر بينزين حر بمبلغ “50 ألف ليرة سورية”، وعن صعوبة حاله شرح السائق: “كيف أستطيع العيش إن أخذت ثمن هذه التوصيلة كما كنت أخذ يوم الأحد ليلاً 1500 ليرة سورية!”

وفي المقلب الآخر علا صوت رجل سبعيني في أحد وسائط النقل العامة خط “مزة جبل كراجات”، وذلك بعد أن صاح السائق: “200 ليرة ولي مو عاجبوا ينزل”! كلمة هادئة سقطت من فم الرجل السبعيني: “آخ يابلد”!

وهنا لا بد من الإشارة أن الجهات المعنية وعدت بزيادة كميات الوقود المخصصة للتكاسي العامة بحيث، ستصبح 40 ليتراً من البينزين كل 4 أيام، بدلاً من 20 ليتراً.

 

مشروع رفاهية!

ماذا تفعل الـ”100 ليرة سورية حالياً؟ وماذا تشكل من دخل الناس؟ ولماذا استنكر الرجل السبعيني؟”، أسئلة دارت بين من يقلهم “السيرفيس”، ليجيب الرجل: “لاتفعل شيئاً له، لكنها جزء من معاشي التقاعدي الذي يبلغ 45000 ليرة سورية!”

الرجل الذي جادل على 100 ليرة سورية، لايمكن له الركوب بتكسي من أواخر عام 2020 حتى هذا اليوم. تدرجت أسعار أجور تكاسي الأجرة ومع كل فقدان للوقود يزيد السعر بشكل عشوائي. وبشكل متوسط يقف سائق تكسي الأجرة على مدى يومين عند محطة الوقود لتعبئة 20 لتراً كل أربعة أيام حسب القرار الأخير لمحافظة دمشق، وهي لاتكفي سوى نصف يوم، والباقي يحصل عليه حراً بـ50 ألف ليرة سورية للـ20 لتر!

لا تصعد ولادة 32( عاماً) والتي تعمل في ورديتين صباحاً ومساءً، في تكسي منذ بداية العام وحدوث أزمة للوقود، وتقول متهكمة: “كنت رفه حالي أول الشهر أعمل شعري عند الحلاق وأركب تكسي، بس خلصت الحكاية!”

سؤال مشروع!

يتساءل السوريون اليوم، متى ستحدث أزمة الوقود التالية؟ أم أن الأزمة الراهنة هي الأخيرة في البلاد؟

متى سيحصل كل مواطن على مقعد كريم؟ دون أن يجلس على جنب السيرفيس؟

كلها أسئلة مشروعة لا إجابات عليها، سوى برسم أقدار هذه البلاد المتعبة!