الشحرور الذي غرّد خارج السرب

الشحرور الذي غرّد خارج السرب

ولد محمد شحرور في دمشق عام- ١٩٣٨ لعائلة متوسطة الحال. كان والده صباغاً وتلميذاً عند الشيخ الألباني، أتم تعليمه الثانوي في دمشق وحاز على الثانوية العامة عام 1958، وسافر بعد ذلك إلى الاتحاد السوفيتي لإكمال دراسته في الهندسة المدنية. تخرج بدرجة دبلوم عام ١٩٦٤ من جامعة موسكو، ثم عاد لدمشق ليُعين فيها معيداً في كلية الهندسة المدنية في جامعة دمشق حتى عام ١٩٦٨. أوفد إلى جامعة دبلن بإيرلندا عام 1968 للحصول على شهادتي الماجستير عام ١٩٦٩ والدكتوراه في الهندسة المدنية- اختصاص ميكانيك تربة وأساسات عام ١٩٧٢، عُيّن في نفس العام مدرساً في كلية الهندسة المدنية جامعة دمشق لمادة ميكانيك التربة ثم أستاذاً مساعداً. افتتح مكتباً استشارياً لممارسة المهنة كاستشاري عام ١٩٧٣، واستمر يمارس عمله كاستشاري حتى سنوات حياته الأخيرة. قدم وشارك في العديد من الاستشارات الفنية لكثير من المنشآت الهامة في سوريا وله عدة كتب في مجال اختصاصه تعتبر مراجع هامة لميكانيك التربة والأساسات. توفي في ٢١-١٢-٢٠١٩ في أبو ظبي الإمارات العربية المتحدة.

لحظتان فارقتان أثرتا في مجرى حياته:

اللغة: فقد أثار انتباهه إتقانه للغة الروسية وفهمها فهماً تاما بوقتٍ لا يتجاوز العام، بينما لغته الأم، اللغة العربية لم يستطع فهمها. فقد كان يقرأ القرآن دون أن يشعر أنه فهمه فهماً دقيقاً.

 الماركسية: فعلى الرغم من كون الماركسيين ملحدين إلا أنه وجد عندهم منطقاً متماسكاً ومع أنه غير مطابق للواقع حسبما رأى  إلا أنه عجز عن الرد عليهم من خلال ثقافته ذلك الوقت.

يضاف إلى ذلك ما آلت إليه حال العرب بعد هزيمة عام ١٩٦٧  والآراء التي ظهرت في أسبابها، فشيخُ جامع يقول هزمنا لأن النساء كاسياتٌ عاريات، وعلماني يرجع الهزيمة لصيام شهر رمضان، الأمر الذي جعله يدرك وجود خلل في نتاج العقل العربي سواء كان إلحادياً أو دينياً.

فكان أن بدأ في دراسة التنزيل الحكيم (على حد تعبيره) بعد عودته من موسكو وهو في إيرلندا بعد حرب عام ١٩٦٧ وقد ساعده المنطق الرياضي على هذه الدراسة، وقد توصل إلى نتائج جديدة مغايرة لما هو سائد في التراث العربي الإسلامي.

يصنف عمله بأنه محاولة شاملة للتوفيق بين دين الإسلام والفلسفة الحديثة، على ضوء التطورات العلمية والنظرة العقلانية في العلوم الطبيعية. فهو يرى أنه لا يوجد فرق بين ما جاء في القرآن الكريم وبين الفلسفة. وتنحصر بفئة الراسخين في العلم مهمة تأويل القرآن طبقاً لما توصل إليه البرهان العلمي. ودعا إلى فلسفة إسلامية معاصرة، تعتمد المعرفة العقلية التي تنطلق من المحسوسات. وينطلق من أن مصدر المعرفة الإنسانية هو العالم المادي وأن المعرفة الحقيقية ليست مجرد صور ذهنية بل تقابلها أشياء في الواقع الخارجي وهذا عين الحقيقة وهو بهذا على عكس الفلاسفة المثاليين القائلين إن المعرفة الإنسانية ماهي إلا استعادة أفكار موجودة مسبقاً.

كما يتبنى النظرية العلمية القائلة: إن ظهور الكون المادي كان نتيجة انفجار هائل، أدى إلى تغير طبيعة المادة. ويرى أن انفجاراً هائلاً آخر مماثلاً للأول سيؤدي حتماً لهلاك هذا الكون وتغيير طبيعة المادة فيه ليحل مكانه كون مادي آخر، وهو يعني بذلك أن الكون لا ينشأ من عدم (مع تأكيده أنه لا قديم إلا الله)، بل من مادة أخرى. وأن هذا الكون سيزول ليحل مكانه كون آخر من مادة مغايرة، وهذا ما ندعوه (الحياة الآخرة).

ركّز الدكتور شحرور في مشروعه الإصلاحي على المشكلة الجوهرية التي واجهت الفكر الإسلامي، وهي أن تعريفنا التراثي للإسلام هو الذي أوقع كل المتناقضات التي نعيشها في حياتنا، وجعلنا قاصرين عن مخاطبة العالم على أساس تصالحي وتعددي. فأعاد تعريف كلاً من المسلمين والمؤمنين، وهو بهذا يريد أن يجعل خطاب الإسلام عالمياً يتسع لغير المسلمين، وذلك بتوسيعه لتعريف المسلم ليشمل كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً، وهذا التعريف يشمل غالبية سكان الأرض. بينما المؤمن من آمن بالله والرسالة المحمدية.

تابع شحرور مشروعه النقدي التحديثي للفكر الإسلامي، مضيفاً لبنة جديدة إلى المنهج الذي سعى من خلاله إلى إظهار عالمية الإسلام وإنسانيته بوصفه رسالة رحمانية، لا علاقة طاغوتية، فقد قدم مفهوماً معاصراً للحاكمية الإلهية التي وصفها أنها تمثل الميثاق العالمي الذي يمكن من خلاله تحقيق السلام في العالم، والولاء له هو ولاء للقيم الإنسانية، ويتجسد من خلال الانقياد الطوعي للحاكمية الإلهية، ويرى أن هذا الولاء هو الرادع لكل من تسول له نفسه ممارسة الطغيان وسلب الناس حرياتهم.

وبذلك يمكن القول إن شحرور عمل على إعادة تأسيس فهم ديني معاصر لا يتعارض مع ما توصلت إليه المعارف الإنسانية، باستعمال أرضية معرفية متطورة لفهم نصوص التنزيل الحكيم، وإعادة تأسيس فقه إسلامي معاصر يقدم رؤية مغايرة لعملية التشريع التي تتماشى مع التطور المعرفي لأي مجتمع، معتمداً التأويل ومسلطاً الضوء على مرتكزات التفكير الديني. ومن أهم هذه المرتكزات التي تناولها في فهمه الجديد للإسلام: 

أولاً: الإيمانيات

يرى د. شحرور أن آيات التنزيل الحكيم عبارة عن نصٍ إيماني وليست دليلاً علمياً، وعلى أتباع الرسالة المحمدية المؤمنين بالتنزيل الحكيم أن يوردوا الدليل العلمي والمنطقي على مصداقيتها، وفي ذلك تتمثل مهمتهم الأساسية، علماً أن كل الإنسانية تعمل على ذلك علمت ذلك أم لم تعلم. إن التاريخ الإنساني ككل في مسيرته العلمية والتشريعية والاجتماعية، هو صاحب الحق في الكشف عن مصداقية التنزيل الحكيم، وليس شرطاً أن ترد مصداقيته على لسان صحابي أو فقيه أو تابعي بل قد ترد على كل لسان يقرأ النصوص  قراءةً واعيةً ممنهجة.

إن الوجود المادي وقوانينه هما كلمات الله، وأبجدية هذه الكلمات هي علوم الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والبيولوجيا والفضاء، وهذا الوجود مكتفٍ ذاتياً ولا يحتاج إلى شيء من خارجه لفهمه، وهو عادل في ذاته.

بما أن التنزيل الحكيم هو كلام الله، فوجب بالضرورة أن يكون مكتفياً ذاتياً، وهو كالوجود لا يحتاج شيء من خارجه لفهمه، لذا فإن مفاتيح فهمه ليست من خارجه بل هي بالضرورة من داخله، وانطلاقاً من أن أبجدية كلام الله هي فهم المصطلحات وفهم هذه المصطلحات يعتمد على تطبيق منهج معرفي في التعامل مع نصوص التنزيل الحكيم، وما دامت المعرفة أسيرة أدواتها فإن التنزيل الحكيم مطلق في ذاته، لكنه نسبي لقارئه لأن نسبيته تتبع تطور نظم المعرفة وأدواتها لدى الإنسان، وهذا ما أطلق عليه ثبات النص في ذاته وحركة المحتوى لقارئه ومن هنا نفهم لماذا كان النبي ممتنعاً عن شرح الكتاب إلا في الشعائر فقط

الأساس في الحياة هو الإباحة، لذا فإن الله هو صاحب الحق الوحيد في التحريم فقط، وأن المحرمات أغلقت في كتاب الله وحُصرت في ١٤ محرماً وبالتالي تصبح كل فتاوى التحريم لا قيمة لها، وكل ما عدا الله ابتداءً من الرسل انتهاءً بالهيئات التشريعية تنحصر مهمّته في الأمر والنهي فقط لأن كلاً من الأمر والنهي ظرفي زماني مكاني، والتحريم شمولي أبدي، لذا فإن الرسول لا يحلل ولا يحرم إنما يأمر وينهى. وكل نواهيه ظرفية لأنها عبارة عن اجتهادات، وهي قابلة للنسخ لأنها اجتهادات ظرفية إنسانية وليست وحياً.

إن محمداً قد جاء نبياً مجتهداً غير معصوم في مقام النبوة، وجاء مبلغاً ورسولاً معصوماً في مقام الرسالة. وهنا يفرق بين نوعين من السنّة:

1- السنّة الرسولية؛ وفيها توجد المحرمات ال14 لأن مهمة الرسول فيها تمثلت في تبليغ ما أوحي إليه من ربه فقط.

2- أما السنة النبوية فكانت مناط اجتهاده من مقام النبوة كقائد أعلى للمجتمع وبالتالي جاءت على شكل أوامر ونواهي ظرفية لزمانه. وعلى هذا الأساس فإن طاعته في حالتيه كرسول مُبلَّغ وكنبي مجتهد إنما جاءت لمقام الرسالة لأنّ الطاعة تكون للقانون لا للقوة.

ثانياً: اللغويات

النظام اللغوي لم ينشأ مكتملاً مرة واحدة بل نشأ واكتمل تدريجياً بشكل موازٍ لنشأة التفكير الإنساني واكتماله، وقد ركز الدكتور شحرور على التلازم بين اللغة والتفكير ووظيفة الاتصال منذ بداية نشأة الكلام الإنساني، وانطلق من أن اللغة الإنسانية كانت منطوقة في نشأتها الأولى، وأنكر ظاهرة الترادف العربية.

ثالثاً: الترتيل

الترتيل عنده هو رتب أو نظم الموضوعات الواحدة الواردة في آيات مختلفة من القرآن في نسق واحد كي يسهل فهمها. من هذا الفهم الجديد لترتيل القرآن جمع جميع الآيات التي وردت فيها لفظة (القرآن) والآيات التي وردت فيها لفظة (الكتاب) واستنطقها، فظهر حينئذ بجلاء الفرق بينهما. إن الكتاب عنده ينقسم الى ثلاثة أقسام من حيث الآيات ويصنفها على النحو التالي:

١-الآيات المحكمات التي تمثل رسالة النبي وقد أطلق عليها مصطلح (أم الكتاب) وهي قابلة للاجتهاد حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية، ماعدا العبادات والأخلاق والحدود.

٢- الآيات المتشابهات التي أطلق عليها  مصطلح (القرآن والسبع المثاني) القابلة للتأويل وتخضع للمعرفة النسبية وهي الآيات العقيدة.

٣-آيات لا محكمات ولا متشابهات وقد أطلق عليها مصطلح (تفصيل الكتاب).

ويبين لنا أن هناك فرقاً جوهرياً بين الكتاب والقرآن والفرقان والذكر؛ فالقرآن والسبع المثاني هما الآيات المتشابهات ويخضعان للتأويل على مر العصور والدهور، لأن التشابه هو ثبات النص وحركة المحتوى. القرآن فرق بين الحق والباطل أي أعطى قوانين الوجود أما الكتاب فعبارة عن تشريع، والذكر هو تحول القرآن إلى صيغة لغوية منطوقة بلسان عربي، وهذه الصيغة التي يذكر بها القرآن. الفرقان هو التقوى الاجتماعية، وهو الأخلاق المشتركة في الأديان السماوية الثلاثة لذا فرقها الله لوحدها وسماها الفرقان.

رابعاً: فهم الفرق بين الإنزال والتنزيل

يشرح الدكتور شحرور الفرق بين مصطلحي الإنزال والتنزيل في التنزيل الحكيم ويقول إن الفرق بينهما يعتبر أحد أهم المفاتيح الرئيسة لدراسة الكتاب بشقيه: النبوة والرسالة وله علاقة كبيرة بمبادئ التأويل.

إن النبي شرح الإنزال بقوله: (أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة).

 ؤيرى أن التنزيل: هو عملية نقل موضوعي خارج الوعي الإنساني.

والإنزال: هو عملية نقل المادة المنقولة خارج الوعي الإنساني، من غير المدرك إلى المدرك، أي دخلت في مجال المعرفة الإنسانية. ويكون هذا في حال وجود إنزال وتنزيل لشيء واحد مثل القرآن.

ويتابع فيقول: حتى يكون هناك حالة إنزال منفصلة عن التنزيل في القرآن، يجب أن يكون للقرآن وجود قبل ذلك. وهنا يظهر السؤال عن ماهية هذا الوجود وبأي صورة هو موجود؟ ويجيب شحرور على ذلك بأن القرآن هو كلام الله وكلام الله هو عين الموجودات ونواميسها العامة، والله مطلق وكلامه مطلق، فالقرآن موجود في لوحٍ محفوظٍ وفي إمامٍ مبين هو من علم الله، وعلم الله أعلى أنواع علوم التجريد، وفي حين أن أعلى أنواع علوم التجريد هو الرياضيات. يعني ذلك أن علم الله بالموجودات علم كمي بحت. وهذا القرآن الموجود في لوح محفوظ غير قابل للإدراك الحسي والتأويل، فعندما أراد الله إعطاء القرآن للناس حوله إلى صيغة قابلة للإدراك الإنساني النسبي، أي حصلت عملية تغيير في صيرورته، وهذا التغيير عُبر عنه في اللسان العربي في فعل (جعل)، إذ قال: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبيَّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). وقال أيضاً: (إنَّا أَنْزَلناهُ قُرْآناً عَرَبِياً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلونَ). والإنزال هنا نقل غير المدرك إلى المدرك، أي كان القرآن غير مدرك (غير مشهر) فأصبح مدركاً. والتنزيل حصل عن طريق جبريل إلى النبي وهو الذي تم على مدى ثلاثة وعشرين عاماً. ففي القرآن تلازم الجعل والإنزال وحصلا دفعة واحدة، وافترق فيه التنزيل حيث جاء في ثلاثة وعشرين سنة.

أما فيما يخص أم الكتاب التي هي الحدود والعبادات والمواعظ والوصايا والتعليمات، وتفصيل الكتاب فيس لهما علاقة باللوح المحفوظ أي ليست من القرآن وإنما من الكتاب. ولو كانت في اللوح المحفوظ لكان الصوم من كلام الله وأصبح من ظواهر الطبيعة، لأن كلام الله نافذ وظواهر الطبيعة حقيقية موضوعية صارمة. ولصام الناس في رمضان شاؤوا أم أبوا. وكذلك مواضيع أم الكتاب.

إن هذه الفروق التي تطرق لها الدكتور شحرور بالغة الأهمية وهي من أكثر الأمور خطورة وتعقيداً في العقيدة الإسلامية، إضافة لعدم التفريق بين الرسالة والنبوة وبين الكتاب والقرآن جعل المسلمين أناساً متحجرين ضيقي الأفق، وضاع العقل نهائياً وضاع مفهوم القضاء والقدر والحرية الإنسانية ومفهوم الثواب والعقاب. واعتبر كل ما كتب في الأدبيات الإسلامية دون إظهار هذه الفرق ضرباً من العبث واللف والدوران.

خامساً: عدم الوقوع في التعضية

 التعضية هي قسمة ما لا يقسم، والتعضية في القرآن تعني أن الآية القرآنية قد تحمل فكرة متكاملة وحدها أو فقرة من موضوع كامل، وبعد الترتيل مثل آيات خلق الكون، ونظرية المعرفة الإنسانية فإن جمع كل مواضيعها يخرج الموضوع الكلي كاملاً.

سادساً: فهم أسرار مواقع النجوم

مواقع النجوم؛ هي الفواصل التي بين الآيات، هي من مفاتيح فهم القرآن وفهم آيات الكتاب كله، حيث جاءت مواقع النجوم بين آيات الكتاب كله وبالتالي كل آية تحمل فكرة متكاملة. وبهذه الطريقة يتضح المعنى ويزول العجب إذا فهمنا مبدأ الفكرة المتكاملة.

سادساً: قاعدة تقاطع المعلومات

و التي تقتضي انتفاء أي تناقض بين آيات الكتاب كله في التعليمات والتشريعات.


ويقدم شحرور فيما سبق تطبيق عملي لنظريته المعاصرة لعملية الاجتهاد في نصوص التنزيل الحكيم انطلاقاً من نسخ اجتهادات الإنسانية السابقة، وإعادة الاجتهاد فيه بروح معاصرة، بعيداً عن القراءة التراثية الأحادية، التي أوقفت التاريخ وصيرورته عند لحظة معينة، وجعلت من الثقافة الإسلامية هشة ضعيفة يستحيل صمودها أمام ثقافات الدول المتطورة الأخرى. وكمثال عن هذا نورد ما قدمه من رؤية للمرأة متكئاً على منهجه التأويلي :

 يرى شحرور أن الله ساوى بين الذكر والأنثى على المستوى الإنساني العاقل، وعلى المستوى البشري الفيزيولوجي، وخاطب المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات دون أفضلية لأحد الطرفين، وفي حين تم تكريس المرأة في الوعي الجمعي كمتاع وموضع شهوة، نرى التنزيل الحكيم يعبر بمنتهى الرقي عن العلاقة بين الرجل والمرأة،  فالزواج علاقة متبادلة من المودة والرحمة، وهو ميثاق غليظ تأخذه المرأة من الرجل أمام الله فلا ينقضه ولا يجمع بين زوجة وأخرى وإنما استبدال. والتعددية الزوجية التي تعتبر مأخذاً على الإسلام من قِبل مناهضيه لها شروطها، ولا تصح إلا بحالة الزواج من أرملة لديها أيتام، والهدف رعايتهم والقدرة على إعالتهم. وأما عن القوامة فهو يرى أن المجتمع الذكوري يأخذ بآية القوامة ويترك التأسي بالرسول، حيث كانت القوامة لزوجته خديجة، من حيث أفضليتها المادية.

وبما أن الزواج ميثاق غليظ، فإن فكه بيد الطرفين، وليس أحدهما فقط، وعبر التنزيل الحكيم عن ذلك بدقة، فإن أراد الرجل الطلاق فعليه التزام المعروف، وكما يحق للرجل يحق للمرأة، أما الاختراع المسمى (بيت الطاعة) فلا وجود له إلا في محاكمنا الشرعية. وما حدده الله للرجل والمرأة من لباس هو الحد الأدنى لما يجب تغطيته، ولم يفرض لباساً معيناً بشكلٍ أو لون. وما أمر به نساء النبي والمؤمنين المعاصرين له، هو لبس ما يكف الأذى عنهن، سواء الأذى الطبيعي أو الاجتماعي دون أن يترتب على ذلك ثواب أو عقاب. والإسلام في القرن السابع لم يحرر المرأة لكنه وضع حجر الأساس لذلك، تماشياً مع طبيعة المجتمع دون قفزات لا يمكن احتمالها، فأعطاها الحق السياسي منذ أول يوم للدعوة، وسمح للمرأة أن تقاتل وتهاجر وتناضل ولم يقل لها التزمي بيتك. فالنبي أقام دولته وفقاً لما يتناسب مع مجتمعه، فجرى اعتبار اجتهاداته ضمن تقييد الحلال وإطلاقه ديناً صالحاً لكل زمان ومكان. دون الأخذ بعين الاعتبار أنها اجتهادات ظرفية.

وينوه شحرور إلى أنه إذا كنا ندعو لدولة تحترم مواطنيها، علينا أولاً إعطاء المرأة حقوقها، ابتداءً من كونها مواطنة يحق لها ما يحق للرجل تماماً، ويجب عليها ما يجب عليه، انتهاءً بحقها في الحكم كمثيلاتها في العالم المتحضر.

رحل الشحرور مخلفاً إرثاً معرفياً غنياً ومن أهم مؤلفاته:

1-(الكتاب والقرآن- قراءة معاصرة)، عام 1990

2- (الدولة والمجتمع)، عام 1994

3- (الإسلام والإيمان- منظومة القيم)، عام 1996

4-(نحو أصول جديدة لفقه الإسلامي)، عام 2000

5-(تجفيف منابع الإرهاب)، عام 2008

6-(السنة الرسولية والسنة النبوية- رؤية جديدة)، عام 2012

وأجرى عدد من اللقاءات المتلفزة نذكر منها:

لقاء ضمن برنامج (روافد) على قناة العربية عام 2010

لقاء صمن برنامج (ضيف ومسيرة) على قناة فرانس24 عام 2016

برنامج (النبأ العظيم) على قناة روتانا خليجية عام 2017

برنامج (لعلهم يعقلون) على قناتي روتانا خليجية وأبو ظبي عام 2018

برنامج (التفكير والتغيير) وبرنامج (رؤية معاصرة) على مواقع التواصل الاجتماعي.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

إعادة بناء العلاقة ما بين الداخل والخارج

إعادة بناء العلاقة ما بين الداخل والخارج

يكشف الواقع السوري الراهن أزمة بنيوية حقيقية وعميقة ما بين السوريين والسوريات في داخل البلاد وخارجها (دول اللجوء). هل ثمة ضرورة لتسليط الضوء على هذه الأزمة! أم سنفعل ما درجنا عليه دوماً وهو الهروب إلى الأمام تحت ذرائع مختلفة مثل الحفاظ على وحدة العائلة والمجتمع! أو ضرورة الحفاظ على التلاحم مهما كان شكليا!

هل ينتمي ما أناقشهُ هنا إلى خانة النم، الغيرة، التشكيك، الحسد، الإدانة، الفذلكة! لا أدري أبداً لأن كل عرض مرتبط بردود فعل مختلفة، وعدم الدراية هنا ليس بسبب نقص المعرفة أو غياب الحقيقة، بل يعود لسبب جوهري وأصيل، وهو انكفاء السوريين والسوريات عن مواجهة الواقع بصورة جمعية؛ وانكفاء المختصين عن خوض غمار عمل قد تصنفه الغالبية في خانة نكث الأخطاء وربما الأحقاد؛ وقد يعتبره البعض عملاً خطيراً قد يدمر البنية المجتمعية التي يتوافق الجميع على ادعاء صلابتها وتماسكها وربما تجانسها! إذن هي ضرورة على الرغم من عدم ضمان النتائج، هي ضرورة تبدو آنية لكنها صادمة ونتائجها منفرة للغالبية ومرفوضة أيضاً، لكن جدياً فقد آن الاوان لكبس الملح على الجرح علّ تلك الصرخة تجد طريقها نحو التشكّل والإعلان.

على أحد مواقع التواصل الاجتماعي مجموعة لسوريات يعشن في ألمانيا، تبدو رسائلهن المتداولة بعيدة كلياً عن اهتمامات سوريات الداخل، مشاكل الأطفال في دور الحضانة والمدارس، مشاكل تعلم اللغة، لكن الأكثر جلبا للإدانة! أجل الإدانة من أهل الداخل، هي الأسئلة عن مواقع بيع الألبسة الأنيقة، مواقع تسوق الإكسسوارات والحلي الجميلة عبر الإنترنت، ويبدو أن الأكثر مدعاة لإثارة النعرات! أجل نعرات! قد يصح تسميتها نعرات بينية، هي الأسئلة عن بطاقات السفر وأفضل البلدان الأوروبية أو المدن الداخلية لقضاء الإجازات! هنا يفلت الحبل المشدود بقسوة ويتعالى القهر، تفلت الغيرة الكامنة من عقالها، ويعلو صوت الاتهامات بالتقصير والجحود.

فكيف لشعب إن صح التوصيف يعتبر التنزه في حدائق جدباء وكأنه نزهات في غابات خضراء ومنعشة أن يتقبل كل هذا الفرق في نمط الحياة! حتى قبل الحرب كانت المسابح مستحيلة وحلم الغالبية وخاصة الشباب والأطفال والطفلات والشابات. البحر وشواطئه مشروع قد يتحقق كل عشر سنين مرة واحدة، أما ركوب الطيارة فهو غصة خانقة بعدها صمت مطبق مغطس بالقهر.

تبدو القضية إذن مغرقة في القدم والحرمان متأصل في الوجدان العام وفي تفاصيل الحياة اليومية، المقاربة هنا لا تنتمي أبداً إلى مفاهيم أو معايير جودة الحياة أبداً، بل تنتمي بشكل مباشر إلى فعل الحياة أو العيش إن صح التعبير.

من نافل القول التأكيد على أن ما يجري يعبر فعلياً عن معارك مؤجلة بين طرفين متناقضين، والتناقض هنا في نوع الحياة وشكلها وفي تفاصيل العيش وليس بين البشر، التناقض هنا برسم المكان والزمان لا برسم الأشخاص حتى وإن كانوا أبناء أو إخوة أو أصدقاء أو أزواجاً أو أحبة.

قد يكون أهل الخارج محقين تماماً في ضيقهم وانزعاجهم من آلية التعامل معهم من قبل أهلهم أو شركائهم أو أصدقائهم في الداخل، لدرجة تبدو العلاقة وكأنها مع صندوق مالي على أهل الخارج ملأه دوما لتزويد أهل الداخل بكل ما يطلبونه.

تتغير العلاقة وتتحول إلى نمط جديد استهلاكي مفرط في أنانيته ومتكل على طرف واحد، فقط بذريعة أنه الأكثر وفرة، نمط غير تبادلي أبداً حتى دون أي وعد بسداد الممنوح أو جزء منه، أو التعويض بأساليب استرضائية قد تكون غير مالية، هنا تحديداً يكمن الخلل! طرف محروم من كل شيء وطرف يملك ما يستحقه أو ما يحصل عليه بعرق جبينه وبصورة شخصية بحتة، وهو فعلياً يحتاجه للعيش، لكن بنظر الآخر البعيد المقيم في بلاد الحرمان والعوز وفقدان الأمن النفسي والصحي والغذائي، فإن أهل الخارج محكومون بتقاسم ما يجنونه مع أهل الداخل. يقول جورج: “العشرة يورو لا تفعل شيئاً هناك، لكنها بالنسبة لي قد تكون كافية لشراء كيلو من اللحم يكفيني لإعداد عشر وجبات أو أكثر!” المصيبة هنا أن من يعيش في الداخل ينشئ حساباته على مقدار حاجته، على ما يعجز عن جمعه أو تأمينه، العلاقة هنا باتت فخاً خطيراً، والإجابات غير كافية أو مقنعة، يسود منطق الحاجة على منطق الحقوق وتتحول العلاقة إلى ما يشبه الصراع، ويمكن القول إنه صراع حقوق بكل ما في الكلمة من معنى.

على إحدى الصفحات أيضاً، تسخر إحداهن من الطلبات المتكررة لقريباتها بشراء كريمات واقية للشمس أو مغذية للبشرة ومن ماركات جيدة، السخرية هنا لا تتعلق بالعاطفة أبداً، بل بالجغرافيا تحديداً، على أهل الداخل الاكتفاء بأسوأ الكريمات، تماهياً مع واقعهم وتفاصيل حياتهم السيئة!

 يتم هنا توجيه رسالة ربما تكون غير مقصودة، تقول الرسالة: “إن جودة الكريم تتناسب طرداً مع المكان، ومع الجنسية!” يا لها من صدمة واقعية ومتجددة؟ وقد تقول إحداهن بلهجة الخبيرة الواقعية والمتمرسة: “زيت الزيتون البلدي هو الأفضل، في إشارة إلى نظرية الجود من الموجود!” وكأن الشعب السوري بكامله قادر على تأمين زيت الزيتون الأصلي والصحي والشافي لكل الأخاديد التي تركها العمر الملطخ بالحرب.

قضية العلاقة ما بين الداخل والخارج قضية مركبة، أطرافها كثر والمتأثرون بها كثر أيضاً، لذلك غالباً ما يتم الرد على أحد إشكالاتها بطريقة متذمرة وقاسية. تقول نوال عن تجربتها: “يتعامل معي أهلي وكأنني بحر لا تجف أمواله!” هي محقة في ذلك طبعاً، لدرجة أن أمر إرسال المال إلى أهلها بات عبئاً مادياً ونفسياً خانقاً. وتحاول نوال التخفيف منه بمباعدة الاتصال مع أهلها كي لا تتعرض يومياً لنفس الأسئلة ولنفس المطالب. تحاول عبثاً إرسال رسائل مفادها أن ساعات عملها طويلة وبأنها مثقلة بالأعباء والوقت ضيق والمناخ البارد يؤثر على طاقتها ولياقتها النفسية وبأنها مضطرة لتنفق كما ينفق زملاؤها وجيرانها لتثبت حضورها بينهم. لم تنفع كل تلك المحاولات ولم يصدقها أحد حتى حين أرسلت لهم بالورقة والقلم كما يقال الفروقات السعرية الكبيرة نتيجة ارتفاع الأسعار الذي طرأ على أوروبا خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وفي الحقيقة لا أحد يريد أن يصدقها، فحجم الاحتياج يتضاعف في سوريا والعجز يتضاعف والحل الوحيد هو في نوال شخصياً دون أي تعاطف، وربما بلا أدنى شكر أو تقدير من أهلها وذويها وبعض صديقاتها الذين باتوا كلهم شركاءها الفعليين في أجرها.

الخيبة قاسم مشترك بين الجميع فمن يبددها؟ لا أحد! واعتماد أهل الداخل على أهل الخارج مرده بشكل أساسي هو عدم إيمانهم أو قناعتهم بأن أحداً ما سيكترث لأمرهم في الداخل. لا موارد كافية والغلاء صار بعبعاً متوحشاً والمرض وكلفته العالية وفقدان السكن والأمان كلها عوامل تشعل نار العوز وتثقل أكتاف الجميع. وإن طالب أهل الخارج أهلهم في الداخل بعمل إضافي لتأمين دخل إضافي ستكون النتيجة هي التشكيك بالعاطفة والمزيد من الشكاوى وحكايات الظلم المتجدد، والتدخل في تفاصيل حياة الممنوحين من قبل المانحين بات تهمة وبات مصدراً جديدا للتناحر والغضب والسجالات ما بين أفراد الأسرة الواحدة، بغض النظر عن سؤال الحقوق وأسئلة الواجب والارتباط والمسؤولية.

 “كل شيء ضاق حتى ضاع،” هي العبارة التي تصف الواقع بصدق، ضاعت الطمأنينة والوفرة والمحبة جراء الضيق المتكامل والشامل للجميع. والخلل الذي أصاب العلاقات المجتمعية والأسرية تحديداً بات عصياً على الحل، الكل يطلب من الكل، والكل عاجز عن الاكتفاء بما لديه أو تأمين الكفاية لسواه. وحين يصبح العجز المتبادل أساساً للعلاقات، يتحول العجز إلى عقم عاطفي ونفسي وتشاركي.

 إن إعادة بناء العلاقة ما بين الخارج والداخل وتنظيم أسس الدعم المادي هي قضية مؤرقة، قد تجد بعض الحلول إن تمكن ابن من تأمين فيزا لأمه الوحيدة أو (وللأسف) قد يكون الخلاص بموت الأهل أو مقاطعة صديق أو صديقة بصورة نهائية نتيجة العجز غير القابل للمناورة أو التفاهم أو الحل. وإن حمّل البعض الزمن إمكانية توليد حلول أو استنباط آليات تخفف العجز، فإن الزمن يجيء بالمزيد من الأحمال الثقيلة ومن الأزمات الجديدة والمستجدة لا غير.

محمد الماغوط الحداثي الساخر من الحداثة

محمد الماغوط الحداثي الساخر من الحداثة

لا تكمن أهمية الشاعر السوري محمد أحمد عيسى الماغوط -12 كانون الأول 1934- 3 نيسان 2006- ولا يمكن اختزالها فحسب في تأسيسه للقصيدة الحرّة أو عباراته الانفجاريـــّة في شعره ونثره ومسرحه التي صاغتها ظروف التشرّد والحرمان أو مكانتِه في نقلِ “القصيدة العربية في الخمسينات من الذهني والميتافيزيقي والتأمليّ الصرف لليومي”1

 بل في البعد الفكريّ والفلسفيّ لأعماله الأدبية أيضاً. وفي الوقت الذي تمَحوَر فيه الوعي العربي حول مقولات ومفاهيم غنائيّة وشعارات خلبيّه شوّشت على هويته التي فتتّتها الواقع، أتى الماغوط ووضع الركام الذي يتشكل منه الإنسان العربي أمام عيني الأخير تحت مجهر الشعر والنثر والمسرح؛ وكان سؤاله مزدوجاً وموجَّهاً للفاعل والمفعول به، للسلطة والشعوب التي لا تتقدم إلا حين تضع ذاتها موضِعَ سؤال.

لذلك كان سهمه مشدوداً في عدة اتجاهات، ضد النخب والسلطة بكافة أشكالها الدينية والثقافية والسياسية المضللة والمراوغة والحداثة الخادعة والإنسان البسيط الذي ينخدع بسهولة جراء توحّشّ الجهل؛ فقد أراد في كتاباته أن يحرك –ومن خلال-الجملة الشعرية المتفجّرة-الغضب كما أراد أن يثير في نثره الأسئلة وفي مسرحه السخرية. ولم ينجُ المثقف العربي وهو رهين المحبسين (السُلطة والملعقة) من المسؤولية؛ فالأخير يحمل شوكته لاقتسام الدجاجة لكن لا يعثر في صحنه سوى على العِظام! يذكرنا محمد الماغوط بالمفكرين الفرنسيين في الخمسينيّات والذين شَّرحوا حاضر فرنسا بحثاً عن مستقبلها.

 ومنذ ديوانه حزن في ضوء القمر رفض الشاب القادم من سلمية،-والذي تنقل بين دمشق وبيروت وعمل في الصحافة ليحترف الأدب السياسي الساخر،-أشكال التقدم الخلبيّ الذي يقوم على انتهاك الفطرة النقيّة للحياة الإنسانية، فلا معنى لأي تطوّر لا يستند للوعي والحرية والكرامة؛ ورغم أنّه كان حداثيًّا في اللغة، إلاّ أن روحه البريّة وحياته التي رضَّها الجوع والتشرد لم تمنعا سؤاله عن ماهية الحداثة بكونها جعجعة بلا طحين.

 إنّ مكانة الماغوط في المنعطف السوري كمسرحي ألف العديد من المسرحيات الناقدة التي أسهمت بتطوير المسرح السياسي في الوطن العربي وكتابته للرواية وريادته في القصيدة النثرية أسّسوا للقطيعة المعرفيّة عبر النقد الذاتي والأفكار التي تفكك البنية الذهنية للإنسان العربي والمسؤول العربي والتراث العربي، هذه الكتابة المتمردة شكلت نوعاً من الصدمة أو يمكن أن نطلق عليها ما يسميه غاستون باشلار القطيعة الايبستمولوجيّة مع إرث كامل، ، فقد وضع الماغوط في سلة جميع أسباب القهر وسخر منها بكوميديا واقعيّة فكان نثره ومسرحه كاختراق عمودي لزمن أفقي وراكد.

 يذكرنا في أصالة تفكيره وواقعيته وخياله المارق بأريستوفان رائد المسرح الإغريقي. وفي مسرحيته “غربة” يسخر من شعر القافية والوزن في واقع بلا قافية ولا وزن فكان مسرحه رصداً للعوائق القائمة في ثلاثية أطرافها كلها مُدانة.

لقد صور بشكل كاريكاتوري المختار والأستاذ العاجز والسلطوي المتحذلق والمتلاعب بالكلمات، ووضع المواطن البسيط في مسرحياته (ضيعة تشرين-غربة-شقائق النعمان-كاسك ياوطن) أمام مرآة، ولعل مسرحية غربة أشدها عمقاً ووضوحاً فكرياً.

 إن نقد الذات حاضر في نصوص الماغوط فشخصياته المسطّحة تفتقر لأي بعد مستقبلي أو نمو درامي، قد تتغير أدوار الشخوص بين فصل وآخر كما في مسرحية غربة لكن ثباتها في كينونة لا تتبدل لم يكن حيلة فنيّة فقط بل دلالة على حال الإنسان العربي الذي لا يتغير ولا يسائل نفسه، ولذلك ثمن باهظ سيدفعه مستقبلاً.

لقد أثمر اليأس والخوف في جعلها شخصيات ثابتة في الزمان. فالنماذج التي يختارها في مسرحه والأمكنة مجرد ماكيت مصغّر للوطن العربي والإنسان العربي أراد من خلاله للمتلقي اأن يراقب هويته وتفكّكها.

 شكّك بالمثالية دافعًا الكلمة لأقصى حدودها محمومًا بتثوير الوعي ضدّ ذاته عبر قياس المسافة بين الأقوال والأفعال، وكان حداثيًّا ساخراً من الحداثة وشاعراً يائساً من الشعر والشعراء، يهجو اليمين واليسار (ما أذربَ ألسنتنا في إطلاق الشعارات، وما أرشق أيدينا في التصفيق لها، وما أعظم جلَدنا في انتظار ثمارها، ومع ذلك فإن منظر ثائر عربي يتحدث عن آلام شعبه للصحفيين وهو يداعب كلبه الخارج للتو من الحمام، لا يهزّنا).2

 ألا يحتاج الإنسان للانقلاب على نفسه حتى يتحرر قبل أن ينقلب على السلطة بكل أشكالها السياسيّة والثقافيّة والدينيّة!

 إن التأمل في مسرح الماغوط يثير الأسئلة الفلسفيّة والوجوديّة التي يتجاهلها الإنسان العربي المقهور، يفكك أسباب قهره. فيكتب في قصيدة بدوي يبحث عن بلاد بدوية:

آه كم أتمنى، لو أستيقظ ذات صباح

فأرى المقاهي والمدارس والجامعات

مستنقعات وطحالب ساكنة

خياماً تنبح حولها الكلاب

لأجد المدن والحدائق والبرلمانات

 كثباناً رملية

آباراً ينتشل الأعراب ماءهم منها بالدلاء.

كيف أمكن فتننا عبر الكلام فالمصيبة أمامنا ولا نراها!

يدور الفصل الثاني من مسرحية غربة حول عيد الكذب وكأن المواطن العربي حصان رابح في رهان الكذب الذي يشربه علقماً ويحسبه ماء.

  أبو ريشة في المسرحية رجل مكلوم يريد الهرب، تنصحه غربة: ولما بتهاجر لبعيد إنسى الكذب. (ياترى هل استطاع-أبو ريشة الحالي الذي هاجر عبر البحر-أن يتخلص من بنية زائفة شكلت وعيه وهل أمكنه أن يراجع قناعاته؟).

 إنّ ما يمنح أهمية  وقيمة مسرح الماغوط في المنعطف السوري هي قربه من النبض العام للإنسان، وتركيزه على التناقضات التي شكّلت وعيه، وعلى سرياليّة الواقع العربي التي صبغت مسرحه بالفانتازيا السوداء. يقول في حوار معه: (فماذا يعنيني من السفن الفينيقية التي كانت تعبر المحيطات، وأنا لا أستطيع أن أعبر زقاقاً موحلاً طوله متران؟).3

وتكمن أهمية تجربته في المنعطف السوري في كشفه الغطاء عن المفارقات الواقعية الهزليّة ووضعها أمام الحس النقدي عبر روح سقراطيّة شكاكة وساخرة.

 كان سقراط قد أنزل الفلسفة من التفكير المجرد بالكون والطبيعة نحو الذات الإنسانية ومع الماغوط لم يعد الشعر متعالياً ونخبويـًّا بل تحول إلى فعل يوميّ، في انحيازه لكينونة الإنسان.

في مقطع من قصيدة حريق الكلمات من مجموعة حزن في ضوء القمر يكتب:

سئمتك أيها الشعر، أيها الجيفة الخالدة

لبنان يحترق

يثب كفرس جريحة عند مدخل الصحراء

وأنا أبحث عن فتاة سمينة

أحتك بها في الحافلة

عن رجل عربي الملامح، أصرعه في مكان ما.

بلادي تنهار

ترتجف عارية كأنثى الشبل

وأنا أبحث عن ركن منعزل

وقروية يائسة، أغرر بها.

ياربــّة الشعر

 ببلاد خرساء

تأكل وتضاجع من أذنيها

أستطيع أن أضحك حتى يسيل الدم من شفتيَّ

كان الماغوط في شعره ونثره انفجارياً ولا يساوم:

لقد آن الأوان

 لتمزيق شيء ما

…. 

يا أرصفة أوربا الرائعة

أيتها الحجارة الممدّدة منذ آلاف السنين

تحت المعاطف ورؤوس المظلات!؟

أما من وكرٍ صغير

لبدويّ من الشرق

يحمل تاريخه فوق ظهره كالحطّاب

إن تحرير العقل العربي لن يكون إلا بوضع الذات أمام مرآة، والاعتراف بالهزيمة والضعف وكمثقف يعرّي الماغوط حقيقة المثقف ذاته. يكتب في سياف الزهور “: حيث تبين لي أن كل آرائي ومواقفي الحازمة ضد هذا الإغراء أو ذاك، ماهي إلاّ أوهام وترّهات وأن ثقتي بنفسي ليست عمياء وصماء، بقدر ماهي مضحكة وبلهاء”.

الماغوط واقعي وحين يسأل عن المبادئ يجيب “ماذا أفعل؟ الفم يساري والمعدة يمينّية”.

إن رثاؤه وألمه هو لحال المواطن العربي صانع التاريخ وما آل إليه: “منذ سبعة آلاف سنة بنيت الأهرامات ونقلت حجارتها على ظهري من أسوان إلى الجيزة، تحت لسع السياط وحريق الهاجرة، والآن أتألم وأشكو ضآلة الأجر وسوء المعاملة”.

لقد وضع تحت عدسة مكبرة وعبر مسرحه الذي هو مسرح أفكار ازدواجيتنا العميقة.

 وفي نص بعنوان: حوار بين مسؤول عربي وكاتب نجد أن ممثل اليسار سافر لأداء مناسك الحج وأن حملة القضايا هم أكثر من أساؤوا لها. وحين يُسأل عن مستقبل الشاعر العربي يجيب: (في ملعقته).4

فأمراضنا مستعصية على العلاج والريبة التي تسم علاقتنا ببعض كبشر أولاً وكمثقفين ثانًيا داء عضال: وفي كتابه سأخون وطني وفي نص بعنوان يا شارع الضباب يصف حال المثقف العربي بحيث يخوِّن التقدمي شاعراً آخر ويصفه بالرجعي ثم يأتي آخر ويخوّن الأول باعتباره من جماعة سياسيّة وينظر له كمرتهن ومشبوه، ثم ثالث متطرف يخوِّن الاثنين.

في أحد حواراته يتساءل الماغوط: إذا لم يستطع الكاتب العربي أن يعبر عن رأيه في أدق مرحلة تمرّ بها أمته، فماذا يكتب؟

يجيب: عن وحام الأميرة ديانا.

(ولذلك ما جدوى إصدار كتب جديدة؟

وشق طرق جديدة؟

وركوب سيارات جديدة.

وإجراء انتخابات جديدة

بل ما جدوى أن ننتعل أحذية جديدة

ونرتدي معاطف جديدة

ومايوهات جديدة

والوطن عتيق…. عتيق.5

عاش غريباً وحزنه لم يكن شخصياًّ. إنه حزن على مستقبل وقف العسس في طريقه ومنعوه من المرور، ويبدو أنهم نجحوا لا لأن العيب فيهم بل لأننا كنا شركاء في تدمير هويتنا وركودها لزمن طويل.

كان الماغوط مسرحيًّا وشاعراً برتبة مفكر، وفي كل سطر من شعره ونثره وعبارة في مسرحه سؤال ورجّة ولا يهم أن تأتي الفلسفة عبر المنطق أو اللامنطق بالإقناع أو الفكاهة من نافذة المسرح أو الشعر أو حتى الجنون.

 ربما يمكننا إلى جانب التعريفات الكثيرة للفيلسوف أن نضيف أن الفيلسوف هو من لا يعرف أنه فيلسوف، والماغوط مفكر لم تغرِه الألقاب ولم يسعَ لها.

 كتب محمود درويش في شهادته عنه” كان، دون أن يقصد، أباً روحيًّا لأكثر من جيل من شعراء قصيدة النثر”6.

ولعلنا نقول إن أبوّة الشعر ليست الوحيدة، لقد استطاع أن يمنح البسطاء مرآة لمشاهدة واقعهم وشاهدوا أنفسهم فوق الخشبة وضحكوا عليها ومنها، لكن لم يرغبوا بتغييرها، تركوا حاضرهم راكداً فنجح العسس في سرقة مستقبلهم.

 ثمة حكمة تقول: إذا حدقت في نكتة لوقت طويل سوف تبكي.

لقد تبقت لنا الغصّة، وها هو حزن الماغوط يسافر في البحر، تائـهاً في أزقة أوربا أوهائماً على وجهه في العراء، السوريون الآن أحزان متنقلة ومحمد الماغوط: نائم الآن…. لكن حزُنـــَه حرٌ طليق.

هوامش

1-العاشق المتمرد، شهادات، إعداد على القيم، منشورات وزارة الثقافة، دمشق .2006

 2-المرجع نفسه

3-المرجع نفسه

4-محمد الماغوط اغتصاب كان وأخواتها، حوارات، تحرير وتقديم خليل صويلح، دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، عمان، الأردن .2021

5-المرجع نفسه.

6-العاشق المتمرد، شهادات، إعداد على القيم، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 2006

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

جامعات سوريا والمناهج الإلكترونية: تطوير أم تغطية فشل؟

جامعات سوريا والمناهج الإلكترونية: تطوير أم تغطية فشل؟

مناهج التعليم في جامعات سوريا، تسعى إلى استخدام الكتب الإلكترونيّة بدل الورقيّة، وكان هناك مبررات عدّة، مزعومة، أشارت إليها إحدى الصحف الرسميّة بدمشق نقلاً عن مسؤولين في وزارة التعليم العالي، مثلاً “يوجد ما تقارب كلفته الـ 1.2 مليار ليرة سورية؛ مبلغ مجمد لآلاف من الكتب المطبوعة منذ سنوات، لا تلقى أيَّ طلب عليها من الطّلاب”، والكلام السابق منسوب لمدير الكتب والمطبوعات في جامعة دمشق. 

وبدل أن تُعالج مشكلة كساد الكُتب، وقلّة خبرة الفريق الإداريّ في تلك المؤسسة، استُخدمت كواحدة من المبررات التي تعتبرها الوزارة المعنيّة؛ معالجة لكارثة يُفترض بها أن تصنف كقضية فساد إذا صحَّ ما قالته “د.مياسة علي ملحم” نائب عميد كلية الهندسة المدنية للشؤون الإدارية والطلابيّة في جامعة دمشق لذات الصحيفة: “لدينا هدر ورق كبير نحتفظ به بالمستودعات بأعداد هائلة ويصبح الكتاب قديماً وتالفاً قبل أن يُستخدم”.

ويشير الموقع الرسميّ لجامعة دمشق أن مديرية المطبعة تقوم “بطباعة كلّ ما تحتاجه جامعة دمشق وكلياتها من مطبوعات وخاصة بعد أن تمّ تحديث وشراء آلات جديدة للمطبعة العام 2007 أصبحت المطبعة تقوم بإنجاز طباعة كتب جامعة دمشق وكتب التعليم المفتوح بشكل كامل ومجلات الجامعة وجرائد الجامعة وأوراق الامتحانات وحاجات الكلّيات بما فيها فروع درعا والسويداء والقنيطرة ومن الجدير بالذكر أن كلّ مطبوعات الكلّيات والمديريات من ورق وكرتون وطباعة، مجانية على حساب جامعة دمشق كون المديرية خدميّة لصالح الجامعة” وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مصير تلك المديرية يبدو مجهولاً في ظلّ ظهور التحوّل إلى “الكتاب الإلكترونيّ” وكذلك  مصير تلك الآلات المختصّة بالطباعة بعد توقفها.

الاهتمام بالقشور

تعتبر ريم شعار (طالبة صيدلة في السنة الخامسة) من جامعة تشرين، أنّ هذا القرار يعطي انطباعاً جيداً للوهلة الأولى، وكأنّنا نتطوّر ونتقدم بخطوات حقيقية لتطوير العملية التعليميّة، وتسهيل الأمور على الطلاب للحصول على المعلومات مباشرة دون الاضطرار إلى استخدام المواصلات للذهاب إلى الجامعات أو إلى المكتبات للحصول على المحاضرات بشكلها الورقيّ. 

وتضيف ريم في حديثها لموقع صالون سوريا: “لكن بعد التفكير مليّاً والأخذ بعين الاعتبار عدّة أمور، وجدت أنّ تحويل جميع المقرّرات الجامعية لملفاتإلكترونية ليس بهذه البساطة أبداً على الطالب؛ وخاصة في دولة كسوريا عانت ما عانته خلال سنوات طويلة من القلّة وانعدام أدنى مقوّمات الحياة. فمثلاً أول ما يخطر لي ولكلّ طالب سوري هو الكهرباء وتوافرها المعدوم مع الأسف، فكيف لي أن أدرس للامتحان ساعات طويلة ومتواصلة على جهاز إلكترونيّ لا أعلم متى ستفرغ منه الطاقة! ومن الذي له قدرة ماديّة دائمة كي يقضي معظم وقته في المقاهي التي تتوفر الكهرباء فيها، حيث يلجأ إليها العديد من الطلبة الآن؟”.

وتعتقد ريم أن هذا التحوّل يحتاج إلى “بنية تحتيّة من الأجهزة الذكية الخاصّة والتي تدعم العديد من الميزات والتي من الصعب توافرها هنا، عدا عن أسعارها الباهظة في حال توافرت، إضافة إلى العقوبات أو ما يسمى “الجمركة” على إدخالها للبلاد ومشكلة توافر شبكة الانترنت التي ما زلنا حتى الآن نعاني أشد العناء منها”.

وتشير ريم إلى طبيعة الضرر العائد على الصحة من هذه الخطوة، بداية من آلام الظهر والأكتاف بسبب الجلوس الطويل على الأجهزة اللوحية أو الحواسيب ووصولاً إلى التأثير السلبيّ على صحة العيون: “إذا استُخدم الهاتف المحمول لمدة قليلة من الزمن ولاستخدامات عادية حقاً أشعر بانزعاج في عينيّ، فما بالك بدراسة لمدة طويلة!

في النهاية نحن كطلاب نتمنى حقاً أن يتم الاهتمام بالعملية التعليميّة وتطويرها والنظر بصدق ووعي لآلاف المشاكل التي تواجه وتعرقل الطالب السوري والتي لا يلتفت إليها أحد واقعياً وهذا القرار هو وصف لمن ينظر إلى القشور ليلهينا ويترك اللبّ” على حد تعبيرها. 

الهاتف بين يدي

تصف ميسون (طالبة في كلية الإعلام) جامعة دمشق، في حديثها لموقع صالون سوريا هذه الخطوة بـأنها “حسنة جدّاً لأنها تسير مواكبةً التطوّر في المجال الرقمي، وهي حقيقة لخطوة جريئة بقدر ما هي مفصلية، لأنّه وبلا شك ستتبعها تطوّرات أخرى في النظم التعليمية وطرق التعليم. وأفضل ما في الدراسة من الكتب الإلكترونية (وفي الواقع هو الأهمّ) أنّها توفّر علينا دفع مبالغ طائلة للحصول على الكتب الورقية، وهذه العملية جيّدة جدّاً ومفيدة في ظلّ تردي الوضع الاقتصادي. كما أنهّا ومن ناحية أخرى توفر الكثير من الوقت والجهد، فبضغطة زر تصبح متاحة على هواتفنا”.

وتستدرك ميسون، من ناحية أخرى، مخاطر هذه الخطوة معتبرة أنها “ليست مجرّدة من السلبيات، فاحتمال حدوث مشاكل صحية (كألم العين، ووجع الرأس.. إلخ..) عند المستخدمين يزيد أضعافاً لأنّ وقتهم يطول أمام شاشاتهم، ناهيك عن ميل أغلب الطلاب نحو الورقيّة منها واعتيادهم عليها، ما يصعّب عليهم التأقلم مع الالكترونيّة” على حد تعبيرها.

وتحبّذ ميسون بشكل شخصيّ الدراسة من الكتب الورقية “لأنها مريحة لعينيّ ونسبة تركيزي فيها تكون أعلى منها في الدراسة من الالكترونيّة، فما دام الهاتف بين يدّي، فإنني لن أقاوم إدماني على مواقع التواصل، وسأدخلها خاضعة” حسب قولها. 

وتضيف ميسون: “إنّ الوضع الذي نعيش فيه يفرض عليّ وعلى غيري من عشاق الكتب الورقية استخدام الالكترونيّة، لشحّ الكتب الورقية وصعوبة الحصول على نسخ منها بأسعار تناسب أوضاعنا المادية، وعلى أي حال لن نستغني عنها بالكامل، حتى لو توفرت الورقيّة، فهناك حالات اضطرارية يفضّل أن نقرأ من الهاتف خصوصاً أثناء التنقل في المواصلات، وأنا في بعض الأحيان يحكمني مزاجي، فيروق لي أن أدرس من هاتفي”.

تركيز مفقود

وبعيداً عن أجواء الاحتفال باللحاق بقطار التقنيات الحضاريّة في التعليم، وغض نظرها عن مشكلة جوهرية تشير إلى ثغرات إداريّة، وتبدو خطوة التحول إلى “الكتاب الإلكترونيّ” فرصة للاختباء من إيجاد حلول تناسب أوضاع الطلاب، ووقوفاً عن الجانب الصحيّ لتلك الخطوة، خلصت دراسات منشورة مؤخراً إلى أن استيعاب الطلاب يكون متدنياً أثناء التعلم والقراءة من الوسائل الإلكترونية وأن مستوى الفائدة يكون أقلّ مقارنة مع الوسائل المطبوعة. وبحسب الدراسات فإن الأجهزة اللوحيّة ترهق الأعين عند القراءة وتؤثر على مدى التركيز في المعلومات وتفهمها. إضافة إلى أن عدداً كبيراً من الناس يميلون إلى الاستيعاب أكثر عندما يكون مصدر المعلومة على صفحات حقيقية أكثر من وجودها في نص إلكتروني “ربما لأن تدفق النص يعرقل الانتباه البصري ويفقد القارئ مكان القراءة” حسب ما جاء في إحدى الدراسات عن جدوى التعليم عبر الأجهزة اللوحية. 

التجريب بالمواطن

يعتقد الصحفي السوري طارق علي أنه لن يكن هناك إقبال على شراء الكتب الورقية، إذ أن ذلك ليس وليد المرحل الحالية وهو أمر منذ سنوات طويلة فائتة، فالملخصات و”النوتات” هي الطاغية على الكتب الجامعيّة الضخمة، والتي بدورها-أي الملخصات- تحقّق ربحاً لدكتور/ة المادة وللمكتبة التي تطبع، وتريح الطالب من عناء قراءة كتاب تعداد ورقه بالمئات.

ويضيف طارق في حديثه لموقع صالون سوريا: ” هذا حال قديم ولا زال سارياً، وما ازدياد تلك المكتبات في محيط الجامعات إلاّ دليل على نبذ الكتب المطبوعة والاتجاه نحو حلول أكثر راحة للطالب، حتى أن دكتور/ة المادة ت/يلمّح سراً أو صراحةً إلى ضرورة شراء تلك النوتات”.

ويؤكد: يمكن ملاحظة انتشار الملخصات الإلكترونيّة -سلفاً والتي يتبادلها طلبة الجامعات لاسيما في الكليات العلمية، وتلك الملخصات المتداولة تريح الطالب أكثر لتوافره معه في هاتفه -مثلاً- طوال الوقت، وكذلك توفر عليه المال الذي سيدفعه ثمناً للمحاضرات الملخصة-وهي مبالغ كبيرة على الطلبة- لا شك أن الجامعات تخسر حين تطبع كتبا لكلياتها، ومن الجيد نسبيا تحويل التعليم إلى إلكترونيّ، ولكن بالمقابل، ألا يمكن اعتبار الأمر رفاهية مبكرة؟، فليس كلّ طلبة الجامعة يحملون أجهزة حديثة أو لديهم حواسيب محمولة أو حتى كهرباء (…) وبالتالي من الضرورة في مكان تأمين المقومات الأساسية التي تحقق الوفرة والاكتفاء للمواطن (الطالب) ثم البحث في إمكانية تعميم النموذج الإلكترونيّ في بلد كلّ شيء فيه مترابط ولا يمكن فصله عن الآخر.

ويختم طارق كلامه بالتساؤل: “هل هذا التحول سيشوبه نوع من الفساد والسمسرة؟ أم أنه قرار مدروس بشكل كاف وواف في بلد لا تصدر معظم قراراته سوى بهدف التجريب بالمواطن!”.

أخيراً..

أجمع عدد ممن تحدّثنا معهم ولم يوثقوا إجاباتهم أنها خطوة مفيدة فيما بعد، ولكن الآن هناك مشكلة كبيرة وهي توفر الكهرباء من جهة والتأثيرات الصحية من جهة أخرى، وذلك سوف يكون مصدر قلق لهم. في الوقت الذي لم تظهر فيه وزارة التعليم العالي في سوريا في أي تحقيق موثق عن سبب كساد الكتب وهدر المال العام الذي كان يمكن من خلاله تطوير وسائل أكثر تناسباً مع وضع الطلاب اليوم في الجامعات السورية.  

بحثاً عن الكرة الصوف- ثلاثة أيام من متاهة المنفى

بحثاً عن الكرة الصوف- ثلاثة أيام من متاهة المنفى

روزا ياسين حسن روائية وكاتبة سورية. درست الهندسة المعمارية، وتفرغت للكتابة. ألفت العديد من الروايات وكذلك الكثير من المقالات الثقافية والأدبية في العديد من الدوريات العربية والأجنبية. وهي ناشطة نسوية، وعملت كثيراً على قضايا النساء. أصبحت منذ العام 2015 عضوًا في نادي القلم الدولي PEN وتقيم منذ نهاية عام 2012 في ألمانيا.

عنوان الكتاب: بحثاً عن كرة الصوف ثلاثة أيام من متاهة المنفى.

الكاتبة: روزا ياسين حسن

الجنس الأدبي: رواية

الناشر: رياض الريس للكتب والنشر.

سنة النشر: 2022.

جدلية (ج): كيف ولدت فكرة الرواية؟ ما هي منابعها وروافدها، ومراحل تطوّرها؟

روزا ياسين حسن (ر.ي. ح): إنها أول رواية لي تدور حول عوالم المنفى. احتجت سنيناً طويلة كي أستطيع الكتابة عن المنفى، كمن علق في مستنقع، لم أستطع استيعاب غرقي القسري فيه، لا استيعاب الصدمة الأولى التي استطالت كثيراً، كما لم أستطيع الخروج منه ولا التنفس فيه! الفكرة معجونة بتجارب شائكة خضتها، كما خاضها آلاف اللاجئين/ اللاجئات في منافيهم اليوم والبارحة وغداً. منبعها الأساسي هو البرزخ الذي نعلق فيه كأرواح معاقبة، التروما العميقة في دواخلنا كلنا، وفي كل شخصية من الشخصيات العديدة المختلفة، وأحياناً المتناقضة، التي تحفل بها الرواية، والتمظهرات المختلفة كذلك للتروما. تطوّر الرواية يتلخّص في صراعنا الشخصي والعام مع تشعبات متاهة المنفى، كمن يبحث عن كرة الصوف/ خلاصه الفردي التي ستخرجه من المتاهة. وكلما مرّ الوقت راحت المصائر المختلفة للشخصيات تتعقّد وتتشعّب وتتفارق.

 (ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسة؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه نص الرواية؟

(ر.ي. ح): عوالم المنفيين/ المنفيات، العوالم الجديدة التي ألفوا أنفسهم فجأة في خضمّها، خيالاتهم، أحلامهم، الشروخ العميقة التي يقعون فيها، مآزق الحياة الجديدة، تحدّيات العيش، والبحث عن الذات في مكان يخلخل الهوية والانتماء الذي حملوه معهم، كمن يبحث عن ذاته وسط أكوام قش متراكمة، وكمن يحاول إعادة تعريف بديهياته، التي كانت حتى لحظة اندلاع المنفى بديهيات. أو كمن يحاول إعادة تعريف ذاته كما تعريف الآخر. هي رواية حافلة بالأسئلة.   

(ج): كتابُك الأخير رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريدين قوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟

(ر.ي. ح): أنا روائية، والرواية هي العالم السحري الذي بنيته وسكنت فيه من زمان. ولولا ذاك العالم/ التخييل لما أمكنني إكمال العيش في هذا العالم/ الواقع. الرواية هي التاريخ السري الذي يمكننا نحن “المهزومون” كتابته، تاريخنا الحقيقي، فالتاريخ الرسمي لن يكتبه إلا المنتصر/ المستبد. وأعتقد أن الحكاية هي التي تجعل التاريخ الذي نريده موجوداً، تخلقه ببساطة، مما يعني أن الحكاية مع الزمن هي التي ستكوّن التاريخ الذي سيقرأه القادمون فيما بعد إلى هذه الحياة، لذلك فنحن عبر الرواية نشارك في كتابة تاريخنا. والتأثير الذي تتحدّث عنه لن يكون بالتأكيد تأثيراً آنياً مباشراً، وإنما حفر بطيء صعب ولكن عميق في وجدان البشر.    

(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟

(ر.ي. ح): الرواية عالم موازٍ تبنيه وتعيش فيه بلحمك ودمك، لذلك فهو تجربة عيش حقيقية. في هذه الرواية كنت “مريضة” تكتب عن “مرضى”، باختصار. شخصية من شخصيات الرواية عالقة في تلك المتاهة وتكتب عنها. يعني أن أكتب عوالم التروما وصراعات المنفيين مع أنفسهم والحياة الجديدة أمر ليس بالسهل إذا كنت بنفسي واحدة منهم. كضحية تعيد عيش تجربتها وألمها مرة تلو أخرى.

(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟

(ر.ي.ح): هذه هي روايتي السابعة، أول رواية كانت في العام 2004 “أبنوس”، مروراً بروايتي التوثيقية “نيغاتيف”، ثم “حراس الهواء”، “بروفا”، “الذين مسّهم السحر”، و”بين حبال الماء”، والآن رواية “بحثاً عن كرة الصوف”، بالإضافة إلى أكثر من كتاب مشترك.

(ج): هل هناك نصوص كان لها تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟

(ر.ي. ح): بالتأكيد. حتى تتمكّن من فهم نفسك وفهم الشخصيات الأخرى من المنفيين/ المنفيات، وتمظهرات التروما المختلفة لدى كل منهم، يجب أن تفهم المعنى العميق للتروما، بالمعنى السيكولوجي والثقافي والاجتماعي، وأين تكمن في دواخلنا وكيف تظهر فجأة مدمّرة كل شيء حولها. تماماً كما يجب عليك أن تطّلع قدر الإمكان على التجارب الإبداعية الأخرى التي كتبها غيرك من المبدعين/ المبدعات حول تجارب المنافي. على كل حال أظن ان الرواية صديق فضّاح، يفضح ثقافة الكاتب/ الكاتبة وعوالمه المعرفية وبنيته الثقافية وقدرته على التحليل والفهم والإحاطة بالحدث، والأهم ديمقراطيته. بمعنى أن “الكتابة الديمقراطية”، إن صحّ التعبير، تمكّن الآراء المختلفة والتفاصيل الشخصية للشخصيات المتباينة من طرح نفسها بدون أحكام قيمة. 

(ج): ما الذي يجب أن تحققه الرواية بحيث يمكن القول إنها رواية إبداعية وتشكل إضافة في جنسها الكتابي؟

(ر.ي.ح): لا توجد وصفة سحرية ومنجزة تجعلنا نقول، إذا تمّ تحقيقها، إن هذه الرواية إبداعية. الإبداع مفهوم شائك وخبيث ومخاتل، والرواية هي من أكثر الأجناس الأدبية تملّصاً من التعريف أو التصنيف. ربما لذلك استطاعت أن تطوّر نفسها على طول الوقت، وتتجاوز أية قوالب جاهزة ومعدّة لها.

بالنسبة لي باختصار، الرواية التي تجعلني، بأية طريقة من الطرق، بعد قراءتها مختلفة عمّا كنت قبلها، سواء بالمعنى الثقافي المعرفي أو الإحساسي أو الجمالي، أو التي تهبني لحظات من المتعة، هي الرواية الإبداعية برأيي.

(ج): ما هو مشروعك القادم؟

(ر.ي. ح): أفكر بالتأكيد في مشروع جديد، خصوصاً وأن نشر رواية يجعلك تقتنع بأنها لم تعد تنتمي إليك، كأنك غادرت وطنك مجدداً، وأن عليك التفكير في شيء جديد تنتمي إليه. أي أن تبدأ بخلق ذلك العالم الموازي الذي حدّثتك عنه، والذي بدونه لا يمكن إكمال العيش.

مقطع من رواية “بحثاً عن كرة الصوف- ثلاثة أيام من متاهة المنفى”

غذّ “سرمد” السير مبتعداً فقد تأخّر عن موعده أكثر من نصف ساعة. سمع حديثاً بالعربية من قبل جماعة من الرجال مرّ بقربهم، لكنه لم يلتفت إليهم، فهو أمر مألوف في هذه البقعة من مدينة هامبورغ التي تمتلئ بالمهاجرين ومنهم الكثير من العرب. ثم أن حديثاً بالعربية لجمع من الرجال يرمقونه بقرف واستهجان يجعل السائل الحامض ذاته ينزل معدته حارقاً ما يمر في طريقه. لم يعد يتخيّل أن يقيم أية علاقة عاطفية مع أي رجل سيخاطبه بالعربية. كلمات الحب الحميمة بالعربية صارت بالنسبة له أقرب إلى شتائم، لا يقولها إلا زبائنه المقرفون ومتحرّشو الطرقات.

  • بشع كتير أن تتحوّل لغتك الأم إلى لغة تمارس عنفاً معك، تحتقرك وتذلّك!

قال “سرمد” ذات يوم لـ”مصطفى” في إحدى نوبات بكائه القاسية.

لكن الأخير كان قد اشترط سلفاً على “سرمد” أن يأتيه اليوم بملابس عادية، تناسب شاباً طبيعياً في مثل عمره، لا تلك الملابس التي تجعله يبدو أقرب إلى عاهرة غنجة ذاهبة لاصطياد الرجال. ببساطة بنطال جينز وبلوزة عادية مع الجاكيت. دون أي أثر لمساحيق التجميل على وجهه، ولا حتى لبعض الماسكارا السوداء على الرموش والتي تظهر واضحة جلية وصادمة حين تنعكس على زرقة عيون “سرمد”. لم يتعب نفسه ويذكر شيئاً عن كريم الشعر، الذي يضمّخ “سرمد” به شعره كي يصفّفه إلى الخلف ويبقى لمّاعاً حيوياً، فهو متأكد بأن صديقه لن يتحرّك خطوة من دونه.

وهو يغذّ السير، تذكّر “سرمد” لوهلة الكابوس الذي استيقظ عليه اليوم، هجمت عليه المشاهد كوحش جائع! كان في منطقة شبيهة للغاية بهذه المنطقة، وعيون الرجال في الكابوس، الذين كانوا يراقبونه وهو يُغتصب وسط الشارع، شبيهة للغاية بعيون هؤلاء الرجال، محتقرة هازئة ومليئة بالتشفّي. هو يصيح من الألم وهم يقهقهون.

نفض رأسه بقوة كي يطيّر الذكرى، لكن غصّة قلبه لم تغادره، وشعر برغبة عارمة في البكاء. حين سيرى “مصطفى” سيحكي له عن كوابيسه، وسيقول له إنه لم يعد يميّز بين كوابيسه وواقعه، لم يعد يعرف إن كان ما حدث معه الليلة الفائتة مثلاً هي حقيقة أم كابوس! وسيسأله “مصطفى”: ما الذي حدث؟! لكنه لن يخبره بشيء.  

في العمل لا يعرف أحد حقيقة “مصطفى” البتة، هم يعرفون فحسب بأنه شاب في الثلاثين من عمره، درس علوم الكيمياء في سوريا، وولد في إحدى ضواحي المدن السورية، تلك البلاد المنكوبة التي كانت تتصّدر نشرات الأخبار الألمانية كمثال عن المدن العريقة الأثرية التي تحطّمها يد الغوغاء. الغوغاء في نشرات الأخبار الألمانية غالباً لا شكل لهم ولا لون، هناك داعش والإسلام المتطرّف على الأرض، وهناك من يضرب من السماء على المدن ولكنه مجهول، لا اسم له في الغالب، إلا حينما يكون الأمر أوضح من أن يتمّ إغفاله، فيخرج اسم النظام السوري أو حليفه الروسي ضعيفاَ حيّياً كمسؤول عن إلقاء البراميل المتفجرة والغارات المتلاحقة على مناطق المتمردين.

  • Oh Syrien, arme, schade, es ist wirklich eine Katastrophe.

آه سوريا، مساكين، يا للخسارة، إنها حقاُ كارثة!

يتأوّه زميله الألماني في العمل كل صباح ويهزّ برأسه أسياناً، حتى أن “مصطفى” كان يشعر في بعض الأحيان بأن عليه مواساة ذلك الألماني على مصاب سوريا وليس العكس!

لكنه فجأة يقف نافضاً تلك الفكرة اللئيمة الساخرة من رأسه:

هل نكون قد تحوّلنا إلى تماسيح؟! صخور؟! أم أن الكوارث حين تتوالى لا يعود لمساحة التعاطف والحزن مكان، التعاطف حتى مع أنفسنا وأحبابنا! لا يعود هناك وقت لنبكي أو نندب، المكان والوقت كله مسخّر لنبقى على قيد الحياة، لنكمل السير في تفاصيل متشعبة للغاية في هذه الحياة التي ينبغي أن تستمر.

على الرغم من أن “مصطفى” كان ينتظر كل يوم خبراً مشؤوماً، خبراً صاعقاً يتوقّعه، وراحت روحه بكليتها تتقبّل قدومه، حتى أنه من الممكن أن يستمر في حياته هذه لو سمع بأن كامل عائلته رحلت في قصف ما قد يحدث في أية لحظة!

ألهذه الدرجة يمكن أن يعتاد المرء الكوارث والفقدان!

كان على “سرمد” أن يأتي لرؤية “مصطفى” اليوم، فالأخير أخبره قبل عدة أيام بأن صاحب البيت الألماني الذي يسكن فيه وافق أن يؤجّر “سرمد” غرفة في البيت مقابل أجار زهيد، وفي البداية دون أي أجار حتى تتحسّن أوضاعه الاقتصادية المتأزّمة، وذلك دعماً منه للشباب المثلي الشرقي، “ذاك الذي يخوض حرباً حقيقية ضد عاداته وتقاليده ومجتمعاته وذاكرته التي تضطهد المختلف وخصوصاً المثليين”، حسب تعبيره. يقولها هكذا وهو يضمّ قبضته ويدفعها في وجه الفراغ أمامه، كأنه يكيل ضربة قاضية لتلك التقاليد والعادات والمجتمعات والذاكرة! حتى أن “مصطفى” تمنى فعلاً لو أنها تتحوّل إلى كتلة مادية، لكان مزّقها نتفاً بأظافره وأسنانه ويديه ورجليه! 

تنحدر أصول صاحب البيت من قرية صغيرة قريبة من العاصمة “برلين”، لكنه يسكن في مدينة “هامبورغ” منذ مدة طويلة، وعلى الرغم من أن “برلين” تعتبر من أكثر المدن الصديقة للمثليين في العالم، إلا أنه اختار كمثليّ مدينة “هامبورغ”، المدينة البحرية المنفتحة، للعيش فيها، مدينة تقبل المختلف وتعتبر نسبة المثليين فيها من أعلى النسب في المدن الألمانية.

صاحب البيت يسكن مع شريكه، الذي يصغره بعشر سنوات، منذ أعوام طويلة. رغم أنهما لم يتزوجا إلا قبل مدة قليلة. وهو حريص أن يظلّ النادي الذي أسسه باسم: نادي قوس قزح Rainbow Club، فاعلاً ونشيطاً ومستقطباً للكثير من الشبان المثليين، خصوصاً الشرقيين منهم. يتفاخر أمام أصدقائه بأن هناك أكثر من سبعين شاباً سورياً من أعضاء النادي، لا يتأخرون عن حضور اجتماعاته وأنشطته وحفلاته، وكذا الخروج في مظاهراته المناهضة للعنصرية والهوموفوبيا. وهو إذا وافق على سكن “سرمد” في البيت فلأنه لا يمكن أن يقبل شخصاً في بيته لا يحترم ويفهم ماذا يعني أن يكون الرجل مثلياً، ويعيش مع زوجه الحبيب.

  • رغم أن المثليين في بلداننا يا ستيف لا يعيشون في سلام تام داخل مجتمعاتهم الصغيرة، إلا أن القوانين في النهاية تحميهم. أما أنتم فلا قوانين ولا دعم اجتماعي يقف إلى جانبكم.. مساكين. علينا أن نكون سوية فليس لنا إلا دعم بعضنا..

ثم غمز صاحب البيت “ستيف” وقهقه بألم وهو يجهّز سلطة خضراء لطعام العشاء.

“ستيف” هو اسم “مصطفى” الذي يعرفه كل الناس به في وطنه الجديد “ألمانيا”، إلا ابن بلده “سرمد”.

يبدو صاحب البيت الألماني وهو يكلّم “مصطفى” كأنه يهجّي كلماته في درس لغة، فيما يتكلّم مع زوجه بسرعة لا يكاد “مصطفى” يلتقط من حديثهما شيئاً!

“مصطفى” يشعر حقاً بأن هذا وطنه، هذا ما يكرّره دوماً أمام “سرمد”. على الرغم من أنه يعيش شخصيتين متناقضتين تماماً:

في النهار يعمل كأي رجل ملتحٍ و(شديد) في مستودع الأدوية، ولا يمكنه أن يسمح لأي تفصيل صغير يشي بحقيقته أن يظهر أمام زملاء العمل، حتى لو كانت ثياب صديقه الآتي ليزوره في العمل.

أما في الليل فيتحول إلى “ستيف”، يرتدي ثياب النساء وحليهنّ ومكياجهنّ ويذهب للسهرة في بارات المثليين والعابرين الجنسيين. يحرص على اختيار الثياب الأنثوية الملونة المليئة بالدانتيلا والشبك والتزيينات، التي تجعله يبدو بالفعل امرأة بكامل أنوثتها، ولولا تلك اللحية المشذّبة الناعمة لما شكّ أحد بأنه امرأة حقيقية، خصوصاً حين لا يخرج ليلاً إلا بستيانات محشوة بإسفنجات سميكة تظهره بثديين عارمين، تضفيان على مظهره أنوثة إضافية شهيّة.

“الأمر بيشبه وقت كنّا في سوريا قبل الحرب”.

 يقول لي “ستيف”، “كان ينبغي أن نكون بشخصيتين: شخصية المواطن البعثي المؤمن بالقائد وحزبه، واللي ما ممكن يعمل أي شيء فيه معارضة، وفي البيت وبين الأوساط المغلقة الموثوقة نشتم الرئيس وحزب البعث والقيادة الحكيمة والقدر الذي جعلنا في مثل هكذا بلد يحكمه مجموعة من الطغاة العرصات.. أرأيت؟! مو بس هيك، بل أكثر من شخصية اجتماعية متناقضة لذات الشخص أيضاً، أمام العائلة شيء، وفي المجتمع المحيط شيء آخر، وفي غرفتك أمام كومبيوترك والتشاتينغ شيء ثالث لا يشبه ما سبق. التناقض، الشخصيات المتناقضة المختبئة فيك، أمر معتاد في مجتمعاتنا. بل تربينا عليها.. صحيح؟! استتروا، داروا، خبّئوا.. وهكذا، أنا معتاد على الأمر، بل أستمتع به! يعني.. أممم.. أقصد أن أكون بشخصيتين متناقضتين أو أكثر، لا يمكن لأحداهما أن تشي بالأخرى أو تؤثر عليها أو تتأثر بها! عالمان متوازيان تماماً!”.

يمدّ “مصطفى” كفيه إلى الأمام بشكل متواز وهو يعيد الفكرة ذاتها مجدداً أمام صاحب البيت وهما يلتهمان عشاءهما.

*تنشر هذه المادة بالتعاون مع موقع جدلية.

عن مقاومة العجز اليومي في ريف حماه

عن مقاومة العجز اليومي في ريف حماه

“إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر”.

كانت الأزمة الاقتصادية قد بدأت تدريجياً قبل الحرب السورية بعدة سنوات، ولاحت علامات التذمر على وجوه السوريين ليحل من بعدها وباء الحرب اللعينة وندخل في دوامة الهباء ويقطع الشيطان حبل الود بين السوريين الذين اعتادوا التآخي والمشاركة في هموم الحياة ومسراتها. 

أطبقت الحرب على أعناق السوريين ليتخبطوا بين طيات الفقد والنزوح والفقر، كَثر الشحاذون في الشوارع وعند أبواب المحلات وانعدم الأمن والأمان، ما عادت قلوبنا تحتمل ضربات العوز التي لم نذقها يوماً مهما وصلت درجة التفاقم، فكان قدرنا أن نمضي وحدنا.

تصاعد الوضع إلى ما بعد القتل والترهيب والتهجير، فأوجدت الحرب تجار الأزمة الذين صعدوا فوق أكتاف وأجساد أخوتهم، نهض الكثيرون اقتصادياً وذوى كثيرون، وبات لا سبيل حتى للقمة الخبز، يوم بعد يوم غدا الوضع السوري في تردٍّ.

واليوم ربما انتهت الحرب جزئياً ليتنفس معظم السوريين ويسترخوا بعد تشنج ورعب دام سنوات، لكننا وقعنا دون سابق إنذار في “حصار قانون قيصر” حسب ما أخبر بعض من قابلهم موقع صالون سوريا في ريف حماه، حيث أشاروا أنه قانون “فُرض علينا وأدخلنا في دوامة اللاشيء.. فأي صبر نمتلك؟”.

في خضم الحصار كنا كمن يحاول رفع يده من القبر منادياً: “هنا.. أنا السوري.. دعوني أعيش!” فإذا بزلزال شباط 2023 يضرب جدران أرواحنا لينتزع آخر ما علق منها في الحياة.

البطالة المزهِقة 

اقتضت الحرب برفع سنوات “الخدمة العسكرية” إلى التسع كما انخفض راتب الموظف السوري إلى عدة دولارات فقط بعد الانخفاض المرعب لقيمة الليرة السورية بسبب الحصار، وبات السوري لا قدرة له على إعالة عائلته، وأعرض الكثير من الشباب عن الزواج وباتوا يتخبطون بين عمل وآخر، كل ذلك أدى إلى بطالة أجهضت إرادتهم وأدخلتهم في دوامة اليأس القاتل. 

في إحدى قرى حماه كان لنا وقفة مع شبان يذهب عمرهم سدى كفاحاً وأحلاماً، ومنهم راكان (40 سنة) وهو ابن عائلة فقيرة، فقد والده في حرب الثمانينات، وقال بشيء من المرارة لموقع صالون سوريا: “ما ذنبنا نحن الشعب الصامد الصابر، إننا فقط نريد أن نعيش؟”  كان راكان قد غادر سوريا متجهاً إلى لبنان طلباً للعمل كي يبني بيتاً ويتزوج، وهناك اجتهد عدة سنوات لتباغته الأزمة حيث بدأ نزوح السوريين هرباً من الحرب إلى الأقطار المجاورة والتي كان إحداها لبنان مما اضطره للعودة بناء على “مبرر ظالم وهو أن السوري بات مكروهاً؛ السوري الذي فتح قلبه وبيته للجميع في أزماتهم وحروبهم أصبح غير مرغوب به، إضافة إلى انخفاض أسعار العمال السوريين هناك” حسب وصفه. 

رجع راكان دون رصيد، إلا من بيت متواضع استطاع بناءه بمساعدة أخيه، ويعيش فيه مع وأمه وعائلة أخيه وعائلته بعد أن مكث لسنوات في خيمة لعدم توفر المال قبلاً. لقد بحث راكان عن عمل دون جدوى ليرسو بعد ذلك في عمل مضنٍ “ضمن كسارات الحجر المنتشرة بكثرة في حماه، هذا العمل المجهد حد التسبب بديسكين في ظهره”.

يقول: “العمل في الكسارة منهك، أعمل يومين فقط في الأسبوع إذ إن العمل قليل بسبب الأزمة الاقتصادية، والدخل لا يكفي لكيلو لحمة ولا حول ولا قوة، ماذا عساي أفعل؟ وماذا أقول لأطفالي عندما يأتي العيد دون أن أستطيع شراء الثياب لهم…؟ أو كيف أعالجهم إن يمرضوا وعلبة الدواء سعرها 25 ألف ليرة سورية؟ الحياة صعبة جداً وما حدا حاسس بحدا”.

راكان يرزح تحت ثقل الديون إضافة لدفعه فوائد هذه الديون, تسنده زوجته سمر التي تتمزق بين ماكينة الخياطة وطفليها ومهامها المنزلية.. سمر المنهَكة حد إيلامنا.

كان العجز يسيطر على أجواء هذا اللقاء مع تلك العائلة، فالأمل لديهم مفقود وعمل الزوج والزوجة لا يكفي، والعائلة تعيش بسبب ظروفها المادية القاسية بعيداً عن أية وسيلة ترفيه حتى على صعيد النت الذي غدا متوفراً في كل بيت سوري.

الشباب السوري الجبار 

ويخبرنا مالك (25 سنة) عن مسيرته الصعبة خلال كدحه ضد ظروفه الشاقة. لقد كان مالك طالباً جامعياً في كلية الآداب- قسم اللغة الإنكليزية، ولسوء حظه اقترنت دراسته بسنوات الأزمة. والده المعلم المتقاعد والذي تتكون عائلته من 9 شبان وبنتين استلف قرضاً من البنك من أجل جامعة ابنه لأن راتبه المتواضع لم يكن ليكفي، كان مصروف الجامعة غالياً حوالي 50 ألف ليرة شهرياً بسبب ظروف الحرب، توفي الأب بعد سنتين ومالك في الجامعة مما اضطره لتركها والعمل في سبيل إيفاء القرض، الأمر الذي منعه من إكمال دراسته خاصة بوجود أخت معاقة تحتاج دائماً للعلاج والدواء، فأخوته الباقون جميعهم بعيدون ولا معيل للعائلة سواه، حاول مالك البحث عن عمل ثابت وبدأ بالتنقل “القطاع الخاص امتص دمه- عمِل في منجرة حجر فتدهورت صحته، كان حزيناً فكيف له أن يتأقلم مع وضعه الجديد بعد أن كان طالباً”.

ويؤكد بشيء من السخرية خلال حديثه لموقع صالون سوريا: “لم نكن نمتلك ثمن خبز، وما من رزق لدينا فقط قطعة أرض كانت في حوزتنا باعها أبي من أجل عملية في القلب لأخي الشاب الذي توفي رغم جهودنا”. 

مبتسماً يضيف: “منزلنا قديم، هدم الزلزال أحد جدرانه وتكلفة بنائه مليون ونصف، معي نصف المبلغ ولا أعلم كيف أكمله؟”. وحالياً يعمل مالك في مطعم خارج قريته وقد أشار لموقع صالون سوريا “أنه في معظم الأحيان يعود إليها مشياً على الأقدام لعدم توفر ثمن بنزين من أجل دراجته النارية، حتى السجائر بات مصروفها ثقيلاً عليه فبدأ بتخفيفها تدريجياً رغم ولعه بها”. وعندما سألناه إن حاول السفر خارج القطر أجاب: “آمل ولكن من أين لي بالنقود والسفر يكلف آلاف الدولارات؟ لن أيأس من الوضع فأنا من جماعة الاكتفاء الذاتي”.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين