جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ”ألواح أوغاريت”، يرمز إلى “بلاد كنعان” أو “فينيقيا” تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من خراب لا بدّ من أن تُعيد خلق نفسها من جديد، وكأنَّ صيرورتها لن تكتمل إلا إذا انبثقت من ظلام العدم لتتجلّى في ضوء الوجود، إذ ليس مُستبعداً أن تظهر حضارة وتتدهور، ولا أن يظهر إنسان للوجود ثُمَّ يَفنى؛ لكن المُستبَعدَ أو على الأقلّ غيرَ المرجَّح أن ترجعَ حضارةٌ عظيمةٌ بائدةٌ أو أن يعود إنسانٌ إلى الحياة بعد زواله؛ لكنَّ هذا الرجوعَ أو العَوْدَ قارٌّ في أعماق الذّهنيّة الكنعانيّةِ أو الفينيقيّة القديمة. ولقد عبّرَ زينون الرواقيّ (335-264 ق.م)-المعروف عند اليونانيين في عصره بالفينيقيّ نسبةً إلى بلاده الأصليّة فينيقيا-عن دورة البَعْل تعبيراً فلسفيّاً صادماً حينما تكلّم على ما أسماه “السَّنة الكُبرى للصيرورة” حين تقوم النَّار المركزيّة التي هي علّة العالم بالحكم على موجوداته وتدميرها بعد أن تكون هذه الموجودات قد استغرقت أزمنتها؛ لكنّ هذه النّار سَرْعان ما تُعيد تكوين العالم من جديد، وتستمرُّ هذه الجدليّةُ الوجوديّةُ العظمى من التدميرِ والتَّكوين إلى ما لا نهاية له!

  وها هو أنطون سعادة حينما واجه بصدره العاري أول رصاصةٍ من رشقات بنادق قاتليه كانَ دَمُهُ يكتبُ “تحيا سوريا” مثلما كانَ دمُ الحلّاج النَّازف–وهو معلّقٌ على صليبه يرتسِمُ ليكتُبَ كلمة: “الله”. ولئن كان الفرق بين دم الحلّاج ودم سعادة أنَّ دمَ الأوَّلِ يصَّاعدُ نحو السَّماء ودمَ الثاني يغورُ في الأرض، فإنَّ الدّمَ من أجل السَّماء ينزعُ من الإنسانِ الجسدَ-الأرضَ، أمّا الدّم من أجل الأرض فهو بذرة لإعادة بعثِ مجدها الضَّائع-التَّلِيد.

لقد كانَ دمُ سعادة هذه البذرة نفسَها، وتكاد تكون من عجائب اللغات أنَّ كلمة “دَمٍ” العربيّة موجودة في اللغة الكنعانيّة-الفينيقيّة، وتُنطق وفق رسمها بالإنكليزيّة DM؛ لكنها لا تعني-كما هو الحال في العربيّة- السَّائل الأحمر الذي يجري في العُروق والشرايين، بل تعني في الفينيقيّة الموجود الإنسانيّ HUMAN BEING؛ وليس هذا فحسب بل تعني كلمة “دمت DMT ” الفينيقية المشتقة من كلمة دم DM نفسِها الأرض LAND [1].

لقد نزف سعادة دمه ليستحيل إلى إنسانٍ وأرض، أو بالأحرى ليُصبح إنساناً يحيا في أرضه التي تحيا به؛ لكنَّ هذا الإنسان الذي هو بالكنعانيّة-الفينيقيّة “دم DM” سرقه العبرانيون وحوّلوه إلى آدَم אדם =Adam، وسلبوا هذه الأرض “دمت DMT” وحوّلوها إلى “أَدَمَا אדמה =Adamah. هذا، ونجد في اللغة العربيّة كلمة آدم بمعنى الإنسان والأدَمة بمعنى الأرض، لكنَّ الفرق بين العبريّة والعربيّة هنا أنَّ الأولى قامت على انتحال اللغة الكنعانيّة –الفينيقيّة وسرقتها، أما الثانية فهي التطور الطبيعيّ-التاريخيّ لها.

جاء موقف سعادة حاسماً ونهائيّاً، فهو حينما نادى بإحياء سوريا الطبيعيّة أراد إحياء حضارة عظيمة مغمورة أو بالأحرى مطموسة تآمر عليها أعداؤها، وهذه الحضارة وفقاً لرأيه لا بدّ أن تكونُ نواتها بلاد كنعان، وهو يُعنى بمن يُسمِّيهم “السوريين الكنعانيين” الذين هم–في رأيه-أول أُناس في العالم اعتنقوا “ديناً اجتماعيّاً خصوصيّاً” أفضى إلى تحقيق “الوجدان القوميّ” الذي يقف تاريخيّاً وراء “الرابطة القوميّة المؤسَّسة على فكرة الوطن”.

قال: “إنَّ الكنعانيين من بين جميع شعوب التّاريخ القديم، كانوا أول شعب تمشّى على قاعدة محبة الوطن والارتباط الاجتماعيّ وفاقاً للوجدان القوميّ، للشُّعور بوحدة الحياة ووحدة المصير(…)[2]

والحقيقة أنه يجب الانتباه في هذا المقام إلى قضيّة جوهريّة لا بدّ من إيضاحها على نحو دقيق وهي أنَّ سعادة لم يكن مفكِّراً محدود الآفاق ليُحيي الكنعانيين من أجل أن ينكص بالتعويلِ عليهم إلى نزعة عرقيّة مغلقة تتسبب في عزل سوريا الطبيعيّة عن امتداها في العالم العربيّ؛ بل على العكس من ذلك تماماً.

قال: “إنَّ المحافظة على الرباط الوطنيّ القوميّ عند الفينيقيين ظلَّ ملازماً لهم في انتشارهم في طول البحر السوريّ وعرضه وفي المستعمرات والإمبراطوريّات التي أنشأوها (…) ومع أنَّ الفينيقيين (الكنعانيين) أنشأوا الإمبراطوريّة البحريّة، فإنَّ انتشارهم كان انتشاراً قوميّاً بإنشاء جاليات استعمارية تظلّ مرتبطة بالأرض الأم وتتضامن معها في السَّراء والضَّراء. كان انتشارهم انتشار قوم أكثر منه اتّساع دولة. وإنَّ هذا الانتشار مع بقاء الاشتراك في الحياة بالروابط الوطنيّة والدّمويّة والاجتماعيّة كان الظَّاهرة القوميّة الأولى في العالم التي إليها يعودُ الفضل في نشر المدنيّة في البحر السوريّ والتي خبَتْ نارُها من قبل أن تكتمل بما هَبَّ عليها من حملات البرابرة الإغريق والرومان.[3]

يحتاج كلام سعادة هنا إلى استقصاء معمّق لإزالة أيّ التباس في الفهم، ويمكن لنا هنا أن نؤكّد من دون مواربة أنَّ الكنعانيين عرب أقحاح وهذا أمر غير قابل للمساومة ولا المزاودة؛ لأنَّ محكّ أصل الشعوب تكشفه اللغة، والعلاقة بين أبجديّة أوغاريت واللغة العربيّة أظهر وأشهر من إقامة الدليل عليها، دعْ أنَّ تحدّر العربيّة من الأوغاريتيّة معروف ومشهور لعلماء اللغة ولا يحتاج إلى زيادة بيان. أضفْ إلى ذلك أنَّ انتشار الكنعانيين كان ابتِدَاؤه من المملكة-الأم أوغاريت التي توجد أطلالها الآن في كلّ من رأس شمرا ورأس ابن هاني في منطقٍة على ساحل البحر شمال مدينة اللاذقية تبعد عنها 12 كم. وتؤكد الدراسات الأركيولوجيّة أنَّ الإنسان السوريّ استوطن منطقة أوغاريت منذ الألف السابع قبل الميلاد واستمرت هذه المدينة بصفتها حاضرة زاهرة إلى أن دمرتها شعوب البحر نحو عام 1177 ق.م. لكن لم ينته الوجود الكنعانيّ-الفينيقيّ بل بقي موجوداً وممتداً جغرافيّاً من منطقة لواء إسكندرون في الشمال إلى غزَّة في الجنوب. زدْ على ذلك انتشار الكنعانيين في قبرص والخليج العربيّ وسواحل المغرب العربي وصولاً إلى قرطاج وقادش في إسبانيا وغير ذلك كثير. وهذا الكلام تؤيده الأدلة الآثاريّة على نحو لا يترك مجالاً للشك، فإذا كانت لغة الكنعانيين وجغرافيتهم تتساوقان مع لغة العرب وجغرافيتهم، فألا يُعدُّ هذا الأمر دليلاً قاطعاً على أنَّ إحياء سعادة لسوريا الطبيعيّة يقصد به عُمقيّاً إحياء حضارة عربيّة قديمة مطموسة. ولا يقصد به أيّ نزعة عرقيّة فينيقيّة مغلقة تقتطع أجزاءً من ساحل سوريا الطبيعيّة بدعوى أنّه فينيقيّ وتفصله عن امتداده الطبيعيّ. لم يكن سعادة من دعاة نزعة فينيقيّة مغلقة ولم يكن يفكِّر بها على الإطلاق، وهذا كلام يجب أن يُقال للإنصاف التأريخيّ. غير أنَّ الإنصاف أيضاً يقتضي القول: إنَّ سعادة كان في أعماقه عاشقاً لسوريا بالدرجة الأولى لأنه يجد فيها المخرج من أزمة سياسيّة كبرى كانت تعصف بالأمة العربيّة فهو يعطي الأولويّة للقوميّة السوريّة دون أن ينكر أبعادها الحضاريّة؛ لكن الشعور القوميّ–في رأيه-يتصل بحنين عميق إلى الأرض التي نشأ فيها الإنسان، فمهما كان المرء ذا رغبة عارمة في تكوين قوميّة مترامية الأطراف، فإنه بوصفه كائناً عاطفيّاً مكوّناً من لحم وعظم لن يشعر بالحنين إلى أي مكان أكثر من المكان الذي ولد وعاش به ودُفِن فيه أسلافه وسيظهر عليه أبناؤه.

قال: “إنَّ الوطنَ وبرّيته، حيثُ فتحَ المرءُ عينيه للنّور وورث مِزَاجَ الطبيعةِ وتعلّقت حياته بأسبابها، هما أقوى عناصر هذه الظَّاهرة النفسيّة الاجتماعيّة التي هي القوميّة.[4]”   

    لكنَّ هذه البريّة الكنعانيّة التي سُلبت من أهلها الأصليين خرجَ منها “صوتُ صارخٍ في البريّة”؛ لكنَّ هذا الصوت لم يصدح لهداية “الخراف الضَّالة من بني إسرائيل”؛ بل لطردهم من برّيّة بلاد كنعان.

قال: “اليهود قبائل متعدِّدة هاجمت سورية الجنوبية، واحتلت بعضها بعد حروب طويلة مع سكانها الكنعانيين، وقد بقي اليهود لانكماشهم على ذاتهم، خارج التفاعل الاجتماعي المولِّد للأمة السورية، شأنهم في كل مجتمع نزلوه، وقد قهرهم السوريون وطردوهم من البلاد فلذلك لا يمكن اعتبارهم أحد أصول الأمة السورية.[5]

  غير أنّه لا بدّ من الذهاب إلى أبعد في تحليل حقيقة الوجود اليهودي في بلاد كنعان، فهذا الوجود هو في حقيقته وجود روائيّ، أي وجود قائم على روايات تاريخيّة اختلقها اليهود أنفسهم، فهم شعب من دون جذور وحتى أسفار التوراة التي يُعوِّلون عليها في إثبات وجودهم التاريخي أدّى اكتشاف ألواح أوغاريت إلى إلغائها بصفتها وثيقة تاريخيّة، ولم يعد الباحثون الغربيون الموضوعيون في الدراسات الكتابيّة يُعوِّلون عليها، فكأنَّ أرض كنعان أخرجت من أعماقها ما يَكْلِمُ الكينونة اليهوديّة لينجلي زيفُها.

لقد بدأ الباحثون الغربيون يتّجهون الآن اتّجاهاً عظيماً قد يؤدي إلى تقويض أساطير اليهود على نحوٍ نهائيّ، فها هو–المأسوف على شبابه-مايكل س. هيرز Michael S. Heiser (1963-2023 م) وكان في بداياته باحثاً أمريكيّاً في العهد القديم ومؤلِّفاً مسيحيّاً خبيراً في التاريخ القديم واللغات السامية والكتاب المقدس العبري من جامعة بنسلفانيا وجامعة ويسكونسن ماديسون، قبل أن يتّجه نحو الدراسات الأوغاريتيّة التي غيّرت مسار حياته، يؤكد أنَّ اكتشاف ألواح أوغاريت كشف خفايا ديانة اليهود، ويُنبِّه إلى أنَّ اللغة العبريّة مأخوذة من اللغة الأوغاريتيّة، ويشير إلى أنَّ عبادة البعل عند بني إسرائيل-في مرحلة من مراحل تاريخهم-تعني الكثير من الدلالات، ويرفض هيزر أن يكون مصدر عقائد اليهود هو بلاد ما بين النهرين؛ بل مصدرها هو أوغاريت نفسها، ويذهب في التحليل إلى حدّ توكيده أنَّ معاهدة يهوه مع شعبه المختار–كما هي واردة في التوراة-مأخوذة من أدبيات المعاهدات الأوغاريتيّة الجارية في الحياة العاديّة! ويورد على نحو مثير للدهشة مقارنة بين نصوص معيّنة من ألواح أوغاريت ونصوص محدّدة من أسفار التوراة على النحو الآتي:

    “سِفْر دانيال 7: قديم الأيام، إله إسرائيل جالس على العرش الناري ذي العجلات [مثل إيل الأوغاريتي، فهو ذو شعر أبيض وكبير في السِنّ (“قديم”)]

 ألواح أوغاريت/دورة البعل: إيل، الإله العَليِّ المُسِنّ، هو صاحب السيادة المطلق في المجلس.

سِفْر دانيال 7: يهوه (=في ألواح أوغاريت: إيل)، القديم الأيام، يمنح المُلك لابن الإنسان الذي يركب السحاب بعد تدمير الوحش من البحر (في ألواح أوغاريت الوحش هو: يمّ).

ألواح أوغاريت/دورة البعل: يمنح إيل الملكية للإله بعل، راكب السحاب، بعد أن هزم بعل الإله يمّ في المعركة.

سِفْر دانيال 7: يعطي ابنَ الإنسان السُّلطانَ الأبديَّ على الأمم. وهو يحكم عن يمين يهوه.

ألواح أوغاريت/دورة البعل: بعل هو ملك الآلهة ووزير إيل، وحُكْمُهُ أبديّ.[6]

تكشف هذه المقارنة المدهشة التي أجراها هيرز بين التوراة وألواح أوغاريت أنَّ البعل الأوغاريتيّ قام من موته وهو حامل بيده زوبعته ليضرب بها يهوه؛ ولقد استشرف سعادة لقيام البعل وعرفَ أنَّ البعل لن يقوم إلا من سوريا؛ لذلك تلقّف سعادة هذه الزوبعة، فلم يقدر على حملها وحيداً، وواجهته وحوش واقعه التاريخيّ فكتب للسوريين من أبناء جلدته بدمه النَّازف: “إنّكم ملاقون أعظم انتصار لأعظم صبرٍ في التَّاريخ.[7]

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

    الحواشي


[1] -PHOENICIAN-PUNIC DICTIONARY BY CHARLES R. KRAHMALKOV, UITGEVERIJ

PEETERS en DEPARTEMENT OOSTERSE STUDIES LEU VEN 2000, P.P, 33-34.

[2] أنطون سعادة، نشوء الأمم، دمشق، ط2، 1951، ص:179.

[3] -المصدر نفسه، ص: 180.

[4] -المصدر نفسه، ص: 181.

[5] -أنطون سعادة، الأعمال الكاملة، الجزء الثاني، دار سعادة للنشر، ص: 177.

[6] – Michael S. Heiser, What’s Ugaritic Got to Do with Anything? https://www-logos-com.translate.goog/ugaritic?ssi=0&_x_tr_sl=en&_x_tr_tl=ar&_x_tr_hl=ar&_x_tr_pto=sc

[7] -صدى النهضة، بيروت، العدد 132، 2/9/1946.

 قراءة في  المجموعة القصصية “هو” للكاتب السوري فراس الحركة

 قراءة في  المجموعة القصصية “هو” للكاتب السوري فراس الحركة

حسب تعبير موباسان (إن هناك لحظات منفصلة في الحياة، لا يصلح لها إلا القصة القصيرة)، والقصة القصيرة تبدو النوع الأدبي الأقرب إلى روح العصر الذي اتسم بالسرعة والاختزال فتناسلت أنواع جديدة منها كالأقصوصة والقصة القصيرة جداً (ق.ق.ج) إمعاناً في الاختصار. والحقيقة أنها حافظت على  جمهورها دوماً وذلك بقدرتها على اقتناص اللحظة والإبحار بالقارئ في تلك المسافة القصيرة من السرد بتركيز وانتقاء مهمين.

وفي هذا السياق صدر مؤخراً عن دار موزاييك للطباعة والنشر مجموعة قصصية بعنوان (هو؟) للكاتب والقاص السوري فراس الحركة وهو الحائز على جائزة زكريا تامر للقصة القصيرة عام 2008 وجائزة  اتحاد الكتاب العرب للنصوص المسرحية عام 2009 عن مسرحيته (صاحب النساء السبع).

تحمل المجموعة عنوان (هو؟)، وإذ ينتهي العنوان بعلامة استفهام يفتح باب السؤال لدى القارئ للبحث عن دلالة ضمير الغائب فهو ليس إخبارياً، لكنه عنوان القصة الأخيرة في المجموعة والتي سيتوقف القارئ عندها كما العديد من القصص التي تفتح باب التفكر والتأويل لإماطة اللثام عن مآل النص وتفكيكه في محاولة البحث عن المرامي البعيدة والقريبة التي يأخذنا إليها الكاتب. إذ يصور الذات الإنسانية في تشظيها سابراً عوالمها الداخلية وصراعاتها المشحونة عاطفياً في مشهدية تصويرية تميل للغرابة حيناً  وبلغة تقترب من الشعر حيناً.

وعلى مدار ثماني وعشرين قصة حوتها المجموعة ينوع الكاتب أسلوبه فيتجاوز الترتيب الزمني للحدث منطلقاً من المشهد الأخير في بعضها مستعيداً خيوط السرد عبر تصاعد الحالة النفسية للشخصيات أو من المشهد الذروة ليفكك الحدث الذي يستنتجه القارئ ويقوم بتركيب خيوطه، فالقارئ هنا وغالباً يشارك الكاتب في إعادة بناء القصة في خياله عبر الإيحاء الذي يعتمد عليه الكاتب، ومفككاً الغموض الذي لجأ إليه ليستدرج القارئ نحو المشاركة في تخيل الحدث واتباع خيوطه المتعددة والمتشعبة.

يتخذ القاص فراس موقع السارد الذي يقوم بوصف وسبر العالم الداخلي للشخصيات جاعلاً الحدث في هوامش السرد منتقياً مواضيعه من المحيط بحيث يملك عوالم أبطاله النفسية والذاتية غالباً مقدماً المقولة على القص  تارة كما في قصة الطريق أو الصندوق الأسود وممسرحاً القص تارة أخرى كما في قصة العازف أو الأبواب ومحاولاً فتح العوالم النفسية لشخصياته وهواجسها وانفعالاتها وهمومها وهذا ما جعل الإبهام والغموض حاضراً في السرد وترك الباب مفتوحاً أمام القارئ كما في قصة انتقام مسلطاً الضوء على معاناة الفرد أمام المجتمع القاسي والمستكين لقوالبه الجامدة والمتخلفة  وظلمه للإنسان سواء بقوة العادات والمفاهيم المتخلفة أو بقوة السلطة الراسخة والتي تسعى لإدامة قيودها وذلك الصراع بينهما والذي ينتهي غالباً لصالح الأقوى.

يفضح المجتمع المتخلف وما يرتكبه بحق الأفراد إذ يكيل دوماً بمكيالين في سبيل الحفاظ على مقدساته ومقولاته التي كرسها عبر الزمن فيطلق أحكامه المستمدة من المفاهيم المتخلفة والخرافات والتي درج عليها كما في قصة ابن الجنية ليبرر أفعالاً وأحداثاً يخاف أن تتداولها الألسن حيث تصبح البنية النفسية لهذا المجتمع مهددة حين ترى الحقيقة. إنه المجتمع القائم على أوهام وكذبات صنعها بنفسه عبر الزمن . ففي قصة ابن الجنية نرى البطل فاضل والملقب بالنمر رغم كل أفعاله الحميدة وصفاته النبيلة التصق به لقب ابن الجنية ما جعله غير مرغوب به رغم أن هذه الجنية أمه لم تكن سوى مناضلة ساعدت الثوار في الجبال وماتت بتسمم جراحها، وكما تموت الحقيقة بالنكران يبقى اللقب العار ابن الجنية متوازياً مع ابن الحرام ومرفوضاً مثله.

وكما في قصة أطلال حيث يقوض الواقع أحلام الإنسان وقصص الحب التي تموت بيد الواقع ولا يبقى منها إلا الذكريات التي يطمسها الزمن مع تقدم الحياة التي لا ترحم فالحبيبة تتزوج ممن لا تحب ومكان اللقاء (البيادر) تقوم عليه البيوت الإسمنتية هكذا يحل الجماد محل العواطف.

وفي قصة الدم نرى انتقال المعركة من الرصاص الحي إلى الكلمة التي في النهاية تغتالها السلطات حين تعتقل الكاتب. السلطات التي تعيد  إنتاج الحزن وتجعله مستمراً ورفيق جيل الشباب في قصته (ذلك الحزن) حين تعتقل رفيقهم الذي عاد إلى البلد بعد غياب طويل.

مثلما تغتال المفاهيم الجامدة قصص الحب وتقسر الشاب في قصة أنا قدرك للتخلي عن الحبيبة نتيجة إعاقتها والزواج بأخرى .

يبرع الكاتب في وصف لحظة الذروة في الانفعال العاطفي والصراع النفسي للشخصيات التي تنتقل بين ضمير المتكلم وضمير الغائب وذلك في مشهدية تصويرية تأتي على لسان القاص محاولاً تصوير تلك الانفعالات والصراع الذاتي المكتمل مع المحافظة على إشارات مفتوحة توحي بالنهايات.

لا تأتي القصص في سوية واحدة فهناك موضوعات مطروقة سابقاً كواقع المرأة المستلبة الراضخة لمشيئة المجتمع الأبوي ومعاناتها في انكسار قصص الحب وقتل الذات وتحويلها إلى أداة إنجاب وعمل لا أكثر بينما تموت المحاولات الصغيرة ويبقى صوتها ضعيفاً، مؤكداً أن تحرر المرأة لا يكون إلا بيديها. يحاول الكاتب التجديد في أسلوب الطرح وليس الموضوع وهذا ينطبق على أكثر من موضوع كما في قصة الأبواب أو الطريق حيث يجسد الجماد ويؤنسنه على طريقة أنسنة الحيوان وإنطاقه في كليلة ودمنة لتقديم العبرة والمقولة، ليصبح الطريق شخصية تتمنى وتريد أن تكون ذاتاً تملك وجهة وهدف وصول.

يقول غيورغي غوسبودينوف: “إن المتاهة قد تكون من وفرة المخارج وليس فقدانها.”

وفي قصة الأبواب نرى أنها مخارج لطرق تتنوع وتنفتح بين الداخل والخارج ، بين الذات والمحيط تتعدد وتتداخل وكل باب يُفتح أمامه طريق على هدف ويستعرض البطل المتمثل بضمير الغائب هذا الأمر باحثاً عن اكتمال رؤاه. أبواب سبعة بما يحمل الرقم سبعة من قدسية في الذاكرة الجمعية وحين يصل إلى الباب السابع إذ يجتمع الأمل مع الفرح والنور و معاناة البلاد وبحث الإنسان عن شرط الحياة يأتي صوت المذياع في بيان رسمي يرمز للسلطة التي تصادر كل اكتمال وكل كيان باحث فينتهي البطل إلى البكاء.

يقابل الأبواب النوافذ وهو عنوان قصة أخرى (نوافذ صامتة) إذ نرى خلف النوافذ قصصاً مختلفة يجمعها الفقد والغياب والموت والإحساس بالاغتراب حيث يجتر الإنسان آلامه الخاصة . هذه الحيوات المتعددة كمثل مشاهد سينمائية أو عروض مسرحية يقوم كل منها بدوره دون تأخير.

لا تختلف معاناة الكاتب عن أبطاله فيصور تشتت المثقف واحتدام الصراع في داخله للبحث عن ذاته وعن تحقيقها إذ يرتقي من النواح إلى مرحلة القرار في قصة ارتقاء.

أما في قصة ارتكاب وحيث يصور أعماق الكاتب المشتتة والدؤوبة نحو التجلي وذلك عبر مونولوج داخلي يتنوع خطه البياني بين الذروة والقاع بين الانتشاء والبكاء وحالات متلاحقة تجعله يكشف غربته الداخلية وتناقضه مع المحيط وظروف الواقع والآلام التي تلتهم الإرادة وتحاول قتل اللحظة المبشرة بولادة الإبداع.

يبحر الكاتب في تلافيف العقل باحثاً عن رؤاه كصوفي يحتدم العالم في داخله فيقطر الواقع المر ويتطهر منه باكتمال الفكرة والإبداع الموازي للنور.

تبدو ذروة هذا الاغتراب والتشظي في قصته (هو؟) وضمير الغائب هنا إشارة إلى الظل رفيق الجسد في الضوء لكن ظل الأنا المتكلمة هنا وهو الكاتب يتجسد في العتمة يقول: (أفغر عيني في العتمة أجد الظل).

والظل ليس انعكاساً لجسم مادي بل هو ذات أخرى تنفصل عنه وتتجسد لعلها الحلم ولعلها المكبوت ولعلها الذات المتمردة المشاكسة حيث يفعل ما لا يجرؤ عليه الكاتب ساخراً منه ومن جبنه وعجزه إنه الكائن الحر المدفون في داخلنا.

وهذا الفصام يبدو جلياً في قصص فراس الحركة إذ  يغوص في العوالم  النفسية والداخلية للشخصيات واصفاً انفعالاتها وهواجسها ويوجهنا إلى البحث عن الشبيه. اللغة عند فراس لاعب ماهر إذ تعبر بدقة عن تلك الإرهاصات وتميل إلى الشعر أحياناً مختزلة ومكثفة لكن يؤخذ عليه الإسهاب في الوصف في بعض الأحيان ما لا يخدم البنية القصصية ويشتت القارئ.

(هو؟) مجموعة مختلفة في البناء والأسلوب تبشر القصة القصيرة بفتوحات جديدة سجل فيها فراس الحركة اسمه بمهارة.

غزّة وأطفال سورية: حربٌ في الذاكرة

غزّة وأطفال سورية: حربٌ في الذاكرة

تتسمّر ليا ذات الاثنا عشر عاماً أمام التلفاز وتبكي رافضةً الطعام وهي تئن كأنّما جرحٌ بدأ ينخز عليها، تضع يدها على قدمها المبتورة وتتذكر ذلك اليوم جيداً عندما قُصف بيتهم في كفربطنا، تتذكر نفسها عندما كانت طفلة الثلاث سنوات، تلعب أمام منزلهم، وإذ بحجارةٍ تتكوّم عليها، دون أن تسمع أي صوت لثلاثة أيامٍ بعدها، يومها حملها عمّها وأسعفوا والدها الذي فارق الحياة بعد أيام، واستيقظت لترى نفسها دون قدم وآلام بقيت لشهور.  تذكر أمها ما حدث وتؤكّد أن ما يحدث في غزة اليوم يعيد إليهم أيام الحزن التي لم تلغها حياتهم الجديدة في مصر.

وتصف فاطمة وجوه أبنائها بعمر الستة عشر والرابعة عشر، وهم يطالبونها بالكفّ عن متابعة أخبار غزّة فهذه الصور قد رأوها سابقاً في باب عمرو، بل يسبقون الحدث ليكرروا مع المذيع دماء هنا وهناك وأصواتٌ لأنين يسمعونه إلى اليوم في مناماتهم، تعود مشاعر وقصص الحرب بكلّ تفاصيلها رغم مواظبتهم لدى الأخصائيين النفسيين في منظمة الهلال الأحمر في حمص بعد نزوحهم إلى مناطق أخرى وعودتهم إلى دارٍ أعادوا ترميمه لكنه لم يعد كما كان، كما لم يعودوا كما كانوا.

توقفت ليليان عن متابعة أخبار غزة من اليوم الرابع فهي لا تريد أبداً إعادة الذكرى أمام أبنائها الذين بالكاد توقفت آثار الحرب السورية عنهم، فهم من سكان جرمانا محيط دمشق، كانت القذائف تمطرهم وأكثر من مرة كادت القذيفة أن تنهي حياة أحد أفراد العائلة، ففي إحدى الليالِ وقعت القذيفة وهدمت جزء من البيت وهربوا ليلتجئوا عند أحد أقربائهم، ومن وقتها لم يتوقف طفلاها عن التبول اللاإرادي، جرّاء الهلع الذي أصابهم، إلى أن بلغا الخامسة عشر من العمر، وبعد مواظبتهم لدى أخصائيين في مركز الراعي الصالح بدمشق.

هذه الصور والمشاهد يتحدث عنا الآباء والأمهات، والشباب والشابات لتعود ذكرياتهم المؤلمة إليهم وإلى أبنائهم، مشاهد لم تفارقهم لكنها كانت مختبئة في مكان ما في الذاكرة، أعادتها الحرب في غزة.

الآثار النفسية للحروب والصراعات

“تمتدّ آلام الحرب لسنوات طويلة قد لا تنتهي بجيل واحد، فوقف الأعمال العسكرية لا يعني وقف الآثار النفسية لتلك العمليات”

هكذا تصف سماح القادري آثار الحرب على الأطفال لتؤكّد من خلال عملها لسنوات طويلة لدى مركز لحماية النساء والأطفال من العنف في دمشق، أن معاينتها لأطفال عاشوا الخوف والجزع حتى دون فقد أحد أفراد العائلة، سيؤثر حتماً لسنوات على حياتهم و طريقة تفكيرهم.

وما يحدث في غزّة اليوم يعيد تلك المشاهد بتفاصيلها المرعبة، ويؤثّر على الأطفال الذين سمعوا حكايات الكبار،والبالغين الذين عانوا تلك الحرب في طفولتهم، لترتكس بعض المشكلات، وقد تواصلت مع حالة تتحدث عنها القادري:”عادت نوبات الهلع لصبي عمره الآن أربعة عشر عاماً فقد والديه في الحرب السورية، وعاش وحيداً دون عائلة ومكث فترة في ميتم إلى أن توصّل إليه أحد أقربائه وضمه إلى أسرته، تلك السنوات لم تمحِ الحزن والألم وماكان مختبئاً في ذاكرته وجسده، واليوم يداوم في العيادة لتظهر حوادث قد شاهدها ولم يذكرها قبل الآن”

“إنّها الندوب التي لن نشفى منها أبداً وخاصّة من كان طفلاً وستعود دوماً إن لم نعيش بأمان ويعيش أبناؤنا دون هاجس عودة الحرب مرة أخرى” بهذه العبارة أيضاً عرّفت الأخصائية الاجتماعية بديعة دلول آثار الحرب على الأطفال والكبار، لتؤكّد أنّ آثارها على الأطفال أشدّ وطأةً وهذا ما عاينته بنفسها أثناء متابعتها لحالات مؤلمة من أطفال فقدوا أجزاء من جسدهم وأفراداً من عائلتهم وكثيراً من أمانهم.

“تترك الحرب جراحاً خفية لا تمحى بسهولة في قلوب ونفوس الأطفال الأبرياء، الذين ولدوا في رحم المعاناة وذاقوا أشكال القهر والفقر والرعب، علاوة عن الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم خلال الحرب، أو من تعرّضوا للاِعتداء والاِستغلال” تتابع بديعة وتؤكّد أن عدداً من الأطفال الذين لم يبلغوا الثمانية عشرة من العمر وبعضهم في الثالثة عشرة بدأوا يتوافدوا إلى مراكز متابعة الأطفال في الهلال الأحمر والمنظمات في الكنائس والأديرة في سرية.

الحقوق المهدورة في يوم الطفل العالمي

تعدد كاتي غيث وهي مرشدة تربوية في مدرسة خاصة: ” المشاكل النفسية التي يصاب بها الطفل إثر تداعيات الحرب وتقول عنها لا تحصى لكن يمكن ذكر بعضها من مثل: الشعور الدائم بالخوف والقلق والاِكتئاب، تأخّر النمو العقلي والبدني والعاطفي، صعوبة الاِندماج في المجتمع والعجز عن بناء روابط عاطفية مع الآخرين، الاِضطرابات السلوكية وردود الفعل العِدائية.

وعودة الحروب أوالخوف من عودتها تشكل هاجساً لدى البالغين والأهل والأطفال وخاصة ما يحدث في غزة من مثل اِضطرابات ما بعد الصدمة، اِضطرابات في الطعام والنوم والذاكرة، عودة الاِكتئاب والقلق واليأس من المستقبل.، اللجوء إلى التدخين أو المخدرات أو المشروبات الكحولية.

الشعور الدائم بالغضب وجلد الذات.

وهذا حديث الأطفال في المدرس مع هاجس وخوف من عودة الحرب إلى سورية.

أما عن حقوقهم فهي تذكرها بمناسة عيد الطفل العالمي ومصادقة سورية ومعظم دول العالم على اتفاقية حقوق الطفل وحمايته في النزاعات المسلّحة وتشدد على حاجتهم الأساسية إلى الرعاية والحماية والبيئة الآمنة وتقول:

” إنهم بعد الحرب ينتبهون إلى فقدهم كامل حقوقهم وللأمان والرعاية والصحة والتعليم، كلّ هذا يؤثر على حياتهم وعندما تعاد الصور ستعود مرةّ أخرى أمام أعينهم المأساة بكاملها بل قد تؤثر بشكل أقوى من السابق ارتكاسات أشد تأثيراً من الحدث المباشر نفسه، إعادة الذكريات المؤلمة والشعور بأن كل شيء قد يعود كما كان خلال الحرب، وخاصة مع مؤشرات يلتقطها الأطفال لدى الكبار بأنهم ليسوا بأمان. لذلك يجب التعامل مع الطفل بصراحة وتوضيح ما يحدث وتهيئته نفسياً لفهم الحرب وتأثيرها.

ويبقى السؤال الدائم، هل ستتحقق اتفاقية حقوق الطفل التي صادقت عليها سورية ومعظم دول العالم وتعاهدت على حماية الأطفال واللاجئين في النزاعات المسلّحة؟ وهل سيعيش أطفالنا بأمان كأطفال العالم، أم أننا سنبقى رهينة الصراعات وسيبقى أطفالنا في خطر كل الانتهاكات.

هذا ما يعيشه أطفال سورية وأطفال غزّة وفلسطين.

فاتح المدرس: آخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون

فاتح المدرس: آخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون

لُقِّبَ برائد الحداثة التشكيلية في سوريا، شاعر اللون، رسام الأرض، سفير الفن التشكيلي السوري إلى العالمية، وأيقونة الفن السوري المعاصر. هو الفنان التشكيلي فاتح المُدرس، أحد أبرز الفنانين التشكيليين العرب في القرن العشرين، والذي حقق شهرة عالمية، وأسهم في تطوير أدوات الفن التشكيلي السوري، عَبر نقله من الواقعية التقليدية والحالة التسجيلية المباشرة إلى فضاءات الحداثة وتياراتها المتمثلة في التعبيرية والانطباعية والرمزية، كما تميز بكونه كان الأكثر جرأة بين الفنانين العرب في طرح المفاهيم الفنية الجديدة والمؤثرة، والأكثر فهماً واستيعاباً لمعطيات ثقافات وفنون العصر.

وُلِّد المُدرس في قرية حريتان/ حلب عام 1922 وتعلم في مدارس المدينة. برزت موهبته في الرسم في سنٍ مبكرة، فلفت انتباه مدرّسي الرسم منذ مرحلة الدراسة الابتدائية. وفي بداية الأربعينيات سافر إلى لبنان ليدرس الأدب الإنجليزي في الجامعة الأمريكية، وعاد بعد ذلك إلى حلب ليعمل مدرساً للغة الإنكليزية والتربية الفنية في بعض المدارس. أقام معرضه الأول عام 1950 في نادي اللواء في حلب، وأثبت من خلال لوحاته، التي سرقت الأضواء ولفتت انتباه الجمهور، أنه فنان واعد يمتلك ذهنية متفردة تبحث عن كل جديد. ثم جاء عام 1952 ليكرسه كفنانٍ مبدع صاحب قدراتٍ فنية مدهشة ومؤثرة، وذلك بعد مشاركته في معرض المتحف الوطني في دمشق، إلى جانب أبرز الفنانين التشكيليين السوريين، حيث نال الجائزة الأولى عن لوحته “كفر جنة” التي اقتناها المتحف الوطني، وشكلت الملامح الأولى لرؤية المُدرس الحداثوية، ولاتجاهات الحداثة في الفن التشكيلي السوري، وقد اعتبرها النقاد من أبرز الأعمال التصويرية في الفن السوري المعاصر آنذاك. وفي عام 1957 أُرسل إلى روما في بعثة دراسية، ونال في العام 1960 إجازة في فن الرسم من أكاديمية الفنون الجميلة العليا، وبعد عشرة أعوام سافر إلى فرنسا ليدرس في المعهد الوطني العالي للفنون الجميلة في باريس، حيث نال شهادة الدكتوراه عام 1972.

وبينما اقتصرت أعمال معظم فناني الخمسينيات والستينيات في سوريا على رسم الزخارف وتصوير الطبيعة الصامتة وبعض مناظر العمارة التراثية، تفردت أعمال المدرس بعبقريتها وحداثتها وتنوع أساليبها، التي جمعت بين مختلف المدارس الفنية (الواقعية، التعبيرية، الرمزية، السريالية والتجريدية) لتنير عقول كثير من الفنانين التشكيليين العرب، وتفتح أمامهم آفاق الخيال ليخرجوا من قيود الفن النمطي، كما تركت بصماتٍ واضحة على تجارب من تأثروا بمدرسته ونهلوا من أفكاره الفنية الخلَّاقة، فقد شكل المُدرس من خلال أعماله مرجعية أسلوبية، كونه أول من أدخل المدرسة التجريدية والسريالية إلى الفن السوري عبر لوحاته، وكونه مزج في أعماله بين الواقعية والرمزية والأسطورية، ليبتكر بذلك كله رؤية ونهجاً جديداً في مسيرة الفن التشكيلي السوري والعربي، هذا إلى جانب امتلاكه فلسفة خاصة في فهم علم الجمال، تمثلت  بعبقريته وذكائه في استخدام الألوان والخطوط والمؤثرات البصرية، حيث أبدع خيالاً فنياً يشحَن روح المتلقي بطاقة كبيرة من الألوان والضوء والصور والمعاني. إذ كانت الألوان بالنسبة له مثل شخوصٍ، يفهم لغتها، يحاورها ويصغي إليها ويتفاعل معها. وقد منحته تلك العلاقة معها قدرات تعبيرية خاصة، جعلت الخطوط في لوحاته تظهر بشكل رشيق متناغم وكأنها تتحاور في ما بينها، فيما تتكاثف الأفكار لتشكل فضاءات واسعة من الأطياف والمَشاهد والتكوينات، التي تقدم دراما انفعالية حسَّية، تفيض بعشرات الانطباعات والمشاعر الجمالية، إذ يمكن لأي لوحة من لوحاته أن تقدم عَرضاً فنياً متكاملاً، فهي عالم غني، يتداخل فيه التاريخ مع الجغرافيا والميثيولوجيا والأحلام الإنسانية والتأملات والحكايات، وتمتزج فيه الوجوه مع الطبيعة في هندسةٍ لونيةٍ شاعرية، شكلت ثورة حقيقية على المفاهيم التشكيلية السائدة.

ونستشهد هنا بما قاله المُدرس عن الحالة التي يعيشها خلال عملية الرسم : “عندما أرسم أشعر بأن هناك ظلمة شديدة أطبقت على كل شيء، وأنني أخرج من نفقٍ، وأنني أرى نوراً في داخل رأسي، وكأن ريحاً باردة تَهبُّ على وجهي، فابتسم وأعرف أنني وصلت إلى قمة الانفعال في اللوحة، وأعرف أنها انتهت. هذا هو الإحساس في كل عملٍ أقوم به، وكل لوحةٍ لا أمرُّ بها في هذه الحالة أعتبرها عملاً كاذباً وغير ناضج”.

ابتكر المدرس، بذكائه التعبيري المدهش، أسلوباً فنياً غنياً بالرموز والأشكال المستوحاة من التراث السوري الغني بقصصه الشعبية، ومن البيئة المحلية الريفية التي أوغل في أعماقها، ومن تاريخ الحضارة السورية ومدلولاتها وأساطيرها الفريدة، وقد قدم ذلك كله بلغة تصويرية، سريالية أو تجريدية أو تعبيرية أو رمزية، مزاوجاً بين روحانية الشرق ومادية الغرب بتقنياته الفنية المتنوعة، فيما استلهم ألوانه من حقول الشمال والبراري السورية، ليشكل بذلك كله هوية تشكيلية سورية متفردة وأصيلة، ظهرت  جلياً في العديد من لوحاته ومنها : “صلاة البادية السورية”، “قصص الجبال الشامخة”، “زفاف في جبال القلمون”، “نساء من بقين”، ” بدوية من الجزيرة”، “التدمريون”، “مرتفعات بلودان”. وهو الذي يقول في هذا الشأن: ” قد خلصت من تجاربي كلها أن على الرسام المُحب لوطنه أن يعمل على بلورة الفن في بلاده، في طابع أصيل يمت للتاريخ والتقاليد، فليس هنالك فنٌ بلا واقع أو تقاليد عميقة الجذور، وكل هذا يجب أن يتماشى مع أحدث المفاهيم العالمية”.

المُدرس الذي كان يؤنسن جميع الأشكال والعناصر، عَبَّر من خلال لوحاته عن معاناة الإنسان وهمومه وصراعه الوجودي مع الحياة، وحضرت المرأة بقوة في معظم أعماله التي تناولت أيضاً أهم القضايا العربية الوطنية والسياسية، فظهرت القضية الفلسطينية في العديد من لوحاته، كلوحة “المسيح يعود إلى الناصرة” التي كان يحاكي من خلالها عودة الفلسطيني إلى وطنه المسلوب. وبعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان رسم المدرس بعض الأعمال  التي تناولت  عمليات النزوح ومعاناة الشعب اللبناني وبطولات المقاومة التي تصدت للاجتياح الإسرائيلي، ومن أبرز تلك الأعمال: لوحة “لبنان المقاومة”، “بيروت في ليل الحرب الأهلية”، و”أطفال حرب لبنان”، وغيرها.   

الرسم من خلال الكلمات

المدرس الذي لقُّب بشاعر اللون، كان يُعلق على جدران مرسمه، إلى جانب لوحاته، قصاصات من الورق، كَتب عليها بعض تجلياته وومضاته الشعرية، التي عكست عالمه الفلسفي الفني، وكشفت عن موهبةٍ شعريةٍ فريدة، إذ كانت الكتابة بالنسبة له نوعاً من الرسم، فمن خلال الحروف كان يرسم صوراً إلى جانب بعضها البعض، ليُخرج لوحةً من الكلمات.

كَتب المدرس القصيدة السريالية متأثراً بصديقه الشاعر الحلبي  أورخان ميسر، رائد الشعر السريالي في سوريا، وشكل شعره خروجاً عن التيارات الشعرية السائدة، في تلك الفترة، وقَدم خيالاً بصرياً حسياً، كَثَّفَ الصورة الشعرية ومنحها بعداً جمالياً وبلاغياً مختلفاً. وقد ساعدته موهبته الشعرية على الدمج بين الشعر والرسم، فأسس بذلك لمدرسة اللوحة التي تتضمن شعراً، وقد اعتمدها من بعده بعض الفنانين الكبار مثل عمر حمدي ويوسف عبدلكي.  

نشر المدرس عام 1962 أول قصيدة له بعنوان “الأميرة” في مجلة القيثارة، الصادرة عن مدينة اللاذقية. وفي العام ذاته نشر ديوانه الشعري الأول: “القمر الشرقي على شاطئ الغرب”، بمشاركة الشاعر شريف خزندار. ثم نشر في العام 1985 ديواناً آخراً بعنوان “الزمن الشيء” بمشاركة حسين راجي.

ونقتبس هنا بعضاً من شذراته الشعرية :

“إن آخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون”.

“الليلة كتبتُ اسمك على أرض غرفتي، ومضيت أتسلق الجدار ماشياً، كما لو أنَّ هذا الكوكب بلا أحذية”.

” بلا حبٍ تنام أشجاري.. انظروا :  أورقت مساميرَ وحروفاً”.

” صوت العاصفة المدمِّرة، أجمل أنواع الموسيقى”.

” هذا المغني قاطع طريق.. يرسم الجبال بصوته”.

” يقف العقل بعدالته الجميلة حزيناً أمام صندوق الرشاوى في الذاكرة”.

” اصنع شمساً .. جميل أن تكون لك شمسك، تتمتع بها مع من تحب دون أن يراها الآخرون”.

” إننا نعاني من فيروس الغضب الجماعي الصامت، الذي لا يسمح بتحريك عضلة واحدة من هذا الوجه الذي بحجم التابوت الإنساني الضخم”.

” في وسخ الأرض أكتشف مغزى ارتفاع السماء”.

 ” الضياء خيوط نسيجٍ، منديل من الشمس سقط على الأخضر.. أرفعُ المنديل، أنظرُ :  زهرة”.

وإلى جانب إبداعه في الشعر برز المُدرس كواحدٍ من أهم كتاب القصة في سورية، وقد نشر عام 1981 مجموعة قصصية بعنوان “عود النعنع” ، فيما أنتجت السينما السورية عام 1974 ثلاث قصصٍ من أعماله ضمن فيلم روائي بعنوان “العار”  تناول معاناة أبناء الريف في زمن الإقطاع، وهو من إخراج بلال صابوني، بشير صافية، ووديع يوسف. وبحسب كثير من المثقفين والنقاد شكلت أعمال المدرس القصصية نمطاً جديداً في مسيرة القصة السورية، حيث دمجت بين التصويري والقصصي، وأضاءت على عوالم وفضاءات حكائية وجغرافية رحبة وغنية، وقُدمت بلغةٍ مشهديةٍ تعبيرية، تحمل طابعاً سينمائياً، كرسته كواحدٍ من الرواد المجددين في عالم القصة السورية. ونستشهد هنا ببعض ما كتبه الأديب سعيد حورانية  في المقدمة التي وضعها لمجموعة “عود النعنع” : “قصص فاتح كأفضل لوحاته، وبعضها من أفضل ما كتبه أدباء اللغة العربية على الاطلاق.. تلعبُ الصورة بوجهٍ عام والصورة الطبيعية بوجهٍ خاص دوراً مهماً في فن فاتح القصصي، فالفنان التشكيلي الكبير لا تخطئه العين في قصصه أيضاً، ولكن الصور هنا ليست إطاراً تزينياً أو استطراداً شكلياً، بل هي كالنهر المُهدد تماماً، تدخل في نسيج الحدث فاعلة ومنفعلة.. ولغة فاتح لغة طازجة ندية متقشفة، فوراء هذه العفوية والبراءة الظاهرية تكمن معلميّة وصنعة في اختيار الكلمة المناسبة، وأحياناً الغريبة، وأحيانا المخترعة. المهم أن تلعب الكلمات دور الألوان في اللوحة، من حيث التوازن والشفافية والإيحاء، فلا تستوقفك ولا تشعر بانفرادها وإنما باندغامها المدهش في مجموع العمل”.

وفي مقالٍ له بعنوان”فاتح المدرس: الفنان السوري الذي حارب من أجل العدالة” يقول الروائي عبد الرحمن منيف عن تجربة المدرس القصصية: “فاتح المُدرس في القصة القصيرة، كما في الفن التشكيلي، أحد الرواد والمعلمين.. كيف تتحول القصة القصيرة إلى ملحمة، إلى نشيد؟ وكيف تستطيع، باقتصادها المتناهي، أن تتحول إلى عالمٍ بهذا الاتساع؟. هذا هو جوهر الفن، وهذا ما يقوله فاتح المدرس بأكثر من شكلٍ وبأكثر من وسيلة”.  

مساهمات وإنجازات

عمل المُدرس أستاذاً في كلية الفنون الجميلة منذ تأسيسها عام 1961، وكان له الأثر الكبير على طلابه، الذين فتح أعينهم وخيالهم على فضاءات جديدة في الفن، وحرر أذهانهم من المفاهيم الفنية التقليدية، وقد تتلمذ على يده أفضل الفنانين التشكيليين السوريين، الذين أصبحوا فيما بعد من رواد الفن التشكيلي الحديث في سوريا، ومنهم: زهير حسيب، عصام درويش، ادوار شهدا، نذير نبعة، وغيرهم. وبين عامي 1981و1991 شَغًل المدرس منصب رئيس نقابة الفنون الجميلة التي كان من أبرز أعضائها المؤسسين، كما كان من الأعضاء البارزين المؤسسين لاتحاد الفنانين التشكيليين العرب، وانتخب عضواً في المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية.

ولم يكتفِ المُدرس بما قدمه من أعمالٍ فنية وأدبية، بل كانت له إسهامات ثقافية أغنت مكتبة الفن التشكيلي في سوريا، حيث نشر عام 1954 مؤلفاً من ثلاثة أجزاء: “موجز تاريخ الفنون الجميلة”، أصبح مرجعاً لأساتذة الفن التشكيلي في المدارس والجامعات. كما شارك المدرس عام 1962 مع محمود دعدوش وعبد العزيز علوان بنشر أول بيان فني عن الفلسفة الجمالية للفن العربي، هذا إلى جانب نشره لبعض الدراسات في النقد الفني المعاصر، ونشر دراسة عن تاريخ الفنون في اليمن قبل الميلاد، ومجموعة محاضرات عن فلسفة الفن ونظرياته منذ عام600 قبل الميلاد، بالإضافة لدراسة عن الكلمة/ الصورة، بالتعاون مع معهد العالم العربي في باريس.

ورغم أن مرسم المدرس كان قبواً رطباً، ضعيف الإنارة ويعاني من مشاكل في التمديدات الصحية إلا أنه كان أشبه بملتقى ثقافي ومحطة إلهام لكثير من الفنانين التشكيلين والموسيقيين والمثقفين، الذين كانوا يقصدونه  ليخوضوا نقاشات بنَّاءة وعميقة عن الفن والأدب والمسرح والسينما، ولينهلوا من تجارب المُدرس وفضاءاته الفنية الواسعة التي تحفزهم على تنشيط طاقاتهم الفنية والابداعية.

وخلال مسيرته الفنية عَرَض المدرس لوحاته إلى جانب  أشهر فناني العالم من أمثال بيكاسو، وكان من الفنانين العرب القلائل الذين بيعت لوحاتهم في مزادات الفن العالمية، كما حصد الكثير من الجوائز والأوسمة، ومنها: جائزة معرض المتحف الوطني في دمشق 1952، جائزة استحقاق من المعرض الدولي في جامعة كليفلاند/ فلوريدا في أمريكا 1952، الجائزة الأولى لأكاديمية الفنون الجميلة في روما 1960، الميدالية الذهبية لمجلس الشيوخ الإيطالي 1962، جائزة شرف بينالي سان باولو/ البرازيل 1963، الشراع الذهبي للفنانين العرب في الكويت 1977، جائزة الدولة للفنون الجميلة في دمشق 1986، جائزة الدولة للفنون الجميلة في الأردن 1992، ووسام الاستحقاق السوري عام 2005. 

 خُلدت أعمال المدرس في معظم متاحف الفن الحديث وفي أبرز المؤسسات الثقافية العربية والعالمية، ومن بينها: المتحف البريطاني، معهد العالم العربي في باريس، المتحف العربي للفن الحديث في الدوحة، المتحف الوطني في دمشق، ومتحف دمر. وقد اقتُنيَت أعماله من قبل أبرز الشخصيات السياسية والثقافية العالمية، مثل: رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية فالتر شيل، والرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، الذي كان صديقاً مقرباً للمدرس، وترجم له بعض قصائده من الإيطالية إلى الفرنسية.

 ويُعد المدرس من أكثر الفنانين العرب إقامة للمعارض عربياً وعالمياً. ونذكر هنا أبرز معارضه ، وفق تسلسلها الزمني :

– عام 1950 أقام المعرض الأول لأعماله الأولى في نادي اللوء بحلب.

– عام 1952 شارك في معرض مركز الصداقة في نيويورك، وأقام معرضاً لأعماله في مركز “لوند” في السويد.

– عام 1955 أقام معرض شخصي في نيويورك.

– عام 1957 شارك في معرض الفنانين العرب في روما.

– عام 1959 أقام معرضاً شخصياً في غاليري “شيكي” في روما (اقتنى الفيلسوف سارتر ثلاثة أعمال للمدرس)

– عام 1960 أقام معرضاً في صالة هسلر في ميونخ/ ألمانيا ، ومثَّل القطر العربي السوري مع الفنان لؤي كيالي في بينالي البندقية.

– عام 1961 شارك في معرض البندقية، ضمن جناح الجمهورية العربية المتحدة (خلال فترة الوحدة بين سورية ومصر) وأقام معرضاً في صالة الفن العالمي الحديث في دمشق.

– عام 1962 أقام معرضاً في صالة “غاليري ون” في بيروت.

– عام 1963 أقام معرضاً في صالة “غاليري ون” في بيروت، وشارك في بينالي سان باولو في البرازيل، وفي المعرض المتجول لفناني الدول العربية في أمريكا اللاتينية. إلى جانب مشاركته في معرض شتوتغارت في ألمانيا الاتحادية.

– عام 1964 شارك في الجناح السوري في معرض نيويورك.

– عام 1965 شارك في المعرض السوري في بيروت (سوق سرقس)، وفي المعرض العربي السوري في موسكو وواشطن.

– عام 1967 شارك في المعرض العربي السوري في لندن، والمعرض العربي السوري في تونس، وأقام معرضاً في غاليري “كونتاكت” في بيروت.

– عام 1968 شارك في بينالي الإسكندرية لفناني دول البحر المتوسط.

– عام 1970 أقام معرضاً في دمشق بعنوان : تحية إلى مالزو (أديب فرنسي)

– عام 1973 أقام معرضاً شخصياً في مونتريال/ كندا

-عام 1976 أقام معرضاً مشتركاً في حلب مع زميله الفنان لؤي كيالي.

– عام 1977 شارك في معرض الفن التشكيلي العربي السوري في عمان، الكويت، المغرب. وأقام معرضاً خاصاً في باريس.

– عام 1978 أقام معرضاً شخصياً في بون/ ألمانيا.  

– عام 1980 شارك في معرض الدول العربية في بون وفرانكفوت. وفي معرضٍ عن الفن السوري في القصر الكبير في باريس.

– عام 1982 شارك في المعرض العربي السوري في صوفيا، والمعرض العربي السوري في تونس والجزائر.

– عام 1983 شارك في معرض الفن التشكيلي السوري في باريس و برلين الشرقية، وفي معرض “كان سورمير” في فرنسا.

– عام 1984 أقام معرضاً خاصاً في المركز الثقافي البلغاري في دمشق، وشارك في المعرض المتجول في دول أمريكيا اللاتينية.

– بين عامي 1986 و1991 شارك في أغلب المعارض الرسمية السورية.  

– عام 1993 أقام معرضاً شخصياً لأعماله في واشنطن.

– عام 1994 أقام معرضاً شخصياً في واشنطن، ومعرضاً استعادياً لأعماله في معهد العالم العربي في باريس.

– عام 1996 أقام معرضاً استعادياً في بيروت.

– عام 1997 أقام معرضاً استعادياً في دبي.

-عام 1998 أقام معرضاً شخصياً في صالة عشتار في دمشق.

توفي المدرس في حزيران/ يونيو عام 1999، بعد معاناة مع مرض السكري والسرطان، وقد تحولت لوحاته، بعد وفاته، إلى تحفٍ وأيقوناتٍ فنية، أشبه باللقى الأثرية النادرة، لتتسابق صالات العرض والمتاحف والمؤسسات الثقافية ودور المزادات الفنية العربية والعالمية على الفوز باقتنائها أو تسويقها، ويُعد المدرس من الفنانين القلائل الذين لم تتوقف عمليات تزوير لوحاتهم حتى بعد وفاتهم، كونها من أغلى اللوحات العالمية وأكثرها مبيعاً.   

المراجع

– جمر تحت الرماد / فاتح المدرس رحلة الحياة والفن، للمؤلف محمد جمعة حمادة. منشورات دار بعل / دمشق 2008 .

– إحياء الذاكرة التشكيلية في سورية/ مختارات من مجموعة المتحف الوطني في دمشق. صادرة عن الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008، والمديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا.

 – “فاتح وأدونيس” ، كتاب صارد عام 2009 بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل المدرس. الناشر: غاليري أتاسي. يتضمن الكتاب مجموعة حوارات ونقاشات جرت بين المدرس و الشاعرأدونيس عام 1998.

عود النعنع/ قصص قصيرة لفاتح المدرس. المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ الطبعة الثانية 1986

– فيلم “فاتح المدرس” وثائقي من إخراج عمر أميرلاي، أسامة محمد ومحمد ملص.

– موقع أرشيف الشارخ للمجلات الأدبية والثقافية  العربية.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

عادلة بيهم الجزائري بين تحرير الوطن وتحرير المرأة

عادلة بيهم الجزائري بين تحرير الوطن وتحرير المرأة

إن تاريخ الأمة ومجد الوطن يصنعه أبناؤه الأوفياء من النساء والرجال ويفنون أعمارهم من أجل حرية ونهضة وطنهم، بعضهم يكتب صفحاتٍ في ميادين البطولة والنضال وبعضهم يهدي الأمة إلى سُبل العلم والمعرفة. فبهذه الطريقة قد أعطت الأمم دليلاً على تقدمها وشاهداً على تاريخها الحضاري. وأحد أولئك القامات، السيدة العربية السورية عادلة بيهم الجزائري.
وصفتها ابنتها بأنها امرأةٌ شديدة البأس، ماضيةٌ كالسيف، شجاعة الفؤاد، ولقد كانت أحد أهم روّاد النهضة السياسية النِسوية في سوريا. وولدت في زمنٍ كان فيه الطغيان العثماني على أشده، لا يتوانى عن أي طريقةٍ يضطهد بها الشعب ويسحق شعوره القومي. فعاشت عمرها تناضل من أجل تحرير وطنها العربي وتحرير المرأة.
كان والدها عبدالرحيم بيهم جزائري الأصل، ولقد ولدت في بيروت عام 1900، ثم انتقلت للعيش في سوريا. درست في معهد (Diaconese) الألماني في بيروت، وتتلمذت في اللغة العربية على يد العلامة عبد لله البستاني، صاحب معجم البستان.
بعمرٍ مبكر، في سن السادسة عشرة، بدأت نشاطها الفكري للدفاع عن الهوية العربية، فكتبت مقالات في الصحف الوطنية، كصحيفتي الفتى العربي والمفيد البيروتية، متخذةً اسماً يدل على تمردها وكرهها للمحتل (الفتاة العربية نزيلة الأستانة). وبعد أن ساءت الأوضاع في الحرب العالمية الأولى اجتمعت عادلة بيهم مع عددٍ من رفيقاتها للقيام بعملٍ منظم حاولن من خلاله تحقيق مساعيهن في إيقاظ الوعي القومي العربي لدى النساء وتعليم الفتيات اللواتي لم تتح لهن الفرصة في التعلم. نتج عن هذه الجهود جمعية تمت تسميتها (جمعية يقظة الفتاة العربية).
 كان لهذه الجمعية رأيها الواضح الصارم في بعثة الاستفتاء التي زارت دمشق برئاسة(Crane) فطالبت بالاستقلال التام للبلاد العربية ورفض الحماية والوصاية والانتداب. أيضاً شاركت الجمعية في تنظيم مظاهراتٍ برئاسة السيدة عادلة بيهم في المقاومة ضد الانتداب الفرنسي. كما نظمت الجمعية لجنةً تشرف على دارٍ للصناعة، والتي ضمت مئة وثمانين عاملة للحرف اليدوية. بعد ذلك أسست الجمعية برئاستها مدرسة دوحة الأدب للبنات عام1928.


مدرسة دوحة الأدب:
 تعد هذه المدرسة أحد أهم وأشهر إنجازات عادلة بيهم التي لاتزال ناشطةً حتى الآن. هدفت هذه المدرسة إلى تعليم الفتيات في الأسر غير الميسورة واللواتي حُرمن من التعليم بسبب الظروف القاهرة. ولم يقتصر نشاط هذه المدرسة وأثرها على  القطر بل تجاوزاه إلى الأقطار العربية حيث تلاقت الجهود والمساعي الإصلاحية لدعم دور المرأة في المجتمع، ونتج عن هذا التلاقي تعاون بين جمعية العلماء في الجزائر وجمعية دوحة الأدب في سوريا. ففي عام 1938، وكما تخبرنا الوثائق التاريخية، جرت مراسلات مكتوبة بخط اليد بين الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية “العلماء المسلمين الجزائريين” والسيدة عادل بيهم رئيسة جمعية “دوحة الآداب”، وسعى الشيخ ابن باديس من خلال تلك المحادثات للحد من الضرر العلمي الذي ٍخلفه الاستعمار الفرنسي في الجزائر، معتقداً أن القضاء على الجهل يكون بتعليم المرأة فهو العماد الأول الذي يجب تأسيسه للبدء في الترميم وعلاج الأضرارٍ، طالباً من السيدة عادلة أن تبين له الشروط المطلوبة للسماح للفتيات الجزائريات إتمام دراستهن في الشام. أما نص الرسالة فهو التالي: “الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله وآله، قسنطينة 9 جمادى الثانية 1357ه،حضرة السيدة الجليلة رئيسة جمعية دوحة الآداب المحترمة، السلام عليكم ورحمة الله و بركاته، وبعد:
اسمحي لي سيدتي أن أتقدم إلى حضرتكم بهذا الكتاب عن غير تشرف سابق ٍبمعرفتكم، غير ما تربطنا به الروابط العديدة المتينة التي تجمع بين القطرين الشقيقين الشام والجزائر. يَسرُّك سيدتي أن تعرفي أن في الجزائر نهضة أدبية تهذيبية، تستمد حياتها من العروبة والإسلام غايتها رفع مستوى الشعب العقلي والأخلاقي. ومن مؤسسات هذه النهضة جمعية التربية والتعليم بقسنطينة. ولما علمت إدارتها بجمعيتكم المباركة بما نشرته عن مجلة “الرابطة العربية “رغبت أن ترسل بعض البنات ليتعلمن من مدرسة الجمعية. فهي ترغب من حضرتكم أن تعرفوها بالسبيل إلى ذلك. تفضلي سيدتي بقبول تحيات الجمعية وإخلاصها والسلام. من رئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس“.
لم ترد السيدة عادلة أن تكون أنشطة الجمعية مقتصرة على مستوى التعليم فقط، بل أرادت توسيع الأنشطة لتشمل الأنشطة الفنية أيضاً. ولهذا الغرض سافرت إلى حلب للقاء “الشيخ عمر البطش” الذي يعد حافظ للموشحات وأكبر مرجع في الأغنية التراثية. ونتيجة لهذا التعاون شهدت مدينة دمشق عام 1947 حدثاً هو الأول من نوعه، كما ذُكِر في كتاب “الموسيقى التقليدية في سوريا“ للباحث السوري الراحل حسان عباس، الذي نشره مكتب اليونيسكو في بيروت. حيث أخذت عادلة بيهم من الزعيم فخري البارودي الموافقة على تدريب الفتيات على الغناء ورقص السماح وإحياء حفلة، فكانت هذه المرة الأولى التي ظهرت فيها الفتيات الدمشقيات وهن يؤدين حفلاً غنائياً راقصاً أمام العامة على خشبة مسرح قصر العظم بحضور رئيس الحكومة آنذاك خالد العظم. ورقص السماح هو أحد أنواع الرقص التقليدي الذي ارتبط بفنون الموشحات، وانتشر هذا النوع من الرقص في حلب قبل أن يأتي ويتم نشرهُ في دمشق. لكن كما كان لهذا الحفل أصوات مرحبة به ومشيدة بنجاحه، كان يوجد العكس. إذ إن الحفل لم يلقَ رضى قاضي دمشق الشيخ علي الطنطاوي، فشرع بالهجوم في المنابر والصحف على عادلة بيهم والحفل الذي أقامته المدرسة “فوصف مدرسة دوحة الأدب على أنها دوحة الغضب، قائلاً إنهم ينظرون إلى الغرب بعين الرضى ويغمضون أعينهم عن تلك العيوب والمفاسد. كما وصف لباس الفتيات بأنه يشبه لباس الجواري قديماً، فتاريخ دمشق الإسلامي مصدر افتخارها، فكيف يرضى مسلمٌ عربي أبي لابنته أن ترقص أمام الرجال الأجانب؟ وكيف يرضى بأن تتلوى وتخلع وهي تغني أغانٍ كلها في الغرام والهيام؟“.


الاتحاد النسائي العام:

لم تكتفِ السيدة عادلة بيهم بجمعية تشمل أنشطتها دمشق فقط، بل أرادت أن تشمل هذه الخدمات القطر بكامله، وبالفعل تم الأمر بعد اجتماع أربع عشرة جمعية اتفقت على تأسيس “الاتحاد النسائي العام السوري” لتكمل هذه المسيرة في السعي لتحرير المرأة ودعمها في تأدية واجباتها وإعانتها على أخذ حقوقها، وانتُخِبت السيدة عادلة لتكون رئيسةً للاتحاد. عُني الاتحاد أولاً بتوعية المرأة السورية بحقوقها وواجباتها، فأقام دورات متواصلة لمحو الأمية في صفوف النساء. كما اهتم بتقديم الدعم للمرأة العاملة، إما من طريق السعي لتحسين دخلها أو تقديم برامج ودورات تقوية في مجال العمل، ولم تُغفل هذه البرامج المرأة الريفية، فقد عمِل الاتحاد على التمكين الاقتصادي وتقديم فرص العمل على المشاريع الزراعية والصناعات. علاوة على ذلك عُني بالجانب الصحي عن طريق تقديم الخدمات الصحية اللازمة والمرفقة بجلسات التوعية.

كان للاتحاد إسهاماته المؤثرة أيضاً في مواجهة الاحتلال وداعماً للنضال العربي والتي ينبغي ذكرها:
 ١- في حرب فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي: تكاتفت الجهود في تقديم المساعدات للمرأة الفلسطينية القادمة إلى سوريا وقُدمت بالتعاون مع السيدة “بهيرة الدالاتي” مساعدات صحية ومالية لرعاية العائلات اللاجئة وفُتحت المدارس لاستقبال أولادهم. كما جُندت مئات المتطوعات في الاتحاد النسائي للمساعدة في خياطة ثلاثة آلاف بذلة عسكرية للجنود السوريين المتطوعين في جيش الإنقاذ.
٢- قدم الاتحاد دعماً كبيراً خلال العدوان الثلاثي على مصر: حيث قادت عادلة بيهم النساء السوريات وتدربت على حمل السلاح في معسكرات أُقيمت في ريف دمشق، تحت عمليات عُرفت باسم “غرف المقاومة الشعبية“.
٣- في حرب تشرين: ظلت السيدة عادلة ناشطة في الدعم الإنساني، ورغم تقدمها في السن لم تتغيب عن حملات إسعاف الجرحى خلال الحرب.
٤- موقف الاتحاد من الجمهورية العربية المتحدة: أيد الاتحاد برئاستها الوحدة السورية المصرية عند قيامها عام 1958. وكانت أحد المستقبلين للرئيس جمال عبد الناصر، فقد كانت السيدة عادلة تكن الكثير من الاحترام للرئيس عبد الناصر الذي أعطى المرأة المصرية حق الانتخاب، فكانت تلتقي به كلما أتى إلى سورية وتتحدث معه عن احتياجات ومطالب الاتحاد النسائي.
ونظراً لما قدمه الاتحاد من إسهامات، فقد تم دعوة السيدة عادلة بيهم بصفتها رئيسة الاتحاد، لمختلف الاجتماعات والمؤتمرات داخل الوطن العربي وخارجه.
حضرت الكثير من المؤتمرات وشارك الاتحاد بوفدٍ مؤلف من ثلاثين عضواً للمشاركة بالمؤتمر النسائي الفلسطيني الذي عُقد في القاهرة وتم انتخاب عادلة بيهم نائبةً لرئيسة المؤتمر السيدة هدى شعراوي والذي تأسس في عام1944. شارك الاتحاد النسائي السوري برئاستها في المؤتمر العربي العام أيضاً، وكذلك في المؤتمر النسائي الأول المُقام في بيروت. وفي عام1960تم انتخابها رئيسة للجنة التحضيرية للمؤتمر الآسيوي الإفريقي. تلقت أيضاً دعوة من الاتحاد النسائي الصيني لزيارة جمهورية الصين وحضور العيد الوطني، كما أنها حضرت مع وفد الاتحاد المؤتمر الآسيوي. دُعيت في عام 1969 لحضور حفل اليوبيل الذهبي لاشتراك المرأة العربية في ثورة 1919، كما أنها تلقت دعوة للحضور والمشاركة في اليوبيل الذهبي لتأسيس الاتحاد النسائي المصري في القاهرة.

الجمعيات التي ضمها الاتحاد
ضم الاتحاد النادي النسائي الأدبي، يقظة المرأة الشامية، خريجات دور المعلمين، دوحة الأدب، الندوة الثقافية النسائية، الإسعاف النسائي العام، الجمعية الثقافية الاجتماعية، المبرة النسائية، جمعية نقطة الحليب.ولم تكن الطريق ممهدة أمام هذه الجمعية فقد واجهت العديد من العوائق، وعلى الرغم من أن هذه الجمعية وغيرها كان غرضها المساعدة الجادة للقيام بنهضة وتحسين أحوال المرأة، إلا أنه كان دائماً هناك من يرفض هذا التغيير ويراه سلبياً وأحياناً مضللاً. ففي أحد اجتماعات الاتحاد النسائي تمت الدعوة لإقامة بحفل خيري في دمشق هدفَ إلى جمع التبرعات لصالح جمعية نقطة الحليب. لكن الجمعيات الدينية اعترضت على الحفل بحجة أن النساء الحاضرات في الحفل سافرات. وخرجت المظاهرات في دمشق مطالبةً بإلغاء الحفل وعدم السماح للسيدات بحضور الاحتفالات إلا أن الرئيس سعد الله الجابري رفض الاستجابة لمطالب المتظاهرين وأرسل عناصر الشرطة لتفريقهم، ثم طلب من السيدة عادلة الحضور في مكتبه وتم الاتفاق على أن يقوم الاتحاد النسائي بحجب المعونات التي كان يقدمها للناس، لبضع ساعات لا أكثر وأن يتم الرد عليهم: “اذهبوا إلى المشايخ وخذوا خبزكم منهم“. بالفعل قبلت السيدة رئيسة الاتحاد مطلب رئيس الحكومة، وتم الاعتذار من كل من جاء إلى مراكز التوزيع التابعة للاتحاد والطلب منهم أن يذهبوا إلى الجمعيات الدينية. لكن لم يستطع رجال الدين تلبية المطالب والحاجات، فسكت المعارضون وتابعت الجمعية أعمالها.
واصلت السيدة عادلة بيهم العطاء إلى أن وافتها المنية عام 1975. وفي اليوم العالمي للمرأة، منح الرئيس السوري حافظ الأسد عادلة بيهم الجزائري “وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة“ لكنها لم تتمكن من استلامه فاستلمته نيابة عنها ابنتها ورفيقتها في الكفاح أمل الجزائري.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

وجهات نظر متنوعة حول مظاهرات السويداء ومرحلة اللا تراجع

وجهات نظر متنوعة حول مظاهرات السويداء ومرحلة اللا تراجع

“ما لم نحظَ بعقدٍ كامل وتوافقي لشكل المواطنة نكون كمن يتحرك في مكانه، نحن نحتاج لئلا نستسلم للتكبيل المناطقي الذي سيجعل كل فئةٍ منّا تحارب وحدها، تحارب وتخسر أمام هيكلية منظمة!”. هذا الاقتباس هو تعبير عن رأي المهندس علي جمال المقيم في مدينة جبلة الساحلية والمتابع عن كثب للتطورات المتسارعة في الجنوب السوري وتحديداً تظاهرات السويداء. خلال حديثه مع “صالون سوريا،” بيّن جمال أنه من وجهة نظره فقد وقع أهل السويداء ضحية ارتكابات سياسية عفوية كانت كفيلة بإطاحة الدعم الواسع من حولهم والذي حظوا به في الأيام الأولى.

المهندس الإنشائي بحكم ما أسماه اقترابه من الشارع في حيزّه الجغرافي تمكن من رصد تحولات وتبدلات في مواقف بعض الناس في الساحل عاطفياً ووجدانياً خلال المرحلة السابقة، حيث يقول: “منذ عام 2020 على الأقل والناس تختنق في كل سوريا اقتصادياً، ظلّ الأمر كذلك حتى الربع الأول من العام الجاري ما بعد الزلزال والانفتاح العربي الهائل والقمة العربية والمسارات المتعددة فتنفس الناس الصعداء، دون مبالغة، ملامح أوجههم تغيرت، لكنّ ذلك لم يدم طويلاً، حتى أغلقت دمشق الأبواب في وجه كل تلك المسارات وعرف الناس أنهم عادوا للوراء كثيراً”.

ويضيف جمال موضحاً الواقع السوري: “صارت الأمور حينها أشبه بجمر تحت الرماد، البلد كلّها قابلة للانفجار، والدولة ببساطة قررت استفزاز الناس بلقمة عيشهم وبطريقة لا يمكن وصفها، كان ذلك في منتصف آب/أغسطس الفائت، فجأة اشتعلت البلاد كلّها، إن لم يكن بالتظاهر الذي بدأ في السويداء فبالصوت المرتفع على صفحات التواصل الاجتماعي ومن كل الأطراف”.

شرح جمال أنّ ما بدأ كشرارةٍ في السويداء كان مرشحاً لصبغ البلد بأكملها بلون واحد ذي مطلب واحد، “ولكن، قلّة الحنكة السياسية هناك وغياب الإشراف الدقيق وتداخل الأطراف والمرجعيات جعلَ الحراك سريعاً مناطقياً سياسياً لا معيشياً وجعله يبدو كما لو أنّه محصور بطائفة لا بلد، وهنا كانت بذرة الشقاق الأولى مع الجميع”.

الحكومة مرتاحة

يتفق الطبيب عزّت سليمان من حمص مع بعض آراء المهندس جمال، فيقول لـ “صالون سوريا”: “السوريون اليوم بحاجة لما يجمعهم لا ما يفرقهم، لا يوجد عاقل في الكون يمكنه التشكيك بوطنية أهل السويداء، أو أهل سوريا عامّةً، ولكن يمكن القول إنّه ببساطة تم جرّ المحافظة لفخٍ محلي غير قابل للتصدير اليوم على عكس أيامه الأولى، وهذا ببساطة ما يجعل الحكومة مرتاحةً ولربما سعيدةً بمشهد المكونات التي بدأت تخوّن بعضها ويشتم كلٌّ منها رموز الآخر على صفحات الفيس بوك”.

أخطاء كبيرة

يحاول هذا المقال الوقوف بشكل عقلاني وموضوعي على بعض المشاكل التي أحاطت بتظاهرات السويداء التي انطلقت بعيد منتصف شهر آب/أغسطس الفائت بقليل، والتي كانت مرشحة لتخرج من نطاقها المحلي وتغزو الخارطة السورية الواسعة التي تشاركها المشاكل والآلام ذاتها.

انطلقت تظاهرات السويداء في مرحلة وجدانيةٍ حساسة لعموم السوريين، مرحلة عنوانها كل “نظام” لا يطعمنا يجب أن يصير ماضياً، وهذا ما كان يمكن أن يُشتغل عليه لو خُطِط لتلك التظاهرات باستراتيجية أكثر تماسكاً وبصيرةً.

من نافلة القول إنّ إدلب الغارقة بمشاكلها في شكلها الحالي لم تكن لتشكل ثقلا إضافياً (غير عسكري) في تغيير الواقع السوري الذي يعتمد على الداخل في منطلقه ورؤيته، وكذلك شرق الفرات الذي غرق تالياً في مواجهات العشائر وقسد.

إذن، من المعلوم أنّ الثقل المحمول من الداخل عبر المحافظات التي تسيطر عليها الحكومة هي التي سترشح كفّة الموقف القادم، وعليه، كان يجب وبغض النظر عن اسم أول محافظة تنتفض، أن تجد سبيلاً للتنسيق مع بقية المحافظات والمكونات لتوحيد المطالب وتعميمها ليكون “الكفٌّ” إذا ضُرِب في درعا يسمع صداه في اللاذقية.

لذلك، كان خطأ الانتفاضة تلك واقعاً من اليوم الأول لها، اليوم الأول الذي تجمع فيه الناس وسط السويداء وفي قراها رافعين علم طائفة الموحدين الدروز (علم الحدود الخمسة)، بكلّ ما يمثل من رمزية وقدسية لهم، لكنّه لم يكن مفهوماً لبقية الشركاء في الأرض.

عزز غياب العلم السوري من خطورة قوقعة الحراك، ومع ذلك ظلّ الأمر لا يشكل فرقاً حقيقياً طالما أنّ المطلب واحد، وهو مطلب معيشي شامل يعود على الجميع بالخير.

إلا أنّ بعض المتظاهرين، أفراد أو فرد على الأقل، ليس مهماً، رفعوا قرابة اليوم الرابع أو الخامس علم الثورة السورية، العلم ذا النجمات الحمر الثلاث، وهنا يجب العودة لما ذكرناه مسبقاً أنّ موقف أهل إدلب لن يزيد عن التعاطف في حين أنّ ذلك الحراك يحتاج تحركات عملية سريعة داخلية وفي ذات الوقت لا تسيل فيها نقطة دم واحدة.

رفع علم الثورة ببساطة مثلّ خذلاناً لشريحة كبيرة متعاطفة تماماً مع الحراك، فالقضية المتعلقة بالعلم السوري هي قضية وجودية مرتبطة باللاوعي لدى عائلات دفنت الآلاف من أولادها محاطين بذلك العلم، ومن الرفاهية القول إنّ المشكلة زالت بين السوريين من مؤيدي هذا العلم أو ذلك، القصة خرقت الجسد الواحد بوضوح، وبعد ذلك، وقبله، لم يرفع العلم السوري الرسمي.

في الأيام التالية أيضاً تم إلقاء بيان باللغة الإنجليزية عبر أحد المشاركين في التظاهرات يطالب فيه نصاً من مجلس الأمن الدولي باسم المتظاهرين التدخل في سوريا تحت الفصل السابع عسكرياً وإزاحة النظام بالقوة. هذه القصة وحدها أحدثت شرخاً إضافياً ولكن هذه المرة ليس مع بقية المكونات، بل بين أهل السويداء أنفسهم، وهو ما شوش وأثرَ في سياق المظاهرات.

كل ذلك تماشى مع تغيّرٍ جذري في نهاية الأسبوع الأول للتظاهرات، حيث تحولت كل المطالب من معيشية إلى سياسية، صارت المطالب مرتكزة على رحيل النظام ومحاسبته وتطبيق القرار 2254، وإن كان ذلك منطقياً لشريحة سورية لها الحق في المطالبة، ولكن ضيع فرصة تاريخية أمام الحراك لتغيير مصير البلد قبل أن تشد العصب الديني والمناطقي في أماكن أخرى لصالح السلطة من غير دراية.

الأحداث عينها أدت لانقسام تاريخي بين المرجعيات التاريخية الثلاث وهم شيوخ عقل طائفة الموحدين الدروز في الجنوب، ففي حين وقف الشيخ حكمت الهجري إلى جانب المتظاهرين، وقف الشيخان الحناوي وجربوع إلى صالح التهدئة ودعم الدولة، فانقسمت المدينة من جديد على بعضها.

وفي المقابل خرجت أصوات من طرف السلطة لو كانت منتفعةً أباً عن جدٍ لما احتدّت في خطابها لتلك الدرجة التي بدت مستغربَة على نطاق واسع، وبينهم الإعلامي ر. ل الذي يقدم فيديوهات شبه يومية على صفحته في فيس بوك تتهم كل المتظاهرين بأنّهم عملاء للخارج.

والإعلامي اللبناني ح. م الذي هدد بأنّ داعش صارت في محيط السويداء، ليدين بعلّوه على الملكية نفسها الدولة في أيّ حدثٍ أمني، وحكماً هذا آخر ما تريد الدولة اتهامها به في ظل الظروف الدولية الملتهبة من حولها. وكذلك المغني الشعبي ر. ه الذي استخدم لكنة أهل الساحل لتهديد المحتجين، ولا يمكن نسيان و. أ وهو من عائلة الأسد والذي يكفي ظهوره على وسائل التواصل الاجتماعي ليكون سبباً لثورة جديدة، كما يقول سوريون كثر تندراً وفي الساحل تحديداً.

من وجهة نظرٍ رسمية

إذن، قلّة التخطيط والتنسيق ولربما العفوية وغياب المرجعية الواضحة أدت للوقوع في كل تلك الأخطاء المتتالية بزمن قياسي، وموضوع غياب المرجعية هو ما يقوله أمنيون سوريون في مجالسهم عن غياب من يمكن الحديث معه في السويداء في هذه الظروف.

السويداء بالنسبة للسلطة بحسب مصدر مطلع لـ “صالون سوريا” لديها مطالب محقّة ولكنّها مطالب تخصّ كل السوريين وليس الجنوب فقط، ويؤكد هذا المصدر الذي رفض الإفصاح عن اسمه أن: “استمرار التظاهرات يؤثر على المدينة ولا يمكن الضغط على يدنا من خلالها وفي نفس الوقت نتوخى استخدام القوة ولكن إنصاف السويداء على حساب بقية المحافظات أمر لا يمكن تحقيقه”.

وحول تحول المطالب إلى سياسية والتمسك بها يقول: “يحقّ لهم التعبير، ولكن نعتقد أنّهم يعبرون بطريقة سيئة بحقهم متناسين أنّ الوضع القائم هو صمام أمان البلد وإلّا فستنهش الحرب الأهلية البلد”.

لا تراجع

رداً على ذلك يقول الشاب ماهر حرب أحد المتواجدين باستمرار في التظاهرات أنّ النظام ساقط لديهم وسيسقط في كل البلاد، “قصة الحرب الأهلية هي لإخافتنا، نحن لا نريد هذا النظام وسنحارب سلمياً حتى النهاية، فلا يمكن أن يستمر نظامٌ لا يريده شعبه”.

وكذلك الأمر بالنسبة لمتظاهر آخر وهو سالم حناوي والذي يوضح موقفه: “لن نخرج من الساحات حتى نغير مصير سوريا ولو كنا وحدنا في رأس حربة هذه المعركة، الآن، لا تراجع عن مطالبنا ولم نخرج لنتراجع، السويداء برجالها ونسائها جاهزةٌ لأي طارئ”.

أما بالنسبة لعمار وهو اسم مستعار لشخص انسحب من التظاهرات باكراً فلديه الآن وجهة نظر مختلفة يشرح فيها أن: “النظام لم يكترث لأمرنا وتوقعنا تحركاً إيجابياً سريعاً اتجاهنا، ولكنّ ذلك لم يحصل، الآن قد نستمر أشهراً، نتظاهر دون نتيجة، والأمن يسجل أسماء كل من تظاهر لأنّ هذه طبيعته، لا أريد المغامرة أكثر، ألم ترَ كيف صمت أهل الساحل فجأة؟”.

سامي عزام أيضاً شاب يشارك في المظاهرات وهو متمسك بمطالب الناس هناك كما يوضح، وعن ذلك يبين: “سندفع ثمن كرامتنا مهما غلت لنحصل عليها، نحن الآن نعلم أننا وقعنا في بعض الأخطاء، وكان يجب التريث في بعض التفاصيل وتمرير الملفات واحداً واحداً لنظلّ نحظى بدعم الأكثرية، ولكن القصص كانت عفوية ووطنية للغاية ولربما انفجارنا الجماعي هذا هو ما سيؤتي بثماره، وبالتأكيد لن نتراجع ونترك الساحات للفاسدين واللصوص والأذناب.”

يريدون بلداً لهم

ما وقعت به السويداء اليوم هو ذاته تماماً ما وقعت به الثورة السورية في بداية الأحداث السورية سنة ٢٠١١، إذ كثيراً ما عانت من العفوية وغياب التنسيق والمبادرات الفردية والتدخلات العشوائية التي قادت لفرز أصوات طائفية جرّت الحراك إلى منحنيات خطيرة فرزت السوريين في خنادق متباعدة وجعلتهم يقتلون بعضهم في حرب كان يمكن لو عوملت بعقلانية جمعيّة شاملة آنذاك أن تجنب البلاد كل ما مرت به، ولكن ما تم شيطنته يومها، تتم شيطنته الآن.

يمكن القول أن معظم أهل الداخل السوري معجب بشجاعة أهل الجنوب هذه الأيام ولو بدرجات، والجميع يريد مخرجاً من الكارثة، والجميع حين يجوع يثور ما لم يرزح تحت ضغوط توحي له بأنّ حياته مهددة خارج كانتونه الصغير. هذا بالضبط ما لم تتمكن مظاهرات السويداء من امتصاصه عن طيب نيّة وغياب دراية وحنكة في الغالب لتقدم المدينة الصغيرة نفسها بعبعاً لأطراف أخرى لا يمكن النجاح بدونها. ولتجلس السلطة على تلٍّ عالٍ وتشير بإصبعها فقط دون أن تنطق قاصدةً أن انظروا: يريدون بلداً لهم فقط.

*تم إعداد هذا التقرير قبل إعلان خبر وقوع محتجين في السويداء ضحايا إطلاق وابل من الرصاص عليهم يوم الأربعاء ١٣ أيلول الجاري واتهامات لمناصرين للحكومة السورية بالوقوف وراء هذا التصعيد.