تدريباتنا

عن مقاومة العجز اليومي في ريف حماه

بواسطة | مايو 4, 2023

“إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر”.

كانت الأزمة الاقتصادية قد بدأت تدريجياً قبل الحرب السورية بعدة سنوات، ولاحت علامات التذمر على وجوه السوريين ليحل من بعدها وباء الحرب اللعينة وندخل في دوامة الهباء ويقطع الشيطان حبل الود بين السوريين الذين اعتادوا التآخي والمشاركة في هموم الحياة ومسراتها. 

أطبقت الحرب على أعناق السوريين ليتخبطوا بين طيات الفقد والنزوح والفقر، كَثر الشحاذون في الشوارع وعند أبواب المحلات وانعدم الأمن والأمان، ما عادت قلوبنا تحتمل ضربات العوز التي لم نذقها يوماً مهما وصلت درجة التفاقم، فكان قدرنا أن نمضي وحدنا.

تصاعد الوضع إلى ما بعد القتل والترهيب والتهجير، فأوجدت الحرب تجار الأزمة الذين صعدوا فوق أكتاف وأجساد أخوتهم، نهض الكثيرون اقتصادياً وذوى كثيرون، وبات لا سبيل حتى للقمة الخبز، يوم بعد يوم غدا الوضع السوري في تردٍّ.

واليوم ربما انتهت الحرب جزئياً ليتنفس معظم السوريين ويسترخوا بعد تشنج ورعب دام سنوات، لكننا وقعنا دون سابق إنذار في “حصار قانون قيصر” حسب ما أخبر بعض من قابلهم موقع صالون سوريا في ريف حماه، حيث أشاروا أنه قانون “فُرض علينا وأدخلنا في دوامة اللاشيء.. فأي صبر نمتلك؟”.

في خضم الحصار كنا كمن يحاول رفع يده من القبر منادياً: “هنا.. أنا السوري.. دعوني أعيش!” فإذا بزلزال شباط 2023 يضرب جدران أرواحنا لينتزع آخر ما علق منها في الحياة.

البطالة المزهِقة 

اقتضت الحرب برفع سنوات “الخدمة العسكرية” إلى التسع كما انخفض راتب الموظف السوري إلى عدة دولارات فقط بعد الانخفاض المرعب لقيمة الليرة السورية بسبب الحصار، وبات السوري لا قدرة له على إعالة عائلته، وأعرض الكثير من الشباب عن الزواج وباتوا يتخبطون بين عمل وآخر، كل ذلك أدى إلى بطالة أجهضت إرادتهم وأدخلتهم في دوامة اليأس القاتل. 

في إحدى قرى حماه كان لنا وقفة مع شبان يذهب عمرهم سدى كفاحاً وأحلاماً، ومنهم راكان (40 سنة) وهو ابن عائلة فقيرة، فقد والده في حرب الثمانينات، وقال بشيء من المرارة لموقع صالون سوريا: “ما ذنبنا نحن الشعب الصامد الصابر، إننا فقط نريد أن نعيش؟”  كان راكان قد غادر سوريا متجهاً إلى لبنان طلباً للعمل كي يبني بيتاً ويتزوج، وهناك اجتهد عدة سنوات لتباغته الأزمة حيث بدأ نزوح السوريين هرباً من الحرب إلى الأقطار المجاورة والتي كان إحداها لبنان مما اضطره للعودة بناء على “مبرر ظالم وهو أن السوري بات مكروهاً؛ السوري الذي فتح قلبه وبيته للجميع في أزماتهم وحروبهم أصبح غير مرغوب به، إضافة إلى انخفاض أسعار العمال السوريين هناك” حسب وصفه. 

رجع راكان دون رصيد، إلا من بيت متواضع استطاع بناءه بمساعدة أخيه، ويعيش فيه مع وأمه وعائلة أخيه وعائلته بعد أن مكث لسنوات في خيمة لعدم توفر المال قبلاً. لقد بحث راكان عن عمل دون جدوى ليرسو بعد ذلك في عمل مضنٍ “ضمن كسارات الحجر المنتشرة بكثرة في حماه، هذا العمل المجهد حد التسبب بديسكين في ظهره”.

يقول: “العمل في الكسارة منهك، أعمل يومين فقط في الأسبوع إذ إن العمل قليل بسبب الأزمة الاقتصادية، والدخل لا يكفي لكيلو لحمة ولا حول ولا قوة، ماذا عساي أفعل؟ وماذا أقول لأطفالي عندما يأتي العيد دون أن أستطيع شراء الثياب لهم…؟ أو كيف أعالجهم إن يمرضوا وعلبة الدواء سعرها 25 ألف ليرة سورية؟ الحياة صعبة جداً وما حدا حاسس بحدا”.

راكان يرزح تحت ثقل الديون إضافة لدفعه فوائد هذه الديون, تسنده زوجته سمر التي تتمزق بين ماكينة الخياطة وطفليها ومهامها المنزلية.. سمر المنهَكة حد إيلامنا.

كان العجز يسيطر على أجواء هذا اللقاء مع تلك العائلة، فالأمل لديهم مفقود وعمل الزوج والزوجة لا يكفي، والعائلة تعيش بسبب ظروفها المادية القاسية بعيداً عن أية وسيلة ترفيه حتى على صعيد النت الذي غدا متوفراً في كل بيت سوري.

الشباب السوري الجبار 

ويخبرنا مالك (25 سنة) عن مسيرته الصعبة خلال كدحه ضد ظروفه الشاقة. لقد كان مالك طالباً جامعياً في كلية الآداب- قسم اللغة الإنكليزية، ولسوء حظه اقترنت دراسته بسنوات الأزمة. والده المعلم المتقاعد والذي تتكون عائلته من 9 شبان وبنتين استلف قرضاً من البنك من أجل جامعة ابنه لأن راتبه المتواضع لم يكن ليكفي، كان مصروف الجامعة غالياً حوالي 50 ألف ليرة شهرياً بسبب ظروف الحرب، توفي الأب بعد سنتين ومالك في الجامعة مما اضطره لتركها والعمل في سبيل إيفاء القرض، الأمر الذي منعه من إكمال دراسته خاصة بوجود أخت معاقة تحتاج دائماً للعلاج والدواء، فأخوته الباقون جميعهم بعيدون ولا معيل للعائلة سواه، حاول مالك البحث عن عمل ثابت وبدأ بالتنقل “القطاع الخاص امتص دمه- عمِل في منجرة حجر فتدهورت صحته، كان حزيناً فكيف له أن يتأقلم مع وضعه الجديد بعد أن كان طالباً”.

ويؤكد بشيء من السخرية خلال حديثه لموقع صالون سوريا: “لم نكن نمتلك ثمن خبز، وما من رزق لدينا فقط قطعة أرض كانت في حوزتنا باعها أبي من أجل عملية في القلب لأخي الشاب الذي توفي رغم جهودنا”. 

مبتسماً يضيف: “منزلنا قديم، هدم الزلزال أحد جدرانه وتكلفة بنائه مليون ونصف، معي نصف المبلغ ولا أعلم كيف أكمله؟”. وحالياً يعمل مالك في مطعم خارج قريته وقد أشار لموقع صالون سوريا “أنه في معظم الأحيان يعود إليها مشياً على الأقدام لعدم توفر ثمن بنزين من أجل دراجته النارية، حتى السجائر بات مصروفها ثقيلاً عليه فبدأ بتخفيفها تدريجياً رغم ولعه بها”. وعندما سألناه إن حاول السفر خارج القطر أجاب: “آمل ولكن من أين لي بالنقود والسفر يكلف آلاف الدولارات؟ لن أيأس من الوضع فأنا من جماعة الاكتفاء الذاتي”.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

الشّتات يطارد اللاجئين السوريين مجدداً في قبرص!

الشّتات يطارد اللاجئين السوريين مجدداً في قبرص!

يعيشُ اليوم آلاف السوريين في قبرص خوفاً اجتماعياً من فقدان فرصة العيش في الجزيرة، بسبب التحريض الذي يتعرض له المهاجرون السوريون الواصلون حديثاً إلى قبرص، والذين أعُيد معظمهم إلى لبنان بعد قرار مفاجئ اتخذته قبرص بخصوصهم. "خلال الثلاثة أشهر الماضية، كان السوريون يصلون...

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

تدريباتنا