دمشق مدنٌ في مدينة.. وبيوت تلفظك لأنك من مناطق الطائفة التي بدأت بـ”الشي”

دمشق مدنٌ في مدينة.. وبيوت تلفظك لأنك من مناطق الطائفة التي بدأت بـ”الشي”

“بخوف سألتني ابنة أختي الصغيرة همساً عندما جاءنا أحد الأشخاص باحثا عن سقف يؤويه: خالتو هاد من عنا؟!.. ما خطر ببالي يوما بأني سأتعرض لهكذا سؤال من طفل أو طفلة” تقول نيرمين محمد لـ”صالون سوريا”، وتتابع: “نزل سؤالُ الصغيرة على رأسي كصاعقة، أجبتها: إي خالتو هاد سوري، لم تقتنع، عاجلتني بعبارةٍ أخرى، قالت: بس بابا قال ما بدنا نأجر حدا مو من عنا”.

أخذتني كلمات نوارة بعيدا، لَحِظَتْ نيرمين ذلك، وعندما اصطدمت عيناي بعينيها، طأطأت رأسها أمامي خجلاً، وعادت لتحدثني “مازالت ابنة أختي في حيرة من أمرها تبحث عن أي معالم لهوية أو انتماء”.

تقول أسما التي نزحت من دير الزور، عن دمشق: “هذه المدينة منحتني الأمان بفترات كنت كتير بحاجتو، لكنها اليوم تلفظني لأني من الطائفة التي بدأت بـ(الشي)”.

تعيش أسما في حي المزة 86 وعنه تقول “كل المفاتيح هناك في الحي بيد العلويين، فصوتهم أعلى وامتيازاتهم أكبر، ودائما ما تُحسم أي مشكلة لشبابهم، ولا أعتقد أن هذا سيتغير في المستقبل، نحنا مكسور جناحنا.. فينا نعيش هون طالما نحنا أوادم”.

تغيير وجه دمشق

بجولة طويلة بين أحياء دمشق المختلفة٬ مشيت في الشوارع التي أعرفها وتعرفني، تحدثت مع قاطنين أصولهم من هنا، ومع وافدين قُدامي وجدد، عبر حكاياهم وما تحمله أرواحهم من انطباعاتٍ عن المدينة٬ حاولت رصد ماهية الأرض المشتركة التي تجمعهم أو تفرقهم٬ ما ملامحها كما يصفونها٬ وما إذا كانت هناك مساحة لانتمائهم لها أم لا.

كانت دمشق الممتلئة حُبا وصخبا وضجيجا وكذبا من يوم إنشائها ملجأ لكل المظلومين والمساكين والفقراء والمطرودين، أما اليوم فهناك وضعٌ جديد يُرسم على الأرض، وهو ما يحذر منه الباحث في علم الاجتماع السياسي فايز عدنان في حديثه لـ”صالون سوريا”، يؤكد فايز: “أن محاولات حثيثة تتم لإفراغ العاصمة السورية وما حولها من طائفةٍ بعينها، فقبل سنوات من الآن وتحديدا قبل اندلاع الحرب السورية كان من السهولة بمكان أن تجد مكانا يؤويك في دمشق أيا كانت منطقتك أو طائفتك، في تلك الأيام لم تكن بحاجة لأكثر من ورقة ممهورة باسمك وباسم صاحب العقار لتستأجر منزلا في العاصمة. أما اليوم فتشابكت الأمور كَكُرَة صوف مع تزايد الحاجة للمنازل في قلب دمشق الذي يشهد اختناقاً سكانياً وانتشار الخوف بين مكونات المجتمع السوري، ناهيكم عن العراقيل الأمنية التي توضع في وجه الباحثين من طائفةٍ أو مناطق معينة عن مسكن يُظلهُم تحت سقفه، ويزيد من الوضع مأساوية ما تقوم به المكاتب العقارية من تأجير البيوت وفق خريطةٍ طائفية”.

يتابع فايز عدنان حديثه قائلا: “يُمنع السَكَن مثالا لا حصرا في عش الورور, وهي منطقة تقع على أحد سفوح جبال قاسيون مُطِلة على منطقة برزة، إلا لمواليدها أو العاملين بها أو المالكين لعقاراتٍ فيها، كما يُمنع أيضا تجديد إيجار السكن في بعض المناطق الدمشقية كحي (المزة 86)، إلا للعلويين والشيعة وبعض الحالات الخاصة الأخرى”.

قدرٌ اختير لنا

في “الكيكية” على سفح قاسيون استقر سامر العشا في منزلٍ مستأجر هو عبارة عن غرفة صغيرة لا يصلها ماء ولا تُنيرها كهرباء، سامر النازح من الحجر الأسود جنوب العاصمة دمشق ما كان قادراً برغم ما عرضه من مال على تأمين منزل له ولأسرته في حي “المزة 86” الرخيص نسبيا مُقارنة بالمناطق المنظمة في العاصمة دمشق كحي “ركن الدين” الذي يصل فيه بدل الإيجار لمنزل تبلغ مساحته 120 متراً حوالي الـ600 ألف ليرة سورية شهريا، والسبب هو “طائفته.”

يروي سامر حكايته لـ”صالون سوريا”: “قالها السمسار لي علناً، لن تجد من يؤجرك منزله مهما دفعت من مال، فأنت غريب عن تركيبة الحي الطائفية للسكان، وقعت كلماته عليَّ كزلزال، زَعَقتُ في وجهه، يا أخي أنا لست إرهابياً ولا مطلوباً، فلماذا لا استطيع السكن وسط دمشق؟”.

وفي حي باب توما الدمشقي، تتحفظ نجاح طنوس، وهي صاحبة منزل في الحي الذي تسكنه غالبية مسيحية، عن استقبال بعض المستأجرين، تقول: “ما بدي مشاكل،  أخوتنا المسلمين عالعين والراس، لكنهم سيسببون المتاعب لي، وأنا لا أريد أي متاعب، هم أخوتنا ولم نكن نميز، لكن اليوم الحذر واجب”.

ويرى الباحث الاجتماعي فايز عدنان: “أن النزعة الطائفية التي يلمسها أي شخص في مناطق كعش الورور والمزة 86 ذات الغالبية العلوية، عند بعض السكان بعد الحرب هي نتيجة استفزاز الهوية المُعرَضة للخطر”.

ليست الطائفية وحدها مشكلة في السعي لاستئجار منزل في دمشق، بل المناطقية أيضاً. عمار الشيخ بكري نازح من “كفر بطنا”، وسمه أهل المنطقة بالـ”عوايني” أي جاسوس النظام، فخرج منها، إلا أن تعاونه مع الدولة لم يشفع له  عند السماسرة وأصحاب العقارات في حي “المزة 86” العشوائي.

فالجهة الأمنية المشرفة على المنطقة “المخابرات العامة” والتي قصدها تباعا لثلاث مرات متتاليات بصحبة ثلاثة من أصحاب المنازل التي حاول استئجارها في الحي، أخضعته “لسلسلة من الإهانات” بحسب قوله.

في النهاية رفضت المخابرات بعد الاطلاع على بطاقة عمار الشخصية منحه الموافقة الأمنية اللازمة لتوقيع عقد الإيجار، والسبب انتمائه لمنطقة تعتبرها دمشق حاضنة شعبية للمعارضة السورية المسلحة، و بات واضحا أنه في منطقة “المزة 86″، يستحيل أن يسكن من هو قادم من الغوطة الدمشقية.

الموافقات الأمنية تعزز الانقاسامات

يقول المحامي وسام طه لـ”صالون سوريا”: “إن عمليات إيجار البيوت والعقارات في مناطق النظام، تخضع إلى رقابة أمنيّة مشددة، إذ تفرض السلطات على المستأجر والمؤجر مراجعة مقارها الأمنية والحصول على موافقة خطيّة، قبل إبرام العقود أو عند تجديدها”.. وصدرت في عام 2014 أوامر أمنية تمنع منعا باتا الموافقة على تأجير منزل أو غرفة في دمشق دون الحصول مسبقا على الموافقة الأمنية.

ويقتضي الحصول على الموافقة الأمنية، أن يذهب المواطن ويملأ استمارة تفصيلية عن وضعه وعائلته وعمله وتوجهه السياسي، قبل أن يجري تصديقها من البلدية المعنية في المنطقة المراد السكن فيها، وانتظار أسبوع إلى 15 يوماً بل وربما شهراً ريثما تصل الأوامر بالموافقة أو الرفض. يأتي ذلك في ظل تشديد النظام السوري الإجراءات الأمنية في العاصمة خوفا من تسلل عناصر المعارضة.

يُتابع المحامي وسام حديثه بالقول: “يُنفّذ هذا الإجراء بصرامة خصوصا في العاصمة دمشق ومحافظة حلب، ويبدو أن النازحين من المناطق التي شكلت بيئة حاضنة لمعارضة النظام هم الأقل حظاً في الحصول على الموافقة”.

لا يواجه سماسرة العقارات مشاكل كبيرة في الحصول على الموافقة الأمنية إن كان المستأجر فتاة، حتى لو كانت من طائفة مختلفة وفقاً لسومر سلوم، وهو صاحب مكتب عقارات في حي المزة 86، يقول السمسار لـ”صالون سوريا”: “يحتاج الرجال للحصول على الموافقة الأمنية لواسطة كبيرة، في الواقع نحن لا نستطيع توقع النتيجة دائماً ولكن طلبات عديدة تُرفض، بما فيها طلبات تجديد عقد الإيجار، وذلك لاعتبارات أمنية أو طائفية”.

يتابع السمسار سومر حديثه بالقول: “كنا نتحايل ونلتف على الأمر لمساعدة المستأجرين بتنظيم العقد باسم أحد نساء العائلة التي تريد استئجار أحد المنازل وتقديم تفاصيل هوية المرأة للجهة الأمنية لتسهيل الحصول على الموافقة وتوقيع العقد، لكن المشكلة المستجدة التي منعتنا من الاستمرار في هذه الحيلة هي المداهمات الشهرية والتفتيش الأمني الدقيق الذي باتت تقوم به الجهات المختصة بين حينٍ وحين للمكاتب العقارية، وبشكل عشوائي للمنازل المُستأجرة للاطلاع على بيانات وأسماء المستأجرين في تلك المنازل”.

يختلف البعض مع ما ذهب إليه سومر عن معاملة أمنية مختلفة للنساء، اذ تروي أم حسن وهي أم لخمسة أطفال ما عاينته في أحد المراكز الأمنية، تقول: “كان عناصر الأمن يعاملون الجميع بدونية وكأننا مُجرمون، أما النسوة اللواتي كن يتشحن بالجلابيب أو بالخمار فكان لهن نصيب الأسد من الإهانات”، وتُردف: “أن الضابط تحرّى عن اسمي واسم زوجي المتوفى بحادث سير، وكذلك عن اسم أبي وإخوتي وأمي وحتى جدي وجدتي، بعدها سألني الضابط عن حادثة زوجي الأمر الذي استغربته، قبل أن يطلب مني الإنصراف مصحوبةً بتحذير شديد من استضافة أياً كان في منزلي المُستأجر”.

فوبيا أصحاب العقارات الأمنية

يتملك الخوف أصحاب العقارات من عدم الامتثال للإجراءات الأمنية، فقد تم استدعاء عدد من أصحاب البيوت لفرع الأمن العسكري حتى أن بعضهم اعتُقل بتهمة إيواء مطلوبين

وفي هذا السياق يشير حيان علي، وهو مالك لأحد العقارات في “حي تشرين” الدمشقي، في حديثه لـ”صالون سوريا”: “لا يمكنني تحمل مسؤولية تأجير المنزل من دون الموافقة الأمنية، لا أحد مستعدٌ لتحمل مسؤولية وجود مطلوبين، أو حتى من يتعاطف مع المسلحين في منزله، هذه مسؤولية كبيرة”.

ويشير متطوع إغاثي في دمشق، يوسف بلاط (اسم مستعار) إلى أن “الجهات الأمنية تُعاقب عدداً كبيراً من المطلوبين لإجبارهم على تسليم أنفسهم من خلال اعتقال أقاربهم ممن يتوجهون إلى المقرات الأمنية للاستحصال على موافقة تخولهم استئجار منزل في العاصمة دمشق”، ويضيف: “حتى في مراكز الإيواء التي عملت فيها ومنها مركز الحرجلة في الريف الدمشقي، كان علينا كفرق إغاثية تقديم بيانات مفصلة عن النازحين إليها، وطرد بعض النازحين بالفعل بسبب خلفياتهم المناطقية وأحيانا الطائفية”.

الطاقة الشمسية استثمار جديد لتجار الأزمات 

الطاقة الشمسية استثمار جديد لتجار الأزمات 

خمس ساعات من الانقطاع، وساعة ونصف من العمل، هذا حال التيار الكهربائي في مختلف المدن والمناطق السورية. إذ تعدى انقطاع التيار كهربائي في بعض المناطق هذه الساعات المحددة ليصل أحياناً إلى يوم كامل، بحسب جدول وصفات مبررات الأعطال التي تقدمها وزارة الكهرباء لمواطنيها.

والمبررات الاعتيادية هي: خارج الخدمة بسبب الإرهاب سابقاً وقيصر حالياً، وبمزج السببين الحكوميين معاً يخلص المواطن إلى نتيجة مفادها ألّا كهرباء في الأمد المنظور.

“كل شيء مرتبط بالكهرباء، وانقطاعها صار روتين يومي للحياة”، تشرح ريما مسلّم وهي مدرسة الرياضيات مقيمة في دمشق، وتضيف: “يعني فوق الموتة عصة قبر، كل شي مؤجل عمله بالبيت لتجي الكهربا، من الغسيل والكوي للاستحمام والطبخ والدراسة، حتى الأكل بالبراد وخصوصي بالصيف لا يصمد بلا كهربا، وآخر شي بتطالبك الحكومة بدفع فواتير الكهرباء”.

وتشير ريما في حديثها لـ “صالون سوريا” إلى آخر “فنون الحكومة” كما وصفتها، وهي رفع شعار التوجه للطاقات البديلة وتشجيع المواطنين على الاستثمار فيها عن طريق تركيب ألواح الطاقة الشمسية على أسطح المنازل لتوليد الكهرباء وتقول: “فكرة حلوة، لكن تطبيقها في ظل الحرب بسوريا صعب كتير، بدها مصاري كتير، والله أعلم بالحال“.

منفذ جديد للفساد

مؤخرا بدأت الحكومة السورية دعواتها إلى اعتماد الطاقة البديلة كحل لأزمة نقص الكهرباء في البلاد في ظل أزمة المحروقات الخانقة، بدلاً من اعتماد السوريين على البطاريات المستخدمة للإنارة وشحن الإلكترونيات المنزلية، والأمبيرات التي شاع استخدامها.

يبين طريف محمد  وهو مهندس في مجال الطاقات المتجددة بأن “الطاقة الشمسية حل سريع ومجدي لتوليد الكهرباء بالنسبة للمنازل أو الورشات والمعامل الصناعية والتجارية، لكن بشرط توفر رأس المال والإرادة الحقيقية للمستثمر باستيراد أفضل أنواع ألواح الطاقة الشمسية” ويشير المهندس طريف لفوائد الاستثمار في هذا المشروع خاصة مع وجود توجه عالمي نحو الطاقات البديلة، لكنه يخشى في نفس الوقت من فاعلية تطبيق هكذا مشاريع في سورية، فالطاقة المتجددة كما يشرح لـ “صالون سوريا” ”تحتاج لميزانيات مالية كبيرة لتغطية حاجة سوريا منها، فضلاً عن ضرورة وجود مساحات شاسعة وتوزيع صحيح لألواح الطاقة“.
من جانبه يؤكد فاضل زين الدين، وهو خبير في الاقتصاد، الجدوى الاقتصادية لاستخدام الطاقة الشمسية كطاقة متجددة لتوليد الكهرباء، إضافة لكونها صديقة للبيئة. ومع التوجه الحكومي للاستثمار بالطاقة البديلة، تم إصدار قرار بإحداث صندوق دعم استخدام الطاقات المتجددة، ورفع كفاءة الطاقة  لتشجيع المواطنين. لكن يبدي فاضل الكثير من القلق من دخول التجار إلى ميدان فساد جديد من أوسع أبوابه ويقول: “بدأنا نشهد تنافساً فيما بين التجار والقطاع الخاص تحديداً للهيمنة على الأسواق والتي تم إغراقها بألواح الطاقة الشمسية، والسيء في الأمر أن هناك الكثير من الأنواع غير الصالحة للاستخدام مع وجود ماركات مزورة، ومعظم الأنواع مستوردة من الصين، ولكن يتم بيعها للناس بأسعار مرتفعة كنخب أول، وهي في الحقيقة ستوك!”

النور للأغنياء فقط

إعلانات ترويجية ومعارض لشركات متخصصة بالطاقة الشمسية بدأت تغزو الشوارع والأحياء، لتغري ميسوري الحال القلة المتواجدين في سوريا للتحول لهذه التقنية الجديدة للحصول على الكهرباء والإنارة، أما السواد الأعظم من الفقراء فلا حول لهم ولا قوة.

“أنا وزوجي مو قادرين نكفي مصاريف ولادنا، منين بدنا نجيب ملايين للكهرباء، بلاها أحسن” بهذه العبارة تختصر رنا سلوم وضعها، وتعمل رنا هي وزوجها في مؤسسة حكومية ويسكنان مع أولادهم الثلاثة في منزل للإيجار بمنطقة دويلعة بريف دمشق.

ولعدم قدرتها على التفكير بخيار الطاقة الشمسية، عمدت رنا لتركيب ليدات وبطاريات فقط لإنارة منزلها ،أما بالنسبة للطاقة البديلة فذلك ضرب من الخيال لأسرة رنا كما معظم السوريين الفقراء. تقول رنا “لدينا مصاريف كثيرة من آجار البيت إلى مصاريف الأولاد والاحتياجات الأساسية، ولا يتعدى مجموع راتبي وراتب زوجي 200 ألف ليرة، تركيب الطاقة الشمسية ليس لنا، وهذا حلم ورفاهية لا نستطيع تحمل أعبائها المادية، وحتى بعد أن أطلقت الحكومة قروض ميسرة لتركيب طاقة شمسية، من أين لنا أن أسدد القرض الذي يقدر بالملايين؟“.

وحتى من تحمّل هذه الأعباء المادية واستخدم الطاقة البديلة من مدخراته، لم يحظ بما أمل به، كما حصل مع صفوان الحريري، فبعد أقل من شهر على تركيبه منظومة الطاقة الشمسية على سطح منزله الواقع في دوما، يصف صفوان لــ “صالون سوريا” كيف تصاعد الدخان من بعض أجزاء المنظومة وأدى بالتالي إلى إعطابها، وبعد توجهه لمهندس كهربائي لمعرفة السبب، تبين أن العطل بسبب رداءة نوع الألواح التي اشتراها من إحدى الشركات التي ادعت بأنها ”نخب أول وممتاز“، يقول صفوان “الفساد صار بكل شي، ما عدنا نعرف النوعيات الجيدة من السيئة، والكل بده ينهب من جيب المواطن“.

حاول صفوان التواصل مع مندوبي الشركة التي باعته منظومة الطاقة الشمسية، للسؤال عن سبب الدخان والعطل في المنظومة فكان الجواب “نحن غير مسؤولين عن حال المنظومة بعد التركيب”، هكذا فقط وبدون تقديم أية مبررات أخرى تشفي غليل صفوان بعد تعرضه لعملية الاحتيال هذه وسرقة الشركة لملايين الليرات التي كان يدخرها.

الطبيبة راما مرهج، من جهة أخرى، حالفها الحظ بتركيبها لمنظومة طاقة شمسية بنوعية جيدة لتشغيل المعدات الكهربائية في عيادتها. ولتتمكن من ذلك لجأت إلى طلب المساعدة من أخيها الذي يعمل في الإمارات لتحويل مبلغ 16 مليون ليرة لتتمكن من شراء المنظومة وتقول لـ“صالون سوريا“٬ “كان الله في عون اللي ماله حدا، الناس بالبلد مو عايشة، صار المغترب المنقذ المالي للأهل، هادا إن كان وضعه منيح بالغربة”. أما بالنسبة للتراخيص المطلوبة لتركيب الألواح الشمسية، تشيرد. راما إلى أنها قامت بتقديم طلب رسمي لمحافظة دمشق وعليه تمت الموافقة بعد الكشف على البناء وملكيته وأخذ الموافقة من سكان البناء، لكن الشك لازال يراود راما خوفاً من إضافة شروط جديدة لتركيب المنظومة، وإن كانت ستدخل في دوامة المخالفات أم لا، خاصة بعد إعلان الحكومة بأن الترخيص إجراء مؤقت إلى حين الإعلان الرسمي عن الشروط والأسس المتعلقة بآلية تركيب الألواح الشمسية.

التكلفة المالية

ألواح وبطاريات وانفرتر ومنظم شحن، هي الأجزاء الأساسية لجهاز الطاقة الشمسية، ويشرح الخبير بتركيب أجهزة الطاقة الشمسية المولدة للكهرباء بديع علي لـ”صالون سوريا” عملية تركيب الألواح، بأنها تبدأ بحساب الحمل الكهربائي وبناء عليه تقدر الكلفة المالية للشراء ويقول: “مافينا نعطي رقم مالي محدد لأن الحساب مرتبط بسعر الدولار، وسعر الدولار غير مستقر في سوريا، لكن الأسعار تتراوح مابين عدة ملايين لإنارة منزل فقط بدون استخدام الأجهزة الكهربائية، وتصل إلى 40 مليون ليرة للنوعيات الأفضل وبحسب مساحة وكلفة المشروع.” 

أما عن كيفية حساب التكلفة المالية فيشرح سامر كبول الذي يعمل كمحاسب مالي لدى إحدى شركات الطاقة لــ”صالون سوريا” بأن الكلفة يتم تحديدها بحسب استطاعة الألواح وعدد الأجهزة التي تشغّلها، وعليه يتم احتساب والألواح والانفرتر والحديد والكابلات والبطارية وقواطع الحماية، ويضيف “تقدر الشركات حالياً حساب سعر الواط الشمسي مابين 30 إلى 35 سنت، ولتشغيل أغلب الأجهزة الكهربائية في المنزل الواحد تحتاج الطاقة إلى 3 آلاف واط شمسي، وسعر اللوح بنوعية جيدة يقدر بمليون ليرة، ويتطلب تركيب 8 ألواح شمسية مع تركيب بطاريتين سعر الواحدة تبلغ مليون ونصف ليرة بالإضافة إلى العناصر الأخرى من قواطع وكابلات وحديد، فبذلك تبلغ الكلفة الإجمالية تقريباً ما بين 8 إلى 20 مليون ليرة سورية للمنزل الواحد.” مع الإشارة إلى أن البطارية تعمل لمدة 5 سنوات فقط والألواح لمدة 20 عام.

المسؤولية الحكومية

“تقع مسؤولية التأكد من جودة الألواح والانفرترات ومنظمات الشحن والبطاريات على عاتق الحكومة وعلى مركز بحوث الطاقة التابع لوزارة الكهرباء وعلى مسؤولية الجمارك ومديريات الاقتصاد التي تمنح إجازات الاستيراد” بحسب كمال وهو اسم مستعار لمسؤول في المركز الوطني لبحوث الطاقة أكد لـ “صالون سوريا”، أما بالنسبة لإجازات الاستيراد فهي مسؤولية مديريات الاقتصاد التي تمنح هذه التراخيص إضافة إلى الجمارك. ويقول كمال “هذه المنظومات الرديئة دخلت إلى سوريا دون معرفة مركز بحوث الطاقة، رغم أن الآلية الحكومية المتفق عليها بالتوجه نحو الطاقات البديلة تشدد على عدم منح أي إجازة استيراد لمنظومات الطاقة الشمسية إلا بعد عرضها على مركز بحوث الطاقة لتحديد المواصفات الفنية المسموح بها“.

ويشير فاضل سمور الأكاديمي الاقتصادي لــ”صالون سوريا“ بأن “الترويج الواسع والتوجه الحكومي للطاقات المتجددة فتح باباً آخر لتجار الأزمات لممارسة الفساد وجني المال من الناس” منوهاً إلى أن الطاقة الشمسية ليست بديلة تماماً بل هي داعمة لمحطات توليد الكهرباء، أما بالنسبة للطاقة الريحية فلا يوجد استثمار حقيقي لها خاصة أن هناك فقط عنفتين ريحيتين في سوريا كلها رغم أن الاعتماد على العنفات الريحية يوفر على الدولة ملايين الدولارات سنوياً، وفق فاضل. 

رغم الحرب.. سوريون يتسابقون لدخول غينيس

رغم الحرب.. سوريون يتسابقون لدخول غينيس

الساعة الثانية ليلاً لكن الضوء مازال يعمل في غرفة لمى، والألوان منتشرة في المكان، بينما تعمل بجد محاولة الانتهاء من لوحتها الضخمة التي قررت تنفيذها لتكون صاحبة رقم قياسي وتدخل سجل غينيس، في وقت تعاني بلادها من أوضاع اقتصادية صعبة وظروف معيشية سيئة للغاية، لكن ذلك لم يمنع الشابة العشرينية من الحلم.

لمى مع لوحتها

ليال طويلة عملت فيها لمى على لوحتها خلال خمسة أشهر بالتوازي مع دراستها في كلية العمارة، لتنجح في النهاية من انجاز لوحة ضخمة برسم الماندالا أبعادها 488 ضرب 488 تضم عدداً كبيراً من الدوائر المتداخلة بالإضافة للدوائر الحرة، ولتتمكن في تأمين هذه المساحة الضخمة قسمت اللوحة إلى أربعة أرباع، في كل ربع يوجد دائرة مشابهة للدائرة الموجودة في الربع الآخر كي تكون متكاملة، فضلاً عن وجود دائرة في المركز تعتبر قلب اللوحة، كما يوجد خطوط انسيابية تربط بين الدوائر.

الفكرة بالنسبة للمى كانت نوعاً من التحدي، لكنها دخلته ونجحت به، ثم كانت الصعوبة الأكبر بالحصول على اللقب، وإقناع غينيس بأن عملها حقيقي خاصة مع عدم وجود مندوبين للسجل في سورية، وتشرح لمى ”المراسلات كانت معقدة واحتاجت عملاً طويلاً، وفي كثير من الأحيان كنت أشعر بالإحباط وأظن بأن حلمي لن يتحقق، لأن الموضوع استغرق حوالي السنتين حتى حصلت أخيراً على الرقم القياسي العالمي ونلت الشهادة الدولية“.

لمى تعرف أن الرقم لن يقدم لها أي إضافة مادية، وربما لن يفدها بشيء في الوقت الحالي، لكنه معنوياً يعني لها ولمنطقتها، دير عطية، التي ساندتها خلال رحلتها ووقفت معها بكل خطوة وفرحت لفرحها.

وعن تعرفها على فن الماندالا وتعلمها له، تقول لمى ”الأمر يرجع لفترة الشهادة الثانوية، وللتخلص من الضغط المرافق للدارسة بدأت بتعلم هذا الفن والتعرف عليه، وكنت أشعر بنوع من الراحة النفسية كلما نفذت عملاً، لهذا قررت البحث في هذا الفن الهندي أكثر، والتعرف على تقنياته وقررت التخصص بفن الـ “Dotmandala” أو التّنقيط النّافر، لأنه أقل انتشاراً، فتدربت عليه بشكل جيدٍ حتى أنجزت لوحتي الضخمة بهذا النوع من الفن“..

صائد غينيس

من جهته لم يكتف محمد فيضو، وهو من اللاذقية، برقم واحد، إنما حصد حتى اليوم أربعة عشر رقماً، وينوي الوصول إلى عشرين رقم قياسي خلال حياته. 

اختار فيضو المجال الرياضي و بدأ بالتدريب من عمر السبع سنوات، ليحصل على العديد من الجوائز والبطولات المحلية، ولشدة تعلّقه بالرياضة كان يتدرب لعشر ساعات يوميا، بشكل منظم ومكثف، الأمر الذي دفعه للتفكير بالحصول على لقب عالمي، فنجح في عام 2021 من دخول سجل غينيس ست مرات، وثمان مرات في سنة 2022.

يقول فيضو وهو طالب كلية تربية رياضية ومدرب كمال أجسام ولياقة بدنية، لـ“صالون سوريا“، ”أنا متفرغ لغينس، ورغم عدم نيلي لأي تكريم أو تمويل محلياً، لكنني أصر على تسجيل الأرقام، وهو تحدي مع نفسي وشيء مهم بالنسبة لي، كما أن الأرقام القياسية هي هدف أحققه لنفسي، ولا أنتظر أي شيئ من أحد“. ويشير فيتو بأن الحصول على أول لقب احتاج منه جهداً ليفهم آلية تقديم الطلب بشكل صحيح، وطريقة التوثيق، وللوصول لهذه المعرفة قدم عدة طلبات فاشلة، ولكنه أدرك الطريقة صحيحة لاحقاً.

أول رقم سجله كان تمرين الضغط الجانبي بـ93 ضغطة بدقيقة واحدة، محطماً الرقم السابق لألماني بـ 55 ضغطة بدقيقة واحدة”، وآخر رقم سجله كان الضغط على القبضة مع وزن 100 باوند بـ 81 ضغطة بثلاث دقائق، والرقم السابق كان لرياضي استرالي بـ 70 ضغطة بثلاث دقائق.

ومن الأرقام التي سجلها ضغط مع رفع رجل واحدة مع وزن 100 باوند بـ51 ضغطة بدقيقة واحدة، والرقم السابق كان لباكستاني بـ42 ضغطة بدقيقة واحدة”، و سكوات مع القفز للأعلى مع وزن60 باوند بـ44 تكرار بدقيقة واحدة، وكان الرقم السابق صيني بـ34 تكرار بدقيقة واحدة”.

رقمان وأحلام جديدة

وفي المجال الرياضي أيضاً تمكن الشاب يزن صالح من مصياف من تحطيم رقميين قياسيين في سجل غينيس آخرهما كان تنفيذ 222 حركة “سكوات” خلال دقيقتين و58 ثانية، وبذلك كسر صالح الرقم السابق البالغ 206 حركة خلال 3 دقائق، أما الرقم الأول الذي ناله فيرجع لتمكنه من جر سيارة دفع رباعي تزن 3 أطنان لمسافة 100 متر، وهذه التجربة نفذها في جامعة تشرين أمام حضور كبير.

يزن مع شهادة غينس

يقول صالح (٢٣ عاماً) ”أنا كبقية من سجل أرقام قياسية في سورية، لم أنل أي دعم أو تبني، كما أنني أواجه صعوبات عديدة لأتمكن من نيل اللقب، فالسجل يطلب شروطاً صعبة للتوثيق، وقد كلفتني تجربتي الأولى قرابة المليون ليرة سورية لأتمكن من توفير التصوير المناسب، وفي المرة الثانية نفذت التحدي تحت إشراف نادي حطين الراضي كوني مدرب لياقة في النادي، وهذه الرعاية وفرت علي مصاريف التوثيق“.

 ويزن يدرس اليوم في كلية التربية الرياضية وهو بطل جمهورية بألعاب القوى (وثب طويل وثلاثي و٢٠٠ متر)، وبطل جمهورية بالقوس والسهم، بدأ الرياضة بعمر الخمس سنوات، نال خلال مسيرته الرياضية 53 شهادة محلية ودوليه، واليوم يحضر للقب جديد، ويقول عن سبب إقدامه على هذه التحديات ”الموضوع هو تحد شخصي في ظل الظروف الصعبة في البلد، والدعم شبه المعدوم للوصل إلى العالمية بأقل الإمكانيات“.

غينيس لحائط مدرسي

 وفي دمشق تمكن حائط مدرسي من الحصول على لقب في سجل غينيس عام 2014، بفضل لوحة فنية نفذها عدد من الفنانين التابعين لوزارة التربية، استعان الفنانون بمخلفات قاموا بإعادة تدويرها، وصمموا من خلالها لوحة فنية باتت مَعلماً في منطقة المزة.

الحائط الملون صُنع من أغطية عبوات بلاستيكية أو فناجين مكسورة أو بقايا صحون وغيرها. الفنان موفق مخول المشرف على مجموعة ”إيقاع الحياة“، التي رسمت اللوحة يقول إن مساحتها تتجاوز الـ 720 مترا مربعا، وقد نالت لقب أضخم جدارية على مستوى العالم، تم تنفيذها من بقايا “مواد بيئية“.

استغرق تنفيذ هذه اللوحة حوالي الستة أشهر، وكان الهدف منها ”نشر الفرح بين الناس والفن، وتحويل الجدران الصماء الشبيهة بجدران السجن لجدران تنبض بالحياة، لتواجه ظروف الحرب التي تعاني منها البلاد، وفي الوقت عينه تشجع الأطفال على الحفاظ على البيئة واعتماد مبدأ إعادة التدوير“ بحسب قوله.

وعن كيفية دخول اللوحة لسجل غينيس أشار مخول لـ“صالون سوريا“ إلى أن ”دارم طباع -ولم يكن حينها وزيراً للتربية- راسل (غينيس) عن طريق الإنترنت، وعرض عليهم الفكرة فشجعوا الأمر، وطلبوا صوراً وفيديوهات لتوثيق التجربة، وتمكن الفريق من نيل اللقب خلال ثلاثة أشهر من انتهاء اللوحة.“

 وشارك في تشكيل اللوحة كل من الفنانين: صفاء وبي، رجاء وبي، علي سليمان، ناصر نبعة، حذيفة العطري، والمساعدين: عدنان العبدالله، حسين مصطفى، محمود السبينة.

قاصرات أمهات ومطلقات في إدلب

قاصرات أمهات ومطلقات في إدلب

“لا تذهبي إلى العمل ولا تزوري صديقاتك، لا تخرجي بمفردك ولا تستخدمي الهاتف الجوال، أنت مطلقة وصغيرة، ولقمة سائغة لدى ضعاف النفوس” هذه عبارة من قائمة طويلة من اللاءات، التي تتردد باستمرار على مسامع الطفلة هنادي المصطفى (15 عاماً) وهي من بلدة حربنوش شمال إدلب.

هنادي عادت إلى منزل أهلها مكسورة القلب والخاطر، بعد أن وقعت ضحية الزواج المبكر بسن الثالثة عشرة، لينتهي زواجها بالطلاق بعد فترة وجيزة، وتجد نفسها مُدانة من المجتمع، ومُراقبة من قبل الأعراف والعادات التي تظلم المطلقة وتتحكم بتحركاتها وجميع تفاصيل حياتها .

قصة هنادي لا تختلف عن كثير من القاصرات اللواتي أجبرن على الزواج بأعمار مبكرة نتيجة فقر الحال وسوء المعيشة وانعدام الأمن إلى جانب هيمنة الأعراف المجتمعية، لينتهي بهن الحال غالباً إلى الطلاق بسبب قلة خبراتهن الحياتية، وانعدام الاستقرار العاطفي، وغياب الوعي بمسؤوليات الحياة الزوجية .

تتحدث هنادي لصالون سوريا عن زواجها المبكر بالقول: “كنت عائدة من مدرستي حين طلب مني والدي التوقف عن ارتياد المدرسة للزواج من شاب تقدم لخطبتي يكبرني بأكثر من 12 عاماً .”

غادرت هنادي مدرستها وطفولتها، واعتقدت أن “طاقة الفرج” فتحت أمامها، لأنها لم تكن تعرف عن الزواج سوى حفلة الزفاف وشراء الحلي وارتداء الفستان الأبيض، لكن الصدمة كانت بأن زواجها لم يستمر سوى شهرين فقط، وعن معاناتها تقول: “لم أستطع تحمل زواج لست مستعدة له؛ ووجدت نفسي أمام مسؤوليات تفوق عمري بكثير، ولم أتمكن من تحمل عصبية زوجي ومزاجيته، وانتقادات أهله المتكررة لتصرفاتي، فعدت إلى منزل أهلي وطلبت الطلاق .”

وتتمنى هنادي أن تتعافى من هذه التجربة وأن تعود إلى مقاعد الدراسة لتستعيد تحقيق أحلامها. 

تشترك بهذه المعاناة لينا السماحي (18 عاماً) النازحة من مدينة معرة النعمان إلى مخيم في مدينة أطمة الحدودية مع تركيا، التي تزوجت بعمر الرابعة عشرة، ولا تزال قضية طلاقها متعثرة وعالقة في المحاكم الشرعية، وعن ذلك تقول: “بعد وفاة والدي ونزوحنا من مدينتنا اضطررت للإقامة مع أمي وأخوتي الستة في مخيم عشوائي يفتقد مقومات الحياة، لذلك قررت أمي تزويجي لشاب تقدم لخطبتي ظناً أنه سيخلصني من حياة النزوح والتشريد، ولكن سرعان ما خرجت من هذا الزواج بلقب مطلقة، باعتبار زواجي استمر سنة واحدة فقط، ثم طلبت الطلاق من زوجي الذي كان يضربني ويعنفني باستمرار، مستغلاً صغر سني وفقر حال أسرتي .”

تمردت لينا على الضرب والإهانة وطلبت الانفصال، لكن زوجها اشترط عليها التخلي عن جميع حقوقها مقابل الطلاق، وعندما رفضت أمها ذلك، قررت أن تحصل حق ابنتها عن طريق المحاكم.

تعود الكثير من القاصرات لبيوت ذويهن كمطلقات ومعهن أولادهن، الأمر الذي يزيد من أعباء الحالة الاقتصادية ويزيد الوضع سوءاً.

كعبير العبيدان (17 عاماً) من مدينة إدلب، والتي تخلت عن مهرها مقابل حضانة ابنتها، وعن ذلك تقول: “تزوجت بسن الرابعة عشرة، وبعد إنجاب طفلتي الأولى اكتشف زوجي أنني لست الفتاة التي كان يحلم بها وقرر الزواج من فتاة أخرى، ما أدى لنشوب خلافات كثيرة بيننا، وحين طلبت الطلاق اشترط علي التخلي عن المهر مقابل حضانة ابنتي، فوافقت على ذلك، لكن أهلي قرروا إعادة الطفلة إلى أبيها لتزويجي من رجل آخر، لأنني لا أزال في مقتبل العمر والفتاة من وجهة نظرهم ليس لها سوى منزل زوجها، فرفضت الزواج الثاني وهددت بالانتحار في حال حرماني من ابنتي.”

وتضيف عبير بكآبة ارتسمت على وجهها: “حين أحمل طفلتي بين ذراعي أحن لطفولة لم أكملها، وأتمنى أن أربيها أفضل تربية وأحيطها بالرعاية والحنان.”

وبلغ عدد حالات الطلاق المسجلة في شمال غرب سوريا الخاضع لسيطرة حكومة الإنقاذ خلال شهر أيار الماضي 279 حالة طلاق، بينما زادت حالات الزواج عن ثلاثة آلاف حالة بحسب وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ السورية.

المختصة بالإرشاد النفسي نور السبيعي (32 عاماً) من مدينة سرمدا تتحدث لـ“صالون سوريا” عن أثر الطلاق على القاصرات بالقول: “ساهمت ظروف الحرب بانتشار ظاهرة زواج القاصرات، وخاصة في بيئات النزوح، حيث يضطر الكثير من الآباء إلى تزويج بناتهم في سن مبكّرة تحت وقع الظروف الصعبة.”

وتضيف السبيعي: “تترتب على زواج القاصرات الكثير من المآسي الاجتماعية والنفسية، حيث يعد زواج الفتاة القاصر بمثابة تعدٍ على طفولتها، وتدمير كامل لمستقبلها، لأنها لم تكتسب المعارف الحياتية بعد، فتكون غير قادرة على حل مشاكلها والتعامل السليم مع زوجها، وكيفية العناية بالأسرة والزوج والأطفال، والتعامل مع محيطها الاجتماعي، الأمر الذي يعرضها لمشكلات كثيرة تنتهي بالطلاق بعد فترة قصيرة من الزواج.”

وتشير أن القاصر التي تعيش تجربة الطلاق تمرّ باضطرابات نفسية عميقة، خاصة أنها تكون في مرحلة بناء الشخصية، الأمر الذي يؤثر سلباً على نفسية الفتاة، ويقلل الشعور لديها بأهمية الحياة ويساهم بانخفاض تقديرها لذاتها، وفقدان الثقة بالنفس.

وتلفت أن المجتمع لا يدعم الفتاة المطلقة، بل يلومها على وصولها إلى هذه المرحلة، مما يولد لديها الشعور بالعزلة والاضطراب والتوتر والقلق، ويخلّ بمهارات التواصل مع الآخرين .

وتشدد السبيعي على ضرورة تشجيع الفتيات على إكمال تعليمهن فضلاً عن فرض قوانين صارمة وتوعية الأهالي بمخاطر الزواج المبكر الذي يعد “جريمة بحق الطفولة“ بحسب قولها.

 النّدابة.. قرباطية تؤجر حزنها لتبكي أمواتاً لا تعرفهم 

 النّدابة.. قرباطية تؤجر حزنها لتبكي أمواتاً لا تعرفهم 

هاتف ليلي لأحد الأصدقاء في العام ٢٠٠٩، دفعني لمشاركته رحلة سفر نحو واحدة من مدن ريف حمص الشرقي، وطيلة الطريق الذي استغرق نحو ست ساعات تقريباً، كان الحديث يعود باستمرار لسيرة عم صديقي الذي توفي بحادث سير ناجم عن القيادة بسرعة تحت تأثير الكحول. كان المتوفى عائداً من سهرة في أحد الملاهي الليلية وترافقه راقصة تحمل جنسية إحدى الدول المغاربية.

 لم يكن هذا الحديث معتاداً بالنسبة لي، فهو عكس ما تقوله القاعدة المعروفة “اذكروا محاسن موتاكم”، فصديقي ذاك كان يوغل في نبش الحكايا السيئة عن عمه الذي يصرف مبالغاً طائلة على ملذاته، فيما يبخل على أسرته بالمصروف، وهو رجل يعمل بـ “الربى”، فلا يُعطي مالاً بدون فائدة حتى لأقاربه المقربين، وعموم ثروته كدسها من سرقات من القطاع العام، حينما كان مسؤولاً في مؤسسة حكومية بحمص تُعنى بإنشاء مباني المشروعات. بدا لي هذا الرجل بغيضاً من خلال حديث ابن أخيه الذي أجبر على حضور العزاء من باب الواجب العائلي، إلا أنه صدمني بجنازته.

الدهشة الأولى

سار موكب الرجال يحمل النعش بخطى ثقيلة، وفي الخلف نسوة تتقدمهن مسنة تبكي الميت بحرقة، وتردد جملاً توحي بأن ما قصّه صديقي عن عمه كان كذباً، خلف المرأة نسوة يبكين بحرقة أيضاً، فيما بقية النساء يمشين بهيبة ووقار دون إبداء الحزن الشديد.

سألت صديقي عن المرأة التي كانت تبكي بحرقة وتندب الميت بكلام مقفى، قلت له “هي شاعرة”، فرد “كل الندّابات شاعرات”، صُدمت ولم استوعب الجملة التي قالها، وبعد انقضاء الدفن والعزاء، سألته عن مدى قرابة المرأة لعمه، فقال ببساطة «قلت لك هي ندّابة، قرباطية تبكي مقابل مبلغ متفق عليه سلفاً»، والصدمة أن كل النساء اللواتي بَكَين عمه في التشييع كنّ من القرباطيات اللواتي يحضرن مثل هذه المناسبات ليبكين نيابة عن نساء العائلة.

خلال عملية بحث عن «القرباط» في محيط العاصمة السورية دمشق، كان مشهد الندّابات هذا يقفز من الذاكرة. تحاول سميرة التي قاربت العقد الخامس من العمر، و تعمل بهذه المهنة من سنوات أن تجيب عنه، وتقول لـ“صالون سوريا“: ”المرة الأولى التي شاركت فيها بتشييع ميت كنت بعمر السادسة عشرة، حينها خرجت ملتفحة بالسواد برفقة مجموعة من نساء المخيم الذي كنت أعيش فيه مع أهلي، صعدنا في صندوق سيارة “بيك آب”، أرسلها ذوي الميت آنذاك، وكنّ مشغولات بالغناء في طريق الذهاب، وبعدّ المال والحديث عما شهدناه في العزاء من كرم أو بخل أو تصرف نسوة آل المتوفى في طريق العودة“.

وتشير سميرة إلى أن جدتها كانت تسأل “حين وصولنا عن اسم الميت ولقبه فقط، لتبدأ بعدها بإلقاء ما تحفظه من رثاء سواء كان شعراً أو أغانٍ، ولحرقة بكائها كنا نبكي معها، وكأننا نبكي على حالها“ بحسب قولها.

حكايا لحزن مفترض 

في ثمانينيات القرن الماضي كانت جدة سميرة تتقاضى ٥٠ ليرة كاملة عن الندب على ميت لا تعرفه، وتحصل النسوة التي ترافقنها على مبلغ ١٠ ليرات لكل منهن، زاد المبلغ في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي  ليصبح ١٢٥ ليرة للندابة، وخمسين لكل من ترافقها، ويُحدد عدد المرافقات وفقاً لطلب ذوي الميت.

أما خولة، فقد كانت أولى مشاركاتها في عملية الندب في أوائل التسعينات، حينها خرجت برفقة أمها لعزاء بريف حمص الشرقي أيضاً، وكان الميت وفقاً لما تذكره مختاراً لقريته، وكان ذوي المختار كرماء، فحصلت كل النساء اللواتي رافقن أمها على مبلغ ٢٥ ليرة كـ “إكرامية”، أو “بقشيشاً”، فيما حصلت أمها على ٢٠٠ ليرة كاملة، فقد بكت حينها بحرقة وكأنها أم الميت أو حبيبته،.

من جهتها تروي خلود لـ ”صالون سوريا“: ”كانت أمي تعمل كحفّافة، أي تقوم بتزيين النساء وإزالة الشعر من وجوههن باستخدام الخيط، ولأنها ذات صوت جميل كانت النسوة يمنحنها وقتاً إضافياً لتغني لهن مقابل بقشيشاً تحصل عليه بعد إنهاء حفلة التزيين، ولم تكن معروفة كندّابة، إلا حين رغبة ذوي أحد الموتى باستقدامها لتندب في عزائهم“، ولا يوجد لدى «القرباط»، تفسير لسبب احتياج سكان القرى لهم في مثل هذه المناسبات إلا بكون ذوي الميت يريدون أن يتباهوا حتى في حزنهم.

عن عمرها تجيب خلود ”مثل ما أذكر ٦٥ سنة“، أما عن الندب فتقول “لا أذكر أن ثمة من طلب نساءً للندب في عزاء منذ عام ٢٠٠٥، كان وقتها ضمن عزاء بقرية في ريف حماه الشرقي، حينها استقلينا السيارة لمدة تزيد عن ساعة لنصل للقرية، وتقاضينا حينها مبلغ ١٥٠٠ ليرة سورية لكل منا، وكنا عشر نسوة، والطريف في الأمر أن النساء اللواتي كنّ يندبن خلال عزاء الميت، وما إن يعدن لثيابهن المزركشة بعد انقضاء المهمة، ليمارسن حياتهن الاعتيادية“.

وفي صباح اليوم التالي سيكون موعدهن لشرب كأس من الشاي أمام إحدى الخيام، ليتشاركن أسرار النساء الحاضرات من أقارب ومعارف الميت، وضمن هذه الجلسة يسخرن من “نساء الحضر“، اللواتي يبدين نوعاً من التحفظ في الاختلاط مع الندّابات لكونهن ”قرباطيات – نوَريات“، وما يثير سخرية الندّابات أكثر هو إنهن يبكين نيابة عن أولئك النساء.

وتردد الندّابات، كل ما يحفظنه من قصائد الرثاء المكتوبة شعبياً، وهي مستقاة من بيئة المنطقة التي يقع فيها هذا المخيم أو ذاك، وغالباٍ ما تكون جملاً من الموروث الشعبي للمنطقة، وتستذكر ونس، بعضاً من جمل جدتها في حالات الندب المأجور ومنها “وشربت من ميهم قطّع معاليچي.. بموتك شلون يبل الوگت ريچي“، ومعناه أن الراثية تسأل المرثي بعد أن شربت من ماء الغرب وتقطعت أحشاؤها وجعاً، كيف سيرويها الزمن..؟!.

أكثر ما كان يهم الندّابات هو قطع اللحم التي يحصلن عليها كحصة من الذبائح التي ينحرها أصحاب العزاء لتكون وليمة لضيوفهم، ويعدن محملات بخبز الصاج الطازج.

ويُعرف عن القرباط عملهم في مهن ”تبييض الأواني النحاسية – تركيب الأسنان المعدنية – لحام أغطية صفائح تخزين الجبن – الطب العربي – الختان“، التي يمارسها الرجال، ذات المردود المنخفض، وهم يعتمدون على ما يحصلون عليه من ”إكرامية“ وهي تتنوع بين المال أو المواد العينية من قمح أو عدس أو ثياب مستعملة، والحال مثله للنساء اللواتي يمارسن في الحياة الاعتيادية مهناً مثل الحفّافة – الونّاسة (ترافق سائقي الشاحنات لتبث لهم الونس بالغناء والحكايا) – الدگاگة (ترسم وشوماً للنساء) – الحچية (امرأة تغني في خيمة ذويها لمن يحضر من زبائن)، وسواها من المهن الأخرى، وتعد عادة المشاركة في ندب ميت ما، ”رزقة“، لم تكن تأتِ كل يوم..

عن هذه المهن تشرح ميادة، لـ ”صالون سوريا“، ”ليس للموت موسم، ونساء القرباط يعتمدن في بعض المهن على الموسم، فـالحفّافة، تطوف بشكل مستمر لتلتقط رزقها، لكنه كان يزيد في موسم الأعراس في القرى، و الدگاگة، كانت تَشِم للنساء بعد موسمي حصاد الحبوب وقطاف القطن، ويزيد عمل الحچيات بعد المواسم لأن جيوب الرجال تمتلىء، لكن الندّابات، وهن غالباً من كبيرات السن اللواتي اعتزلن العمل، ينتظرن عزاء ليلطمن فيه، والتعازي لا تحدث كل يوم“.

تضيف المرأة الستينية التي تخاف من العودة للخيام: “الآن لم يعد ثمة ندّابات، الناس تعودت على كثرة الموت ولم يعد للعزاء ذات الطقوس التي كانت سابقاً، كما إن الناس لم تعد تجد خيامنا، فكل سكان مخيمات القرباط إما استقروا في المدن أو بالقرب من مخيمات النازحين، وفي كل الأحوال بات التسول مهنة غالبية النساء والأطفال، فيما يعمل الرجال في مهن مثل بيع الدخان أو جمع القمامة أو بيع المشروبات الساخنة“.

التسول.. كمصير

في ساحة المرجة تجلس سمر، وهي في العشرين من عمرها، مع والدتها السبعينية على كرسيين لشرب كأس من الشاي خلال فترة الظهيرة للاستراحة من التسول. وتستأجر سمر مع أسرتها المكونة من ١٤ فرداً غرفتين في فندق قريب بأجر يومي يصل إلى ٢٠ ألف للغرفة الواحدة، وهم جميعاً يتسولون لجمع مبالغ تكفي لمعيشتهم وفقاً لتعبيرها.

وتبوح أم سمر، التي أنجبت ابنتها في مخيم شرق العاصمة، قائلة: “كل نساء القرباط كن يحلمن ببيت طبيعي بدل الخيمة، الرجال هم من كان يتحكم بقرار الحل والترحال للقبيلة تبعاً لموسم العمل وشكله، لم يكن ثمة مستقر، وغالباً ما كنا نرحل ليلاً، فيستفيق الناس في مكاننا القديم على اختفائنا المفاجئ، فيما يستفيق سكان أقرب منطقة من المكان الجديد لمخيمنا على مفاجأة وجودنا، كان البعض يجبرنا على الرحيل خوفاً مما يسمعونه عنا من إشاعات، فالبعض يظن أننا نخطف الأطفال، والبعض يعتقد أننا نعمل بالدعارة، وتهم أخرى مثل ممارسة السحر والسرقة وما إلى هنالك“.