تدريباتنا

 النّدابة.. قرباطية تؤجر حزنها لتبكي أمواتاً لا تعرفهم 

بواسطة | يوليو 27, 2022

هاتف ليلي لأحد الأصدقاء في العام ٢٠٠٩، دفعني لمشاركته رحلة سفر نحو واحدة من مدن ريف حمص الشرقي، وطيلة الطريق الذي استغرق نحو ست ساعات تقريباً، كان الحديث يعود باستمرار لسيرة عم صديقي الذي توفي بحادث سير ناجم عن القيادة بسرعة تحت تأثير الكحول. كان المتوفى عائداً من سهرة في أحد الملاهي الليلية وترافقه راقصة تحمل جنسية إحدى الدول المغاربية.

 لم يكن هذا الحديث معتاداً بالنسبة لي، فهو عكس ما تقوله القاعدة المعروفة “اذكروا محاسن موتاكم”، فصديقي ذاك كان يوغل في نبش الحكايا السيئة عن عمه الذي يصرف مبالغاً طائلة على ملذاته، فيما يبخل على أسرته بالمصروف، وهو رجل يعمل بـ “الربى”، فلا يُعطي مالاً بدون فائدة حتى لأقاربه المقربين، وعموم ثروته كدسها من سرقات من القطاع العام، حينما كان مسؤولاً في مؤسسة حكومية بحمص تُعنى بإنشاء مباني المشروعات. بدا لي هذا الرجل بغيضاً من خلال حديث ابن أخيه الذي أجبر على حضور العزاء من باب الواجب العائلي، إلا أنه صدمني بجنازته.

الدهشة الأولى

سار موكب الرجال يحمل النعش بخطى ثقيلة، وفي الخلف نسوة تتقدمهن مسنة تبكي الميت بحرقة، وتردد جملاً توحي بأن ما قصّه صديقي عن عمه كان كذباً، خلف المرأة نسوة يبكين بحرقة أيضاً، فيما بقية النساء يمشين بهيبة ووقار دون إبداء الحزن الشديد.

سألت صديقي عن المرأة التي كانت تبكي بحرقة وتندب الميت بكلام مقفى، قلت له “هي شاعرة”، فرد “كل الندّابات شاعرات”، صُدمت ولم استوعب الجملة التي قالها، وبعد انقضاء الدفن والعزاء، سألته عن مدى قرابة المرأة لعمه، فقال ببساطة «قلت لك هي ندّابة، قرباطية تبكي مقابل مبلغ متفق عليه سلفاً»، والصدمة أن كل النساء اللواتي بَكَين عمه في التشييع كنّ من القرباطيات اللواتي يحضرن مثل هذه المناسبات ليبكين نيابة عن نساء العائلة.

خلال عملية بحث عن «القرباط» في محيط العاصمة السورية دمشق، كان مشهد الندّابات هذا يقفز من الذاكرة. تحاول سميرة التي قاربت العقد الخامس من العمر، و تعمل بهذه المهنة من سنوات أن تجيب عنه، وتقول لـ“صالون سوريا“: ”المرة الأولى التي شاركت فيها بتشييع ميت كنت بعمر السادسة عشرة، حينها خرجت ملتفحة بالسواد برفقة مجموعة من نساء المخيم الذي كنت أعيش فيه مع أهلي، صعدنا في صندوق سيارة “بيك آب”، أرسلها ذوي الميت آنذاك، وكنّ مشغولات بالغناء في طريق الذهاب، وبعدّ المال والحديث عما شهدناه في العزاء من كرم أو بخل أو تصرف نسوة آل المتوفى في طريق العودة“.

وتشير سميرة إلى أن جدتها كانت تسأل “حين وصولنا عن اسم الميت ولقبه فقط، لتبدأ بعدها بإلقاء ما تحفظه من رثاء سواء كان شعراً أو أغانٍ، ولحرقة بكائها كنا نبكي معها، وكأننا نبكي على حالها“ بحسب قولها.

حكايا لحزن مفترض 

في ثمانينيات القرن الماضي كانت جدة سميرة تتقاضى ٥٠ ليرة كاملة عن الندب على ميت لا تعرفه، وتحصل النسوة التي ترافقنها على مبلغ ١٠ ليرات لكل منهن، زاد المبلغ في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي  ليصبح ١٢٥ ليرة للندابة، وخمسين لكل من ترافقها، ويُحدد عدد المرافقات وفقاً لطلب ذوي الميت.

أما خولة، فقد كانت أولى مشاركاتها في عملية الندب في أوائل التسعينات، حينها خرجت برفقة أمها لعزاء بريف حمص الشرقي أيضاً، وكان الميت وفقاً لما تذكره مختاراً لقريته، وكان ذوي المختار كرماء، فحصلت كل النساء اللواتي رافقن أمها على مبلغ ٢٥ ليرة كـ “إكرامية”، أو “بقشيشاً”، فيما حصلت أمها على ٢٠٠ ليرة كاملة، فقد بكت حينها بحرقة وكأنها أم الميت أو حبيبته،.

من جهتها تروي خلود لـ ”صالون سوريا“: ”كانت أمي تعمل كحفّافة، أي تقوم بتزيين النساء وإزالة الشعر من وجوههن باستخدام الخيط، ولأنها ذات صوت جميل كانت النسوة يمنحنها وقتاً إضافياً لتغني لهن مقابل بقشيشاً تحصل عليه بعد إنهاء حفلة التزيين، ولم تكن معروفة كندّابة، إلا حين رغبة ذوي أحد الموتى باستقدامها لتندب في عزائهم“، ولا يوجد لدى «القرباط»، تفسير لسبب احتياج سكان القرى لهم في مثل هذه المناسبات إلا بكون ذوي الميت يريدون أن يتباهوا حتى في حزنهم.

عن عمرها تجيب خلود ”مثل ما أذكر ٦٥ سنة“، أما عن الندب فتقول “لا أذكر أن ثمة من طلب نساءً للندب في عزاء منذ عام ٢٠٠٥، كان وقتها ضمن عزاء بقرية في ريف حماه الشرقي، حينها استقلينا السيارة لمدة تزيد عن ساعة لنصل للقرية، وتقاضينا حينها مبلغ ١٥٠٠ ليرة سورية لكل منا، وكنا عشر نسوة، والطريف في الأمر أن النساء اللواتي كنّ يندبن خلال عزاء الميت، وما إن يعدن لثيابهن المزركشة بعد انقضاء المهمة، ليمارسن حياتهن الاعتيادية“.

وفي صباح اليوم التالي سيكون موعدهن لشرب كأس من الشاي أمام إحدى الخيام، ليتشاركن أسرار النساء الحاضرات من أقارب ومعارف الميت، وضمن هذه الجلسة يسخرن من “نساء الحضر“، اللواتي يبدين نوعاً من التحفظ في الاختلاط مع الندّابات لكونهن ”قرباطيات – نوَريات“، وما يثير سخرية الندّابات أكثر هو إنهن يبكين نيابة عن أولئك النساء.

وتردد الندّابات، كل ما يحفظنه من قصائد الرثاء المكتوبة شعبياً، وهي مستقاة من بيئة المنطقة التي يقع فيها هذا المخيم أو ذاك، وغالباٍ ما تكون جملاً من الموروث الشعبي للمنطقة، وتستذكر ونس، بعضاً من جمل جدتها في حالات الندب المأجور ومنها “وشربت من ميهم قطّع معاليچي.. بموتك شلون يبل الوگت ريچي“، ومعناه أن الراثية تسأل المرثي بعد أن شربت من ماء الغرب وتقطعت أحشاؤها وجعاً، كيف سيرويها الزمن..؟!.

أكثر ما كان يهم الندّابات هو قطع اللحم التي يحصلن عليها كحصة من الذبائح التي ينحرها أصحاب العزاء لتكون وليمة لضيوفهم، ويعدن محملات بخبز الصاج الطازج.

ويُعرف عن القرباط عملهم في مهن ”تبييض الأواني النحاسية – تركيب الأسنان المعدنية – لحام أغطية صفائح تخزين الجبن – الطب العربي – الختان“، التي يمارسها الرجال، ذات المردود المنخفض، وهم يعتمدون على ما يحصلون عليه من ”إكرامية“ وهي تتنوع بين المال أو المواد العينية من قمح أو عدس أو ثياب مستعملة، والحال مثله للنساء اللواتي يمارسن في الحياة الاعتيادية مهناً مثل الحفّافة – الونّاسة (ترافق سائقي الشاحنات لتبث لهم الونس بالغناء والحكايا) – الدگاگة (ترسم وشوماً للنساء) – الحچية (امرأة تغني في خيمة ذويها لمن يحضر من زبائن)، وسواها من المهن الأخرى، وتعد عادة المشاركة في ندب ميت ما، ”رزقة“، لم تكن تأتِ كل يوم..

عن هذه المهن تشرح ميادة، لـ ”صالون سوريا“، ”ليس للموت موسم، ونساء القرباط يعتمدن في بعض المهن على الموسم، فـالحفّافة، تطوف بشكل مستمر لتلتقط رزقها، لكنه كان يزيد في موسم الأعراس في القرى، و الدگاگة، كانت تَشِم للنساء بعد موسمي حصاد الحبوب وقطاف القطن، ويزيد عمل الحچيات بعد المواسم لأن جيوب الرجال تمتلىء، لكن الندّابات، وهن غالباً من كبيرات السن اللواتي اعتزلن العمل، ينتظرن عزاء ليلطمن فيه، والتعازي لا تحدث كل يوم“.

تضيف المرأة الستينية التي تخاف من العودة للخيام: “الآن لم يعد ثمة ندّابات، الناس تعودت على كثرة الموت ولم يعد للعزاء ذات الطقوس التي كانت سابقاً، كما إن الناس لم تعد تجد خيامنا، فكل سكان مخيمات القرباط إما استقروا في المدن أو بالقرب من مخيمات النازحين، وفي كل الأحوال بات التسول مهنة غالبية النساء والأطفال، فيما يعمل الرجال في مهن مثل بيع الدخان أو جمع القمامة أو بيع المشروبات الساخنة“.

التسول.. كمصير

في ساحة المرجة تجلس سمر، وهي في العشرين من عمرها، مع والدتها السبعينية على كرسيين لشرب كأس من الشاي خلال فترة الظهيرة للاستراحة من التسول. وتستأجر سمر مع أسرتها المكونة من ١٤ فرداً غرفتين في فندق قريب بأجر يومي يصل إلى ٢٠ ألف للغرفة الواحدة، وهم جميعاً يتسولون لجمع مبالغ تكفي لمعيشتهم وفقاً لتعبيرها.

وتبوح أم سمر، التي أنجبت ابنتها في مخيم شرق العاصمة، قائلة: “كل نساء القرباط كن يحلمن ببيت طبيعي بدل الخيمة، الرجال هم من كان يتحكم بقرار الحل والترحال للقبيلة تبعاً لموسم العمل وشكله، لم يكن ثمة مستقر، وغالباً ما كنا نرحل ليلاً، فيستفيق الناس في مكاننا القديم على اختفائنا المفاجئ، فيما يستفيق سكان أقرب منطقة من المكان الجديد لمخيمنا على مفاجأة وجودنا، كان البعض يجبرنا على الرحيل خوفاً مما يسمعونه عنا من إشاعات، فالبعض يظن أننا نخطف الأطفال، والبعض يعتقد أننا نعمل بالدعارة، وتهم أخرى مثل ممارسة السحر والسرقة وما إلى هنالك“.

مواضيع ذات صلة

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص فيلسوف المثال والواقع السوري

إلياس مرقص مفكر وفيلسوف سوري معاصر، ويعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين العرب. ومع أنه ماركسي شيوعي، إلا أن فلسفته اتسمت بطابع توفيقي جمع فيها بين، المادية والمثالية، إذ جعل من الفلسفة المثالية أو الهيجيلية مدخلاً ضرورياً للمادية أو الماركسية. لم تقف شخصية مرقص...

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

مواضيع أخرى

سأختار المضحك فقط

سأختار المضحك فقط

لا بدَّ في مواقف الحزن القصوى، كمجمع عزاءٍ مثلاً، من وقوع حوادث مضحكة، لا يملك المرء فيها إلا أن يستسلم للضحك بعد مكابدة طويلة. للأسف، أو ربما لحسن الحظ، تنفلت الضحكة عاليًا في النهاية ويحدث ما كنا نخافه. الأمر ذاته في الحروب والأزمات الكبرى، خصوصًا في المرحلة التي...

جورج طرابيشي بين الفلسفة والأدب

جورج طرابيشي بين الفلسفة والأدب

جورج طرابيشي فيلسوف وأديب سوري، يُعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين والقوميين العرب. ومن أكثرهم غزارة في إنتاجه الفكري وترجماته. وقد مرَّ في حياته - كما يروي هو - بست محطات كانت فارقة في مشواره الشخصي والفكري. أول تلك المحطات تجاوزه أو تحرره من ربقة المسيحية، التي تجعل...

ارتفاع تكاليف التربية ترهق مربي الأغنام في سورية

ارتفاع تكاليف التربية ترهق مربي الأغنام في سورية

يواجه مربو الثروة الحيوانية عموماً، والأغنام على وجه الخصوص تحديات تهدد مصدر رزقهم نتيجة ارتفاع تكاليف التربية مثل الأعلاف والأدوية البيطرية، إلى جانب الجفاف؛ العدو الأخطر على الزراعة والثروة الحيوانية في البلاد. يقول علي وهو مربي أغنام (عواس) في بلدة أبو الظهور بريف...

تدريباتنا