من سوريا إلى برلين: سرديات الحياة والموت في كتابات هنادي زرقة

من سوريا إلى برلين: سرديات الحياة والموت في كتابات هنادي زرقة

صدر للشاعرة السورية هنادي زرقة هذا العام كتابين في فترة متقاربة عن دار أثر وهما ديوان شعر بعنوان “مثل قلب على مدخل البيت” والثاني بعنوان “ماذا تعرف أنت عن الحرب”. 

جمعت زرقة في كتابها الثاني مقالات كانت قد كتبتها خلال الحرب السورية بعين الشاعرة الحساسة والواعية والمراقبة التي بقيت في البلد إلى فترة قريبة، ولم يمنعها وجودها في قرية من قرى الساحل البعيدة عن الأحداث المباشرة من الاقتراب من الهم العام والمشاركة به ورصد تشعبات وخيوط المقتلة السورية في المحافظات البعيدة والقريبة، وعبر ما يصل إلى مدينتها من مهجرين وضحايا.

تنتقل زرقة من العام إلى الخاص وبالعكس، حتى يتشابكان ويطغى أحياناً أحدهما على الآخر ثم العكس في توليفة قريبة من قلب القارئ وإحساسه ومنتقلة بين هذا وذاك وبين المعلومة العامة المتنوعة بين الفكري والسياسي والجغرافي لتصنع في كل مقال لوحة متكاملة يستطيع القارئ من خلالها تكوين فكرة واضحة عن حدث معين في خريطة البلاد. 

مسلطة الضوء على تحولات الصراع في سوريا والحرب الدائرة فيها عبر أعوام طويلة قبل سقوط نظام الأسد، كان فيها الناس يتداولون عبارة: (الله يفرجها على العباد) وكأنهم كانوا ينتظرون فرجاً إلهياً للخلاص. بينما بقي الحذر حاضراً بينهم. ومن الرقة المدينة المهملة تاريخياً والتي انتفضت على النظام فعوقبت بتركها لقمة سائغة أمام داعش والتطرف المسلح فعانت من هجرة أبنائها بصمت، إلى حلب وطرطوس وغيرها. وكيف صارت الهجرة هاجس الشباب على تنوعهم وصار مستغرباً أن يبقى أحد في البلد. تتساءل هنادي: هل السفر خيانة؟ وحين يكون الثمن هو الحياة هل سيكون الخلاص الفردي خيانة؟ بينما تتحول البلاد إلى مقبرة والبقاء يعني الشروط الدنيا للحياة وترى في مكان آخر أن “البلاد جثة محمولة على الأكتاف وما من مقبرة تدفن بالمجان سوى مقبرة التطرف”.

قد يقول من يقرأ هذه السطور إنه التشاؤم لكنها هواجس كل سوري، وفي السياق تعود زرقة لتحليل الحالة السورية فتحمّل النخب مسؤولية التقصير في توجيه الحراك منذ البداية والاكتفاء بالمراقبة مما تركه عرضة للتجاذبات الإقليمية والدولية والدينية، فأطال عمر النظام ومعاناة البشر، وتذكر كيف منحت صيحات المناداة بالتدخل الدولي والعسكري المبررات للنظام البائد الذهاب بالعنف إلى الآخر، أما عن دفع الأثمان فنرى العائلات المهجرة تنتظر سلال الإغاثة التي اجتمع المهجرون عليها من كل الأطراف تحديداً النساء منهم في باحة كنيسة ورغم الحذر والتخوف من الآخر انتهى بهن الأمر إلى تبادل رواية المأساة حتى البكاء و كأنه نداء إنساني يوحدهم تجاه المتاجرين بالدم السوري، لم تكن جهة الإغاثة تابعة لأي طرف لكن العاملين فيها كانوا من كل طوائف سورية.

كان الساحل حافلاً بصور الضحايا والنعوات والعاهات الناجمة عن إصابات الحرب وأطفال المهجرين الذين حاولوا البحث عن بيئة آمنة، حتى بات يعاني من كثافة سكانية هائلة.

تقول زرقة: “الساحل يحكمه الخوف” لعله الخوف الناجم عن تلك المشاعر المتناقضة ولعله الخوف من المستقبل بالتركة الصعبة التي حملها. وهو ما ظهر للأسف بعد سقوط النظام. 

 تميل هنادي أحياناً للإسهاب في سرد الذكريات الشخصية والعائلية وإعادة تقييمها وتأثير الآخرين على شخصيتها موازية بين مرض والدتها بالزهايمر ومرض البلاد التي صار بينها وبين أبنائها غربة كبيرة. وتحدثنا عن صديقتها مها جديد التي عملت بالإغاثة وما قدمته لسوريا، الجميل في حديث زرقة عنها أنها لا تتجه إلى الرثاء رغم كل ما تركته صديقتها من ألم بغيابها بل تحدثنا عن أعمالها وقيمتها الإنسانية وعن أفعالها.

في الجزء الذي تنشغل فيه بالهم العام والمعاناة الاقتصادية اليومية للبشر يظهر ذلك التردد الذي شغل كل السوريين، وهو البقاء في البلاد ورغم تأكيدها أنه حالة طبيعية كالتنفس لكن ذلك كان بمثابة إشارة لفوات البديل فالطبيعية تغدو حالة غير عادلة في عمق الصراع.

تسافر هنادي زرقة أخيراً إلى ألمانيا، تقول: “لا يموت الغرباء بالسرطان أو احتشاء القلب بل يقتلهم الحنين وتفتك بهم الذكريات”، وهو ما ينقلنا إلى ديوانها ” مثل قلب على مدخل البيت ” الذي نوهنا لصدوره في البداية. يأخذنا العنوان إلى قصيدة قلب ينبح وحيداً، فالبلاد التي تحترق تحيل الحريق إلى دواخلنا حتى أنها تنوي أن تترك قلبها على مدخل البيت مربوطاً مثل كلب يحرسه ويشيخ، وحين توضب ثيابها وتضع النفتالين لتحفظها تتساءل هل ينفع ذلك مع الذكريات، وتسارع إلى الرغبة برمي كل شيء واقتناء ذكريات جديدة.

تتابع هنادي في ديوانها ذلك الاشتباك بين العام والخاص، العام الذي تبدل بسفرها وانتقالها إلى برلين لكنه بقي يمارس تلك الثنائية مع الخاص وتمكيناً للتجربة الذاتية حيث الحيز الأكبر في الديوان والذي يبدأ بقصيدة تفصيلية لملامح وجهها في المرآة كأنها تقرأ لوحة محايدة، وتعطيها دلالات عديدة، تتأملها راجية أن تنال في النهاية ضحكة في زمن الموت وكأنها تقول كم هي عزيزة تلك السعادة.

لتتابع فيما بعد عرض تاريخ عائلي للألم من فقدان الأب إلى الفقر الذي فرد جناحيه على العائلة بعد موته ومعاناة الأم في بلاد لا ترحم ولا تنتبه إلى آلام سكانها.

تعترف زرقة أن الشعر أعاد ولادتها، الولادة من رحم الشعر هي التي تختارها وهي التي تستحق الاحتفاء، حين كتبت أول قصيدة أهدت نفسها قالب حلوى واحتفلت بميلادها الجديد. اختيار ميلادها بمثابة الاستقلالية المؤكدة والتي تتابعها فيما بعد حين تؤكد أن الحياة تعلمنا الاعتناء بأنفسنا كأمهاتها لنكمل نقص الحنان فيها في إشارة أخرى إلى مرض الزهايمر الذي قلب الأدوار بينها وبين أمها.

  تشغل قصائد زرقة الوحدة بشكل كبير وإن كانت حاضرة في البلاد فقد تضاعفت بعد سفرها على ما يبدو فالوحدة التي نطلبها في مرحلة من الحياة تتحول إلى عبء مؤلم لا فكاك منه، وبينما يعمد الآخرون إلى تربية الحيوانات لاحتمال الوحدة تعمد هي إلى الاستعانة بقلبها كحيوان أليف، أو بديل الطفل الذي لم تنجبه، إنه دليل ذلك الاحتواء الذاتي وبلسمة الجراح ذاتياً كتعبير أصيل عن الوحدة الحقيقية. 

الوحدة التي تستدعي الذكريات والبكاء والضجر والتي لا يداويها حتى الحب. 

تحافظ زرقة على قصيدتها بذات التوهج وفي اختيار النهاية التي تكون على هيئة نقلة نوعية مفاجئة من العام إلى الخاص أو العكس لتجعل القارئ يتلمس ذاته، مع تلك الشفافية المنسابة إلى الأعماق، والفرادة بمحاكاتها.

الزمن شاغل حقيقي في قصيدة هنادي لكنه يتعدى هاجس السن إلى إحصاء الخيبات والمرارات وموت الأصدقاء الذين يشكلونها كما فرانكشتاين، وحين يتساقطون يتركونها غريبة في بلاد هدمتها الحرب.

تقول في قصيدة طحالب تنمو على القلب :

“لماذا تركت الحصان وحيداً؟

كي يؤنس البيت يا ولدي

فالبيوت تموت إذا غاب سكانها”

أشرد بالعبارات هل تعرف البيوت سكانها الأصليين؟

أراقب الجدران المتهالكة

قطرات المطر وهي تتسلل بين الشقوق

القطط التي تقعي أمام الباب كما لو أنه مهجور

العشب النابت في الممرات 

رائحة الرطوبة 

الطحالب تنمو على الجدران

وأصوات عويل يصم أذني.

كيف لك ان تفعل ذلك؟

أنا الحصان الذي تركوه كي يحرس البيت من الموت

الحصان الذي سيموت وحيداً

هنادي زرقة شاعرة سورية لها بصمتها الخاصة وصوتها المميز لها في الشعر: “الزهايمر” ، “الحياة هادئة في الفيترين”، “رأيت غيمة شاحبة سمعت مطراً أسود”، وترجمت أعمالها لعدة لغات كالدانمركية والألمانية والفرنسية، وكتبت في السفير والأخبار والآداب وموقع أوان وغيرها.

إصدارات: ديوان “خريطة تحترق” (2025)

إصدارات: ديوان “خريطة تحترق” (2025)

صدر حديثاً عن “دار الساقي” في بيروت، ديوان “خريطة تحترق” (2025)، للشاعر السوري جعفر العلوني، وهو عملٌ شعريٌّ يقدّم من خلاله تجربة لغوية مشحونة بالتوتر والأسئلة التي تضيء تمزقات الذات في عالم يتفكك تحت ضغط التكنولوجيا والسياسة والموت.

يتألف الكتاب من أربعة فصول، هي: “صديق الموت”، و”توقعات الأبراج للإنسان العربي”، و”هكذا أروي حياتي لنفسي”، و”تحولات آلية”، تبنى جميعها، على صدام يومي مع الواقع، حيث تتحوّل اللغة إلى وسيلة كشف وتفكيك. يستحضر الشاعر مدناً مثل دمشق، مدريد، ألمرية وغزة، ليس بوصفها أمكنة للذاكرة، بل كعلامات دالة على التحوّلات القاسية في الجغرافيا والسياسة والهوية.  هذه المدن تظهر كمساحات للمواجهة بين الفردي والجماعي، بين اليومي والعالمي، في قصائد تنسج جماليات هجينة تجمع بين المجاز والتقنية، الجسد والأسلاك، الصورة الشعرية والصوت الرقمي.

تمتزج في النصوص اللغة الشعرية بالصورة البصرية، والعبارة المجازية بالإيقاع الإلكتروني، لتقدّم كتابة تنطلق من الجسد، وتتقاطع مع التقنيات، وتُخضع اليومي للرمزي. فالقصائد محمّلة بالأسلاك والعلاقات بين الكلمة والكلمة تمر عبر إشارات المرور والشاشات وأجهزة الإنذار، وحيث الحب لا يظهر إلا بوصفه معطى تقنياً، والمشاعر تمر عبر أنظمة تشغيل معقّدة.

يقدّم العلوني عبر “خريطة تحترق” رؤية شعرية لعالم لا خلاص فيه من اللهب، ولا مخرج طوارئ من الانهيار إلا عبر القصيدة – الحب- الآخر. هكذا يرسم الشاعر خريطته الخاصة، حيث القصيدة – الكتابة طريقة للعيش والرؤية، وحيث اللغة مساحة للمقاومة ضد الاختفاء، ووسيلة لاختراع هوية قادرة على النجاة من الرماد والانكسارات.

يذكر أن جعفر العلوني شاعر ومترجم سوري مقيم في إسبانيا. من ترجماته إلى العربية، نذكر: “الجمالية في الفكر الأندلسي” (2024)، و”شاعر من تشيلي” (2023)، و”الأصوات المرتعشة” (2020)، إضافة إلى العديد غيرها. من ترجماته إلى الإسبانية: “ديوان الشاعرات العربيات المعاصرات” (2016)، “أول الجسد آخر البحر” (2021)، و”أدونيادا” (2023)، إضافة إلى العديد غيرها. 

مختارات من الديوان

هكذا أروي حياتي لنفسي

1

أفتحُ البابَ كمِثل أي صباحٍ

وآلاف الذكريات تتسابق في رأسي كي تكونَ الأولى.

أختارُ الأقل قساوةً، مع أنَّ الحياة كلَّها قاسية.

أتساءَل: ما اليوم؟ وأمضي برفقة السنين.

أشعر بحاجة عارمةٍ كي أصلَ متأخراً إلى العمل.

في الطريق لا أشمُّ إلّا رائحة الخريف.

يبدو أنّني صرت بارعاً في الالتفاف.

أعبرُ الطرق المُنحرفة كلّها وأحاول أن أتفادى الطريق المستقيم:

أحبّك.

2

ثمّة قلوبٌ كمثل الغرف تتراكمُ فيها الأخطاءُ التي لا تغادر.

قلوبٌ بلا زاويا للانثناء لأنّها مليئة بأثاث تركه الآخرون.

قلوب بلا نوافذ أو أبواب على الغد. قلوب بلا ثقب لرؤية الكوارث القادمة.

ثمة قلوبٌ تُقاس العزلة فيها بضوء قنديل لا يضيء.

قلوبٌ رطبة من دمع لا يتوقّف عن الذكرى.

قلوبٌ كمثل الطرق المليئة بخريفٍ يسقط من الأوراق.

ثمة قلوبٌ لا تعودُ. قلوب لا يمكن العودة منها. قلوب لا يمكن أن تكون إلا مكاناً للهجرة.

ثمّة قلوبٌ لا تستطيع أن تغادر منها حتى لو كنتَ في المنفى.

3

من الساحات والبيارق،

من نشرات الأخبار وحركات الطيران،

من حقولِ الكرز ومتاهات القِصص،

من الذئبِ والأرانب، 

من القبلِ دون كافيين،

من المتاريسِ والأسلاك الشائكة،

طيور البجع وسُفنِ الزبد،

العظةِ والأيام الجافة،

من العناقِ ومضادات الاكتئاب،

من الحبّ وأفاعي الذكريات

من الطحالب والأنبياء،

الجهات الأربع

أغوار الفراتِ وضفاف دجلة

بردى والبيت البارد

من الكتبِ والرفوف العمودية

الطاعون والسحاب

الجَزع التجزؤِ الصمتِ والرماد

من الليل والنهار، القمر والشمس والخيط الواصل بينهما

من الجمجمة وعظم الترقوة

من المرايا والأبراج

من ليلٍ أرخى سدوله وموجٍ كمثل البحر

من السيفِ والضحية،

الشقوقِ، الأطرافِ، العطش، الأنقاض، السبات،

الكاميرات، الهواتف، اليمين واليسار،

الجذور الأصول

الهواء، الخبز، الأقواس،

علامات الترقيم والفواصل المنقوطة

من المربع، الدائرة، المثلث وبقية الأشكال الهندسية،

من الهواجس، العناكبِ، الجسورِ، المخالب،

وأظافر القدمين المطلية

من المقاهي وأسرار الكراسي

من الزجاج وكيمياء الرمل

من الفخار وأوطان الوحل

من الأندلس وطوائفها

حتّى من الحياة نفسها يمكن الخروج

لكن حتّى الآن لم أجد مخرجاً للطوارئ.

4

لا الصوتُ يسبقُ الصدى ولا الصدى يلحق النداء.

قطراتُ المطر تُظهر لي اسمك.

الأشجارُ عاريةٌ لا تتأثّر بالمشهد. ربّما كان عنيفاً أكثر من اللازم.

بللتُ الشوارع التي تذكّرني بساقيك ومحوت أثر الفتات المُتساقط مني كي لا أعود أو ألتفت.

الحياةُ هنا انزلاقٌ متواصل. والسقوط أول الطريق.

تحتدمُ العواصف،

تنخفض الحرارة على وتيرة صوتِ المذيعة التي تتنبأ بطقوس لقائنا

الغيمُ يتراكم: ترعدُ وتبرقُ وتنزل الصاعقة:

واحد تحت الصفر،

هذه هي المسافة التي تبعدني عنكِ.

5

الأخبار العاجلة تصلُ تباعاً:

عُزِلت الفصولُ من حراسةِ موكبكِ لأنّها لم تعد جديرة بالثقة.

ويحكى أنّك سببُ الكوارث المناخية.

وأنّك فتحتِ صندوق باندورا وأخرجتِ منه مؤونة المواسم.

انعشتُ أرقامك الحمراء

وضعتُ الشمسَ في الفراشِ كي تجفّف نداكِ

مع ذلك لم يبق إلا الحصار أو الهزيمة.

عزلتُ خيباتي واحدةً واحدة

لخبطتُ الأيام في رتل العروبة

وأسقطتُ الزَّند.

كلُّ شيء جاهز كي أسقط النظام.

6

تعالي، أريدُ أن أريك حياتي. لا تخافي. أعطيني يدكِ.

ليست بعيدةً. ليست أبعدَ من خطوتين ونصل.

لن نعبرَ حدوداً. لن نحتاجَ لجوازات سفرٍ. ولن يفتشك أحدٌ.

هنا خزانة الأشباح. في كلّ صباح أرتدي شبحاً وأخرج عابراً إشارات المرور حتى لو كانت حمراء.

أرجوكِ لا تغاري إن قلتُ لكِ لا تلمسي الفوضى: أحبُّ الأشياء مرتبةً بهذه الطريقة.

هذه هي زاويتي المفضّلة. لكن، لا أستطيع حتّى أنا أن أدخل.

هناك وضعت المرايا التي حدّثتُك عنها.

– كلا، لا تعكسُ صوري. تعكسُ شكل المدنِ التي تسكنني ولا أسكنها:

دمشق، بيروت، مدريد، ألميرية، وأمس رأيتُ غزّة.

إلى جانب الباب قاربٌ هيّأتهُ للهجرة.

أعطيني يدكِ مرّة أخرى. سأريكِ أجملَ شيءٍ في حياتي.

هذه هي الهاوية وعليها أبني المستقبل.

7

كان عليَّ أن أقرأ بحذرٍ الكلمات الصغيرة في العَقْد:

أن أقرأ، مثلاً، البنودَ الخاصّة التي لا تسمحُ إلّا بالهجرة والمنفى

أن أقرأ تفاصيل الطفولة ودمى الشقاء

كان عليّ أن أنتبه إلى شرط الذبول الذي اخضرَّ في فتوتي

وأن أرفض أن أساكن في بيتي الأشباح والطواحين

كان عليَّ أن أكون أكثر حرصاً على الحنجرة وشهقات البائسين

أن أدافع أكثر عن رئة الهواء

وأن أضمن بأي شكل نافذةً لصوتي

كان عليّ أنَّ أشكّك الزجاج بشفافيّته

وأن أفرض أشياء بسيطة:

ضوء شمس، قوس قزحٍ، ووسادة للأحلام.

كان عليَّ أن أتفحص جيداً مسألة الكلمات والمصطلحات:

ألّا أوقع عقد القتل عند الولادة.

8

في نشرة الأخبار يحذّرون من عاصفة.

من تلوّثٍ مخزّن في الرئتين.

من نارٍ تنتقل من شجرةٍ لشجرة.

وكانوا يتحدثون عن تحولاتٍ خِلاسية، لكنهم لا يقولون شيئاً عن جثث تسبح.

عن نار ترفض التدفئة في الخيام.

عن أطفالٍ لا يتوقفون من الصعود إلى السماء.

لا أحد يقول شيئاً عني وعنكِ.

المطرُ ينزل كلّ يومٍ لكنّه أعجز من أن يغيّر شيئاً.

عطرُ الوردة يفوح لكنّه لا يعانق الأنف.

الكتبُ ترمي نفسها انتحاراً من على الرفوف لأنّها تريد أن تتحرّر من ثقل الغبار.

دجلة يجفُّ. الفرات يريد أن يلمس ماءَه.

البشر مشغولون في الإجابة عن أحجية الإبرة في كومة القش.

الحياة مسرح، والكلُّ يرتجل.

إلى الخشخاش، إلى الخشخاش، أيّها العمر!

تحولات آلية

1

ألف-لام- هاء:

آلةٌ أم إله؟

تدفّقُ أمواجٍ لا تعرفُ إلا طريقاً واحداً:

المستقبل؟

ألهذا لا يأتي الضوء من الشرق؟

ألهذا لا نعشق إلا ثورات العتمة؟

وأنتِ، لماذا لا تُبصرين الألوانَ، أيتها العين؟

تحتَ الأحمر، فوق البنفسج،

بين بين،

يسافر موجٌ لا تروِّضه كلماتي،

مع ذلك يطيبُ لي أن أغرقَ في زبدكِ يا فولتات اللغة.

اتصالاتٌ وشبكات

الكتروناتٌ

جسيماتٌ وذرات تؤسِّس لمجتمعاتٍ

تُديرها روبوتات لا تعرف أن تحب.

وأنتِ، أين تركتِ قلبك يا إلكترا

ولماذا نسيتِ ثأركِ

وطابَ لكِ النّوم على هامش كتابٍ الكتروني؟

أوه، يكاد عقلي أن يتحوّل إلى شريحة الكترونيّة

وجهي شاشة،

جسدي آلة،

ولا ذاكرة لي إلا في فضاء العشوائية الصلبة

ها هي يدي تصير فأراً آليّاً

وأصابعي لوحٌ أبجدي معدني.

موجٌ،

لا شطآن له إلا في قرارةِ الآلة.

2

في رأسكِ

تتحكّم الخلايا العصبية في حركة جسدي،

في نظام أعصابي،

في اتصالاتي اللا واعيّة

في أحلامِ يقظتي التي لا تستريح،

في شعيراتي الضوئيّة وأليافي البصريّة

في أصابعي التي تتحرّك كفئرانٍ آليّة لاستقبال ما لا يُلمس.

وفيما أبحث، آليّاً، فيك،

في عدسةِ عينيكِ،

في القرنية،

حيث تكسرين شرايين الضوء،

تكون أعضائي قد استكشفت الدوائر والمنعطفات

وأكون قد استظهرتك.

أوه، ما أجمل هذا الحبر الأحمر الذي يسيل من طابعة شفتيك!

خذيني إليكِ،

انسخيني والصقيني في مسامات جسّدك

وسّعي ذاكرتي كما تشائين

انقلي إليّ حركاتك الأكثر حميميّة

أريد أن أخلق نظام تشغيل خاصاً بنا

أريد أن أغلقَ جميع نوافذك الفرعيّة

وأفتتحَ فيك أرشيف الإباحة.

ها آنا الآن أشعرُ فيّ تحت جلدكِ،

بين المنفذ والمنفذ

النبض والنبض،

في الخلية والشريان،

في الكرة والسرّة،

بين روابط الأوردة، معطياتنا الحسيّة، وحبالنا الشوكية

في الأبيض والرّمادي،

في الخلايا التي لا تتفرع،

في منامات اللا شعور،

وطبقاتك السفلى التي تريدُ أن تتمردَ على المركز:

انطلقي تبعثَري تَمردي تغلغلي انتشري خرّبي تنشّطي

تكاثَري شفِّري استحوذي تباطئي أسرعي استكشفي اسرقي

تناسخي ترابطي،

لكن كوني أليفةً معها

يا فيروساتي!

تصحيح العالم في فيلم الرقيب الخالد لزياد كلثوم

تصحيح العالم في فيلم الرقيب الخالد لزياد كلثوم

عندما سئل المخرج زياد كلثوم صاحب فيلم “طعم الإسمنت” (من مواليد حمص 1981) عن سبب اختياره عنوان (الرقيب الخالد) لفيلمه أوضح أن ذلك يشبه رداً على شعار درج ردحاً من الزمن لتمجيد حافظ الأسد وهو تسميته بالقائد الخالد.

والرقيب في الفيلم هو المخرج ذاته، فالفيلم تسجيلي على نمط سينما الواقع، وثائقي يرصد ويسجل مرحلة محتشدة بالأحداث في عام 2012 أي بعد عام من بدء الثورة السورية، وانتقالها إلى المواجهة العسكرية مع النظام في ريف دمشق، وهي فترة خدمة كلثوم العسكرية في المليحة (ريف دمشق) وحيث يتم إطلاق القذائف منها، على الغوطة الشرقية وغيرها، بينما يمضي باقي يومه في العمل كمساعد مخرج مع الأستاذ محمد ملص أثناء تصويره فيلم (سلم إلى دمشق) .

يبدأ الفيلم في صورة توحد الكاميرا مع المخرج وكأنها عينه فتبدو الصورة مقلوبة أثناء استلقائه وتبدأ بالتصحيح في نهوضه وهو نفس المشهد الذي يبدأ به يومه حين إعلان انشقاقه عن الجيش لعدم موافقته على الصراع المسلح الحادث وتدخل الجيش النظامي لصالح السلطة، وكأن العالم مقلوباً يُصحح بفعل النهوض والحركة أي الفعل، كما يتم تصحيح مواقف الناس بإعلان الرفض.  

يبدأ كلثوم إذاً تصوير رحلته اليومية إلى المليحة مكان خدمته الإلزامية في طريق كئيب وتحت صوت الطائرات التي تقصف ريف دمشق متجاوزاً الحواجز العسكرية وصولا إلى قطعته، تتأرجح الصورة أثناء ذلك لأن التصوير ممنوع في القطعة العسكرية فاستعان كلثوم بكاميرا الموبايل ليتمكن من ذلك دون لفت الانتباه، وهذا التأرجح هو تعبير عن الاضطراب الذي يشكل المناخ العام، والاضطراب الذاتي الذي يعيشه السوريون حيال الوضع القائم.

 يبدو المكان (في القطعة العسكرية) ضيقاً حين يدخل الرقيب المجند إلى مبنى القطعة العسكرية وكأنه يشير إلى الضغط النفسي الذي يسببه المكان ذو الجدران المليئة بالشعارات والملصقات التي تمجد شخصية الرئيس الحاكم (بشار الأسد) ووالده من قبله إذ تملأ الجدران صورهما، ترصد الكاميرا التفاصيل اليومية لحياة المجند في المكان ومحيطه حيث تربض الدبابات التي تقصف المناطق الأخرى ويتم قص الأشجار لإفساح المكان لها.

   تسقط الأشجار أرضاً وهي التي تموت واقفة كرمز للصمود، بينما يلتفت المخرج ليصور لنا الشعار المكتوب “لن تركع أمة يقودها القائد…” وكأن ثمن بقائه إركاع كل رمز وكل إنسان.  بهذه الطريقة يلعب كلثوم على المتناقضات لإظهار الفكرة ووضع المقولة بين يدي المشاهد وهو ما نلمسه في أكثر من مشهد وأكثر من مكان.

يتابع كلثوم يومه ليستعرض الجزء الذي يعمل به كمساعد للمخرج المعروف محمد ملص  حيث يقوم بتصوير زملائه في فريق ملص أثناء قيامهم بالتصوير، طارحاً الأسئلة المقلقة للجميع في تلك الفترة عن موقف الأشخاص مما يدور في الساحة وعن رؤيتهم للمستقبل بل يمتد بذلك إلى الشارع فيسأل بعض المارة والناس العاديين، منهم من هو معروف مثل كروان المتابع الشهير الذي التصق اسمه بسينما الفردوس أقدم سينما في دمشق، ومن حديث عابر يستجره  كلثوم للحديث عن مشاعره العميقة فابنه استشهد منذ مدة وما زال يبكيه،  يصور أثناء ذلك كلثوم إعلانات العروض في سينما الفردوس ليشير إلى البعد الشاسع بين الواقع وما يدور من حرب سورية/سورية متصاعدة وبين الشارع الثقافي، وتردي واقع السينما سواء في نوعية العروض كما نرى في الإعلانات أو بنسبة المشاهدين  المنعدمة نتيجة الوضع  الأمني.

  في هذا التداخل يرصد كلثوم واقع السينما في الحرب، بينما في المقلب الآخر نرى عمل محمد ملص في هذا الواقع المتأزم ضرباً من المغامرة بإصراره على استكمال تصوير فيلم (سلم إلى دمشق). وينتقل كلثوم إلى إجراء لقاءات مع فريق العمل. تقول مساعدة ملص:  “نصور فيلماً عن مدينة دمشق قبل أن تندثر”، والاندثار هنا ليس فقط احتمال التدمير في الحرب الدائرة بل بفعل الغبار بمعنى عدم التطور وإيقاف زمن المدينة على توقيت الديكتاتورية. وهم في الحقيقة يصورون الحياة السرية للمجتمع أو الجانب غير المصرح به فتظهر لقطات تصوير اعتقال أحدهم، ويقوم بالدور الراحل غسان الجباعي، الذي يحكي قصة المشهد مشيراً إلى أن المشهد بسيط  جداً أمام ما يحدث في الواقع خارجاً ويبتسم في همسه لكاميرا كلثوم واضعاً الملح في قلب الجرح السوري.

يوثق كلثوم مصاعب السينما في الظرف الراهن وهو ما يشير إليه ملص الذي ينظر إلى الأرض بحرقة وهو يسمع القصف الممتد ويرصد معاناة الفريق أثناء التصوير فصوت الطائرات الذي يرغمهم على إعادة المشهد عدة مرات يضع معظم الممثلين في حالة من التوتر والغبن والقهر المكتوم.

 أحد الممثلين من الحجر الأسود حيث قصف بيته ورفاقه، يبكي ويبكي ويشرب لينسى ولكن عبث، هي ذات المعاناة في عين ترما وغيرها من ضواحي دمشق وريفها حيث يراقب الجميع سقوط الصواريخ وكأنها تسقط في قلوبهم.

يقوم كلثوم بتصوير صعوبات صناعة السينما في تلك الفترة وإرهاصاتها وواقع صالات  العرض الفارغة وصولاً إلى واقع السينما العسكرية أو ما يسمى سينما باسل الأسد حيث تمت تسمية كافة المنشآت باسم الابن الراحل لحافظ أسد، الشقيق الأكبر لبشار الأسد، سواء  المنشآت الرياضية أو الصحية أو الثقافية. كان اسمه يحتل البلاد دون أن يكون له أي أثر يذكر على المستوى العام، وكأن هذه البلاد مسجلة كملك شخصي للعائلة الحاكمة، أو أن قدرها أن تبقى لإحياء ذكرى موتاهم (الأب والابن) وربما هذا ما يأخذنا أيضاً إلى قول مساعدة ملص  “دمشق قبل أن تندثر” كحاضرة مدنية وثقافية .

كانت سينما الجيش، أو كما يسمونها سينما باسل الأسد، عبارة عن صالة فارغة وأفلام على الرفوف تحت الشعارات التي يتم أدلجة العسكريين بها.

تتوجه الكاميرا إلى الممثلين الذين يعكسون في إجاباتهم تناقض الشارع السوري في موقفه تجاه الحرب الدائرة، فنرى من تأذى شخصياً من القصف رغم عدم مشاركته بأي نشاط أو عمل مسلح، وبين الواقعين تحت ديماغوجية السلطة ودعاياتها.

بين الوعي الكامل للظلم الحادث وللقتل الذي تمارسه السلطة الديكتاتورية وإحساس القهر والظلم والتعاطف الضمني مع الثوار وبين الذين عانوا ظلماً من الاعتقال والتعذيب الذي أبعدهم عن ساحة المشاركة بالعمل السياسي.

 يتجلى التناقض في موقف إحدى الممثلات التي تصرح بانحيازها لجانب السلطة وترى أن الطائرة قادرة على التمييز بين البريء والمجرم أثناء القصف، بل تخاف على الطيار متجاهلة موت الأبرياء ومنهم أهل زملائها في العمل.

 يشبه ذلك مشهد كروان الذي خسر ابنه وأحلامه وهو يردد ما تتناقله الأخبار الرسمية وكأنه يردد شعارات السلطة الجوفاء ذاتها معزياً نفسه أن ذلك حدث من أجل البلاد.

 هذا الفصام الذي يصوره كلثوم للأشخاص ليس خارجياً فقط، بين الأشخاص وعلى صعيد المجتمع بل هو على الصعيد الداخلي في ذات الأشخاص. فمنذ بداية الفيلم لا نرى الشخص وإنما نرى ظلاً يتحرك وأقداماً ورغم أن هذا قد يكون بسبب تقنية التصوير لكنه يشكل أيضاً إيماءة إلى تحول البشر إلى ظلال تعيش انفصامها عن نفسها أولاً وعن رغبتها الحقيقية بسبب الخوف المسيطر. يقول أحد المارة للكاميرا (نعم أحب بشار الأسد) ثم يقول لكلثوم همساً: فيني ما قول هيك؟ بيشحطوني، في تعبير عن ذلك الخوف الذي يمسك الألسنة والفصام عن الواقع فالحياة العادية تستمر تحت وقع قصف الطائرات وتستمر الحركة في المدينة، التي تدفن على مهل.

يقول ملص الذي يطيل الصمت تحت صوت القصف متأملاً الخوف يسيطر على الجميع من  الاتجاهين، سواء من قصف الطيران المستمر أو ممن يوقف الناس ويقتلهم على الهوية .

 الخوف الذي يتحرك في العيون، خوف الجدة الحمصية التي تمثل دوراً في فيلم ملص تقول فيه عبارة واحدة، تجلس في ثياب الصلاة صامتة ومراقبة، يقترب منها كلثوم ويسألها عن نزوحها من حمص فتتردد وتتلكأ وكأن هذه الجرأة بالتعبير تكلف كثيراً، ثم تجيب بأنها فقدت ابنيها وحفيدها في قصف حي باب السباع في حمص.

نصل ذروة الفصام في مشهد تداخل ظلي المخرج ليشكلا شخصاً واحداً وذلك حين يقرر الانشقاق عن الجيش النظامي إثر المشاهد التي يراها ويصورها من إصابات وسقوط القتلى من الطرفين فيخرج من مكان خدمته العسكرية حيث تتابع الدبابات إرسال الموت إلى أماكن شتى. يخرج كلثوم من المبنى بشعاراته البائدة إلى غير رجعة في مشهد عميق وعالي الفنية يظهر فيه هذا التداخل بالظلال مشيراً إلى انتهاء الفصام واستعادة الرقيب المجند كلثوم لذاته وحياته التي يريدها باتخاذ القرار الذي يعلنه وهو انشقاقه عن الجيش موثقاً ذلك بعبارة ينتهي فيها الفيلم: أنه يرفض المشاركة بالعنف الدائر جملة وتفصيلاً ويعلن حفاظه على سلاحه الوحيد الكاميرا.

يلاحظ المشاهد أن المخرج وازى بين فيلمه وبين فيلم (سلم إلى دمشق) وكأن هناك فيلماً داخل الفيلم حتى أن صرخة البطل الأخيرة (حرية) في فيلم ملص تتوازى مع انشقاق الرقيب في فيلم كلثوم وفي المشهد الأخير منه حين ينظر إلى الأعلى كأنه يراقب مسار تلك الصرخة التي تحلق مع أرواح الناس. 

فيلم كلثوم فيلم مبكر عن أحداث الثورة السورية صور في 2012 وتم إنتاجه في 2014. حاز على جائزة BBC للأفلام الوثائقية عام 2015 وجائزة مهرجان لوكارنو بسويسرا.

 تم عرض الفيلم في مدينة حمص في افتتاح مجتمع حمص السينمائي وهو نشاط منبثق عن مبادرة حمص عاصمة السلام، فتمكن السوريون حضور الفيلم أخيراً، كما استضيف المخرج للإجابة عن تساؤلات الجمهور. 

بعد أن بقيت أفلام الشباب المعارض غائبة عن الجمهور في سوريا رغم أنها تجوب العالم وتحصد الجوائز، ورغم أنها عنهم وعن آلامهم.

Review: “Domicide: Architecture, War and the Destruction of Home in Syria”

Review: “Domicide: Architecture, War and the Destruction of Home in Syria”

In a world marred by conflict and displacement, the concept of ‘home’ takes on profound significance. Dr. Ammar Azzouz, a Syrian British architect, delves into the question, “What does it mean to lose home?” in his exceptional book, “Domicide: Architecture, War and the Destruction of Home in Syria.” Through this work, he provides a bold analysis of the ongoing crisis in Syria, focusing particularly on the city of Homs, a microcosm reflecting the challenges faced by a nation torn apart by war.

At the heart of Dr. Azzouz’s exploration lies the thought-provoking concept of ‘domicide’, encapsulating the deliberate destruction of homes during the conflict. ‘Domicide’ embodies the suffering of those whose homes have been decimated by the ravages of war. Azzouz takes readers through the pain and anguish experienced by those uprooted and whose dwellings have been ravaged, all within the context of Homs—a city they hold dear. Homs, being the third-largest city in Syria and referred to as ‘the capital of the revolution’ during the uprising, mirrors the broader struggles of a nation grappling with post-conflict challenges. It serves as a lens through which to examine the intricate process of reconstructing lives, homes, and communities.

What distinguishes ‘Domicide’ is Dr. Azzouz’s intimate connection to his subject. Hailing from Homs himself, he infuses his analysis not only with academic rigor but also with a deeply personal understanding of the emotional landscape. Homs transcends being just a case study; it becomes a part of the author’s identity, lending authenticity and resonance to his words that are both tangible and profound.

The book offers a comprehensive exploration of the Syrian crisis, focusing its lens on Homs. Core to the text is the notion of ‘domicide,’ resonating powerfully within Homs, a city affected by the complex interplay of wartime and peacetime dynamics. Azzouz effectively challenges conventional paradigms of displacement, destruction, and reconstruction analysis.

By entering the narrative on the concept of ‘home,’ the book investigates  the profound ramifications of domicide on internally displaced residents and Syrians scattered across foreign lands. Through this lens, the author transcends surface-level assessments of monumental site destruction, considering  the intricate realm of physical and sociocultural trauma—the visceral aftermath of being uprooted from cherished abodes.

This work examines not only the process of rebuilding lives, dwellings, and sanctuaries within and beyond Syria’s borders but also presents a holistic view of the ordeals faced by those forcibly torn from their homes by conflict. Furthermore, the book shines a light on overlooked aspects of everyday existence during the conflict, highlighting the resilience and everyday struggles that often fade into obscurity when viewed solely through the refugee-focused lens.

Azzouz’s meticulous exploration within the context of Homs poses a stark challenge to the dehumanizing impact of citywide destruction—a trauma experienced both in peacetime and conflict. Amidst the wreckage and the subsequent journey of reconstruction, the author underscores the need to prioritize communities within these efforts. The narrative advocates for a pivotal shift, one that encompasses the narratives of refugees and also those who tenaciously uphold their cities amidst the tumultuous backdrop of conflict and rebuilding.

Azzouz’s immersive narrative takes readers deep into Homs, capturing its essence both before and during the tumultuous events of 2011. Through his skilled storytelling, he introduces the concept of ‘domicide,’ illustrating its impact through the lens of ‘slow violence.’ This perspective adds a haunting layer to the narrative as it becomes evident that the destructiveness experienced by Homs transcends wartime, extending into times of ‘peace.’

Homs’ history of suffering extends beyond conflict. Azzouz traces the city’s evolution from subtle waves of slow violence to the intense, radical destruction defining the post-2011 era. This pattern of violence dates back decades, with the city’s traditional homes and cultural heritage systematically erased under the guise of modernization and development. The city’s architectural legacy and cultural identity eroded, replaced by towers, governmental buildings, and car parks. The removal of ancient trees exacerbates the loss of Homs’ historical memory.

In this evolution, the battle extended beyond physical structures. The city’s identity-shaping trees, like Acacia in Al-Ghouta Street and Palm in Hamra Street, fell victim to peacetime ‘domicide.’ Uprooted and replaced with foreign trees, this transformation occurred without the consent of the people, leading to what Suad Jarrous, a Syrian writer and journalist, termed the ‘assassination’ of Homs’ urban heritage in the name of modernization. The redesign seemed to prepare the city for war, “making these streets wide enough for tanks, and to clear the views from the trees for the snipers to kill.”

Significant changes in Homs began with proposed projects in 2007, part of the former governor Mohammed lyad Ghazal’s vision. However, these plans, known as ‘The Homs Dream,’ were controversial and led to social, cultural, and environmental upheaval. The project aimed to replace parts of the city with high-rise buildings, attracting Gulf investors and erasing the city’s fabric. Homsis called it the ‘Homs Nightmare.’ Grassroots groups and impacted communities opposed the transformation that would replace their lands with golf clubs and skyscrapers, leading to demonstrations and a rejection of the project.

The first sparks of the uprising ignited in Homs in March 2011. Protests organized by grassroots activists and dissenters echoed their yearning for ‘Freedom, Dignity, and Justice.’ However, it was the collective resistance that defined the revolution, with the ‘New Clock Square’ embodying the collective strength to reshape the city. On April 18, 2011, thousands gathered peacefully for a sit-in at the square, which turned into the ‘Clock Massacre,’ resulting in loss of life and disappearances.

Attempts to reclaim this symbolic space were violently suppressed, particularly after April 2011. The regime’s strategy shifted, gradually dividing the city into pieces by obstructing roads and limiting movement, “space was weaponized. As divisions restricted people’s movement, each neighborhood started to become like a city within the city.” Violence reshaped the city irreversibly, and divisions transformed into cement walls and checkpoints, segregating neighborhoods. The war zone expanded into a siege, denying access to aid and medicine. The obliteration of homes became a tool of forced displacement, erasing communities.

Years of siege followed by forced displacement shattered the city’s fabric, dislodging people from their homes and erasing identities. A once-familiar city became disorienting, inducing a sense of exile even among those who chose to remain. This feeling of estrangement isn’t confined to those forcibly displaced; even those who stayed in Homs share this sentiment.

The discourse on conflict-induced displacement in Homs overlooks critical perspectives. The international focus often fixates on historical sites, overshadowing the voices of those who lost their homes. Internally displaced people (IDPs) are similarly marginalized. Furthermore, there’s a tendency to perceive the destruction as an isolated incident, ignoring its orchestrated nature.

Forced displacement and losing ‘home’ have profound emotional implications. The interplay of community, neighborhood, and personal connections becomes disrupted. This intricacy is challenging to express, as ‘home’ encompasses our families, emotions, and fears. In the words of Zankawan, a forcibly displaced woman from the old city of Homs, every form of loss is a tragedy.

Amidst the journey of thousands migrating toward Old Homs, the desolation is palpable, leaving an indelible imprint on the psyche. Hanan, a pseudonym of an exiled Syrian Palestinian architect, provides an account that encapsulates the visceral experience of displacement, where the familiar fabric of a once-vibrant community morphs into a ghostly echo of what was. Amidst the ruins, memories remain unattainable artifacts, forever etched in the mind.

A central question surfaces: “How to resist forgetting?” Azzouz delves into the challenges faced by displaced Syrians as they strive to preserve memory and narratives. Memory projects emerge as a means of fighting to remember and not forget. The book raises questions about how memory can withstand time, conflict, and manipulation. The regime’s attempts to “erase the memory of the war and pretend that nothing has happened”, through narrative manipulation and memorials are scrutinized.

Preserving the memory of struggles should be woven into the urban fabric and cultural essence of Syria’s cities. Syrians in exile actively resist forgetting, safeguarding their history, and reconstructing their identities. Through various rituals, traditions, and artistic expressions, they uphold symbols of home, such as the New Clock Tower. These rituals and traditions include ceremonies to commemorate significant events in the city’s collective memory, like the sit-in in Homs’ New Clock Square. This sit-in not only holds immense historical significance but also gave the New Clock Tower a symbolic value as a representation of the sit-in in Homs’ New Clock Square and the collective peaceful struggle of Homsis to reclaim this symbolic space and their right to be heard. These gatherings serve as a powerful means of sharing stories and experiences, strengthening bonds within the community, and reaffirming their connection to their homeland. Some exiled Syrians also express their feelings through paintings or sculptures that feature the New Clock Tower, a prominent landmark in Syria, as a symbol of their longing for home. Initiatives dedicated to preserving memories play a pivotal role in supporting these efforts. 

Azzouz examines construction projects unfolding in Syria even before the resolution of the war. He perceives an unbroken chain of domicide spanning periods of tranquility and conflict. The Syrian government introduced contentious legislation, Laws No 10 and No 42, threatening the property rights of those forcibly uprooted. A new phase of assault on inhabitants’ existence emerges through reconstruction, it is a “war of a different kind”. This new dimension compounds the affliction imposed on the populace.

Amid these circumstances, the ‘Homs Dream Project’ casts its shadow. Proposals driven by political and economic elites aim to reconfigure Homs’ urban layout, social fabric, and cultural identity. The justification often hinges on viewing the city as a “dead body”, warranting the construction of contemporary markets and hotels as replacements. This stance prolongs the pattern of domicide, both preceding and following the conflict. Throughout these deliberations, marginalized communities find their voices absent from the discourse.

‘Domicide’ is more than a book; it’s a call to action that beckons readers to engage with the narrative as participants in a movement. This movement seeks to reclaim home, rebuild lives, and rewrite the shattered story of a nation. Dr. Azzouz’s words transcend the pages, inspiring us to ask not just “What does it mean to lose home?” but also “What can we do to reclaim it?” Embarking on a reading journey through the pages of this remarkable work, readers will find themselves not only as a witness to a story but also as an agent of change. The book’s emotional depth is coupled with a compelling roadmap for the future, where small steps amass into transformation. This roadmap urges us to unite, bridging the divide between those who have fled and those who remain, architects and communities alike, in order to construct a Syria that belongs to all.

In the end, ‘Domicide’ is a symphony of emotion and intellect, a testament to the power of scholarship to ignite action, of words to guide us through darkness, and of memory to shape a brighter future. This book is a must-read for anyone who believes in the resilience of the human spirit and the potential for change. Dr. Azzouz’s work inspires readers to not only understand but also actively participate in the journey of reclaiming home. 

Note: reposted from UntoldStories

سيلفادور دالي يعدّ لي الفطور! حضور القصّ وغيابه للكاتبة نهى عبد الكريم حسين

سيلفادور دالي يعدّ لي الفطور! حضور القصّ وغيابه للكاتبة نهى عبد الكريم حسين

يحدث في الحرب أن تستيقظ الساردة صباحاً، تستعدّ لقضاء نهارها في عملها اليوميّ، وقبل أن تتناول قهوتها كالعادة، يطلب أبوها منها مرافقته إلى محلّه في هامش المدينة:” سألني بتودّد إذا ما كنت سأرافقه مشياً في الشارع المفضي إلى الخوف…” بذريعة أنّها ستتناول قهوتها مع أمّها مجبورة الساق، وإلى حين يتمكّن طلّابها من تجاوز حواجز التفتيش الكثيرة وصولاً إلى المدرسة. يصيب صاروخ  جدار غرفة المعيشة، مكان شرب القهوة المعتاد، فتنسحب وأمّها إلى مكان أكثر أماناً؛ الحمّام، عوض الخروج من البيت، بسبب جبيرة ساق أمّها المكسورة. وفي الحمّام، تغلي القهوة بعد أن تسلّلت إلى المطبخ، لجلب دلّة وفنجانين، ولعجلتها المرتعبة تنسى الملعقة، فتضطرّ أمّها لوضع القهوة في الماء بأصابعها، ولتحريكها تقترح استخدام فرشاة أسنان الأب! وفي إثر سقوط صاروخ آخر، وانهيار أحد جدران البيت، وتطاير الغبار الخانق، يحطّ الهذيان ويُدفِق الأسئلة واقعيّة، وجوديّة وعبثيّة، تسأل الساردة:” أمّي، لماذا على المرأة أن تكون (ست بيت)؟ “أمّي، ألا نملك إجابات لكلّ شيء؟” ” أمّي، هل سيغفر لنا أبي هذا؟” استخدامهما فرشاة أسنانه لتحريك القهوة! يبدو المشهد غريباً، بيد أنّ واقع الحرب المفترض أنّها السوريّة الراهنة، بفجائعها الغرائبيّة والكابوسيّة تفوق التصوّر والتصديق، فالقصّة لم تحدّد مكان حدوثها.

تتسلسل الأحداث وتتنامى على وقع القصف، وتتداخل الأزمنة ما بين الأمس واليوم، وتتوالد مشاعر الرعب؛ فالأمّ تحار كيف ستنجو مع جبيرتها، وتصرّ على ترتيب الأشياء في البيت وتنسيقها الصارم المعتاد، ترتدي حجابها، فالسترة واجبة حتّى في لحظة الموت! والأب يعود، بعد خروجه من الباب، لتقبيل زوجته وابنته، كأنّما في وداع أخير، ثمّ ينصرف إلى عمله. والابنة المرتعبة تتأمّل داخل البيت وخارجه، بانتظار موت مرتقب. فضاء مشحون بالرعب يستبدّ حتّى بطلّاب الساردة/المعلّمة في المدرسة، فقد رسمت إحدى الطالبات دجاجة تفقس صواريخ! 

ذلك ما حكته لنا الساردة/ الكاتبة نهى حسين، في القصّة البديعة “جبيرة”، أولى قصص مجموعتها البكر “سيلفادور دالي يعدّ لي الفطور!” إصدار دار ممدوح عدوان/دمشق 2024. 

بعيداً عن الحرب، وقد ذُكرت في أربع قصص، انشغلت الكاتبة في النصوص السبعة المتبقة، بالموت أيضا، بالظلم المجتمعي الذكوري، بالطفولة المعنّفة، وبغير ذلك. يتكرّر ذكر الأطفال في النصوص، فثمّة طفلة أخرى رسمت في حصّة الرسم معلّمتها/الساردة التائهة القلقة على شكل شجرة متشابكة الأغصان! أمّا الطفلة/ الساردة في القصّة الغريبة المدهشة والمخيفة “الكافور”، فقد رسمت في حصّة الرسم: “حديقة أزهارها توابيت.” فهي تعيش في بيت لا يتوقّف عن استقبال الجثامين لغسلهم وتهيئتهم للدفن. طفلة لا تتوانى عن فتح باب البيت لعويل الأهالي حاملي الجثمان، وعن مناولة أبيها الأكفان الاحتياطيّة المركونة في غرفتها. ولكسر الضجر تبدأ بتطريز عصافير ملوّنة على حوافّ الأكفان البيضاء، قبل أن تأخذها لأبيها مُغسّل الموتى، مهنة ورثها عن أسلافه، ويحرص على الحفاظ عليها. وقد اعتاد أهالي القرية حمل جثامين موتاهم إليه، يفضّلونه على مغسّلي الدكاكين. بدا الأب كآلة تعمل لا تتوقّف. رفض طلب زوجته بالانتقال إلى مسكن آخر لإبعاد طفلتهما عن الأجواء الجنائزيّة، وقد باتت تقضّ مضجعها؛ هلع وبكاء، كوابيس وهلوسات، فتهرع الأمّ إلى إيقاظها، تسقيها ماء وتقرأ عليها القرآن لتعاود النوم، تشرح لها:” أنّ الموت سنّة طبيعيّة كتعاقب الليل والنهار وتوالي الفصول.” تصلّي الطفلة طلباً للاعتياد. تقول:” أريد حصّتي من الحياة من دون هذا القرب الحميم من الموت.” (يؤخذ على الكاتبة هنا، تقويل الطفلة ما لا تدركه اللغة الطفليّة.) 

على وقع سيل ماء غسيل الموتى خارج الغرفة، وانتشار رائحة الكافور المعطّر، تسرد الطفلة حياتها وسط طقوس جنائزيّة مضجرة؛ أكفان ونعوش وتفجّع، ورائحة الكافور تعشّش في البيت، وفي النوم. ذات ليل ثلجي، طرق على الباب يوقظها، وكعادتها حين تنشغل أمّها، أو تغطّ في نوم عميق بعد نهار جنائزيّ متعب، تهرع الطفلة لفتح الباب. لم تجد وشاحها السميك، فتلحف الكفن الذي تطرّز على حوافّه العصافير، لم يكن بالباب جثمان أو عويل، إنّما هرّة غطّاها الثلج، فلم يكن بدّ من إدخالها، انتبهت الطفلة إلى أنّ الهرّة لا تموء، فتخمّن أنّ البكاء على فقدان ما كابدته، أفقدها صوتها. تدخل الهرّة غرفة الطفلة، مأخوذة بالعصافير المطرّزة على الكفن. تتقدّم بقسوة نحو الطفلة، فيتضخّم خوف هذه! في الصباح، حين ناولت أباها الكفن ذاته، انتبهت إلى اختفاء عصافيرها عنه، وحين سألت أباها عنها: “دخل في اضطراب مفرط، وقال:” لقد التهمتها القطّة وفرّت كالمجنونة.” رمزيّة أبدعتها القاصّة ببراعة. بلى، لا بدّ للأب أن يضطرب كثيراً، وأن يؤكّد أنّ القطّة التهمتها وفرّت، التهمتها تماماً حيث لا أمل في استعادتها! فالعصافير ترمز إلى الطيران والانعتاق. وفي بيت لا تصلح فيه للعيش سوى مهنة غسل الموت التاريخيّة الموروثة، على القطط التي ترمز للجنس/الحياة المضادّ للموت، أن تفرّ وأن تكون قاسية، متوحّشة ولصّة! وعلى الأب أن يبعد عن ابنته رغبتها في أن تكون لها حصّتها: “من الحياة من دون هذا القرب الحميم من الموت.” قصّة تترك أثرها في نفس القارئ بقوّة.

بديهيّ أنّ أوّل ما سيخطر في بال القارئ مع ذكر الرسّام سيلفادور دالي هو السرياليّة وتعني “ما فوق الواقع”. نشأت هذه المدرسة في فرنسا، وتوهّجت في عشرينات وثلاثينات القرن المنصرم. وتهدف إلى الغوص في العقل الباطن واللّاوعي، لاستكشاف ما يبطن من أفكار تتنافى مع الواقع والحقيقة، وتعتمد الأحلام، تأثّراً بعلم النفس الفرويديّ وسواه، فتدمج الخيال بالواقع بعيداً عن الأطر والقواعد المكرّسة، في شتّى الفنون الإبداعيّة. تزعّمها، الشاعر أندريه بروتون وأطلق بيانها الأوّل رفقة أدباء آخرين مثل بول إيلوار ولويس أراغون، ورسامين مثل ماكس إرنست وسيلفادور دالي هذا الذي يعدّ الفطور للكاتبة نهى حسين، أولى وجباتها/ إصداراتها الأدبيّة. لكنّنا سنلمس بوضوح سافر، أنّ ما ورد في المجموعة برمّتها لا يمتّ إلى السرياليّة بصلة، إذ أنّ الأحداث والأفعال تتتابع عبر رصد الساردة، الشخصيّة الرئيسة في أغلب النصوص، بوعي شديد للواقع من حولها وما ينجم عن ذلك من ردود أفعال، وهواجس ومخاوف، حيرة وتيه، تساؤلات، وتأملات فلسفية وجوديّة تنحو إلى العبثيّة مرّات كثيرة، تنقله إلى عوالم فنّيّة، بواقعيّة تارة وبرمزيّة تارة أخرى، وإن بدت غريبة أحياناً فذلك يعود إلى مخيّلة الكاتبة الوسيعة الجميلة، تحلّق كما الشعراء أحياناً وتأتي بصور أدبيّة محمّلة بالهواجس المتأتّية من واقعها. ليكون العنوان شرْكاً يعثّر القارئ!   

ثمّة أيضاً، ما يشي باستعجال نهى حسين في نشر مجموعتها اللّامتجانسة هذه، والكتابة الأدبيّة إنّما هي أيضاً فعل تأنٍّ وصبر. ففي حين نجدها قاصّة بارعة في نصوص خمسة تراوحت بين الحداثة والتقليديّة، وبين الواقعيّة والرمزيّة، وأُدرجت في سرد مكثّف، سلس، عفوي، مقنع وممتع، ولغة أنيقة شعريّة حينا وشاعريّة أخرى في اتساق جميل ومؤثّر، محمّلة بأفكار عميقة وتأمّلات لافتة. إلّا أنّنا نلقى في قصص أخرى مثل “نزح الماء” القصديّة والافتعال والمبالغة! وفي قصّة “الجوبي” محاولة متعثّرة لتقديمها بشكل القصّة القصيدة فيما يبدو، كما أنّها تعاني من إبهام مطبق، يُذهِب بمتعة الاكتشاف لدى القارئ! 

في نصوص أخرى يبهت الشكل الفنيّ وينتفي، فمثلاً في نص” حجراً إن شئت” تتحدّث الساردة عن جدليّة العلاقة بين الذات المهنيّة والذات الإبداعيّة، والصراع اللّامنتهي للتخلّي عن المهنة قاضمة الوقت وخانقة الفعل الإبداعيّ. النصّ لافت إنّما ليس قصصياً البتّة، أُدرج بخطابيّة ومباشرة لن تسترها أناقة اللغة أو التأمّلات. أمّا نصّ “طابع مجهود حربيّ” وقد جاء في مقاطع تطول أو تقصر، هي رسائل متتالية ترسلها كاتبتها إلى حبيبها الذي بعد عنها، من دون ردود منه، ومن دون أن نعرف عنه شيئاً. رسائل انكتبت بلغة شعريّة لافتة، إنّما أُثقلت بهواجس ورؤىً مختلفة وتحتشد فيها الأفكار فتزدحم، (هو حال النصوص غير القصصيّة كلّها)، فبدت الأحداث فيها ظلالاً لقصص تمكث على ضفاف دانية هنا، ونائية هناك، بانتظار إنجازها! 

ذلك التباين بالأشكال التي وردت فيها النصوص غير القصصيّة، واحتشاد الأفكار بشكل مبالغ، رغم أهمّيتها، فقد طغت على فنّيّة القصص، ما لا يؤمّن للقارئ، في النهاية تكوين وحدة انطباع فنّيّة شاملة للمجموعة.

وسمت الكاتبة مجموعتها بــ “سرد حكائي”، وكأنّما تبريراً لخلط ما لا يتجانس! فلا شكّ أنّ نهى حسين تدرك أنّ السرد الحكائي يعني السرد القصصيّ والسرد الروائيّ. وللتوضيح أورد تمييز جيرار جينيت في كتابه “الخطاب الجديد للنصّ  السرديّ”، بين ثلاثة مكوّنات للخطاب السرديّ، هي: “الحكي: الترتيب الفعليّ للأحداث في النصّ. القصّة: التتالي الذي حدثت فيه هذه الأحداث فعليّاً. السرد: فعل السرد ذاته.”  لنفهم من جينيت ومن نقّاد منظّرين آخرين، كتزيفيتان تودوروف صاحب مصطلح “علم السرد”، على أنّ السرد الحكائيّ، أكان حداثيّاً أو ما بعد حداثيّ أو تقليديّاً، فإنّه يشترط وجود حكاية فيها يتنامى الحدث والشخصيّات بقوّة روح القصّ.

يجدر القول إنّ نهى حسين كاتبة جادّة ولافتة، بلا أدنى شكّ، تدفعنا لمتابعة إصداراتها القادمة بحماس.

“ذاكرتي مليئة بالأشباح”:كيف نشفى من ذاكرة الحرب؟

“ذاكرتي مليئة بالأشباح”:كيف نشفى من ذاكرة الحرب؟

لم تكن النجمة الذهبية التي فاز بها الفيلم السوري “ذاكرتي مليئة بالأشباح” مناصفة مع الفيلم المصري “رفعت عيني للسما” في مهرجان جونة السينمائي في القاهرة مؤخراً، هي الجائزة الأولى له، فقد شارك في عدة مهرجانات حتى الآن وحصل على الجائزة الأولى في مهرجان الأفلام الوثائقية في الدانمارك، وعلى إشارة خاصة للتميز في مهرجان رؤى الواقع في سويسرا، وجائزة أفضل قصة في المهرجان السينمائي الدولي في بوينس آيرس.

وهو من إنتاج ملتقى هارموني الثقافي، في حمص وأول فيلم طويل للمخرج السوري أنس زواهري الذي نشأ في المدينة. ولهذا يضع عبارة عريضة في بداية الفيلم: “من جديد ها أنا في حمص، مدينتي القديمة، عائداً لئلا ينال النسيان مني، لأصنع لنفسي ذاكرة مما تبقى، فملأت الأشباح ذاكرتي”. نعم تغيرت المدينة وحين تسمع قصصها ستدرك حجم ما جرى.

 فالفيلم  يروي قصص عينة من أبناء حمص بلسانهم وماذا فعلت الحرب بهم وكيف تركتهم. وكأن زواهري أراد أن يكون جزءاً من الفيلم الذي لا يمكن التنبؤ بأثره على المشاهد ولكنه من المؤكد ليس بالقليل. 

المكان حمص القديمة، البداية كاميرا ثابتة في المكان المشغول بالدمار مع حركة خفيفة للبشر كأنهم يسيرون في فلك هذا الدمار وبقايا الحرب الشاخصة، حيث يفرض الواقع ثقله على المشهد،  فما زالت شواهد الحرب تنتصب، وما زال الخراب يسرق الأنظار رغم حركة الحياة على جوانبه. البيوت المهدمة والصور العائلية المرمية والتالفة في الأرض، الجدران المتصدعة والكنائس المحروقة والجوامع التي سقطت أحجارها، طرق أغلقت بالأتربة، مدينة الألعاب التي بقي منها القضبان فقط والساحات الخالية كل هذا الخراب يوحي بالأرواح التي غادرت وكأن أشباحها تسكنه.

تتجول الكاميرا في الشوارع لتقدم وجه المدينة، حيث يتجاور الدمار مع البيوت المسكونة، وتعيش بقايا الحرب مع الناس وتشاركهم المكان، السيارات المحروقة والدكاكين بواجهاتها المكسرة، مع بسطات الخضار الطازجة، واجهات  الأبنية المخترقة بالرصاص، الشرفات التي هبط سقفها كأنها عيون أغمضت، ثم الغسيل على أخرى. يتجاور السواد والبياض والأبنية القديمة المهدمة والحجارة الأثرية مع بيوت الإسمنت كأن الموت والحياة جنباً إلى جنب في مشهد المدينة الذي جمع المتناقضات، حركة الناس في الشوارع والمقاهي الفارغة. يقول أحد السكان: “الحياة الاجتماعية باتت ممزوجة بالقهر والحزن والأشخاص يميلون للعزلة والوحدة” في إشارة لغياب الحياة الحقيقية. من المؤسف أن يتحدث الشباب عن سطوة الحزن في أعماقهم حيث كل شيء يأخذك إلى الحزن.

تتنوع الإجابات عن علاقة الناس بالمدينة والمكان. تقول فتاة إن علاقتها بالمدينة مضطربة فرغم حبها لها هناك أشياء أقل من عادية لكنها هنا غير ممكنة. تقول أخرى: “لم يعد لي أحد هنا لكنني أحب المدينة وبقيت لأقدم لها شيئاً”.

  شكلت الحرب مفصلاً قاسياً في حياة الشباب الذين كانوا في بدايتها ليسوا أكثر من أطفال انتزعوا من طفولتهم على صوت الرصاص والقصف وفقدان الأمان وفقدان أحبتهم، فكان الجرح قاسياً. لقد غيرت التجربة  حياتهم.  تتوالى أصوات الرواة في الفيلم  ويخبروننا عن تجاربهم و يعرون الوجه الوحشي للحرب التي يدفع الأبرياء فيها أثماناً باهظة لا يمكن استردادها. ولم يتوقف ذلك حتى بعد انتهاء الحرب التي أرخت على الحياة  الجديدة بظلها بعد عودة الناس إلى المدينة التي غادروها مرغمين بسبب الحصار والاشتباكات المشتعلة حتى تم إغلاقها، إذ تغيرت الأخلاق والحياة والبشر.

 تروي الفتاة كيف قُتل والدها بالخطأ لمروره في  لحظة بدأ فيها تبادل إطلاق الرصاص بين الطرفين المتحاربين: (الجيش “النظامي”، والجيش الحر) ليجمع في جسده رصاصهما كأنه جسد المدينة/الوطن. وتستيقظ العائلة على فقدان الأب والمعيل وكأنهم جميعاً أصابتهم الحرب في مقتل لتحمل وهي في هذا العمر الصغير عبئاً ثقيلاً. أما الشاب فيروي قصة أخيه الذي خطف من قبل من كانوا أصدقائه قبل الحرب فكانوا سجانيه في حمص القديمة وحين تحرر اعتقل على حاجز الجيش بتهمة تشابه الأسماء وبقى مفقوداً يبحثون عنه حتى تم تسليم هويته لوالده مع شهادة وفاة موقعة قبل عام إذ مات “بأزمة قلبية” في المعتقل.

  ما تعجز الكاميرا عن وصف فداحته يرويه الرجل الأعمى، اللقطة الثمينة  في الفيلم،  فكيف له أن يعبر عما تغير في المدينة وما حدث لها وهو الذي لا يرى، يعيدنا في حديثه إلى فترة العودة للمدينة بعد انتهاء الاشتباكات فيخبرنا عن رحلة العودة والفرح الذي غمرهم في الطريق إلى أن صاروا في قلب المدينة فمنذ أن اقتربوا من الساعة القديمة فيها  وصولاً إلى الحي لم ينبس أحد بكلمة لكنه كان يسمع البكاء الصامت، وعرف أن المشهد أكبر من أن يروى.

 لقد تخيل حجم ما يرونه، إذ كان أثناء الحرب يسمع صوت انهيار البيوت بعد تبادل القذائف، البيوت التي تطبق على نفسها. يروي وكأنه يلمس روح المدينة التي أنهكتها الحرب وذاك التعب الذي يهد الروح من حجر وشجر وبشر.

تستمر الحياة بعد الحرب لكنها لا تنجو. فقد ذهبت الحرب بأخلاق الكثيرين وشوهتهم خاصة أولئك الذين عاشوا في ظروف غير آمنة وغير صحية  بالمرة. كما نرى في قصة  الفتاة التي  قُتلت أمها في ليلة العيد من قبل شابين مراهقين بهدف السرقة. تقول: :أنا واثقة أنهما لو طلبا المال من أمي  لأعطتهما إياه دون تردد, لكنهما قتلاها من أجل مبلغ تافه”.  هكذا صارت بلا بيت ولا أهل وحيدة لا تعرف ماذا ينتظرها. 

 حكاية الأم نموذج لكثير من الأمهات الحمصيات بل والسوريات اللواتي غادر أبناؤهن وتفرقوا تحت ضغط الحرب المشتعلة إلى بلاد الشتات. تحدثنا الأم كيف صار البيت فارغاً بعد أن كان يعج بأولادها وأصدقائهم، تنظر من الشباك وتجلس مع الذكريات تنتظر عودتهم، تقول إنها تتواصل معهم عبر الشاشة فتشعر كأنها تشاهد فيلماً وأن هناك شيئاً ناقصاً دوماً فما الذي يُشبع حضن الأمهات.

بين القصص نرى أعمال ترميم ويوميات الناس البسطاء الذين تابعوا العمل ليعيشوا وبعض الحرف التقليدية التي عادوا إليها بحثاً عن لقمة العيش بينما خيل إلينا أنها  انقرضت.

  هل نجا من بقي بعد الحرب؟

يقول أحدهم: بعد الحرب أسوأ من الحرب ذاتها والحياة غدت خانقة ومعطلة رغم أنها تمضي. يرافق ذلك صور المحلات الكثيرة المغلقة والأماكن الخالية والركام. 

تقول الفتاة: صار اليوم الذي لا يحدث فيه موت، أو حدث قاس هو اليوم السعيد الذي نتمناه وكأننا ننتظر كل يوم النجاة من المجهول الذي قد يحدث.

يبدو الإصرار على انتزاع الحياة والأمل رغم كل شيء في حركة الناس وابتساماتهم العفوية وضحكة الأطفال.  يقول أحد الشبان إن التاريخ يعلمنا ان لا شيء سيدوم، وإن التغيير قادم لكن على المستوى الفردي لا شيء واضح أمام الناس، ولا يعرفون ماذا يمكن أن يتغير في حياتهم الآن؟ وماذا ينتظرون؟ 

كان الصمت الموسيقا التصويرية للمشهد في كثير من الأحيان أما البداية  فكانت موسيقا الخوف الذي يسكن الذاكرة تلك التي توحي بالرعب والأشباح ثم أصوات الحياة اليومية، وصوت الرواة، وصوت الأذان الذي يوحي بالسكينة. ثم ينطلق صوت أحدهم في غناء الموشحات الحمصية الأصيلة لتمتزج المشاعر المتناقضة التي يعيشونها ويعبرون عنها بين الفرح و الحزن الثقيل والكره والحيرة والغضب.

يشرك زواهري أشخاصاً من الشارع يقفون للصورة ويمرحون فأهل حمص عرفوا بمبادرة الفرح وبالنكتة الحاضرة، ويقدم  أشخاصاً في عملهم يتحدثون معه ويروون عن حياتهم اليومية. 

القصص  في ملتقى هارموني الثقافي:

 عانت حمص من الحرب مدة طويلة مثل كل المدن السورية وربما أكثر فقد بدأت شرارة الأحداث فيها. وتزداد الحاجة فيها للعمل المجتمعي الذي يعنى بالإنسان سواء الملتقيات أو النوادي التي تقدم نشاطاً نوعياً وفعاليات ثقافية تجمع الشباب لتأسيس بنى جامعة وعمل مشترك يحررهم من عبء الماضي و الشرخ الحاصل، وأمراضه النفسية بالاهتمام واكتشاف كوامن طاقاتهم وإمكانياتهم واطلاقها بحثاً عن أفق جديد. 

يحاول ملتقى هارموني الثقافي أن يقدم فعاليات على هذا المستوى إذ كانت  بعض القصص التي رواها الفيلم جزءاً من مشروع الملتقى بعنوان ما وراء الألوان، تجتمع القصص لتحكي بعض قصة المدينة وذاكرة  جيل من الشباب يحاول الاستمرار رغم كل شيء، وليس بوحهم بهذه القصص سوى جزء من التحرر من التجربة، و محاولة البحث عن شفاء منها. 

سبق ذلك التحفيز على كتابة القصص عبر ورشات كتابة ثم عرضها مكتوبة في  المعرض السنوي للملتقى على شكل خيم إذ تحولت كل خيمة إلى عمل فني متكامل فإلى جانب كل قصة منحوتة أو لوحة رسمت من وحيها وصور غرافيك صممت لها ومعزوفة موسيقية أيضاً وبعض الأشغال المتممة للديكور، في محاولة لوضع الزائر في جو القصة، أراد الشباب أن يخبروا العالم  عبر قصصهم عن تجاربهم المريرة فكانت بمثابة شهادة قدموها وعبر وضع اليد على الجرح الشخصي الذي لم يعد شخصياً أبداً. 

 نجح أنس زواهري في فيلمه بنسج هذه القصص التي عمل عليها الملتقى سواء في المعرض أو خارجه، مع حياة المدينة اليومية سينمائياً، واستقراء عيون الرواة، وهم ينقلونها بصوتهم وحركات جسدهم التلقائية وعفويتهم، إذ يتحدثون، يصمتون، ويبكون. وترتبك حركاتهم، وتتهدج أصواتهم  وتذهب النظرات إلى البعيد.

يقال إن عين الكاميرا تقدم الصورة بشكل مختلف عن عين الإنسان فالمشهد الكامل تعجز العين عن الإحاطة به أحياناً لكن وأنت تتابع الفيلم  وتسير معه في طرقات المدينة القديمة ترتبك ذاكرتك في التعرف على مدينتك وستتردد بالإشارة إلى الأماكن  بالأسماء، ليس لأن الكاميرا تقدم المشهد من زاوية مختلفة عن ذاكرتك فقط، بل لأن الحرب غيرت كل شيء في الأمكنة دون أن تأبه. وهذا ما لخصه زواهري في العبارة الأولى التي أُخذ منها عنوان الفيلم الذي يتابع رحلته في المهرجانات.

على صوت الموشحات الحمصية تنسرب مياه العاصي بهدوء، كأن الحياة التي تمر دون أن تترك أثراً وكأنها ليست أكثر من هامش حياة.

تقف الفتاة التي كبرت أكثر من عمرها تحت عبئها الثقيل تتأمل وردة تفتحت وسط الخراب كأنها رسالة أخرى بلسان الشباب ولكن ليس للعالم بل إلى الحياة نفسها فما زال هناك ورد قد يزهر.