حين تقف عاجزاً عن كتابة الفرح 

  حين تقف عاجزاً عن كتابة الفرح 

منذ نحو سبعة أعوام وأنا أكتب لموقع صالون سوريا، وكانت معظم المواد والتحقيقات التي نشرتها في الموقع وفي مواقع أخرى، طوال أكثر من عشرة أعوام، تدور حول  ظروف الحرب وتبعاتها، الحرب التي فرضها نظام الأسد على الشعب السوري لكي يُجهض ثورته العظيمة التي سيُخلدها التاريخ. كتبتُ عن الشوارع المليئة بمشاهد القهر والألم، والمزدحمة بالمتسولين والمشردين، الذين باتوا جزءاً مألوفاً منها، ونابشي حاويات القمامة التي باتت مصدر رزقهم الوحيد، وباعة الأرصفة الذين يرتجلون من العدم بسطاتٍ تبيع أي شيء يمكن بيعه كي يؤمنوا لقمة عيشهم. كتبتُ عن النازحين والفقراء والمعدمين، وعن المتسربين من التعليم وأطفال الشوارع الذين تربوا وكبروا فيها. كتبتُ عن تدهور الواقع التعليمي والثقافي وعن هجرات الفنانين والمثقفين وأصحاب الشهادات، وعن العقبات والصعوبات التي يواجهها من تبقى منهم في البلاد، كما تحدثت في أكثر من مادةٍ وتحقيقٍ عن أزمات الكهرباء والوقود والمواصلات، وعن تردي الواقع المعيشي والاقتصادي لدى السوريين، الذين أصبح جلهم يعيش تحت خط الفقر، وغير ذلك من الموضوعات التي تناولت معاناة الناس وظروف حياتهم اليومية التي تميتهم كل يومٍ عشرات المرات.   

اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد المجرم، الحلم الذي انتظرناه طوال حياتنا، وقفت عاجزاً طيلة الأسابيع الماضية عن الكتابة عن الفرح، رغم أن حدثاً كهذا، لم نكن نتخيله حتى في أحلامنا، يُمكن أن تُفرد لأجله عشرات بل مئات الصفحات، ولكن كيف يمكن للغةٍ من حروفٍ وكلمات أن تُجاري، تعبيرياً أو شعرياً، ما تقوله الشوارع والساحات التي كانت أفراحها أبلغ وأفصح وأشد تعبيراً من أنواع الفنون والأدب والصحافة كلها؟ أفراحٌ شاسعة بحجم وطنٍ يولد من جديد، كان لصوته الاحتفالي قدرة تعبيرية  فاقت جميع محاولاتي التعبيرية التي عجزت عن صياغة مادةٍ ما، أنا الذي اعتادت لغتي لسنواتٍ على صياغة موضوعاتٍ تفوح منها رائحة بلاد مُنهكة، صُنفت كواحدة من أسوأ أماكن العيش في العالم.   

في الساحات كانت وجوه الناس المُشرقة والطافحة بالنبض والفرح  تكتب نيابةً عني، بعد أن زالت من تعابيرها معالم القهر واليأس والوجع. الأطفال المتسولون والمشردون في الشوارع والعاملون في نبش حاويات القمامة، في الصباح الذي تلا سقوط الأسد المجرم، كانوا يفردون صوره الممزقة على الطرقات والأرصفة ويدعون المارة أن يدوسوا عليها وأن يعبروا بسياراتهم من فوقها، وهم يرقصون ويهتفون هتافات الحرية والنصر الذي كان يَشعُّ من وجوههم التي زينوها برسوم علم سوريا الجديد، وجوههم التي لطالما تلونت بالقهر وأوساخ الشوارع والندبات التي حُفرت فيها. لربما كان هذا المشهد من أروع مشاهد انتصار العدالة. 

  بعض النازحين، الذين عاشوا لسنواتٍ في شققٍ غير مكسوة (على العظم) لا تصلح للعيش البشري، تحولت من سكنِ مؤقتٍ إلى شبه دائم، كانوا يحتفلون بكثيرٍ من الفرح والدموع في ذات الساحات والشوارع، التي لطالما جلسوا فيها باحثين عن أي عملٍ يمكن أن يؤمن لقمة عيشهم المريرة. كانوا يقفون فيها، مع أطفالهم، لأول مرة منتصرين على من دمَّر بيوتهم وهجَّرهم من مدنهم وقراهم، التي بات حلمهم بالعودة إليها قابل للتحقيق، وكان أطفالهم، الذين تفيض عيونهم أملاً وتفاؤلاً، يشعرون لأول مرة أن لديهم وطناً حقيقياً وأن بإمكانهم العودة إلى قراهم ومدنهم التي لم يتعرفوا إليها منذ ولادتهم.

في ساحة الحجاز وخلال وجودي في وقفةٍ تضامنية مع المعتقلين المفقودين، كانت قدسية المشهد وعظمته وملحميته تُلهم ذهني بعشرات الأفكار والمواضيع التي يُمكن الكتابة عنها، لكن دموع المرأة التي كانت تقف بجواري، كانت أكثر بلاغة وتعبيراً من أي كلماتٍ يُمكن أن تُكتب، دموعها التي كانت تشبه سوريا المتخبطة بين مشاعر الفرح والأمل والحزن والفقد والحسرة على المعتقلين الذين استشهدوا لكي يرسموا لنا طريق الحرية. 

كانت صور المعتقلين المحمولة في الساحة تحدق بي، وهي تقول الكثير، وكنت أشيح بوجهي عنها، أخجل من عظمتها ومن النظر إليها. كيف يمكنني أن أكتب عنها بضع كلماتٍ مقتضبة، وكل صورة منها تحفل بعشرات القصص والمشاهد والذكريات، ويُمكن أن تُفرد لأجلها عشرات المقالات؟ 

خلال وقوفي في الساحة فكرت للحظة أن أجمع حكايات بعض الناس الذين حضروا إلى الوقفة، حاملين صور أبنائهم وأخوتهم وأقاربهم المفقودين، علهم يحظون بأي خبرٍ عنهم، لكن نظراتهم، الباحثة عن أي أمل، كانت تصفعني وتجعلني مشلول الحركة، غير قادرٍ على القيام بأي فعل، بل كانت تُشعرني بسخافة أن يُكتب عن معاناتهم فيما يقف العالم بأسره عاجزاً عن تقديم أي خبرٍ يُريح قلوبهم المتعبة التي مزقها الفقد. هربت من نظراتهم ورحت استحضر إلى ذهني، مشاهد المعتقلين المحررين من المعتقلات والسجون، والتي أمضيت ساعاتٍ طويلة وأنا أشاهدها خلال الأيام الماضية، بمزيجٍ من الفرح والحزن. شردت معها بعيداً لدقائق، حتى قاطعت شرودي نظرات شابة كنت أعرفها حين كانت طفلةً في إحدى مراكز الايواء قبل نحو ثماني سنوات. من كان يصدق أنها ستقف اليوم في إحدى أهم ساحات دمشق، وهي تودع الخوف والقهر والعجز، وتحمل علم سوريا الجديد، لتقول للعالم إنها انتصرت على من دمَّر بلادها واعتقل عدداً من أقربائها وشردها مع عائلتها لسنوات طويلة؟. 

في السنوات الماضية تحدثت في أكثر من مادة صحفية عن الجيل الجديد، أو ما يُمكن تسميته بجيل الحرب، الذي فقد شعوره بالإنتماء إلى سوريا المُدمرة والممزقة، التي قد لا يعرف منها سوى مدينته أو قريته، هو الذي  تربى على ثقافة الحرب والانقسام السياسي والخوف من الموت، ولم يتبلور لديه أي مفهوم واضح عن الوطن في ظل انحسار دور المرجعيات الوطنية وتمزق معظم الهويات الوطنية الجامعة. ذلك الجيل، الذي كان السفر إلى خارج البلاد، بالنسبة لمعظمه، الحلم الأبرز وطوق النجاة الوحيد، تراه اليوم، بعد سقوط النظام البائد، يتعافى ويُبعث من جديدٍ، ينهض حافلاً بالطاقات والانتماء الوطني، يَنشَط كخلايا النحل، يحضر في الساحات، في الوقفات الاحتجاجية والتضامنية، في حملات تنظيف الشوارع وزراعة الحدائق، وفي مختلف الأنشطة المدنية، ويشارك في التجمعات السياسية والمدنية وفي المبادرات الشبابية، يُعبِّر عن رأيه ، الذي كان مغيباً، وبكثيرٍ من الحماس والمسؤولية يشعر اليوم أنه أمام فرصةٍ ذهبية ليستعيد انتماءه لبلاده وليكون شريكاً فاعلاً ومؤثراً في صناعة تاريخها الجديد والنهوض بها. 

قبل أيام من سقوط نظام الطاغية المجرم، كنت أفكر بالكتابة عن تلوث الهواء في بعض المناطق المحيطة بدمشق، وخاصة مدينة جرمانا، والتي يضطر الكثير من سكانها، في ظل أزمتي الوقود والكهرباء، لإشعال النايلون والبلاستيك والخشب والكراتين في مدافئهم، وكل ما توفر من موادٍ تساعدهم على استحضار بعض الدفء إلى بيوتهم الباردة. ويؤدي احتراق تلك المواد إلى انبعاث دخان كثيفٍ يلوث الهواء ويبعث على الاختناق. لكن هواء المكان تغير فجأة، بعد سقوط النظام البائد، وليس في الأمر حالة شاعرية ورومانسية، فقد لمس معظم الناس هذا التغيير وأصبحوا يتنفسون هواء مريحاً وخفيفاً وغنياً بالأوكسجين، بعد أن زالت رائحة الخوف واليأس والعجز من الشوارع التي أصبحت مُشرقة ورحبة، وتفوح منها رائحة الفرج والأمل. 

آخر المواد التي كتبتها كانت تتحدث عن انعدام مساحات التنفس عند الناس في سوريا، نتيجة ما أفرزته ظروف الحرب التي التهمت الكثير من المساحات الخضراء وحرمت معظم الناس من طقوس النزهة والسيران  وزيارة البحر، في ظل تدهور الواقع الاقتصادي وتفاقم أزمات الوقود والمواصلات، وهو ما جعلهم يلجؤون إلى أي مساحةٍ زراعيةٍ أو حتى ترابية تذكرهم بالطبيعة. اليوم، بعد سقوط نظام الطاغية، يُمكن القول أن كثير من  الناس وجدوا مساحات تنفسهم في الساحات والشوارع التي بات السير فيها، بالنسبة لهم، نوعاً من النزهة والسيران، بل أن عشرات الآلاف باتوا يأتون كل يوم لزيارة دمشق من مختلف المحافظات، وبعضهم كان يتعرف إليها لأول مرة. الشباب الذين كانوا محاصرين في أحيائهم وحاراتهم وبيوتهم لسنوات، كونهم مطلوبين للخدمة العسكرية، تحرروا أخيراً من سجنهم وتعافوا من رُهاب الحواجز، وباتوا يتنقلون بين الأحياء ويجوبون الشوارع والساحات بكامل حريتهم، وتعلو أصواتهم  في المقاهي وهم يخوضون النقاشات السياسة حول مستقبل سوريا، وكأنهم يولدون من جديد. 

لقد كنت واحداً من أولئك الشباب، وبقيت مشلول الحركة لنحو سبعة أعوام، خشية اقتيادي للخدمة العسكرية الاحتياطية، كنت خلالها أتنقل، عند الضرورة، بحذرٍ شديد، سيراً على الأقدام، وأحياناً كنت أستعين بهوية أخي، وها أنا اليوم أمضي كثيراً من الوقت متجولاً في أحياء دمشق، التي كتبت كثيراً عن تعبها ومرضها وعتمتها، أتسكع في شوارعها بخفة ورشاقة من يمتلك جناحين، وأنا أودع الخوف الذي كان يتربص بخطاي كلما رأيت حاجزاً أو دورية عسكرية. أحاول استعادة علاقتي الحميمية الأثيرة مع المدينة، أُمعن النظر في كل تفصيلٍ صغيرٍ في شوارعها وأبنيتها، أُدرِّب عيني، التي اعتادت لسنواتٍ على رصد مشاهد الفقد والألم والقهر، أُدرّبها على إبصار التفاؤل والأمل والفرح الذي بات يرتسم على كل تفاصيل المدينة ويطل من وجوه الناس. لقد كنت أشتكي خلال السنوات الماضية من نقص الأصدقاء الذين غادر معظمهم إلى خارج البلاد، وها أنا اليوم أكتشف أنه مازال هناك الكثير منهم في دمشق، بعد أن خرجوا من حصارهم وعزلتهم ليبصروا النور، أصادفهم في الشوارع والمقاهي والساحات، التي بت أستعيد من خلالها ذكريات أصدقائي المسافرين، الذين عادت ذكرياتهم وضحكاتهم وأحاديثهم وخطاهم لتطل من كل شارعٍ أسير به، بعد أن باتت عودتهم، التي كانت شبه مستحيلة، إلى سوريا أمراً ممكناً.  

انتهت الحملة الأمنية في مدينة حمص ولم ينته الخوف

انتهت الحملة الأمنية في مدينة حمص ولم ينته الخوف

لا أعرف من روى نكتة أنه لو فُرض علينا حظر تجول لخرجنا نتفرج على حظر التجول! هذا ما حدث في الحي عند بدء الحملة الأمنية على بعض أحياء حمص التي وُصمت بالموالاة للتفتيش عن السلاح وفلول النظام كما قيل، إذ خرج سكان الحي ووقفوا “يتشمسون” أمام أبواب البيوت كي يراقبوا السماء حيث كانت الطائرات المسيرة تصور الحركة في الأحياء، محاولين استطلاع تقدم عمليات التفتيش في الشوارع.

ربما كان هـذا فضولاً أو رهاناً على الآخر الجديد والغريب الملثم بقناع ردع العدوان، من البسطاء الذين استغلهم بشار الأسد والذين تمنوا سراً كل يوم سقوطه. 

أربعة عشر عاماً من القمع والقصف والتعذيب في السجون وشيطنة الآخر وتجريمه بالخيانة والطائفية على يد النظام الذي زج بالشباب السوري في الدفاع عنه في حربه الطويلة ضد الثائرين عليه، بينما كان على مدى خمسين عاما يعمق الطائفية بين مكونات الشعب السوري فلم يتوقف منذ الثمانينات عن ضخ الماء العكر في القنوات ليسمم مكونات المجتمع. وبدل أن يمد جسور المواطنة كان يقطعها بتغذية الانتماءات الطائفية  والعشائرية والعائلية ليحافظ على وجوده أولاً وعلى خزان القوى البشرية لجيشه وعلى دعم فئات لها وزنها خارج البلاد.

إشارة استفهام حول معايير اختلاف التعامل مع السكان  

بدأت الحملة الأمنية دون إنذار مسبق، إذ استيقظنا على صوت رشقات  الرصاص من عدة أنواع من السلاح، للوهلة الأولى كنا بحاجة لوقت لاستيعاب الحدث وما يمكن أن يليه فكل الاحتمالات ممكنة، والخوف حالة غريزية عند الإنسان يثيره المجهول وغير المجرَّب حتى الآن. كان الوقت يمر ببطء في انتظار وصول الشباب للتفتيش حتى سمعنا صوت يحث الجميع على الدخول إلى المنازل، ولعلها نكتة حمصية أن نقول: إن الذين انصاعوا قلائل. 

عرّف شباب الحملة عن أنفسهم بالشرائط الملونة على الكتف وكان بعضهم يضع شرائط حمراء وبعضهم الآخر صفراء وخضراء فهل اختلف السلوك حسب لون الشريطة أم حسب الحي؟

بعضهم دخل المنازل وهو يعتذر قائلاً إنه لا يمتلك وقتاً لخلع الأحذية وعبر عن أسفه للأمهات لأن سجاد المنزل قد يتسخ، وبعضهم الآخر زاد على تهذيبه بعض التلميحات التي تحمل اللوم والتنديد بصمت سكان هذه الأحياء على قصف النظام لهم والمقارنة بين دخولهم إلى بيوتها ودخول شبيحة النظام الساقط إلى بيوتهم في سنوات سابقة وكيف أن الشبيحة لم يتورعوا عن ارتكاب المذابح والمجازر والتقاط الصور مع الضحايا.

بعضهم قام بكسر الآلات الموسيقية والشاشات ربما لأنه يرى الموسيقا حراماً والتلفاز بدعة! وثمة من لم يكتف بالكلام، بل صب جام غضبه المكبوت على بعض الشبان ضارباً ومعنفاً ومهيناً لهم إذ تناقلت الصفحات فيديوهات لإذلال الشباب بعد جمعهم سواء بالضرب أو الطلب منهم القيام بالنباح أو تقليد صوت الحمار. 

وهو ما كان يفعله سجانو النظام  مع السجناء بإجبارهم على النباح أو تقليد أصوات الحيوانات،  فهل فكر هؤلاء الشبان وهم  يقومون بذات الفعل الذي قام به سجانو الأسد في النظام السابق بخطورة فعلهم؟ وهليفكرون بتحويل سوريا إلى سجن كبير؟ 

عدالة أم انتقام؟

كان الخطر يكمن في طبيعة النظرة التي تم إيصالها للآخر فهو حين يجبره على تقليد صوت حيوان عملياً يقول له إنه يراه بهذا المستوى ويحط من  كرامته الإنسانية إلى مستوى أقل في التطور، وهذا يعني أنه لا يريده شريكاً، وعلاقته لن تتعدى هذا المستوى. نتذكر كيف كان ينظر البيض إلى الأفارقة على أنهم بمستوى أقل إذ كان في بداية القرن الماضي يتم عرضهم في أقفاص، وهو ما يشابه ما قامت به السلطة النازية بإذلال الشعوب الأخرى على أساس التمييز العرقي.

يرافق الإذلال حين يكون علنياً ومصوراً إحساس بالخزي والعار وهنا يترك الممارس عليه عرضة لحالات مختلطة تتوقف على كونه فردياً أو جماعياً و تتراوح بين الانتحار والانتقام فإن كانت الجهة التي تمارسه لها شكل سلطة واضح ومحدد يزداد الشعور بعدم القدرة على رد الاعتبار وهو ما يمكن أن نراه في حالة البوعزيزي الذي أشعل الربيع العربي، أما إن كان غير ذلك فقد يؤدي إلى محاولة رد فعل عنفي، إذ يسقط الإنسان المقهور ذات الفعل على غيره في محاولة التعويض النفسي للإحساس بالخزي.

هل من عدالة في شعار من يحرر يقرر؟

سُجلت هذه الانتهاكات كحالات فردية وشعر الناس بالراحة بعد انتهاء الحملة الأمنية لكن ما حدث من حالات فردية زرع الخوف من طبيعة المرحلة القادمة في البلاد خصوصاً بعد الرد على كل انتقاد بشعار من يحرر يقرر وهذا تلميح بالسعي للانفراد بالحكم ورغبة ضمنية بإقصاء الآخر وتغيير جوهر الثورة التي قامت على أساس رفض ديكتاتورية الأسد التي انفردت بالحكم وأقصت سائر فئات الشعب الأخرى، الثورة التي نادت بالحرية هدفاً أول.

 إن هذه الأفعال الانفعالية والشعارات لا تبني سوريا القادمة التي تحتاج  إلى كل الجهود والترفع على الآلام والماضي مع محاسبة المجرمين والقتلة فالعدالة التي تبني سورية ليست الانتقامية والثأرية بل عدالة قانونية تستهدف كل من حمل إثم الدم السوري.

إن اللجوء إلى الفعل الانتقامي دون رقابة أمنية خطير لأنه يهدد الشراكة التي تقوم عليها الدولة والتي قام الأسد ونظامه بتدميرها، ليس فقط كمؤسسات بل أيضاً كقاعدة شعبية، ولنتذكر الآية الكريمة “لا تزر وازرة وزر أخرى” فبعض الشبان الذين تعرضوا للإذلال من أعمار صغيرة ولم يشاركوا بأي فعل عنفي  يستحق الانتقام. 

تم اعتقال كثير من الشبان أثناء ذلك، ثم تم الإفراج عن 360 شاباً منهم فقط بينما ما زال الأهالي ينتظرون أولادهم على أحر من الجمر. 

في هذه الأثناء تتواصل حوادث الاختطاف وتهدد السلم الأهلي في المدينة بينما يعرف الجميع أن التركة التي ورثها الشعب السوري من النظام الساقط ثقيلة كهذه الأيام، والكل يتمنى أن يتجاوز ذلك بأقل الخسائر، فهل ينجح؟ 

افتحوا النوافذ كي يدخل هواء الحرية النقي

افتحوا النوافذ كي يدخل هواء الحرية النقي

يصدمنا الإعلام الاجتماعيّ كل يوم بمقاطع فيديو وأخبار حول امتهان كرامة الإنسان في سورية عن طريق استفزازات لفظية وعنفٍ جسديّ يُمارَس ضد أشخاص تصنّفهم الآلة الإعلامية للمرحلة الانتقالية على أنهم من “فلول النظام“ السابق. ولقد سمعنا عن أشخاص تُقتحم بيوتهم ويُختطفون، ورأينا أشخاصاً يُرْفسون بالأقدام ويُنكّل بهم ويُهانون ويُشْتمون في استعراض مشهدي يهدف إلى الإذلال وإهانة الكرامة. يحاكي هذا الأداء ويستنسخ ممارسات الأجهزة الأمنية السورية القمعية والوحشية التي كرهها وعانى منها معظم السوريين الذين يتوقون إلى رؤية سلوك قانوني يجسّد مفهوم الدولة، ويحقق العدالة ويدين المجرمين في المحاكم، بعيداً عن الممارسات المخالفة للقانون التي تزرع الغضب في النفوس وتحصد الخراب. إن الانتقام، في المراحل الانتقالية، يهدم البلدان، ويعجّل في خرابها، ولهذا حذّر المفكرون والباحثون والفلاسفة والحكماء وعلماء السياسة من خطره.

من معاني الانتقام في اللغة العربية ”مقابلة السيئة بمثلها“. والانتقام ”معاقبة الشخص على ما صنع معاقبةً ناشئةً من القوّة الغضبية، و بدافع نفسي وذاتي“. ونظر حكماء العرب إلى الانتقام على أنه فعلٌ هدّام يمنح لذّة على المدى القصير لكنه يُورث الندم على المدى الطويل. وذُكر في مصادر التراث العربي أن المنصور قال لولده المهدي: إن ”لذّة العفو أطيب من لذة التشفي“. وانتقد ابن القيّم الانتقام قائلاً: ”وفي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة، والسكينة وشرف النفس، وعزها ورفعتها عن تشفّيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام“.

يتقاطع رأي المتنورين العرب مع رأي فلاسفة اليونان في أن للانتقام عواقب خطيرة. فقد انتقد أرسطو الانتقام قائلاً إنه ليس من العدل إلحاق الأذى بأي شخص، حتى وإن كان ذلك في إطار الرد، لأن الأذى في حد ذاته ليس عادلاً أبداً.كما أن الانتقام تعبير عن الرذيلة، لا الفضيلة، لأن الرجل الفاضل الحقيقي يتصرّف بهداية من العقل لا العاطفة، ويسعى إلى خير الجميع، وليس نفسه فقط، كما أن مقولة “العين بالعين”، تقوّض السّعْيَ العقلانيّ لتحقيق العدالة. 

يتّفق المفكرون الحديثون مع حكماء العرب، وفلاسفة اليونان، على أن الانتقام سمّ يقتل روح من يسعى إليه، ويلوّث العالم الذي يتم فيه. لكن العدالة، عن طريق الوسائل القانونية، تسمح بإمكانية الشفاء وإعادة البناء، كما تقول الباحثة القانونية الأمريكية، وأستاذة القانون في جامعة هارفارد، مارثا مينّو في كتاب صدر في ١٩٩٨بعنوان “بين الانتقام والتسامح: مواجهة التاريخ بعد الإبادة الجماعية والعنف الجماعي“. إن الانتقام، حين يُمارَس خارج إطار القانون، يؤدي إلى إدامة العنف. وإذا أصبح الانتقام مبدأ موجِّهاً للعدالة، من الممكن أن يقود إلى تأجيج الصراع، وإطلاق دورة لا نهاية لها من العنف والعنف المضاد. 

يولّد غياب حكم القانون، في أعقاب الانقلابات والصراعات وسقوط الأنظمة، فراغاً يتفشّى فيه العنف والانتقام دون رادع. ويقود في غالب الأحيان إلى وضع يسود فيه حكم الغوغاء والمجرمين. بالتالي، إن الاعتراف بحقيقة ما حدث، والمساءلة القانونية، ضرورة لا بدّ منها للتعافي المجتمعي، لكن الرغبة في الانتقام يجب أن تُدار بعناية عن طريقالعملية القانونية، والجهود الرامية إلى بناء مستقبل مشترك تحت مظلة العدالة الانتقالية. قد يقدّم القصاص لذة وإشباعاً عاطفياً، كما تقول مينو، ويمكن أن يعدّه البعض “عادلاً”، إلا أنه ينتهك المبادئ الأخلاقية. وعندما يحدث خارج إطار القانون يكون مدفوعاً بالغضب، أو الإذلال، أو الرغبة في التشفّي، وهي مشاعر لا تؤدي بالضرورة إلى نتائج عادلة. علاوةً على ذلك، إن القوى المنتصرة التي تستلم السلطة، إذا سعت إلى الانتقام بطرق غير قانونية، فإنها تخاطرُ بالتضحية بشرعيتها الأخلاقية، وتآكل الأساس الأخلاقي اللازم لإعادة بناء مجتمع عادل وديمقراطي. ويؤدي هذا إلى إضعاف القدرة على الحكم والحفاظ على النظام. وتشير مينو إلى أن الانتقام قد يوفّر إرضاء عاطفياً فورياً للضحايا، لكنه يهدّد الاستقرار على المدى الطويل لأنه ينكأ الجراح، ويُحْدث صدمة جماعية، ويفاقم المشكلة، ويزيد أيضاً من الانقسامات القائمة، مغذياً الاستياء بين الجماعات المتصارعة. وعندما يتم الانتقام خارج الأطر القانونية، فإنه يقوّض الثقة في القوى المنتصرة.  هذا ما حذّر منه الفيلسوف وعالم السياسة النرويجي جون إلستر حين قال: إن الأخذ بالثأر، خارج إطار القانون، يتمخض عنه في معظم الأحيان وضعٌ تصبح فيه العدالة تعسفية، وذات دوافع سياسية، وتتقوّض عملية الانتقال إلى نظام ديمقراطي، لهذا ينبغي أن يكون حكم القانون مبدأ أساسياً. 

يتقاطع ما قاله الفيلسوف النرويجي مع ما أكّده عالم اللاهوت الكرواتي ميروسلاف فولف، الذي شدّد على أهمية الصفح في مجتمعات تمرّ في مراحل انتقالية بعد الصراعات، أو سقوط الأنظمة. فالصّفح ليس مجرّد عمل أخلاقيّ بل عمل سياسي يمكن أن يمهّد الطريق للسلام. وفي المجتمعات التي تمرُّ في مرحلة ما بعد الصراع، يجب فصل الانتقام عن العدالة، لأن الانتقام يرتبط بالماضي، في حين ترتبط العدالة والمصالحة بالمستقبل وبنائه. علاوة على ذلك، يعوق الانتقام عملية التعافي لهذا يجب على المجتمعات أن تجد سبلاً للصفح والتسامح من أجل إعادة بناء نسيجها الاجتماعي كما شدّد كبير أساقفة جنوب أفريقيا السابق، الحائز على جائزة نوبل للسلام في ١٩٨٠، ديزموند توتو، الذي عيّنه الرئيس الراحل نيلسون مانديلا رئيساً للجنة الحقيقة والمصالحة، التي شُكلت للتحقيق في جرائم ارتكبها جانبا الصراع في جنوب أفريقيا إبان حقبة الفصل العنصري. 

تتقاطع هذه الآراء مع آراء ناشطين سوريين بارزين شاركوا في الثورة السورية في بداياتها المدنية، وتعرّضوا لأحكام سجن ظالمة وغير إنسانية، من أمثال الناشط الحقوقي ومدير شؤون المحتجزين في فريق الطوارئ السوري، عمر الشغري ابن قرية البيضا في بانياس، الذي عبّر في إحدى حلقاته على إنستغرام، عن رؤية عميقة تثير الإعجاب (نظراً لتجربته المأساوية، ونجاته بأعجوبة من الموت في السجن) حين قال: إننا يجب أن ننطلق من أساس قانوني يخدم العدالة مبتعدين عن الغضب والانتقام كي لا نرتكب جرائم قمنا بإدانة نظام الأسد لأنه اقترفها. في السياق نفسه أكّد المحامي السوري، وناشط حقوق الإنسان، ورئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، والمعتقل السابق مازن درويش، في حوار أجْرته معه ”مجلة المجلة“ أن الجرائم التي ارتُكبت في سوريا لم تكن أحادية الجانب، بل تمّت على أكثر من مستوى، وفي أكثر من سياق، ومن قبل أكثر من طرف. تحدّث مازن درويش عن مستويات في الصراع السوري لها أساس طائفي، وأخرى لها أساس عرقي ومناطقي، وعن صراعات بينية حتى بين القوى المنتصرة، ما يقتضي التعامل بنزاهة قانونية مع الجرائم التي ارتُكبت. 

يتطلع السوريون إلى الخروج من نزعة القبائل والطوائف والعشائر الثأرية إلى المساءلة القانونية، تحت مظلة العدالة الانتقالية، التي يطبقها ”شعب“، أو “مجتمع حضاري“ يعيش في دولة قانون ومواطنة هي وحدها الكفيلة ببناء وطن للجميع. إن تحقيق العدالة يتطلب معاقبة مرتكبي الجرائم، والاعتراف الجماعي بالمعاناة، والالتزام بالحقيقة، وخلق مساحات للمصالحة كما يُجمع علماء السياسة. في غياب هذه العناصر، قد يتحوّل الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية إلى انتصار أجوف، من شأنه أن يعمّق الانقسامات، ويطيل من أمد العنف. وكما قال الأب ديزموند توتو في خطبته التي حملت عنوان ”لا مستقبل من دون صفح“: إن الصفح لا يعني التظاهر بأن الأمور مختلفة عما هي عليه في الواقع، إن الصفح مواجهة، وذكر للحقيقة كما هي، وتخلّ عن الانتقام، ونظر في عينيْ الوحش. إنه كمثل فتح نافذة لجعل الهواء النقي يدخل إلى غرفة مغلقة ورطبة ومظلمة، وإزاحة الستائر كي يغمرها الضوء“.

السيرورة المألوفة: من الخطاب المتطرف إلى الاعتدال

السيرورة المألوفة: من الخطاب المتطرف إلى الاعتدال

لطالما خطرت في ذهني وأنا أفكّر بالوضع الذي آلت إليه الأمور في سورية في ظلّ حكم نظام بشار الأسد، قصيدةُ الشاعر اليوناني قسطنطين كافافي الشهيرة “بانتظار البرابرة .“اليوم وصَل من صوّرهم إعلام النظام السابق بأنهم ”برابرة“، و”إرهابيون” إلى العاصمة، وجلسوا على الكرسي الذي ورثه بشار. لكنهم لم يأتوا مرددين ”بالذبح جيناكم“، بل استخدموا لغة مسالمة وتصالحية خالية من الإقصاء والعنف، وجّهوها إلى السوريين من مختلف الطوائف والمذاهب، الذين عانوا من التدهور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعسف والإجرام الأمني في ظل حكم الأسد، إلى درجة أصبحوا فيها مستعدين لإنشاد خاتمة قصيدة كافافي بمكبرات الصوت: ”ما الذي سيحدث لنا من دون البرابرة؟ لقد كانوا نوعاً من الحل”.
عمل النظام الديكتاتوري العسكري السابق طوال عقود على إفراغ البلاد من أي بدائل سياسية تقدمية أو يسارية أو علمانية حقيقية عن طريق قمع وحشي مارستْهُ أجهزته الأمنية دفع العديد من السوريين إلى الانضواء تحت رايات التنظيمات السلفية الجهادية المتطرفة. وحاول النظام تصوير نفسه على أنه يقاتل هذه التنظيمات، وحظيَ بقبول عالمي نوعاً ما، وتم الترويج له بأنه يمثّل التوجهات النيوليبرالية، وحرية السوق الأمر الذي اقتضى رسم صورة براقة عنه تقدمه كمتحضر إزاء “متخلفين” ثائرين عليه يجب ضبطهم كما قالت الباحثة الأكاديمية الأمريكية ليزا ودين في حوار أجريتهُ معها منذ عدة أعوام، ونُشر في “العربي الجديد”. تحدّثت ودين عن صورة عالمية ـ محلية ارتبطت فيها سيطرة النظام برأسمال خاص، وتجسّدَ هذا رسميًا في تسويق صورة عصرية عن “عائلة الرئيس“ في الإعلام قُدم فيها أفرادها كأعضاء للطبقة الأخلاقية النيوليبرالية. إلا أن هذه الصورة لم تكن حقيقية، ولم يفعل النظام شيئاً سوى سنّ سكّين القمع على مِشْحَذ تحالفات عبّدت له طريقاً في فراغ تهاوى فيه واختفى كأنه لم يكن موجوداً، ولم يبق منه إلا الجراح التي أحدثها في الجسد السوري.

يتجلى اليوم في سوريا مشهد حيويّ يفتح باب التحولات السياسية. أحد أبرز هذه التحولات هو الانتقال المتوقع إلى شكل الحكم القادم في ظل قيادة هيئة تحرير الشام، والتي تتبنى الآن لغة الاعتدال وقبول الآخر والانتقال إلى مرحلة المؤسسات، بحسب تصريحات مسؤوليها. وحين سأل مراسل الجزيرة زعيم هيئة تحرير الشام عن شكل الحكم القادم في سورية، وإن كانت تركيا توافق عليه، في المؤتمر الصحفي الذي عُقد مؤخراً في دمشق مع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان اعتبر أن السؤال موجه إلى وزير الخارجية التركي، إلا أنه في جوابه على سؤال آخر قال: ”إن منطق الدولة يختلف عن منطق الثورة“، وأنه يجب تأسيس دولة ”تليق بوضع المجتمع السوري“. هذه التصريحات تحمل دلالات واضحة تشير إلى توجّه نحو الاعتدال، رغم أنها قد تحتمل أيضاً قراءات أخرى بسبب عدم توفر سياق كاف يوضح الأمر بشكل تفصيلي. ولقد تحدّث وزير الخارجية التركي عن ضرورة صياغة دستور جديد يرسّخ المواطنة والتساوي في الفرص والواجبات، ويحمي المجتمع من تسلّط فئة على أخرى.
يُستشفّ من هذه التصريحات الإعلامية وما سبقها، ومن السلوك على الأرض السورية، أن هيئة تحرير الشام عدّلت خطابها، وتبنت لغة سياسية معتدلة تقتضيها عمليه الحوكمة التي تهيئ نفسها لها، وهذه الظاهرة ليست جديدة في الشرق الأوسط، فقد حدثت في دول مثل إيران ومصر، إلا أن الوضع في سوريا أشد تعقيداً، وما يزال علينا أن ننتظر كي نرى إذا كان باب السلطة القادمة سيُفْتح لمشاركة الآخرين.
في كتابه “الإسلام والسياسة” (صدرت طبعته الرابعة في الإنجليزية في ١٩٩٨)، درسَ الباحث والأكاديمي الأمريكي جون إل. إسبوسيتو، أستاذ الدين والشؤون الدولية والدراسات الإسلامية بجامعة جورجتاون، ظاهرة الانتقال من الخطاب المتطرف إلى الاعتدال في الحركات الإسلامية، وأشار إلى أن الحركات الإسلامية السياسية غالباً ما تبدأ بخطابات أيديولوجية راديكالية تدعو لإقامة دولة إسلامية تحكمها الشريعة، ولكن بمجرد أن تصل إلى السلطة تجد نفسها أمام التعقيدات الكبيرة لعملية إدارة الدولة وللحوكمة ما يدفعها للتكيف مع الواقع السياسي، وتقديم تنازلات، وهو ما يفضي إلى تحوّل تدريجي نحو الاعتدال. هذا ينطبق قليلاً على هيئة تحرير الشام، التي منذ أن تولت إدارة المناطق المحررة في إدلب، لوحظ تغير جليّ في سلوكها. فقد تحولت من مجرد حركة جهادية سلفية متشددة إلى “حكومة مصغرة” تدير الشؤون اليومية للسكان. وربما كان هذا التحول ناجمًا عن ضغوط داخلية وخارجية، وعن الحاجة الماسة للتكيف مع الواقع السياسي.

في كتابه “جعل الإسلام ديمقراطيًا: الحركات الاجتماعية والتحول ما بعد الإسلاموي”، يدرس المفكر والمؤرخ آصف بيات كيفية تحول الحركات الإسلامية من جماعات متطرفة إلى حركات تتبنى مواقف أكثر اعتدالًا. ذلك أن هذه الحركات، عند وصولها إلى السلطة، تدرك صعوبة تطبيق أفكارها المتشددة، مثل إقامة دولة إسلامية تتقيد بالشريعة. وبالتالي، تبدأ بحثها عن تسويات مع القوى السياسية القائمة، سواء على المستوى المحلي أو الدولي. في إطار هذا التوجّه تبنت الحركات الإسلامية في مصر وتونس وتركيا وإيران خطابًا أكثر ديمقراطية وتعددية بعد وصولها إلى السلطة، نتيجة للضغوط السياسية والاقتصادية. وأصبحت مضطرة للتعامل مع قضايا معقدة مثل الإصلاح الاقتصادي والتعليم والرعاية الصحية، الأمر الذي تطلب اتخاذ قرارات سياسية عملية احتاجت إلى تفاوض وتسوية مع أطراف متعددة. وتلعب العوامل الداخلية والخارجية، بحسب بيات، دورًا جوهريًا في تحول التنظيمات الإسلامية نحو الاعتدال. فالعولمة والضغوط الدولية تدفع هذه الحركات إلى تبني سياسات براغماتية تتماشى مع معايير الحكم المعترف بها دولياً. كما أن الشباب داخل هذه الحركات، يعارضون التفسير المتشدد للإسلام، ويلعبون دورًا مهمًا في دفع الحركات الإسلامية نحو الاعتدال عن طريق مطالبتهم بمزيد من الحريات السياسية والإصلاحات الديمقراطية، ما قد يشجع الحركات على إعادة النظر في بعض مواقفها التقليدية.
يتفق بيات وإسبوسيتو على أن التنظيمات الدينية، عندما تنتقل من المعارضة إلى الحكم، تواجه تعقيدات إدارية تدفعها إلى اتخاذ قرارات قد تتناقض مع أيديولوجياتها الراديكالية الأصلية. ذلك أن إدارة الدولة تتطلب وضع سياسات عملية تتعارض في كثير من الأحيان مع الرؤى الطوباوية، مثل إنشاء دولة إسلامية نقية، أو فرض تفسيرات صارمة للشريعة. كما أن حكم دولة ما يتطلب توازناً بين المصالح المتنافسة داخلها، وإدارة المطالب المجتمعية المتنوعة، فضلاً عن الانخراط في الأنظمة الاقتصادية العالمية. وبالتالي، تجد هذه الحركات نفسها مضطرة لتنفيس تشددها الأيديولوجي لضمان قدرتها على الحكم بفعالية.
تتسارع التغيرات في الداخل السوري وتظل التساؤلات والشكوك قائمة بشأن كيفية تأثيرها وتجليها في طبيعة وتركيبة النظام الذي سيحكم دمشق مما يبقي المستقبل مفتوحاً على العديد من الاحتمالات خاصة أن الوضع الداخلي يسوده الترقب في ظل تفاقم التوتر وتعقيدات الوضع في الشمال، واستمرار خروقات جيش الاحتلال الإسرائيلي وتعدياته في الجنوب.

السويداء وسقوط نظام الأسد

السويداء وسقوط نظام الأسد

لم يكن يوم الثامن من كانون الأول/ديسمبر يوماً عادياً في حياة السوريين\ات عامةً وأهل محافظة السويداء خاصةً. منذ أواسط شهر آب/أغسطس عام 2023 بدأ أهل مدينة السويداء جنوب البلاد احتجاجات واسعة على نظام حكم الأسد السابق وسياساته الاقتصادية كرفع سعر البنزين والمشتقات النفطية في سوريا. تنامت الاحتجاجات سريعاً لتصير حاشدةً وتلقى تأييداً شعبياً وجماهيرياً توّج بوقوف المشيخة الدينية الروحية لطائفة الموحدين الدروز إلى جانب الحراك ممثلةً بشيخ العقل حكمت الهجري، فيما احتفظت المرجعيتان الباقيتان والممثلتان بشيخي العقل يوسف جربوع وحمود الحناوي بالحياد المائل نحو النظام المخلوع في أغلب الأحيان.

مظاهرات معيشية فسياسية

تجمهرات السويداء اليومية التي استمرت حتى سقوط النظام بدأت بيافطات ومطالب معيشية فقط، ولكنّها سرعان ما تحوّلت لمظاهرات سياسية تطالب برحيل الأسد وتطبيق القرار الأممي 2254 الذي يقضي بانتقال سلمي للسلطة في بلدهم. وفي أفضل الأحوال لم يتوقعوا أحداثاً دراماتيكيةً سريعةً تهوي بنظام الحكم في بلدهم بين ليلة وضحاها.

مظاهرات السويداء حملت لأهلها التخوين والعمالة، وما زاد من تجييش النظام ضدهم هو رفع المتظاهرين صورة مقسّمة لنصفين إبان طوفان الأقصى، تحمل تلك اليافطة صورة نصفها للرئيس الأسد ونصفها الآخر لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو. فبدوا وحيدين في ميدان القتال مستشرفين أياماً لم تكن بقية المحافظات على اطلاع عليها، والمطلعون عليها جرى كمّ أفواههم بقوة المعتقل كما حصل بناشطي الساحل السوري.

أصوات مناصرة

بالتزامن اجتاحت موجة من التضامن بقية المحافظات، ولكن دون أن تصل مرحلة المظاهرات، إنما اقتصرت على رفع الأصوات علانية ودون هوادة على مواقع التواصل الاجتماعي.

استشعرت السلطة سريعاً حساسيتها وخطورتها في مناطق الساحل السوري خاصةً، البيئة الحاضنة الأمتن للنظام السوري السابق، فجرى سريعاً تغييب تلك الأصوات جنائياً أو أمنياً، وبالفعل سريعاً خمدت تلك الأصوات المناصرة للسويداء.

كان ذلك المؤشر الأول للنظام الساقط على فقدان شرعيته وبيئته الحاضنة ونقاط ارتكازه السابقة، ولكنّه مارس دوره في المكابرة والاستنكار معتبراً أنّ الأمور بخير. وظلّ يتصرف على ذلك النحو حتى اضطر الرئيس السابق للفرار كاللصوص من مطار حميميم الروسي في مدينة اللاذقية.

كانت المؤشرات تتوالى تباعاً، أولها من السويداء، وليس آخرها تحذيرات إيران للأسد بأنّ جيشه يتهاوى ويفتقد المعنويات، كان ذلك قبل أسبوع من سقوطه، لكنّه مرّة أخرى كابر ورفض وظلّ كذلك حتى اجتاح بضع مئات من المقاتلين المعارضين حلب وحماه وحمص ودمشق وهو في غفلة عن أمره وحاله.

وصلت الأمور بالرئيس المخلوع عن كرسيّه “الأبدي” الذي ورثه ليكمل عهد 54 عاماً من حكم عائلة واحدة أن هرب دون أن يخبر شقيقه وأقرب المقربين إليه من حمايته الشخصية وصولاً لمستشاريه وكبار ضباطه تاركاً إياهم لمصير غير معلوم. ليسأل الشارع والمجتمع الدولي لاحقاً: أيّ رئيس هذا الذي يمضي دون أن يخبر أخاه بخطة هربه، وليترك شقيقه يواجه مصيراً كان يمكن أن ينتهي بأسوأ الاحتمالات لولا نجاح هروبه عبر العراق، يقول الناس: “تلك نذالة اشتهر بها الأسد منذ كان شاباً، ولم يغير هذا الطبع حتى في عزّ أزماته”.

تجييش وأحقاد

استاء أهل السويداء من النظام السوري منذ أيام اجتياح داعش ريف المحافظة الشرقي في أواخر تموز/يوليو عام 2018، حيث اتهم الأهالي وفصائل محلية مسلحة النظام والقوى الأمنية بقطع الكهرباء عن المنطقة وقت الهجوم ووقف إمدادهم في المنطقة تاركين إياهم شبه عزل في معركة غير متكافئة قضى فيها أكثر من 200 مدني في قرى ريف السويداء الشرقي على أيدي تنظيم الخلافة. وبالفعل ذلك ما كان، وما كشفته الأيام اللاحقة.

يقول مهيب أبو باكير أحد سكّان تلك القرى ومن أبرز المشاركين في مظاهرات السويداء خلال أشهرها الأولى إنّ الدولة بصورتها الرسمية تركتهم لمصيرهم بغية الاستثمار السياسي فيما سيحصل وكدرس لأهل السويداء الذين تمرد سابقاً الكثير منهم على الحكومة وشكّلوا فصائل مناوئة لها.

ويضيف: “تشكيل بقية الفصائل جاء لحمايتنا بعد اغتيال الشيخ وحيد البلعوس زعيم حركة رجال الكرامة عام 2015، وكان لدى شريحة واسعة منّا إيمانٌ أنّ الدولة تركتنا ككبش فداء لداعش من جهة والمخدرات من جهة أخرى ومن جهة ثالثة لجماعات مسلحة كانت ترعاها هي وتلك المجموعات تمارس البلطجة علينا لصالح الأفرع الأمنية”.

دويلة لا تريد الفدرلة

خلال ذلك، وبعده، إلى ما قبل سقوط النظام، عانت السويداء ككثير من المحافظات السورية شحّاً هائلاً في معظم الموارد والاحتياجات الأساسية من ماء وكهرباء وبنزين ومازوت وحوامل طاقة وغيرها، ما جعل الغضب يتصاعد يوماً تلو آخر، وتفقد الدولة بأجهزتها الرسمية مكانها تباعاً، لتحلّ الأعراف العشائرية وشبه الإدارة المحلية محلّها.

احتياج السويداء لتلك العوامل الصحية الأساسية كان شكلاً رئيساً من أشكال الغضب المتفجّر، فتمكنت فصائلها من إنشاء دويلة داخل دولة دون المطالبة بأي نوعٍ من الفدرلة. ولكن ما حصل كان أفضل، على ما يقوله أهالٍ في السويداء، فالنظام بأسره سقط أخيراً، بعد 14 عاماً من حربٍ وقصف وجوع وتنكيل ومعتقلات سرية وتغييب قسري وانتهاك حرمات وسوقٍ إجباري للتجنيد واستخدام أولادهم كحطب للموقدة المشتعلة من أجل الحفاظ على الكرسي.

تواجد شكلي

قبل سقوط النظام ما كان يحصل عند إيقاف القوى الأمنية لمواطن من السويداء في محافظة أخرى، هو لجوء الفصائل المحلية (وأحياناً عوائل المعتقلين) لقطع الطرق في المدينة وخطف ضباط وعناصر من الجيش والأمن للضغط على السلطات نحو الإفراج عن الموقوف، وهو سيناريو قد نجح عشرات المرّات على الأقل.

وفي السياق فإنّ النظام حافظ حتى يوم خلعه على تواجده الرسمي ولو بشكل مبسط عبر فرع حزب البعث، ووجود محافظ ومكتب تنفيذي للمحافظة، ومؤسسات خدمية، وقطعات للجيش أبرزها القوات الخاصة، ومجمل الأفرع والأقسام الأمنية وقيادة الشرطة، والتي تبدو جميعها غير مرحبٍ بها، وتتعرض لهجمات بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة بين وقتٍ وآخر. أما اليوم فجميعها لم تعد موجودة في سوريا الجديدة.

مفاوضات خارج عباءة السلطة

وفي آخر الحوادث التي شهدها النظام الساقط هو إلقاء قواته الأمنية القبض على الشيخ بهاء الشاعر في شهر أيار/مايو الفائت في دمشق، لتختطف فصائل السويداء ضابطاً وثلاثة عناصر للمقايضة عليه، وكانت المرّة الأولى التي تطول فيها عملية التفاوض إلى هذا الحد، فعادةً ما تنقضي تلك الأمور ويتم الإفراج عن المتهم خلال أيام.

هذه المرة توجه وفد من مدينة حمص من أهالي الضباط والعناصر قاصدين “أهل النخوة” في جبل العرب (أي السويداء) للإفراج عن الموقوفين لديهم، وبالفعل تجاوبت تلك الفصائل مع مطالب الوافدين إليهم بعد أشهر من احتجاز الرهائن وبالتزامن مع إطلاق السلطة سراح الشيخ ورفيقه خلال الشهر الفائت. هذه الحادثة مثال عن قصة كانت تتكرر أسبوعياً في تأكيد أن المشاكل بين أطياف الشعب السوري كانت من صنع النظام.

تنحية الضابطة العدلية

الإنفلات الأمني وانعدام الاستقرار خلق حالةً من شريعة الغاب في السويداء في عهد الأسد الابن وفي سنوات الحرب، إذ صار كل طرف يأخذ حقه بيده، مع فقدان الأمل بالضابطة العدلية والشرطية والأمنية والقضائية، فساد عرف المحاسبة العشائرية القاسي. 

ومن بين تلك الأعراف تشكيل دوريات ليلية في القرى والمحافظة، ففي قرية مياماس تمكّن عناصر من القرية من القبض على لصوص دراجات نارية وقاموا بتصويرهم ونشر صورهم وعرضهم على الرئاسة الروحية للطائفة لاتخاذ قرار بشأنهم. وبشكل شبه يومي كانت تحصل أمور مشابهة، والنظام أذن من طين وأخرى من عجين، وكل ذلك زاد في رصيد رغبة إسقاطه لدى سكّان المدينة.

البرودة الاستراتيجية

حصلت نحو 250 جريمة قتل منذ مطلع عام 2024 الجاري في المحافظات التي كانت تسيطر عليها الحكومة وحتى سقوط النظام. كانت حصّة السويداء منها أكثر من 60 جريمة قتل، توزعت ما بين جرائم شرف وسرقة واغتيال وغير ذلك.

اتبع النظام سياسة البرودة الاستراتيجية والتي تتسم بالهدوء وعدم اتخاذ خيار التصعيد والمواجهة العسكرية والحفاظ على سلمية الحراك لئلا يخسر واحداً من أقوى أوراقه التي يقدمها في المحافل الدولية بكونه حامياً للأقليات.

وكانت نهاية تلك البرودة الاستراتيجية إزاحة نظامٍ أثقل كاهل السوريين لعقود طويلة دون إراقة دماء، وتنفست سوريا ومعها السويداء الصعداء في فجر حريةٍ جديد يأمل الجميع أن يكون على قدر الحلم والطموح والتضحيات الجسام التي قدمتها كل الأطراف على مدار العقود الماضية. 

السوريون يحتفلون بسقوط الأسد لكنّ المشهد العام لا يدعو إلى التفاؤل

السوريون يحتفلون بسقوط الأسد لكنّ المشهد العام لا يدعو إلى التفاؤل

(مقابلة  تلفزيونية مع بسام حداد على: Democracy Now!)

ترجمة وتحرير: أسامة إسبر

إيمي غودمان: نواصلُ تغطية سقوط نظام عائلة الأسد في سوريا بعد أكثر من نصف قرن من الدكتاتورية الوحشية، وذلك في أعقاب التقدم السريع للمقاتلين المتمردين. لمزيد من التفاصيل، ننتقل إلى فيلادلفيا حيث ينضم إلينا بسام حداد، الأستاذ المشارك في جامعة جورج ميسون، ومؤلف كتاب “شبكات الأعمال في سوريا: الاقتصاد السياسي لنظام استبدادي يثابر على الاستمرار”، ومؤسس مشارك ومحرر لمجلة “جدلية” الإلكترونية، ومدير مؤسسة الدراسات العربية في جامعة جورج ميسون. 

أستاذ حداد، أولاً، ما الذي ستقوله لنا عن ما حدث هذا الأسبوع؟

بسام حداد: شكرًا لك، إيمي. يسعدني أن أكون معك مرة أخرى. في الحقيقة هناك أسئلة أكثر مما هناك أجوبة، لذلك من المهم، خاصة اليوم، أن نأخذ هذا في عين الاعتبار ونحن نتابع حديثنا. سألجأ إلى التحليل، لكنني لا أستطيع أن أغفل تأكيد أهمية ما حدث في سوريا وقيمته، وأعني انهيار نظام الأسد بعد ٥٤ عامًا من الحكم، أو بعد ٧١ عامًا من حكم حزب البعث، وما يعنيه هذا بالنسبة للمواطنين السوريين الذين عاشوا في ظل هذا النظام لعقود عديدة. إنها لحظة لا يمكننا تجاهلها أو تجاوزها ونحن نحاول تحليل الصورة الأكبر، رغم أنها قاتمة جدًا ومليئة بالمشاكل. لكن لا يمكننا التقليل من أهمية هذا الأمر، نظراً لوحشية النظام، وفشله التام في الحكم في السنوات الأخيرة، على الأقل بعد عام ٢٠١٩ و٢٠٢٠، وعجزه عن توفير البنية التحتية والخدمات الاجتماعية والاحتياجات الأساسية لشعبه، وهذا ما لعب دورًا في تقدم “هيئة تحرير الشام” السريع ودخولها جميع المدن الكبرى في سوريا.

إيمي غودمان: حدّثْنا عن “هيئة تحرير الشام”، وتاريخها، وقائدها الجولاني، وما الذي تشعر بالقلق حياله الآن.

بسام حداد: كما تعلمون، إن “هيئة تحرير الشام” ائتلاف يضم عدة جماعات من أبرزها “جبهة النصرة”، التي يميل الجميع إلى القول إنها مرتبطة بتنظيم القاعدة، رغم أنه حدث نوع من الانفصال. ومع ذلك، هي ما هي عليه. قال الكاتب والباحث السوري ياسين الحاج صالح، إنه قلق بشأن أيديولوجية “هيئة تحرير الشام” وبعض العواقب المحتملة التي يمكن أن تتمخض عن ذلك. وإذا كان ياسين الحاج صالح، قد وصف رجال حزب الله بأنهم “شبيحة”، بإمكانك أن تتخيلي قلقه من “هيئة تحرير الشام”، ومدى قلق الآخرين بشأن المستقبل. 

لم تتصرف “هيئة تحرير الشام” من تلقاء ذاتها لأنها لا تستطيع مغادرة إدلب من دون ضوء أخضر من تركيا. وحتى الحكومة التركية لا يمكنها اتخاذ مثل هذا القرار بمفردها. انطلاقاً من هذا، إن السؤال الأول الذي يجب طرحه هو: مع من نسّقتْ تركيا للقيام بهذه الحملة، أو لشن هذه العملية؟ السؤال الثاني هو: هل كانت هناك أية علاقة بين وقف إطلاق النار في لبنان وما فعلته تركيا اليوم، أو منذ عشرة أيام، أو قبل بدء التنسيق؟ وما نوع التنسيق الذي حدث بين تركيا وروسيا، وكذلك بين روسيا و”هيئة تحرير الشام”، وغيرها؟ تبيّن أنه سُمح للروس بالحفاظ على قاعدة جوية كما كشفت التقارير الأخيرة. لكن علينا التحقق من ذلك، وهناك العديد من الأسئلة.

يمكن أن نواصل حديثنا عن التداعيات الإقليمية والعالمية الخطيرة، إلا أنني أود أن أغتنم هذه الفرصة للتحدث عما يعنيه ذلك لملايين السوريين الذين هم في الواقع سعداء بما حدث. لكن كثيرين منهم قلقون، بمن فيهم من يحتفلون، قلقون بشأن المستقبل، وبشأن كيفية حدوث هذا الأمر، وإلى أين سيقود، ومن سيتولى القيادة في سوريا. هناك كثيرون ينتابهم القلق بشأن ما يعنيه ذلك من ناحية هيمنة قوى عظمى، مثل أمريكا وإسرائيل، نظراً لغياب، أو ضعف محور المقاومة. هذه ليست قضية صغيرة، وستصبح جزءًا من العناوين الرئيسية في المستقبل القريب.

إيمي غودمان: حدّثنا أكثر عن هذا الموضوع. ما الذي قد يعترض طريق إعادة بناء سوريا؟ هل سيتأثر الأمر بالدعم الدولي الذي ستحتاج إليه سوريا لإعادة البناء، والذي سيشمل الولايات المتحدة، ولاعبين مثل دول الخليج العربية؟ ستشارك تركيا بقوة، كما أشرت، وهي بالفعل متورطة. فهل سيدفع هذا ما يحدث في سوريا في اتجاه معين؟

بسام حداد: يجب أن أكرر مرة أخرى أن هناك كثيرًا من الأسئلة والقليل من الأجوبة، لأننا لا نعرف بالضبط كيف تم تنسيق هذا الأمر، ومع من، وما المقايضات التي حصلت بالفعل. ولكن هذه ستكون مرحلة، أما المرحلة التالية، أو هذه المرحلة الحالية هي في الحقيقة ليست الطور الذي نستطيع التركيز عليه لأنه وفقًا لأفضل التحليلات، لن يتم نقل التشكيل الحالي إلى المرحلة التالية. يتحرك التشكيل السياسي والاقتصادي والعسكري القائم اليوم إلى الأمام، وهو مؤلف من الأشخاص الذين لديهم الأسلحة واستولوا على السلطة، وليسوا على الأرجح بمفردهم، ربما هم جزء من تحالف أكبر، وأكثر تنوعًا. هناك الكثير من الخوف والقلق في سوريا. وهناك الكثير من الخوف والقلق في تركيا والولايات المتحدة والعديد من الدول العربية القوية، والتي من المحتمل أن يتم الاعتماد عليها إلى حد ما للمساعدة في إعادة بناء سوريا، وهو خوف وقلق من تفرّد مجموعة معينة، هي هيئة تحرير الشام، وكيف أنها لا ينبغي أن تكون اللاعب الوحيد على الساحة السورية. لكن الأسئلة المطروحة الآن هي مجرد أسئلة. من الصعب للغاية التعرف على الاتجاه الذي تتجه إليه الأمور. لكننا نعلم أن الولايات المتحدة وإسرائيل تشعران بارتياح شديد. لقد وصفت إسرائيل، يوم أمس، على القناة 13، ما حدث بأنه إنجاز. وهذا “الإنجاز” سيتيح لها المضي قدمًا في إبادة غزة، بالتعاون مع الولايات المتحدة التي هي شريك كامل في هذه الإبادة. وستظهر مسائل أكبر وأكثر تعقيداً في الأسابيع القادمة.

إن الابتهاج مهم اليوم بالنسبة للناس الذين كانوا تحت نير النظام، ولا يمكننا أن نقلل من شأنه، مهما كان اهتمامنا بالإمبريالية والاقتصاد السياسي العالمي ومواضيع أخرى. من الضروري أن نعي ذلك، لأن أحد الأشياء التي ستسبب لي المتاعب وتجعل هاتفي ينفجر في غضون بضع دقائق فقط من اتصالات أصدقائي هو أن الكثير من الناس الذين يبالغون في التأكيد على مسألة الإمبريالية في يوم كهذا أو في أسبوع كهذا، يُغْفلون وجود الشعب السوري من غير قصد، للأسف، ويجعلونه غير مرئي، وكأنه ليس مهماً، وكأن السياسة العالمية هي الوحيدة التي لها أهمية. وهذا شيءٌ أود أن أحذّر منه، على الرغم من أننا يمكن أن نقول إن ما حدث هو انتصار لقوى عالمية مثل الولايات المتحدة، وانتصار للمخططات الإمبريالية، وللدول العربية المحافظة في المنطقة، ولمن يسعون إلى تطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل في المنطقة، وبالتأكيد لإسرائيل، أو أي طرف يرغب في إضعاف أي مقاومة في المنطقة ضد هذه المخططات، التي لا تتعلق فقط بسرقة الأراضي والسيطرة السياسية، ولكن أيضًا بمخططات اقتصادية ستؤدي إلى إضعاف الطبقة العاملة في المنطقة، وستواصل فعل ذلك.

إيمي غودمان: هل يمكنك التحدث أكثر عن “هيئة تحرير الشام“، وهل تعتقد أنها ستكون من الشركاء الرئيسيين في سوريا الجديدة؟ حدّثْنا عن خلفيتها، وإدارتها لإدلب، وكيف كانت تُدار إدلب، وتلك المنطقة بأكملها؟

بسام حداد: لم تكن هيئة تحرير الشام تسيطر بشكل كامل على إدلب. كانت القوة المهيمنة في إدلب، وكان هناك عدة جماعات لها أيضًا قوة معينة. إلا أن هيئة تحرير الشام كانت قادرة على الحكم، إلى حد كبير. من غير المحتمل أن تنفرد هيئة تحرير الشام بالحكم في سوريا. ثمة توافق إقليمي ودولي على ذلك، وحتى توافق داخلي. ورغم كل ما رأيناه، فإنّ المجتمع السوري يُعَدّ من بين أكثر المجتمعات العربية علمانية. وحتى إذا كان التوجه نحو النزعة الإسلامية المحافظة قد ازداد بشكل كبير في السنوات أو العقود الأخيرة، أو حتى أكثر من ذلك، فليست هناك رغبة بما تدعو إليه “هيئة تحرير الشام”، بما في ذلك خطابها الذي كان إقصائياً في السنوات الأخيرة (مثلًا في ٢٠١٤، و٢٠١٥،و٢٠١٦)، لكنها تقول الآن إنها ترفض هذا الخطاب. وهي في الواقع تحاول التأكد من أن قواتها لا تضطهد الآخرين، رغم أن ما رأيناه في العديد من مناطق سوريا هو أشكال مختلفة من الإقصاء، مثل تدمير محلات الخمور، وحرق أشجار عيد الميلاد وأشياء من هذا القبيل، وهي أمور من المفترض أن هيئة تحرير الشام قد رفضتها، وحاولت تصحيح مسارها. هذا النهج الجديد لهيئة تحرير الشام مثير للاهتمام، ومن المحتمل أن يكون أيضًا منسقًا مع أولئك الذين منحوا هذا التنظيم الضوء الأخضر للتحرك قدمًا. لكنني نستطيع القول إنه في جميع الحالات، ليست هيئة تحرير الشام” فطيرة التفاح” – أو من الأفضل أن نقول بما أننا نتحدث عن سوريا- “الكنافة” التي يتطلع إليها السوريون.

وفي المستقبل القريب جدًا، وبعد تأسيس الحكومة الجديدة، وتشكيل البنية العسكرية الجديدة سنكتشف أن هناك محاولات لتوسيع التحالف وربما أيضًا لتجنب الخطأ الفظيع الذي ارتكبته الولايات المتحدة بعد غزوها الوحشي للعراق في ٢٠٠٣، وهو تفكيك الدولة، والحزب الحاكم، والجيش، وما إلى ذلك، لأن ذلك أدى إلى خلق الفوضى التي كانت في النهاية غير منتجة للقوة الغازية وما بعدها. لذلك، أعتقد أن المسار سيكون مختلفًا عما رأيناه في العراق. سيكون أيضًا مسارًا أصعب، لأن سوريا ليس فيها موارد كما في العراق مثل النفط، ولا تمتلك أي جزء منها، لأن مواردها كلها خارج سيطرة الحكومة الآن. لذلك، سيكون أمام سوريا مستقبل مليء بالتحديات من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ما أخشاه هو أنه بعد مدة قصيرة، ستختفي سوريا من الأخبار، وسنرى ما كنت أتحدث عنه في وقت سابق، وأعني الإطار التحليلي لما يعنيه ذلك للمنطقة. سنراه في القريب العاجل في الواقع، مع حدوث التطورات.

إيمي غودمان: شكراً بسام على وجودك معنا.

لمن يود الاستماع على المقابلة بالإنكليزية، انقر الرابط التالي: