النّظام والدّين في سوريا: المجتمع المضاد وعصبية الامتيازات

النّظام والدّين في سوريا: المجتمع المضاد وعصبية الامتيازات

من بين تعريفات عديدة للدّين، فإنّ الدّين هو عبارة عن مجموعة من العقائد المعرّفة تعريفاً اجتماعياً، وهذه العقائد تتعلّق، بشكلٍ أساسيّ بالنّظرة، والمعنى، والغاية النّهائية من الحياة. لذا، لا تُعنى العلوم الاجتماعية بمسألة إثبات وجود الله من عدمه، ولا بوجود أو عدم وجود كائنات وحيوات أخرى، هذه مسائل تُترك لاختصاصات بحثية مغايرة. الانشغال الأساسيّ للعلوم الاجتماعية هو في الكيفية التي تُؤثّر بها العقائد الدّينية الخاصّة على السّلوك الإنساني، وعلى العلاقات والأنساق الاجتماعية. لذلك، فإنّ اهتمام هذه المقالة سينصبّ على الآلية التي تعامل بها النّظام السّوري البائد، وربّما النّظام الحالي أيضاً، مع الوظيفة الاجتماعية للدّين، بمعنى تكييف الدّين لخدمة شرعنة النّظام، وبقائه، واستمراره. 

مجتمع متنوّع أمْ مجتمع فسيفسائي؟

المؤشّرات الإحصائية تدلّ على تنوعٍ قوميّ ودينيّ كبيرين في سوريا، فوفقاً لدراسة إحصائية حديثة أعدها موقع The world factbook بعد سقوط نظام الأسد، فإنّ عدد سكّان سوريا كان تقريباً 23.8 مليون نسمة، يتوزعون عرقياً إلى عرب سنّة بحدود 50%، وعرب علويين 15%، وعرب مسيحيين 10%، وكُرد بحدود 10%، و15% هم من باقي الأقليات (دروز، واسماعيليون، وشيعة، وآشوريون، وتركمان، وأرمن)، وآخرين 10%.

هذا التّنوع الهائل للمجتمع السّوري، وبرغم التّعايش المشترك بين مكوّناته لمئات السنين، لمْ يجعل من سوريا مجتمعاً متنوّعاً بقدر ما رسخّه كمجتمعٍ فسيفسائي تعيش مكوّناته شبه معزولة عن بعضها، تُجاور بعضها البعض دون أيّ تداخل تقريباً، إذا ما استخدمنا التّمييز الدّقيق للباحث اللبناني حليم بركات للتّفريق بين المجتمعات المتنوّعة والمجتمعات الفسيفسائية. 

هذ التّنوع كان يحمل في طيّاته دوماً بذور الانفجار، وهو الأمر الّذي تطلّب قدراً كبيراً من الحنكة في إدارته لأنّ الفشل في ذلك كان يعني تحويله إلى نقمة بدلاً من أن يكون موضع غنىً ثقافي ومعرفي. وبالفعل فإن السّبب الرّئيس في اتساع الشّروخ بين المكوّنات المجتمعية المختلفة في المجتمع السّوري لا يعود برأينا إلى تنوّع هذه المكوّنات، وإنما إلى وجود إدارة سيئة للتنوّع كانت تضغط بثقلها الأمني عليه لتحافظ على صورته

التعايشية الجميلة، الأمر الّذي استمرّ مع السّلطات الجديدة بصورةٍ أكثر فظاظة، وإنْ كانت أخفّ ثقلاً من النّاحية الأمنية، لكنّ الثّابت لدينا، أنّ إدارة النّظامين، الحالي والسّابق، لا تبدو آبهة بما تخلفه هذه الطرائق من احتقانات وأحقاد في داخل المجتمع.

فبالنسبة للنّظام السّابق، فقد اعتمد، ومنذ وصل الأسد الأب إلى الحكم وحتّى وفاته، على لعبة توازنات دقيقة بين كلّ أطياف النّسيج السّوري، بحيث لم يُبعد أياً منها عن السّلطة، كما أنّه لم يُعطِ أيّا منها سلطة مطلقة. ونشأت في سورية سياسة “محاصصة مستترة” غير مقوننة ولكنّها ترسخّت بالعرف بحيث تتقاسم القوميات والطوائف المناصب السّياسية الرّئيسة بما يناسب نسبتها من عدد السّكان الإجمالي، وبحسب توزعها في المدن السّورية الكبرى، فرئيس الوزراء ووزير الخارجية ورئيس هيئة الأركان من الطّائفة السّنية، ووزيري السّياحة والصّناعة مسيحيان، ووزير الإعلام علوي، وهناك وزير دولة للطّائفة الاسماعيلية.. الخ. وبقيت المفاصل الأمنية بيد المقربّين جداً من النّظام، وخصوصاً العلويين منهم.  

هذا المحاصصة الدّقيقة المستترة أُضيف إليها تحالفٌ معلن بين البرجوازية السّنية في الحواضر الكبرى، كدمشق وحلب وحمص، وبين هذا النّظام، بحيث أمسكت الدّائرة الضّيقة للنّظام بالشّؤون الأمنية والسّياسية، وتُرك الشّأن الاقتصادي لتجّار وصناعيي دمشق وحلب، دون أن يغفل عن بالنا أنّ الأسد الأب قد قام في عقد التّسعينات بتشجيع أبناء المسؤولين على الدّخول في مشاريع صناعية وتجارية وعقارية كبيرة في محاولة منه لخلق برجوازية ثالثة، تُكافئ برجوازيتي دمشق وحلب. هذه البرجوازية الجديدة لم تقتصر على العلويين، أي أنّها لم تكن برجوازية علوية بقد ما كانت برجوازية سلطة أفضت في النّهاية إلى ما بات يُعرف بـ “رأسمالية المحاسيب”.

أدوتة (Instrumentalisation) التّنوع، والمجتمع المضاد 

يُقصد من أدوتة التّنوع استثماره من قبل السّلطة لقضايا سياسية داخلية أو خارجية، وهذا ما ظهر بوضوح من خلال نجاح النّظام السّوري السّابق، وعلى مدار الخمسين عاماً الماضية، في خلق المجتمع المضاد الذي كان بمثابة الدّرع الذي حمى هذا النّظام على مدى أكثر من كل الاهتزازات والتغييرات التي اجتاحت منطقتنا معتمداً في ذلك على مكنة إعلامية نشطة، وعلى تحويل النّقابات والمؤسّسات الحزبية والمدنية إلى مجرّد أشكال صورية. ويبدو أنّ النّظام الجديد، وحسْب ما يظهر إلى الآن، يعتمد آلية مشابهة، ذلك أنّ الأنظمة تأتي، عادةً، بناءً على سيرورة سياسية طبيعية تُتيح المجال للتّنافس بين الشّخصيات والقوى والأحزاب السّياسية تنتهي بالانتخابات التي تُتوّج حزباً ما، أو تحالفاً ما على رأس السّلطة لأجل محدّد اعتماداً على حجم قاعدته الاجتماعية. في سوريا، وحتّى الآن، لم نرَ مجتمعاً يُنتج سلطة كما يُفترض في الحالات السّياسية الطّبيعية، بل سلطةً خلقت، وسلطة حالية تسعى لخلق، مجتمعها الخاص بها، والمتعالي عن بقية النُّسج الاجتماعية. هذا المجتمع سيشكّل “حواضن” للنّظام أسماه الدّكتور حسّان عبّاس بـ “المجتمع المضاد”. 

هذا “المجتمع المضاد” ناتجٌ، في جوهره ووظيفته، عن تشوّه بنيوي في العلاقة بين السّلطة والمجتمع، ويُفضي إلى نوعين من التّشكيلات، أولها تشكيلٌ سياسي-أمني تتجلّى صورته بالمؤسّسات المرتبطة بالاستبداد (الجيش والأجهزة الأمنية)، والنّوع الثّاني تشكيلٌ اجتماعي هو خليط من نخب ثقافية، ومن جماعات اقتصادية (برجوازية تقليدية، أو دينية، أو طفيلية). كما أنّ “المجتمع المضاد” يقف بين السّلطة والمجتمع ليكون الجسر الواصل بينهما من جهة، وأيضاً ليكون الحُصْن الذي يحمي السّلطة من المجتمع الحقيقي من جهة أخرى. وفي المجتمع المضاد تتحول الأجهزة الوطنية والمؤسّسات المدنية إلى مؤسّسات حماية للسلطة، لا يختلف في ذلك الجيش الحامي للسّلطة، أو النقابات القائمة على مبدأ حماية المجتمع من السلطة. 

خاتمة 

ما يثير التحفّظ لدينا، هو الخوف من تكرار التجربة، الخوف من أنْ تقوم السّلطة الحالية، وبحسب منهجها حتّى الآن، بخلق “مضادٍ” خاصّ بها يعتمد على تغييب السّياسة لصالح أصوات الكراهية والتّحريض الطّائفيين، وأنْ تعتمد عوضاً عن المواطنة على “عصبية الامتيازات”.

على الجانب الآخر، لم تتمكّن النّخبة المعارضة للنّظام من الخروج من هذه الأطر بعد قيام ثورة 2011، خصوصاً بعد انتقالنا من مرحلة السّلمية إلى العسكرة، فقامت هي أيضاً بخلق “مجتمع مضادٍ” خاصّ بها يعتمد على تغييب السّياسة لصالح أصوات طائفية ولغة كراهية لم يعتد السّوريون عليها سابقاً مستغلةً الإمكانات المالية والإعلامية الكبيرة التي قدمتها بعض دول المنطقة لها. وقامت أيضاً بخلق “مؤسّسات مدنية” خاصّة بها وكيانات سياسية هشّة وقفت سداً لها في وجه مجتمع الثّورة الحقيقي الذي توارى عن المشهد بعد الأشهر الأولى للثّورة. وفي الحالتين، حالة النّظام وحالة مؤسّسات المعارضة، فقد اعتمد الجانبان على ما يمكن تسميته بـ “عصبية الامتيازات”، عصبية المستفيدين بغضّ النّظر عن طائفتهم. وبالفعل، فقد بتنا نرى مسؤولين، ومثقفين، ومفكرين سوريين، يستخدمون منهجاً سكونياً لتفسير أعمال العنف من خلال اللجوء إلى قراءة تعتمد أساساً على رؤية للطوائف وتواريخها، وتبحث عن نزاعات “جوهرانية” بين هذه الكيانات بحيث يسهل في ظلّها التعتيم على السّياق التّاريخي للأحداث. بينما يركّز المنهج الدّيناميكي على المحتوى الاجتماعي-التّاريخي للدّين ضمن إطار الصّراعات القائمة في المجتمع، ويؤكّد على أنّ التشكيلات السياسية-الدّينية إنّما تنبثق عن واقعٍ اجتماعي، واقتصادي، وسياسي، وتاريخي معقّد وهي تتطوّر بتطوّر هذا الواقع. 
وعموماً، لا يستخدم الدّين، كنسقٍ ثقافي، من قبل الأنظمة، سوى بغرض  تثبيت شرعيتها الضعيفة أصلاً، وحمايتها من حراك المجتمع المدني الحقيقي. 

ما الذي سيجمع الشعب السوري في قادم الأيام؟ 

ما الذي سيجمع الشعب السوري في قادم الأيام؟ 

 “واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد” هو شعار لطالما ردده السوريون\ات، على اختلاف الطوائف والانتماءات، خلال المظاهرات التي عمت مختلف المحافظات السورية منذ اندلاع الثورة السورية التي نادت بالحرية وإسقاط النظام. الشعار ذاته عاد ليصدح في الساحات والشوارع خلال الاحتفالات بسقوط النظام البائد وولادة سوريا الجديدة التي لطالما حلم السوريون\ات بولادتها. اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسة أشهر على سقوط النظام، وفي ظل ما شهدته البلاد من أحداثٍ مؤلمة، يطرح كثير من السوريون\ات سؤالاً ملحاً ومؤلماً: هل الشعب السوري شعب واحد؟

لا يخفى على أحدٍ أن النظام البائد يتحمل المسؤولية الكبرى تجاه ما يحدث اليوم في البلاد، نتيجة تخريبه الممنهج لها لأكثر من نصف قرن، ونتيجة ممارساته الاستبدادية وسياسات القمع والتهميش والقهر التي مارسها بحق الشعب، قبل أن يقمع ثورته بشتى السبل والوسائل الإجرامية والوحشية، التي جرَّت البلاد إلى مستنقع حرب مدمِّرة أجهزت على ما تبقى منها، وأدت إلى تهجير ونزوح أكثر من ثلث الشعب الذي أصبح منقسماً إلى عدة شعوب. ولكن رغم ذلك، كان من المتوقع، بعد سقوط النظام وانتصار الثورة، أن يعود الشعب السوري ليتكاتف وينهض بالبلاد كشعبٍ واحد، إلا أن الواقع لم يكن بحجم الأحلام والأمنيات. 

يحاول اليوم معظم المُصطفين\ات إلى جانب النظام الجديد، حصر شكل الإنتماء الوطني بالولاء المطلق لهذا النظام والخضوع لأدوات سلطته الناشئة التي بدأت تفصّل سوريا على مقاسها، وتنزع الصفة الوطنية عن كل من لا يتبع نهجها، رغم اتهام جزء كبير من السوريين\ات لها بأنها حولت البوصلة الوطنية من الانتماء لسوريا الثورة إلى الانتماء الديني والمناطقي، خاصة بعد إصدار الإعلان الدستوري الذي خيَّب آمال الكثيرين، ومن ثم تشكيل الحكومة التي وصفها الكثيرون بأنها حكومة لون واحد، غاب عنها إشراك العديد من الشخصيات الوطنية والثورية المشهود لها بكفاءتها وخبرتها، فيما حظيت الشخصيات المحسوبة على السلطة بأكثر من نصف التشكيلة الوزارية واستأثرت بالوزارات السيادية، ما جعل تلك الحكومة تتلقى الكثير من الانتقادات كونها لم تسع لبناء مؤسسات الدولة على أسس وطنية ومدنية، وتجاهلت مبادئ الشراكة والمواطنة بإقصائها شرائح ومكونات واسعة من السوريين\ات، في وقت يحتاجون فيه لمد جسور المواطنة والتعاون فيما بينهم للنهوض بالبلاد، التي ما زالت مقطعة الأوصال وأبعد من أن تكون كياناً واحداً، فجزء من شمالها  تسيطر عليه فصائل تابعة لتركيا، التي تحتل مناطق حدودية واسعة، وشمال شرقها تسيطر عليه قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، وجنوب شرقها تسيطر عليه قوات تابعة لأمريكا، فيما ما يزال الجنوب تحت سيطرة الفصائل والقوى المحلية، وما زالت البادية تضم بقايا لتنظيم داعش.

وفي وقت تحتاج فيه البلاد لتأسيس جيشٍ وطني يضم جميع مكونات الشعب، تم تشكيل الجيش  الجديد من فصائل عسكرية محابية للسلطة، ومحسوبة عليها، كهيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها، والتي تحمل بمعظمها أيديولوجيات جهادية ودينية تغلب على الأيديولوجيات الوطنية، وتسعى لتحقيق مكاسب فردية وسلطوية بدلاً من المكاسب الوطنية، فيما غاب عن تشكيل الجيش أي حضور فعلي للضباط المنشقين ذوي الخبرة العسكرية والذين انحازوا للثورة، وهو ما سيشكل، بحسب كثير من الآراء، تهديداً واضحاً لمفهوم الشراكة الوطنية ولمستقبل الهوية السورية الجامعة. 

خيبات أمل وتخوين وانقسام 

مع سقوط النظام البائد، تأمل سوريو الداخل بإمكانية عودة النخب السياسية والثقافية والوطنية من الخارج  ليساهموا معها في بناء سوريا الجديدة، لكن معظمهم صدموا وأصيبوا بخيبة أمل بعد عودة كثير من الشخصيات إلى البلاد، إذ اكتفى بعضها بزياراتٍ قصيرة، كانت أقرب إلى السياحة الثورية، واقتصرت على الإقامة في الفنادق والتقاط الصور في ساحة الأمويين وشوارع دمشق، والجلوس لساعات في المقاهي، التي اكتظت بالنشطاء المدنيين والسياسيين، وخوض نقاشاتٍ عامة بعيدة عن الواقع. وقد سعت بعض الشخصيات منذ وصولها إلى سوريا إلى خطف الأضواء وتَصدّر المشهد السياسي والثقافي، ولو بشكلٍ صوري، من خلال تقديم بعض المحاضرات والندوات التي تقترب إلى التنظير وتبتعد عن الممارسة العملية، وذلك على حساب الكثير من النخب الثقافية التي لم تغادر سوريا طيلة الحرب، فيما سعت شخصيات أخرى إلى التقرب من السلطة والدفاع عنها لتحقيق مكاسب شخصية وللحصول على مناصب حكومية.  

إلى جانب ذلك أدى الانقسام السياسي بين السوريين\ات إلى تقزيم وتخوين الكثير من الشخصيات  المحسوبة على الثورة والتي كانت تُعتبر شخصيات وطنية جامعة، فاليوم أصبح هناك جيوش إلكترونية مهمتها رصد منتقدي أداء السلطة لتقوم، عبر ضخٍ وتحريض شعبي واسع، بالإساءة إليهم وشيطنتهم وقذفهم بعشرات التهم الجاهزة :(فلول نظام، مرتزقة، انفصاليون، عملاء لإسرائيل.. الخ) وهو ما حصل، على سبيل المثال لا الحصر، مع الفنانة يارا صبري بعد انتقادها لبعض ممارسات السلطة، رغم مواقفها الداعمة للثورة، ومع الفنان سميح شقير بعد نشره أغنيته الجديدة مزنر بخيطان التي تحدثت عن المجازر والانتهاكات التي تعرض لها أبناء الطائفة العلوية، رغم تأييد كثير من السوريين\ات لتلك الأغنية التي عدّوها امتداداً للمشروع الفني لشقير الذي يقف في وجه جميع أشكال الظلم والاستبداد. وبالمقابل تخرج اليوم الكثير من أصوات معارضي السلطة الجديدة لتتهم جميع مؤيديها بأنهم سلفيون وتكفيريون ويسعون لاستعادة أمجاد بني أمية. كل ذلك يحدث في ظل تأخُر تطبيق العدالة التي انتظرها الشعب طويلاَ، وفي ظل تنامي الخوف بين أبناء الشعب، وغياب شخصيات وهويات وطنية يمكن للسوريين أن يُجمعوا عليها.

 في غياب العدالة الانتقالية

كان من المفترض أن تمثّل الثورة انتصاراً للعدالة، وأن تنصف جميع الضحايا وتعاقب جميع مجرمي الحرب، بغض النظر عن طوائفهم، من خلال تطبيق العدالة الانتقالية وتشكيل محاكم قانونية ونزيهة، وليس من خلال أعمال الثأر والانتقام وإعادة إنتاج الظلم والاستبداد بشكلٍ جديد، الأمر الذي خلق انقساماً كبيراً بين أبناء الشعب السوري وفتح الباب أمام النقاش الثأري فيما بينهم، في ظل تحول الكثير من ضحايا الأمس إلى جلادي وشامتي اليوم. وقد تجلى ذلك كله بوضوح خلال المجاز والانتهاكات التي ارتكبت بحق أبناء الطائفة العلوية في الساحل وحمص وحماة. فبينما رأى البعض أن ما حدث هو جرائم ضد الإنسانية، وعلى الشعب السوري أن يقف برمّته ضدها، خرجت بالمقابل أصوات كثيرة لتُبرر ما جرى تحت ذريعة أن جميع الضحايا هم من فلول النظام، بل خرجت أصوات طائفية وثأرية  لتشمت بالضحايا وتدعو لمعاقبة الطائفة، التي تحولت برمتها، بحسب تلك الأصوات، إلى طائفةٍ أسدية وامتداد للنظام، ولا عدالة إلا بقتل أبنائها. تلك الأصوات لم تكتف بذلك بل اتهمت المدافعين عن الطائفة بأنهم أيضاً من فلول النظام، وهو ما حدث خلال الوقفة الاحتجاجية التي أُقيمت في ساحة المرجة للتضامن مع ضحايا المجازر، حيث خرجت أصوات معارضة وقفت بوجه المشاركين، مرددةً هتافات طائفية، ومتهمة إياهم (رغم حملهم لشعارت تتضامن مع شهداء الأمن العام) بأنهم فلول وعملاء، وبأنهم تقاعسوا عن التضامن مع ضحايا مجازر النظام البائد خلال الثورة، ليتطور الأمر إلى عراك بالأيدي، على الرغم من أن معظم المشاركين بالوقفة كانوا من أنصار الثورة ومن المعتقلين.  

 تلك الجرائم، التي أدت إلى إحداث موجات نزوح وهجرة إلى خارج البلاد، خلقت حالة من التفكك المجتمعي وفقدان الثقة في السلطة الجديدة وخياراتها وممارساتها، في ظل غياب قانون يحاسب مرتكبي الجرائم (التي وُضِعت بمعظمها تحت مسمى الأخطاء الفردية) وتأخر تطبيق العدالة  الانتقالية، التي أصبحت في كثير من الأحيان تقوم على مبدأ الثأر والإنتقام بدلاً من العقوبة القانونية. كل ذلكسيؤسس لمظلومية كبيرة لدى أبناء الطائفة العلوية، خاصة مع تسريح الكثير منهم من وظائفهم، وسيعزز حالة الخوف الشعبي من إمكانية تكرار ممارسات النظام البائد بطرق وأدوات جديدة، وسيفاقم حالة الانقسام بين أبناء الشعب السوري.  

 الخطاب الطائفي يهدد وحدة الشعب  

من كان يصدق في بلدٍ عريق كسوريا، أن تسجيلاً صوتياً مجهول المصدر، يتضمن إساءة للنبي الكريم محمد، نَسبه البعض إلى أحد أبناء الطائفة الدرزية، سيعرض الطائفة بأكملها للخطر؟ فعقب انتشار ذلك التسجيل خرجت مظاهرات في عدد من الجامعات السورية، حملت عبارات طائفية وعدائية ضد الطائفة الدرزية وأدت لاعتداءات لفظية وجسدية على طلبةٍ من أبنائها، أعقبها خروج مظاهرات في مدينة حماة ودمشق، دعت لمحاسبة الطائفة وحملت  شعاراتٍ عدائية وثأرية، ترافقت مع حملةٍ تحريضية ممنهجة على مواقع التواصل الاجتماعي، طالت بعض المرجعيات الدينية والاجتماعية واتهمتها بالعمالة والإنفصالية، وساهمت في تأجيج الحقد الطائفي والكراهية وتفاقم حجم التوتر في الشارع، ليتطور الأمر إلى اعتداءات مسلحة على أبناء الطائفة من قبل بعض الفصائل غير المنضبطة، بدأت بمحاولة اقتحام مدينة جرمانا وأدت لوقوع اشتباكات على أطراف المدينة مع أبنائها الذين ينتمي بعضهم للأمن العام، أعقبها اقتحاملمدينة صحنايا وارتكاب عشرات الجرائم والانتهاكات، لتنتقل الاشتباكات إلى محافظة السويداء التي تعرضت لعددٍ من الهجمات المسلحة. وقد أدى ذلك كله لسقوط عشرات الضحايا، وتسجيل الكثير من حالة النزوح، وخلو الجامعات السورية من الطلبة الذين ينتمون للمكون الدرزي، بعد أن شعروا بخطرٍ يتهدد حياتهم، في مشهدٍ يعكس خطورة الاحتقان الكامن داخل المجتمع السوري، ويكشف ضعف قدرة المؤسسات الحكومية على حماية السلم الأهلي، خاصةً في ظل  وجود أطراف إقليمية راحت تستغل الوضع لتساهم في زرع الشقاق بين السوريين.  كل ذلك جعل الكثير من السوريين\ات، وخاصة أبناء الطائفة الدرزية، يشعرون بخيبة أملٍ كبيرة تجاه بعضهم البعض، فخرجت أصوات عديدة لتندد وتعاتب من حرضوا على عقاب  الطائفة وتخوينها، فيما خرجت أصوات أخرى لتذكرهم بما قدَّمه أبناء الطائفة لأخوتهم السوريين طوال سنوات الحرب. وبالمقابل خرجت الكثير من الأصوات، التي أغفلت السبب الأساسي للمشكلة، لتبرر ما حصل تحت ذريعة وجود جماعات خارجة عن القانون من أبناء الطائفة الدرزية، ووجود الكثير من السلاح غير المنضبط في حوزتها، ودعوة بعض مرجعياتها الدينية لطلب الحماية الدولية، في مشهد يعكس مدى تفاقم الخلاف والانقسام بين مكونات الشعب. 

بالنظر للواقع المؤلم الذي تعيشه البلاد اليوم، يرى كثير من السوريين أنها لن تتعافى إلا بإعادة صياغة هويةٍ وطنية جامعة لكافة أطياف المجتمع، تعلو فوق الصراعات الطائفية والعرقية والمناطقية، وتقوم على الإنتماء الوطني المبني على أسس المواطنة المتساوية، التي تضمن حقوق وكرامة الجميع دون تمييز، ولكن قبل هذا ينبغي أولاً الإسراع في تطبيق العدالة الإنتقالية وتشكيل محاكم عادلة ونزيهة، لمعاقبة مرتكبي الجرائم، وتفعيل دولة القانون وإشراك جميع السوريين في عملية بناء الدولة. 

إرضاء الأجانب وإقصاء المنشقين: قيادة سوريا الجديدة تسير في حقل ألغام

إرضاء الأجانب وإقصاء المنشقين: قيادة سوريا الجديدة تسير في حقل ألغام

مع بداية تواتر انشقاق الضباط والعناصر عن الجيش السوري النظامي عقب اندلاع ثورة آذار/مارس 2011، بدأ ينمو حلمٌ كبير لديهم بأنّ أمامهم فرصةً تاريخية لإعادة بناء مؤسسة عسكرية ذات عقيدة وطنية راسخة وجامعة وغير متورطة بسفك الدم السوري أو التغول على أفراده، مؤسسة تحمي حدود البلاد وأمنه وتحفظ وحدته وتقوم على سيادته واستقلاله ودرء محاولات الفتنة داخله وصدّ أي عدوان قد يحمله الخارج.

بذلك سلّم الضباط واستسلموا لأحلامهم تاركين خلف ظهورهم رتبهم العسكرية بما فيها من نجومٍ ونسورٍ، تاركين الامتيازات والأفضلية والقدرة على الترقي والصعود الإضافي في سلم التراتبية العسكرية بما يحمله من امتيازات إضافية. ذهبوا للمجهول في رهان على الحاضر المحمول على الوعي الشعبي الرافض لوجود الأسد في سني الثورة الأولى وتصاعد المعارك التي أبوا أن يكونوا جزءاً مشاركاً فيها ضدّ أبناء جلدتهم. انتظروا بعد ذلك، انتظروا كثيراً، حاربهم جيش النظام، حاربتهم النصرة، حاربهم داعش، حاربتهم مختلف الفصائل، حتى أنّ بعضها تخلى عن مواجهة النظام وتفرغ لمحو أثر الجيش الحر. ظلّوا صابرين ومحاولين المرابطة ما أمكن بانتظار فرجٍ كانوا أول من بشر به وأكثر من فرح به مع سقوط النظام السوري وبشار الأسد في فجر الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، لكنّ ما حصل بعد ذلك جاء مغايراً، مخالفاً، صادماً، وغير متوقع إطلاقاً بالنسبة لهم، فتحرير طال انتظاره عمد إلى تهميشهم بشكل فاضح لا يرقى لمكافأة ثوريين شرفاء في أحيانٍ كثيرة.

التفوق العقيدي الشرعي

كانت الصدمة الأولى لأولاد المدرسة العسكرية النظامية من المنشقين مع تركزهم في مناطق شمال سوريا عقب قضم النظام السابق للمناطق واحدةً تلو الأخرى، وهناك شاهدوا وشهدوا على عقيدة قتالية مختلفة تماماً عما عهدوه، عقيدة لم تكن وطنية خالصة، حتى أنّها لم تحظ بالشكل الحداثي لإنشاء الجيوش الوطنية، بل كان يغلب عليها الطابع الأيديولوجي المغلق والمعلق على مرجعية شرعية إسلامية صارمة وحازمة لها منظروها وقادتها ومعتنقوها.

على رأس تلك القوى كانت “هيئة تحرير الشام” التي تحولت من داعش إلى النصرة فالهيئة بحدود عام 2016 ضمن تحول براغماتي يحمل رسائل دولية عميقة، ورغم ذلك لم تتخل عن عقيدتها التعبوية القائمة على القول الشرعي: “المقاتل ذو القضية هو ذاك الذي يحمل السلاح في سبيل إقامة شرع الله، لا في سبيل القتال من أجل (وطن) محدود أو دفاعاً عن دولة محددة بعينها”.

وزير الداخلية الحالي: المنظّر الجهادي السابق

في خضم تلك الأحداث ومع موجة بروز الشرعيين والأمراء في الهيئة بدأ يظهر اسم أنس خطاب حاضراً بقوة في صفوف الهيئة داخل إدلب، أنس الذي بات وزير الداخلية السوري في الحكومة التي شكلها الشرع أواخر آذار/مارس الفائت، بعد أن كان تسلّم منصب مدير الاستخبارات العامة في الأشهر التي سبقت تشكيل الحكومة الانتقالية. وكان الرجل إياه صاحب الأساس المركزي في تشكيل تلك العقيدة الشرعية السابقة، انطلاقاً من وجهة نظرٍ تؤكد أن الوطنية بمفهومها الطبيعي المتعارف عليه تشكل طعنةً وخيانةً للإسلام، وفي هذا الإطار وضع واحداً من أشهر مؤلفاته البحثية الكثيرة حول الجهاد والدولة، والذي حمل اسم: “حكم الانتساب للجيوش والجماعات الوطنية“. وفيه يقول: “الانتساب إلى الجيوش الوطنية التي تخدم الأنظمة الظالمة، يعني الخروج عن طريق الجهاد في سبيل الله والاقتتال من أجل مصلحة الأوطان بدلاً من مصلحة الأمة الإسلامية”. خطاب يرى أن الجيوش النظامية التي تحارب من أجل “دول” و”أوطان” ليس لها مكان في الفكر الجهادي. ويؤكد في موضع آخر: “الوطنية مذهب مستورد من أعداء الإسلام، يهدف إلى صرف المسلمين عن الولاء لله ورسوله، وتفتيت وحدة الأمة الإسلامية.”

اعتبر أيضاً أنّ أي ارتباط بالجيوش الوطنية كفر. وقد قال في هذا السياق: “الانتماء إلى الجيوش الوطنية التي تخضع لأنظمة علمانية أو قومية يُعد خيانة لله ورسوله”.

إرث الثورة الثقيل

الرؤية التنظيرية الجهادية العابرة للحدود والقارات كانت الطعنة التي منعت الضباط المنشقين من تسلّم أي مناصب قيادية أو حتى إيجاد موطئ قدمٍ يعتد به داخل جسد الجماعات الجهادية في الشمال والشمال الغربي من الأراضي السورية (ريف حلب وإدلب). وبناء على ذلك تمّ إقصاؤهم عن المشهد العسكري الفاعل مع اتهامات طالت بعضهم بخيانة العقيدة القتالية نفسها، فتراجعوا نحو المخيمات ودول المهجر منفكين قسراً عن التفكير من جديد بإعادة بناء جيش وطن. أحد أولئك الضباط الذين انشقوا عام 2012 قال في حديث لـ “صالون سوريا” طالباً عدم الكشف عن اسمه: “لم يعد هناك قيمة لابن الأرض، صرنا محض لاجئين في بلد دافعنا عنه بمآقي العيون، اليوم لا مكان لنا أمام الأفكار العابرة للحدود”.

يخشى بعض الضباط المنشقين من تبعات انتقامية في حال ظهور تصريحاتهم بأسمائهم الحقيقية، لذا سيستعمل “صالون سوريا” اسماً مستعاراً وهو سامر لضابط منشق برتبة رائد قال: “نحن في عزلة عن مجريات الأحداث، لا أحد يريد إشراكنا، لم تعد هناك فرصة أو وقت أو إمكانية أو أمل في بناء جيش وطني ذي عقيدة قومية خالصة، الآن زمن الأجانب الذين يتولون القيادة، الأجانب القادمين من الأراضي البعيدة، هؤلاء إرث الثورة الثقيل، الثقيل عليها وعلى قادة البلد الحاليين”.

بين العقيدة الجهادية والولاء الوطني

بعد سقوط نظام بشار الأسد واجه النظام الجديد معضلة في التفاضل بين أصحاب العقيدة الوطنية التقليدية، وأصحاب العقيدة العابرة للحدود، فمالوا نحو الأخيرة نظراً لما أبدته من شراسة وولاء خلال سنوات الثورة. وقد عبر الشرع ذاته عن ذاك حين أشار مؤخراً في لقائه مع صحيفة “نيويورك تايمز” إلى إمكانية تجنيس بعض أولئك المقاتلين لما أبدوه من تواجد وثبات إلى جانب الثورة خلال مراحلها الطويلة. وفي هذه السياق، نجد أن خطاب في مؤلفاته لا يكتفي بانتقاد الوطنية، بل يذهب أبعد من ذلك عندما يشير إلى ما يراه تحريفًا للمفاهيم الإسلامية من خلال الانخراط في الجيوش النظامية، حيث يرى أنّ “من يقاتل في سبيل فكرة وطنية ليس أكثر من أداة في يد الطواغيت الذين يزعمون أنهم يدافعون عن حدود مصطنعة بين المسلمين”.

لا يمكن فصل الرؤية الجهادية للهيئة التي تمتلك بين جناحيها زهو 7500 مقاتل أجنبي عن السياق العام الذي جعل خطاب يؤكد في مؤلفه المذكور أنّ المنشقين غير قادرين على التمييز بين العقيدة الجهادية والولاء الوطني. وعليه، ومع تعيينات الانتصار التي قادتها “هيئة تحرير الشام” أصبح قائد الحرس الجمهوري أردنيًا من أصول سلفية جهادية، وقائد حامية دمشق (فرقة دمشق) تركيًا، مع ما يزيد عن 50 تعيينًا أجنبيًا في قيادة العمليات العسكرية. وترفيع عددٍ من الأجانب لرتب عسكرية عليا، فيما تضاءل دور الضباط السوريين الذين بقوا في المناصب الشكلية غير المؤثرة فعلياً أو الذين تم تهميشهم عملياً.

الأمر برمته لم يمكن مرتبطاً بمسألة بناء قوة قتالية وحسب، بل بما هو أبعد من ذلك لناحية الضمان الفكري والأيديولوجي المبني على الولاء الشرعي ما فوق الوطني، وذلك لأنّ “المجاهد الحق” لا يقاتل من أجد “الحدود” أو “الدولة” بل من أجل إقامة “شرع الله وحدوده”. ويجسد خطاب ذلك الاعتقاد في قوله ضمن مؤلفه في “حكم الانتساب للجيوش”: “القتال من أجل الوطن هو فكرة ضالة، والأمة لا تتحقق بالحدود المصطنعة التي يفرضها أعداء الإسلام”.

وما الشام إلّا بداية “الفتح المبين”

يبدو الواقع في سوريا اليوم زجاجياً للغاية، مهيأ للتحطم في أي ثانية أو مفترق، يعكس تحولاً خطيراً في بنية بناء ما بعد التحرير وسط سيل تساؤلات عن سوريا المستقبل مع الأخذ بعين الاعتبار الضغوط الأميركية المتنامية ذات الشروط الثمانية لرفع العقوبات الجزئي عن سوريا، ومن بين أبرزها تحييد الجهاديين وإبعادهم عن المشهد. ويزداد الأمر تعقيداً في الحين الذي يبدو فيه أن “الجيش الوطني الجديد” هو جيش يملك في حيز واسع منه عقيدةً جهادية إقصائية تتمثل في فصائل مرتبطة بوزارة الدفاع ولا تمتثل لأوامرها ولا تتوانى عن ارتكاب المجازر والانتهاكات. وأبرز مثال على ذلك المجازر التي ارتكبت ضد علويي الساحل ودروز الجنوب الحاضرة بقوة كملف يزيد الضغط على الحكم الانتقالي القائم حالياً بفعل الابتزاز السياسي الدولي. يضاف لكل ذلك أنّه لم يعد يمكن التعامي عن أنّ الجيش السوري الآن هو من لونٍ واحد، وفكرٍ واحد، وأيدولوجيات مقلقة، ايدولوجيات يمكن أن تكفّر الشرع ذاته لانفتاحه على الغرب في تحول براغماتي تحتاجه سوريا فعلاً، مع خلعه عباءة الماضي الجهادي ونفض غبارها وارتداء البزة الرسمية وتصريحه المتكرر أنّ الثورة انتهت وحان وقت بناء الدولة بالعقلية الجامعة لأبنائها، وهو ما لا يعيره الجهاديون أي انتباه ضمن مشروعهم الجهادي الواسع، فالتركتساني والإيغوري والشيشاني والعشرات الذين ينتمون إلى جنسيات أخرى لا تعنيهم تلك البنيوية الحتمية لإعداد مشروع صياغة شكل “دولة” إذ إنّ حلم “الخلافة” لا زال يطارد أحلامهم، وما الشام إلّا بداية “الفتح المبين” بناء على تواصل مباشر متعدد مع مقربين من أولئك المقاتلين.

الظاهر والباطن

ورغم الاعتراف الواسع ببراغماتية وانفتاح المستوى السياسي السوري الأعلى على القضايا المحلية والإقليمية والدولية من منظور دولة قائمة تسعى لكسب الشرعية، يبقى تحدي الخلفية الجهادية للمقاتلين الأجانب ماثلاً، وتبقى الأيديولوجية الداعمة لهذا التوجه والتي يؤكدها خطّاب ضمن المؤلف التنظيمي المذكور سلفاً قائلاً: “القتال من أجل الوطن هو فكرة ضالة، والأمة لا تتحقق بالحدود المصطنعة التي يفرضها أعداء الإسلام”.

وعليه، يرى الضباط المنشقون (وهم بحدود سبعة آلاف ويزيد عدا عن العناصر) أنّ هذا الموقف، إذا استمر في الهيمنة على القرار العسكري في سوريا ما بعد الأسد ولو من تحت الطاولة، أو في باطن الأفكار، فقد يُفضي إلى المزيد من العزلة السياسية والعسكرية، ويعرّض سوريا لخطر فقدان هويتها الوطنية الجامعة لصالح فكر جهادي لا يعترف بالحدود الجغرافية أو الوطنية.

لكلّ مرحلة خطابها

بناء على كل ما سبق، فإنّه لا يمكن التغاضي عن الآثار المستقبلية لهذا التوجه القاعدي في هرم السلطة التي قد تصبح ذاتها بوابة عبور نحو معركة داخلية–خارجية لا تعترف في لحظة بالحدود والجغرافية والمواثيق والأسس والمعاهدات والعيش المشترك أو التشاركي، وحينها يصير الاحتكام إلى المرجعيات الدينية المهيمنة أساساً لا يمكن تجاوزه، وسبيلاً مفروشاً بالزهور لنمو قوى كداعش من جديد. سوريا اليوم في ظلّ معادلة شديدة التجاذب بين جيش سابق جرى تسريحه بالكامل، وجيش من المنشقين تم الاستغناء عن خدماتهم ويرزحون تحت مظلومية كبرى تضحي بمستقبلهم السياسي والعسكري، وجيش جهادي لا يملك البذور الوطنية لرؤية سوريا الجديدة.

وفي هذا الإطار يقول الخبير الدبلوماسي ماهر سمارة لـ “صالون سوريا”: “سأكتفي بالقول إن الشرع محاط بالألغام كيفما اتجه، تفكيك الحاضنة الجهادية أمرٌ شبه مستحيل، الرئيس الجديد من خلال تحليل سياقات خطاباته ولقاءاته يبدو منفتحاً ومتمسكاً بمشروع شامل وجامع، ويحيط به على المستوى الأقرب في الدائرة الضيقة أشخاص يشاركونه التوجه، ومن أبرزهم الشيباني وزير الخارجية، وأبو قصرة وزير الدفاع، وخطاب وزير الداخلية نفسه رغم كل مؤلفاته الجهادية، ولكنّ الجميع الآن مؤمن أنّ لكل مرحلة خطابها ولكلّ زمانٍ دولة ورجال، فمرحلة إدلب وعزلتها كانت تفرض أسلوباً في التعاطي العقائدي المختلف تماماً عن حال حكم سوريا بأكملها حالياً، وهذا الدرس الأكبر الذي يجب التعويل عليه، فما بعد التحرير يجبّ ما قبله.”

تبادل الموت وتحية الخوف والانكسار

تبادل الموت وتحية الخوف والانكسار

في بداية عام 2017 أنهيت زيارة لقرية “كوكب” الواقعة في “ضهر الزوبة” في بانياس والتابعة لقرية البساتين، وكان لي أن أعود باتجاه طرطوس سالكاً طريقاً من اثنين: إما عبر قرية الزوبة ثم الخريبة وضهر صفرا، ثم الروضة؛ لأصل إلى الطريق السريع بين طرطوس واللاذقية، وإمّا عبر الطريق الثاني الذي ينحدر في قرية البساتين ليصل مباشرة إلى الطريق السريع، وهو طريق أقصر وأسهل من الطريق الأول لكنه مقلق ويلزمه الحذر كما قيل لي والسبب أن أهل البساتين “سنّة” وهم معارضون في أغلبهم.

في ذلك الوقت كان يبدو أن النظام في سورية قد انتصر وأن المعارضة بصفتها السنيّة الغالبة قد خاضت معركتها وهُزمت، لكن سكان القرى العلويين المحسوبين على النظام، ما زالوا يتجنبون الاحتكاك بهم.  

سلكت طريق البساتين بناء على تطمين من كنت ضيفاً عندهم، فقد قال صاحب البيت: “عم، لن يتعرّض لك أحد، أهل البساتين طيبون، عشنا وإياهم دهراً ولم يتعرض أحد للآخر إلى أن حدث ما حدث” وهو بذلك يشير إلى ما جرى من قتل في قرى البساتين والبيضا، وقد أكّد لي أن أهل “كوكب ” لا علاقة لهم به، فالذي ارتكبه هم مجموعات قدمت من الشمال تابعة لـ”هلال الأسد” الذي قُتل فيما بعد في معركة شمال اللاذقية. 

انحدرت في قرية البساتين، وبعد أن قطعت مسافة قصيرة توقّف رجل على يمين الطريق؛ قبل أن أصل إليه بخمسين متراً وحياني بطريقة لن أنساها أبداً، انحنى انحناءة خفيفة ورفع يده إلى محاذاة رأسه بما يشبه التحية العسكرية وغض بصره عني.

تكررت التحية أكثر من مرة مع أكثر من شخص وكلما سلكت ذلك الطريق. تلك التحية التي يمكن تسميتها تحية الخوف والانكسار، قد تركت في نفسي أثراً وأسفاً عميقاً، فقد أحزنتني وضايقتني، ذلك الضيق الذي يتأتى من ضيم لا ترضاه، لكن لا تملك حياله شيئاً.

لسنا بصدد الكلام عن أسباب المجزرة التي حدثت حينها والتي قيل إنها رد فعل عما اقترفه أهالي البيضا والبساتين بحق عسكريين ومدنيين تم قتلهم هرساً في معصرة زيتون، وعلى ما حدث في بانياس البلد، كقتل “عماد جنود” وهجوم جسر القوز على رتل الجيش.

 لكن عليّ أن أذكر نقلاً عن شهود عيان أن ضحايا تلك المجزرة كان الكثير منهم من الأبرياء ومن مؤيدي النظام حينها أو من الحياديين الذين لم يكن لهم موقف سياسي معلن من النظام أو الحراك السياسي الذي اعتمل في سوريا ومنها بانياس، أولئك الذين اختاروا الاهتمام بحياتهم اليومية وعدم الانجرار إلى أي نشاط سياسي أو فعل راديكالي. 

أحد شهود العيان روى لي أن أحد أهالي البساتين كان يعمل على جرار في حراثة الأرض في قرية “كوكب” أوقف جراره ليعود إلى البساتين، حاول من روى لي (وهو علوي) وأشخاص آخرون منعه من العودة وإبقاءه لحمايته، لكنه أصر على العودة وهو يقول: “لم أفعل شيئاً ولست ضد الدولة، ولا يمكنني أن أترك أهلي.” ترك جراره وذهب ولم يعد أبداً.

وروى لي آخرون أنه تم إرسال تحذير من أهالي قرية كوكب “العلوية” إلى أهل البساتين والبيضا بأن هجوماً على وشك أن يقع على القريتين لا علاقة لهم به، وعليهم أن يكونوا حذرين.

 تجاوب مع التحذير من تورّط في أعمال دموية ومظاهرات وهربوا، وبقي من لم يرتكب شيئاً لظنهم أنه لن يطالهم سوء، وهم من صاروا ضحايا. 

قِيل الكثير عما حدث في سياق هياج جمعي يحدث عادة في مثل هذه الظروف، حيث لم يتم التمييز بين البريء والمذنب، فالكل مذنبون في نظر القتلة، المرأة التي التجأت إلى خم الدجاج لتختبئ مع أولادها وقُتلت، شيخ الجامع صاحب الموقف المعتدل الرصين، معلم المدرسة المنفتح…

هذا الهياج نفسه هو الذي حكم ما جرى في المذابح الأخيرة التي ارتكبت بحق العلويين في بانياس وجبلة واللاذقية، وفي حمص وقرى حماه وغيرها، مع فارق لا بد من ذكره وهو الدافع ومعطيات المرحلة.  

ارتكبت تلك المذابح وما زالت بسبب مباشر هو تذرّع من ارتكبها بمحاولة انقلاب قام بها كل من “غيّاث دلا” و”مقداد فتيحة” كقادة لفلول النظام البائد. والمفارقة أن تحدث تلك المحاولة في قرية تبعد عن العاصمة ثلاثمائة كيلومتر، وقد ادعى من قال بذلك أنّ تلك المحاولة كانت تضم قسد والدروز، غير أنه بعد يومين من المذبحة تم توقيع اتفاق بين الشرع وعبدي، ومن غير المعقول أن يتم توقيع اتفاق في ظرف كهذا، ووضع سياسي حاد ومصيري حيث أحد الطرفين يسعى لإنهاء الآخر بهذه السرعة.

السبب غير المباشر والأقرب للواقع؛ هو الرغبة بالثأر والانتقام ممن يُعتبر حاضنة للنظام البائد، والحاضنة المقصودة هنا طائفية وليست سياسية، تلك الرغبة المخبوءة كالجمر تحت الرماد والتي تنفخ عليها من وقت إلى آخر أحداث وتداعيات خاصة في سنوات الحراك السياسي الأخيرة التي أزكت التناقضات السياسية وجعلتها أكثر حدة وبلبوس طائفي واضح.

 بخصوص ذلك نُشرت بعض الخرائط شاهدت إحداها على شاشة إحدى الفضائيات العربية في عام 2011 وقد كتب على منطقة الساحل السوري “Killing zone“ منطقة القتل، وهذا يؤكد ما كان مبيتاً للمنطقة الساحلية.

التخطيط لما ارتكب في هذه المجازر كان واضحاً رغم التسويق الإعلامي لها بأنها أتت نتيجة “فزعة”، وهذه الكلمة بالذات تحمل معنى تراحمياً اجتماعياً يشي بطبيعة من استخدمها وتجاوب معها، كأنهم فعلوا ذلك لدرء خطر محدق داهم وهي سمة غالبة في المجتمعات البدوية. 

الأكثر تأثيراً كانت الدعوة إلى الجهاد ذات البعد الديني التكليفي- فرض عين- وقد انطلقت من مآذن الجوامع في عدة مدن سورية، وتمّ بثّ هذه الدعوة وصور للتجمعات التي تآلفت تجاوباً معها بشكل مباشر على قناة الجزيرة، بالصوت والصورة، فتعالت صيحات وشعارات صريحة وبحماس واندفاع شديد تدعو إلى ذبح العلوية والقضاء عليهم. 

المذابح التي ارتكبت ووثقت كانت دموية مفرطة وقاسية جداً، وفق شهادات لمن بقي حياً كان القتل يتم بعد سؤال الضحية “أنت شو؟”، رغم أنهم يعرفون انتمائهم الطائفي، لكن للسؤال هنا بعداً آخر هو الإذلال والتشفي قبل القتل.

روت زوجة المهندس “نبيل حبيب” أنهم دخلوا المنزل وسألوا زوجها بأسلوب فظ: “شو دينك؟” أجاب: “أنا مسلم.” أردفوا: “مسلم شو؟”

أجاب: “مسلم…” وصمت، ردوا بعنف: “مسلم سني أم علوي؟”

قال بهدوء: “علوي…”

ضربوه بأخمص البندقية وصرخوا: “إلى السطح.. اطلع عالسطح يا خنزير،” حيث حدثت المقتلة له ولجيرانه. 

ضحايا المجازر كانوا أبرياء، تم انتقاؤهم من كوادر علمية واجتماعية وفق معلومات وتوجيهات حددت مكانهم وانتماءهم، وكأن القتل كان محملاً على الخريطة، إضافة إلى القتل العشوائي، فأول من قتلوا عجوزاً عمره ستة وثمانون عاماً، تصادف أن وجد في طريقهم، “قرب كراجات السرافيس”.

الصحافية ثناء عليان روت كيف قتلوا زوجها، فقد كتبت تنعيه على صفحتها “زوجي لم يكن فلولاً ولم يقاتل أحداً.. دقو الباب ولما فتح سألوه: أنت علوي أم سني؟ وبناء على جوابه تم قتله بدم بارد بعد أن أخذوا سيارته وموبايلي وموبايله… رحمة الله عليه رحمة واسعة..”

المفارقة أنه تم قتل امرأة خنقاً لجأت إلى خم الدجاج كما حدث في البيضا، ولكن في قرية “بصيرة الجرد” على أطراف جرد صافيتا. 

في خضم ذلك الهياج الذي نتج عنه القتل وحرق المنازل والسيارات والتنكيل بالضرب وغيره، لا بد من ذكر ما هو إيجابي؛ المتمثل بمبادرة عائلات سنيّة لحماية المستهدفين العلويين. والغريب أن هناك عناصر من الفصائل الذين قدموا مع من ارتكب المذابح عملوا على نجاة عدد من الأهالي العلويين، وهناك حالات توثق ذلك، فمثلاً أحد عناصر الفصائل نقل بسياراته عائلات من القصور ساحة الذبح إلى مساكن المصفاة، وآخر حمى بناية بأكملها بالإدعاء أن ليس فيها أحد، وحوادث أخرى. توثق ترحيل أهالي خلسة.

حادثة لها دلالاتها المختلفة روتها تلك الأم التي وضعت مولودها قبل أوانه وكان لا بد له من حاضنة في مشفى بانياس الوطني، وهي من قرية علوية، اقتربت منها ممرضة سنيّة وقالت لها: “لا تقولي إنك علوية، سيقتلونك ويقتلوا الطفل، قولي إنك سنيّة.” ومضت لتجلب لها حجاباً وضعته على رأسها. هذا يوضّح فرقاً واضحاً وهو أن الهياج الطائفي وصل إلى حد الرغبة في إفناء الآخر “العلوي” والغريب والمؤسف أنه شمل الطبقة المثقفة والأكاديمية، فكيف لطبيب أن يأمر أو يتسبب بقتل طفل!

خلال أربعة عشر سنة حدثت مجازر كثيرة بحق العلويين والسنّة، لكن لم يستشر الهياج الطائفي كما حدث في مجازر العلويين الأخيرة، إلى درجة بدا وكأن الأمر  غريزي موزع بين غريزة القتل وغريزة المحافظة على البقاء..منذ أيام شاهدت نفس التحية؛ تحية الانكسار والخوف التي رأيتها سابقاً وأنا أعبر قرية البساتين، لكن هذه المرة رأيتها على الحواجز، يؤديها من يعبر من العلويين.

اللّاأدرية الطارئة في سورية

اللّاأدرية الطارئة في سورية

تتّضح ملامح ما يمكن تسميته بـ “اللّاأدرية السياسية” من خلال مراقبة تفاعلات الرأي العام السوري، وتحليل الخطاب الشائع على المنصات الإعلامية، إضافة إلى التواصل مع فاعلين سياسيين وإعلاميين داخل البلاد وخارجها. هذا التيار، الذي يتمدد تدريجياً دون أن يُعرّف نفسه بوضوح، يتخذ من الشك المطلق والنقد العدميّ موقعاً مريحاً خارج الاستقطابات الحادة، لكنّه في الجوهر لا يفعل سوى إعادة تدوير الذهنية التي رسّخها نظام الأسد لعقود: الارتياب، المواربة، ورفض أي سرديّة لا تنسجم مع بنيته السلطويّة.

وحين تتحوّل العواطف إلى منطلق للموقف السياسي، فإنها غالباً ما تعجّل في إفشال أي هدف جماعي. فالانحياز الغريزي، رغم صدقه الإنساني، لا يكفي لتأسيس مشروع تغيير قادر على الصمود. وحين يُختزل الفعل السياسي في ردة فعل وجدانية، تتحول الأفكار إلى ضجيج لا ينتج موقفاً، ويغيب عنها التقدير العقلاني للمصلحة العامة. في هذا الفراغ، تبرز “اللّاأدرية” كحالة تبدو وكأنها ترفض التورّط العاطفي، لكنّها في الواقع لا تنتج فهماً أعمق، بل تقف عند سطح التعقيد دون تجاوزٍ أو انحياز، فتتعامل مع الواقع بوصفه عبئاً لا يُحتمل لا مشروعاً يجب التفكير والمشاركة فيه.

لقد شكّلت “الأسديّة” على مدى عقود منظومة ثقافية – أمنية متكاملة، هدفت إلى إنتاج وعي سياسي معادٍ للتنوّع، ومهيأ لتقبّل السلطة نقيضاً للفوضى. لم تكتف هذه المنظومة بقمع السياسة، بل أعادت تشكيل المجتمع من الداخل عبر ترسيخ صورة نمطية لكلّ منطقة ولهجة وطائفة، تُعيد تصنيف السوريين ضمن هرم خفي من التحقير والتمييز والاختزال. بهذه الأدوات، اشتغل النظام السابق على تفكيك أي إمكانية لتماسك وطني، مُغذّياً الشك المتبادل والتبعية كضمانة للاستقرار.

كما أن المفارقة الأوضح في خطاب اللّاأدرية أنه يستبطن أدوات النظام السابق نفسه، دون أن يعلن ذلك أو يعيه أحياناً. التهكّم على الهويات، السخرية من التعدّد، وشيطنة كلّ مبادرة سياسية أو مدنية بوصفها مشبوهة أو محكومة بالفشل مسبقاً، ليست سوى امتداد لمنطق السلطة القديمة في لباس نقدي. لا يوجد فارق جوهري بين من يقول “الكلّ كاذبون” ومن قال لسنوات: “لا أحد سواي يستحق الحكم”. ومع تفكك النقاش العام، وصعود اللّاأدرية كخطاب سائد وسط انقسامات السوريين، بتنا أمام حالة من العطالة السياسية تتغذّى من اللّامبالاة، وتعيد إنتاج العدمية كواقع متنامٍ. هي حالة ترفض الواقع، لكنّها أيضاً لا تقدم بديلاً له، ولا تؤمن بإمكانية تغييره.

يتبنى هذا التيار موقفاً منفراً من الجميع: لا يثق بالحكومة، ولا بالمعارضة، ولا حتى بالمجتمع المدني. لكنّه في المقابل، يُبدي حنيناً خفياً إلى بعض رموز النظام السابق ممن لم يتورطوا مباشرة في الدم، كما في حالة وزير الخارجية الأسبق فاروق الشرع، الذي تحوّل لدى شريحة من الموالاة والصامتين وبعض من يسمّون أنفسهم “ثوّار ما بعد النظام”، إلى مرجعية رمزية أو “حل توافقي”. هذه النزعة تعبّر عن تمسّك خفي ببقايا النظام، رغم التفاوت في عمق الولاء له. إنها محاولة لإعادة تدوير واجهات الأسدية تحت غطاء الحياد أو “الخبرة”، وهي في جوهرها لا تُنتج مشروعاً بقدر ما تعرقل أي محاولة جدية للتجريب ولبناء بديل. هكذا تتحوّل اللّاأدرية من موقف حيادي إلى أداة تعطيل فعلي.

لا يعني هذا أن النقد مرفوض؛ بل على العكس، لا يمكن لأي عملية سياسية أن تنضج دون نقد صارم. لكنّ الفرق شاسع بين النقد كأداة تحليل وتطوير، والنقد بوصفه منهجاً للتقويض المستمر. اللّاأدرية كما تتجلى اليوم ليست نتاج مراجعة عقلانية، إنما هي إفراز مباشر لثقافة سياسية مشوّهة، نشأت في بيئة قمعية ترى في كلّ اختلاف تهديداً، وفي كلّ مبادرة خديعة محتمَلة. وما يعمّق هذه الأزمة هو عودة بعض المنصّات إلى استثمار الانقسام الطائفي والمناطقي في الخطاب السياسي، لا بهدف إنصاف الضحايا أو ترميم الذاكرة، بل لتثبيت سلطات جديدة وإعادة إنتاج نفوذ قديم بلغة محدثة. إن سرديّات المظلومية حين تتحول إلى أداة نفوذ، تفقد قيمتها الأخلاقية، وتعيد تكرار منطق النظام بأدوات رمزية مختلفة.

مؤخراً، لم يُعامَل سقوط الضحايا من السوريين\ات كفرصة لإعادة التفكير بأسس بناء الدولة، من عدالة وقانون والتزام عام بالسلم الأهلي، بل جرى التعامل معه كحدث عابر، يُستهلك إعلامياً، ويُستخدم لتحريك الاصطفافات والانفعالات. هذا التعامل السطحي أخفى خلفه واقعاً مريراً: أكثر من 85% من السكان تحت خط الفقر وذلك يدفع بالمجتمع لكوارث غير متوقعة. آلاف العائلات ما تزال تعيش في الخيام، وجزء من البنية الأمنية موزعة بين ميليشيات تنسب نفسها للدولة لكنّها تمارس سلطتها بمنطق العصابة، وكيانات مناطقية تتصرّف من خلف متاريس الهويات الضيقة. في هذا السياق، عاد إلى الظهور مجدداً خطاب تمجيد الشخصيات، وتقديس “القائد”، كأن الوعي السياسي السوري لم يغادر بعد منطق الفرد المنقذ، رغم كل ما مرّ به من تجارب دامية. هناك من يريد تذويب الدولة في ذهنية إدارة المناطق المحررة!

أعتقد أن أحد الأسباب الجوهرية لتنامي اللّاأدرية السياسية في سورية اليوم هو غياب الثقة بإمكانية قيام جهاز أمني وطني عادل. فحين تستمر فوضى السلاح والانتهاكات، يشعر معظم المواطنين أنه لا يوجد فرق جوهري بين ما كان وما هو آتٍ. في هذه البيئة، تتغذّى اللّاأدرية على الشعور بالخذلان، وعلى الإحساس بأن أدوات القمع القديمة أُعيد تدويرها بأسماء مختلفة. إن كلّ تجاوز أمني غير خاضع للمحاسبة، وكلّ عنصر يمارس سلطته بدافع شخصي أو انتقامي، لا يعمّق فقط الفجوة مع الدولة، بل يعيد إنتاج المبررات الكاملة للحياد، للشك، وللسقوط في خطاب “لا أحد يستحق الثقة”.
وإن عدم خضوع المؤسسة الأمنية الجديدة لمراجعة جذرية ضمن إطار العدالة الانتقالية لا يعزز فقط استمرار الفوضى، بل يشرعن انسحاب معظم النّاس من المجال السياسي، ويحولهم إلى مراقبين ناقمين. من هنا، فإن إصلاح الأمن هو صمام أمان للثقة العامة، ولإمكانية تفكيك اللّاأدرية كموقف دفاعي متفاقم في المجتمع السوري.

إنّه لمن الأخطاء القاتلة أن يظن السوريون أن سقوط رأس النظام كافٍ لإغلاق صفحة الاستبداد. ما لم يُهدم ميراث الأسد في العقول، ستظل السياسة في سورية أسيرة الانفعال، والتردد، والانتظار. والمجتمع الذي لا ينتج سياسة، سيظل يدور في فلك السلطة، أيّاً كان شكلها. واللّاأدرية التي تتفشى اليوم تعبّر عن تيه صارخ. وهي انسحاب من الفعل العام باسم الحذر. هذا النوع من الانسحاب يُضعف المجتمع، ويقوّي بقايا المنظومة القديمة، التي ما زالت حيّة في ثقافة التهكم، وفي رفض التعدد، وفي احتقار كل مبادرة لا تأتي من “المعروفين”.

إذا أراد السوريون أن يبنوا بلداً جديداً بحق، فعليهم أن يتجاوزوا مرحلة الغضب، ويتخلّوا عن ردّات الفعل المتسرّعة، ويتقنوا العمل السياسي بمعناه العميق: التنظيم، التخطيط، المحاسبة، وتحمّل المسؤولية. لا خلاص من ميراث الأسد إلاّ بممارسة عكسية تماماً لكلّ ما كرّسه في النّاس: منطق الفرد، هوس الأمن، تحقير الاختلاف، وتسميم الثقة بين المواطنين. واللّاأدرية ليست مرحلة، بل مأزق قابل للتجذّر. والخروج منها يبدأ بالاعتراف أن الدولة لا تُبنى من الغضب والسخرية، ولا من الحنين للماضي، بل من إرادة واعية حاضرة، تُدير التناقضات بدل أن تهرب منها.

الإعلام الاجتماعي والتحريض على القتل الطائفي

الإعلام الاجتماعي والتحريض على القتل الطائفي

لا يختلف اثنان حول دور الإعلام سواء في السلم أو في الحرب، ومدى استخدامه في تأجيج الصراعات والنزاعات وتغطية الحروب والأحداث المصيرية للشعوب. تتراوح شدة تأثيره من مكان لآخر وتعتمد على قدرة العاملين فيه والتزامهم بالمهنية ويتأثر ذلك بعوامل كثيرة كطبيعة الصراع القائم من جهة ودعم الأطراف المتصارعة من قوى عالمية قد تكون متحكمة بوسائل التأثير الالكترونية من جهة أخرى. ولهذا تم دوماً استهداف الصحافيين في الحروب وكلنا يتذكر الصحافيين الفلسطينيين الذين قضوا بالقصف مرة تلو أخرى في حرب غزة حيث قتل أكثر من 183 صحفياً في عام واحد بعضهم أثناء عمله وبعضهم مع عائلاتهم.

  كما تم تعديل خوارزميات الإنستغرام بعد حرب غزة لتشديد الرقابة على المنشورات التي تتحدث عن إبادة الفلسطينيين/ات، وهذا ما فعلته شركة “ميتا” في الفيس بوك إذ قامت بمحاصرة وصول الصوت الفلسطيني وتقديم الحرب للعالم على أنها حرب عادلة لتحرير المختطفين اليهود.

غياب الإعلام في سوريا

منذ سقوط نظام الأسد في الثامن من كانون الأول تم إغلاق القنوات التلفزيونية والإذاعات الرسمية والخاصة مما ترك فراغاً واضحاً وجعل الناس تسعى للوصول إلى الخبر عبر مصادر  تنوعت بين الوكالات الخارجية، مع قلة مراسليها في الأنحاء السورية، أو شبكة  العلاقات الاجتماعية الخاصة أو وسائل التواصل الاجتماعي، أي تحت تأثير ما يسمى بالإعلام المجتمعي والتي تظهر في حالات مماثلة عبر جماعات مؤثرة (صفحات عامة) مع الانتباه أنها من أطراف مختلفة المواقف ومتنوعة الاتجاهات ولهذا قد تكون مضللة وليست مهنية سواء من حيث التحيز أو لأن بعضها خارج البلاد يفتقر إلى الدقة في نقل المعلومة، أو عبر أشخاص مهتمين ومعروفين يحظون بمتابعين كثر سواء كانوا موثوقين أو لا، كصفحات بعض الاعلاميين السابقين أو الجدد، دون الانتباه إلى المهنية التي كانت تتأرجح على الدوام بكل ما تحمل من مخاطر. ظهر ذلك واضحاً بالنظر إلى مواقف وردود أفعال الناس التي وقعت تحت ضغط التجييش والضخ الطائفي الضمني أو العلني في وقت تم تداول الدعاية للمظلومية بالتبادل مرة تلو أخرى بين مكونات المجتمع السوري وطوائفه. وتم التحريض عبر رجال الدين على المنابر غير مرة للتعبئة الطائفية.

 لا نستطيع إنكار دور هذه الوسائل في التلاعب بالرأي العام والخاص والتأثير على شرائح المجتمع عبر البث المتواصل للمعلومة دون أي تدقيق أو إثبات، وكحالات انفعالية بعيدة عن المهنية والمسؤولية تستجر ردود أفعال متوالية.

لم يدرك أي من هؤلاء الذين يمارسون الصحافة المجتمعية خطورة الكلمة في الواقع السوري المنقسم منذ عشرات السنين على يد نظام الأسد الذي زرع الطائفية وسقاها ليحفظ استمراره على مبدأ فرق تسد ومنذ 2011 عمد على زرع الخوف من الآخر محولاً الحراك من سياسي إلى طائفي.

فكانت مقاطع الفيديو الكثيرة تنتشر على السوشال ميديا دون توقف حاملة خطاب العنف ومثيرة زوابع الرعب والحقن الطائفي خاصة بعد مواجهات الساحل وما اعقبها من مجازر انتقامية.  كانت عدة فيديوهات مليئة بالدم والعنف والحقد الطائفي إذ لم يتورع مرتكبو المجازر عن التصوير باستخفاف بالمشاعر الإنسانية.

تجارب مماثلة  

بالعودة إلى تجارب شعوب مماثلة للواقع السوري تحضر فوراً تجربة رواندا إلى الذهن إذ كان لوسائل الإعلام أثر مهم وكبير في التحريض على الإبادة الجماعية حسب قول الصحافي آلان ميلي الذي عاصر ذلك في حديثه عن أثر الإعلام فيما حدث هناك. ويقول أحد مرتكبي الإبادة معترفاً: “تحولتُ إلى إنسان متوحش من الدعاية التي كنا نسمعها في الإذاعة. كنا نقتل بحماسة وجنون كأننا نقتل الصراصير أو الثعابين”. نسب لهذه الإذاعة الدور الكبير في التحريض على أعمال العنف والقتل إذ ذكر انها كانت تسوق للإبادة بأقوال مثل: (هؤلاء القوم قذرون، أو علينا أن نبيدهم–يجب التخلص منهم–هؤلاء الصراصير متى سيرحلون؟ وشاعت في الإذاعة أغنية كلماتها: علينا ان نبيد الصراصير، لو أبدناهم سنكون المنتصرين). لقد حول الإعلام الكلمة إلى سكين أو منجل وهي الأدوات التي كانت تقتل الناس بوحشية ودون رحمة. 

وحين بدأت المفاوضات لم يتم تغطيتها وإيصال أخبار تقدمها للناس، بل تم التعتيم عليها مما ترك أعمال العنف والكراهية مستمرة أثناء ذلك. بعض الصحف كانت تنشر صور لأحد أطراف الصراع على هيئة ثعابين. إن نزع الصفة الإنسانية عن الطرف الآخر يسهل تقبل فكرة القيام بقتله إذ يستبعد الإثم جراء القتل في اللاشعور لدى الفرد، بل يبرر عملية القتل على أنها فعل مقدس. 

قامت المحكمة الجنائية الدولية بإصدار حكم على أربعة وثلاثين شخصاً لتورطهم في الإبادة الجماعية والمثير في ذلك أن بينهم صحفيين هما حسن نجيزي من جريدة كانجورا وهو أول من وصف التوتسي بالصراصير. والثاني فرديناند ناهيمانا، مذيع في راديو وتلفزيون التلال الألف الحرة (RTLM) والذي قام بالتحريض علناً على القتل.

وأمام الدور السلبي لهذا الإعلام قامت منظمة مراسلون بلا حدود وبمساعدة الأمم المتحدة وحكومة سويسرا بإنشاء راديو أجاتاشيا بهدف مساعدة الروانديين لتلقي المعلومات الصحيحة ومواجهة الدعاية التي تبثها إذاعة RTLM   لتعميق الصراع وبث الكراهية، وهي المحاولة الدولية الأولى لتحييد وسائل الإعلام الذي بدأ بعد ذلك بأخذ دوره النبيل لنشر ثقافة السلام والحوار وقبول الآخر بتعزيز النقاط المشتركة بين السكان على اختلافهم وبث قصص التعايش الإيجابية والتأكيد على التنوع والحفاظ على الهوية الوطنية الجامعة.

الحاجة الملحة للإعلام الرسمي والمستقل الحر

لا يعاني السوريون\ات فقط من فقدان الثقة في نقل الخبر ومزاجية الأشخاص الذين ينقلونه حسب خلفيتهم السياسية والطائفية وغيرها من الانتماءات التي فرضت وجودها بعد سنوات الأزمة السورية وعمل السلطة البائدة بضخ الأحقاد والخوف من الآخر، بل أيضاً من كثرة الإشاعات حتى فقدان التمييز بين الحقيقة والوهم ومن لغة الخطاب التي تعمق الشرخ الاجتماعي بين الناس دون أن تمتلك مشروعاً داعماً للمرحلة الصعبة التي تمر بها البلاد كالمطالبة بتحقيق العدالة الانتقالية عبر السلطات. فهي لا تتورع عن العنف اللفظي بوسم طائفة أو مجموعة بألفاظ مهينة، بينما تحفل صفحات المثقفين على الإنترنت بالشجار وتبادل التهم، والغرق في الخلافات والانجرار لسلطة اللحظة سواء الفرح بسقوط النظام أو الانتقام الشخصي لمعاناة طويلة جراء ما كرسه النظام من قمع واضطهاد، إذ راجت الحالة الانتقامية خلال الفترة الماضية وراجت عبارة (وين كنتو من 14 سنة؟). واللافت للانتباه هو عدم دقة هذه الادعاءات فمثلاُ هناك من قال هذه العبارة لرغيد الططري الذي قضى 42 عاما في سجون الأسد. يسود عدم التبصر بتحديد العدو وهذا كان واضحاً حين استهدف الانتقام في الساحل بسبب الانتماء الطائفي عدداً من معارضي الأسد الأب والابن والذين قضوا زهرة أعمارهم في السجون الأسدية. 

ساهم الإعلام المجتمعي عدم المسؤولية في حمل الأمانة المهنية بتشكيل الدافع لدى الكثيرين وظهور حالة الاندفاع والهياج. وعلى سبيل المثال استخدم هكذا إعلام العنف اللفظي الذي تجلى بإطلاق الأحكام على فئة كاملة ووصفها بالحيوانات (الخنازير) وذلك لتسهيل الإساءة لها وإسقاط صفة الإنسانية عنها، وبالتالي الحط من قدرها وتسهيل القتل والعنف بحقها، كما حدث حين أطلق النظام الساقط صفة الإرهابيين على كل من عارض الأسد.

هل سننتظر يوماً محاكمة هؤلاء الإعلاميين الذين يفتقرون للمسؤولية، وهل ننتظر إطلاق القنوات الرسمية للإعلام والسماح للمحطات الخاصة البدء بالنشاط خاصة تلك التي لها تاريخ في الذاكرة الشعبية السورية ويمكن أن تكون جامعا للشعب ومهدئاً فهي على الأقل كانت دوماً قادرة على أن تجمع السوريين على روتين الحياة اليومية كفيروز الصباح.

لا يقل عن أهمية إطلاق الإعلام الرسمي أهمية الإعلام المستقل الحر والذي ينتظر منه العمل على تكوين الوعي المجتمعي القادر على تحرير الفرد من تأثير الدعاية والضخ المستمر للضغينة والتحريض، وذلك بتكوين وعي ذاتي مسؤول يضع المصلحة الوطنية أولاً ويؤسس لثقافة الحوار واللاعنف حتى لا نكون تلاميذَ للنظام الساقط في إدارة الراهن.