صناعة الآلات الموسيقية التقليدية تواجه ما فرضته الحرب وتبعاتها   

صناعة الآلات الموسيقية التقليدية تواجه ما فرضته الحرب وتبعاتها   

لطالما شكَّلت صناعة الآلات الموسيقية التقليدية جزءاً حميمياً ومميزاً من التراث الشعبي، المحفور في وجدان السوريين وذاكرتهم الجمعية، ومعلماً هاماً من المعالم الثقافية والفنية في سوريا، التي تزدان أسواقها الشعبية القديمة، وخاصة في دمشق وحلب، بالعديد من محلات بيع الآلات الموسيقية، وعلى رأسها آلة العود التي أدرجت منظمة اليونسكو صناعتها على قائمة التراث اللامادي، كونها صناعة عريقة وأصيلة، تعود بدايتها لنهايات القرن التاسع عشر، وتُعد من أبرز الهويات الثقافية السورية. ولكن، وبعد ما فرضته سنوات الحرب الطويلة وتبعاتها، باتت صناعة الآلات الموسيقية التقليدية تواجه الكثير من الصعوبات والتحديات التي أثَّرت بشكلٍ كبير على تاريخها العريق، وعلى كميات إنتاجها وجودة صناعتها، وحجم انتشارها عربياً وعالمياً.   

خلال سنوات الحرب  تعرض الكثير من ورش صناعة الآلات الموسيقية لأضرار بالغة أوقفتها عن العمل، وخاصة في مدينة حلب، ومناطق جوبر وزملكا وداريا في ريف دمشق، التي كانت تضم عشرات الورش، فيما خسرت تلك الصناعة عدداً كبيراً من أمهر الصناع والأيدي العاملة الخبيرة، الذين غادروا البلاد لينقلوا خبراتهم إلى الخارج وليفتتح بعضهم ورشاً بديلة في أماكن إقامتهم الجديدة، في بعض البلدان العربية وتركيا وكندا وبعض بلدان أوروبا وغيرها.

وتعاني معظم الورش التي تمارس عملها اليوم من صعوبات عديدة، قد تُجبر بعضها على التوقف عن العمل، ومن أبرزها صعوبة توفير الأخشاب، حيث أدت العمليات العسكرية، التي شهدتها البلاد خلال سنوات الحرب، لاقتطاع وإحراق الكثير من الأشجار والبساتين والمساحات الخضراء، بالإضافة لإحراق وتدمير عددٍ من مستودعات الأخشاب، وخاصة في منطقة غوطة دمشق التي كانت تَمدُّ الصُناع بأجود أنواع الأخشاب،  فيما تعرض جزء كبير من أشجار البلاد، خلال السنوات الماضية، لعمليات القطع الجائر، سواء من قبل الباحثين عن حطبٍ للتدفئة، في ظل أزمة الوقود المستمرة منذ سنوات، أو من قبل تجار الحطب الذين انتشرت أسواقهم في عموم البلاد، هذا عدا عن الحرائق الطبيعية التي التهمت مساحات واسعة من الأحراش والغابات السورية. كل ذلك أدى إلى فقدان معظم أنواع الأخشاب التي  تحتاجها صناعة الآلات الموسيقية، والتي تؤثر في نوعية صوت الآلة وجودتها ومتانتها، وخاصة أخشاب الجوز والزان والمشمش، التي ارتفعت أسعارها اليوم، في ظل ندرة توفرها، إلى أرقام خيالية قد يعجز بعض الصناع عن توفيرها، إذ وصل سعر المتر المكعب من خشب الجوز إلى 25 مليون ليرة، وتجاوز سعر المتر المكعب من خشب المشمش والزان حاجز الـ 15 مليون ليرة.   

وبالإضافة لصعوبة توفير الأخشاب، تُشكل صعوبة استيرادها من الخارج تحدياً إضافياً لصُناع الآلات الموسيقية وللمهنة بشكلٍ عام، وذلك نتيجة ارتفاع أسعارها بشكلٍ كبير في دول المنشأ، مُقارنة بقيمة الليرة السورية، هذا إلى جانب ارتفاع تكاليف شحنها، في حال أمكن ذلك، وصعوبة إيصالها إلى سوريا  التي تشهد ركوداً في حركة الإستيراد والتصدير، في ظل الواقع السياسي الذي تعيشه والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.  

صعوبات ومعاناة أخرى

إلى جانب معاناتهم في توفير الأخشاب، يواجه صُناع الآلات الموسيقية معاناة كبيرة مع الانقطاع الطويل للكهرباء، التي قد لا تأتي سوى أربع ساعاتٍ في اليوم، والتي أدت إلى شلل حركة العمل في ورشاتهم لتصبح شبه عاطلة عن الإنتاج. وبما أن تلك الورش تحتاج لتشغيل المنشار الكهربائي وأدوات القص والجلخ وغيرها من المعدات الثقيلة، فإنها ستحتاج للاستعانة بمولدات الكهرباء ذات الاستطاعة العالية، والتي ارتفعت أسعارها لأرقام كبيرة جداً. وفي حال توفرت المولدة فسيكلف تشغيلها مبالغ مالية كبيرة، في ظل ارتفاع أسعار الوقود الذي سيتم شراءه من السوق السوداء. ومن أراد اللجوء لتركيب أنظمة الطاقة الشمسية، التي انتشرت في سوريا مؤخراً، فسيحتاج إلى ملايين الليرات، لشراء ألواح الطاقة والبطاريات اللازمة لتشغيل معدات وآلات الورشة. كل ذلك، وإلى جانب ارتفاع إيجار الأماكن التي تصلح لتكون ورشاً للعمل، أدى لارتفاع حجم تكاليف الصناعة، التي أصبحت عائداتها المادية غير مُجدية بالنسبة لكثيرٍ من الصُناع، خاصة في ظل تراجع حجم الإقبال على شراء الآلات الموسيقية، بعد تردي الواقع المعيشي في عموم البلاد.    

وبالإضافة لما ذكر، يعاني معظم الصُناع من صعوبة توفير  الكثير من المواد الأولية ذات الجودة المطلوبة، كبعض أنواع الغراء الأحمر، المصنّع من مواد عضوية، ومفاتيح آلتي العود والبزق ذات النوعية الجيدة، بعد تراجع كميات إنتاجها مع توقف كثير من ورش الخراطة عن العمل. هذا إلى جانب صعوبة توفير ما يلزم من جلود بعض الحيوانات كالأغنام والماعز، والتي تستخدم في صناعة الآلات الإيقاعية كالدفوف والطبول، وذلك نتيجة تراجع حجم الكميات التي كان الصناع يحصلون عليها من المسالخ، بعد ارتفاع أسعار المواشي، وتراجع حجم الإقبال على شراء اللحوم التي ارتفعت أسعارها إلى مستويات غير مسبوقة.  

إلى جانب ذلك، أوجد الواقع الذي تعيشه سوريا صعوبة كبيرة في استيراد كثير من المواد والإكسسوارت التي تدخل في صناعة الآلات الموسيقية، وخاصة أوتار العود والبزق وجلود الآلات الإيقاعية ذات الماركات العالمية المعروفة. وفي حال تمكن المُصنع من استيرادها فسيحتاج لتكاليف مالية كبيرة، يُضاف إليها تكاليف الرسوم الجمركية، لذا أصبحت كثير من تلك المواد تدخل إلى سوريا عن طريق التهريب أو من خلال بعض الأشخاص المسافرين، ولكن ضمن كميات محدودة جداً، بالكاد تلبي حاجة عددٍ محدود من الآلات.

 ورغم عراقة مهنة تصنيع الآلات الموسيقية وأهميتها الثقافية، وبحسب ما أكده الصُناع الذين التقيناهم، لا يتوفر حتى اليوم  أي دعم حكومي من شأنه أن ينهض بواقع الصناعة، ولا يقام لها أي معرض ثقافي لتقديم منتجاتها، أسوة ببعض الدول، وهو ما يُشكل ظلماً لتاريخها وعراقَتها ويُجحف بحقوق الصُناع المعنوية والمادية، وخاصة صُناع آلة العود التي تُشكل إحدى الهويات الثقافية السورية، إذ لا يوجد حتى اليوم أي جمعية خاصة بهم، وإنما يتبع بعضهم، في أحسن الأحوال، للجمعيات الحرفية، وتُصنف مهنتنم  كمهنة صناعية، ضمن ورشات نجارة الخشب، وليس كمهنة ثقافية وفنية، فيما تخضع ورشاتهم، من حيث حجم الضرائب وتسعيرة فواتير الكهرباء والماء،  لقوانين الورش الصناعية والتجارية.

تراجع جودة الصناعة

لطالما كانت سوريا من أهم الدول  العربية في صناعة الآلات الموسيقية، التي تتميز بأنها الأجود والأطول عمراً، بل تُعد من أهم دول العالم في صناعة آلة العود وخاصة العود الدمشقي. لكن تلك الصناعة، وفي ظل العوامل التي ذكرناها، أصبحت مهددة بتراجع جودتها يوماً بعد يوم. ففي ظل صعوبة توفير الأخشاب ذات النوعية الجيدة، يلجأ بعض صناع  آلتي العود والبزق لاستخدام ما توفر من أخشاب قد تكون مصبوغة ومتشققة وغير معالجة، أو معدة لتباع كحطب، وبالتالي لا تُقدم الجودة المطلوبة، فيما يلجأ بعضهم الآخر، في كثير من الأحيان،  لاستخدام أخشاب أشجارٍ مقطوعة حديثاً، لا تصلح للصناعة، كونها تحتاج إلى عملية تجفيف ومعالجة قد تستغرق عدة سنوات.

وفي ظل ارتفاع أسعار أوتار العود المستوردة وصعوبة استيرادها، بات معظم صناع الآلة يستخدمون الأوتار الصينية أو المصنعة محلياً، والتي لا تقدم الجودة المطلوبة وتؤثر على جمالية ودفء وعذوبة صوت الآلة، فيما أصبح استخدام الأوتار الجيدة محصوراً بطلبات بعض العازفين، إذ وصل سعر الأوتار من ماركة “بيراميد لوت”، المصنعة في ألمانيا، إلى نحو 800 ألف ليرة،  وسعر أوتار “الكورشنر”  و “الأورورا” ، المصنعة في تركيا، إلى أكثر من 300 ألف ليرة.

وبعد أن كانت معظم الآلات الإيقاعية تُصنع من أجود أخشاب الجوز والزان، بات بعضها يُصنع من بعض أنواع الأخشاب التجارية كخشب الحور والزنزلخت والكزبرينة وأحياناً الخشب المضغوط، وهو ما يؤثر على جودة الآلة وطبيعة صوتها ومتانتها، إذ يمكن لإطارها أن يتشقق وينحني ويفقد شكله الدائري بعد فترة قصيرة من تصنيعه. فيما استعاض بعض صناع آلة الرق عن استخدام الخشب، بصناعة إطار الآلة من مواد بلاستيكية تُصبُّ في قوالب خاصة بعد معالجتها. ورغم متانة الإطار، نسبياً، إلا أنه يُفقد الآلة طبيعة صوتها الدافئ ورونقه. وإلى جانب ذلك، يضطر بعض الصناع ، نتيجة صعوبة استيراد جلود الآلات الإيقاعية ذات الماركات العالمية، لاستخدام الجلود المصنعة محلياً، والتي  تتأثر بعوامل الطقس بشكلٍ كبير، ولا تُقدم الصوت المثالي للآلة.

نتيجة للظروف السابقة تراجعت كميات الآلات المُصنعة، في مختلف أنواع الورش الموسيقية، إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، فمعظم من التقيناهم من صُناع الآلات الإيقاعية في منطقة باب الجابية، وصُناع آلتي العود والبزق في منطقة دويلعة وجرمانا، أكدوا أن حجم إنتاجهم قد تراجع بنسبة 60% مقارنة بالسابق، وهو ما أدى لإيجاد نقصٍ في كميات الآلات المعروضة للبيع في معظم محلات الموسيقا. وقد تأثرت كميات إنتاج الآلات الموسيقية أيضاً بتراجع حجم صادرتها إلى الخارج، في ظل ارتفاع تكاليف الشحن وإيقاف معظم مكاتب الشحن الخارجي عملها في سوريا. كما تأثرت بتراجع حجم الإقبال على شرائها، بعد أن ارتفعت أسعارها بشكل كبير،  نتيجة ارتفاع تكاليف صناعتها ونقلها، فعلى سبيل المثال، بلغ سعر العود التدريبي نحو مليون ليرة، ووصل  سعر بعض أنواع العود الاحترافي  لأكثر من  سبعة ملايين ليرة، ليصبح شراء الآلات الموسيقية بالنسبة لكثير من الناس نوع من الترف والكماليات.  

صباح فخري.. مدرسةٌ غنائيةٌ شاملة ومسيرةٌ حافلة بالفن والإبداع  

صباح فخري.. مدرسةٌ غنائيةٌ شاملة ومسيرةٌ حافلة بالفن والإبداع  

 “مؤسس الطرب، صناجة الغناء العربي، أمير الطرب، العندليب، بلبل الشرق، عرَّاب الطرب السوري، كروان سورية، قلعة حلب الثانية، ملك الطرب الأصيل، زرياب حلب، أيقونة الطرب”. تلك بعضٌ من الألقاب الكثيرة التي لُقِّب بها الفنان السوري الكبير صباح فخري، الذي شَكَّل بفنه هويةً سوريةً جامعة لكل السوريين، على اختلاف ذائقتهم وثقافتهم وتوجهاتهم الفكرية، وكان من أكثر الشخصيات الفنية العربية تأثيراً في الجمهور العربي، ومن الفنانين القلائل الذي دخل صوته إلى بيوت أغلب الناس، فهو الحارس المُخلص لتراثهم الغنائي الأصيل، والذي أعاد إحياء كنوزه ونوادره وقدمه لهم بشكل معاصر، أغنى روحه وأصالته، مضيفاً لمساته الفنية البديعة، التي ساهمت في إيصاله إلى العالمية.

ولد صباح الدين أبو قوس (الاسم الحقيقي لصباح فخري) في مدينة حلب عام 1933 لأبوين مُنشدين، يُجيدان ويعشقان فنون الغناء الصوفي والطربي، فاعتاد، منذ طفولته المبكرة، حضور جلسات الإنشاد وتربى على سماع أنغام وإيقاعات الأناشيد الصوفية والأذكار والموشحات، التي حرَّضت عنده موهبة الغناء وساهمت في صقلها وتنميتها، فبدأ يغني في الموالد والأفراح والمآتم في العقد الأول من عمره، كما ساعدته إمكانيات صوته الشجي المطواع أن يعمل كمؤذِّنٍ في بعض الجوامع، كجامع الروضة، فكان أصغر مؤذنٍ يدخل جامعاً.  

وخلال دراسته الابتدائية تعلم أسس ومبادئ اللغة وعلم البيان والتجويد، وهو ما أكسبه مهارة فائقة في لفظ ونُطق الحروف، ساهمت في دعم موهبته الغنائية. كما برزت حينها موهبته الفريدة في الحفظ، حيث تمكن من حفظ القرآن الكريم وبعض دواوين كبار الشعراء، هذا إلى جانب الكثير من الأغاني والقدود والمواويل.

بدأ دراسته الموسيقية في المعهد العربي للموسيقى في حلب، حيث تتلمذ على يد كبار شيوخ الفن، كالشيخ عمر البطش وعلي الدرويش ومجدي العقيلي، فتعلم دراسة فن الموشحات والأدوار والقصائد الغنائية، والمقامات والإيقاعات العربية ورقص السماح، إلى جانب تعلمه الصولفيج الموسيقي والعزف على آلة العود. وخلال فترة دراسته في المعهد شارك في الكثير من الحفلات الغنائية وجلسات الإنشاد بصحبة شيوخ الطرب في الزوايا والتكايا، وقبل أن يبلغ الثالثة عشرة من عمره  وجد نفسه يُغني أمام رئيس الجمهورية شكري القوتلي، خلال حضوره لإحدى الحفلات في حلب عام  1946، فكان ذلك الحدث محطة مفصلية في حياته. ثم  جاء لقاؤه بعازف الكمان الشهير سامي الشوا ليُشكل منعطفاً هاماً في مسيرته الفنية، وذلك بعد أن أعجب الشوا بموهبته النادرة وطبيعة صوته الساحرة، فصار يصطحبه معه ليُغَني  في حفلاته الفنية في عددٍ من المدن السورية. وخلال زيارتهما لدمشق التقيا بالزعيم الوطني فخري البارودي، مؤسس المعهد الموسيقي الشرقي، الذي سعى من خلاله لإعادة الاعتبار للموسيقى العربية، فشكل ذلك اللقاء نقطة تحول في حياة الطفل صباح الدين أبو قوس، حيث كان حينها يُفكر بالسفر إلى مصر، برفقة الشوا، لاستكمال دراسته الموسيقية هناك، كحال معظم مطربي ذلك الزمن، لكن الزعيم البارودي، الذي تمسك بموهبة الطفل وآمن بقدراته الصوتية، أثناه عن تلك الفكرة وأقنعه بالبقاء في دمشق وإتمام دراسته الموسيقية الأكاديمية في المعهد، ثم تبناه فنياً، فخصص له مرتباً شهرياً خلال فترة دراسته، ودَعَمه ليقدم بعض الأعمال الغنائية في إذاعة دمشق، فازدادت شهرته وقدم أولى حفلاته في القصر الرئاسي في دمشق عام 1948، وقد حضرها الرئيس شكري القوتلي ورئيس الوزراء جميل مردم بيك. ومنذ ذلك الحين أصبح اسمه الفني صباح  فخري، نسبة إلى عرَّابه فخري البارودي الذي كان له بمثابة الأب الروحي.        

مدرسة غنائية متفردة وشاملة

خلال مسيرته الفنية لم يَحصر قدراته الصوتية في لونٍ غنائيٍ واحد، كحال كثير من الفنانين، بل اختار جميع الألوان والقوالب الغنائية العربية، كالموشح والدور والقد والقصيدة  والموال، وقد ساعدته عذوبة حنجرته وقدراته الصوتية الاستثنائية وبراعة نُطقه  لحروف اللغة العربية على غناء أصعب الأعمال وإضفاء قيمة جمالية كبيرة عليها، فقدم مدرسة غنائية متفردة وشاملة تناسب جميع الأذواق. ورغم اختلاف جذور أغانيه وتاريخها الزمني، وتنوعها بين الفصحى والعامية واللحن السلسل والمعقد، إلا أنها قُدمت بالحرفية الغنائية والروح  الطربية ذاتها،  فهو لم يكن يسعى لإطراب جمهوره وحسب بل كان يُطرب نفسه بنفسه، فينتقل، خلال وقوفه على المسرح، من غناء القد إلى الطقطوقة ثم الموشح فالدور والموال، في انتقالٍ سلسٍ، يُبقي الجمهور في جوٍ واحدٍ من التفاعل والنشوة.

ولم يكتف صباح فخري بتقديم التراث الحلبي أو السوري فقط، بل نَهل من كنوز التراث العربي الأصيل على اختلاف جذوره وتنوعه الجغرافي، فأعاد إحياء أهم وأجمل الأعمال الغنائية لعظماء الفن، وقدمها للناس بأفضل أداءٍ فنيٍ ممكن، فأغنى بها مكتبة الموسيقى العربية، وجعل كبار المطربين  يتهافتون على غنائها اقتداءً به. فإلى جانب القدود الحلبية  التي اشتهر بها وحَفظها جمهوره الواسع عن ظهر قلب، غنى فخري  أبرز موشحات رائد المسرح العربي وعبقري فن الموشحات أبو خليل القباني, ومن بينها: موشح يا غصن نقا ، يا من لعبت به شمول ، ما احتيالي ، كللي يا سحب  و ما لعيني أبصرت . هذا بالإضافة لبعض أغانيه الشهيرة كأغنية يا طيرة طيري يا حمامة  ، يا مال الشام  ، صيد العصاري ، يا مسعد الصبحية  وعالهيلا الهيلا .  

ومن أعمال كبير الوشاحين السوريين الشيخ الحلبي عمر البطش، غنى صباح فخري عيون الموشحات ومنها: موشح يمر عجباً ، في الروض أنا شفت الجميل ، قلت لما غاب عني ، هذي المنازل ، سُبحان من صورك ، قم يا نديمي ، مُنيتي من رُمتُ قربه ، يا ذا القوام ، و داعي الهوى . وإلى جانب ذلك غنى موشح أيها الساقي ،  لو كنت تدري  و أنت سلطان الملاح  للملحن الكبير مجدي العقلي، والعمل الغنائي التراثي الفريد فاصل إسق العطاش  للمؤلف محمد المنجبي الحلبي، والأغنية الطربية الشهيرة ابعتلي جواب  للملحن بكري الكردي، والتي أصبحت من أشهر وأجمل أيقونات الطرب العربي الأصيل.  

كما أضاء صباح فخري على أهم وأبرز مؤلفات كبار الملحنين المصريين، التي تعود لنهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث غنى من موشحات فنان الشعب سيد درويش: موشح يا شادي الألحان ، مُنيتي عَزَّ اصطباري ، صِحتُ وجداً ،  يا بهجة الروح ، زارني المحبوب ، حبي دعاني للوصال ، يا تُرى بعد البعاد ، نَبه النُدمان  و اجمعوا بالقرب شملي . وبالإضافة للموشحات غنى لدرويش أيضاً أغنية زوروني كل سنة مرة  ، طلعت يا محلى نورها ، و سيبوني يا ناس ، ودور  أنا عشقت  ودور ضيعت مستقبل حياتي ، الذي يُعد فخري أفضل من قدمه، بوضع لمساته الغنائية الساحرة، المتمثلة في تنويع طبقات الصوت، والتلوين في العُرَب الغنائية والتفريد في الآهات. وإلى جانب سيد درويش غنى فخري للملحن الكبير زكريا أحمد  دور إمتى الهوى ، ودور يا اللي تشكي من الهوى ، اللذان غنتهما أم كلثوم، فيما غنى للملحن الكبير محمد عثمان موشح ملا الكاسات  و أتاني زماني بما أرتضي ، ودور أصل الغرام نظرة  و ياما إنت وحشني يا قلبي

و قد ساهم فخري أيضاً في إحياء ونشر الكثير من الموشحات القديمة، التي يُنسب بعضها للفلكلور لعدم التأكد من صحة مؤلفها الأصلي، فأعاد توزيعها وغنائها بطريقته الخاصة التي أشبعتها غنى وجمالاً وساهمت في إيصالها إلى فئات كبيرة من الجمهور، ومن بينها: موشح أحن شوقاً ، جادك الغيث ،  بدت من الخدر ،  إملا لي الأقداح صِرفاً ، يا صاحِ الصبر ، حَيَّرَ الأفكار بدري ،  فيك كل ما أرى حَسن  ، أهوى قمراً ، غُضِّي جفونك يا عيون النرجس  و العناية صُدف .

ملحن عبقري

وإلى جانب براعته وعظمته في الغناء بَرَع صباح فخري في التلحين، فَلحَّن لنفسه أكثر من 25 عملاً، بين أغنية وموال وقصيدة، من كلمات كبار الشعراء. وقد تميزت ألحانه بطابعها الطربي الأصيل وتنوعها الغني والمُبتكر، الذي يُبرز روح وسحر المقامات الموسيقية العربية، وروعة الانتقال الذكي والرشيق بين مقامٍ وآخر، لذا تحول بعضها إلى مواد تعليمية ووسائل إيضاح لدارسي علم المقامات وفنون الأداء الصوتي في كثيرٍ من المعاهد، ليس السورية فحسب وإنما العربية، وقد زاد من عبقرية ألحانه أنه قدمها بأدائه الصوتي الرخيم، الذي يبقى محافظاً على بريقه ونقائه سواء غنى في أعلى الدرجات الموسيقية أو أدناها. ومن أبرز القصائد التي لحنها: قُل للمليحة  للشاعر الأموي مسكين الدرامي، نعم سرى طيف من أهوى  للشاعر العباسي البُصيري، حبيبي على الدنيا إذا غبت وحشةٌ  للشاعر الأيوبي بهاء الدين زهير، جاءت معذبتي  للشاعر والفيلسوف الأندلسي لسان الدين ابن الخطيب، أقبلت كالبدر  لأبي فراس الحمداني، يا من يرى أدمعي  لأحمد شوقي، انتهينا  لعبد العزيز خوجة،   أترع الكاس  لبدر الدين حامد، سمراء  لفؤاد اليازجي، و سلو فؤادي  لمحمد الهلالي.

وبالإضافة لتلك القصائد لحن وغنى الكثير من القصائد الفلكلورية الفصيحة والعامية، ومنها: بيضاء لا كدرٌ يشوب صفاءها ، يا حادي العيس ، أشوف جمال القمر ، من عيسهم ، يا لائمي بالهوى العُذري ،  يا سايقين النوق   و خمرة الحب  التي تعتبر من أشهر وأهم الأغاني الطربية الحديثة التي عشقها الجمهور العربي وغناها كبار المطربين.  

فنان متعدد   

وبالإضافة لمسيرته الغنائية الحافلة بالعطاء، بَرزت قدراته الفنية في التلفزيون والسينما، فوظَّف فنون الصوت والغناء في خدمة الأعمال التي شارك فيها، كالمسلسل التلفزيوني الوثائقي نغم الأمس الذي قدمه مع الفنان رفيق سبيعي والفنانة صباح الجزائري عام 1978، ووثَّق من خلاله نحو 160 عملاً غنائياً تراثياً، بين موشح وموال ودور وقد. كما شارك مع الفنانة وردة الجزائرية في مسلسل الوادي الكبير  عام 1974، وقدم فيه أكثر من عشرين عملاً غنائياً من ألحان كبار الملحنين السوريين، كمحمد محسن وعزيز غنام وعدنان أبو الشامات وأمين الخياط. هذا بالإضافة إلى السلسلة الوثائقية التلفزيونية الدينية أسماء الله الحسنى ، التي قدمها عام 1996 مع الفنانة منى واصف والفنانين عبد الرحمن آل رشي وزيناتي قدسية، والمسلسل الإذاعي “زرياب”، و فيلم الصعاليك الذي شارك فيه مع الفنان دريد لحام ونهاد قلعي ومريم فخر الدين عام 1965.

بعض إنجازاته الفنية

غنى صباح فخري على أكبر وأهم وأعرق مسارح الوطن العربي، وكان له الحضور البارز في أغلب مهرجانات الدول العربية وفعالياتها الثقافية، ومن بينها: مهرجانات بيت الدين وعنجر وعالية في لبنان، جرش وشبيب والفحيص في الأردن، قرطاج، سوسة، حلق الواد، الحمامات، صفاقس، والقيروان في تونس، ومهرجان الربيع في مدينة الموصل العراقية، وفاس في المغرب، والقرين في الكويت. هذا إلى جانب كونه من أكثر الفنانين العرب حضوراً على المسارح العالمية، خاصة في أوروبا وأمريكا، ومن أشهرها قاعة بيتهوفن في مدينة بون في ألمانيا، وقاعة نوبل للآداب في السويد، وقاعة قصر المؤتمرات ومعهد العالم العربي في باريس.

 وخلال مسيرته الفنية مُنح الكثير من الجوائز وشهادات التقدير العالمية. ومن أشهر إنجازاته دخول اسمه في كتاب موسوعة غينس للأرقام القياسية، بعد أن غنى لمدة عشر ساعات متواصلة، خلال إحدى حفلاته في العاصمة الفنزويلية كراكاس عام 1968، كما ورد اسمه في موسوعة مايكروسوفت “Encarta” بصفته واحداً من أهم رموز الغناء العربي الأصيل.

وفي أمريكا حصل على شهادة تقدير من محافظ مدينة لاس فيغاس مع مفتاح المدينة تقديراً لجهوده الفنية في إحياء وإغناء الحركة الفنية العربية، كما قُلد مفتاح مدينة ديترويت في ولاية ميشيغان، ومفتاح مدينة ميامي في ولاية فلوريدا مع منحه شهادة تقديرية. فيما أقامت له جامعة كاليفورنيا حفل تكريم مُنح من خلاله شهادة تقدير لمساهمته في إحياء التراث العربي. وفي السويد حصل على شهادة تقدير في قاعة نوبل للآداب لإحيائه الطرب العربي الأصيل.

عربياً، قدمت له المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “”ALECSO الجائزة التقديرية مع درع المنظمة، ونال وسام تونس الثقافي، الذي قلده إياه رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة عام 1975. وفي عُمان قلده السلطان قابوس وسام التكريم في عام 2000، كما منحته دولة الإمارات العربية جائزة الغناء العربي باعتباره أحد أهم رواد الغناء العربي الأصيل.

وفي مصر كرمته وزارة السياحة بجائزة مهرجان القاهرة الدولي للأغنية، تقديراً لجهوده الفنية، كما كرمه مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية ومُنح أكثر من كتاب شكرٍ لمساهمته، عبر سنوات، في إحياء أهم المهرجانات في مسرحي دار الأوبرا والجمهورية في القاهرة، ومسرح قصر المؤتمرات في الإسكندرية. وإلى جانب ذلك أقيمت له عام 1997 جمعية فنية حملت اسمه، وضمت محبيه ومريديه، فكانت أول جمعية رسمية تقام لفنان غير مصري.

 وخلال مشاركته في مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة في المغرب، قدم له رئيس جمعية فاس سايس وهي عضو في المنظمة العالمية لرسل السلام، التابعة لهيئة الأمم المتحدة شهادة تقدير وشكر، ومَنحه العضوية الفخرية لمجلس إدارة المهرجان، كما مَنحه محافظ المدينة شهادة شكرٍ وتقدير، مع العضوية الفخرية لمجلس المدينة وقلده مفتاح المدينة. 

توفي صباح فخري في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2021، عن عمر ناهز 88 عاماً، أمضاه محافظاً على قيم الفن الأصيل في زمن انتشار معايير الفن الاستهلاكي والرديء. وبقي طيلة حياته، وبعد وفاته، مرجعاً وقدوة وأمثولة لكثير من الفنانين الذين صاروا من مُريديه، ومازالوا يجاهدون ويسعون  إلى تقليده والتأثر به، بوصفه مدرسة فنية خالدة، فهو الذي قال عنه الموسيقار عبد الوهاب عندما التقاه لأول مرة :”مثلك بلغ القمة ولا يوجد ما أعطيك إياه”. 

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

هجرة الموسيقيين السوريين  ٢ من ٢

هجرة الموسيقيين السوريين ٢ من ٢

*تم نشر الجزء الأول من هذه المقالة تحت عنوان “هجرة الموسيقيين السوريين ١ من ٢ موسيقيون هاجروا وفرق اختفت وأصوات لجأت إلى الصمت

 مبدعون في بلاد الاغتراب

الموسيقيون السوريون الذين  أبعدتهم الحرب عن البلاد، والذين ما زالت المسارح السورية تنزف غيابهم وترزح تحت وطأة الفراغ الذين خلفوه، نقلوا خبراتهم الفنية وموسيقاهم إلى بلدان إقامتهم الجديدة، شكلوا فرقاً موسيقية عديدة، متنوعة الأنماط والألوان والخبرات، وصدحت حناجرهم وآلاتهم في المسارح العالمية، فعرّفوا العالم بثقافة سورية الموسيقية وإرثها الفني، وأبرزوا وجهها الحضاري الناصع والمشرق، في وقتٍ كان العالم لا يرى فيها سوى صور الموت والدمار.

فرق موسيقية أوركسترالية

كثيرة هي الفرق الموسيقية السورية الأكاديمية التي ولدت في أوروبا وضمَّت خيرة العازفين المحترفين، من بينها الفرقتين الأضخم: أوركسترا المغتربين السوريين وأوركسترا أورنينا.

أوركسترا المغتربين السوريين“، تأسست في ألمانيا على يد الموسيقي رائد جذبة في عام 2015، وقدمت أولى حفلاتها في العام ذاته. تضم الأوركسترا 60 عازفاً سورياً ، يقيمون في مختلف دول أوروبا، معظمهم ممن غادروا سورية خلال الحرب، من بينهم: جهاد جذبة وهيفرون ميرخان (كمان)، ثائر عيد ورامي الفيصل (فيولا)، صلاح نامق (تشيلو)، رائد جذبة (كونترباص)، ماهر محمود (عود)، لوبانة القنطار (غناء سوبرانو)، بسمة جبر (غناء آلتو) وغيرهم. وتعنى الأوركسترا التي يقودها المايسترو غسان العبود بتقديم الموسيقى السيمفونية والكلاسيكية، كما تمزج بين الأعمال الشرقية والغربية، وتُقدم الموسيقى العربية بقالب أوركسترالي، وقد قدمت العديد من الحفلات في مسارح دول أوربية مختلفة كألمانيا، بلجيكا، السويد، سويسرا، اليونان، فرنسا وغيرها.

وفي مدينة لوكسمبورغ الألمانية تشكلت “أوركسترا أورنينا السورية“، بقيادة المايسترو شفيع بدر الدين، وهو عازف عود ومؤلف موسيقي له عدة مؤلفات موسيقية من بينها “كونشيرتو الناي“. تضم أورنينا عدداً من المغنيين والعازفين السوريين المقيمين في ألمانيا وأمريكا وبعض دول أوروبا، من بينهم: لبانا القنطار، رشا رزق، شادي علي، علي أسعد وأبو غابي (غناء)، وليد خطبا (كمان)، كفاح بدر الدين (تشيلو)، توفيق ميرخان (قانون)، محمد فتيان (ناي)، شام سلوم (عود)، سلمان مبارك (كونترباص) فراس حسن وأمجد سكر (إيقاع) وغيرهم، هذا بالإضافة لمجموعةٍ من مغنيي  الكورال، وعددٍ من الموسيقيين الأوروبيين، كعازفة الكلارينيت سوزان كريتون.

 قدمت الأوركسترا العديد من الأعمال الموسيقية الغنائية والآلية، السورية والعربية، إلى جانب الموشحات والقدود والأعمال التراثية، وذلك عبر كثيرٍ من الحفلات التي أقيمت على مسارح مختلفة، كمسرح برلين  ولوكسمبورغ، والتي حققت حضوراً جماهيرياً مميزاً ولاقت نجاحاً لافتاً، بالإضافة لحجم الانتشار الكبير الذي حققته على مواقع التواصل الاجتماعي.

فرق موسيقية متنوعة

وفي أوروبا أيضاً تشكلت فرقة “مَدّ” السورية، وتتألف من العازفين: فراس شهرستان (قانون) محمد فتيان (ناي)، هشام حمرا (عود)، فراس حسن (إيقاع) ، عبد الهادي ديب (غناء) ، يوناتان سيل (كونترباص). قدمت الفرقة الكثير من الأعمال الموسيقية العربية والسورية، خاصة أغاني التراث والموشحات والقوالب الموسيقية التقليدية كالسماعيات واللونغيات، وقد عرفت العالم بالتراث الموسيقي السوري من خلال الحفلات التي أقامتها في مسارح أوروبية مختلفة.

فرقة “وجد” وتضم مجموعة من الموسيقيين السوريين المقيمين في أوروبا وهم : خالد الحافظ (غناء وإيقاع)، طارق السيد يحيى (عود)، يوسف ناصيف (قانون)، تمام رمضان (ناي)، فواز باقر (كونترباص). تهتم الفرقة بتقديم القطع الموسيقية الآلية الكلاسيكية، إلى جانب فن الموشحات والأعمال السورية التراثية والصوفية، والقدود بشكلها الغزلي والصوفي وغيرها. قدمت الفرقة كثير من الحفلات في مسارح أوروبية مختلفة كفرنسا وبلجيكا.

كما تشكلت أيضاً فرقة “مقام” التي تعنى بتقديم الموسيقى الشرقية والعربية بأسلوب أكاديمي ومعاصر، إلى جانب تقديم القطع التراثية المعاد توزيعها بشكل يُظهر مهارات العازفين، هذا بالإضافة للأعمال الموسيقية الأصيلة التي كُتبت خصيصاً للفرقة.

قدمت الفرقة حفلاتها على كثير من المسارح العالمية من بينها: مسرح البرلمان النمساوي، قاعة موزيك هاوس، ومبنى الأمم المتحدة. وتتألف من العازفين: مياس اليماني، إسلام نور (كمان)، حسن معتز(تشيلو)، حسام حجاج (كونترباص)، جورج أورو (إيقاع).

وفي بريطانيا تشكلت فرقة “London Syrian Ensemble” من قبل مجموعة من الموسيقيين السوريين المقيمين هناك، ومن بينهم، لؤي الحناوي (ناي)، سناء وهبة (قانون)، رحاب عازر (عود)، جمال السقا (إيقاع)، أسامة كيوان وخلود محافظ (غناء)، وغيرهم. وقد قدمت الفرقة نحو عشرين حفلة في أماكن مختلفة في بريطانيا، نقلت من خلالها صوت الموسيقى والأغاني السورية التراثية إلى الجمهور الأوروبي.

ويشكل كل من رحاب عازر وجمال السقا وفجر العبدالله فرقة “تريو زمان ” التي قدمت عدداً من الأعمال الموسيقية الآلية ، العربية والشرقية، في مسارح بريطانية مختلفة.

المغنية السورية همسة منيف أحيت بدورها عدداً من الحفلات في مدينة لندن، حيث تقيم، برفقة عازفين سوريين في أماكن متفرقة، من بينها متحف فيكتوريا وآلبرت، كما شاركت في مهرجان الأمل في مدينة تيمبرج ويلز البريطانية وفي أنشطة وفعاليات موسيقية أخرى.

وفي برلين شكل عازف العود السوري وسيم مقداد ، برفقة ثلاثة عازفين ألمان (كمان، كونترباص، إيقاع)  فرقة Berlin Oriental Quartet” التي مزجت ما بين الموسيقى الشرقية والغربية، كما شارك كعازف مع فرقة   “Berlin Oriental Group” التي تضم عازفين من جنسيات مختلفة وتدمج بين الأنماط والثقافات الموسيقية المختلفة، هذا إلى جانب مشاركته مع الكثير من العازفين الأوروبيين في فعاليات ومهرجانات مختلفة. وخلال إقامته في تركيا عزف وسيم مقداد مع فرقتي “خيال باند” و”صبا بردى” للـموسيقى السورية التركية  قبل انتقاله إلى ألمانيا عام 2016. وقد ضمت الفرقتان عدداً من العازفين السوريين والأتراك، الذين مزجوا بين موسيقى البلدين بطرق توزيع جديدة.

كما تأسست في تركيا مؤسسة “نَفَس للثقافة والفنون”، وتعنى بتقديم الموسيقى السورية والعربية والشرقية إلى جانب تدريسها، وتضم المؤسسة عدداً من الموسيقيين السوريين من بينهم عازف الإيقاع إبراهيم مسلماني، عازف القانون يامن جذبة، وعازف العود عبدالله الأفندي، وغيرهم. ويشكل موسيقيو “نفَس”، إلى جانب كونهم مدرسين، فرقة موسيقية، بقيادة إبراهيم مسلماني، وقد أحيت العديد من الحفلات في مدن تركية مختلفة، قَدمت  من خلالها الكثير من الأعمال التراثية والموشحات والقدود والأعمال الموسيقية الآلية كالسماعيات واللونغيات وغيرها.

كما شكل إبراهيم مسلماني وعازف العود السوري أيمن الجسري -الذي يعمل مدرساً في المعهد العالي للموسيقى في غازي عنتاب – ” ثنائي وجد“، فقدما الكثير من الحفلات في مدن تركيا مختلفة.

وفي لبنان تشكلت فرقة “الصعاليك” على يد مجموعة من الموسيقيين السوريين وهم: منى المرستاني (غناء)، نذير سلامة (غيتار)، سام عبدالله (عود)، عبدالله جطل ومحمد خياطة (إيقاع)، بالإضافة لعازفة الكمان النرويجية إنغر هانيسدال. قدمت الفرقة، بطريقة جديدة، عدداً من الأغاني التراثية القديمة من مختلف الجغرافيا السورية، إلى جانب تقديم بعض الأغاني التي أنتجتها الفرقة، والتي تتحدث عن ظروف الحرب وتحاكي الواقع السوري بطريقة كوميدية ساخرة. وقد أحيت الفرقة عدداً من الحفلات في لبنان، ونشرت معظم أعمالها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فحققت مشاهدات كبيرة، ونالت شهرة واسعة.

موسيقيون سوريون عالميون  

برز صوت كثير من الموسيقيين السوريين المحترفين والمتميزين في بلدان الاغتراب فحققوا شهرة عالمية واسعة، وصُنف بعضهم كفنانين عالميين، من بينهم كنان العظمة، عصام رافع، ديمة أورشو، مسلم رحال، فراس شهرستان، خالد الجرماني وغيرهم.

المؤلف وعازف الكلارينيت الشهير كنان العظمة: يقيم في نيويورك، عزف مع أهم الفرق العالمية كأوركسترا نيويورك وأوركسترا سياتل السيمفونية، وأوركسترا الديوان الشرقي الغربي، وغيرها من الفرق. وهو مؤسس وعازف في كثير من الفرق، من بينها، “فرقة كنان العظمة”، “سيتي باند” في نيورك، “نيو ليكيسيا”، وفرقة “طريق الحرير” التي تضم عشرين عازفاً من دول عديدة ذات ثقافات مختلفة. كما عزف مع أهم الموسيقيين العالميين كعازف التشيلو الشهير yoyo ma ، وقدم أعماله في أهم المسارح العالمية من بينها: أوبرا باستيل في باريس، مكتبة الكونغرس في واشنطن، قاعة ألبيرت الملكية في لندن، تشايكوفسكي غراند هول في موسكو. ألَّف العظمة الكثير من الأعمال لآلة الكلارينيت المنفردة، وأعمال للأوركسترا وموسيقى الحجرة، وموسيقى بعض الأفلام السينمائية، وقد حصل على جائزة ” opus ” الكلاسيكية الألمانية لعام 2019 عن ألبومه “uneven sky”.

المؤلفة ومغنية الأوبرا ديما أورشو: شاركت مع أهم الفرق العالمية كفرقة “طريق الحرير” و “Orchestre Royal de Chambre de Wallonie” وفرقة “آلتا ريبا للموسيقى القديمة”. كما شاركت في تسجيل الكثير من الأعمال الموسيقية العالمية كألبوم “Awakening Beyond”، مع خمسة مغنيات عالميات من بينهم مغنية البوب الشهيرة الأمريكية تينا تيرنر، وألبوم  Sing Me Home”” مع فرقة طريق الحرير، والذي حصل على جائزة ” غرامي” كأفضل ألبوم موسيقى من العالم لعام 2017. كما أصدرت قبل نحو عامين ألبوم “هدوة: تهويدات لأحلك الأوقات” هذا إلى جانب تأليفها للكثير من الأعمال الموسيقية الآلية والغنائية.

المؤلف وعازف العود الشهير عصام رافع: أحيا الكثير من الحفلات في أمريكا حيث يقيم، كما شارك مع عازفين مميزين كعازفة الـpipa العالمية  Gao Honq وعازف البيانو العالمي Steven Hobert. كما شكل مع المغنية ديما أورشو وعازف الإيقاع عمر المصفي، المقيمان في أمريكا،  فرقة “ديو تريو” التي تعنى  بتقديم موسيقى الارتجال وقوالب الموسيقى الشرقية والعربية بالإضافة للمؤلفات الخاصة بالفرقة.

المؤلف وعازف العود خالد الجرماني: حقق شهرة واسعة في أوروبا وكرمه راديو فرنسا. عزف مع موسيقيين أوروبيين عالميين كعازف الكلارينيت كلود ميرنيه  وعازف الغيتار سيرج تيسوغي الذي شكل معه ثنائي حمل اسم “مساحة تقاطع”، وسجل معه أربعة ألبومات موسيقية، من بينها ألبوم “كان يا ما كان” . تعتمد معظم أعماله على فكرة الحوار واللقاء مع موسيقيين من جنسيات مختلفة من خلال فن التأليف والارتجال. أصدر مؤخراً ألبوم “منفى” برفقة أخيه عازف الإيقاع مهند الجرماني، وعازف الكونترباص أوليفييه موريه، وقد أنتج له معهد العالم العربي في باريس معظم ألبوماته.

عازف الناي مسلم رحال: يقيم في برشلونا، وهو موسيقي شهير أضاف الكثير لآلة الناي وابتكر أساليب وطرق جديدة في العزف. شارك مع فرق عالمية هامة كـأوركسترا ميتروبولو أمستردام، أوركسترا الفلهارموني في هامبورغ ، morgenland Chamber Orchestra وOrquesta Ciudad de Almeria، كما شارك في كثير من المهرجانات كمهرجان الموسيقى الروحية في فرنسا، وأحيا عدة حفلات مع أهم الفنانين كعازف الكمان العالمي والمايسترو جوردي سافال، والفنان العربي مارسيل خليفة، بالإضافة لمشاركته مع عددٍ من الفنانين السوريين كالفنان كنان العظمة.

عازف القانون فراس شهرستان: وهو موسيقي أظهر مهارات احترافية كبيرة وأبرز قدرات جديدة للآلة. شارك مع كثير من الفرق العالمية كأوركسترا Gulbenkian البرتغالية، وقدم عروضاً للعزف المنفرد بمصاحبة فرق عديدة، كما شارك موسيقاه مع الكثير من العازفين العالميين كعازف الإيقاع الشهير Andrea Piccioni  وعازفة الـ pipa المميزة Wa man، بالإضافة لعازف الإيقاع مارتن هيلبوم، هذا إلى جانب مشاركته مع كثير من الفرق السورية والعربية في أوروبا.

بالرغم من حجم النجاح العالمي والتمييز الكبير اللذين حققهما الموسيقيون السوريون في بلدان الاغتراب، إلا أن ذلك كله جاء على حساب ما خسرته سورية، التي تحتاج اليوم لوجودهم  لكي تتعافى وتستعيد ثراءها وألقها. فهل سيعودون إليها يوماً ما ؟ أم ستبقى عودتهم مجرد حلمٍ تحلمه  المسارح السورية التي طال اشتياقها لصوت موسيقاهم؟

هجرة الموسيقيين السوريين ١ من ٢

هجرة الموسيقيين السوريين ١ من ٢

*تم نشر الجزء الثاني من هذه المقالة تحت عنوان “هجرة الموسيقيين السوريين ٢ من ٢ مبدعون في بلاد الاغتراب

موسيقيون هاجروا وفرق اختفت وأصوات لجأت إلى الصمت

الحرب التي طال دمارها وأذاها كل أنواع الثقافة والفنون في سورية، طغى صوتها على صوت الموسيقى فهجّر خيرة موسيقيي البلاد الذين كان لهم الفضل الكبير على موسيقاها التي تركوا في تاريخها بصماتٍ ولمساتٍ فريدة وناصعة، لا يمكن محوها، سواء كعازفين أو مؤلفين أو مدرسين، فكان رحيلهم عن البلاد، التي كانت تتنفس وتنبض من خلالهم، خسارة كبيرة وموجعة لا يمكن تعويضها بأي ثمن.

الهجرات المتعاقبة التي سببتها الحرب غيَّبت الكثير من خبرات ومدرسي المعهد العالي للموسيقى، الذين أغنوا الموسيقى الأكاديمية ونهضوا بواقع تدريسها فخرّجوا أفضل الموسيقيين، هذا إلى جانب كونهم أعضاء مؤسسين في أبرز الفرق الموسيقية الوطنية، من بينهم : مغنية الأوبرا العالمية، مدرّسة الغناء الأوبرالي ورئيسة قسم الغناء الشرقي لبانة القنطار. المؤلف الموسيقي، مدرس آلة العود، رئيس قسم الموسيقى الشرقية وقائد الأوركسترا الوطنية للموسيقى العربية عصام رافع. المغني وأستاذ الغناء والكورال ونظريات الموسيقى باسل الصالح .عازف ومدرس آلة العود ونظريات الموسيقى الشرقية أيمن الجسري، وهو مصنع أعواد، عمل على تطوير تلك الصناعة وأضاف إليها الكثير. عازف ومدرس  آلات الإيقاع الشرقي جمال السقا. عازف ومدرس آلة القانون فراس شهرستان. وعازف ومدرس آلة الناي مسلم رحال، هذا بالإضافة للملحن وعازف الكلارينيت الشهير كنان العظمة، الذي عزف مع أهم الفرق العالمية وحصل على العديد من الجوائز، وغيرهم الكثير.

إلى جانب ذلك خسرت الفرق الموسيقية الوطنية، التابعة للمعهد العالي ودار الأوبرا، خيرة أعضائها، المشهود لهم بخبراتهم ومقدراتهم ومهاراتهم الاحترافية العالية، والذين عَمِل معظمهم أيضاً كمدرسين، في المعهد العالي ومعهد صلحي الوادي وغيرهما، وكعازفين مع أبرز الفرق السورية، إلى جانب عمل بعضهم في مجال التأليف والتوزيع الموسيقي، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر  عازفي القانون توفيق ميرخان، يامن جذبة وعازفي العود ماهر محمود، أنس مراد، مالك وهب، مهند نصر، نبيل هيلانة، جمال بشر ورحاب عازر، عازف الناي محمد فتيان، عازفي الإيقاع  فراس حسن، عامر دهبر وبادي رافع وعازف البزق إياد عثمان (توفي في لبنان قبل نحو عامين). هذا إلى جانب عازفي الوتريات: وليد خطبا، جهاد جذبة، أغيد الصغير (كمان). إيهاب أبو فخر، رامي فيصل ورغد حداد (فيولا). باسيليوس عواد وهديل ميرخان (تشيلو). رائد جذبة وفجر العبدالله (كونتر باص). والمغنيون أيهم أبو عمار، بيان رضا، ميرنا قسيس، همسة منيف، طارق الحمد، أسامة كيوان وغيرهم الكثير.

كما غادر سورية فنانون أثبتوا حضورهم في الساحة الفنية وفي ذاكرة السوريين خلال سنوات ما قبل الحرب، من بينهم: مغنية الأوبرا رشا رزق، وهي مُدرِسة سابقة في المعهد العالي للموسيقى، وغنَّت العديد من شارات برامج الأطفال التي علِقَت بأذهان ملايين الناس، وأصدرت ثلاثة ألبومات غنائية ” إطار شمع ، اللعبة، وملاك”. مغنية الأوبرا  ديما أورشو التي شاركت مع كثير من الفرق  وغنت عدداً من شارات المسلسلات السورية كالمسلسل الشهير “بقعة ضوء”. الملحن والمغني باسل داوود، الذي لحن الكثير من الأغاني وعزف مع فرقة السيدة فيروز وله عدد من المؤلفات من بينها ألبوم “شو قال”. المغنية لينا شاماميان التي دخل صوتها لمعظم بيوت السوريين وأصدرت عدداً من الألبومات الغنائية من بينها “هالأسمر اللون، شامات، غزل البنات”. هذا بالإضافة لأسماء كثيرة أخرى.

الهجرة طالت أيضاً أسماء كبيرة شكلت علامة فارقة في مسيرة الموسيقى السورية كالمؤلف والباحث الموسيقي الكبير نوري اسكندر، وهو من سلط الضوء على جماليات الموسيقى السيريانية ومقاماتها، وله عدد كبير من المؤلفات الآلية والغنائية المميزة من بينها: كونشيرتو العود، كونشيرتو التشيلو، تجليات، والموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام السينمائية والمسلسلات.

 فرق موسيقية لم يعد لها وجود في سورية

“حوار، طويس، إطار شمع، بروكار، مرمر، ارتجال، وجوه، حراراة عالية، طنجرة ضغط، أنس أند فريندس، فرقة باسل رجوب، جين، تشيلي باند، شام mcs  لموسيقى الراب، سوزدلار، أبو خليل القباني، مسام، إنسانيتي. زودياك”،  تلك أسماء لبعض الفرق الموسيقية الكثيرة، المختلفة والمتنوعة الأنماط، والتي كانت تصدح في مسارح البلاد خلال سنوات ما قبل الحرب، فأغنت الذائقة السمعية العامة وأضافت الكثير لواقع الموسيقى السورية، ومع رحيل عازفيها عن البلاد غاب أسماء أغلبها عن سورية، ولم يعد لها أي وجود.

فرقة حوار وتتكون من العازفين: كنان العظمة (كلارينيت)، عصام رافع (عود)، ديمة أورشو (غناء)  خالد عمران (كونترباص)، سيمون مريش (درامز)، بادي رافع (إيقاع). قدمت الفرقة أساليب موسيقية متنوعة وجديدة، دمجت بين أنماط مختلفة من الموسيقى الشرقية والكلاسيكية والجاز والأوبرا، وقدمت أعمالاً تعبيرية تعتمد على الحوار بين الآلات الموسيقية والأصوات الغنائية.  وقد حققت الفرقة حضوراً متميزاً في المشهد الموسيقي السوري، فإلى جانب ما قدمته من الحفلات الكثيرة على مختلف المسارح السورية، العربية والعالمية، أطلقت ألبومين بعنوان “حوار” و ” تسعة أيام من العزلة”. وخلال الحرب تفرق شمل عازفيها ولم يتبقى منهم داخل سورية سوى الأستاذ سيمون مريش.

فرقة رباعي طويس، وهي تخت شرقي تقليدي، تضم: عصام رافع (عود)، فراس شهرستان (قانون)، مسلم رحال (ناي)، راغب جبيل (إيقاع)، وهو العازف الوحيد، من بينهم، الذي بقي داخل سورية. عملت الفرقة على البحث في جذور الموسيقى الشرقية والعربية وقدمت الكثير من الأعمال الموسيقية الآلية الفريدة كالسماعيات واللونغيات والرقصات، إلى جانب بعض الأعمال الشرقية الكلاسيكية، كما أطلقت  ألبوماً موسيقياً بعنوان ” إنسان”.

فرقة “ إطار شمع“، تأسست على يد عازف الغيتار، المؤلف والموزع الموسيقي إبراهيم سليماني، ومغنية الأوبرا رشا رزق، وقد عَمِلا على تأليف معظم الأغاني التي قدمتها الفرقة، والتي عبَّرت عن صوت الشباب وأحلامهم ومشكلاتهم. قدمت الفرقة  شكلاً موسيقياً خاصاً يدمج بين أنماط موسيقية مختلفة ويعتمد على الجاز والروك والموسيقى اللاتينية، وأصدرت عدداً من الأعمال الغنائية من بينها ألبوم “بيتنا“. وتضم الفرقة إلى جانب مؤسسيها: طارق صالحية (غيتار) وأنس أبوقوس (غناء)، عمر حرب (غيتار بيس)، ميلاد حنا (درامز)، عمر المصفي (إيقاع) وغيرهم. وقد غاب اسم الفرقة عن سورية مع سفر مؤسسيها وأغلب عازفيها.

فرقة بروكار وتعنى بتقديم الموسيقى الشرقية والعربية، الغنائية والآلية، بأساليب معاصرة وطرق توزيع جديدة، وتتألف من العازفين: عدنان فتح الله (عود)، توفيق ميرخان (قانون)، عامر دهبر (إيقاع)، مضر سلامة (درامز)، فجر العبدالله (غيتار). سافر جميع أعضاء الفرقة باستثناء الأستاذ عدنان فتح الله وهو حاليا عميد المعهد العالي للموسيقى وقائد أوركسترا الموسيقى العربية.

فرق موسيقية قد لا يكتب لها البقاء

فرق موسيقية كثيرة حاولت أن تستمر رغم خساتها لأفضل عازفيها، ولكنها اليوم قد تعجز عن الاستمرار، من بينها فرقة “رباعي العود السوري“. أسسها أستاذ العود والبزق في المعهد العالي محمد عثمان، وشكلت تجربة هامة لآلة العود. وخلال الحرب تبدل عازفوها أكثر من مرة نتيجة الهجرات المتعاقبة، وكانت تضم في آخر تشكيلٍ لها، إلى جانب الأستاذ محمد عثمان، كلاً من نوار زهرة، أنس العودة، فضول سعد. قدمت الفرقة العديد من القطع الموسيقية الآلية التي أبرزت قدرات آلة العود وجمالياتها، وأحيت عدداً من الحفلات في بعض المسارح السورية والعربية، كما حصلت على منحة “اتجاهات- ثقافة مستقلة” وأصدرت ألبوماً موسيقياً بعنوان “ضياع”، ومع بداية العام الحالي سافر اثنان من أعضائها (فضول سعد، أنس العودة).

فرق موسيقية فريدة وأصيلة

الحرب غيَّبت فرقاً موسيقية فريدة ونوعية، تنبض بالأصالة والتاريخ وتحمل في جعبتها إرثاً فنياً نادراً وغنياً، كفرقة “تهليلة” و”شيوخ سلاطين الطرب” و”نوا”. فرقة “تهليلة” وهي بإدارة وإشراف الأستاذ هشام الخطيب، انبثقت عن مؤسسة تهليلة التي تشكلت عام 2000 على يد المنشد السوري العالمي الشيخ الراحل حمزة شكور. الفرقة حافظت على تراثٍ وتاريخٍ فني نادرٍ ومميز يحاكي صوفيي التكايا والزوايا، وقد عمِلت على تقديم الموسيقى الروحية والصوفية والأندلسية، بالإضافة لفن الموشحات والأغاني الصوفية والتراثية، والإنشاد الديني الذي يبرز جماليات التراث الإسلامي، إلى جانب عروض الرقص المولوي (الدراويش) ورقص السماح، وقد قدمت الكثير من العروض في المسارح السورية، ومسارح البلاد العربية والإسلامية وبعض البلدان العالمية، ومثّلَت سورية في الكثير من المهرجانات. وخلال الحرب بدأ أعضاء الفرقة بمغادرة البلاد، وكانت الخسارة الكبرى في أواخر عام 2015، بعد مشاركتها في مهرجان طرابلس الدولي للموسيقى الصوفية والروحية، في لبنان، حيث سافر قسم من أعضائها، عابرين بحر طرابلس نحو تركيا، من بينهم مديرها هشام الخطيب، وقائدها، آنذاك، الموسيقي يامن جذبة.

فرقة “شيوخ سلاطين الطرب“، تأسست عام 2000 في مدينة حلب وضمت خيرة مطربي ومنشدي وعازفي المدينة، وهي امتداد لفرقة “شيوخ الطرب” التي تأسست عام 1956 بإشراف الفنان الكبير صباح فخري ومحمد خيري ومصطفى ماهر. تعنى الفرقة بإحياء التراث العربي ونقله إلى العالمية، وتقدم فن الموشحات والقدود الحلبية والأدوار والقوالب الغنائية المتوارثة في حلب كالمواويل  والفاصل وكل ألوان الغناء الطربي الأصيل. شاركت الفرقة في العديد من المهرجانات السورية والعربية والعالمية، كمهرجان صفاقس والقيروان، وفي عام 2011 أوقفت نشاطاتها الفنية في مدينة حلب بعد تفككها وتفرق شمل أعضائها، ثم عادت لتتشكل بشكل جزئي، في مراحل مختلفة، في لبنان والأردن وبعض الدول العربية، عبر جمع بعض أعضائها الأساسيين لإحياء بعض الحفلات المتفرقة.

 فرقة “نوا” تشكلت في مدينة حلب على يد الموسيقي وعازف الإيقاع إبراهيم مسلماني، الذي سافر عام 2012 مع أعضاء آخرين إلى تركيا. عَمِلت الفرقة على تقديم الموشحات  والقدود الدينية والغزلية، إلى جانب توثيق وتقديم الكثير من فصول الذكر المتوارثة في حلب، وبعض الألحان والفصول القديمة التي نُسيت أو حُرِفت عبر السنين. الفرقة أغنت الموسيقى السورية بإعادة إحيائها لكثير من الأعمال التراثية التي تعود لعهد الاحتلال العثماني وما بعده، كما نفضت الغبار عن أعمال نادرة وقيِّمة كانت مهددة بالاندثار، فأعادت تجميعها، بعد الإستعانة بكثير من الوثائق، ومن ثم تسجيلها مع الحفاظ على روحها وأصالتها. وقد شاركت الفرقة في كثير من المهرجانات الصوفية والروحية، في بعض المسارح العربية والعالمية، وأصدرت ألبوماً بعنوان “ابتهالات صوفية قديمة وأغاني منسية من حلب”، كان بمثابة كنز نفيس أضاف الكثير لمكتبة الموسيقى العربية.

الفراغ الكبير الذي خلَّفه رحيل الموسيقيين السوريين لا يمكن ملؤه في المستقبل القريب، وقد تحتاج البلاد لسنوات طويلة لتعوِّض ما خسرته برحيلهم الذي سرق معه الكثير من جماليات الموسيقى السورية وإرثها وروحها وغناها وتنوعها، وسيترك آثاره السلبية على هويتها المستقبلية.