حين لا يأتي أحدٌ ليضع حداً للمجزرة: قصائد للشاعر الأمريكي كوس كوستماير

حين لا يأتي أحدٌ ليضع حداً للمجزرة: قصائد للشاعر الأمريكي كوس كوستماير

ترجمة عن الإنكليزية: أسامة إسبر

كوس كوستماير شاعرٌ ومسرحيٌّ وروائيٌّ أميركي بدأ حياته الأدبية كاتباً مسرحياً وكاتب سيناريو. صدرت له عدة مسرحيات وثلاث مجموعات شعرية وتُرجمت له رواية إلى العربية بعنوان ”فارغو بيرنز“  صدرت عن دار خطوط وظلال في الأردن في ٢٠٢١. عُرضت مسرحياته في أميركا وفي بلدان غربية أخرى وحصل على العديد من الجوائز بما فيها جائزة دائرة نقاد المسرح في لوس أنجلوس لأفضل مسرحية وجائزة جمعية نقاد المسرح الأميركية.

من أعماله المسرحية ”حول النقود“،  ”تاريخ الخوف“، “المستنقع الغربي الكبير“، و”حلم الحرية المطلقة“، وصدر له في الشعر الدواوين التالية: ”سرير الزواج“، ”العام الذي اختفى فيه المستقبل“، ” بلا عنوان“، أما في الرواية فله ”دين مفقود“، ”سياسة اللامكان“، و“جادة الأيام الحزينة“.

القصائد التالية هي قصائد جديدة كتبها الشاعر عن حرب غزة، وخصَّ بها ”صالون سوريا“.

١- عناد

الرجلُ يستعملُ يديه بدل المطرقة

يركع وحيداً بين الأنقاض

يضربُ الفولاذ

يُدْمي الحجر

يصرخُ منادياً أسماءهم بأعلى صوته

 يصلّي كي ينطق من تبقى

غير أنه لا يخرج أحد.

الرجلُ الذي يستخدم يديه بدل المطرقة

ينبش الأرض بأظافره

يتضرّعُ إلى الموتى

يتوسّل إليهم أن يرجعوا.

حين تكتفي الريح من الإصغاء

تُعْول وتهبّ مبتعدةً

حينها، حتى المطر

يشعر بالعار من بقائه.

٢- الحرب على الأطفال

“هذه حرب على الأطفال”.

جيمس إلدر الناطق باسم الأمم المتحدة متحدثاً من جناح في مستشفى في غزة.

تتقدّم الجيوشُ

فوق الحليب الأسود والدم المسفوح.

يبكي أطفالٌ رضّعٌ

تحت الأنقاض ويفرُّ الناس.

تُعرّى أمهاتٌ

وتُقْحم أصابعُ في أعضائهن.

يُلفُّ آباء بالرايات ويُضْرَبون.

يُجْبرُ أطباء على السير على الماء

يُقتل أطفالٌ في حاضناتهم

يُقتل أشقاءٌ وشقيقات

وتتعفّن جثثهم في ضوء الشمس

حين لا يأتي أحدٌ كي يضع حدّاً للمجزرة.

تتدفق الأسلحةُ من الولايات المتحدة.

سياستنا موادّ لصناعة الأسلحة.

شهدْنا نهاية الأيام

وما من طريقةٍ كي نبعث المستقبل.

الأنهار تتدفّقُ داكنةً وحمراء من الدم

وما من مكانٍ نهرب إليه،

 أو نختبئ فيه

ما من طريقةٍ لإصلاح الريح المتكسرة

أو لإعادة الأطفال

كي نغنّي وندغدغ بشرتهم الناعمة التي كالعسل

حين لا يأتي أحد ليضع حداً للمجزرة.

نرى أجساد الأطفال

تُرْفَع محطّمةً من تحت الأنقاض.

نسمعُ أشخاصاً يتسوّلون شربة الماء

يصلّون للسلام،

لكن لا أحد يأتي كي يخفّف أحزانهم

ويحوّل أمنياتهم إلى خبزٍ

أو يروي ظمأهم الحارق

لإنقاذ أطفالهم من الدفن

لا أحد يتمرد

 ضد العرض المقيت لأكاذيب قديمة

تتقدّم عبر أخبارنا اليومية

وتزحفُ على شاشاتنا في الليل

كي تحتفي بدولارات جُمعت

وأذى أُلحق بالآخرين

حين لا يأتي أحدٌ ويضع حداً للمجزرة.

٣- درس لشرح المفردات

(إلى نعومي شهاب ناي)

نتعلّمُ اللغة في مركز العالم المحترق.

(السياسة، جريمة، صديق، عذاب، شظايا، دولة)

كلّ كلمة لطخةٌ لا نستطيع إزالتها

(بطل، قناص، شهيد، طاغية، سلطة، مصير)

هناك كلمات مجنونة، وأخرى مُهلكة وغادرة

وهناك كلمات كثيرة كاذبة.

(غريب، صاروخ، وطني، خصم، الآخر، نار)

إن نَحْو المأساة عظيمٌ، وإذا ما أصغيتَ

ستسمعه يتكسّر على الجدران

ويعاود ترتيب الجثث في جميع الأمكنة.

دَرْسُنا اليوم هو كلمة ”دبابة“.

 هل تعرفونها؟

Tank: الكلمة ذات المقطع الأحادي الثقيل

تمتلك شهية أسطورية

للموت وتقتلُ كل شيء

يقع في مدى بصرها.

تستهدف الجنود والأطفال والنساء والمعلمين

والطلاب والمزارعين، والأطفال

والناس بشتى أصنافهم.

هذا الاسم الذي لا يعرف الصفح

يتكاثر في جميع الأمكنة

ويفضّل أن يعمل في الشوارع

ليتمكن من استخدام خطمه القاتل والإجهاز على فريسته

دون أن يضطر لالتهام ما تبقى.

وكل ما يتبقى هو الشيء نفسه دوماً:

مرادف للأسى

وكلمة أخرى للكراهية.

٤- فن الحرب

حين جاءت الطائرات

كان قايين يستلقي في فراشه في البنسيون

 شبه نائمٍ ولم يحلق ذقنه بعد.

أنتم تعرفون المشهد،

أعرف أنكم تعرفونه،

ومطّلعون على خلفية الفيلم:

الغرفة القذرة بالأسود والأبيض

حيث كلّ الأغطية رطبة من الخبز المتعرّق

التلفاز مُدار، والسيجارة مُشعلة.

وحين بدأت القنابلُ بالسقوط

كان يقف عند النافذة

في الوهج الأحمر للصواريخ

والسماء مذهلة وملتهبة.

تعرفون الأغنية،

 أعرف أنكم تعرفونها:

الأطفال يموتون، هذه الجعجعة الفارغة.

النار تلتهم حقول القمح

الظلال تتقيّح في الشوارع.

لكن هذا هو قابيل، أتفهمون؟

الرجل نفسه الذي يحدّق بالأطفال وهم يحترقون،

ويركضون في عاصفة معدنية

صُنعت بلغةٍ

لم يتعلموها أبداً في المدرسة.

يتذكر فجأة

كيف سقط أخوه الأصغر هابيل تحت الضربات

قرب مذبحٍ دمويٍّ في يوم الأضاحي الكريه ذاك.

السماء فارغةٌ وصامتة الآن

آه، لكنّ جميع الأمهات يعرفْن

أن الموت قادم غداً إلى البلدة.

يقفْن خلف نوافذهن ويحدّقْن في الخارج

إلى الأشلاء وشظايا العظام، والبراز الدموي.

تعرفون المشهد:

 الرئيس، ثم بالطبع فواصل إعلانية

وفجأة ابن الإنسان

بوجهه المنهك منعكساً على لوح زجاج النافذة

يصيح بصوت مرتفع: ما الذي فعلتُه؟

ما الذي فعلته؟ 

ثم يكرر الصياح: ما الذي فعلته؟

٥- النظام العالمي الجديد

يتجلى جمال الأمم حين تكون النكهات كلّها محليةً،

 وتصبح الحياة لذيذة في جميع الأمكنة

إذا تُبّلت بطريقة ملائمة.

في اليونان، مثلاً، يمكن أن تشرب الريتسينا، وتتذوّق على شفتيك

أحجار التاريخ المرّة. يتصلّبُ لسانك كالفولاذ داخل فمك

وتشعر بأنك قادر على ممارسة الحب مع زوجتك

طوال الليل حتى الصباح.

أحجارُ اليونان نظيفةٌ وبيضاء،

لكن النبيذ الأحمر الداكن لبوجليا يجب ألا يُزدرى أبداً. فهو يمنح

فمك طَعْم الطمي

والشذى الأسود للتوت المسحوق.

لكلّ منزل سرّهُ،

 ولكلِّ أمةٍ متعتها:

الجوز الأرضي من السنغال

نبيذُ النخيل من غامبيا.

خيوط المعكرونة الفضية النحيلة والساكي الحارق من اليابان،

الشنكليش والمكدوس من قلب سوريا الجريح،

 أطباق المازة التي تُدْعى التاباس من أسبانيا

وخبز التشاباتي من إسلام آباد.

يجب أن تُزال الحدود اليوم،

على الفور،

وتحلّ محلّها قوائمُ طعامٍ بأطباقٍ محلية.

وفي هذا النظام العالمي الجديد

سنمدّ مائدةً مشتركة تحت قبة السماء

ونتحلّقُ حولها كأصدقاء وجيران

ونعدّ وليمةً عظيمة.

نحتفي بالصداقة أولاً،

نحكي قصصاً مدهشة بكل اللغات

عن أعاجيب عادية رأيناها.

نتقاسم كلّ ما أحضرناه،

 ونعتني بالجميع

مبتدئين بكبار السن ثم بالصغار.   

حينها كم ستبدو الحياة ثمينة لنا!

 كم ستبدو رائعة وعذبة!

وبعد العشاء نتذوّق أباريق متخمّرة

من شاي النعناع القوي،

ثم نجتمع معاً تحت النجوم

ونهدهد أطفالنا إلى أن يناموا. 

 شهوَةُ القِصَاصِ من ليبيدو حزينٍ

 شهوَةُ القِصَاصِ من ليبيدو حزينٍ

يعودُ الوحشُ إلى ما يظُنُّ أنَّها ذاتُهُ،

فتَزِيغُ بينَ يديْهِ الدَّلالاتُ،

وتَسِيلُ عطراً مُلتبِساً بالنَّارِ.

يُلقِي التُّهَمَ على خِداعِ الطَّريقِ المُنمَّقِ الأنيقِ

على تَمويهِ العابِرَينَ في باطِنِ ساعاتٍ ذهبيَّةٍ

وعلى وُعودِ التَّلويحاتِ البعيدَةِ الغامِضَةِ.

يعودُ، كي يَستأنِفَ الأسئلَةَ

فتُحاصِرُهُ ظلالُهُ المُبعثرَةُ

بأجوبَةٍ قد تُرْجَأُ

إذا صدقَتِ المَرايا معَ نُسْغِ الأشجارِ، لا معَ أغصانِها..

(وهذا ما لا يحدُثُ إلّا بتبادُلِ الحقيقَةِ والمَجازِ للخِياناتِ باستمرارٍ).

طريقُ الوحشِ مَرشوشَةٌ بماءِ زهرِ اللِّيبيدو الحزينِ.

ما أرادَهُ اللِّيبيدو منذُ نُعومَةِ الأُغنياتِ

هوَ تعريةُ الوحشِ تحتَ مِقصلَةِ الحُرِّيَّةِ

لا ترويضَ الخُطَى بوُصولٍ مُستحيلٍ.

/  كأنْ تُنظِّفَ المَسَامَ المقلوبَةَ

خَناجِرَ في نقْيِ العِظَامِ

منَ التَّلوُّثِ السَّمعيِّ والبصَريِّ

على امتدادِ أرصفَةٍ ثكلى على الجانبيْن

لكنَّ للعالَمِ مَداخِلُهُ التي لا يعرِفُها هوَ نفسُهُ  /

بينَ الولادَةِ والموتِ

اللِّيبيدو ليسَ سُلَّمَاً للعُلُوِّ

ولا مُنطاداً للتَّرفيهِ

ولا حتَّى ذرَّاتِ هواءٍ مائلٍ.

ثمَّةَ قفلٌ بلا مفاتيحَ في حمَّالَةِ أثداءِ مُشعوِذَةٍ

يُقالُ إنَّها تُقيمُ معَ الأفاعي الصَّريحَةِ جدَّاً

في وادٍ مَجهولٍ..!!

الغابَةُ، كذلكَ، لها اقتراحاتُها

لفصْلِ الوحشِ عن وهمِ اللِّيبيدو الأثيرِ

لمَحْوِ رغبَةِ الأنا

بأنْ تُرفرِفَ ذاتاً

تحتَ غُيومٍ شاعِرَةٍ

أو فوقَ بحرٍ هرَبَ خارِجَ حُفرَتِهِ.

: الغابَةُ غيرُ المَوجودَةِ أصلاً…….

أقصَى ما يحلُمُ بهِ الوحشُ

أنْ يقتُلَ اللِّيبيدو

ويُذوِّبَ جثَّةَ الفراغِ بالأسيدِ

ثُمَّ أنْ يقذِفَهُ الطَّريقُ رُجوعاً

إلى أوَّلِهِ/ آخِرِهِ.

سلاماً أيُّها الرَّحَّالَةُ

في هَوادِجَ من سَرابٍ.

*تنشر بالتعاون مع جدلية.

حرب الصور في دمشق… هل تموت العصافير؟

حرب الصور في دمشق… هل تموت العصافير؟

هل يمكن اختزال الحرب بصورة واحدة؟ تزدحم الحرب على رقع الشطرنج المعلقة على جدران صالة المعارض. تسلسل يبدو منطقيا من حيث العدد. عصفور واحد ميت على رقعة من الشطرنج، يتزايد عدد العصافير الميتة على الرقع المتتالية.
رقعة أخرى لكنها تزدحم بصور أخرى، صور لأحذية ميتة، هل تموت الأحذية؟ هل يموت الرصاص؟ هل تموت علب السجائر الورقية بعد نفاذ السجائر منها؟
يزدحم الموت، لا شيء سواه. هدأت المعارك في الخارج، والرصاص غادر السماء واستقر في الصور. الموتى تناسوا رائحة المكان واستنشقوا رائحة التراب الجديد، تراب أم رمل يتحرك تحت الأجساد فترتعش، وتصرخ من أحشاء الصور.
صارت الأحذية إشارات استفهام. من هم أصحابها؟ أين هم؟ هل ماتوا؟ متى وكيف ماتوا؟ والسؤال غير القابل للإجابة، لماذا ماتوا؟
في صالة جورج كامل في دمشق، تم افتتاح معرض الفنان التشكيلي نصوح زغلولة الفنان الدمشقي الحائز على شهادة دبلوم الدولة من “المدرسة الوطنية العليا للزخرفة”، قسم الاتصالات الضوئية من جامعة باريس، لكن الفنان زغلولة يعرف عن نفسه بصورة مختلفة وغاية في بساطتها: أنا هاو شبه محترف، مهووس بالتصوير لأحقق متعتي الخاصة ويصمت مستنكفا عن إعلان موقفه من بلاغة الصورة الفوتوغرافية ومهمتها وأهميتها.

سطح منزل
على سطح بيته في حي الدويلعة الشعبي، يمارس الفنان زغلولة هوسه بتربية العصافير. الحي الواقع بين آخر حدود مدينة دمشق وبداية غوطتها التي تحولت إلى كتل اسمنية. وما بين باب توما مرورا بالباب الشرقي لدمشق، بيوت كونت أحياء يسكنها ما يزيد عن مليون نسمة، كان اسمها ومازال على دفاتر المساحة العقارية: بساتين الشاغور.
وصل عدد العصافير على سطح الفنان زغلول إلى ثلاثمائة عصفور. لم يتبقَ منها ولا عصفور! لم يبعهم ولم يقدمهم هدية لأحد! ماتت العصافير كلها.
طالما اقتنص الفنان زغلولة صورا فاقعة في بؤسها وخصوصيتها من على ذات السطح الذي تحول مع الأيام إلى صالة عرض أولية، إلى مصدر لغالبية الصور الفريدة والموجعة في آن معا. أطفال يحولون سطح خزان المياه المعدني لسبورة يكتبون عليها المعادلات الرياضية. بنات يلعبن بـ “المطاطة” الموصولة ما بين خزانين مربوطة بالوصلات المعدنية لأنابيب المياه.
صور التلصص على الشارع وبيوت الجيران لأنها الفرجة الوحيدة في زحمة الإسمنت المبني عشوائيا وبطريقة منفرة. تتداخل الأسطح ببعضها. تتنافر الصور لشدة صعوبة الحصول على صورة منفصلة لجزء محدد، على حروف اسطح البيوت وسطوح الخزانات. تحتشد أواني مربى المشمش ومعجون البندورة، وكأنها خط الأمان للأسر التي اعتادت المونة خوفا من القلة والجوع. تصير المونة جزءا أليفا من الأسرة، وتقضي النسوة معظم أوقاتهن في تحريك المحتويات، في التعرف إلى الضيوف الجد في خزائن مطابخ مازالت تعاني شح المياه وانقطاع الكهرباء وازدحام المخزونات من عبوات بلاستيكية بدافع الحاجة الماسة.

صفعة الموت
في معرض الفنان زغلولة، ألف ومائة واثنان وخمسون صورة. لا يفاجئك العدد رغم الحجم المصغر للصور، لكن الموت، يصفعك منذ أولى الصور. صور العصافير الموتى غير مكررة. ثلاثمائة عصفور ماتوا من شدة الخوف بعد القصف. ماتوا بتوقف قلب من شدة الضغط الذي تولده القذائف، في حي اعتاد أهله سقوطها يوميا وبأعداد كبيرة وبضحايا أكثر عددا. وبعد هذا الموت، الحربي، في زمن أعلنوا فيه أن زمن الرصاص قد توقف، جاء موت آخر ليكمل مسيرة الموت، مرض غامض قضى على كل ما تبقى من العصافير.
وفي رده على سؤال كيف جمع هذه العصافير في حالاتها المتعددة، صورة لعصفور كامل، صورة لريشة طائر، صورة لرأس عصفور، لساق وحيدة؟ يقول: “كنت اجمع جثامين العصافير بعد موتها، حسب حالتها الراهنة على سطح بيته أو في أقفاصها”. يضيف: “أنا لا أتدخل، لكني قمت بحفظهم في علب كرتونية لمدة ثلاثة سنين”.
يطرح سؤال العاطفة نفسه هنا، يكرر والأسى الذي يحاول إخفاؤه ينتقل إلينا، “نعم: لقد تحولوا إلى مجرد هياكل عظمية”. وماذا عن قلبك؟ كيف حاله وأنت تجمع طيورك موتى؟ يجيب الفنان: “الموت حالة عامة، المهم كشف الصورة الحقيقية للحرب”.
الموت مؤلم، والفن عمل شاق في زحمة الموت، والفنان يقرر تحضير معرض عن الموت؟ أي قسوة؟ وأية مشاعر تعرش على قلبك وانت تواصل التعرف إلى الموت الذي لا يموت، يتشخص حيا أمامك.

رقعة شطرنج
على قاعدة رقعة الشطرنج، رمل يغطي المربعات. رمل ينتمي للبحر الذي ابتلع آلاف السوريين، بحر كان ومازال أحد الجناة المشاركين في مقتلة السوريين. ابتلع بعضهم ولفظهم نحو الرمال، وهنا أيضا وعلى جدران المعرض عصافير ميتة على رمل بحري نهم ومتوحش، يبتلع العصافير وأحذية الأطفال وأجسادهم، وعلب السجائر التي تكاد أن تكون الأنفاس الحرة الوحيدة التي ينفخها السوريون باختيارهم، علب مرمية وملوثة بالدم، مسحوقة، مجعلكة، تبقّى في أحدها سيجارة لسوري لم يسعفه وقته لينجو ويدخنها، تخيلوا عقب سيجارة ملتصق بإصبع رجل مات وهو يدخن!
يقول: “بدأت بجمع أحذية الأطفال من سوق الحرامية، اشتريت أو ل دفعة بمائتي ليرة للحذاء الواحد، بعدها رفع الباعة سعر الأحذية، باتت سلعة رائجة، أحذية لأطفال مجهولين، هل ماتوا؟ هل هاجروا؟ هل سرق أحد أحذيتهم؟ كل الإجابات غير مهمة، لأن كل الخطوات تشد سيرها على أرضية من رمل وسماء ملوثة بالدم. ولتأكيد الموت نثر الفنان لون الدم على لوحاته بطريقة غرافيكية اختصاصية”.
أحضر الفنان رملا بحريا حقيقيا ليستكمل تصميم صوره، واستخدم ورق القطن النقي والموصوف بالنبيل. مصدر الورق من اليابان، يبقى مكتملا ومحافظا على قوامه ولونه وجماله لمئة عام, الطباعة مكلفة جدا لأنها ذات مستوى حرفي وفني عال ومكتمل، الإطارات صنعها الفنان بنفسه ودهنها بتقنية عالية، يقول: “أنا أحب النجارة، ويعتبر أن إنجاز العمل المتكامل يخلق متعة خاصة ويمنح شعورا بالرضا”.

قساوة الصور
عبر غالبية زوار المعرض عن قساوة الصور. بعضهم زار المعرض أكثر من مرة، وأحد الفنانين الكبار عانق الفنان صاحب المعرض وبكى بشدة. موضوع الصور قاس وعنيف، وتصميمها أنيق وملفت وجميل. “كيف يترافق كل هذا الجمال بكل هذا الموت؟”، إنه ليس سؤالا. الجواب: “هل ثمة مانع فني من تقديم صور الموت بفنية عالية؟ إنه سؤال جدلي مشبع بالرهبة ومدعوم بالإحساس والتقنية”.
توقفت إحدى الزائرات أما صورة عصفور بدا وكأنه عصفورة فتية ترتدي ريشها كفستان أصفر زاه ومنعش. بدا الفستان قصيرا ووجهة قدمي العصفورة تبدوان وكأنهما تتجهان لموعد حب. برزت الصورة الموجعة في قلب الزائرة. العصفورة تشبه الموتى من الشباب والشابات حين نلبسهم بدلات الزفاف في توابيتهم. سألت الفنان عن توافقه مع رؤيتها، ارتعش وقال: “لم أفكر بذلك، لكن ما يحضر على الصورة الآن هو الحالة الفعلية والجسدية للعصفور الميت”. هنا المشكلة إذن، من يعيش الموت كتجربة يومية ومجانية يشغل خياله في تجميل الراحلين ليقول “كم أن الموت غاشم ومتوحش”. يبالغ في تضخيم عبثية الموت، وكأنما يعاتبه قائلا: “ألم تجد غير حياة العرسان لتقصفها أيها الموت الوغد”.

رضا بعد تردد
عبر الفنان زغلولة عن رضاه عن المعرض مع أنه كان مترددا في البدلية, يرى أن التصوير ليس مجرد لوحة، بل تكوين، ويضيف: “بأننا نعيش في العصر الرقمي والتقنيات هي المستقبل، لذلك من الطبيعي استخدام أحدث التقنيات وبنفس الوقت التركيز على تفاعل المتلقي والمتابع، وانتزاع إعجاب أو دمعة، أو شهقة”.
يسعى زغلولة لتشكيل موسوعة فوتوغرافية تؤسس لبصيرة فوتوغرافية حسب قوله، ويعتبر أن كل معرض هو “مسؤولية كبيرة وعمل شاق وصعب”، ويختم قائلا: “لا مزح مع العين، بمعنى أننا لا نستطيع خداع العيون أو الاستخفاف بها”.
في مواجهتنا المباشرة مع صور الموت، تدور حرب جديدة، طازجة وحية، تحترب الصور وينفعل المتفرج. يخاف من علامة طلقة على جسد، يبتعد وكأنما الطلقة موجهة نحوه. تشتعل حرب الصور، رغم أنها ثابتة في أمكنتها على الجدران. يهتز الرمل وينحسر البحر وتشخر قذيفة، تفوح رائحة نسيس سيجارة أطفئت لتوها ورغما عنها، يتعثر طفل مصاب أو تائه بحذاء مشترى من سوق الحرامية لضيق ذات اليد، لكننا نعجز عن وصف صورة مليئة بالموت بالجميلة، الحرب حاضرة وحرب الصور لغتنا البليغة.

دمشق
18 تشرين الثاني 2021

رحيل صباح فخري… غنى دون استراحة

رحيل صباح فخري… غنى دون استراحة

رحل امس “عمود الطرب العربي الاصيل”، صباح فخري، عمر ناهز 88 سنة، امضاها في الغناء والابداع الاسطوري… الى حد انه ذات مرة غنى في شكل متواصل لعشر ساعات.
ولد صباح الدين أبو قوس، وهم الاسم الحقيقي لصباح فخري، في العام 1933 في حلب القديمة حيث كان محاطا بشيوخ الطرب والمنشدين وقارئي القرآن وصانعي مجد القدود الحلبية، حيث اعتاد والده اصطحابه صغيرا إلى جامع الأطروش في الحارة القريبة حيث تقام حلقات الذكر والانشاد.
وفي باب النيرب كانت له أول حلقة إنشاد، وهو لم يتجاوز الثامنة من عمره، وغنى أولى القصائد أمام الملأ والتي تقول: “مقلتي قد نلت كل الأرب، هذه أنوار طه العربي، هذه الأنوار ظهرت، وبدت من خلف تلك الحُجب”. وكان تمكن من ختم القرآن وتلاوة سوره في جوامع حلب وحلقات النقشبندية مفتتحا أول تمارينه مع الشيخ بكري الكردي أحد أبرز مشايخ الموسيقى. وازداد تعلقه بالإنشاد والتجويد من خلال مجالسته كبار منشدي الطرب الأصيل واجتاز امتحانات غنائية صعبة على أيدي “السمّيعة” الذين يتمتعون بآذان لا تخطئ النغم وتكشف خامات الصوت وتجري اختبارات حتى لكبار الأصوات آنذاك مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم اللذين زارا حلب للغناء على مسارحها في ثلاثينيات القرن الماضي.
التحق بالمدرسة الحكومية الحمدانية في حلب وهناك برز تفوقه كتلميذ يشارك في المهرجانات السنوية للمدرسة. ويروي كتاب “صباح فخري سيرة وتراث” للكاتبة السورية شدا نصار أبرز مراحل حياة فخري على مدى عقود حيث تقول إن الفنان سامي الشوا تعهده بالرعاية وغير اسم الفنان الناشئ إلى “محمد صباح” واصطحبه معه في جولات غنائية بالمحافظات. ولم يكد محمد صباح يبلغ الثانية عشرة من عمره حتى وجد نفسه يغني في حضرة رئيس الجمهورية السورية آنذاك شكري القوتلي خلال زيارته إلى حلب عام 1946 ما اعُتبر محطة مصيرية قفزت بفتى الموشحات إلى خارج حدود حلب، حسب تقرير لوكالة الصحافة الالمانية، كتبته ليلى بسام.
بمساعدة موسيقية من الفنان عمر البطش، وضع صباح فخري أولى تجاربه في التلحين عن عمر لم يتجاوز 14 عاما وكانت أنشودة: “يا رايحين لبيت الله / مع السلامة وألف سلام / مبروك عليك يا عبدالله / يا قاصد كعبة الإسلام).
انتقال حنجرة فخري من الصبا إلى الشباب تسبب في حشرجة فاجأت صاحبها وصعقت خبراء الغناء، إذ يقول الكتاب إن هرمونات الرجولة غيرت من طبيعة صوته وتكوين حنجرته الذي بدا كالمبحوح. وتقول نصار: “لعبت الحالة النفسية لصباح دورها السلبي. كلما حاول أن يرفع عقيرته للغناء كان يفاجأ بشخص آخر يغني من حنجرته. إنه ليس صوتي.. لست أنا ما الذي حصل؟ كلها تساؤلات كان يضج بها رأس الشاب الذي بدأ يشعر بفقدان أغلى ما وهبه إياه الخالق”.
وفي سن الخامسة عشرة أطبق صباح فخري على صوته واعتزل الغناء مكرها فراح يبحث عن لقمة عيشه في الترحال بين قرى ريف حلب إلى أن التحق بخدمة العلم عندما أصبح شابا يافعا. ومع “اكتمال رجولته تبلورت حنجرته واكتمل تكوينها لتعيد للكنز الدفين تألقه وعاد صوت صباح فخري الرجل يشق لنفسه مكانا بين ذكريات سنين المراهقة في أحياء حلب وبيوتها”.
جاء الى دمشق للانتقال الى القاهرة سعيا لصقل موهبته. لكن السياسي المخضرم فخري البارودي غير حياته، حيث اعجب بصوته. دخل القصر الجمهوري فتىً يافعاً وفقيراً في أربعينيات القرن الماضي، يحمل تحت ابطه سجادة صلاة، بطلب من زعيم دمشق وراعي فنونها الراحل فخري البارودي، الذي تبناه فنياً وأعطاه اسمه “فخري” بدلاً من اسمه الحقيقي “صباح الدين أبو قوس”، حسب مؤرخين سوريين.
أطرب الرئيس شكري القوتلي يومها، وتكرر ظهوره في عرس احدى بناته، ثم عندما أذن أمام الرئيس القوتلي ونظيره المصري جمال عبد الناصر في حلب، خلال زيارة الزعيمين إلى جامع جمال عبد الناصر في حي الكلاسة. لم يترك عاصمة عربية إلا ومر بها منذ ذلك التاريخ، تاركاً بصمات ما زالت واضحة في مخيلة كل من حضر حفلاته.
ذات يوم، سال موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب عن “الأراصية” التي طالما غنى عنها صباح فخري، وعند زيارته دمشق، طلب أن يستمع اليه شخصياً بعد أن قدم له الأراصية. ثم بدأ بالغناء، فوقف عبد الوهاب حينها وطلب من الحاضرين الوقوف قائلاً: “احتراماً لهذا الصوت الرخيم، عليكم جميعاً أن تقفوا معي!” كانت أم كلثوم تطلب من أصدقائها كلما زاروا سوريا: “والنبي، عاوزة كاسيت لصباح فخري.”
عاش فخري أضواء الشهرة من بوابة إذاعة حلب وسهرات إذاعة دمشق مع المطربة اللبنانية صباح. كما غنى صباح فخري “نغم الأمس” مع رفيق سبيعي وصباح الجزائري حيث سجل ما يقرب من 160 لحنا ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشح وموال وقد حافظ على التراث الموسيقي العربي الذي تتفرد وتشتهر به حلب. كما تلى أسماء الله الحسنى مع الفنان السوري عبد الرحمن آل رشي والفنانة منى واصف والفنان وزيناتي قدسية.
وقف في عام 1974 أمام الفنانة وردة الجزائرية بطلا لمسلسل “الوادي الكبير” الذي تم تصويره في لبنان.
تقلد وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة عام 2007 “تقديراً لفنه وجهده في الحفاظ على الفن العربي الأصيل ولرفعه راية استمرارية التراث الفني العربي الأصيل” كما جاء في منشور التكريم. وشغل مناصب عدة بينها نقيب الفنانين في سوريا لأكثر من دورة ثم نائب رئيس اتحاد الفنانين العرب كما انتخب عضوا في مجلس الشعب السوري في دورته التشريعية السابعة لعام 1998.
رحل المطرب، الذي سجل رقما قياسيا من خلال غنائه على المسرح مدة تتجاوز عشر ساعات متواصلة دون استراحة في مدينة كراكاس الفنزولية عام 1968.

أسامة إسبر: ثلاث قصائد

أسامة إسبر: ثلاث قصائد

مدينة بيضاء

 

١

هديرُ محرّكٍ يغتصبُ الصمتَ عند بزوغ الفجر.

تصفّ سيارةٌ في مرآب البناية

ثم تُطفئ محركها فتنطفئُ معه بقايا الليل.

 

٢

أصواتٌ حادةٌ للنوارس

تخرجُ من حنجرة الصباح

وتقطّع الصمتَ إلى شرائح

لا تستطيعُ الآذانُ مَضْغها

وليس لها مترجمون.

 

٣

أسمعُ في الأنباء عن آخرين

 يرتجفون من البرد في الخيام.

صاروا آخرين لأنني لستُ ذاتاً

بل مجرّد صوت هارب من صداه

أو ضيّعتْهُ الحنجرة.

 

٤

يخرج ظلي أحياناً من المجهول ويواكبني

يسير معي كأنه صديقي الوحيد.

حين يأتي مرة ثانية

سأتشبث به وأمنعه من الرحيل

سأدعوه إلى كأس

وأجعله نديمي.

 

٥

نعم، أحاول أن أُنْزلَ الدلو في البئر

رغم أن قاعها بعيد

وظمأي لا صبر له.

لكنني سأنتظر رشفةَ الماء المنقذة

لمجيئكِ في الصباح كي تفتحي النافذة

وتحرّري الضوء

وتمنحيه أفقاً.

 

٦

لا تقدموا لي النصائح حول

 ما الذي يجب فعله.

ستُمْلي الحياة عليّ كما أمْلتْ عليكم

ستمنحني حكمةً كي أرددها

لكنني لن أدوّنها ولن أنصح أحداً بتطبيقها.

 

٧

نعيش في عصر الأوبئة

في عصر الوجوه المكممة

والإنسانية المكممة

والصداقات المكممة

والقصائد والروايات المكممة

والأفكار المكممة

حتى الأشياء مذعورة

وقد يأتي يومٌ

تصير فيه الكمامة وجهاً.

 

٨

أحياناً يبثّ آخرون رسائل تعبّرُ عنهم

يتركون إشارات وعلامات

أننا لم نمرّ هنا

أو أننا مررنا ولم نر شيئاً

أو أننا على الطريق نسير لوحدنا

والمدينة القادمة ستفتح لنا أبوابها

ولن تحتفي إلا بنا.

على هذا الطريق الذي

يسير عليه الجميع

كلٌّ بقدميه أو بقدميْ غيره

أفضّل أن أتابع سيري

وأن أعتبر المسألة

 كنزهة على الشاطئ لتأمّل الغروب.

 

٩

أحتاجُ إلى مسافة مع نفسي

كما مع الآخرين،

كي أتحرّر من إملاءاتها.

ولو تيسّر لي لهربتُ منها

لكنها تتنبه إلى ذلك

وتُحْكمُ مصاريع الأنا.

 

١٠

أحياناً تأتي صورٌ إلى ذهني

من طفولتي في قريتي

للدروب حين تتحوّل إلى جداول

وللحقول حين تكتسي أطرافها بنباتات برية

وللنبع حين يقوى ويشتدّ ماؤه ويفيض

في موسم الأمطار.

ما الذي أحتاج إليه كي تنبع لغتي وتتدفق،

كي تخضرّ صفحاتي كالحقول أو تتفتّح كالأزهار؟

ما الذي أحتاج إليه غير الهواء، وأن أتنفّس

وتكون الأبواب والنوافذ مفتوحة حولي؟

 

١١

حين جَلستُ في مقعد الطائرة

وارتفعتْ ثلاثين ألف ميل فوق المحيط

شعرتُ بوطأة المقعد وضيقه.

لم أفكّر إن كان الأفق سينفتح أو سينغلق

أو بأنني سأخرج من باب المطار

 إلى ذراعين مفتوحتين

أو إلى باب مغلق.

إلى الآن أشعر أنني في المقعد فوق المحيط

أقرأ صحيفة وأواصل رحلتي

ولا مطار في الأفق.

 

١٢

لا تقلْ لي عدْ

لا تقل لي ابْق،

اتركْني، كهذه الريح

التي تهبّ ثم تهدأ

تتحوّل إلى عاصفة

ثم تسكن كجدار

دعْني أتقدم كموجة

وأتلاطم بصخور ذاتي

أو كنبعٍ لا يعرف

 من أين أتى وإلى أين سيذهب.

 

١٣

مرت أعوامٌ وسْط الثلوج

على شاطئ بحيرات

تتجمّد وتذوب منسجمةً مع دورة الفصول.

وفي وسط المدينة،

تحت جسر شيكاغو الحديدي

كان النهر يتجلّد ويتكسّر

ورأيتُ مقالع الجليد

في مجراه والبرد ينقل الألواح على كتفيه ويبني

مدينة بيضاء.

وفي هذه المدينة سميتُ نفسي ابن الثلوج،

 طفلها الذي يكبر في حدائق البياض

ثم يذوب أحياناً من الشوق.

 

١٤

تتعرى الأشجار في شيكاغو

تتوحّد مع لون السماء.

لا تصدّقُ أن خريفاً مرَّ من هنا

لأن الخضرة تتوهّج

في عُرْي الأغصان.

 

صوتي

 

١

اليوم، أدليتُ بصوتي،

بعد أن اكتشفتُ أن لي صوتاً.

 

٢

قبل ذلك كان صوتي طائراً في قفص

قبل ذلك كان صوتي ميكروفوناً محطماً

في مظاهرة فاشلة.

وسبق لي أن رأيته

 يتدلى على حبل مشنقة

حيث تولد الأصوات ميتة

ولا تكفّ مقابرها عن الاتساع.

 

٣

بعد أكثر من خمسين سنة

عشتُها بلا صوت

استيقظتُ كي أكتشف صوتي

 نائماً قربي على المخدة

كحيوان أليف

بعينين مسالمتين

وكانت أصابعي مسترخية في دفء

فروه.

 

٤

اليوم أدليتُ بصوتي

رأيتهُ يستحم بالضوء

وينشّف جسمه بالريح

و يسير بقدمين واثقتين.

 

٥

اليوم

كنتُ محظوظاً ومنكسراً

أنني أدليتُ بصوتي هنا

أنني ندبتُ صوتي هناك

فيما كنت أصافحه

 وهو يغادرني محلّقاً نحو نفسه

بجناحين منتشيين.

 

٦

غداً، حين يصل صوتي في البريد

وتحصيه الأصابع مع أصواتٍ أخرى

سينكمشُ مرتعداً من الخوف،

عارفاً أنه مجرد رقم

في لعبة تجريدية.

لكنه، على الأقل، سيكون سعيداً أنه وُلد

وأنه قادر على قلب الموازين.

 

تثمل الريح

-١-

تَثْمل الريح

أعرفُ ذلك من صوتها

حين يكون مبحوحاً ومتقطعاً

ومن سقوط جسدها الذي يترنّح.

 تلهثُ الريح

كما لو أن دروبها وعرة.

-٢-

في الأحلام

تهب الريح فوق دروب موحشة.

في الخريف

تسرق الريح الثياب الخضراء للأشجار.

-٣-

لا نستطيعُ أن نتمسك بأحلامنا

أو بأوهامنا أو حتى بأجسادنا.

لا نستطيع أن نتمسك بأجساد غيرنا

على طرقات الريح.

-٤-

وحده الجسد

يعرف أن يقرأ الريح.