تمثال المعري يحصل على اللجوء في فرنسا

تمثال المعري يحصل على اللجوء في فرنسا

بين رأس المعري ومدينته التي تغنّى بها وولد فيها وحضنته بعد وفاته آلاف الكيلومترات، حيث يلجأ رأسه الآن في بلدة “مونتروي” في ضواحي باريس، بينما يرقد رفاته وما تبقى من تمثاله في معرة النعمان في ريف إدلب شمالي غرب سوريا. فكيف كانت رحلة الشاعر الفيلسوف بين ريف إدلب وضواحي باريس متكئاً على أكتاف سورية حتى لا يضل الطريق؟

قصة مدينتين.. معرّة النعمان وباريس

في عام 973 وُلد أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري في معرة النعمان. محطته الأولى مع المآسي التي سترسم خطوط حياته كانت منذ الصغر حين أُصيب حين كان بين الثالثة والرابعة من عمره بمرض الجدري الذي أصابه بالعمى، ذلك لم يغير من سعيه لطلب العلم في كنف عائلته التي ضمت القضاة والشعراء والعلماء.

درس في حلب علوم الأدب والإسلام وسرعان ما بدأ مسيرته الأدبية قبل أن يتركه خبر وفاة والده مفجوعاً. استمر بعدها في مشواره الأدبي لكنه لم يغامر في الرحلات كما اعتاد الشعراء من معاصريه، بل لم يبتعد المعري عن مدينته إلا حين درس في حلب ثم سافر في شبابه إلى بغداد ومكث فيها نحو عام ونصف حتى بلغه خبر مرض والدته لكنها رحلت في طريق عودته.

اعتكف بعد ذلك المعري وهجر الناس وانصرف إلى أدبه وعكف عن الزواج ولُقب بـ “رهين المحبسين” وهما منزله وبصره المفقود، كما أنه امتنع عن أكل اللحوم وعاش في زهد حتى وفاته عام 1057 في معرة النعمان بعد أن أصبح أحد أشهر الأدباء في عصره وأبرز الشعراء السوريين على الإطلاق، تاركاً إرثاً أدبياً ضخماً من عشرات الدواوين والكتب ليرقد مثوى المعري في منزله الذي احتضنه كل حياته وذلك بعد أن أوصى بأن يكتب على ضريحه: “هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد”.

علاقة الشاعر بمدينته وانتمائه إليها لم ينتهِ برحيله، بل امتد الارتباط الوثيق ولم يُفك الحبل السري بينهما وخاصة بعد أن عاد إلى رحمها. فعلى امتداد القرون اللاحقة حجّ كثير من أصحاب العلم والمهتمين بالآداب إلى البناء المجاور لضريح الشاعر حيث ترك أعماله وكتبه كاملة، ولم يسمّ ذلك المكان بمركز أبي العلاء المعري الثقافي إلا في عام 1944 خلال المهرجان الأدبي في ذكرى مرور ألف عام على مولد أبي العلاء المعري، والذي دُعي إليه أقطاب العلم والأدب من العالم العربي أبرزهم طه حسين. خلال ذلك المهرجان رُفع النقاب عن التمثال النصفي للشاعر المعري والذي كُلّف بصنعه حينها النحات السوري فتحي محمد ليوضع أمام المركز الثقافي في قلب المعرّة.

الواقع المرير

الإهمال ترك بصمته على المكان كما على المنطقة بأسرها خلال الفترات اللاحقة، لكن ابن المدينة بقي أحد أبرز معالمها والشكل الأبرز لهويتها التي اعتادت المآسي. ومع انطلاق الثورة السورية في آذار -مارس عام 2011 كانت المدينة من أوائل المنضمين إليها ما جعلها تواجه عنف النظام وبطشه الذي طال قصفه ضريح المعري عدة مرات وأحدث أضراراً فيه، لكن الحدث الذي سيعيد المعري إلى خارطة أذهاننا الحالية كان في عام 2013 حين قطع متطرفون رأس تمثال المعري في حركة وصفها كثيرون بالاغتيال المعنوي للمفكر الذي اتهمه كثيرون بالزندقة بسبب انتقاداته ومواجهاته مع المتطرفين في زمانه.

جسد تمثال المعري لم يسلم أيضاً حيث استقرت فيه عدة رصاصات أرادوا خلالها أن يضعوا نهاية لمكانة الشاعر في قلوب سكان مدينته واغتياله بعد مئات السنين على وفاته. بقي تمثال المعري مقطوع الرأس شاهداً على ما مر في واحدة من أكبر مدن إدلب، فيما استعاد المركز الثقافي خلال السنوات اللاحقة بعضاً من مكانته بمساعدة مبادرات فردية ومجتمعية للحفاظ على تراث المنطقة وإرث الشاعر الضخم.

عمر خشّان، مدير المركز الثقافي السابق في معرة النعمان، كان قد صرح في تقارير إعلامية عن قيمة أبي العلاء لمدينته وأهلها أنها قيمة روحية ولا تتجسد في قبر أو ضريح. في عام 2020 سيطرت قوات النظام السوري على معرة النعمان بعد حملة عسكرية دمّرت أجزاء واسعة منها وتسببت بتهجير أغلب سكانها ليبقى المعري في حضن مدينته لكن ضريحه والبناء الذي كان يوماً أحد أهم المراكز الثقافية في المنطقة تحول إلى بناء مهجور، لتتحقق مقولة شاعر الفلاسفة عن مدينته يوماً “إن المعرة والذي فلق النوى هي للغريب وأهلها الغرباء”.

شحّت الأخبار عن المدينة بعد نزوح أغلب أهلها فلم يصل إلينا إلا بعض التقارير والشهادات التي تتحدث عن إهمال المركز الثقافي والضريح رغم مكانته الرمزية بين الأهالي، كما تحدث أحد السكان السابقين للمدينة الذي نزح إلى إحدى القرى القريبة من المعرة إلى موقع صالون سوريا قائلاً: “إن المعرة تعرضت للنهب والدمار وغياب الحياة وتدمير البنى التحتية والذي لم يسلم منه ضريح المعري أو المركز الثقافي التابع له”.

بالتزامن مع ذلك وعلى بعد آلاف الكيلومترات تحديداً في باريس انطلقت في عام 2018 مبادرة مؤسسة “ناجون” التي يرأسها الفنان فارس الحلو لإعادة الاعتبار والمكانة الرمزية للشاعر أبي العلاء المعري، الحملة بدأت بجمع المساهمات من العديد من الأشخاص بينهم ناجون من المعتقلات السورية وفنانون ونشطاء وشعراء  وغيرهم، ثم عهدت المؤسسة بصنع تمثال رأس المعري الضخم للنحات عاصم باشا في غرناطة حيث نُصب هناك لسنوات قبل أن ينتقل إلى وجهته الجديدة.

المحطة الأخيرة حتى الآن في رحلة تمثال رأس المعري كانت في بلدة مونتروي الفرنسية حيث نُصب العمل الفني الضخم الذي يبلغ ارتفاعه نحو 3 أمتار في ضواحي باريس مؤخراً، بعد أن وافقت البلدة على لجوئه إليها، فارس الحلو صرّح أن العمل علامة ثقافية سورية على أن ينقل إلى مسقط رأس الشاعر معرة النعمان بعد إحلال السلام والعدالة في سوريا.

المنظمة تقول إنها اختارت المعري الذي قال يوماً “لا إمام سوى العقل” كونه رمزاً إنسانياً لحرية التفكير ومركزية العقل، إضافة إلى كونه مثالاً للمثقف الذي لا يخضع لأي سلطة، كما أرادت المنظمة التركيز على دعوته إلى ضرورة النقد الاجتماعي والثقافي ومواجهة المتطرفين.

كما أن المؤسسة تسعى من خلال المبادرة إلى تأسيـس بصمة ثقافية ســورية في الخارج، لتكون إحدى عوامل الضغط من أجل تحقيق العدالة في سوريا، كما تم إهداء التمثال إلى كل المناضلين والمغيّبين في كافة المعتقلات السورية والعالم، في محاولة أن يكون تمثال نجاة المعري ومعه أمل بنجاتنا جميعاً.

قيمة في مكانين

ربما يتساءل البعض عن أهمية مثل هذه الخطوة الرمزية، وكيف لرأس شاعر الفلاسفة -كما يلقبه البعض أن يترك أثراً على خطوط الهوية الثقافية السورية؟

في حديثنا مع الصحافي السوري المهتم بالشأن الثقافي السوري معتز عنتابي، أكّد أن نقل رأس المعري إلى باريس أعاد الاعتبار للشاعر وغيره من المفكرين الذين تعرض إرثهم الثقافي لمحاولات طمس متكررة حيث أن التمثال هو أول عمل فني سوري طوعي بهذا الحجم ويرسخ أهمية الرموز السورية التي تدعو إلى حرية السؤال والتفكير والتعبير، كما ركز عنتابي على أن تلك الخطوة تسلّط الضوء من جديد على التاريخ الفكري لهذه البقعة الجغرافية، حيث أراد القائمون على هذه المبادرة التذكير بإرث سوريا الثقافي والرموز الفكرية المعبرة عن هذا الإرث، في ظل ارتباط اسم البلاد خلال العقد الأخير بالنزاعات المسلحة والأزمات المعيشية، كما أن اختيار مدينة باريس الفرنسية مكانًا لعرضه يعبّر عن هروب ملايين السوريين نحو دول اللجوء وسعيهم للمحافظة على تراث بلادهم من النسيان.

في النهاية حصل السوريون على رصيد فني وثقافي في أوروبا في وقت يسعون فيه إلى أن يكون ذلك التمثال بمثابة “رسالة الغفران” للمعري عن المآسي التي عايشها ضريحه وتمثاله في بلده الأم.

جريمة على مسرح القباني: حوار مع باسم سليمان

جريمة على مسرح القباني: حوار مع باسم سليمان

جريمة على مسرح القباني هو عنوان رواية للكاتب السوري باسم سليمان. وقد صدرت عن دار ميم ويتناول فيها الحرب السورية التي استمرت لسنوات طويلة من خلال جريمة حدثت على مسرح القباني الشهير في دمشق. حول هذه الرواية، وعلاقتها بالموروث الثقافي، والحدث الراهن، كان لنا الحوار التالي مع الروائي:

وداد سلوم: تذهب بقوة وشجاعة في روايتك إلى تجريبٍ مختلف وحتى أقصى ما تحتمله الرواية فضمّنتها نصاً مسرحياً، مسرحية (الجثة) التي كتبها عبد الله القتيل -والحكاية أقصوصة الموت- والقصة القصيرة؛ قصة المقص على سبيل المثال، وإلى طرق أبواب قليل من تجرأ وطرقها، في الإشارة لضرورة إعادة قراءة النص القرآني والتراث وتفسيره على ضوء القراءة الجديدة، فهل غامرتَ بجمهور القراءة الذي كثيراً ما يرغب بالسهل ومتعة الحكي؟

باسم سليمان: هناك علاقة جدلية بين المضمون والشكل. ومن هذا المنحى كان لا بدّ من ورود المسرح والقصة والشعر ضمن سردية الرواية الكلية؛ وهذا ليس تجريباً محضاً. إنّ تقديم مقولة  “السلام هبة العنف” التي ذكرها رينيه جيرار في بداية كتابه العنف والمقدس، والتي أوردتها في أول الرواية كبوصلة توجّه سمت القراءة، لن يكون لها من معنى، من دون وضعها موضع التطبيق العملي في الرواية. لقد اعتمد القدماء المسرح كما يشرح رينيه جيرار، كي يستحضروا العنف على خشبته محاولة منهم لإجهاض العنف، عبر تمثيله من خلال مسرحية ما، كي يحدث التطهير الأرسطي، ومن هنا كانت مسرحية الجثة في اعترافها المونولوجي أمام منكر ونكير، والذي تم التمثيل لهما بقناعي المسرح الضاحك والباكي كتطبيق لذلك. ولم يكن ورود القصص في الرواية إلا لأنّ القصص كانت الحامل الأول لنقل المعرفة والخبرة من جيل إلى جيل. وعبد الله في أوراقه كان يحكي لدميته قصص ما قبل حصول طوفان الدمار في سورية.  وهو بذلك يقوم بإعطائها اللقاح كي لا تقع هي وجنسها من الدمى في العنف الذي وقع فيه البشر. وقد أتى الشعر من ذات الزاوية، فالشعر لم يكن في بدايته إلا تعازيم سحرية من أجل فرض إرادة الإنسان على واقعه العنيف والمجهول. وهكذا يصبح وجود المسرح والقصة والشعر في الرواية آلية رمزية لسحب دوافع العنف من التولد من جديد. إنّ وقوع جريمة قتل عبد الله في أول يوم من أيام عيد الأضحى على مسرح القباني، ما هي إلا باب سيتم الدخول منه إلى الأضحية الإبراهيمية وكشف الدوافع الخفية التي دفعت بالنبي إبراهيم لتقديم ابنه أضحية ومن ثم الفداء. فالأضحية الإبراهيمية تكشف لنا العنف المؤسس للوجود البشري، سواء كان ذلك بالخطيئة الأصلية المرمز لها بأكل التفاحة أو بإقدام قابيل على قتل هابيل. وأمام هذا الأصول العنفية للوجود البشري، لم يكن من مهرب إلا بإعادة سبرها مهما كانت المهمة صعبة على الكاتب والقارئ. لا أعتقد أن هناك كاتباً إلا ويقع تحت سطوة القلق من كيف تلقي نتاجه الأدبي، لكن هناك دوماً عزاء بوجود قرّاء يعوّل عليهم الروائي، سيقبلون مغامرته الخطرة، ويتقحمون معه المجهول. هذه هي أخلاقية الرواية، كما يقول ميلان كونديرا، وذلك بأن تذهب إلى حيث لم يتجرأ أحد على الذهاب. وهذه أخلاقية القراء الذين أعول عليهم أيضًا.

و.س: على خلفية هذا (حديثك عن أخلاقية الرواية وأخلاقية القارئ) وخلفية إهدائك الرواية إلى جميع السوريين. هل تعتقد أنّ الرواية يمكن أن تكون رافعة للوعي؟

ب. س: لا ريب أنّني لم أهادن القارئ في روايتي! وعندما تكلمت فيها عن الرسام الذي استغل الموت كتاجر حرب، كي ينجز لوحاته وشهرته الملوثة بالدماء، كأي قاتل آخر، أردت أن أوقظ القارئ من مثالية مخادعة. وهنا إذا أجبت متبجحاً، بأنّ فنّ الرواية يمكن عدّه من المحفّزات الجيدة للوعي؛ علينا أن نتذكر بأنّ أي أدب أو نتاج فنّي محكوم بأدلجة ما، كما يقول تيري إيغلتون في كتابه؛ نظرية الأدب. وبناء على ذلك كيف سيعرف القارئ أنّني لا أخدعه وأدس السم له في الدسم؟ إذن تكون الرواية رافعة للوعي، عندما يقف القارئ موقفاً نقدياً من الرواية، وإلا سيصبح الوعي المتأتي عن الرواية كضربة الحظ، قد يحدث أو لا يحدث! وإن كان من مثال على الوعي المزيّف الذي يحصله القارئ من رواية ما لا بدّ من ذكر تحليل رينيه جيرار في كتابه؛ الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية عن رواية مدام بوفاري؛ حيث أنّ الوعي الذي تحصّلت عليه من الروايات التي قرأتها أدّى بها إلى الاصطدام مع الواقع الحقيقي ومن ثم انتحارها.

و .س:  لغة البطل كثيفة وعالية، ولولا الرمزي واتساعه، لاستغربنا السوية الثقافية والمعرفية واللغوية العالية المتجلية في أوراقه! فهل أراد الكاتب أن يعوضه بذلك عن التشوه الجسدي؟ إذ يعدّه ليكون أضحية، فتبدو أكثر كمالاً وبالتالي موصّلاً جيداً لمفهوم الفداء، فيحمل موته بالنتيجة مفهوم العنف المقدس الذي يمنع الثأر المتوالد والموروث وينهيه؟

ب .س: لقد كان الحكيم إيسوب عبداً وبشعاً. وأحدب نوتردام مشوهاً. والأول ما زالت مقولاته على ألسنة الناس إلى الآن، والثاني على الرغم من تشوهه استطاع أن يتخذ موقفا صحيحاً ومستبصراً بأنّ الثورة قادمة.  وعليه ما الذي يختلف به عبد الله عن إيسوب وأحدب نوتردام، مع أنّ إشارات عديدة وردت في الرواية تشير إلى اهتمام عبد الله الجدّي بالمعرفة. بالتأكيد ستضلّل نشأته في ميتم وتشوّهه، وعمله في جمع القمامة، من حكمنا العقلي. وهذا كان مقصوداً، لأنّنا أميل لأن نأخذ بظاهر الأشياء. كان من الممكن أن يكون عبد الله غير مشوه، لكن تعارضه مع الأضحية النمطية، بأن تكون سليمة من العيوب، هو الذي فرض عليَّ تشويهه لأبرز التناقض بين أضحية عيد الأضحى التي شوّه معناها الأصلي لصالح قراءة سلطوية دينية، وتضحية عبد الله، فجاء التعارض الأول على صعيد المظهر الخارجي. أمّا التعارض على صعيد المضمون، فيكمن بأنّ التضحية المسكّنة للعنف يجب أن لا يكون من طالب ثأر خلفها. وبالمجتمع السوري الذي أدمي جراء الحرب، كيف يمكن إحلال السلام فيه من دون أن نوقف دورة العنف /الثأر. ولا يمكن حدوث ذلك إلا بأن يكون القاتل هو القتيل، والقتيل هو القاتل، فعبد الله هو القاتل والقتيل. هو الأضحية التي لا شائبة فيها، أي لا وجود لمن يطلب الثأر من أجلها.

و .س: تقول (أضحية عيد الأضحى التي شُوّه معناها الأصلي لصالح قراءة سلطوية دينية( ، ويقول المتهم في الرواية )حارس المسرح ):عيد الأضحى مسرحية تطهيرية عن خطيئتنا الأولى التي نمثلها ونكررها كل عام لكننا أضعنا جوهرها لذلك يكثر القتل فينا وعلينا” وهذا مؤشر آخر لدعوتك بإعادة قراءة النص القرآني والتراث للخروج من دوامة القتل منذ قتل قابيل لهابيل إلى دائرة الفداء. هذه الدعوة مهمة وجريئة وتصبح أكثر ضرورة كل يوم وهي تحدث بالرواية فتتقدم على الواقع الذي يطلبها ولا يتوصل إليها!

ب .س:  آلية الفداء هي آلية مجتمعية لإدارة العنف كما القانون حالياً… وبالتالي الدعوة لإعادة قراءة النص الديني تندرج ضمن فهم الميكانيزميات الحاكمة بالمجتمع.

و. س: عبد الله ينسى كل يوم ما سبقه تقول : (ذاكرته تستيقظ كل يوم نظيفة من حيض التذكر) ويعود كما لو ولد تواً من التفجير، لكنه وجد طريقة للخلاص بالتدوين وكأن طريق الخروج من الأزمة يحتم التعلم والثقافة لبداية تأريخ جديد خارجاً من دوامة الحرب والعنف اليومية التي تأكل البلاد.

 ب.س:  إنّ النسيان أسلوب دفاعي تلجأ إليه النفس عندما لا تستطيع أن تتحمّل هول الفاجعة. لقد وعى عبد الله ذلك بشكل لا شعوري. وما القول بأنّه يستيقظ نظيفاً من حيض التذكر، إلا دلالة على رفضه للعقم، فهو يريد التذكر. ومن دون الذاكرة لا يمكن للأضحية أن تنجز مهمتها في التطهير، لذلك لجأ إلى التدوين، كما يفعل السجناء في حك حيطان السجن من أجل تدوين مرور الأيام، كي لا يفقدوا الإحساس بالتاريخ. إنّ التدوين وكتابة ما يحصل له في محيط الدمار كانا وسيلته الأولى لمقاومة الدمار، فالدمار أول ما يفعله هو أن يمحو الرموز والعلامات التي يستطيع بها العقل حيازة الواقع معرفياً. ومن هنا، كان التدوين والبحث بين الحطام على علامات متبقية، أسلوبه في إعادة رتق ذاكرته وجعلها خصبة من جديد. وعندما تم له ذلك خلق دميته/حواءه وشرع في تهيئة المسرح ورفع خشبته كي يعيد تمثيل مسرحية الجثة، كي تتم المصالحة بين القاتل والقتيل.

و.س: خشبة المسرح، هي سفينة نوح كما في حدث الطوفان!

ب.س: نعم التناص كان واضحاً.

و.س: تقول المصالحة بين القاتل والقتيل، وذلك يعيدنا إلى السؤال التالي:

  ثلاثة تجمعهم صداقة الكتب، وتاريخ الميلاد، وجريمة يتقاسمونها بشكل ما؛ القاتل /المتهم ــ والقتيل/ الأضحية، ومن ثم المحقّق الذي يرث ساعة الأرمني مسيو كارنيك (والذي يعني اسمه الخروف ــ الأضحية أيضاً ) ، هل أردت مقاربة ثالوث جديد يكون فيه الموت على خشبة المسرح بانتظار قيامة الحياة /الخلق من قلب  تل الخردة حيث تتشابك الأشلاء مع بقايا الدمار؟

 ب.س: إنّ الجذر الثلاثي لفعل (قتل) هو الذي يمدّنا عبر الاشتقاق بكل من كلمتي: القاتل والقتيل. ما الذي يعنيه ذلك؟ يعني تعالقاً لا يمكن الفكاك منه، ما دمنا نأخذ معنى واحداً من معاني الجذر(قتل). ميزة مفهوم الفارماكوس اليوناني أنّه يشتمل بشكل واضح على معنيين متضادين، لكن متكاملين، فالسم يصنع منه الترياق، والترياق هو دواء السم. لهذا كانت الأضحية الفارماكوسية كعبد الله قادرة على إيقاف العنف لأنّها تكشف معاني الجذر (قتل)، فلا تصيبنا أحادية الرؤية بالعماء. ومن دون مسرحة العنف والأضحية، لايمكن أن نأخذ مسافة للحياد، ومن ثم المصالحة. والمسرح يقدم هذه المسافة عبر عبد الله نفسه، الذي قدّم نفسه أضحية على مسرح القباني جاذباً إلى دائرة الجريمة، ممثّل الثقافة؛ أي بائع الكتب. وممثّل السلطة؛ أي الرائد هشام، حتى يحدث الجدل الغائب بسبب العنف، ويتكشّف المعنى الجوهري للجذر (قتل) ألا وهو معرفة كنه الشيء! وعندها تتضح لنا أصول العنف، فمن الممكن تحقيق السلام والحياة بناء على ذلك.

البطل عبد الله كان يبحث عن هويته؛ يقول تدفعني الخيبة لا الأمل، لأبحث في الماضي عن تأصيل لهوية مضطربة. فخيبة الإنسان بالانتماء (عدم تحقّقه) تجعله يبحث في الهوامش عن بديل. وغالباً ما يعيد إحياء الانتماءات الضيقة كتعويض. وهي في الحقيقة محرك آلية العنف! أمّا عبد الله؛ فبحثه أخذه إلى المسرح والدمية ذات الصوت المكبوت أو العميق. أو كما أسميتها حواءه ومعها أكمل البحث وصولاً إلى إعادة الأب والأم إلى المسرح في إشارة لإعادة الحياة، تأصيل وتأسيس البحث عن هوية جديدة،  هو القضية التي تؤسس الحياة الجديدة إذن!

لا أحد يستطيع الهرب من هويته، فهي معطى وجودي في حال ضياعه، فهذا يعني العدم. لكنّ البحث عن الهوية المحدّدة سلفاً يصبح حالة عنفية، عندما تبدأ بإلغاء الآخر، وأي هوية فيها من الإلغاء الكثير؛ لذلك قال سارتر: “الآخرون هم الجحيم”. أمام هذا الواقع المخيّب للآمال، كان لا بدّ لعبد الله ان يبتكر حلاً كي تنفتح الهوية على إنسانيتها، بحيث يصبح الآخر امتداداً حيوياً لها. إنّ  تأصيل الوجود في مخيال عبد الله عبر الدمى التي صنعها لم يكن ليتم إلا عبر قصّ الخيوط التي تربط الدمى بيد محرك العرائس لتصبح حرّة. إنّها دعوة لخلق هوية تولد من محايثة الحياة تنمو كل يوم وتتجدّد، رافضة لأي شكل مسبق يحدّد وجودها، هكذا يصبح وجودها خياراً، لا قدراً محتوماً محدداً بشكل مسبق.

و. س: مقولة قتل الأب: ارتفعت الأصوات الداعية لها. وهناك الصوت التحذيري لديك قد جاء على شكل نبوءة؛ ستقتلون الأب ولن تجيدوا دفنه، ستقتلكم رائحة جثته، تقول: “سنوات، ونحن نحمل جثة الأب. ونحن نعلك لحمه كالصوف. والبلد تغرق بالقتل، نقتل الآباء ويتكاثر الأبناء كالجراد. وهكذا نعلن القطيعة، لنؤسس لأبوتنا وكراسينا المصنوعة من عظام الأباء”. فإذن قتل الأب كان تأسيساً لآباء لا يختلفون عنه، بل يتجاوزونه في القسوة! في عملية إعادة تدوير للعنف. لكنّك تعيد الأب وتجلبه للمسرح لنلمس تمييزك للأب الذي تريد إعادته المعبّر عنه بالعقل؟ ( هذا من فضل العقل) المقولة التي تحطمت في الهياج؟

ب.س:  إنّ قضية قتل الأب قد تكرّرت كثيراً في الميثولوجيا الإنسانية. إذن هي رمزية أكثر منها فعلاً واقعياً، فقتل الأب، هو قطيعة مع منظومة سابقة ثبت فشلها، بأن تكون محايثة للحاضر.  وبما أنّ مصير الأبناء أن يصبحوا آباء؛ إذن، هم ضحايا جدد. لهذا يقال، بأنّ الثورة تأكل أبناءها؛ وذلك عبر تحويلهم إلى آباء، من الضرورة أن نثور على الآباء الجدد. إنّ إعادة الأب عبر دمية في أوراق عبد الله مع ربطه بمقولة (هذا من فضل العقل) فقد جاء ذلك من أجل إيقاف دورة العنف، وإنشاء الحوار بين الأصول والفروع الذين سيغدون بدورهم أصولاً تنبت فروعاً وهكذا دواليك.

المانوليا الدمشقية (إلفة الإدلبي ١٩١٢-٢٠٠٧)

المانوليا الدمشقية (إلفة الإدلبي ١٩١٢-٢٠٠٧)

المانوليا؛ ليس عنوان مؤلف للأديبة السورية ألفة الإدلبي وحسب، بل هو نوع من التناص الوجودي الأدبي بين بطلة قصتها “الليدي جين” وبين شخصية المؤلفة ذاتها، فتلك الإنكليزية المتمردة على عادات قومها بالزواج ثلاث مرات من رجال هم بارون ولورد وكونت، هجرت القصور والقلاع والأمراء لتأتي دمشق وتتزوج للمرة الرابعة من الشيخ مجول المسرب الذي ينتمي للعشيرة العنزية ولتعيش معه في البادية حيناً؛ وفي بيته العربي في دمشق حيناً آخر. في فناء تلك الدار زرعت الليدي جين شجرة المانوليا الإنكليزية فأزهرت وانتشرت في دمشق، تماما كما أزهر وانتشر نتاج إلفة الإدلبي في دمشق، فقد كانت إلفة كما الليدي جين متمردة على التقاليد والعادات، تستند إلى الطاقات الناضجة فيها، حتى أتقنت فن التكيف الاجتماعي إلى حد الروعة، أو على حد تعبير الأديبة أميرة الدرة: أتقنت فن الحياة ومجابهة الحياة بطريقة ديبلوماسية واستخدمت كل أساليب التفاهم والتعاون لتصل إلى حقها، ولكنها أبداً لم تعرف التهاون فيه. لقد أشربت نفسها حب المرح وبرعت في فن إلقاء النكتة وتفردت فيها. و آمنت بجدوى الضحك وفوائده، فالضحك يتبعه التسامح. وقد بلغت فعلياً مرحلة التسامح وعرفت كيف تلائم بينها وبين الظروف المحيطة بها، وعرفت كيف تحقق أسباب الحياة السعيدة الناجحة.

ظهرت على مسرح الحياة محتفظة بشخصية آسرة جذابة وأناقة متميزة مبنية على ذوق رفيع. فقد كانت تفرض احترامها في كل مجتمع تؤمه، فهي محدِّثة بارعة، دمثة الخلق، كريمة الطبع، بعيدة عن كل تزمت، وتتمتع بجاذبية خاصة وتأثير غريب على محدثيها. كانت تبذل العطاء بسخاء وتتصرف ببساطة وعدم تكلف، وتتميز بتواضعها على سُنّة “من دام تواضعه كثُرَ أصدقاؤه”. طبيعتها الشخصية انطوت أيضاً على ما كانته الليدي جين، فكما عبرت جين الحدود، فعلت إلفة الإدلبي. وعبر شخصية مجيد في الرسائل الواردة في كتابها «المانوليا في دمشق وأحاديث أخرى» ناقشت إلفة الكثير من الأفكار الفلسفية والتاريخية. فمجيد كان شاباً جامعياً من دمشق ويدرس الفلسفة في القاهرة، إلا أنه أيضاً كان صديقاً لابنها زياد في المرحلة الثانوية، ولذلك كان يراسلها من القاهرة.

عبر وصفها نجد أن مجيداً ليس إلا واحداً من ملايين الشباب الضائعين الحائرين القلقين الذين يتلمسون طريقهم إلى شاطئ الأمان وسط عتمة الآراء والمذاهب والنظريات، وفي بحور متلاطمة من التمرد والفوضى والبلبلة وعدم الاستقرار. لقد كانت البدع الداخلية المستوردة تغزو أفكارهم، وتشل أدمغتهم عن التفكير السليم. فمجيد كان في دمشق نباتي المذهب كأبي العلاء المعرّي إلا أنه أصبح في القاهرة سارترياً وجودياً، لكنه انصرف عن السارترية إلى الإنسانية، فنراه كيف يكره الحرب وينادي بإزالة الحدود والسدود بين الدول، حيث بات العالم كله في نظره أسرة واحدة، فلا قومية تفصل، ولا جنس أو مذهب أو لون.

في ظلال المانوليا غيرت إلفة الإدلبي أسلوبها التعبيري من الأسلوب القصصي والروائي إلى نمط المحاضرة، وفي المحاضرة انتقلت من تبنيها لقضية المرأة بالمعنى الوجودي إلى كل المعاني السياسية والاجتماعية الممكنة، حيث عمدت إلى الكتابة عن المرأة الأنثى، الأم، العاشقة، الخاطئة، المتمردة، المرأة المكبلة بالعادات والتقاليد، العانس، المتألمة.. وانتقلت من تلك الأوصاف لموقع المناضلة المدافعة عن حقوق المرأة وعن حضورها التاريخي وعن مشاركتها الفاعلة في الحياة.  

محاضرتها عن «المرأة العربية والعقيدة» مثلاً أشارت إلى أن المرأة أكثر ثباتاً على العقيدة من الرجل، فهي قلما تتلون أو تنقلب أو ترتد، ولو أوردها ذلك الهلاك. كما انها اقتحمت التاريخ العربي تبحث عن نساء ملهمات، كأم علقمة الخارجية التي وقفت في وجه الحجاج غير هيابة قسوته وجبروته، وغزالة الحرورية التي اضطرت الحجاج أيضاً إلى أن يختبئ في مسجد الكوفة خوفاً من سطوتها، وكذلك عمرة بنت النعمان، وسودة بنت عمارة، وهند بنت عتبة، والخنساء الشاعرة، وأسماء بنت أبي بكر وغيرهن.

ولم تفارق المانوليا الا بعد أن وجهت كل طاقاتها للمطالبة بحقوق المرأة العربية من النواحي التشريعية والتنفيذية والقضائية، والمطالبة بفكرة التساوي مع الرجل، فتعطى حقوقها كاملة لتكون قاضية أو رئيسة وزارة أو سفيرة في وزارة الخارجية.

وُلِدَت إلفة الإدلبي في مدينة دمشق في حي الصالحية المنحدر من جبل قاسيون في عام 1912 من أبوين دمشقيين هما «أبو الخير عمر باشا» و«نجيبة الداغستاني» وكانت البنت الوحيدة بين خمسة أخوة ذكور. يعود نسبها من أبيها إلى أسرة دمشقية الأصل، ومن أمها، إلى أسرة داغستانية، نفى السلطان العثماني محمود الثاني جدها الشيخ محمد حلبي، وقسره على مغادرة وطنه داغستان مع أسرته، بسبب نضاله لتحريره من الاحتلال الروسي، ليقيم نهائياً بدمشق. تلقت علومها في مدرسة تجهيز البنات، وفي عام 1920 أصبح التدريس في مدرستها باللغة العربية، وحين عاد الملك فيصل الأول من باريس خرجت لاستقباله بزي مدرسي أُعِدَّ خصيصاً لهذه المناسبة التاريخية.

في عام 1921 أُصِيبَت بالحمى التيفية، ونجت منها بأعجوبة، مما أخَّرَها عن الالتحاق بالمدرسة سنة كاملة، ولما أُسست مدرسة «العفيف» القريبة من منزلها انتمت إليها، وكانت من المتفوقات في دروسها. وفي عام 1927 نالت الشهادة الابتدائية وانتقلت إلى دار المعلمات. وكان من أساتذتها فيها أبو السعود مراد، وصادق النقشبندي، ومحيي الدين السفرجلاني. وكان صفها قليل العدد لا يتجاوز ستة عشر تلميذاً، أما التلميذات فلا يكاد عددهن يُذْكَر.

ومن الجدير بالذكر أن إلفة الإدلبي منذ بداية تفتحها على الحياة، أظهرت ميلاً واضحاً نحو الأدب. فكانت تُقبِل على القراءة، وحفظ الشعر، وتمضي الساعات الطوال مع أمهات الكتب، التي تذخَر بها مكتبة والدها الذي لاحظ ميول ابنته، فأخذ يوجهها واضعاًً بين يديها أثمن ما احتوته مكتبته، فقرأت «العقد الفريد» وقرأت «الأغاني»، وكتاب «الأمالي» واستحسنت الشعر القديم وتذوقته، وحفظت أروع القصائد وأجملها.

ومما يذكر عنها وبلسانها في هذه المرحلة قضية نضالها في سبيل التحرر الوطني إذ تذكر قائلةً: “أثناء الثورة السورية كنا في دار المعلمات. وكنت أنا وأخي وأربعة من أولاد عمومتي قد التحقنا بالثورة السورية، وسَرَت العدوى إلى صديقاتي وإخوتهم فالتحقوا بالثورة، وكنا يومها نشتعل حماسة واندفاعاً. أنشئ أول معمل للألبسة الوطنية (التريكو) في دمشق فخطر لنا نحن الفتيات المتحمسات أن نذهب إلى المعمل بالسر وبدون إعلام أهلنا من أجل أن يصنع لنا سترات بيضاء يحيط بها العلم السوري بألوانه الأبيض والأخضر والأسود والأحمر في إطار الكنزة وفي إطار الأكمام. ورحنا نلبس الملاءة السوداء ونضع السترة فوق التنورة السوداء فيظهر العلم السوري ما بين الملاءة والتنورة.

وعندما كنا نسير في الطرقات كان كثير من الشبان يحيوننا ويحيون العلم السوري. ولما وصلنا إلى المدرسة تكتلت رفيقاتنا حولنا ورحن يسألن: أين صنعتن هذه السترات، نريد مثلها، نريد مثلها. وكانت الناظرة عين المديرة الأجنبية تتجسس علينا، وتحمل لها أخبارنا، فأسرعت إليها بالخبر.

دعتنا المديرة الأجنبية إلى غرفتها وهددتنا بالطرد إن لم نخلع العلم السوري. لأن ذلك يثير الشغب في الطرقات وفي المدرسة. وكبر الأمر علينا فبقينا ثلاثة أيام في البيت ندَّعي المرض أمام أهلنا. وجاء أحد الآباء إلى أبي قائلاً: أفلا يكفي ما نلاقيه في أبنائنا الشباب حتى تفعل ذلك بناتنا؟. فطلب مني أبي ألا أرتدي ذلك اللباس وأن أذهب فوراً إلى المدرسة”.

في عام 1929 تزوجت إلفة من الطبيب حمدي الإدلبي، وأنجبت له ثلاثة أولاد هم: ليلى وياسر وزياد. وكانت قد انقطعت عن متابعة تعليمها بسبب هذا الزواج المبكر.

أنجبت إلفة الإدلبي في عام 1932 ابنها ياسر وأصيبت بمرض أقعدها في الفراش سنة كاملة انقطعت خلالها إلى القراءة انقطاعاً كاملا، حيث كانت تقرأ عشر ساعات متواصلة يومياً، تنتقل فيها بين الأدب القديم والحديث والمترجم، إلا أن قراءة القصة كانت هوايتها الأثيرة، الأمر الذي جعلها تستنفد جميع مؤلفات محمود تيمور، وتوفيق الحكيم، وإبراهيم عبد القادر المازني، وطه حسين، وميخائيل نعيمه، وجبران خليل جبران، ومارون عبود، ومعروف الأرناؤوط. ومن الأدب العالمي قرأت: تولستوي ودوستويفسكي وبلزاك. وقد حصلت على هذه الكتب كلها من مكتبة خالها كاظم الداغستاني (1901-1985) وكان مفكراً وأديباً وناقداً وحاصلاً على دكتوراه في الفلسفة وعلم الاجتماع. 

وفي عام 1940 انتمت إلى جمعية الندوة، وقامت من خلالها بنشاط أدبي واسع، ولعل أول من تنبه ورعى موهبة إلفة الإدلبي من خارج الأسرة كان أستاذ اللغة العربية أديب التقي البغدادي عندما كانت طالبة في دار المعلمات، فعرض عليها وعلى مثيلاتها من الطالبات الموهوبات تشكيل جمعية أدبية، وكانت فكرته هذه هي النواة الأولى لتشكيل جمعية أدبية ثقافية أخذت صبغتها الرسمية في عام 1942 هي «الندوة الثقافية النسائية» وملتقاهن في الندوة الثقافية النسائية هذه كان صباح كل ثلاثاء.

ثم انتسبت لـ «حلقة الزهراء الأدبية» في عام 1945. وقد كان من أبرز أعمال هذه الجمعية إصدار كتاب «مختارات من الشعر والنثر» للأديبة والصحفية السورية الأولى ماري عجمي.

وفي عام 1947، كتبت أول قصة لها بعنوان «القرار الأخير» وأرسلتها للاشتراك في مسابقة إذاعة لندن ففازت بالجائزة الثالثة، وقد شجعها هذا الفوز على الاستمرار في كتابة القصة التي أصبحت إحدى رائداتها. وهي منشورة في كتابها «قصص شامية». ثم كتبت إلفة الإدلبي قصتها الثانية «الدرس القاسي» فأرسلت إلى مجلة «الرسالة» المصرية القصتين معاً، فنشرتا.

في يوم الخميس 22/3/2007 رحلت الأديبة إلفة الإدلبي عن عمرٍ يناهز السادسة والتسعين عاماً، وتم تشييعها من جامع البدر في حي المالكي الدمشقي بحضور أهلها وأصدقائها والعديد من الشخصيات الأدبية والثقافية في سورية. 

أما على الصعيد العملي:

عملت إلفة الإدلبي في لجنة النثر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب وذلك مدة تقرب من عشر سنوات، كما عملت في لجنة الرقابة الأخلاقية في مؤسسة السينما العربية في سوريا لمدة وجيزة.

ألقت عشرات المحاضرات في الأندية الأدبية والمراكز الثقافية، وعشرات الأحاديث الإذاعية، وأجريت معها مقابلات صحفية وتلفزيونية عديدة.

كما أجرى معها برنامج «كاتب وموقف» الذي يعدُّه عبد الرحمن الحلبي حواراً حول روايتها «دمشق يا بسمة الحزن»، وشاركت في عدة مؤتمرات عن المرأة منها: المؤتمر الخامس للاتحاد النسائي العربي الذي أقيم في بيروت عام 1962، وشاركت في بغداد عام 1969، وفي مؤتمر المغرب عام 1981.

كما حضرت العديد من الندوات الأدبية المحلية والعربية والعالمية، فمثلت اتحاد الكتاب العرب في تشيكوسلوفاكيا، وزارت الصين في مجال التبادل الثقافي بينها وبين سورية، كما شاركت في ندوة «مكاسب الالتزام في الأدب العربي الحديث» مع كل من الدكتور عبد الله عبد الدايم، و مطاع الصفدي، ويوسف الخطيب، في مركز الجمعية السورية للفنون بدعوة من جمعية الأدباء في 1/4/1959. كما شاركت في الندوة التي أقامتها «جمعية الوعي العربي» عن القصة السورية مع كل من شاكر مصطفى ود.عبد السلام العجيلي في 14/1/1961.

بلغ عدد الندوات التلفزيونية التي أجريت معها في كل من: سورية، ولبنان، والكويت، خلال الأعوام 1961-1986 سبع عشرة ندوة، أما الندوات الإذاعية فأكثر من أن تحصى. 

أخيراً لابد من ذكر أهم أعمالها:

١– قصص شامية، مجموعة قصصية تضم سبع عشرة قصة قصيرة، 1954.

2- وداعاً يا دمشق، مجموعة قصصية فيها سبع عشرة قصة من القصص القصيرة، 1963.

3- المانوليا في دمشق وأحاديث أخرى، طائفة من المحاضرات والأحاديث التي ألقتها في كل من دمشق وحلب، 1964.

4-  ويضحك الشيطان وقصص أخرى، مجموعة قصصية، 1970.

5- نظرة في أدبنا الشعبي: ألف ليلة وليلة وسيرة الملك سيف بن ذي يزن، دراسة، 1974.

6- عصي الدمع، مجموعة قصصية، 1976.

7- دمشق يا بسمة الحزن، رواية، 1980.

8- إسرائيليات، محاضرة، 1983.

9-حكاية جدي، رواية، 1991.

10- وداع الأحبة، 1992.

11- عادات وتقاليد الحارات الدمشقية القديمة، محاضرات ومقالات، 1996.

أعمالها المترجمة إلى اللغات الأخرى:

 الانكليزية:

– «حمام النسوان»، ترجمة ميشيل أزرق، من مجموعة «ويضحك الشيطان» ،«بعد سبعين عاماً»، ترجمة سيمون فتال، من مجموعة «ويضحك الشيطان».

– «الحقد الكبير»، ترجمة منير فرح، من مجموعة «وداعاً يا دمشق»، «دمشق يا بسمة الحزن»، ترجمة بيتر كلارك، رواية.

الروسية:

«العودة أو الموت»، ترجمة د.أولغا فالورفا،

 من مجموعة «وداعاً يا دمشق»، «وداعاً يا دمشق» و«حكاية جدي»، رواية.

 الصينية:

«الحقد الكبير»، من مجموعة قصص «وداعاً يا دمشق».

«قصص شامية»، المجموعة الكاملة.

 الإيطالية:

«ويضحك الشيطان» ترجمة محمود لولا، من مجموعة قصص «ويضحك الشيطان».

 التركية:

«الستائر الزرق»، ترجمة منور موره لي، من مجموعة «قصص شامية».

 الألمانية:

«الستائر الزرق»، من مجموعة «قصص شامية».

 الإسبانية:

«دمعة وابتسامة»، من كتاب «المانوليا في دمشق».

 الأوزباكستانية:

«انتقام»، من مجموعة «قصص شامية».

 لغات أخرى:

توجد ترجمات أخرى منها إلى اللغة العبرية، والفرنسية، وبعض لغات الاتحاد السوفياتي السابق كالأوزباكستانية، و اللغة الهنغارية، والهولندية، والسويدية، والبرتغالية، و الفارسية.

ألفة الإدلبي، هي كاتبة ومثقفة ومناضلة دمشقية لابد من العودة له، واستحضارها من تاريخنا، لاسيما عندما تفكر الأجيال الشابة بصناعة مستقبل للفكر النسوي السوري. 

تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

صُعلوكٌ عربيٌّ جاهليٌّ بزيٍّ مُعاصِرٍ أنيقٍ وبعِطرٍ فرنسيٍّ جذّاب

صُعلوكٌ عربيٌّ جاهليٌّ بزيٍّ مُعاصِرٍ أنيقٍ وبعِطرٍ فرنسيٍّ جذّاب

(شهادةُ الشَّاعر اللُّبنانيّ طلال حيدر عن الشّاعر السُّوريّ علي الجندي)

في إطار عمَلي على إنجاز كتاب موسوعيّ عن سيرةِ الشَّاعر السُّوريّ الكبير علي الجندي (1928 _ 2009) الحياتيَّة والشِّعريَّة، وهوَ المشروع الذي بدأتُ بهِ برفقةِ علي الجندي شخصيَّاً منذُ العام 2001 في مدينة اللَّاذقيَّة، حيثُ قضَى آخِرَ سنواتِهِ فيها، حاوَلَ الصَّديق العزيز الكاتب والصحفيّ (المُنذر الدِّمنيّ) _الذي كانَ يُساعدني في جمع بعض موادّ الكتاب وبعض شهاداتِهِ بصفة (باحث مُساعِد) بحُكم وُجودِهِ في بيروت_ أنْ يحصَلَ على شهادة خطِّيَّة لكتابي وباسمِي من الشَّاعر اللُّبنانيّ الكبير (طلال حيدر)، ولظُروفٍ مُختلِفة، منها صحِّيَّة، اعتذرَ شاعرُنا وأرجَأَ الشَّهادةَ مرَّاتٍ عدَّة.

ولأنَّ من طبيعتي الإصرار و(يباسة الرأس)، ولخبرتي الطَّويلة بمِزاجيَّة المُبدعين، ولا سيما مع تقدُّمِهِم في السِّنّ (على ألّا يعتقدَ أحدٌ منَّا أو يُخدَعَ بفكرةِ أنَّ أمثال علي الجندي أو طلال حيدر يتقدَّمونَ في السِّنّ…)، قرَّرتُ أنْ أُجريَ مُحاوَلةً (نجحتُ بتطبيقِها معَ شخصيَّاتٍ عدَّة من قبْل)، فملأتُ جوَّالي برصيدٍ كبير، وأجريْتُ اتِّصالاً على جوَّال طلال حيدر مُباشَرَةً في يوم الجمعة 18/ 11/ 2022، وعرَّفتُهُ بنفسي بعدَ أنْ ردَّ عليَّ، وبأنَّني أُحدِّثُهُ من دمشق، وذكَّرتُهُ بطلبِ الصَّديق المُنذر، وبشهادتِهِ المَوعودة عن علي الجندي، ففاجأني بحجم الدِّفء والعاطفة والاستقبال الحميميّ، مُردِّداً منذُ البداية: “أهلاً وسهلاً بمازن وبجميع أهل سوريَّة الحبيبة”.

حاولتُ أنْ أُورِّطَهُ بالموضوع تحتَ دعوى: “هل لديكَ دقيقتان فقط لا أكثَر للحديث عن أبي لهب؟”، فأجابَ بسَعادةٍ غامِرة: “خُذِ الوقتَ الذي تُريدُهُ”.

كنتُ قد جهَّزْتُ أمامي بضعَ وريقاتٍ وقلَمٍ، ورحتُ أطرَحُ أسئلتِي، وأُدوِّنُ خلفَهُ كُلّ كلمةٍ يتفوَّهُ بها. 

وفي الحقيقة، شعرْتُ أثناءَ المُحادَثة، وبعدَ أنْ أنهيْتُ المُكالَمَةَ أيضاً، حيثُ رحتُ أقرأُ ما دوَّنتُهُ خلفَهُ، أنَّها لم تكُنْ مجرَّدَ شهادةٍ تقليديَّةٍ، بقدرِ ما كانتْ شِعراً مُدهِشاً وسلِسَاً ألقاهُ طلال حيدر بصوتِهِ وبهُوِيَّتِهِ الجَماليَّة المَعروفة، فكأنَّهُ كانَ يُلقِي قصيدةً عذبةً وشفَّافةً وهوَ يحكي عن صديقِهِ أبي لهب.

أضَعُ، هُنا، نصَّ الشَّهادة، آمِلاً أنْ يصُبَّ هذا الجهدُ المُتعلِّقُ بكتاب علي الجندي، في إطار الوفاء لهُ ولرحلتِهِ الحياتيَّة والإبداعيَّة، وللشِّعر السُّوريّ، والثَّقافة العربيَّة والإنسانيَّة.

قالَ طلال حيدر:

“علي الجندي لم يكُنْ غريباً إلّا عن نفسِهِ.. 

هوَ الجَمالُ المجنونُ الذي تفجَّرَ بحثاً عن روحٍ مفقودةٍ لا يُمكِنُ أنْ تُوجدَ أبداً، فتمزَّقتْ ذاتُهُ أوَّلاً وأخيراً..

حينَما جاءَ إلى بيروت في الخمسينيَّات من القرن المُنصرِم لم يكُنْ هارِباً أو مُغترِباً، بقدرِ ما كانَ مُنقِّباً بنهَمٍ استثنائيٍّ عن هُوِيَّتِهِ المُختلِفةِ في الحياةِ والإبداع.

كانَ سبَّاقاً في حركةِ الحداثةِ الشِّعريَّة، ولا يُمكِنُ تجاوُزُهُ أو تجاوُزُ تجربتِهِ المُتفرِّدة عندَ أيَّةِ قراءةٍ موضوعيَّةٍ صادقةٍ للشِّعر العربيّ الحديث.

علي لم (يتباسَط) أو يتبهلَل في مَوقفِهِ الشِّعريّ، وفي الوقتِ نفسِهِ، لم يتفلسَف ويتفذلك كالكثيرين غيره..

كانَ صاحبَ رُؤيا مُستقبَليَّةٍ في شِعرِهِ، وكانتْ لهُ قصائدُ شاهِقةٌ، وصوَرٌ وتراكيبُ جديدةٌ ومغايِرَة. واستطاعَ أنْ يُمسِكَ بأهمّ ثلاثة عناصر في الإبداع الشِّعريّ: ألّا تُرينِي ما يُرَى _ ألّا تُعطينِي فكرةً أعرِفُها _ أنْ تكونَ ذاكرةَ المُستقبَل.

هذهِ العناصِرُ ظلَّتْ ضارِبَةَ الجُذورِ في تجرِبةِ علي، ولهذا فهوَ ينتمي في شِعرِهِ إلى ما فوقَ الزَّمنيِّ والتَّاريخيِّ، فكَم من شاعرٍ عربيٍّ قديمٍ كانَ حداثيَّاً وأصيلاً في تُراثِنا الشِّعريّ، وكم من شاعرٍ عربيٍّ عاشَ في عصرِنا الحديثِ، وكانَ بائِسَاً ومُفلِساً في فنِّهِ..

في حُضورِهِ الحياتيِّ كانَ شاعراً عظيماً أيضاً.. لا بل كانَ مُبدِعَ أكثَر من حياةٍ في حياةٍ واحدة، وكانَ مُبتكِرَ حياتِهِ الفريدة من دونِ ادِّعاءٍ، وخلَّاقَ حُرِّيَّةٍ لا تُشبِهُ ولا تُحاكي إلّا الحُرِّيَّة التي في ذهنِهِ الحزين، وفي تصوُّرِهِ المُستحيل.

هوَ البوهيميُّ المُتسكِّعُ في ليالي دمشق وبيروت والقاهرة وبغداد وباريس، يشحذُ سَهَراً وجُنوناً وأهواءً، ويُلاحِقُ حياةً يُريدُها ألّا تنفدَ، فيقتُلُها وتقتُلُهُ رُويداً رُويداً..

لم يكفَّ لحظةً واحدةً عن هَوَسِ العيْشِ، ولم يكُنْ قنوعاً يعرِفُ الشَّبَعَ، ولهذا كانَ يلهَثُ باستمرارٍ مثلَ مُتشرِّدٍ باختيارِهِ، مُهروِلاً بلا مَأوىً وبلا انتماءٍ طلَباً للجَمال والمُتَعة والانعتاق.

هوَ، باختصار: صُعلوكٌ عربيّ جاهليّ بزيٍّ مُعاصِرٍ أنيقٍ، وبعِطرٍ فرنسيٍّ جذّاب.

أينَما كنتَ تلتقي بعلي كنتَ تعرِفُ من فوركَ أنَّكَ قدِ التقيْتَ للتَّوِّ بهديَّةٍ تحمِلُ ما تحمِلُ منَ الدَّهشةِ؛ فكُلُّ شيءٍ كانَ يغدو أبهَى بحُضورِهِ، وبرفقتِهِ كانتْ تتضاعَفُ متَعُ الوُجودِ على نحْوٍ لا يُوصَفُ سهَراً وخَمراً وشِعراً وامرأةً..

كانَ كُلَّما بعثَرَ الحُدودَ من حولِنا، منَحَ الحياةَ ومنَحَنا قداسةً أجمَل..

ذاتَ يومٍ في تكريمٍ أُقيمَ لهُ في معهد العالَم العربيّ في باريس بمُناسبةِ بلوغِهِ سنّ السِّتِّين، سافرْتُ من بيروت إلى فرنسا خصِّيصاً لأحضُرَ تكريمَهُ هذا، وحينَما دُعيتُ إلى المِنصَّة لم أكُنْ قد حضَّرتُ كلمةً، فصعدتُ، وقلتُ عبارةً واحدةً فقط ألهبَتِ الحفلَ تصفيقاً وضَحِكاً وتأثُّراً: “لقد جئتُ من بيروت إلى باريس فقط كي أُقبِّلَ (هالأخو الشَّرموطة)”، ثُمَّ نزلتُ عنِ المِنبر، وذهبْتُ كي أُعانِقَ علي الجندي بحرارة *“. 

هامش:

*هذهِ الحادثة كانَ يرويها علي الجندي بفرَحٍ وسعادةٍ بالِغة، مَقرونةً، كعادتِهِ طبعاً، بسلسلة شَتائِمَ بذيئةٍ وضاحكةٍ لصديقِهِ طلال حيدر، وكانَ يُردِّدُ باستمرارٍ أمامي: “طلال كيفما رمَى وبعثَرَ كلماتِهِ، تَخرُجُ شِعراً مُدهِشاً”. 

تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

أبو خليل القباني.. المبدعُ الخالدُ بفنه الأصيل 

أبو خليل القباني.. المبدعُ الخالدُ بفنه الأصيل 

“يا طيرة طيري يا حمامة.. وانزلي بدُمَّر والهامة” تلك الأغنية الشهيرة، المحفورة في آذاننا وقلوبنا، والتي غنيناها في الأفراح والسهرات والرحلات وجميع المناسبات، وسمعناها من عشرات المطربين، قد لا يعلم البعض منا أن تاريخها يعود لنهايات القرن التاسع عشر، وأن مؤلفها الحقيقي هو أحمد أبو خليل آغا آقبيق، المعروف بأبي خليل القباني، والذي ولد في دمشق/ باب السريجة عام 1842، وكان يتمتع بذكاءٍ إبداعيٍ قل نظيره، ويمتلك مواهب وقدراتٍ فنية استثنائية ومتكاملة، جمعت فنون المسرح والشعر والموسيقى والغناء والثقافة الواسعة، وجعلته من أبرز عظماء الفن السوري، فهو من مُنح لقب “رائد المسرح العربي”،  وحمل اسمه أحد أهم وأعرق مسارح دمشق.   

مسيرته الفنية    

تعلم القباني القراءة والكتابة في الكتاتيب وأتقن أصول النحو والصرف والبيان والبديع. وكان منذ صغره، يتردد بشكلٍ دائمٍ على حلقات الذِكر والإنشاد والموالد والزوايا الصوفية، وقد ظهرت عليه موهبة الموسيقى والغناء والتمثيل وهو في الثانية عشرة من عمره. بدأ القباني مسيرته الفنية بتقديم بعض الاسكتشات المسرحية في مقاهي وأحياء دمشق وبيوتها العريقة، حيث قام بتحويل شخصيات خيال الظل (الفن المسرحي الوحيد الذي كان سائداً في سوريا آنذاك) التي كان يُحرِّكها الحكواتي ويتحدث بلسانها بأصواتٍ مختلفة، إلى شخصياتٍ مجسَّدة يؤديها الممثلون بحضورهم الفعلي على المسرح، ويُعتبر حينها أول من صنع مسرحاً في سوريا والوطن العربي (ولو في شكله البسيط)، وكانت معظم عروضه تستقي موضوعاتها من حكايات التاريخ العربي والتراث وتلعب دوراً توعوياً وتنويرياً، ولكي تصل إلى ذائقة الناس، كان يمزجها مع الألحان والأغاني والموشحات والرقصات المتنوعة (كرقص السماح) التي كان يؤلفها لخدمة العرض المسرحي لتكون جزءاً محورياً منه، وهو ما شكل الولادة الأولى للمسرح الغنائي العربي، الذي انتشر، فيما بعد، بشكلٍ كبيرٍ على يد الرحابنة وفيروز. 

 قدم القباني أول عرضٍ مسرحي من تأليفه عام 1871 وهو بعنوان “الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح “، ولم يكن حينها مجرد مؤلفٍ  مسرحيٍ  وموسيقيٍ فقط، بل كان مُخرجاً ومصمم ديكورٍ وأزياء.  ويُعتبر ذلك العرض الانطلاقة الحقيقية لأول مسرحيةٍ سورية متكاملة، وقد حضرها والي دمشق آنذاك صبحي باشا فشجعه على تقديم العروض خارج نطاق البيوت وعلى تشكيل فرقةٍ مسرحية، شكَّلها القباني مع عددٍ من أصدقائه المنشدين، وكان بعضهم يؤدي دور الشخصيات النسائية التي تحتاجها المسرحيات، ولتقديمها بأفضل شكلٍ ممكن لجأ القباني لاستخام تقنية الماكياج، وقد وضع حينها الأسس والقواعد الأولى  لفن المسرح، ثم أنشأ بين عامي 1874 و 1875 أول مسرحٍ مُجهزٍ للعرض في دمشق (يُعتقد أنه في منطقة القنوات)، قدم فيه عشرات العروض. وبعد الإقبال الجماهيري الكبير على مسرحه وانتشار الحديث عنه بين الناس، واجه صعوباتٍ وتحدياتٍ كبيرة، أجبرته على إيقاف نشاطه المسرحي، بعد تعرضه لعداء ومضايقات بعض رجالات الدين، الذين ثاروا عليه بحجة تقديمه لمسرحياتٍ زعموا أنها مخلَّة بالآداب كونها تتحدث عن الحب خارج نطاق الزواج وتجعل الرجال يتمثلون بالنساء وتُقلل من شأن بعض الشخصيات التاريخية، كالمسرحية التي تحدثت عن هارون الرشيد. 

 وفي عام 1878 وبعد قدوم مدحت باشا إلى دمشق ليكون والياً جديداً عليها، قدم للقباني الدعم اللازم ليحيي نشاطه المسرحي مجدداً، فقام بإنشاء مسرحه الجديد في “خان الجمرك”، وأعاد تشكيل فرقته المسرحية الخاصة عام 1879 وقدم معها نحو أربعين عرضاً، وبدعمٍ من مدحت باشا أقام القباني مسرحه الصيفي في حي باب توما ليبتعد عن مضايقات رجالات الدين، ورغم ذلك ثارت عليه فئة جديدة من الشيوخ فقاموا بإحراق مسرحه وأرسلوا وفداً منهم لمقابلة السلطان العثماني، الذي أوعز لرجالاته بإيقاف مسرح القباني، وهو ما أجبره على مغادرة دمشق نحو مصر. 

قدم القباني خلال حياته عشرات المسرحيات، وقد نُشر بعضها في مجلدات ، ومن بينها: “عنتر بن شداد”، “السلطان حسن”، “أبو جعفر المنصور”، “الأمير محمود نجل شاه العدم”، “حيل النساء”، ” عفيفة”، “لباب الغرام”، ناكر الجميل”، “هارون الرشيد مع أُنس الجليس”، و”هارون الرشيد مع الأمير غانم بن أيوب وقوت القلوب” وهي المسرحية التي اختارها المسرحي الكبير الراحل سعدلله ونوس لتكون جزءاً من عرضه المسرحي سهرة مع أبي خليل القباني .  

موشحاته وأغانيه 

القباني الذي أُنصف مسرحياً وحمل لقب “رائد المسرح العربي” لم يُنصف موسيقياً كما يليق بنتاجه الإبداعي والفريد، الذي شكل علامةً فارقة في تاريخ الموسيقى العربية، فكثير من المطربين والفرق الموسيقية الذين قدموا أعماله كانوا ينسبونها إلى الفلكلور وفي بعض الأحيان للفن الأندلسي أو يكتفون بذكر أنها لحن وشعر قديم، دون الإشارة إلى القباني. ويعود الفضل في إحياء مؤلفاته لبعض تلامذته الذين اكتسبوا مهارات فائقة في الحفظ والغناء، في عصرٍ لم تكن متاحة فيه تقنيات التسجيل أو التدوين عن طريق النوتة الموسيقية، كما كان للشيخ الحلبي علي الدرويش دور كبير في تدوين بعض أعمال القباني وتسجيلها برفقة فرقة إذاعة حلب. 

ورغم مرور قرنٍ وعقدين على وفاته مازالت موشحاته، ببديع أشعارها وعبقرية لحنها المُبتكر والمتنوع مقامياً وإيقاعياً، تغني مكتبة الموسيقى العربية، وقد أضافت قيمةً فنيةً كبيرة لمسيرة الفنانين الذين قدموها طوال العقود الماضية.

 ومن أشهر موشحات القباني: موشح  بالذي أسكر  (ويعتقد البعض أن أصله أندلسي. قدمه الرحابنة مع فيروز ضمن موشح “جادك الغيث”، في ألبوم “أندلسيات”، كما غناه الفنان صباح فخري، والكثير من المطربين والفرق الموسيقية)، موشح يا غصن نقا (غناه كبار فناني العالم العربي، من بينهم فيروز، صباح فخري، الشيخ إمام ولطفي بوشناق)، موشح ما احتيالي (غناه صباح فخري، سعاد محمد، ماري جبران، والمنشد حسن الحفار، وعمر سرميني وغيرهم)، موشح يا من لعبت به شمول (غناه صباح فخري، نور الهدى، مارسيل خليفة ورشا رزق وغيرهم )، موشح راق أنسي (قدمته العديد من الفرق الموسيقية السورية كالفرقة الوطنية للموسيقى العربية وأوركسترا قصيد)، موشح  كللي يا سحب (غناه صباح فخري وكورال الفرقة الوطنية للموسيقا العربية)، موشح محبوبي قصد نكدي  (غنته الكثير من الفرق الموسيقية السورية والعربية وكبار المطربين والمنشدين، مثل صبري مدلل وحسن الحفار)، موشح نمَّ دمعي من عيوني (غناه كبار المطربين العرب كالفنانة اللبنانية غادة شبير)، وموشح مالي عيني أبصرت، الذي تشير بعض المراجع إلى أن القباني كتبه ولحَّنه وهو يصف واقع حاله عندما كان على متن الباخرة مغادراً سوريا نحو مصر، ويقول مطلعه: “مالي عيني أبصرت أرضنا قد أقفرت.. وغدا الظبي بعيد وبكائي لا يفيد..  طاب لي فيها الهوى واستقرت بالنوى.. عاملتني بالجفا وهي لا تدري الوفى”.  

وهناك الكثير من الموشحات التي لم تنل حظها الكبير من الشهرة، لكنها كانت ومازالت تُشكل مرجعاً غنياً للباحثين في كنوز التراث الموسيقي ولمن أراد تعلم أصول وفنون الموشحات والإيقاعات المركبة، ومن بينها: موشح عيد المواسم ،  آه من جور الغوالي ، يا من رمى القلب وسار، كيف لا أصبو لمرآها الجميل ، شمس كأس الراح ، بالنهاوند الكبير ، بالله يا باهي الشيم  و برزت شمس الكمال

ويعود الفضل في نشر بعض موشحاته النادرة لتسجيلات فرقة الموسيقى العربية في مصر، بقيادة عبد الحليم نويرة، ومن بينها: موشح رُصع اللجين بياقوت ،  شَجني يفوق على الشجون ، أدر راحتي ، اشفعوا لي يا آل ودي و شادنٌ صاد قلوب الأمم.

إلى جانب الإرث الغني من الموشحات، قدم القباني الكثير من الأغاني التي تميزت بعذوبة وعُمق كلماتها، وبلحنها الرشيق الذكي، الذي يُناسب ذائقة الموسيقي المحترف والمتلقي العادي في آن معاً. ورغم تحولها إلى فلكلور مازالت معظمها تنسجم مع ذائقة العصر الحالي، وتتسم بالجدة والحداثة ويغنيها أغلب مطربي اليوم. ومن أشهر تلك الأغاني أغنية يا طيرة طيري يا حمامة ، يا مال الشام ، صيد العصاري ، يا مسعد الصبحية ، ع الهيلا الهيلا الهيلا يا ربعنا – التي تعتقد بعض المراجع أنه ألَّفها وغناها على متن الباخرة، بصحبة فرقته، خلال رحلتهم التاريخية إلى شيكاغو وأغنية يا يوم حبيبي التي سجلها في أمريكا خلال الرحلة ذاتها، حيث تُعتبر أقدم أغنية عربية مسجلة على أسطوانة، مازالت محفوظة في مكتبة جامعة هارفارد. 

رحلته إلى مصر 

سافر القباني إلى الإسكندرية عام 1884 برفقة نحو خمسين فناناً وفنانة، وقدم فيها عشرات العروض المسرحية، ثم انتقل إلى القاهرة، حيث اجتمع بالخديوي توفيق الذي وضع مسرح الأوبرا الشهير  تحت تصرفه ومنحة مكاناً في ميدان العتبة الخضراء لكي يبني فيه مسرحه الخاص. ولتشجيع ودعم نشاط القباني قام الخديوي بحضور عرضه المسرحي “الحاكم بأمر الله” برفقة بعض رجالات الدولة. وقد ساهم القباني آنذاك في إحياء النشاط المسرحي المصري، الذي ازدهر خلال وجوده فأغنى الحركة الثقافية في البلاد وباتت المسرحيات وعروض الأوبريت التي يقدمها نماذج قيّمة يُحتذى بها، تُنافس بعض العروض الأجنبية أو العربية المستقاة من النصوص المترجمة من لغات أخرى. إلى جانب ذلك كان للقباني دور بارز في تعليم فنون المسرح والموسيقى لكبار فناني مصر، ومن بينهم: محمد كامل الخلعي وسلامة حجازي وعبده الحمولي، الذي كان يؤدي معه الفواصل الغنائية في بعض المسرحيات، كما تأثر بمسيرته الفنية فنان الشعب سيد درويش. وتكريماً لجهود القباني الفنية وتخليداً لذكراه أُطلق اسمه على أحد شوارع الإسكندرية. 

رحلته إلى شيكاغو 

خلال العقود الماضية بقيت حادثة رحلة القباني إلى شيكاغو غير مؤكدةٍ، إلى أن نشر الباحث تيسير خلف كتابه “من دمشق إلى شيكاغو” الصادر عام 2018، والذي أكد من خلاله حقيقة تلك الرحلة، مستعيناً بمجموعة كبيرة من الوثائق والصور، المأخوذة من الأرشيف العثماني والأمريكي والعربي، إلى جانب بعض الصحف المنشورة في تلك الفترة. وبحسب خلف، سافر القباني إلى شيكاغو عام 1893 برفقة فرقة “مرسح العادات الشرقية”ً (كان المسرح يسمى مرسحاً في ذلك الوقت) التي ضمت أكثر من خمسين  ممثلاً وموسيقياً وراقصاً، من سورية وفلسطين ولبنان، حيث تلقت السلطنة العثمانية دعوة موقعة من الرئيس الأمريكي بنيامين هاريسون عام 1891 للمشاركة في “معرض شيكاغو الكولومبي”، بمناسبة مرور ذكرى 400 عام على اكتشاف أمريكا ، وقد حاول السلطان العثماني إبراز الوجه الثقافي للسلطنة العثمانية فاستعان بالقباني، الذي كان أول فنان عربي يزور أمريكا، حيث قدم  مع أعضاء فرقتة -الذين تدربوا على أدوارهم نحو ستة أشهر قبل السفر- نحو ثمانية عروضٍ، تحدثت عن عادات الشرق وفنونه وموسيقاه، وتضمنت الرقص والموشحات والأغاني وبعض اللوحات الفنية التي تستعرض جانباً من الطقوس السورية. ومن بين تلك العروض : “هارون الرشيد”، “عنتر بن شداد”، “الدراما الكردية”، ” الدراما القلمونية”، “عرس دمشقي”، “العروس التركية”، و”الابن الضال”. وقد شكلت عروض القباني تفاعلاً ثقافياً هاماً بين منطقتي الشرق الأوسط والغرب، وكان لها الأثر الكبير في أمريكا ولاقت اقبالاً جماهيرياً واسعاً،  تحدثت عنه بعض الصحف، بل أن بعض المصادر  أشارت إلى اتهام النقاد الأمريكيين الكاتب المسرحي جيمس ماثيو باريس باقتباس حبكة مسرحيته “قصة حب البروفيسور” من حبكة مسرحية” الدراما القلمونية” التي قدمها القباني هناك.    

توفي القباني بين عامي 1902 و1903 بمرض الطاعون، الذي اجتاح البلاد آنذاك، تاركا وراءه إرثاً فنياً، حَفر اسمه في سجل الخالدين، ومازال الفنانون ينهلون منه جيلاً بعد جيل.  

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

 قُدّاسٌ لراحة نفس أنطاكية

 قُدّاسٌ لراحة نفس أنطاكية

ترجمة: أسامة إسبر

في منتصف الليل أيقظتْني

أصواتٌ صادرةٌ من أقصى الحَلْق

لأرضٍ تهتزُّ

لصرخاتٍ، وصيحاتٍ

لغبارٍ حَجَبَ السماءَ بضبابهِ

لبرقٍ ومطرٍ وثلوجٍ

وبردٍ بعثَ القشعريرة في الجلد

لليلة نهاية العالم

أم هل انبلج الفجر؟

للظلام

والفوضى

والفقدان…

نعم، فقدان

قصصٍ قديمةٍ

وأحجارٍ عريقةٍ

وفسيفساء تَحطَّمت

فوق عشّاقٍ قدامى.

هل كانوا ما يزالون متعانقين؟ 

ما هذا الحلم الذي يسكنني؟

أرى هذا من فراشي البعيد.

دموع، دموع تُذْرف

على أشخاص لا أستطيع الوصول إليهم.

أرى يداً تشير:

أنا حيٌّ

لا تتركوني.

أنا هنا

تحت السَقْف

تحت السماء.

ترتفع يدٌ كيد الله

(كما في جدارية مايكل أنجلوخلق آدم“) 

ها أنذا هنا

لا أستطيعُ التنفس…

تحت ركامِ

الأثاثِ المحطّمِ

والأحلامِ المُجْهَضةِ،

تحت الأحجار والمعادنِ.

حتى يد الله لا يمكن أن تصل إلى هنا!

أتساءلُ، ما الذي فَعلْتَهُ في آخر يومٍ من حياتكَ يا عمّي؟

هل سرتَ في شارع القصر واشتريتَ جريدةً

ثم تجوّلْتَ في الأزقة البيزنطية القديمة

قبل أن تصل إلى المقهى حيث

جلستَ على المصطبة مع أصدقائك القدامى

ودخنت سيجارةً، واحتسيتَ فنجان قهوةٍ تركية

وربما لعبتَ الطاولةَ أو الشطرنج

شكوت من السياسة أو الاقتصاد

أو ألم الصدر؟

هل كان بوسعك أن تعرف أنّ هذا كلّ ما كان موجوداً؟

لو عرفتَ، ما الذي كنت ستفعلهُ؟

أم هل كنت ستفعل أي شيء؟

هل كنت سترتّب أوراقكَ؟

هل كنتَ ستخطَّ رسالةً؟

رسالةَ وداعٍ؟

رسالةَ حبٍّ؟

رسالة تروي قصة حياتك؟

رسالةَ غضبٍ، قبولٍ، خوف؟

رسالة إلى ذريتك؟

ما الذي كنت ستكتبه؟

ما الذي أكلْتهُ يا عمي،

في عشائك الأخير؟

هل تناولتَ وجبة شرقية؟

هل تناولت الكبة أم الكباب؟

الأرز والسلطة؟

القليل من الزعتر على خبزك

خبز الحياة (ربما ليس هذه المرة)

ربما أكلت قطعة بطيخ كي تغسل فمك

أو قطعة بقلوى بالفستق الحلبي

أو لقمة كنافة منكّهة بماء الورد؟

ربما احتسيتَ جرعة عَرَق

فأنت تحبُّ حليب السباع ذاك

المصنوع من عنب مقطّر وبذور يانسون.

والذي أحبُّ رائحته

لكن بالطبع، عمتي لن تشرب منه.

فهي تفضّلُ أن تشرب الشاي 

 في الكأس الشفافة التي نُقشت عليها أزهار الزنبق.

أتساءل إن تناولتَ وجبتك الأخيرة

معها،

مع العائلة والأصدقاء

بمتعةٍ

وتقاسمتم الطعام

كما نُظهر حبنا،

حبنا،

وخسارتنا.

لا أحد يذكرُ القطط أو الكلاب الشاردة

أو الطيور التي تحلّق محذرة،

أمواج البحر

أو الأغصان المتكسّرة في النهر.

أترى يا عمي،

لقد وُلدْنا كي نموت، أليس كذلك؟

أنتَ لستَ وحيداً.

لكننا نقرّرُ ما نفعلهُ بين الولادة والموت،

أليس كذلك؟

إنه فعلُ الحياة

البقاء في الحاضر.

كيف عشتَ يا عمي؟

هل جَعلْتَ حياتكَ تستحقّ النَفَس الذي تتنفّسه
لشغل مساحةٍ على هذه الأرض؟

كيف نحدّدُ قيمةَ حياتنا؟

هل هي متعةُ المعرفة، الشعور،

الحبّ،

هذه اللحظة التي نحن أحياء فيها

ونقدّر كل نَفَسٍ نتنفسه؟

أم أنك لم تعد قادراً على الشعور،

صرت مخدراً

إزاء الوجود كالبعض؟

هل غادرتَ هذا العالم مديناً لأحد يا عمي؟

ربما بالحب، أو النقود، أو ربما باعتذار؟

ما هي العبارة المتداولة القديمة؟ عشْ حياتك كما لو أن كل يوم

هو يومك الأخير.

هل فعلتَ هذا، يا عمي؟

أم هل حددتَ الوقت فحسب؟

لا نعرف أبداً متى تنتهي حياتنا.

لا نعرف أبداً متى تسقط الكارثة من السماء.

أو تخرج من الأرض،

لا نعرف حقاً.

كنتَ حافظَ سجلات

أسلافنا، دمنا.

هل سيتذكّرُ أحد ما قصصك،

ويروي حكاية آمالك

وأحلامك ورغباتك؟

ما زلتُ غير قادرة على فهم لماذا كان يجب أن تغادرنا

بهذه الطريقة الدرامية،

وتُدفن تحت طبقات.

لم نملك الفرصةَ كي نودّعك

كي نغسل جسدك،

كي ندفنك ونحن نصلي

كي يحملك الأحباء إلى قبرك.

لم تكن هناك أزهار

ولا حديقة جميلة للأرواح.

أم هل من المحتمل أن زيوس أرسلَ صاعقة

شقَّ الأرض بعصاه

وزرعكَ كبذرة في رحم الأرض

كي تولد مرة أخرى

كي تنمو من جديد

مثلما حين يموت نجم

ويصبح مهداً لنجوم أخرى؟

وها أنت هنا يا عماه،

عناصر نجمة.

نجمة فيك.

إذاً، يا عمي العزيز

أصلّي لك كي تنعمَ روحك في الفردوس

أصلّي لك كي لا تشعر بألم حين تأتي الملائكة

أن تكون بخير أينما حللت.

أستطيع أن أشاهدك الآن.

يوماً ستستيقظ شاعراً بالشمس

فيما ملكة الشرق تعاود ظهورها

فوق ذلك الجسر المؤدي إلى طريق الحرير

متألقة 

كالألماس

فوق نهر العاصي. 

يمكن الاطلاع على هذا لقاء مع الشاعرة بعنوان “أخيراً، عثرتُ على جذوري: حوار مع الشاعرة والفنانة التشكيلية الأمريكية من أصل سوري أريكا هيلتون