كي لا تصبح دمشق سجناً لأبنائها مرة أخرى

كي لا تصبح دمشق سجناً لأبنائها مرة أخرى

بين اللطم المشهديّ في الشوارع “ولبّيك يا حسين” إلى “أعزّنا الله وأذلّكم”، و”الشام عادت إلى أهلها أمويّة أمويّة رغم أنف الحاقدين”، وفي ظلّ حملةٍ أمنية متبّلة، في بعض تصريحاتها، ببهارات الانتصار الطائفية، ومشهدية صارخة لمعاملة الآخر المعتقل كحيوان وإجباره على النباح أو العواء، وفي غياب شكل تمثيليّ واضح للحكم في سورية، تأفل بلاغة المهزومين، الذين يُخْتزلون بكلمة فلول، وتسود بلاغة المنتصرين، الذين يحكمون شفوياً ببلاغة المنتصر على غيره. تُمْحى شعاراتٌ، وتُطْلقُ  شعارات جديدة ، تُزال المساحيق عن هويّات، وتنفضُ هويات أخرى عن نفسها غبار الكبت والتهميش وتستيقظ، لكنّ الثقافة التي تقود الحياة هنا لم تتغيّر من حيث الجوهر، كمثل جدران المدينة التي وقعت في شبكة هندسة عمارة عشوائية في متنها وهوامشها. وفيما تنبري الأقلام للحديث عن “نظام الأبد” وسقوطه، وما بعده، يطلُّ وجه المدينة المعماريّ المدمّر في بعض أجزائه، والمتآكل والمتسخ والمتشقق، على مجهولٍ يصعب اكتناهه، وتبقى مرحلتها الانتقالية طحيناً يحتاج إلى من يعجنه كي يخبز رغيف التمدّن والمواطنة، ويقدمه على مائدة الحاضر بينما تستيقظ ثقافة الاتباع المقموعة وتكشّر عن أنيابها.

اختُزلت دمشق في السياسة وصراعاتها، في الدين وتمذهباته، في الانقلابات والتهميش والتفرد بالسلطة والأيديولوجيات الإلغائية الأحادية، في التنكيل الأمني والبراغماتية المزدوجة، وغابت دمشق الثقافة والمواطنة والحرية والديمقراطية، لكن دمشق ليست سياسة فقط بل جيل جديد مختلف من الشبان والشابات جائع للحياة الكريمة، هي ماض وحاضر ومستقبل وعمارة واجتماع وحداثة وتخلّف وتقدّم ورجعيّة وسلفيّة وراديكاليّة، هي سنة وشيعة وعلويون وأكراد وشركس وأرمن وتركمان ومسيحيون ودروز وإسماعيليون، وهي أيضاً علمانيون ويساريون وقوميون وسلفيون وأصوليون ومتدينون غير مسيسين وملحدون وصوفيون وبشر عاديون لا يُصنّفون في هذه القوالب، وهي شعراء وسينمائيون ومسرحيون ونحاتون ورسامون وصحافيون ومفكرون  وموسيقيون ورياضيون ونساء يناضلن من أجل قضايا النساء وجمهور متعطش إلى أن يعيش حياةً مدنية، أن يتنفّس هواء الحرية، التي حُرمَ منها على مدى عقود. 

قضى حزبُ البعث على الثقافة، وقاد الدولة والمجتمع إلى الخراب. وفي ظلّ نظامه العسكريّ لم يعبر في سوريا وزيرُ ثقافةٍ واحد صنعَ ثقافةً حقيقيةً، ولم يعبر وزير تربيةٍ بنى مدرسة حقيقية، أو وضع مناهج تواكب العصر وتطور المعرفة، ولم يُعيّن وزير دفاع انتصر في معركة حقيقية، أو وزير إعلام صنع صحيفة حقيقية تستحقّ القراءة، أو يمكن تُقارن، على سبيل المثال، بالصحف اللبنانية الرائدة. ولم يستقل أي من هؤلاء احتجاجاً حين لم يحدث ذلك. كانوا كلهم قابلين بالوضع القائم ومتنفعين من سلطة الوظيفة.  وكان السوريون، الذين يحملون فكراً مغايراً، ينشرون في صحف خارج البلاد، والقراء الحقيقيون يهرّبون ما يقرأونه لأن مدينتهم لم تكن مدينة ثقافة، كانت مدينة سياسة مراقبة أمنياً، ومفصّلة على مقاس “القائد الخالد” ووريثه. وفي هذه الظلال كانت دمشق تخون المدينة كتمدّن وتحضرّ وانفتاح وعمران، تتوسع عشوائياً وتزدحم وتضيق بسكانها، وتنتقل من هوية قسرية إلى أخرى في إعلانات استعراض القوة والهيمنة على شاشة السياسة. ونسمع اليوم عبارات وتصريحات مفخّخة مفادها أن دمشق عادت إلى أهلها، فهل الأهل الذين عادت إليهم ديمقراطيون ومنفتحون يؤمنون بدولة المواطنة أم أيديولوجيون ومذهبيون، لا يجسّدون دولة المدينة، ولم ينتظموا بعد في شكل حكم يعكس التنوع والتعدد السوري؟

ثمة من يصوغ في دمشق سرديةَ صراعٍ بين هويتي الغالب والمغلوب، ويشحنها بالأيديولوجيا، وكلتاهما قسرية ومستعادة، ماضوية وسلفية، لا وجود فيها للآخر، المُخوّن والمكفّر. تتواشجُ هذه السردية مع قبح الهوية المعمارية، ذلك أن جمال العمران في دمشق موضع شبهة، ليس فيها فنّ عمارة يمنحها هوية جمالية، كما أن خصرها مطوّق بأحزمة بؤسٍ من بيوت مرتجلة وعشوائية مخالفة بُنيت بين عشية وضحاها، ومهددة حتى بالهزات الخفيفة على مقياس ريختر.

في كتابها (حياة وموت المدن الأمريكية الكبيرة) الصادر سنة ١٩٦١ تحدثت جين جاكوبس (١٩١٦-٢٠٠٦) عن هوية المدن، ودعت إلى تصميم معماريّ أكثر عضويةً للمدينة يتمحور حول الإنسان لأنّ هوية مدينة ما ليست نتاج هندسة عمارة مهيبة، أو تصميمات تذكاريّة فحسب، بل تُبنى من خلال التفاعلات اليومية لسكانها. وتحدّث باحثون آخرون عن مدن تتوحّد فيها البشرة البيضاء مع السمراء، ويتجاور مطعم إثيوبي مع آخر ياباني وصينيّ وعربي ومكسيكي وإيطالي، ويتجاور معبد بوذيّ مع مسجد أو كنيسة أو كنيس، وهناك أيضاً البار والمقهى، ويعيش في المكان الملحد والمؤمن واللاأدري، والراديكالي وغير المكترث بهذا كله، وتسير المرأة محجبةً أو سافرة دون خوف. وتولد في المدينة حياة شارع حية، بوجود جماعات متنوعة تنغمس في أنشطة يومية، تكوّن بذلك هويتها. فالتنوع الثقافي والعرقي والقومي والديني، في تجلياته الحضارية والثقافية المنفتحة والمعانقة للآخر، هو الذي يصنع المدينة، ودمشق لا قيمة لها إلا في إطار العناق بين ابن الريف وابن المدينة، ابن الشمال وابن الجنوب، ابن الساحل وابن الداخل، ابن البادية وابن السهول والجبال،  وبين الكردي والعربي، وبين المسيحي والمسلم، ولا قيمة لها من دون خصوصية درزية وخصوصية إسماعيلية وخصوصية شيعية وخصوصية سنية وخصوصية مرشدية وخصوصية علوية وخصوصية مسيحية، شرط ألا تتعدى هذه الخصوصيات حدود الإيمان والعلاقة بين الذات وخالقها، وألا تفرض نفسها على الآخر من خلال السياسة القمعية. وهذا لا يتحقق إلا  في دولة مواطنة، تمثل الفروق، وتحميها، وتنطق باسمها من أجل مصلحة الجميع.

 إن دمشق خلطة قابلة للتطوير مفتوحة على مزيد من التنوع وهذا ما يمكن أن يمنحها هوية جمالية وثقافية وحضارية استثنائية، وبسبب هذه القوة الحضارية الكامنة فيها لم تصمد الدكتاتورية العسكرية، ولن تصمد الدكتاتورية الدينية، ولهذا لم تصبح مدينة للطم، كما لن تصبح مدينة أموية بالمعنى الأيديولوجي. لن تكون دمشق النقية الصافية التي لوّثها غبار الأرياف، الذي تحدثت عنه جمعيات أرستقراطيي دمشق، الذين كانوا يعيشون في منازل فخمة ويرتادون الفنادق والمطاعم الفاخرة ويظنون أن أفقهم هذا هو المدينة الحقة. إن ما يمنح دمشق عظمتها هو هذا الخليط العجيب، الفسيفساء السورية الإبداعية، التي يجب أن تصنعها الآن بالمعنى السياسي والثقافي، ذلك أن الهوية مستقبل وليست ماضياً، إبداع ينطق بمكونات الحاضر، ويقودها نحو أفق جديد من الانسجام، وليست استعادة لشكل من الماضي.  وإذا كان لونٌ قد طغا على آخر في لعبة السياسة، وبفعل الاستبداد ودكتاتورية الأسد العسكرية المتوحشة، التي قامت على التغول الأمني، فإن لوحة دمشق بحاجة إلى إعادة رسم بألوان متعددة تعكس تنوعها الثقافي الفريد. ولهذا لن تكون دمشق سنية ولا علوية ولا شيعية ولا مسيحية ولا درزية ولا إسماعيلية، لأنها القلب الذي يجب أن ينبض بهذا التعدد كله، وبمن يصنعون لوحتها الفريدة في شكل حكم متطور وديمقراطي، ما يزال حلماً، شكل حكم يحتضن المواطنة الحقة، المحمية بالحقوق. وإذا كانت دمشق ستعود إلى أهلها يجب أن تعود إلى أهلها مواطني دولة المواطنة والقانون، إلى من يجعلون منها مدينة فريدة بتعددها وألوانها الثقافية، تزهو بين الأمم، لا إلى أهلها المفرغين في قوالب مذهبية وأيديولوجية أحادية التوجّه والبعد، لهذا يجب ألا يُنظر إلى دمشق كمدينة مكتملة تعيش في الماضي، يمكن أن تُسْرَج وتُلْجَم مذهبياً، أو ”نوستالجياً“، بل بوصفها مشروعاً مفتوحاً على البناء والتطوير المتواصل في أفق الحرية.

لقد دمّر عنف السلطة الاستئثاري بكرسي السلطة دمشق على الصعيد العمراني والاجتماعي، ولهذا تحتاج إلى علاجٍ في غرفة العناية الفائقة لأبنائها المؤمنين بها كمدينة للجميع، وإعادة نظر في هويتها كمدينة معمارياً، ذلك أن نظام البعث لم يكن يهمه إلا ”تماثيل القائد الخالد“ وتماثيل ابنه، ولم يصرف على الارتقاء بجمال العمران، وحين ثار عليه ريفها دمّره دون رحمة. وما يبدو جلياً في دمشق هو تشوهها المعماري واتساخها وضيق شوارعها وتخلخل بيوتها وغياب أفق التنفس والمواصلات المريحة والحياة الكريمة. أما في دمشق القديمة على سبيل فليس هناك انسجام جمالي بين العمارات، وتهيمن عليها النزعة التجارية الاستهلاكية، وتحولت البيوت القديمة فيها إلى مطاعم وحوانيت وبارات.  ويفتقر القسم الحديث من دمشق إلى تناغم معماري، إذ تختلط المباني التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية مع العمارة العثمانية والمباني الحديثة من حقبة ما بعد الاستقلال، ما شوّه وجزأ هويتها المعمارية.

ما يريده السوريون عموماً في النهاية هو مدينة جميلة ونظيفة يسودها التمدن وتزدهر فيها الثقافة والصحافة الحرة ويسكنها المواطن، ابن دولة المواطنة، التي يتم فيها تداول السلطة ديمقراطياً بانتخابات نزيهة، مدينة لا تختزل أبناءها في طوائف، ولا تقولبهم في توجهات سياسة أو مذهبية أحادية، وتحرس حريتهم كي يعاودوا رسم هويتهم الفردية، وابتكار انتماءاتهم في هذا الضوء. بالتالي لا شيء إلا فضاء الحرية هو الذي يسمح للذوات التي تعكس التعدد والتنوع الثقافي بأن تكبر بنفسها وبمنجزها وتتناغم حضارياً وسياسياً وثقافياً، وتبدع وجودها المدنيّ، وتبني المؤسسات والمعايير الاجتماعية المشتركة، وأنظمة التعليم التي تعزز الهوية المدنية وتنتقل من الإنسان المتمذهب والمفرغ في قوالب إلى الإنسان المتمدن، العام، المتجاوز للحدود العشائرية والطائفية والعرقية، والمتمرد على القوالب التي يفصّلها عميان الأيديولوجيا.

فنانون تشكيليون سوريون يتحدثون عن وضع الفن في ضوء التحولات السياسية 

فنانون تشكيليون سوريون يتحدثون عن وضع الفن في ضوء التحولات السياسية 

تُعَدّ سوريا من البلدان الغنية بتنوعها الثقافي والفني، وبعد سقوط نظام الأسد، تبرز الحاجة إلى مناقشة مستقبل الفن التشكيلي في سوريا وتحدياته وآماله في ظل المتغيرات السياسية المرتقبة.

الادعاء بأن نظام الأسد كان راعياً للفن والفنون بمعزل عن الرقابة هو جزء من زيف النظام الذي تمحور حول تقديم نفسه كمجسد للصورة العلمانية والديمقراطية. وفي حين أنه كان يزعم أنه يدعم الفنون، كان الواقع عكس ذلك. فقد خنقت الرقابة الحريات العامة وحرية التعبير، ما أسهم في خلق مناخات خنقت الإبداع وحدت من تطلعات الفنانين. وأحدثت هذه التناقضات بين الادعاءات والواقع الكئيب تأثيراتها السلبية على الحركة الفنية.

سألنا الفنانة رولا بريجاوي عن الرقابة التي فُرضت على الفن التشكيلي خلال فترة حكم النظام السابق، فقالت إنه لم تكن هناك رقابة مباشرة على الأعمال الفنية، ولكن كان هناك منع لوجود موديلات إنسانية عارية. وترى بريجاوي أن أي نظام قادم يمكن أن يفرض رقابة، إلا أنها تعتقد بأن الفن يمكنه تحقيق التواصل مع المحيط الاجتماعي بطرق متعددة وبأدوات متنوعة، ما يجعل الرقابة غير فعالة في النهاية.

قدم النحات سهيل ذبيان رأياً مخالفاً وأكد أن الرقابة كانت قائمة وصارمة، مشيراً إلى أن الفنانين كانوا يواجهون رقابة أمنية مشددة، حيث كانت صالات العرض تحتاج إلى موافقات أمنية قبل إقامة المعارض، بل وقد مُنع عدد من الفنانين من عرض أعمالهم. يبرز هنا الاختلاف في الرأي بين بريجاوي وذبيان، إذ تعبر بريجاوي عن تفاؤل أكبر بشأن قدرة الفن على التكيف، بينما يؤكد ذبيان على الصعوبات الكبيرة التي واجهت الفنانين في ظل النظام القمعي.

يدور نقاش مشروع حول مستقبل الفنون البصرية في سوريا، وخاصة النحت والرسم، حيث يتبنى البعض آراء شرعية تحذر من وجود التماثيل وتصوير المخلوقات الحية. فالرأي الشرعي الذي يعتبر الأصنام محرمة، وجد صداه في تحطيم عدد من تماثيل شخصيات تاريخية في عدة محافظات سورية بعد سقوط نظام الأسد. علاوة على ذلك، يُعد تصوير الإنسان والمخلوقات الحية موضوعًا مثيرًا للجدل يستوجب النظر إليه بعناية في السياق الثقافي والديني.

في هذا الإطار، من المهم فتح الحوار بين الفنون والتفكير الشرعي، ما قد يسهم في إيجاد توافق يسمح بتطور الفنون ضمن المعايير الثقافية والدينية المقبولة. وأوضح الفنان سهيل أن الفن لا يمكن أن يزدهر في بيئة فكرية تضيق عليها الحدود، مع التأكيد على أن الثقافة الفنية تتعرض للتقليص في ظل تلك التيارات. 

علاوة على ذلك، عبر ذبيان بثقة عن رأيه بأن التطرف ليس له مستقبل في سوريا، وهو ما يعكس قناعته بأن المجتمع السوري يتجه نحو تغييرات إيجابية تفتح آفاقاً جديدة للفن والثقافة.

تعتبر رؤية بريجاوي لمستقبل الفن التشكيلي إيجابية، حيث تتطلع إلى أن يلعب الفن دوراً هاماً في بناء ثقافة حيوية ومجتمع إنساني خالٍ من آثار العنف والقمع. بينما أعرب الفنان محمد أبو زينة عن قلقه من أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية الحالية قد تجعل الفن التشكيلي يبدو كترف بعيد المنال بالنسبة للعديد من الناس.

لكن سهيل ذبيان يعتقد أن التحولات السياسية المقبلة قد توفر فرصة أكبر لحرية التعبير، ما يعزز من مستقبل الفنون البصرية في سوريا. التاريخ يؤكد أن الفنون تتأثر بالتغيرات السياسية، ووجود مناخ حر للتعبير الفني سيساهم في تطوير التجربة الفنية.

تناول الفنانون الثلاثة تأثير المناخ السياسي على الفن التشكيلي، وأشار محمد أبو زينة إلى أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي السيء، مثل الفقر والافتقار إلى الدعم، قد يحدان بشكل كبير من تطلعات الفنانين وقدرتهم على الإنتاج الفني، فالفنان وفقًا له، يحتاج إلى بيئة مُشجعة وتوافر الموارد لإبداع أعمال جديدة .

وفي هذا السياق، أعربت رولا بريجاوي عن قلقها حيال تأثير التغيرات السياسية على فرص الفنانين في التجريب والإبداع. إذ قد يؤدي عدم الاستقرار السياسي إلى عرقلة حركة الفنون، حيث يواجه الفنانون صعوبة في تنظيم المعارض أو الوصول إلى جمهور أوسع. ورغم الظروف الصعبة، ترى بريجاوي أن هناك دائمًا إمكانية للإبداع ، حيث يمكن أن تجد الفنون طرقًا جديدة للتعبير عن نفسها حتى في الأزمات.

أما سهيل ذبيان، فقد أعرب عن تفاؤله بأن الفترات الانتقالية يمكن أن تساعد في إحياء الفن، مشيرًا إلى أن التاريخ يبرهن على أن الفنون عادة ما تزدهر في أوقات التحولات الكبرى. وأكد أنه مع وجود تغييرات سياسية إيجابية، يمكن للفنانين استغلال الفرص لبناء مشهد فني أكثر حيوية وتنوعًا، ما يُعتبر مؤشرًا على انتعاش الثقافة الفنية في البلاد.

في المجمل، يُظهر الفن التشكيلي في سوريا أنه يظل مرآة للمجتمع، تتأثر بتغيراته السياسية والاجتماعية، بينما تبقى الآمال قائمة في أن تعود هذه الفنون لتغذي المشهد الثقافي وتساهم في التغيير الاجتماعي المنشود.

يبقى مستقبل الفن التشكيلي في سوريا مرتبطًا بشكل وثيق بمسعى المجتمع نحو الحرية والتغيير. فبينما قد تواجه الفنون تحديات كبيرة، فإن لديها القدرة على التأقلم والنمو في ظل أي ظروف، ما يجعلها عنصرًا حيويًا في عملية إعادة بناء الهوية الثقافية للمجتمع السوري. يترقب الفنانون عهداً جديداً من الإبداع والتعبير الفني، ويأملون في أن يصبح الفن رافداً حيوياً لبناء سوريا المستقبل.

زكريا تامر بوصلة التمرد الساخرة

زكريا تامر بوصلة التمرد الساخرة

“أكثر قصصي قسوة هي أقل قسوة من الحياة العربية المعاصرة، وأنا لا أستطيع وصف السماء بجمالها الأزرق متناسياً ما يجري تحت تلك السماء من مآس ومجازر ومهازل.. صدّقني الأسطورة أصبحت أكثر تصديقاً من واقعنا المرير” بهذا التوصيف العاصف يلخص الكاتب السوري زكريا تامر (1931) تجربته الإبداعية، وهو واحد من أبرز الكتّاب في سورية والعالم العربي.

يتميز أدب زكريا تامر بأسلوب مكثف ومقاربة لاذعة تضع القارئ في مواجهة مباشرة مع دهشة غير متوقعة تخفيها تفاصيل نصوصه الشهيرة. ويتسم بمزيج متوازن من النقد السياسي والاجتماعي، مع ميل واضح للنقد السياسي باعتباره محوراً أساسياً في العديد من قصصه، كما يتضح في أعماله مثل “ربيع في الرماد”. مع ذلك، لا ينفصل النقد السياسي عن النقد الاجتماعي في أدبه؛ فالسياسة والمجتمع في أعماله متشابكان بشدة.

البدايات الأدبية والانتشار الثقافي

تنبض قصص زكريا تامر بتوتر دائم بين الألم والأمل، مصاغة في حكايات قصيرة مكتظة بالدلالات والرموز، تعالج قضايا جوهرية كالقمع، الفقر، الحرية، والموت. يُطلق على أسلوبه لقب “الضربة القاضية”، حيث تنتهي قصصه فجأة بعبارات قاسية أو مفاجئة تترك القارئ في حالة من التأمل أو الصدمة.

يتسم أسلوب زكريا تامر بالاقتصاد اللغوي والرمزية العميقة، حيث يوجز العالم في عبارات مكثفة تحمل دلالات متعددة. لغته تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها غنية بالإيحاءات، مما يجعل قصصه قابلة للفهم من قبل القارئ العادي، ومؤثرة بعمق لدى القارئ المتمرس.” برع زكريا تامر في خلق عوالم سريالية تعكس قسوة الواقع، حيث وظّف السخرية السوداء لكشف عبثية الحياة تحت وطأة الاستبداد. رموزه المتنوعة-كالحيوانات والأطفال لم تكتفِ بتجسيد القهر، بل عكست توقاً للتمرد. هذا التداخل بين الألم والأمل جعل نصوصه تجسيداً فنياً فريداً. وفي مقال موسعة عن حياة الكاتب أعدها الباحث “عبد المتين” برر كيف أن زكريا تامر “كسر الحواجز في القصة التقليدية السائدة، وفتح آفاقاً جديدة وصوتاً منفرداً في هذا المجال.”

بعد تركه الدراسة عام (1944)، غاص زكريا تامر في ميادين الحياة العملية، حيث شكّلت تجربته كنجار وحداد في دمشق عمقاً إنسانياً انعكس لاحقاً في تصويره لمعاناة الفرد في قصصه. عمل في مصنع للأقفال في حيّ البحصة بدمشق، قضى سنوات هناك يحتك بتلك العوالم القاسية التي أكسبته مرونة وخصوصية في اللغة تحطمت على ضرباتها الفنية تابوهات المجتمع من عادات وتقاليد مغروس في الخوف من الزعيم مهما كان تمثيله المجازي في الحياة، أب، معلم، مدير، رئيس، سلطة، أفكار.. وسواها من التابوهات التي تسعى لقمع الإنسان.

في أواخر الخمسينيات تحديداً عام (1957) من القرن المنصرم، كرّس تامر حياته للقصة القصيرة. بدأ يكتب وينشر في الصحف والدوريات الثقافية، وكان صديقاً مقرّباً من الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط، والذي قدمه لمنابر جعلته على السكة الصحيحة للانتشار، فسحر القرّاء بلغته الخاصة منذ تلك اللحظة.

الأسلوب الفني والرمزية في أدب تامر

وفي العام (1960) بدأ زكريا تامر بنشر قصصه في كتب، كانت أول مجموعة له بعنوان “صهيل الجواد الأبيض”، تتألف المجموعة من (11) قصة تسلط الضوء على حياة الإنسان تحت وطأة التعذيب النفسي، وتُعد من أبرز أعمال زكريا تامر في القصة القصيرة. وبحسب بحث نُشر في مجلة “فكر الثقافية” بعنوان “تجليات صراع الإنسان في صهيل الجواد الأبيض”، حلّل هذا البحث صراع الإنسان تجاه الوجود والعدم، والحقيقة والزيف، كما يكشف عن شعور الإنسان بالعدم والزيف في العصر الحديث ومحاولاته لإنقاذ نفسه من هذا الشعور بحسب قصص تامر تلك. من أجواء المجموعة: “الإنسان الكامل مزيج من القذارة والنبل”، و “أتمنى لو أحطم جبهتي وأمحو بدمها الدموع من الأرض.”

بعد مضى ثلاث سنوات على عمله الأول، أصدر زكريا تامر عمله القصصي “ربيع في الرماد” عام 1963. وجاء في دراسة نقدية بعنوان “ربيع في الرماد لزكريا تامر: تحليل نصي” نشرت في مجلة قلمون، العمل يتميز بتصوير مدينة خيالية تمزج بين الأمل واليأس، حيث يعكس العنوان نفسه جدلية الحياة والموت عبر “الربيع” و”الرماد”. يعتمد زكريا تامر على بناء سردي فريد يرتكز على شخصيات بلا أسماء محددة، مما يعزز الشعور باللايقين والتأويل المفتوح. نقتبس من هذا الكتاب “قالت الأميرة: الدموع في العينين أجمل من الوجه الضاحك. قال المهرّج: الفاجع أن يبكي القلب بعينين جافّتين.” 

بقي زكريا تامر لسنوات يتابع الحياة المتقلبة سياسياً في بلده سورية حتى نهاية الستينيات، بعد أن وضع حزب البعث في سورية يده على الحكم أصدر عام (1970) مجموعته القصصية “الرعد” وتضم 18 قصة قصيرة تجسد بعمق تعقيدات النفس البشرية وتتناول صراعاتها اليومية، والتي وصفها الناشر بأنها “همسات تدور في أروقة الحياة تحدث بأنها ستغدو صراخاً يعلو كرعد ينبأ بصيحة المظلومين والمقهورين”، ومما جاء في دراسة نقدية استشهدت بقصص هذه المجموعة وكانت بعنوان “تجليات التراث في قصص زكريا تامر” ونشرتها (جامعة تشرين السورية): زكريا تامر يوظف التراث العربي والإسلامي في قصصه، بهدف إعادة صياغة الواقع والتعبير عن قضايا الحاضر من خلال عدسة الماضي. التراث يظهر في قصصه كأداة للمقارنة بين الأمجاد القديمة والانهيارات المعاصرة، مما يبرز التناقضات الحادة بين الماضي والحاضر. مثلاً يظهر طارق بن زياد في قصة “الذي أحرق السفن”، حيث يتحول حرق السفن إلى إدانة ضمنية للبروقراطية والفساد الحديث. فيما يظهر عمر المختار كرمز للبطولة التي اغتيلت في ظل قمع القوى الاستعمارية وظلم الأنظمة. أما الشخصيات الشعبية مثل الشاطر حسن وجحا، توظف لتعكس واقع المجتمع بتعبير ساخر ومؤثر.

في عام (1973) أصدر تامر مجموعته القصصية “دمشق الحرائق” التي كانت امتداداً لخط محاكاته النقدية في التعبير عن الألم الإنساني مسلطاً الضوء على قضايا الظلم الاجتماعي، وقهر المرأة، والفقر، والجوع، والقمع السياسي، عبر سرد خيالي ممزوج بالواقعية من خلال 30 قصة قصيرة، يستعرض الكاتب معاناة الأفراد في ظل التقاليد الصارمة والسلطة القمعية، موضحًا تأثير الخرافات والموروثات الثقافية على المجتمع، مما جاء في تلك القصص “في دمشق، كل شيء يحترق: الأحلام، الحب، الضحكات، حتى الصمت نفسه يشتعل”، و “ليس هناك ألم أقسى من أن ترى العالم من حولك ينهار وأنت عاجز عن الصراخ”.

حضور أدبي عابر للحدود

وفي عام (1978) أصدر زكريا تامر مجموعته “النمور في اليوم العاشر”، والتي تسلط الضوء على الشخصيات التي تعيش تحت وطأة الظلم والخوف، لكنها تسعى دائماً لمقاومة الواقع بأساليبها الخاصة. في قصة “النمور في اليوم العاشر”، يروي عن نمر يتحول تدريجيًا إلى كائن خاضع بعد تعرّضه للترويض. هذه القصة، كغيرها من أعماله، تعكس بوضوح نقده العميق لأنظمة القهر والسيطرة. وفي حوار منشور مع تامر بمناسبة حصوله على جائزة سلطان العويس عام (2001) يقول تعليقاً عن القصة الأشهر في هذا الكتاب: “النمر يا عزيزي هو الحيوان الوحيد الذي يستطيع أن يعود الى طبيعته الحيوانية في أيّة لحظة مهما حاولت أن تدعي ترويضه واستئناسه في السيرك مثلاً.. لذلك فإن قصة النمور في اليوم العاشر تعني في المقام الاول أن الإنسان العربي سيعود إلى طبيعته الإنسانية الحقة ليصلح الأوضاع العائلية، والدليل على ذلك ما يحدث في فلسطين المحتلة الآن”.

شغل زكريا تامر مناصب بارزة في المؤسسات الثقافية السورية، منها رئاسة تحرير مجلات “الموقف الأدبي” و”أسامة” و”المعرفة”، بالإضافة إلى عمله كرئيس قسم الدراما في التلفزيون السوري ومساهمته في تأسيس اتحاد الكتاب العرب. أثارت افتتاحياته الجريئة في مجلة “المعرفة” جدلاً واسعاً، خصوصاً تناوله قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية، ونشره مقتطفات من كتاب “طبائع الاستبداد” لعبد الرحمن الكواكبي، ما أدى إلى استقالته في (1980) بعد استدعائه للتحقيق. عمل أيضاً في وزارتي الثقافة والإعلام، وترك سوريا في (1981) ليستقر في بريطانيا حيث واصل نشاطه الأدبي والصحفي. 

الجوائز والتكريمات

أصدر زكريا تامر العديد من أعماله الأدبية عبر دور نشر مرموقة، حيث نشرت دار رياض الريس كتب “نداء نوح” في لندن عام (1994)، و”سنضحك” في بيروت عام (1998)، و”الحصرم” عام (2000)، و”تكسير ركب” عام (2002)، و”القنفذ” عام (2005). كما صدر كتابه “أرض الويل” عن دار جداول عام (2015)، و”ندم الحصان” عام (2018).

كما أبدع تامر في أدب الأطفال منذ عام (1968)، وقدم مجموعة من الأعمال التي تحمل رسائل تربوية وإنسانية، منها “الحمامة البيضاء” و”لماذا سكت النهر” و”نصائح مهملة: عشرون قصة للأطفال”، وغيرها. امتاز بأسلوب يمزج بين الخيال والواقع بلمسة خاصة لم يسبقه إليها أحد، مما يعزز خيال الأطفال ويثري قدرتهم على التفكير النقدي. تُرجمت قصصه إلى عدة لغات، مما يعكس انتشارها وتقديرها عالمياً، حيث استقى مادتها من الطبيعة وعالم الحيوانات، محوّلاً القصص إلى أدوات تعليمية محببة وقريبة من عالم الطفل.

وجه آخر للإبداع

حصد زكريا تامر العديد من الجوائز والتكريمات تقديراً لإسهاماته الأدبية، منها جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في القصة والرواية والمسرحية عام (2001)، ووسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة عام (2002). كما نال جائزة بلو ميتروبوليس الماجدي بن ظاهر للأدب العربي عام (2009)، وجائزة ملتقى القاهرة الأول للقصة القصيرة في العام نفسه. وفي (2015)، حصل على جائزة محمود درويش للحرية والإبداع، ما يبرز مكانته كأحد أبرز كتّاب القصة في العالم العربي.

تمكن زكريا تامر من تجاوز الحدود الثقافية ليصبح جسراً أدبياً يربط بين العالم العربي والمشهد الدولي، حيث تُرجمت أعماله إلى لغات عديدة، مقدمةً نموذجاً إنسانياً شاملاً عن الحرية وكرامة الإنسان، فقد تم ترجمة أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، ليصبح صوتاً عربياً عالمياً يعبر عن قضايا الإنسان بجرأة وعمق. لاقت مجموعته “Tigers on the Tenth Day” استقبالاً نقدياً واسعاً في الأوساط الأدبية الغربية، فيما حظيت قصصه باهتمام أكاديمي في جامعات عالمية، حيث اعتُبرت نموذجاً متميزاً يمزج بين الرمزية والواقعية السحرية. لم يقتصر تأثيره على الترجمات، بل امتد إلى ظهوره في أنثولوجيات أدبية مرموقة مثل “Modern Arabic Short Stories”. وُصف تامر بـ”كافكا العرب”، حيث ألهم بأسلوبه المكثف والسريالي كتّاباً عالميين مهتمين بالحرية ومقاومة الظلم. كما عززت مشاركاته في مهرجانات دولية ومقالاته المترجمة حضوره في المشهد الثقافي العالمي، مما أهّله لنيل جوائز مثل جائزة بلو ميتروبوليس للأدب العربي. برموزه الإنسانية الشاملة، مثل النمر والطائر، استطاع تامر تجاوز الحدود الثقافية، ليصبح أدبه رسالة عالمية عن الحرية وكرامة الإنسان.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد “هاني الراهب” ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه، ودائماً كان قلمه سلاحه المسدد بوجه الطغاة والطغم الحاكمة.

شكل إنجاز هاني الراهب انعطافة هامة في مدونة السرد السورية، وكان سباقاً في اجتراحه لآفاق التجريب بالسرد؛ ومقتحماً لعوالم الحداثة مع إيمانه الراسخ بأهمية توظيف الموروث الثقافي العربي وتطويعه لخدمه مشروعه الحداثي. ولقد ابتدأ هذا المشروع مبكراً وأصدر روايته الأولى ” المهزومون” وهو على مقاعد الدراسة الجامعية في الثانية والعشرين من عمره ونالت في ذلك الوقت جائزة دار الآداب كونها لامست وجدان الفرد العربي المهزوم بفعل انكسارات الواقع وخيبة آمال جيل كامل إثر تداعيات السياسة وإخفاق تيارات المد القومي، وفككت وشخصت الهزائم المتتالية التي أحدقت بالفرد العربي وانتكاسات منظومة الشعارات الرنانة ونتائجها الكارثية في هزيمة حزيران والتي كان لها وقع قاس على الوجدان الجمعي وكانت سبباً في تشظي الذات العربية وخرابها النفسي وضياعها. أكملت روايته “شرخ في تاريخ طويل” تعميق أسباب الضياع الذي عانت منه شخصياته وعلاقتها بمحيطها السياسي على خلفية “هزيمة 48 و”67. وتكرر ذلك أيضًا في روايتي “الوباء” و”بلد واحد هو العالم”.

 وبين أول رواية ” المهزومون”، وآخر رواية ” خضراء كالبحار” والتي أنجزها قبيل وفاته في عام 2000  مرت مياه كثيرة، ومرت أزمان قاربت أربعة عقود، وفي الوقت التي كانت فيه روايته الأولى المهزومون تنطق بمضمونها وتصوّر واقع الشخصية العربية المهزوم في كل شيء جاءت روايته الثانية “خضراء كالبحار” متوجة مجموعة الروايات التي يبدأ عنوانها ب “خضراء” والتي يرصد فيها الحياة العائلية الرتيبة حيث الأمان والاستقرار يفتقد النبض والعاطفة ويأتي الحب ليقتلع الأعماق ويهز منظومة ثبات الشخصية التقليدي” نورما”  في عجزها عن ولوج الحياة الحقيقية ودلالة جفاف النهاية لها، فعقم الزوج مهند يوازيه عقم الأنظمة العسكرية وعقم تجربتها بما أنها لم تلد أي جنين، وشخصية نورما الممزقة بين جبلين أو رجلين، بين خطرين خطر الحرية وتبعاتها مع فراس، أو خطر الجمود والتكلس والحياة الرتيبة الشبيهة بالموت مع مهند، نورما الشخصية الممزقة بين حالين فما أن تصل إلى ضفاف حالة حتى تعاود النكوص إلى نقيضها، فمن الانجراف وراء الحب والحرية إلى الارتداد إلى العائلة والحجاب الذي تصل إليه في نهاية المطاف، وهنا يرصد الراهب تهاوي عالمها الداخلي وخواءه من المعنى في الإطار الخشبي للحياة المطمئنة الراكدة، وكيف تفاجئ نفسها عندما تطلق موجات الحب لآلئ دفينة في أعماقها، وتظهر مواهبها النقدية التي حجبها يباس حياتها الرتيبة التي رسمها لها النظام البطريركي ممثلاً بالأب والزوج وهيمنة التقاليد والاطمئنان الكاذب ليعكس كل ذلك الصورة التي عبر عنها فراس الفنان في التشوه الذي رسمه في ملامحها باعتباره “الجمال المعتدى عليه، الجمال الذي ينقصه حريته”.  ويتداخل هنا السرد مع التشكيل والنحت والموسيقا في تجسيد الملامح والتفاصيل لإظهار البعد الداخلي للشخصية الذي أنتج المرأة بتلك الطبيعة المقولبة والخاملة والعاجزة عن العطاء والحب عبر الولوج إلى الطبقات الداخلية لشخصية وازدواجها بين خطابها الواعي لوجودها الحي وخطابها المستند على البرمجة العائلية، وعندما تتمرد عليها تتعثر وتخرج بشكل مشوه وغير مقبول وتبقى تراوح في مكانها رغم استفزازات الشعور والعاطفة ليطرح السؤال: “هل الحب غياب للوعي أم هو وعي آخر؟

كل ذلك يعبر عنه الحوار الداخلي للشخصية وصراعها مع ذاتها بين الصوت العالي للنسق المهيمن وبين رغباتها الذاتية التي تعكس أناها الخاصة، فالمرأة ورغم نزوعها العارم لاقتناص فرصتها بالحياة ترجع بالنهاية للتماهي مع النسق الثقافي السائد في المجتمع، وترجع إلى قيدها رغم كل التناقضات التي عاشتها بسبب من علو ووطأة العرف الاجتماعي وأسواره المكبلة وهذا ما رأيناه في الشخصيات النسائية في مجموعة الروايات التي يبدأ عنوانها ب”خضراء” فهي مهزومة وراجعة إلى الحضن الأبوي المهيمن متناسية أحلامها وجموحها العارم نحو الحرية. 

 مجموعة الروايات التي يبدأ عنوانها ب”خضراء” باعتبارها أحدث ما كتبه هاني الراهب “خضراء كالحقول”، “خضراء كالمستنقعات”، “خضراء كالبحار”، و”خضراء كالعلقم” عكست تلك المساحة بين اللون والحالة الشعورية وذلك الالتباس بين رمزية الاخضرار وأطيافه في عالم الدلالات الذي يحيل إليه الأخضر ففي ” خضراء كالمستنقعات اشتغل على تعالق السياسي مع الاجتماعي ومعركة البطلة سلمى مع المجتمع المتعصب للالتزام بالحجاب وهي على أهبة الانخراط بكومونة يسارية، إذ يتقدم السرد على لسان امرأة باعتراض على قساوة المثل ضرب العصافير بالحجارة” ضرب عصفورين بحجر واحد” لينتقل إلى تجسيد الخوف الجاثم في الصدور من ألف عام نتيجة الأنظمة القمعية المتتالية “لا يموت الناس من الجوع لكن كرامتهم تموت بسبب الخوف” والسؤال الواقعي عن أولويات المرحلة متسائلاً “ألم يكن بالإمكان أن يتحمل التنظيم الاجتماعي زبداً تفوهت به أفواه حالمة” لينتقل إلى الهم المركب للمرأة علاقتها مع الرجل وعلاقتها مع السلطات القائمة.

 ” متى نبتت شجرة الملكية في تراب الحياة” فالمستنقع قمة المأساة التي تعيشها النساء خائبة الروح باستقرار عميق في استسلام الأحلام وهدرها لما هو مستقر في ذاكرة الخنوع البشرية، ورغم ذلك كل التنازلات الاجتماعية التي مارستها البطلة سلمى لم تمنحها إحساساً بالأمان المفترض. 

المياه الخضراء الداكنة توحي برييع وما من ربيع، توحي باخضرار وليس سوى المياه الآسنة تموت البطلة مئة مرة وتبقى على قيد الحياة وما عداها قصص وروايات وقد أقحم الكاتب اسمه الحقيقي في النص كنوع من صد القارئ من الاسترسال في الخيال ورده إلى الواقع مراقباً ومحايداً.

معاناة هاني الراهب الحياتية من المنع التضييق والاعتقال وسحب جواز سفره من السلطات القائمة آنذاك وفصله من عمله في جامعة دمشق وارتحاله للعمل في دول النفط تلقي ظلالها الكامدة على أغلب أعماله وتظهر متوارية كسيرة ذاتية تظهر فيها ملامح حياته الشخصية ففي رواية “رسمت خطاً على الرمال” كانت رحلته في بلد النفط واغترابه عن مكانه الأول وهو المسكون بمدن الأسئلة مطلقاً إياها على مدنه المتخيلة ” ماذا، متى، كيف”. كما يبرز الغرائبي والعجائبي فيها متكئاً على حياة شخصيات سردية مثل أبي الفتح الإسكندري وعيسى بن هشام وشهريار وشهرزاد ودنيا زاد وأفقر زاد عبر الخيال المجنح الخارق وغير المألوف في تجواله بين تخوم عوالم لامتناهية يرسم فيها تحولات الشخصيات وتهشيمها وإعادة صياغتها من جديد، فقد اشتغل فيها على تقنيات مكثفة في التلاعب بالزمن بين الإبطاء والتسريع بحسب أهمية ودلالة التكثيف والانبساط في الحدث المروى عبر التنقل بالأزمان من ماض سحيق يستلهم حكايات ألف ليلة وليلة ومقامات بديع الزمان الهمذاني في خلطة عجائبية من عالم الخيال واللامعقول متنقلًا بين الأرض والسماء والماضي والحاضر والحياة والموت في تشظي للزمن والتركيز على بؤر فاعلة في استعادته لواقع الفرد المنفي والمبعد الملاحق للقمة العيش التي ماتزال تنأى عنه مفككاً للخطاب الديني الذي يهلل للحاكم في كل زمان لأن “”الرضا والرقاب ملك يديه، أي تاج أعز من تاجيه”،  في تحريف واع للعبارة المسكوكة.

كذلك صنفت روايته “الوباء” باعتبارها من أفضل مئة رواية عربية والتي حازت جائزة اتحاد الكتاب ورصد فيها سيرة أسرة عبر ثلاثة أجيال في رحلة أبنائها من الريف إلى المدينة وعلاقتها بالسلطة والعسكرة في بناء سردي متماسك موظفا التراث الشعبي والروحي والديني في أسطرة الشخصيات وتشكيلها ورصده للشخصية العربية في تغيراتها وانعكاس الأزمات السياسية على وعيها ومصائرها.

العتبات النصية كعناوين ملتبسة:

العنوان باعتباره جزءاً من العتبات النصية للعمل يشكل أحد مفاتيح النص المعبرة عنه أو لجزء منه، إذ تثير فهماً مخاتلاً مما يصعد من فعالية التشويق في الوصول لأفكار النص، فالعنوان “رسمت خطاً على الرمال” عنوان مراوغ فهو قد يشير إلى الخطوط الواهية التي تفصل البلدان العربية وقد رسمها الميجر فيكس بقلم رصاص ليشكل دويلات النفط أو بتأويل آخر قد يفسر محاولة من الكاتب في الحفر على وعي لوجود مفقود الأمل من تحققه.

“شرخ في تاريخ طويل”: العنوان نفسه قصة قصيرة تحيل إلى أهمية تفكيك هذا التاريخ المشروخ في بناه الأساسية وخاصة محرماته الثلاثة الدين والجنس والسياسة. 

“بلد واحد هو العالم” كعنوان يختزل معنى مقولة كاملة في أن المسائل الصغيرة صورة عن كبريات المسائل وتكثيف لها وإن ما يحصل في مكان ما صدى لواقع وتوجهات مكان آخر.

“ألف ليلة وليلتان” في تناص مع عنوان النص الشهير وانحراف عنه في تجاوزه الإرث الحكائي المعروف ليزيدها ليلة أخرى كناية عن رؤيته الخاصة بتجدد الهزائم واستمراريتها فقد أخذ العنوان من سياقه وأجرى عليه تحويراً ليرده إلى معنى آخر.

“خضراء كالبحار” جسده تعبيره المباشر “الفرح والجمال كنزان صغيران في هذا العالم وأنت الخضراء كالبحار تجعلينهما يكبران”.

ولكن في جانب آخر تظهر دلالة معاكسة للعنوان وهي عكر الأعماق الذي يظهر على السطح نتيجة تقلب أعماقها وتلونها بين ذاتها الحقيقية والذات المتقولبة فيها التي برمجت شخصيتها وفق الأعراف السائدة.

ويكفي عنوان “خضراء كالعلقم” في تبيان المفارقة بالعبارة الواحدة في التعارض بين الاخضرار الذي هو لون النماء والاستمرار والأمل وما يقابلها من طعم الواقع المر. 

في كل ما سبق يركز هاني الراهب على الشخصيات المهتزة والمهمشة وصراعها مع نفسها وواقعها. “الأرض الواطئة هو الشعور الذي يخلق مع الكائن” في وصفه الكائنات المهزومة سواء على صعيد القضية الوطنية أو على صعيد القضية الاجتماعية كواقع المرأة في الشرق، وقد لا يفي مقال واحد للإحاطة بتجربة هاني الراهب السردية فكل عمل وكل نص من نصوصه يحتاج دراسات وأبحاث عدة، وتبقى قضية الحرية هي العنوان الأبرز في أعماله نتيجة لإحساسه الوجودي العارم بأهمية الكينونة الإنسانية للفرد وقد توجت باجتراحه عالم التجريب في التعبير عن رؤاه ومواقفه في صيرورتها الإبداعية المتألقة. 

     *تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

سيلفادور دالي يعدّ لي الفطور! حضور القصّ وغيابه للكاتبة نهى عبد الكريم حسين

سيلفادور دالي يعدّ لي الفطور! حضور القصّ وغيابه للكاتبة نهى عبد الكريم حسين

يحدث في الحرب أن تستيقظ الساردة صباحاً، تستعدّ لقضاء نهارها في عملها اليوميّ، وقبل أن تتناول قهوتها كالعادة، يطلب أبوها منها مرافقته إلى محلّه في هامش المدينة:” سألني بتودّد إذا ما كنت سأرافقه مشياً في الشارع المفضي إلى الخوف…” بذريعة أنّها ستتناول قهوتها مع أمّها مجبورة الساق، وإلى حين يتمكّن طلّابها من تجاوز حواجز التفتيش الكثيرة وصولاً إلى المدرسة. يصيب صاروخ  جدار غرفة المعيشة، مكان شرب القهوة المعتاد، فتنسحب وأمّها إلى مكان أكثر أماناً؛ الحمّام، عوض الخروج من البيت، بسبب جبيرة ساق أمّها المكسورة. وفي الحمّام، تغلي القهوة بعد أن تسلّلت إلى المطبخ، لجلب دلّة وفنجانين، ولعجلتها المرتعبة تنسى الملعقة، فتضطرّ أمّها لوضع القهوة في الماء بأصابعها، ولتحريكها تقترح استخدام فرشاة أسنان الأب! وفي إثر سقوط صاروخ آخر، وانهيار أحد جدران البيت، وتطاير الغبار الخانق، يحطّ الهذيان ويُدفِق الأسئلة واقعيّة، وجوديّة وعبثيّة، تسأل الساردة:” أمّي، لماذا على المرأة أن تكون (ست بيت)؟ “أمّي، ألا نملك إجابات لكلّ شيء؟” ” أمّي، هل سيغفر لنا أبي هذا؟” استخدامهما فرشاة أسنانه لتحريك القهوة! يبدو المشهد غريباً، بيد أنّ واقع الحرب المفترض أنّها السوريّة الراهنة، بفجائعها الغرائبيّة والكابوسيّة تفوق التصوّر والتصديق، فالقصّة لم تحدّد مكان حدوثها.

تتسلسل الأحداث وتتنامى على وقع القصف، وتتداخل الأزمنة ما بين الأمس واليوم، وتتوالد مشاعر الرعب؛ فالأمّ تحار كيف ستنجو مع جبيرتها، وتصرّ على ترتيب الأشياء في البيت وتنسيقها الصارم المعتاد، ترتدي حجابها، فالسترة واجبة حتّى في لحظة الموت! والأب يعود، بعد خروجه من الباب، لتقبيل زوجته وابنته، كأنّما في وداع أخير، ثمّ ينصرف إلى عمله. والابنة المرتعبة تتأمّل داخل البيت وخارجه، بانتظار موت مرتقب. فضاء مشحون بالرعب يستبدّ حتّى بطلّاب الساردة/المعلّمة في المدرسة، فقد رسمت إحدى الطالبات دجاجة تفقس صواريخ! 

ذلك ما حكته لنا الساردة/ الكاتبة نهى حسين، في القصّة البديعة “جبيرة”، أولى قصص مجموعتها البكر “سيلفادور دالي يعدّ لي الفطور!” إصدار دار ممدوح عدوان/دمشق 2024. 

بعيداً عن الحرب، وقد ذُكرت في أربع قصص، انشغلت الكاتبة في النصوص السبعة المتبقة، بالموت أيضا، بالظلم المجتمعي الذكوري، بالطفولة المعنّفة، وبغير ذلك. يتكرّر ذكر الأطفال في النصوص، فثمّة طفلة أخرى رسمت في حصّة الرسم معلّمتها/الساردة التائهة القلقة على شكل شجرة متشابكة الأغصان! أمّا الطفلة/ الساردة في القصّة الغريبة المدهشة والمخيفة “الكافور”، فقد رسمت في حصّة الرسم: “حديقة أزهارها توابيت.” فهي تعيش في بيت لا يتوقّف عن استقبال الجثامين لغسلهم وتهيئتهم للدفن. طفلة لا تتوانى عن فتح باب البيت لعويل الأهالي حاملي الجثمان، وعن مناولة أبيها الأكفان الاحتياطيّة المركونة في غرفتها. ولكسر الضجر تبدأ بتطريز عصافير ملوّنة على حوافّ الأكفان البيضاء، قبل أن تأخذها لأبيها مُغسّل الموتى، مهنة ورثها عن أسلافه، ويحرص على الحفاظ عليها. وقد اعتاد أهالي القرية حمل جثامين موتاهم إليه، يفضّلونه على مغسّلي الدكاكين. بدا الأب كآلة تعمل لا تتوقّف. رفض طلب زوجته بالانتقال إلى مسكن آخر لإبعاد طفلتهما عن الأجواء الجنائزيّة، وقد باتت تقضّ مضجعها؛ هلع وبكاء، كوابيس وهلوسات، فتهرع الأمّ إلى إيقاظها، تسقيها ماء وتقرأ عليها القرآن لتعاود النوم، تشرح لها:” أنّ الموت سنّة طبيعيّة كتعاقب الليل والنهار وتوالي الفصول.” تصلّي الطفلة طلباً للاعتياد. تقول:” أريد حصّتي من الحياة من دون هذا القرب الحميم من الموت.” (يؤخذ على الكاتبة هنا، تقويل الطفلة ما لا تدركه اللغة الطفليّة.) 

على وقع سيل ماء غسيل الموتى خارج الغرفة، وانتشار رائحة الكافور المعطّر، تسرد الطفلة حياتها وسط طقوس جنائزيّة مضجرة؛ أكفان ونعوش وتفجّع، ورائحة الكافور تعشّش في البيت، وفي النوم. ذات ليل ثلجي، طرق على الباب يوقظها، وكعادتها حين تنشغل أمّها، أو تغطّ في نوم عميق بعد نهار جنائزيّ متعب، تهرع الطفلة لفتح الباب. لم تجد وشاحها السميك، فتلحف الكفن الذي تطرّز على حوافّه العصافير، لم يكن بالباب جثمان أو عويل، إنّما هرّة غطّاها الثلج، فلم يكن بدّ من إدخالها، انتبهت الطفلة إلى أنّ الهرّة لا تموء، فتخمّن أنّ البكاء على فقدان ما كابدته، أفقدها صوتها. تدخل الهرّة غرفة الطفلة، مأخوذة بالعصافير المطرّزة على الكفن. تتقدّم بقسوة نحو الطفلة، فيتضخّم خوف هذه! في الصباح، حين ناولت أباها الكفن ذاته، انتبهت إلى اختفاء عصافيرها عنه، وحين سألت أباها عنها: “دخل في اضطراب مفرط، وقال:” لقد التهمتها القطّة وفرّت كالمجنونة.” رمزيّة أبدعتها القاصّة ببراعة. بلى، لا بدّ للأب أن يضطرب كثيراً، وأن يؤكّد أنّ القطّة التهمتها وفرّت، التهمتها تماماً حيث لا أمل في استعادتها! فالعصافير ترمز إلى الطيران والانعتاق. وفي بيت لا تصلح فيه للعيش سوى مهنة غسل الموت التاريخيّة الموروثة، على القطط التي ترمز للجنس/الحياة المضادّ للموت، أن تفرّ وأن تكون قاسية، متوحّشة ولصّة! وعلى الأب أن يبعد عن ابنته رغبتها في أن تكون لها حصّتها: “من الحياة من دون هذا القرب الحميم من الموت.” قصّة تترك أثرها في نفس القارئ بقوّة.

بديهيّ أنّ أوّل ما سيخطر في بال القارئ مع ذكر الرسّام سيلفادور دالي هو السرياليّة وتعني “ما فوق الواقع”. نشأت هذه المدرسة في فرنسا، وتوهّجت في عشرينات وثلاثينات القرن المنصرم. وتهدف إلى الغوص في العقل الباطن واللّاوعي، لاستكشاف ما يبطن من أفكار تتنافى مع الواقع والحقيقة، وتعتمد الأحلام، تأثّراً بعلم النفس الفرويديّ وسواه، فتدمج الخيال بالواقع بعيداً عن الأطر والقواعد المكرّسة، في شتّى الفنون الإبداعيّة. تزعّمها، الشاعر أندريه بروتون وأطلق بيانها الأوّل رفقة أدباء آخرين مثل بول إيلوار ولويس أراغون، ورسامين مثل ماكس إرنست وسيلفادور دالي هذا الذي يعدّ الفطور للكاتبة نهى حسين، أولى وجباتها/ إصداراتها الأدبيّة. لكنّنا سنلمس بوضوح سافر، أنّ ما ورد في المجموعة برمّتها لا يمتّ إلى السرياليّة بصلة، إذ أنّ الأحداث والأفعال تتتابع عبر رصد الساردة، الشخصيّة الرئيسة في أغلب النصوص، بوعي شديد للواقع من حولها وما ينجم عن ذلك من ردود أفعال، وهواجس ومخاوف، حيرة وتيه، تساؤلات، وتأملات فلسفية وجوديّة تنحو إلى العبثيّة مرّات كثيرة، تنقله إلى عوالم فنّيّة، بواقعيّة تارة وبرمزيّة تارة أخرى، وإن بدت غريبة أحياناً فذلك يعود إلى مخيّلة الكاتبة الوسيعة الجميلة، تحلّق كما الشعراء أحياناً وتأتي بصور أدبيّة محمّلة بالهواجس المتأتّية من واقعها. ليكون العنوان شرْكاً يعثّر القارئ!   

ثمّة أيضاً، ما يشي باستعجال نهى حسين في نشر مجموعتها اللّامتجانسة هذه، والكتابة الأدبيّة إنّما هي أيضاً فعل تأنٍّ وصبر. ففي حين نجدها قاصّة بارعة في نصوص خمسة تراوحت بين الحداثة والتقليديّة، وبين الواقعيّة والرمزيّة، وأُدرجت في سرد مكثّف، سلس، عفوي، مقنع وممتع، ولغة أنيقة شعريّة حينا وشاعريّة أخرى في اتساق جميل ومؤثّر، محمّلة بأفكار عميقة وتأمّلات لافتة. إلّا أنّنا نلقى في قصص أخرى مثل “نزح الماء” القصديّة والافتعال والمبالغة! وفي قصّة “الجوبي” محاولة متعثّرة لتقديمها بشكل القصّة القصيدة فيما يبدو، كما أنّها تعاني من إبهام مطبق، يُذهِب بمتعة الاكتشاف لدى القارئ! 

في نصوص أخرى يبهت الشكل الفنيّ وينتفي، فمثلاً في نص” حجراً إن شئت” تتحدّث الساردة عن جدليّة العلاقة بين الذات المهنيّة والذات الإبداعيّة، والصراع اللّامنتهي للتخلّي عن المهنة قاضمة الوقت وخانقة الفعل الإبداعيّ. النصّ لافت إنّما ليس قصصياً البتّة، أُدرج بخطابيّة ومباشرة لن تسترها أناقة اللغة أو التأمّلات. أمّا نصّ “طابع مجهود حربيّ” وقد جاء في مقاطع تطول أو تقصر، هي رسائل متتالية ترسلها كاتبتها إلى حبيبها الذي بعد عنها، من دون ردود منه، ومن دون أن نعرف عنه شيئاً. رسائل انكتبت بلغة شعريّة لافتة، إنّما أُثقلت بهواجس ورؤىً مختلفة وتحتشد فيها الأفكار فتزدحم، (هو حال النصوص غير القصصيّة كلّها)، فبدت الأحداث فيها ظلالاً لقصص تمكث على ضفاف دانية هنا، ونائية هناك، بانتظار إنجازها! 

ذلك التباين بالأشكال التي وردت فيها النصوص غير القصصيّة، واحتشاد الأفكار بشكل مبالغ، رغم أهمّيتها، فقد طغت على فنّيّة القصص، ما لا يؤمّن للقارئ، في النهاية تكوين وحدة انطباع فنّيّة شاملة للمجموعة.

وسمت الكاتبة مجموعتها بــ “سرد حكائي”، وكأنّما تبريراً لخلط ما لا يتجانس! فلا شكّ أنّ نهى حسين تدرك أنّ السرد الحكائي يعني السرد القصصيّ والسرد الروائيّ. وللتوضيح أورد تمييز جيرار جينيت في كتابه “الخطاب الجديد للنصّ  السرديّ”، بين ثلاثة مكوّنات للخطاب السرديّ، هي: “الحكي: الترتيب الفعليّ للأحداث في النصّ. القصّة: التتالي الذي حدثت فيه هذه الأحداث فعليّاً. السرد: فعل السرد ذاته.”  لنفهم من جينيت ومن نقّاد منظّرين آخرين، كتزيفيتان تودوروف صاحب مصطلح “علم السرد”، على أنّ السرد الحكائيّ، أكان حداثيّاً أو ما بعد حداثيّ أو تقليديّاً، فإنّه يشترط وجود حكاية فيها يتنامى الحدث والشخصيّات بقوّة روح القصّ.

يجدر القول إنّ نهى حسين كاتبة جادّة ولافتة، بلا أدنى شكّ، تدفعنا لمتابعة إصداراتها القادمة بحماس.

“ذاكرتي مليئة بالأشباح”:كيف نشفى من ذاكرة الحرب؟

“ذاكرتي مليئة بالأشباح”:كيف نشفى من ذاكرة الحرب؟

لم تكن النجمة الذهبية التي فاز بها الفيلم السوري “ذاكرتي مليئة بالأشباح” مناصفة مع الفيلم المصري “رفعت عيني للسما” في مهرجان جونة السينمائي في القاهرة مؤخراً، هي الجائزة الأولى له، فقد شارك في عدة مهرجانات حتى الآن وحصل على الجائزة الأولى في مهرجان الأفلام الوثائقية في الدانمارك، وعلى إشارة خاصة للتميز في مهرجان رؤى الواقع في سويسرا، وجائزة أفضل قصة في المهرجان السينمائي الدولي في بوينس آيرس.

وهو من إنتاج ملتقى هارموني الثقافي، في حمص وأول فيلم طويل للمخرج السوري أنس زواهري الذي نشأ في المدينة. ولهذا يضع عبارة عريضة في بداية الفيلم: “من جديد ها أنا في حمص، مدينتي القديمة، عائداً لئلا ينال النسيان مني، لأصنع لنفسي ذاكرة مما تبقى، فملأت الأشباح ذاكرتي”. نعم تغيرت المدينة وحين تسمع قصصها ستدرك حجم ما جرى.

 فالفيلم  يروي قصص عينة من أبناء حمص بلسانهم وماذا فعلت الحرب بهم وكيف تركتهم. وكأن زواهري أراد أن يكون جزءاً من الفيلم الذي لا يمكن التنبؤ بأثره على المشاهد ولكنه من المؤكد ليس بالقليل. 

المكان حمص القديمة، البداية كاميرا ثابتة في المكان المشغول بالدمار مع حركة خفيفة للبشر كأنهم يسيرون في فلك هذا الدمار وبقايا الحرب الشاخصة، حيث يفرض الواقع ثقله على المشهد،  فما زالت شواهد الحرب تنتصب، وما زال الخراب يسرق الأنظار رغم حركة الحياة على جوانبه. البيوت المهدمة والصور العائلية المرمية والتالفة في الأرض، الجدران المتصدعة والكنائس المحروقة والجوامع التي سقطت أحجارها، طرق أغلقت بالأتربة، مدينة الألعاب التي بقي منها القضبان فقط والساحات الخالية كل هذا الخراب يوحي بالأرواح التي غادرت وكأن أشباحها تسكنه.

تتجول الكاميرا في الشوارع لتقدم وجه المدينة، حيث يتجاور الدمار مع البيوت المسكونة، وتعيش بقايا الحرب مع الناس وتشاركهم المكان، السيارات المحروقة والدكاكين بواجهاتها المكسرة، مع بسطات الخضار الطازجة، واجهات  الأبنية المخترقة بالرصاص، الشرفات التي هبط سقفها كأنها عيون أغمضت، ثم الغسيل على أخرى. يتجاور السواد والبياض والأبنية القديمة المهدمة والحجارة الأثرية مع بيوت الإسمنت كأن الموت والحياة جنباً إلى جنب في مشهد المدينة الذي جمع المتناقضات، حركة الناس في الشوارع والمقاهي الفارغة. يقول أحد السكان: “الحياة الاجتماعية باتت ممزوجة بالقهر والحزن والأشخاص يميلون للعزلة والوحدة” في إشارة لغياب الحياة الحقيقية. من المؤسف أن يتحدث الشباب عن سطوة الحزن في أعماقهم حيث كل شيء يأخذك إلى الحزن.

تتنوع الإجابات عن علاقة الناس بالمدينة والمكان. تقول فتاة إن علاقتها بالمدينة مضطربة فرغم حبها لها هناك أشياء أقل من عادية لكنها هنا غير ممكنة. تقول أخرى: “لم يعد لي أحد هنا لكنني أحب المدينة وبقيت لأقدم لها شيئاً”.

  شكلت الحرب مفصلاً قاسياً في حياة الشباب الذين كانوا في بدايتها ليسوا أكثر من أطفال انتزعوا من طفولتهم على صوت الرصاص والقصف وفقدان الأمان وفقدان أحبتهم، فكان الجرح قاسياً. لقد غيرت التجربة  حياتهم.  تتوالى أصوات الرواة في الفيلم  ويخبروننا عن تجاربهم و يعرون الوجه الوحشي للحرب التي يدفع الأبرياء فيها أثماناً باهظة لا يمكن استردادها. ولم يتوقف ذلك حتى بعد انتهاء الحرب التي أرخت على الحياة  الجديدة بظلها بعد عودة الناس إلى المدينة التي غادروها مرغمين بسبب الحصار والاشتباكات المشتعلة حتى تم إغلاقها، إذ تغيرت الأخلاق والحياة والبشر.

 تروي الفتاة كيف قُتل والدها بالخطأ لمروره في  لحظة بدأ فيها تبادل إطلاق الرصاص بين الطرفين المتحاربين: (الجيش “النظامي”، والجيش الحر) ليجمع في جسده رصاصهما كأنه جسد المدينة/الوطن. وتستيقظ العائلة على فقدان الأب والمعيل وكأنهم جميعاً أصابتهم الحرب في مقتل لتحمل وهي في هذا العمر الصغير عبئاً ثقيلاً. أما الشاب فيروي قصة أخيه الذي خطف من قبل من كانوا أصدقائه قبل الحرب فكانوا سجانيه في حمص القديمة وحين تحرر اعتقل على حاجز الجيش بتهمة تشابه الأسماء وبقى مفقوداً يبحثون عنه حتى تم تسليم هويته لوالده مع شهادة وفاة موقعة قبل عام إذ مات “بأزمة قلبية” في المعتقل.

  ما تعجز الكاميرا عن وصف فداحته يرويه الرجل الأعمى، اللقطة الثمينة  في الفيلم،  فكيف له أن يعبر عما تغير في المدينة وما حدث لها وهو الذي لا يرى، يعيدنا في حديثه إلى فترة العودة للمدينة بعد انتهاء الاشتباكات فيخبرنا عن رحلة العودة والفرح الذي غمرهم في الطريق إلى أن صاروا في قلب المدينة فمنذ أن اقتربوا من الساعة القديمة فيها  وصولاً إلى الحي لم ينبس أحد بكلمة لكنه كان يسمع البكاء الصامت، وعرف أن المشهد أكبر من أن يروى.

 لقد تخيل حجم ما يرونه، إذ كان أثناء الحرب يسمع صوت انهيار البيوت بعد تبادل القذائف، البيوت التي تطبق على نفسها. يروي وكأنه يلمس روح المدينة التي أنهكتها الحرب وذاك التعب الذي يهد الروح من حجر وشجر وبشر.

تستمر الحياة بعد الحرب لكنها لا تنجو. فقد ذهبت الحرب بأخلاق الكثيرين وشوهتهم خاصة أولئك الذين عاشوا في ظروف غير آمنة وغير صحية  بالمرة. كما نرى في قصة  الفتاة التي  قُتلت أمها في ليلة العيد من قبل شابين مراهقين بهدف السرقة. تقول: :أنا واثقة أنهما لو طلبا المال من أمي  لأعطتهما إياه دون تردد, لكنهما قتلاها من أجل مبلغ تافه”.  هكذا صارت بلا بيت ولا أهل وحيدة لا تعرف ماذا ينتظرها. 

 حكاية الأم نموذج لكثير من الأمهات الحمصيات بل والسوريات اللواتي غادر أبناؤهن وتفرقوا تحت ضغط الحرب المشتعلة إلى بلاد الشتات. تحدثنا الأم كيف صار البيت فارغاً بعد أن كان يعج بأولادها وأصدقائهم، تنظر من الشباك وتجلس مع الذكريات تنتظر عودتهم، تقول إنها تتواصل معهم عبر الشاشة فتشعر كأنها تشاهد فيلماً وأن هناك شيئاً ناقصاً دوماً فما الذي يُشبع حضن الأمهات.

بين القصص نرى أعمال ترميم ويوميات الناس البسطاء الذين تابعوا العمل ليعيشوا وبعض الحرف التقليدية التي عادوا إليها بحثاً عن لقمة العيش بينما خيل إلينا أنها  انقرضت.

  هل نجا من بقي بعد الحرب؟

يقول أحدهم: بعد الحرب أسوأ من الحرب ذاتها والحياة غدت خانقة ومعطلة رغم أنها تمضي. يرافق ذلك صور المحلات الكثيرة المغلقة والأماكن الخالية والركام. 

تقول الفتاة: صار اليوم الذي لا يحدث فيه موت، أو حدث قاس هو اليوم السعيد الذي نتمناه وكأننا ننتظر كل يوم النجاة من المجهول الذي قد يحدث.

يبدو الإصرار على انتزاع الحياة والأمل رغم كل شيء في حركة الناس وابتساماتهم العفوية وضحكة الأطفال.  يقول أحد الشبان إن التاريخ يعلمنا ان لا شيء سيدوم، وإن التغيير قادم لكن على المستوى الفردي لا شيء واضح أمام الناس، ولا يعرفون ماذا يمكن أن يتغير في حياتهم الآن؟ وماذا ينتظرون؟ 

كان الصمت الموسيقا التصويرية للمشهد في كثير من الأحيان أما البداية  فكانت موسيقا الخوف الذي يسكن الذاكرة تلك التي توحي بالرعب والأشباح ثم أصوات الحياة اليومية، وصوت الرواة، وصوت الأذان الذي يوحي بالسكينة. ثم ينطلق صوت أحدهم في غناء الموشحات الحمصية الأصيلة لتمتزج المشاعر المتناقضة التي يعيشونها ويعبرون عنها بين الفرح و الحزن الثقيل والكره والحيرة والغضب.

يشرك زواهري أشخاصاً من الشارع يقفون للصورة ويمرحون فأهل حمص عرفوا بمبادرة الفرح وبالنكتة الحاضرة، ويقدم  أشخاصاً في عملهم يتحدثون معه ويروون عن حياتهم اليومية. 

القصص  في ملتقى هارموني الثقافي:

 عانت حمص من الحرب مدة طويلة مثل كل المدن السورية وربما أكثر فقد بدأت شرارة الأحداث فيها. وتزداد الحاجة فيها للعمل المجتمعي الذي يعنى بالإنسان سواء الملتقيات أو النوادي التي تقدم نشاطاً نوعياً وفعاليات ثقافية تجمع الشباب لتأسيس بنى جامعة وعمل مشترك يحررهم من عبء الماضي و الشرخ الحاصل، وأمراضه النفسية بالاهتمام واكتشاف كوامن طاقاتهم وإمكانياتهم واطلاقها بحثاً عن أفق جديد. 

يحاول ملتقى هارموني الثقافي أن يقدم فعاليات على هذا المستوى إذ كانت  بعض القصص التي رواها الفيلم جزءاً من مشروع الملتقى بعنوان ما وراء الألوان، تجتمع القصص لتحكي بعض قصة المدينة وذاكرة  جيل من الشباب يحاول الاستمرار رغم كل شيء، وليس بوحهم بهذه القصص سوى جزء من التحرر من التجربة، و محاولة البحث عن شفاء منها. 

سبق ذلك التحفيز على كتابة القصص عبر ورشات كتابة ثم عرضها مكتوبة في  المعرض السنوي للملتقى على شكل خيم إذ تحولت كل خيمة إلى عمل فني متكامل فإلى جانب كل قصة منحوتة أو لوحة رسمت من وحيها وصور غرافيك صممت لها ومعزوفة موسيقية أيضاً وبعض الأشغال المتممة للديكور، في محاولة لوضع الزائر في جو القصة، أراد الشباب أن يخبروا العالم  عبر قصصهم عن تجاربهم المريرة فكانت بمثابة شهادة قدموها وعبر وضع اليد على الجرح الشخصي الذي لم يعد شخصياً أبداً. 

 نجح أنس زواهري في فيلمه بنسج هذه القصص التي عمل عليها الملتقى سواء في المعرض أو خارجه، مع حياة المدينة اليومية سينمائياً، واستقراء عيون الرواة، وهم ينقلونها بصوتهم وحركات جسدهم التلقائية وعفويتهم، إذ يتحدثون، يصمتون، ويبكون. وترتبك حركاتهم، وتتهدج أصواتهم  وتذهب النظرات إلى البعيد.

يقال إن عين الكاميرا تقدم الصورة بشكل مختلف عن عين الإنسان فالمشهد الكامل تعجز العين عن الإحاطة به أحياناً لكن وأنت تتابع الفيلم  وتسير معه في طرقات المدينة القديمة ترتبك ذاكرتك في التعرف على مدينتك وستتردد بالإشارة إلى الأماكن  بالأسماء، ليس لأن الكاميرا تقدم المشهد من زاوية مختلفة عن ذاكرتك فقط، بل لأن الحرب غيرت كل شيء في الأمكنة دون أن تأبه. وهذا ما لخصه زواهري في العبارة الأولى التي أُخذ منها عنوان الفيلم الذي يتابع رحلته في المهرجانات.

على صوت الموشحات الحمصية تنسرب مياه العاصي بهدوء، كأن الحياة التي تمر دون أن تترك أثراً وكأنها ليست أكثر من هامش حياة.

تقف الفتاة التي كبرت أكثر من عمرها تحت عبئها الثقيل تتأمل وردة تفتحت وسط الخراب كأنها رسالة أخرى بلسان الشباب ولكن ليس للعالم بل إلى الحياة نفسها فما زال هناك ورد قد يزهر.