بواسطة ختام غبش | أبريل 16, 2018 | Cost of War, غير مصنف
في دمشق المدينة ناجون مضوا إليها تاركين خلفهم ترسانة الحرب وهمجيتها بحكم الغريزة البشرية التي تقود الإنسان حيث البقاع الأقل فتكاً ودموية. دمشق العاصمة المساحة الأقل مواجهةً واحتداماً ولكنها الأكثر رعباً وانهزاماً من حيث التفاصيل المحشوة بها ستثقل كاهل كل الضعفاء الفاقدين لأدوات النجاة والبقاء وتصنفهم ليبقوا خارجها ويرتادوا الأرصفة والشوارع الملوثة بالبلادة واللامبالاة.
لجأوا إليها نجاةً من مناجم الذبح والموت الرخيص فحاوطتهم بالأسلاك وبالأسياخ المعدنية التي لم تعد حكراً على بطانة جدرانها وأعمدتها وسقف سمائها أيضاً. أقدام أبنائها الذين يعرفونها جيداً مجنزرة بأسلاكٍ خفيةٍ تحصي أعداد الخطوات والوجهات التي باتت لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. وها هي اليوم تنقل عدوى أسلاكها وقيودها إلى الأجساد التي ستؤسس قواعدها وتحصّنها بالمعدن والخوف استكمالاً لوظيفة العيش. فكثرة الأحمال التي كبّلت أرواح أصحابها لن يعيقها المشي الآن وهي مربوطة بالعكاكيز والأسلاك المتداخلة مع اللحم والعظم المتفتت.
شارع الثورة (في وسط المدينة) بأرصفته البشرية يلخص المأساة كاملة، حيث يمكن للعابر أن يصطدم بمرآبٍ كاملٍ تصطف داخله كراسٍ متحركة يقودها شبانٌ قد فقدوا أطرافهم بمختلف مسمياتها، يبسطون رقعة ًمهترئة على أرض محشوة بالقمامة والروائح الكريهة. تحتل الرقعة في واحدةٍ من زواياها جلدات لأسطوانة الغاز، علب كبريتٍ، أقلام الريم الزرقاء، مطاط أبيض، إبر خيوط متسخة، جرابات قديمة جداً… الجميع هنا في انسجامٍ تام. الصورة مكتملة فالبسطة بكافة محتوياتها فاقدةٌ للزمن حيث لا يمكن للحاضر الآن أن يعيد استخدام كل ما نبت فيها، وكذلك الأمر أيضاً لمن يدير عجلاتها فالحياة بالنسبة له قد توقفت هناك عند عتبات ذاك الزمن.
نساءٌ ورجالٌ في نهاية أعمارهم يضعون عند عتبات أقدامهم أطفالاً فجرت الحرب أطرافهم الصغيرة يجلسونهم بجانبهم ليس كمتكأ لهم، بل كمصدر رزقٍ يلبي حاجة الجوع التي جعلتهم يتناسون خطوط الزمن المحفورة في وجوههم ويركضون نحو لقمةٍ واحدةٍ أو مبلغٍ وضيع ٍيجلب لهم حبة الضغط أو مميعاً للدم. والبعض الآخر يجلس متكئاً على حائط ٍبالٍ يحتاج من يسنده، بينما يفترش آخرٌ الليل مأواه ببطانيةٍ ورصيف ليستيقظ عقبها متابعاً حيثيات يومياته بين جدار وسياج معدني تعددت استعمالاتهما بين مصدر للحياة ومبولة. في هذه البقعة الصغيرة تستطيع الحرب أن تلخص كل بنودها وتفتك بكل الاتفاقيات والحقوق الإنسانية الخاصة بضحايا الحرب.

سوقٌ كامل ممثلٌ بأجسادٍ تمضي إلى حياتها بعكاكيز فضية ملبسة بالبلاستيك، النسبة الأكبر منها تنهشها الأسياخ المعدنية في كل من الأقدام واليدين. العيون باتت تألف مشهد الأرجل المبتورة، بنطلونات مموهة ولكنها فارغة لا يحشوها شيء من مخصصات الجسد، يغطى منتصفها إلى الأسفل قليلاً لتنتهي بعكفة عند الركبة كي لا تعيق حركة العكاكيز، أرجل المرحلة الحالية لكل السوريين. أيادٍ مختزلة ممدودة تجمع ما أمكنها من نقود كي تعوض بعضاً من مفقوداتها.
الحدائق هنا باتت مزروعة بأجساد اعتادت حرارة الصيف وبرودة الشتاء القاسي، بعضنا يحمد السماء على انقطاع نعمة المطر ويرجو الهواء أن يبق محافظاً على دفئه كي لا يزيد من برودة هذه الأجساد التي باتت منافذها مشرّعة أبوابها للطبيعة والقهر.
وإذا ما لجأنا إلى تعداد الإحصائيات، المنظور الكمي الذي يرانا العالم من خلال عدسته، نقرأ مثلاً في تقريرٍ لمنظمة الصحة العالمية والمنظمة الدولية للأشخاص ذوي الإعاقة، صدر في 13 كانون الأول (ديسمبر) 2017، أنّ: “هناك ثلاثين ألف مصاب كل شهر بسبب الحرب في سوريا، وأن الحرب خلّفت مليوناً ونصف المليون مصاب بإعاقة دائمة من أصل ثلاثة ملايين شخص أصيبوا منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من ست سنوات.” وأوضح التقرير أنّ 1.5مليون شخص يعيشون مع إعاقات مستديمة، منهم 86 ألف شخص أفضت إصابتهم إلى بتر أطرافهم، مشيرة إلى أن الصراع الدائر هناك يحتدم باستخدام أسلحة متفجرة في المناطق المأهولة بالسكان، واستمرار المخاطر المرتبطة بارتفاع مستوى التلوث بالمتفجرات ارتفاعاً كبيراً في جميع أنحاء البلاد.
تبقى منزلة هذه الإحصائيات قيد المرحلة، فعدّاد استنزاف الأرواح لا زال في تصاعد، وفي وقتٍ لازلنا نشهد فيه قيامةً لم تتوقف حتى اللحظة عن ابتلاع الإنسان السوري وعلى مدار سبع سنوات كاملة. ومع الإشارة إلى أن معدلات هذه الأرقام خاضعة للتصنيف بين منطقة وأخرى، فلا يمكن المقارنة بين المناطق الخاضعة لسيطرة النظام وتلك الخاضعة لسيطرة المعارضة حيث يعتبر تحديد إحصائية دقيقة للإصابات فيها مهمة شاقة، فآلة الحرب لا تخمد هنا. ولابد من الأخذ بعين الاعتبار بأنه كان من الممكن الوقاية من تلك الاعتلالات لو حصل هؤلاء الأشخاص على الرعاية الملائمة في الوقت المناسب، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ شح المستلزمات الطبية في هذه المناطق تجعل المسارعة إلى اتخاذ القرار الحاسم ببتر الطرف المصاب هو الطريق الأقصر للنجاة والظفر بحياة لا تشبه تلك الحياة الأولى.
سعاد (اسم مستعار)، إحدى النساء اللواتي عايشتهن في دمشق، تعمل الآن في إحدى الدوائر الحكومية وتقوم بأعمالٍ مهلكةٍ من التنظيف وإعداد القهوة والشاي، تعاني من أمراض في المفاصل والعمود الفقري. اضطرت للعمل بعد تعرّض زوجها لإصابة في نخاعه الشوكي. زوجها الآن حبيس الفراش منذ ما يقارب الخمس سنوات تعمل بحبٍ ولا تمل، فلديها ابنة وشابان كنت اسمع أصوات ضحكاتهم عندما تخبرهم بأنها ستجلب لهم سندويش البطاطا في بداية أول كل شهر. استطاعت ابنتها دخول كلية الهندسة الزراعية وهذا ضمن الطبيعي حسب توقعاتها، أما المفاجأة بالنسبة لها كانت لدى نجاح أكبر ابنائها ليحالفه الحظ ويدخل كلية الآداب. كان خبر تخرجه لعنةً زجّت به إلى الجيش ليعود بعد مضي فترة قصيرة ويتمدد أمام والده، فلقد بتروا له قدمه نتيجة تعرضه لإصابة حادة بها.

في واحدةٍ من الحواجز المنصوبة في مركز المدينة (في منطقة الفحامة) تمتلأ العينين في كل صباح بأجسادٍ منكوبةٍ تحمل ما أمكنها من كراتين بسكويت وعلكة تتسلل عبر ممرات السيارات العمياء. عند واحدة منها رجلٌ خمسيني بيدٍ واحدة يمسح زجاجها، وعندما تمشي السيارة قليلاً بفعل الزحام يتبعها بخطوة فتتحرك إلى الأمام؛ تمسح يداه ما تسعفه من أجزاءٍ، تغلق السيارة زجاجها، تفتحه لتغلقه مرة أخرى ممعنةً في إذلاله وهو يتابع النظر إليهم مستجدياً إياهم ولكن دون جدوى.
استطاع العالم أن يقدّم هديةً للبشرية تتيح للمتضرر دمج اللحم بأطراف غريبة عن الجسد، المقصود هنا الإشارة إلى عمليات تركيب الأطراف الصناعية. فالبشرية عبر تاريخها عودتنا أن تقدم حلولاً مبتورة لكل القضايا الخاصة بالإنسان، استطاعت أن تستعيض عن إنهاء كارثة الحروب وهمجيتها بزرعٍ جديد للإنسان لكي تلزمه بذاكرة الحدث، الذي سيصبح جزءاً منه وشيئاً ملموساً طيلة حياته القادمة. وكما عبّر الفنان النمساوي راؤول هاوسمان Raoul” Hausmann” فإنّ الأطراف الصناعية الجديدة لا يمكن اعتبارها كرمزٍ للتقدم العلمي، ولكن يجب القول إنها علامة واضحة على نزع الإنسانية من البشر. فقد أجبرت أعداد مبتوري الأطراف خلال الحرب الأهلية الأمريكية وضحايا الحرب العالمية الأولى العالم إلى ابتكار الطرف الصناعي كبديل عن الجزء المفقود، الحقيقي. (1)
وبالعودة إلى مأساتنا السورية فلا بد من الاشارة بأنّ “تكاليف تركيب طرف صناعي بدائي يتجاوز 1500 دولار، في حين يبلغ تركيب طرف صناعي ذكي ستين ألف دولار إلى جانب تكاليف العلاج الفيزيائي الطويل الأمد لكي يتعرف الجسد على العضو الجديد. وهي أرقام مرتفعة جداً قياساً إلى عدد المحتاجين إليها وأوضاعهم المعيشية”. وبحسب رئيس رابطة الأطباء الدوليين، الدكتور “مولود يورت سَفَن”: إن نسب إصابات الساق وبتر الأذرع بسوريا هي الأكبر في العالم منذ الحرب العالمية الثانية.”
ولهذه الأسباب كان من الضروري افتتاح مراكز للأطراف الصناعية والتي توزعت داخل سوريا في مركزين رئيسين في كل من (حمص- دمشق)، لكن “هناك شروطاً معينة يجب توافرها هنا في المرشح لنيل الطرف،” وفي دول الجوار لبنان وتركيا والأردن. ففي تركيا افتتح مركز “خطوات الإرادة WSO” للأطراف الصناعية في مدينة غازي عينتاب، وبحسب القائمين عليه فإن المركز يسعى للوصول إلى جميع من أصيبوا بإعاقات من السوريين. وحسب الدكتور “حمزة دياب” رئيس قسم العظمية ومدير المركز بأن المركز متعاقد مع شركة “أوتوبوك الألمانية ” العالمية التي تنتج الأطراف الصناعية منذ أكثر من مئة عام، ولها فروع في أكثر من 110 دول حول العالم.(2)
مكّنت الأطراف الصناعية الذين فقدوا أحد أطرافهم من متابعة حياتهم، وهذا ما يشعر به العديد من الذين خضعوا لعملية تركيبه. فهناك بعض الأعمال التي يستطيع الشخص القيام بها دون تعرضه للخطر. ففي إحدى المرات خضت حديثاً مع سائق تكسي عرّف عن نفسه بأنه عنصرٌ في الجيش تمت عملية تسريحه من قطعته نتيجة تعرضه لبتر قدمه اليسرى مستعيضاً عنها بطرف صناعي. لم أميز لحظتها وجود هذا الطرف لولا نقاشنا عن النسب التي تحدّد بها إجازة التسريح المستندة إلى إصابةٍ فادحة للشخص يخرج منها بنصف جسدٍ أو يفقد جزءاً منه.
وهذا الطرح يجعلنا أمام أرقام مضاعفة للأشخاص الذين نراهم أمامنا مجردين على حقيقتهم، غير قادرين على الأقل على إخفاء عجزهم المعنوي تجاه كل هذا الخراب النفسي بداخلهم والمادي الذي لا يخول لهم أن يبنوا جسدهم من جديد. فنحن نعيش مع أرقامٍ مرعبةٍ من هذه الحالات والتي لا يمكننا معاينتها كونها وجدت من يعينها على اقتناء طرف استطاعت به مقاومة مصاعب الحياة. فالإحساس بأنك تقوم بالقليل يعطيك الكثير من الدوافع والقوة، دون إعطاء فرصةٍ للآخرين لاستغلالك وإلزامك بأعمالٍ تفاقم من شعورك بالعجز والقهر. فهناك العشرات من الذين أصيبوا بإصابات بالغة وهم الآن عرضة للاستغلال من قبل كافة الأطراف. لكنهم يبررون استمرارهم بالقيام بهذه الأعمال بأنها وسيلة بقاء وحيدة وهي حقيقة لا مفر منها بأنها “وحيدة،” فطالما أنهم منفيون ويعيشون في شوارع بلادٍ لا تأبه بهم ولا تنظر إليهم إلا من منظورها الفقير الذي يبخسهم حقهم، لا يحق لأي منا أن يقيّم ما يقومون به من طرق تجلب لهم قوت يومهم، بلاد لا مكان حتى للعقول في جنباتها.

الفكرة الأخيرة والأهم بالنسبة للسوريين ولكل المناطق التي عششت فيها الحروب تعنونه “مخلفات الحرب غير المنفجرة والألغام”. بالنسبة للألغام يأتي دورها في نهاية الحروب، حيث بات بروتوكول الحرب يحفز الأطراف على زرعها عقب خروجها من كل منطقة، وكالعادة المدنيين هم النسبة الأكبر بين الضحايا.
فمثلاً نقلت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) عن إحصائيات للأمم المتحدة ومنظمات دولية، أن عدد ضحايا القنابل والأجسام غير المنفجرة من مخلفات الحروب، والتي تعرف بـ”يو إكس إوز UXOs” يتجاوز 20 ألف شخص سنويًا. حيث تصبح مخلفات الحروب أقل استقراراً مع مرور الزمن عليها بسبب التفاعلات الميكانيكية والكيميائية التي تجري عليها. بيد أن تخوفاتٍ دوليةٍ وأمميةٍ من مخلفات الحروب باتت أكثر فيما يخص سوريا وتحديداً منطقة الرقة التي سيطر عليها تنظيم داعش، “الدولة الإسلامية”، وبعد خروجه منها أنبت مساحاتها بالألغام والمواد المميتة.
هذا وقد حذرت منظمة الأمم المتحدة سكان الرقة من العودة إليها بسبب مخلفات الحرب مشيرة إلى أن ما بين 50 إلى 70 شخص يموتون أسبوعياً إثر ذلك وهو بنحو العدد الذى تشهده أفغانستان في العام. وفي مؤتمر صحفي عقده مساعد الأمين العام للأمم المتحدة والمنسق الإقليمي للشؤون الإنسانية في سوريا “بانوس مومتريس” الأربعاء 7 شباط 2017: صرّح أنّ البيانات تشير إلى أنّ كماً هائلاً من الألغام لم تنفجر بعد، وتابع “لم نرَ مطلقاً كمية ذخائر لم تنفجر مثلما يوجد في الرقة، كمياتٍ هائلة مزروعة في كل منزل وكل غرفةٍ وكل شبرٍ بالمدينة”.
وفي مدينة نصيبين المدينة الحدودية بين سوريا وتركيا ما يشبه واقع الرقة المأساوي، حيث يذهب الأطفال في أوقات حظر التجول إلى المنطقة المهدمة كي يجمعوا قطع الخردة ثم يقومون ببيعها. وفي أحد الأيام استطاع بعض الأطفال العثور على قطعٍ بيضوية الشكل، صفراء اللون، من بقايا الاشتباكات التي جرت في هذه المنطقة. لم يعلموا أنّ هذه القطع ما هي إلا قنابل لم تنفجر عند إلقائها. كان هؤلاء الأطفال يمسكون بها، ويقلبونها بين أيديهم، ثم يلقون بها بعيدًا عندما يدركون أنها ليست مصنوعة من الحديد. لم يدركوا في هذه المرة أن هذه القطع ستخلف هذا القدر من الانفجار الضخم بمجرد ملامستها الأرض. رأوا أمام أعينهم الأطفال الآخرين وقد مزقتهم هذه القنبلة إرباً إربّاً. هناك العشرات بل المئات من النماذج المشابهة التي استمرت طيلة الأعوام الخمسة عشر الأخيرة حيث مات من مات جراء ما يشبه هذه الانفجارات.
الغالبية العظمى في المناطق الريفية ممن يسوقون الحيوانات للرعي في تلك الأماكن، ولم يكن أحدٌ يعلم بأمر وفاتهم في تلك الأثناء. لقد أُضيفت مشكلة الألغام ومخلفات الصدامات والحروب إلى مشكلة حظر التجوال المفروضة منذ العام 2015 حيث يتضمن اتفاق حقوق الإنسان الذي وَقَّعَتْ عليه تركيا بنودًا واضحة لا غموض فيها بهذا الشأن والتي بمقتضاها: تلتزم الأطراف المتنازعة بإزالة مخلفات الحرب أو الصدامات المسلحة التي تركتها. وينص الاتفاق كذلك على المسؤوليات الخاصة بالألغام بشكلٍ لا لبس فيه. نعلم أن تركيا وَقَّعَتْ في عام 2003 على اتفاقية أوتاوا وتعهدت بمقتضاها بإزالة الألغام حتى عام 2014 وأنها ستتخذ كل ما يلزم تجاه ضحايا مخلفات هذه الصدامات، وعلى الرغم من هذا لم تتخذ تركيا أية خطوات جدية باستثناء بعض المحاولات الضعيفة، من أجل إزالة الألغام الموجودة على الحدود مع سوريا.
وبحسب منظمة (الهانديكاب) التي تعنى بشؤون ذوي الاعاقة والتوعية بمخاطر الألغام ومخلفات الحروب، فقد لقي أكثر من (350) شخصاً، أكثر من ثلثهم من الأطفال، مصرعهم جراء استخدام القنابل العنقودية المحرمة دولياً في الحربين الدائرتين في كل من سوريا واليمن خلال 2015 ونهاية 2016. وشكل المدنيون 97% من ضحايا هذه القنابل 36% منهم أطفال وحسب التقرير عدد الضحايا الأكبر كان في سوريا.
ختاماً، لابدّ من التنويه بأنّ الأشخاص ممن يعانون من فقدان أطرافهم أو من أشكالٍ أخرى من الإصابات لهم ميثاق خاص في الأمم المتحدة يتألف من 50 مادة، لكن يبدو بأنّ مناطقنا لم تكن يوماً مشمولة به.
بالنسبة للسوريين لا يزال الحديث مبكراً عن الدخول في دهاليز الاتفاقيات والمواثيق الدولية، فنحن لا زلنا نتنفس الحرب ونعيش تأثير أسلحتها الحيّة التي لازالت مستيقظة. جلّ أمنياتنا الحالية أن تُعقر أرحام هذه الآلات عن ولادة الملايين من الكتل المميتة أو المخلفة للعطب عندها يحق لنا الدخول والتوقيع على الاتفاقيات الخاصة بنزع الألغام وتفكيك القنابل غير المتفجرة. المكان الآن تحكمه الترسانات المتنوعة الجنسيات التي لازالت تحصد وتعطب ملايين الأرواح التي بات مشهد نهايتها بمختلف الطرق يمرق كلسعة نحلة تحقن أجساد العالم.
الهوامش:
1- وفيما يخص مسيرة تركيب الطرف الصناعي عبر التاريخ هناك كتيب أعده الكاتب Douglas C.” McMurtrie” معنون بـ ” Reconstructing the Crippled Soldier” والذي كتبه سنة 1918 وكان متفائلاً بعملية الزرع وعبر عن ذلك بقوله ” لا يوجد المزيد من المقعدين”.
2- تأسست جمعية “خطوات الإرادة” في غازي عينتاب ضمن بنية جمعية إعانة المرضى الدولية، وتعرف الجمعية نفسها بأنها خيرية تسعى للوصول إلى جميع من فقدوا أحد أطرافهم من الشعب السوري لتقدم لهم خدمة تركيب طرف صناعي عالي الجودة ومتابعتهم نفسياً وفيزيائياً حتى عودتهم إلى حياتهم دون أي عوائق.
يتم قبول الطلبات عبر الانترنيت على الرابط التالي.
بواسطة أسامة إسبر | أبريل 16, 2018 | Culture, غير مصنف
حوار مع الفنان التشكيلي والخطاط السوري خالد الساعي
أسامة إسبر: كيف بدأ دخولك إلى عالم الفن وما الذي قادك إلى الحرف الذي قدته إلى اللوحة؟
خالد الساعي: قادني إلى عالم الفن محيطي العائلي وبشكل طوعي، حيث كان الجو الثقافي في العائلة دائم الحوارات والدرس المعرفي بغرض التمتع بالفن وفهمه، كان انجذابي الأول للرسم، وقمت بأعمال بالألوان المائية والفحم، لكن الحرف أغراني لأنه تجريديا أعلى من الصورة وفيه إغراء جمالي غامض وبشكل غير تقليدي صرت أقلد حروف أخي لكن لا أعلم ماهيتها وكنت وقتذاك في الخامسة من العمر، وتعاملي مع الحرف كان كتعاملي مع الصورة والشكل لا المعنى والدلالة، وهذا جعل منظاري للحرف مختلفاً منذ البداية على أنه كائن وأنا من أحاوره وأضفي عليه اقتراحاتي حيث كنت لا أرتضي بالقوالب الجاهزة، بل أحورها وفق ما أراه، في مرحلة ما كنت أمسك الريشة وأرسم الحرف ثم أمسك قصبة الخط وأرسم بها فاختلطت عليَّ الحدود بل انفتحت ما بين فني الرسم والخط ، وذلك قادني مباشرة لأن أرى الحرف في لوحة التشكيل لا في قالبها التقليدي.
أسامة إسبر: الحرف لديك يخرج من البعد الزخرفي التزييني ويتجسد في أفق بصري إبداعي مختلف، ما الذي قادك إلى هذه الرحلة، من الجمالية الزخرفية إلى الجمالية الإيحائية ذات الطبقات المتعددة؟ أعني هنا أن الحرف تم إنقاذه من الجمالية الباردة، ودخل في أفق تأويلي تساؤلي؟
خالد الساعي: وهذا ينطبق على الفنون جميعا، أعني قد يقع الفنان أو الكاتب أو الشاعر إلخ في مطب التزيينية، هي ما بين استعراض القدرات والتقنية، ومابين إيصال الرسالة بأقل وأبسط طريقة. هناك مستوى للشاعرية القصوى كبعض أشعار البحتري هي ذروة في الإبداع الخالص والتي وصلت إلى عمق اللغة والإيقاع، لكن هناك عتبة قد ينحرف بها المبدع إما عن قصد أو أن التيار يجرفه. بالنسبة لي، في مرحلة ما انقدت إلى ذلك ولكن بهدف الإشباع الفني لكني شُفيت لأني صحوت وأدركت أن كثرة الكلام وكثرة العناصر قد تفضي إلى انقلاب القصد إلى ضده، صرت أميل إلى التكثيف الذي يُغني عن حشد العناصر الاستعراضي وذلك التكثيف يأتي على عدة صعد، في التكوين أو اللون أو في غنى سطح اللوحة وكله قيم تُضاف إلى العنصر الأساسي الحرف وتقويه، ربما ولعي بفكر الفنانين التعبيريين الألمان قوّى تلك الفكرة لدي كتجربة سوتين وغيره، وحتى المعاصرون منهم كأنسليم كيفر يتميزون بالحلول القوية التي تميل إلى التخلص من الزوائد وموازنته بتكثيف وإغناء السطح واللون، لكن الحرف يملك فضيلة أخرى وهي تعالقه مع اللغة واستحالة فكاكه عن القرائية والتأويل وبالتالي المهمة ربما تكون أصعب، فينبغي التحايل على بنية الحرف ليتطوع في التشكيل الكلي للوحة، وتحييد اللغة، أو فض التعالق بين الحرف كعنصر جمالي بصري واللغة، هنا أدخل بصلب عملية التحول الإبداعي، وهي تحويل الحرف للغة تعبيرية بصرية منفصلة عن دلالتها الأولى اللغوية لكنها مطواعة للتعبير البصري باللعب على جسد الحرف كراقص أو عنصر حي يعبر عن نفسه بالحركة.
من ناحية خصائص الحرف، هناك خطوط تزيينية بحتة كخط الديواني الجلي وغيره لكن خط الثلث فيه قوة وجزالة جعلتني أميل إليه أكثر، علاوة على قوته التعبيرية والإمكانيات اللامتناهية في توليد أشكال الحروف وتنوعها. في منطقة ما يلتقي العمل الإبداعي مع جوهره ومهمة الفنان إدراك ذلك بلا زيادة ولا نقصان.
أسامة إسبر: كانت الحروفية أو فن الخط مندرجاً في سياق جمالي تقليدي، وها هو الآن في أعمالك، يتبدى في جمالية جديدة، متوحداً مع حداثة اللوحة، ما المؤثرات التي قادتك إلى هذا الاكتشاف؟ خاصة أنك خرجت من لعبة الأصالة والمعاصرة، وثقافة ترسيخ الثابت والتقليدي. هل تعتبر نفسك حروفياً أم فناناً يستخدم الحرف لمآربه الإبداعية؟
خالد الساعي: أصبحت نظريات الحروفية ودوافعها معروفة من الجميع وأيضا مرجعيات من يتعامل معها و ينتج أعمالاً في هذا الحقل وخضعت لتصنيفات على صعيد استلهام الحرف مابين استنهاض القيم التقليدية للحرف ومزجها مع عناصر اللوحة وما بين مزج فلسفة الخط (الخط العربي) والخط بمفهوم الحركة، والتي قد تلتقي مع خطوط آسيا الوسطى، أي تستمد صيغة شكلية ما لكن تجعل إنتاجها مرهوناً بنبض وحالة الفنان لا مع الالتزام بصرامة الشكل وفي الحروفية العربية ذهبت إلى القيمة الكتابية كفعل وحركة تلقائية، أو حركة تحتمل إسقاط الفكر والفلسفة كشاكر حسن لكنني أرجعت الحرف إلى لبنته الأساسية، قيمته الجمالية الأولى وأخضعتها إلى نظام آخر من إنتاج الحرف كما فكك شعر التفعيلة الميزان الأساسي ووحدات الشعر ليعيد صياغة إيقاع آخر من علاقات الكلمات وايقاعها، لكنني أعتمد كثيراً على الحرف كقيمة تعبيرية شكلية، أظنني في مرحلة ما كنت حروفيا وهذا طبيعي، لكنني ومنذ عدة سنوات أقدم لغتي التشكيلية الخاصة التي عمادها الحرف والإشارة، والتي قد تقرأ جمالياً من متلق لايعرف العربية بشكلها الفني الخالص مع فض اشتباكها مع اللغة، وبالتالي الولوج إلى عتبة أخرى. أظنني أقوم بمهمة مزدوجة وهي الرهان على أن الحرف هو عالمي ولغتي وطريقة تعبيري، وهو فضاء رحب لامحدود على صعيد التأويل والإنجاز والاعتماد على الحرف من الناحية التفكيكية وإعادة بنائه وتحويره، والتي ما تزال تغريني لكن وبشكل غريب (وبعيدا عن الشعر) أصبحت أرى ما حولي وكأنه صيغ من أشكال الحروف، أو أنني اعتمد آلية تلقائية لتحويره في ذهني وهذا ما يخلق الالتباس الحميد في الرؤية لدي. التعريف مشكلة أحياناً، كأنك تقولب شيئا ما، في بعض أعمالي الأخيرة تذوب الحروف وتتلخص من هيآتها لصالح المشهد الكلي، فالحروفية صهرها ضوء وفراغ العمل أو تحولت باكتظاظاتها إلى حقول بصرية.
أسامة إسبر: ثمة علاقة حميمة بين النص الأدبي والشكل الفني البصري لديك، فأنت تستخدم القصائد والنصوص الصوفية وتلعب تشكيلياً بحروفها وكلماتها، كما لو أنها ألوان الرسام الممزوجة والجاهزة للاستخدام لتوليد احتمالات عوالم أخرى، ولكن ماذا عن روحها، كيف تتجلى روح النصوص وتحرضك على الكشف الفني؟
خالد الساعي: اللغة تعرف لبوسات مختلفة صوتها مثلاً، حركتها، أو شكلها الذي يجسده الحرف، المعنى روح والشكل جسد، و لكن التناص بينهما يتحقق إن شف الوعاء أو إن فاض المعنى. إن اشتغالي على الشعر لايزال وإن تغيرت المعطيات والصيغ، فالحرف بوابة للمعاني، وهذه البوابة غير محددة الشكل، والمعاني التي كنت أنهل منها الشعر كمورد أساسي للاشتغال أحيانا يغريني جرس اللغة لا المعنى وأحيانا الصور التي تولدها المعاني لكن الشغل الأساس هو على وحي شكل اللغة، أقصد صورة النص البصرية، أخذتني تلك الشعب إلى أبحاث ومسارات مختلفة، فالشعر التقليدي أخذني إلى مناح معينة لكن شعر التصوف أرجعني إلى روحانيات خالصة وراعني تأويل الحرف لدى المتصوفة وشق لي طرقاً أخرى فصارت الفضاءات أرحب وتخلصت اللغة من ثقلها وانعتقت لكنها في الوقت ذاته أخذت حيزا كبيرا من التأويل، والأهم ما يقترحه علي النص، وعملت على شعر المتنبي ودرويش ومحمد صارم فصارت اللوحات سجالا بين المعاني المنشودة وهيئة النص التي حاولت أن تكون صورته البصرية التي يمكن القبض على جوهره و روحه خارج اللغة لا بل بلغة مغايرة ،هذا ما أغراني في البحث عن نصوص وتحديات أخرى كالشعر العالمي الآخر، مثلا عملت على أعلام الشعر الفرنسي كرامبو وأراغون وبودلير والكثير وأخضعت التجربة الناتجة لاختبار، وأخضعتها بأن عرضت اللوحات التي تجاوز عددها الخمسين على فرنسيين من ذواقة الشعر لكن ليست لهم علاقة بالعربية وسألتهم إن رأوا فيها ما يماثلها من الشعر الفرنسي وكانت النتيجة مذهلة بأنه تم تحديد كل شاعر تماما حتى أنه تم الإجماع على قصائد بعينها كالمركب الثمل لرامبو، و أزهار الشر لبودلير، وحتى أنني وجدت الشاعرة الأسبانية خوليا كاستيليو تقف أمام لوحاتي التي استلهمت من شعرها وهي عن الوقت وقالت إنك اخترقْتَ مخيلتي وقبضت على الصور التي كنت أنشد ثم جلست على الأرض أمام اللوحات مندهشة.
في مكان ما عاليا يكون جوهر الأشياء ونحن ننظر من زوايا مختلفة ونلبسها فنا ما أو قراءة ما لكن المبدع قادر على تخطي ذلك، وهو قادر على التنقل بين هيئات المعنى المختلفة ولكنه يراها واحدة، والمتلقي المبدع يمكنه إدراك تلك المقاربات وتحسس الانتقال الجمالي، فكيف نقول موسيقا تصويرية أو صوراً شعرية، أليست تلك دعوة لفتح المستقبلات الحسية والفنون على بعضها البعض؟

أسامة إسبر: أعرف أنك تأثرت بجوك العائلي، العائلة الكريمة التي كانت في الميادين، هي الآن مشردة في أصقاع الأرض، للأسف الشديد. كيف كان جو العائلة من منظور الطفل المتأثر، وكيف هو الآن؟ ما هو التأثير الجديد للعائلة، وخاصة نحن نتحدث هنا عن مآسي الحرب وتأثيراتها على الإنسان السوري؟
خالد الساعي: يمكن أنني عرجت قليلا على الجو العائلي ودوره في تفتح مداركي على الفن باكرا جدا والنقاشات المشتعلة أبدا عن الشعر والرواية والفكر عموما وعن فني الرسم والخط والموسيقى أيضا وذلك أيضا كان له الدور المهم في إطلاق المدركات الحسية والتشويش على بعضها البعض، وكانت العلاقة بين الأخوة متميزة لا تنافس فيها وكان كل فرد له تمايزه الخاص لكن النقد كان أوفر من الإطراء مثلا لم أستطع أن انتزع إعجاب أخوتي الأكبر بأعمالي حتى ما بعد سن ال 26 ، كانت لنا جلسات قراءة و طقوس للشعر واللغة، الآن أنظر الى ذلك بعين الدهشة لما كانت فيه الأجواء العامة من سكينة وهدوء، أقصد لم يكن لحديث السياسة والقومية من موضع، الآن أصبحت الأمور أكثر تعقيدا وتركيبا حيث تشتتنا في أصقاع العالم، ولم تعد تلك الأجواء إلا في ذكرياتنا وحل الواقع القاسي محلها، تبعات الحرب والخسارة والتشرد فرضت نفسها، ذهنيا وعمليا، حتى تجربتي أخذت منحى مختلفاً في العمل الفني كمنظور ورؤية وصيغ فنية مغايرة. لا نريد الاستسلام لأنه لم تعد لنا بيوت بل لم تعد مدينة الميادين أصلا فهي أنقاض فحسب، الوطن لم يعد ينتمي إلى جغرافية ولا حتى كفكرة وإيمان وهذا زعزع تركيباتنا الداخلية.
مؤخرا قال لي أخي الأكبر إنه رجع إلى الخط وربما أجواء استانبول لها إملاءاتها أيضا، أخي الآخر (ذواقة العائلة) وهو أكثر من عانى في هذه الحرب سنوات بلا ماء ولا كهرباء، عاش كإنسان بدائي، الآن بعد أربع سنوات تكلمت معه في منفاه بالشمال قال لي إنه رجع يكتب قصاصات خطية أدعية وأمنيات ويوزعها لبث الأمل في النفوس وقتذاك كنت أنا أكتب على الثلج و أدس القصاصات الحروفية التجريدية في شقوق لحاءات الشجر العملاقة في ضواحي بوسطن.
لعلها الأصالة جاءت من التربية الدقيقة، ومن الهاجس الكبير الذي لازمني منذ الصغر فكنت أقرأ قصص المبدعين وفرادتهم وذلك كان محرضاً كبيراً، فصرت أذهب إلى شاطىء الفرات كثيرا وأتأمل إلى أن تحولت المشاهد حولي إلى أحرف، فصارت حقول القمح الحصيدة كرزم من أحرف الخط السنبلي وهي تتمايل بعناد. صار لدي نوع من توأمة الخط مع الرسم وبحثت في التقاءاتهما التشريحية ووافق كل منهما وربما أعدت للحرف وجوده المادي وأطلقته في الطبيعة.
أسامة إسبر: ما هي المواد التي تستخدمها والتي تساعدك أكثر على التحكم الإبداعي بالحرف؟
خالد الساعي:المواد التي تليق بالحرف هي الحبر والورق وكان اشتغالي الأولي عليهما لكنني رويدا رويدا دخلت قماش الرسم وبقيت أكتب بالقصب عليه لكنني طورت أدواتي كثيرا وخضت تجارب في تحضير الألوان من الطبيعة وفق وصفات متفق عليها تقليدية وتجارب أخرى استخلصتها بنفسي، في ولاية ميشيغان كانت لي تجربة مع السناجب، تجربة شراكة فكانت تأتي حديقة بيتي تأكل الجوز وتترك لي قشرته التي كنت أستخلص منها اللون البني. القماش بحر من التجريب وأيضا الألوان وحواملها من أصماغ لها دور كبير في بحثي لكن بالتجربة والخبرة صرت أرى ما يلائم كل سطح و تقنية لكن التقنية نفسها تقود إلى آفاق قد لا تقع في بال الفنان لذا التجريب والعبث مهمان بنفس المستوى لاجتراح أماكن و ملامح جديدة للتقنية.الأحبار والألوان المائية والإكرليك هم الأكثر استخداما عندي إن كان على الورق أم القماش وحتى في الاعمال الجدارية
أسامة إسبر: قلت مرة إن الفنان يجب أن يمر في مرحلة طويلة من التدريب حتى ينفتح له الخط، وكأنه يُشرق من داخله، هندسة روحانية، وقد يفشل ولا يُوفَّق أحياناً، لعدم جلاء أفق الخط له، وهذا له علاقة بحالة الصفاء الداخلية، كما لو أن رحلتك مع الخط رحلة متصوف، هل يمكن أن تحدثنا عن مرحلة التدريب التي مررت فيها، عن حالات فشل معينة ساعدت على إعادة النظر والنجاح، ثم كيف تحققت لحظة الإشراق في التجلي الحروفي؟
خالد الساعي: الحرف هو شكل وممارسة، هذه الممارسة تتجلى في التمرينات وهذه التمارين بمثابة رياضة روحية، الخط هندسة روحانية، نعم كنت كثيرا ما أفشل في الدخول لحضرة الحرف، وكانت لحظات كبيرة من الإحباط الذي يشرف بي على الشك، وهذه مرحلة معقدة لها علاقة بالشخصية والإيمان والقدرة على الرؤية بمنظار مختلف، وجود المعلم ضروري لالتماس مواضع الخلل لكنه سيضع يده على الخلل التقني ولكن انفتاح أفق الحرف له علاقة بضبط الإيقاع الداخلي وجعله يتساير مع إيقاع الحرف، بهكذا سلوك يمكن كتابة الحرف بعيون مغمضة لأن الإيقاع صار في دم الخطاط، إن لم نشعر بالموسيقى لايمكننا محاكاة الحركات فحسب لأننا سنكون مقلدين. الإيقاع ينبع من الداخل، كما يقال الحرف حافة والحرف حجاب لكنه حجاب لعالم رحب ومهيب، ويجب أن نعبر الحرف لأن أصحاب الحضور يعبرون ولايقفون بالحرف بل يلجون لإيقاعه الداخلي، جوهره. لسنوات كنت أستمتع بالتمرين أكثر من إنجاز العمل لأن متعته دون حسابات بل متعة خالصة، التمرين رياضة روحية، نوع من العلاج والطقس الذي به تزول الشحنات السالبة والغضب تجاه السلام الداخلي.
أسامة إسبر: المتأمل لأعمالك يلاحظ بأن الخط تحرر من سياقه وخلفيته، صار واسع الدلالة، حداثياً وقابلاً للتلقي والتذوق في كل الثقافات، بمعنى أنك تحاوزت المحلية بالخط، هل لأنك حولته من شكل لغوي عادي إلى شكل بصري إيحائي في عالم فني صار فيه إشارة ورمزاً أو دلالة سياقية؟ كيف تصف إضافتك في هذا المجال؟ ما الإضافة التي هي خالد الساعي وليست غيره؟
خالد الساعي: دعمني كثيرا اشتغالي على الأصول واشتغالي الطويل على النص والنص الشعري بشكل أكبر، وبالتالي محاورة المعنى، ولا شك أن هناك عنصرين كان لهما كلمة السر في توجه بحثي تجاه فتح الخط على التعبير أكثر من اعتماده على اللغة القاموسية، أولهما الإمكانية اللانهائية في صيغ وأشكال الحروف وإعادة التركيب والبناء، هذه المطواعية الشكلية هي الركيزة الأهم، والثانية هي الأفق التأويلي للفن والحرف على وجه الخصوص، فالقراءات العرفانية فتحت آفاق واسعة لي كتأويلات النفري وابن عربي وغيرهم لدلالات الحروف، إن كان على صعيد شكل الحرف أو على مستوى التأويل، والأهم إملاءات شكل كل حرف على حدة فحرف الجيم جنة أو جهنم تبعا لشكل ونوع الخط، جيم الديواني الجلي جنة وموسيقى وليونة، جيم الكوفي القيرواني كالغضب والعدوانية، جيم خط الثلث تمثل القوة والجمال معا ولونه أسود أو أحمر. هناك إملاءات لأشكال الحروف التي تراكمت عبر تجارب الفنانين الخطاطين لأكثر من ألف سنة. إذا الحروف هي منظاري لرؤية العالم ووسيلة تعبيري الرحبة والتي ما خذلتني.
المحاورة مع المعاني تتجاوز اللغة، وهذا ما دفعني لإيجاد لغة داخل اللغة، لغة بصرية داخل لغة المعجم، لغة يشتغل فيها الخيال ولا تشغلنا الصورة بل ما وراءها. أظن لم يشتغل حروفي من قبل على هذه المعطيات ولا على صعيد الحرف الذي ينبع من قيمته الجمالية الكلاسيكية لكنه يتجاوزها بتوليد صيغ متجددة.
أسامة إسبر: قالت الباحثة الألمانية كارين أدريان فون روكس في كتابها عنك، والذي يحمل عنوان ”خالد الساعي“، إن الفنان الساعي لا يكتب حروفه وكلماته بخط مستقيم، وهو لا يجمّعها في خط أفقي، كما هو سائد، بل يخطها كما لو أنه في فضاء تخيلي، هذا الفضاء التخيلي، ألا يمكننا اعتباره تجاوزاً للحروفية السائدة، أي أن نقلة نوعية حدثت هنا، وأعتقد أن أهمية كثير من أعمالك تنبع من هذا التحويل للفن الحروفي بأكمله. هل كان هناك نقد لتجربتك في هذا السياق، أعني من أشخاص اعتبروا ما فعلته خروجاً على المقدس الحروفي؟
خالد الساعي: أظنه عتبة أخرى للحروفية، لأن الحروفية لايمكن أن تبقى دون تجديد دماء، تجربتي هي إعطاء دفع وفضاء مغاير لمدرسة الحروفية، قد لا أتفق مع التسمية، وقد تكون مجرد اصطلاح، لكن المهم هو القيام بتجديد المدرسة من الداخل، في مرحلة ما اعتبر السرياليون أن سلفادور دالي لم يعد سرياليا لكنه من ساهم بنقلها لمستوى أعلى، الخروج من عباءة الموضوعات الدينية ساهم في تحرر فن الرسم الأوربي من ذهنية معينة، إنه صيرورة في الزمن، ساهمت بالتحرر من الفكر الذي فرضته الموضوعات لكن الأفق الجديد ساهم بصياغة أسس مختلفة لفن الرسم، وبعد ذلك لم يعد الموضوع يهيمن على طبيعة الرسم وأصبحت مسألة إعادة الموضوعات الدينية تأخذ منحى مختلفاً، لكن الأهم هو حرية الفكر وتطوير نظريات الفن. الخروج يساعد في رؤية الأشياء أفضل أو على الأقل كسر الروتين، والقوالب وإتاحة المجال للنقد والتفكر.
أسامة إسبر: ما علاقة الحروف العربية بالأشياء برأيك؟ هل كونها معبرة عن أشياء، يخرجها حتى في شكلها العادي من تجريديتها ويقودها إلى تجسد بصري، هل تقرأ الأشياء في الحروف، ماضيها، أصلها الغامض، ومن ثم توحِّده مع اكتشاف غموض النفس البشرية؟
خالد الساعي: سؤال يتطلب الكثير للإجابة عنه، في قناعتي إن الحروف هي الكون الموازي أو العالم الموازي لعالمنا، فمقولة ( إن الحروف أمة من الأمم ) ليس بتعبير مجازي بقدر ما هو واقعي، يقول التوحيدي كنا حروفاً عاليات لم تقرأ، يساهم في تكثيف هذه الجدلية وغموضها، أعني أن الكلام أو الحروف هي الأصل وهي المآل، إذ كل شيء سيزول ويبقى الذكر.
اللغة : ألم تكن الهيروغليفية مزيجاً من الصورة والحركة للتعبير، ثم إن نظام الإعجام بالعربية ألم يكن له بعد صوتي زمني يراعي مخارج الأصوات وأماكنها وزمنها، أعني تحويل الصوت والحركة إلى شكل؟ لاشك أن هناك كثيراً من الأشكال والصور تسربت إلى أشكال الحروف هي ليست مقاربة جمالية لكنها حقيقة، فحرف العين وإشكالية انتمائه الشكلي إلى العين البشرية، وحرف السين بتعدد أشكاله وهو مأخوذ من السيف تارة أو من الأسنان تارة إلى آخر صيغه، الناظر إلى تسميات هيآت الحروف وتموضعاتها لن يساوره أي شك بأن الحروف كانت أشكالاً والخطاط الفنان حولها وحورها لتكون برزخا بين التشخيص والتجريد وهذا ما أدعوه بالصورة المضمرة في فن الخط العربي. تحدث أبو عمر الداني في كتابه المحكم عن الحروف، وما حرك أول فضول لدي في الصورة المضمرة هو حديثه عن حرف الألف المدعم بالرسم فقد حدد سبعة أعضاء لهذا الحرف،رأسها، و صدرها وبطنها وخصرها الخ كأنه يصف جسد إنسان بمنظر جانبي، وهذا من وجهة نظر علم الجمال التقليدي يقع بما يسمى بالنسبة الذهبية وهي القيمة المثالية والناظمة لعلم الجمال، فكل الحروف في خطي الثلث والنسخ تقع ضمن تلك الهندسة، لكن هناك سمات كثيرة ينفرد بها الحرف العربي عن باقي الأبجديات، غير أشكاله وأنواعه اللامحدودة، ألا وهو النظام البنائي لتجاورات الحروف والذي هو بنية تشكيلية غاية في الإدهاش فالحرف يتغير حسب ما قبله وما بعده، إضافة لنظام النقط والنبرات وهذا ما يعطي مجالاً للمناورة التشكيلية الكبيرة.
لكل حرف سبعة أبعاد أولها البعد الشكلي ثم التشكيلي ثم الموسيقي ثم العددي ثم الرمزي ثم الدلالي ثم العرفاني أو الصوفي. الوضوح والغموض أجمل تجليات الفن تقع بين نواسيهما، والغموض السحري للحرف العربي يجعله لغة ساحرة تصل إلى الإطراب الجمالي دون اللجوء لتفسيرات، كأن تذوّب العسل في الشراب.
لا توجد نظرية جازمة عن أصل الحروف العربية تماما، لكن تعالقها مع أخواتها ساهم في مقاربتها، هناك من يقول إن الأبجدية العربية لغة سماوية تحكي قصة أبي جاد (آدم) ونظرية أخرى بل أسطورة تقول إن نوح حمل الألواح التي كُتبت بها أبجديات العالم وألقاها في الماء إبان الطوفان ثم عادت كل أمة لتجد حروفها لديها. التوحيدي والنفري ربطا الحروف بحركة الشمس والكواكب ومنازل القمر تلك التي تقارب الحروف الشمسية والقمرية فصارت الحروف شيفرات معبأة بالمعاني، لكن الرومي يقول الحرف وعاء والمعنى ماء وبحر المعاني من عند الله.

أسامة إسبر: ما الذي يجذبك في الخط الثلث والديواني الجلي؟
خالد الساعي: لعله أبسط وأجمل سؤال. الأشكال إما لينة وإما قاسية لكن في الليونة قساوة باطنة وفي القساوة ليونة خفية. الخط الثلث أقوى الخطوط وأكثرها توليداً لأشكال الحروف، والديواني الجلي أكثر الخطوط ليونة وانسيابية. إنهما طرفا النقيض، بل التكامل وأشكال الخطوط الأخرى قد تكون تنويعات لهما. خط الثلث يمثل الرجل والقوة و التحكم، خط الديواني الجلي يمثل المرأة والرقة والموسيقى. إنهما لغة الشدة واللين، الشراسة واللطف، الحب والقوة. الثلث لغة السيافين والفرسان، والديواني لغة الطرب والغنج ، ربما لأن برجي الجوزاء كبرج المتنبي سأبقى حبيسهما.
أسامة إسبر: في الآونة الأخيرة كرّسْتَ وقتاً لا بأس به للعمل على الجداريات الكبيرة، مثل العملين اللذين نفذتهما في مدينة ولفسبرغ الألمانية، إحدى الجداريات مستوحاة من شعر الشنفرى (لامية العرب) واشتغلت على جداريات وأعمال كبيرة عن إيقاف القتل والتشريد وآلام الهجرة واللجوء كان آخرها بألمانيا في متحف الفن ببون.
سافرت إلى أكثر من 16 مدينة ألمانية وعشتَ و فهمت صعوبات اللجوء والاندماج في المجتمعات الجديدة، هل يمكن أن تحدثنا عن عملك على هذه الجداريات، ما الذي يميزها فنياً، وكيف تفاعل الجمهور معها، وكيف استطعت أن تنقل فيها الحروف من بعدها التجريدي المنفصل إلى لغة تعبر عن معاناة حقيقية على أرض الواقع وهي المأساة السورية بكل تفاصيلها؟
خالد الساعي: ذلك العمل الجداري في متحف الفن في نوينهاوس من أكثر أعمالي قوة لكن ارتباطه بوطني وجراحات السوريين والمأساة المستمرة جعله أكثرها تأثيرا. كان الهدف منه إلقاء الضوء على مآسي السوريين في الغربة وتحديات بلدان اللجوء على كل صعيد لكنه ورطني بسفر طويل جلت فيه معظم بلدان اللجوء وخصوصا ألمانيا ووقفت على آلاف القصص المريعة، رافقتها إحباطات وهواجس على المستوى الشخصي أيضا. أردت أن أحول هذه المعاناة إلى عمل صادم جارح، العمل بمثابة توثيق بصري لكل المدن التي طالها التدمير والتهجير وتوثيق لكل المجازر التي ارتُكبت. مفتاحا العمل هم القتل والدم القتل ممثلا بالبرميل المتفجر، والدم ذلك السهم الذي يفر للسماء من وسط اللوحة، العمل فيه تدوين بصري كتابي لكل ما جرى على مر ستة سنوات، وأيضا فيه إشارات سابقة للواقع منها التغيير الديموغرافي فترى الميادين قرب جسر الشغور وهذا ما حصل من أشهر، في العمل إشارة واضحة للأطفال فهم أكثر من دفع من فاتورة الحرب الدموية وأيضا هم رمز للاستمرار والنصر لكن اللوحة أيضا هي ذات صبغة إنسانية أكثر من أي شيء. الألوان المهيمنة هي ألوان ما بعد الدمار الرمادي الثقيل والبني المغبر واختلاطهما. أهم شي في اللوحة هو إعادة صياغة شكل اسم كل مدينة حسب حجم تأثرها فمدينة البيضاء قطعت وأعيد توصيلها بشكل يخالف التشريح المعتاد للكلمة ورافق مع صور من المجازر التي تعرضت لها ومضايا أصبحت نحيلة كشبح حالها كحال أهلها الجوعى. الرمزية كانت طاغية على العمل واستعمال أحرف وكلمات غير عربية إنكليزية في الغالب والمانية ك (من هم المسلمون) و(قوة) و (لماذا) والكثير وأيضا إشارة لأن الغرب ليس بريئاً من استحداث الإرهاب فوضعت مقالة عن الإرهاب الغربي لروجيه غارودي. اللوحة فيها مستويات كثيرة ورسائل مختلفة لكن بالنسبة لي تحقق شيء كبير في تجربتي وهو أن الحرف صعد لمستوى التعبير عن الحدث ونزل إلى أرض الخراب والقتل وصرت ترى الأشلاء مع الحروف كأن الحروف تخلت عن رواسبها وصارت تشاطر الإنسان نصيبها من القتل والتفظيع فصرت ترى ميما دامية برأسين و دالاً مقلوبة وعيناً مدماة ، أوصال البشر والحروف.
ما نفع الفن إن بقي في الصالونات و بقي يعبر عن ترفنا وخيالاتنا؟ رجل يتمسك بقارب على شكل باء، الحرف قد يساهم بالإنقاذ كما أن حرباً قد تقع على حرف، الحرف وسيلة تعبيري ونبضي وأحد أشكال وجودي.
نعم عملت عدداً كبيراً من الجداريات وكانت جداريتيْ مدينة ولفسبرغ من أكثرها طرافة في الموضوع حيث العملان متقابلان في فضاء عام يتيح لآلاف الأشخاص رؤيته يوميا وهو مكان يدعى محطة الفن وهو ضمن محطة القطار الرئيسية، اللوحة الأولى منه من وحي المدينة وهو قصر الذئب وما فيه من تداخل أسطوري عن الذئب لكن القصر في غابة مخيفة لذا عملت اللوحة كمتاهات لونية وتكوينية يتيه فيها الناظر وتعكس الجمال والوحشة والخوف بألوانها الغنية المتداخلة على أن الذئب مصدر الخوف.
في اللوحة الجدارية المقابلة استلهمت فكرة قصيدة الشنفرى لامية العرب مع تضمينات كثيرة من النص والتي تحكي عن قيم الإنسان الحر المتوحد مع الطبيعة والحيوانات وأهمها استئناس الذئب ومصاحبته والنوم مع الوعول الخ، آخر الصور الوصفية المدهشة لمناخات الصحراء، وكانت اللوحة باللونين الأسود والأبيض المغبرين كاستعارة عن الصحراء وأيضا أصبحت اللوحة على النقيض من مقابلتها لكن اللوحتين نُفذتا بخط الثلث الذي أوصل رسالتين عكس بعضيهما.
إن فترة إنجاز الجداريتين كانت غنية بالحوارات العفوية وفهم عقلية الألمان المتحفظة والطموحة فقد جرت لي نقاشات هائلة معهم وكانت تجربة لاتنسى.
*خالد الساعي khaled Alsaai فنان وحروفي سوري مجدد في مجال فن الخط، وهو من مواليد مدينة الميادين السورية، 1970. تخرج من كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1998 وحصل خلال مسيرته الفنية على عدد من الجوائز العربية والعالمية، أبرزها جائزة البركة الدولية للخطاطين المحترفين في الدورة الأولى لفن الخط العربي من اسطنبول وجائزة الحداثة في الخط في الدورة الثالثة من بينالي الشارقة والجائزة الأولى بالخط التقليدي في مهرجان الخط العالمي الأول بطهران. كما أن أعماله مقتناة من قبل العديد من المتاحف كالمتحف البريطاني ومتحف دنفر في كولورادو بالولايات المتحدة الأميركية ومتحف سان بيدرو بالمكسيك ومتحف الفن الحديث بالمغرب ومتحف الشارقة لفن الخط. شارك الساعي في كثير من المعارض العربية والدولية، وشارك مؤخراً في معرض في ألمانيا عرض فيه جدارياته عن الحرب السورية.
بواسطة Syria in a Week Editors | أبريل 16, 2018 | Media Roundups, Syria in a Week, غير مصنف
ضربة “رقيقة” وانقسام “قاتل”
٩-١٥ نيسان/ابريل
أسبوع جديد اشعل الصراع الدولي في سوريا وتشكيل “حلف ثلاثي” أميركي – بريطاني – فرنسي لـ “معاقبة” دمشق.
منذ ادعاءات الهجوم “الكيماوي” على دوما في الغوطة الشرقية في الأسبوع الماضي، تصاعدت التهديدات الأمريكية بالقيام بضربة عسكرية للنظام “معاقبة له على تجاوز الخطوط الحمر” التي كان رسمها الرئيس باراك أوباما في ٢٠١٢.
وأيدت فرنسا وبريطانيا توجه الرئيس دونالد ترامب وعبرت عن رغبتها بالمساهمة بالعمل العسكري، وبعد جلسة فاشلة لمجلس الأمن يوم الثلاثاء الماضي والتي انتهت بـ “فيتو” روسي ضد مشروع قرار أميركي يقضي بإنشاء آلية تحقيق حول استخدام الأسلحة الكيماوية في سوري، أعلن ترمب عبر حسابه على “تويتر” يوم الأربعاء بأن على روسيا الاستعداد للصواريخ الأميركية التي ستضرب سوريا.
بعدها تراجع عبر تغريدة بأنه لم يحدد الوقت فقد يكون قريب جداً أو لا يكون. وقابل ذلك ردود روسية بما في ذلك الطلب من ترمب توجيه “صواريخه للإرهابيين بدلاً من توجيهها للحكومة السورية.”
وأظهر التوتر حجم الاحتقان في الساحة الدولية ورفع من احتمال انزلاق الأوضاع إلى تدهور كبير بين القوى العظمى، وانعكس ذلك على أسواق العملات والسلع والأسهم العالمي.
في مقابل التصعيد، قبلت دمشق استقبال لجنة تحقيق من منظمة حظر الأسلحة الكيماوية لزيارة موقع الهجوم التي وصلت يوم السبت. (رويترز)
وقبل وصول المفتشين الدوليين الى دوما وعودة البرلمان البريطاني للانعقاد الاثنين (بسبب قلق رئيسة الوزراء تيريزا من عدم الحصول على دعم كما حصل مع سلفها ديفيد كامرون في ٢٠١٣)٬ نفذت الدول الثلاث فجر يوم السبت ١٠٥ ضربات استهدفت مركز البحوث العلمية في برزة مركز البحوث العلمية في حماة ومستودعاً للجيش في حمص.وتناقضت التصريحات حول تحقيق الصواريخ لأهدافها حيث صرحت وزارة الدفاع الروسية أن ٧١ من أصل ١٠٣ صواريخ تم اعتراضها، بينما أشارت وزارة الدفاع الأميركية أنه لم يتم إسقاط أي صاروخ وأنها حققت أهدافها بنجاح. (رويترز)
الضربة لا تستهدف وقف الحرب أو “تغيير النظام”٬ بحسب عدة متحدثين من التحالف الثلاثي، هي لضرب قدرة النظام على استخدام السلاح الكيماوي، وهي ضربة محدودة وقد أدت غرضها. وأيد الضربة حلف شمال الأطلسي (ناتو) وكندا وإسرائيل وتركيا والسعودية وقطر، واعترضت عليها روسيا والصين وإيران والعراق ولبنان ومصر ما يوضح التناقض الدولي والإقليمي المستمر فيما يتعلق بالقضية السورية.
لكن محدودية الضربة وما يبدو كاستعداد النظام في سوريا لها من خلال إخلاء المواقع المستهدفة وعدم استهداف أي مواقع لحلفاء النظام السوري، أفرغ التهديدات السابقة بضربة قاسية للنظام من محتواها واعتبر بعض المراقبين أن النظام تجاوز الضربة بأقل الخسائر ولن يغير سياسته ووطد الحلف مع روسيا وإيران.
وضمن كل هذه القضايا الشائكة والمتناقضة والتي تدل على أن الضربة خطوة في مسار متدهور للحرب السورية حيث تأجيج العنف مستمر دون إرادة دولية لوقف العنف أو على إيجاد مخرج. أظهرت الضربة مرة جديدة خطورة الحرب على السوريين٬ فالحرب بينهم تتعمق كل يوم والتشظي ظهر بمحتفل بصد العدوان ومحتفل بشن الهجوم، هي إحدى محطات التشظي التي يصعب علاجها.
وكما في الغوطة وعفرين أظهر سوريون تمزقاً قاتلاً يهدد نسيجهم وهويتهم. ويكمن التناقض في أن السوريين عانوا من الدور الأميركي الذي دعم إسرائيل عبر عقود طويلة ودمر العراق من خلال غزوه وتهشيم بنيته، كما أن الكثيرين يرون في ترمب شخصية بعيدة عن مطالب الحرية والعدالة التي تتطلع لها شعوب المنطقة. بالمقابل فالنظام السوري فتح حربه داخلياً منتهكاً كل ما هو محرم دولياً وشعبياً، رافضاً التغيير باستخدام القوة، وأصبح امتهان الحياة صديقاً للسوريين، وكلما تقدم الدعم الخارجي من روسيا وايران للنظام تعنت داخلياً واستباح الناس.
هل الخيار محصور بين الاستبداد المحلي والاستبداد الدولي؟
دوما في قبضة للنظام
١٤ نيسان/ أبريل
تسارعت خطوات الاتفاق بين “جيش الإسلام” والقوات الروسية بعد الهجوم الكيماوي الذي ترافق مع تصعيد عسكري نهاية الأسبوع الماضي من قبل قوات النظام والقوات الروسية. حيث وافق “جيش الإسلام” على المغادرة إلى ريف حلب وتسليم دوما للشرطة العسكرية الروسية، وقد أعلنت قيادة الجيش السوري السبت استعادة دوما ودخول الشرطة السورية إلى المدينة وبذلك تكون الغوطة الشرقية تحت سيطرة النظام ويكون الجيب الوحيد المتبقي خارج سيطرته في محيط العاصمة هو مخيم اليرموك والحجر الأسود حيث تسيطر على جزء منه “داعش”.
ويتوقع ان تكون المحطة المقبلة في جنوب دمشق ثم ريف حمص٬ على ان يبقـي مستقبل ادلب وريف درعا وشرق الفرات رهن تفاهمات روسيا مع قوى إقليمية ودولية.
بواسطة Ibrahim Hamidi | أبريل 14, 2018 | News, غير مصنف
شن «التحالف الثلاثي»، الأميركي – البريطاني – الفرنسي، فجر الجمعة / السبت هجمات منسقة على مواقع تتعلق بـ «برنامج السلاح الكيماوي السوري» في دمشق وحمص.
ورغم عدم وصول جميع حاملات الطائرات والمدمرات الأميركية إلى البحر المتوسط، استعجلت الطائرات البريطانية من قاعدتها في قبرص والمدمرات الأميركية والفرنسية في المتوسط توجيه حوالى ١٠٠ غارة. والاستعجال مرده سببان: الأول، شن الغارات قبل وصول مفتشين من «منظمة حظر السلاح الكيماوي» إلى دمشق اليوم. الثاني، قبل عودة مجلس العموم البريطاني إلـى الانعقاد الاثنين خصوصاً أن رئيسة الوزراء البريطاني تيريزا ماي قررت المشاركة دون استشارة البرلمان وهناك معارضة ضد القرار.

وهنا بعض النقاط في الطريق الى الغارات الثلاثية:
اتصالات وقرارات
التأم قبل يومين، كل من مجلس الأمن القومي الأميركي برئاسة الرئيس دونالد ترمب والحكومة المصغرة برئاسة تيريزا ماي، التي أكدت بعد اجتماع مطول مع فريقها «الحاجة إلى فعل (عمل) لتخفيف المعاناة الإنسانية وردع الاستخدام الإضافي للأسلحة الكيماوية من قبل نظام الأسد». ثم اتصلت بالرئيس ترمب حيث «اتفقا على أن نظام الأسد قد وضع نمطاً من السلوك الخطر فيما يتعلق باستخدام الأسلحة الكيماوية».
وبدا أن ملف تسميم الجاسوس الروسي ووقوف ترمب مع لندن بمعاقبة موسكو دبلوماسياً لعبا دوراً حاسماً بقرار ماي الذهاب إلى المشاركة في العمليات العسكرية من دون اللجوء إلى مجلس العموم، على عكس ما حصل في 2013 عندما فشل رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون في الحصول على موافقة برلمانية. وبذلك بات هناك حلف ثلاثي من أميركا وبريطانيا وفرنسا التي كانت مبكرة في دعم الموقف الأميركي.
وكان لافتاً حصول اتصال أول أمس بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الروسي فلاديمير بوتين وظهور قراءة مختلفة في باريس وموسكو بين تحذير الكرملين من «عمل متهور وخطير» في سوريا، وحديث الإليزيه عن ضرورة «الحوار» مع روسيا. كما أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان حاول الدخول على خط التهدئة لدى إجرائه اتصالات مع ترمب وبوتين لحضهما على وقف التصعيد، مقترحاً البحث عن حل سياسي و«تنازل مؤلم» من موسكو لحلحلة الملف الكيماوي.
الحشد العسكري
أفادت صحيفة «ذي تايمز» أول أمس، بأن واشنطن بدأت نشر أكبر أسطول لها منذ حرب العراق عام 2003 في البحر المتوسط. وقالت إن ذلك يشمل 10 سفن حربية وغواصتين في البحر المتوسط ومنطقة الخليج، بينها المدمرة دونالد كوك التي تحمل 60 صاروخً توماهوك، إضافة إلى 3 مدمرات أخرى قريبة جداً. كما أن حاملة الطائرات «يو إس إس هاري تورمان»، التي تعمل بالطاقة النووية أبحرت مع 90 طائرة و5 سفن مرافقة، الأربعاء الماضي، من نورفولك بولاية فرجينيا إلى المتوسط.
إضافة إلى ذلك، كانت هناك قطع بحرية فرنسية، وقطعتان بريطانيتان وقرار لندن فتح قاعدتها في قبرص أمام الجيش الأميركي للتدخل في سوريا بشكل أوسع من مشاركة بريطانيا ضمن التحالف الدولي لمحاربة «داعش». وساهمت قاذفات من السلاح الجوي البريطاني.
وبحسب مسؤولين غربيين، فإن المحادثات بين المسؤولين العسكريين بين الدول الثلاث في اليومين الماضيين تناولت كيفية تنفيذ القرار السياسي، خصوصاً كانت تعقيدات متغيرة بسبب قرار “عدم الصدام” مع روسيا، لكن في الوقت نفسه ضرورة الاستعداد لاحتمال كهذا. وبحث المسؤولون ما إذا كانت بريطانيا ستشارك بطائراتها واحتمال استهداف هذه الطائرات من روسيا خصوصاً في ضوء الأزمة حول الجاسوس الروسي أو الاقتصار على فتح القاعدة البريطانية في قبرص، إضافة إلى ما إذا كان يمكن تحقيق الأهداف بغارات من طائرات أم بصواريخ من البحر المتوسط. واقترح مسـؤولون أميركيون انتظار بضعة أيام إلى حين وصول القطع البحرية الأميركية كي تتوفر الإمكانية العسكرية لتحقيق الأهداف والتعاطي مع أي تصعيد روسي، مع الأخذ في الاعتبار الالتزام بمبدأين سياسيين: عدم الاحتكاك مع روسيا وعدم سقوط ضحايا مدنيين. لكن لندن، التي لعبت دور في الحشد للضربات في ضوء ازمة الجاسوس الروسي والدعم الاميركي، قررت لعب دور أكبر في القصف واستعمال قاذفاتها.
الأهداف
جرت محادثات بين واشنطن وباريس ولندن وبين المؤسسات في كل دولة إزاء الأهداف المحتملة، وما إذا كان المطلوب «ردع» دمشق عن استخدام الكيماوي أو «معاقبتها» على استخدامه أو «تدمير المصانع ووسائل النقل والمطارات المنخرطة في هجوم دوما أو قبله وبعده». وطرح مسؤولون أوروبيون على واشنطن أبعاداً سياسية مثل ضرب قوات الحكومة قرب مناطق حلفاء واشنطن شرق الفرات أو جنوب سوريا. كما اقترحت باريس على واشنطن أن تكون الضربات «ضمنت استراتيجية سياسية ترمي إلى البحث عن حل سياسي وسوريا الغد».
واقترح إسرائيليون في الوقت نفسه استهداف مواقع تابعة لإيران أو «حزب الله»، الأمر الذي حذر منه بوتين لدى اتصاله برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل أيام، إضافة إلى تسريبات إيرانية من أن طهران سترد على استهداف خبراء طائرات «درون» في قاعدة «تيفور» وأن «حزب الله» أو إيران قد يستغلان التصعيد الثلاثي لاستهداف مواقع إسرائيلية وتصعيد الحرب إقليمياً بالتزامن مع نية ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي. وبرز احتمال حصول مواجهة إيرانية – إسرائيلية مباشرة بعد «حرب بالوكالة» سابقاً.
وبحسب المعلومات، بقي الرئيس ترمب متمسكاً بقراره أن تكون الضربات متعلقة فقط بـ “البرنامج الكيماوي وتجنب التصعيد مع روسيا”، لكن «مع توجيه ضربات أكثر من عقابية كما حصل في أبريل (نيسان) العام الماضي وأكبر من الردع». وقال دبلوماسي: «بعد التصعيد العسكري والحشد في المتوسط، لم يقبل ترمب أن يكون مثل الرئيس باراك أوباما بأن يقبل تسوية هشة والتراجع عن الخط الأحمر»، لافتاً إلى «شعور ترمب بأن بوتين لم يلتزم بتعهداته إزاء الملف الكيماوي» بموجب اتفاق البلدين في نهاية ٢٠١٣.
الأدلة
الرئيس الفرنسي يقول إن لديه «الدليل» حول استعمال الكيماوي، أو الكلور على الأقل. وقال مسؤولون أميركيون إن لديهم أدلة عن استعمال الكيماوي، في حين قالت رئيسة الوزراء البريطانية أول من أمس، إن «نظام الأسد لديه سجل حافل في استخدام الأسلحة الكيماوية، ومن المرجح جداً أن يكون النظام مسؤولاً عن هجوم دوما». لكن أشارت إلى «مثال إضافي على تآكل القانون الدولي فيما يتعلق باستخدام الأسلحة الكيماوية، الأمر الذي يثير قلقنا جميعاً». ولم تتحدث ماي عن وجود «دليل» لديها، لكن ربطت بين هجوم دوما واستهداف الجاسوس الروسي في لندن، الأمر الذي قاله أيضاً وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس أمام الكونغرس مساء الخميس.
وكان لافتاً، ان البيت الابيض اعلن قبل شن الغارات وجود “دليل” على استعمال الكيماوي. وقال ماتيس بعد القصف ان هناك دليلاً علـي استعمال “الكلور على الاقل من دون استبعاد السارين” في تراجع عن موقفه اول امس بعدم وجود دليل.
في المقابل، أشارت موسكو إلى أن الهجوم في دوما «مسرحية»، بل إن وزارة الدفاع الروسية قالت إنه مفبرك من الاستخبارات البريطانية، بالتزامن مع نتائج تقرير منظمة حظر الكيماوي عن تسميم الجاسوس الروسي. ودعت موسكو إلى انتظار نتائج تحقيق مفتشي «منظمة الحظر» الذين سيدخلون برعاية الجيش الروسي إلى دوما. وتتفق موسكو ودمشق في نفي الاتهامات الغربية باستخدام الكيماوي في دوما وغيرها.
وعلى عكس خان شيخون التي كانت متصلة بتركيا، ما وفر لدول غربية نقل مصابين عبر إدلب إلى خارج سوريا، فإن مدينة دوما منعزلة عن العالم الخارجي وكانت هناك صعوبة في نقل أدلة إلى مختبرات غربية، ما يطلب انتظار نتائج زيارة «المفتشين» الدوليين الذين يحتاجون نحو أسبوعين للوصول إلى نتائج.
وعليه، كانت التوقعات تراوحت بين حصول «ضربة رمزية» من البحرية الموجودة حالياً في المتوسط وانتظار المدمرات لبضعة أيام وتوجيه ضربات أعمق وأوسع تناولت «8 أهداف قرب دمشق وحماة وحمص». وكان القرار ببدء القصف على موقع في دمشق وموقعين قرب حمص.
تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»
بواسطة سلوى زكزك | أبريل 13, 2018 | Cost of War, News, غير مصنف
على شاشة شام FM السورية الرسمية أغاني فيروز الصباحية اللطيفة وأخبار تكريم الممثلة الكوميدية شكران مرتجى من قبل منظمة اليونسكو، لا مارشات عسكرية ولا محللون سياسيون، وبعد قليل سيأتي موعد فقرة الأبراج والتوقعات والشريط الدعائي في أسفل الشاشة يتنقل بخفة ما بين تحيات وتعازي للشهداء وذويهم وما بين نشاطات إعلانية لعيادات ومراكز لشفط الدهون وتلميع الأسنان والدورات التعليمية لطلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية ومشاهد طبيعية خلابة من مناطق سورية الجميلة.
هي الحرب في وجهها الآخر حيث يستنفر العالم على شاشات الفضائيات راصداً تحرك القطع العسكرية للأسطول الأمريكي براً وبحراً، محللون سياسيون وعسكريون بوجوهٍ هزليةٍ وكلماتٍ رخوةٍ وضحكاتٍ لا مبرر لوجودها تستثير حنقنا وسخريتنا المرة، محللون يرطنون بعربية ثقيلة يتباهون بخبرتهم القتالية وبأرقامهم المتحصلة من عدد الضحايا والقوة التدميرية للأسلحة الفتاكة. أحد المحللين العسكريين اللبنانيين على شاشة العربية الحدث وفي مسار استعراضه لاحتمالية أن يلحق ببلده لبنان بعض الأذى أو أن تتضرر بعض المواقع محددة الأهداف يسمح لنفسه بالقول “أتمنى من كل قلبي ألا يحصل للبنان أي واقع عسكري جديد يتسبب بخسائر للبنان ،” ويؤكد بعبارة “لا سمح الله.” وكأنه من بداهة العيش أن تعاني سورية خطراً جديداً، وكأنه بات من طبيعة الأشياء اليومية الاعتداء على سورية ولكن بوجهٍ مختلف، بعنوانٍ مختلف لكنه مقبول! هنا تبدو بداهة المقتلة السورية مفزعة وخانقة ومرفوضة حتى النخاع. الأهم هو قلق الأمم المتحدة المستمر عبر تصريحات السيد غوتيريس الأمين العام للمنظمة الأممية والذي يناشد مجلس الأمن بألا يكون الاعتداء هذه المرة مدمراً للشعب السوري. قلقٌ بات علامةً تجاريةً حصرية ًللترويج وتسويق المواقف الرخوة والمتأرجحة ما بين شجبٍ وتوقعٍ واستنكارٍ.
***
على الجهة الأخرى، الجهة المقابلة تماماً للمنظمات الدولية ومراكز التحليل السياسي ودعاة تصعيد الحرب واستمرارها تحت ذرائع متنوعة، يشهر السوريون سكان العراء والحدائق والبيوت التي مازالت على الهيكل ملابسهم الرطبة وأغطيتهم الصوفية التي غمرها مطر سريع لكنه سخي بالأمس ،علّها تجف سريعاً فيلتجئون إليها لبث الدفء واستجلاب بضعة أحلام بأن تكون الضربة مجرد هراء، أو أن تكون بعيدة جداً في الصحراء كي لا ينوب طمأنينتهم الراسخة أي طارئ مقلق. فيتورطون في دورٍ أكبر منهم بكثير وليس من اختصاصهم أبداً.
على بوابة أحد الأفران ازدحامٌ كبيرٌ، حيث يعود رغيف الخبز دوماً للمربع الأول في أهميته، ربطة الخبز تعني أماناً خاصاً، تتوفر بغزارة في زوايا الثلاجات والغرف وفي علب بلاستيكية قاسية كي لا تصل إليها الفئران الجائعة والمعتدية، هو الرغيف عامل الأمان الأول ومصدر كل القوة، في الحضن موجود ومستقر وأنت جالس في بيتك وعلى الأقدام موجود وأنت تحمله بسعادة جالسا في الحافلة المهترئة، يكاد أن يكون شعار المرحلة والتميمة الحافظة من الحسد والعيون الطامعة .
تقول فريال “لن أنتظر، ربما ستكون الضربة فرصةً لننهي المونة المتبقية في الثلاجة، سأذهب للف ورق العنب. سألف كيلو رز كامل وطبعا دون لحمة مجرد نكهة الماجي وبهارات. سأقول لأولادي غداً كُلوا بدون خبز وعمره ما حدا يرث. ميتين ميتين.” و بالفعل تخلت فريال عن دورها وذهبت دون أن تنتظر الخبز.
***
على شاشة الفيس بوك الزرقاء تكتب سيدة ساخرة “اليوم جابوا المي قبل موعدها بخمس ساعات، ربما كي نغتسل ونموت بكامل نظافتنا.” وتكتب سيدة أخرى التالي أنّ ترامب ألغى زيارة رسمية له لبلد آخر وتتساءل “لماذا؟ بإمكانك متابعة الضربة من أي مكان”. وآخر يكتب ساخراً: “يا ترامب ويا جبان ويا عميل الأمريكان.” السخرية المرة تبدو وسيلةً للتخفيف من وطأة المجهول، فبعد انتشار الأخبار أنّ فرنسا تنوي المشاركة في الضربة، انتشرت نكتة مفادها أنّ فرنسا تنوي قصف حارة الضبع من مسلسل باب الحارة لكترة ما قتلوا من الجنود الفرنسيين.
في الشوارع اليوم حيوية بشرية فائقة، أمٌ تقول لابنها “شايف الطقس شو حلو؟” يضحكان بلهفة المشتاق للاسترخاء. لكنّ سيدةً تتدخل وتقول لها “وهذا الأخوت ترامب سيجعل الطقس خانقاً سنرى جهنم بشكل شخصي”. تتدخل ثالثة وبيقينية شبه مطلقة تقول: “لهذا خرجنا من بيوتنا اليوم لأن أمريكا تضرب في الليل وحينها سنكون في بيوتنا نياماً وإن متنا سنموت بكرامةٍ في بيوتنا وبين ناسنا وليس هنا في الشارع حيث يرعبنا بوق سيارة الإسعاف.”
***
تبدو مخاوف السوريين المتبقين في الداخل بلا أدنى قيمة، فلا أحد يكترث بهم وبمخاوفهم وبينما تتفاوت درجات الخوف ما بين غنيٍ يتابع أخبار الدولار وقيمته التصاعدية ويتردد في الاقتناء أم التصريف! أو في من غادر إلى بيروت أو حضّر جوازات السفر وترتيبات المغادرة مستفيداً من إقامته أو جنسيته الأجنبية غير المعلنة ومن حسابه المصرفي في الخارج، وآخرون عادوا إلى قراهم وخاصة الزوجات والأبناء تلمساً لأمانٍ خاصٍ، أمانٍ مرتبطٍ بالحاضنة الطبيعية وبالانتقال الفوري من مكانٍ مشكوكٍ بإمكانية تعرضه للخطر وما بين مكانٍ هو في الوجدان وفي الهوية ما قبل الوطنية والمواطنية مساحة أمان متحقق فعلاً بفعل عامل البيئة الخاصة أولاً وتوفر مقومات الحماية الذاتية ثانياً.
سمعت البعض يُعبّر عن ندمه على عدم مغادرة البلاد يوم غادر كثيرون، لكنّ السفر ليس متاحاً للجميع والبعض لايملك شيئاً لبيعه أصلاً. ثمة تخوف ممزوج بالسخرية، حيث أنّ الحرب الطويلة فرضت على السوريين العيش في أماكن لاتشبه البيوت: جحور، غرف تحت الدرج، ومداخل الأبنية، كلها تبدلاتٌ أطاحت بمفهوم الحماية العامة كحضورٍ مادي او معنوي. لم يُفكر أحد بالملاجئ من أصله لأن الحماية الواجبة باتت نكتة سمجة بحكم التخلي العام والمتعدد الواسع والممعن في قسوته.
أجل هنا يظهر الفرق الشاسع ما بين خوف الفقراء وخوف الأغنياء والمسؤولين المهمين أو أصحاب النفوذ والمال، تبدو الحرب في حسابات الفقراء مجرّد تغير في شكل الميتة وتفاصيلها ليس إلا، بينما تبدو للمتنفذين وتجار الحروب فرصة للاغتناء أو لخسارات مؤقتة يجب تعويضها وبسرعة ومهما كانت الأساليب والمبررات.
على المقلب الآخر ثمة وجود واضح للمهللين والداعين للإسراع بتوجيه الضربة وجعلها قوية ونافذة وكأنهم مقتنعون بأنها ستكون خشبة الخلاص لسورية وشعبها! لكلٍ تبريراته ورؤيته التي لا يمكن الركون إليها ولا اعتبارها صورة للرأي العام، أمريكا في وجدان العديد من السوريين عدوة دائمة ومزمنة لذلك تظهر علامات التهديد والوعيد عند البعض الذي يخوّن كل مرحب محتمل بالضربة الأمريكية والتي قد تكون مشتركة من قبل دول أخرى، دعوات مثل “على كل مرحب بالضربة الأمريكية مغادرة صفحتي فوراً”، وكأنّ الفيس بوك بات هو مساحة العمل الوطني الأبرز!
بياناتٌ قليلة صدرت ترفض الضربة المحتملة وتصفها بالعدوان، لا أحد يستنهض الروح القوية للشعب في مواجهة الغزاة، مجرد بيانات تطهرية توضح موقفاً شبه غائم وشبه مائع لأنه كلامٌ بلا فعلٍ أو استعدادتٌ ميدانية حقيقية لمثقفين تخندقوا بتشكيلاتٍ غير سياسية وغير حزبية لها ماهية توضيح الصورة أو وضع النقاط على الحروف حسب ما يقولون، أي تلميع الكلام والمواقف وحسب. ثمة تحذيرات خفية وتوجس من الترحيب العلني في مساحات الحضور العامة خوفاً من تدابير أمنية حيال أصحابها، انشقاقاتٌ ضمن الأسر ذاتها وخاصة بين من بقي في سورية لأن القبول والتصريح هو خط أحمر وما بين من صاروا خارج سورية وتتوفر لهم حرية الإعلان والتعبير بصورة مطلقة. لكن السمة العامة تكاد أن تكون هي المماطلة، خفة المواقف شبه الساخرة وشبه المتيقنة من كلامها بلا معنى وبلا أدنى قيمة، بداهة الدور الملغي أو المؤجل أو المغيب لعامة الأفراد مما خلّف استنكافاً طوعياً تحول إلى سلوك مزمن اكتسب صفة الطبيعي والمعمم.
في الحروب الطويلة ومتعددة الأوجه وفي ظل غياب التشاركية وفقدان أولويات الحماية والعيش الكريم تكون السمة العامة للحالة الوطنية هي إصابتها برضٍ قاس ومشوش. أجل باتت الوطنية مهزوزة ومشوشة ومؤجلة إلى وقت ترحيل كل المشاكل الوضعية اليومية وإعادة الاعتبار للكائن كمواطن أو شريك في الوطن. يقول الفقراء وبماذا ستؤثر مواقفنا الرافضة والشاجبة؟ ويتساءلون عن حقيقة وجودهم وجدواه أصلا ويقولون “أكلينها أكلينها هي موتة وبالله المستعان!”
الأكثر ألماً أننا لا نملك حق الرفض، وإن ملكناه فهو مجرد ابتهالات لا تنجي من غرقٍ بمستنقعٍ جديدٍ وموتٍ أكثر.
كوني بخير سورية! كوني بخير! وليكن كل الفقراء بخير.
بواسطة Ghaida Al Oudat | أبريل 12, 2018 | Reports, غير مصنف
يتداول السوريون توصيف ما كان عليه حال المرأة، يروون أنها كانت فقط منجبة ومربية، ومطيعة لها فم يأكل وليس لها فم يحكي، يتجاهلون كل المهام التي قامت بها يوماً إن كانت لا توافق ما يرونه مناسباً لها، يتمنون أن تكون حالها اليوم كرواياتهم عن الأمس، ويتناسون عمداً أو عن جهل أن يذكروا ويتذكروا ما كانت عليه خاصة في المجتمعات الريفية قبل ثمانينات القرن الماضي، ربما لا أستطيع الجزم بتشابه المجتمع السوري الريفي بالمطلق، لكنني على الأقل أحمل ذاكرة من سهل حوران، من الجنوب السوري، عن بساطته وفطرته السليمة، عن نسائه ورجاله وأطفاله وتفاصيل حياتهم اليومية.
كانت الحياة في الستينات والسبعينات في حوران بسيطة كأهلها، نقية صافية كقلوبهم، حياة يجهلها جيل ما بعد حقبة الثمانينات، فيحكي عنها قصص وروايات مختلفة عن حقيقتها، ويجهل ما كانت ماهية علاقات الناس فيها، لا يدري شيئاً عن دور المرأة الأم والزوجة والأخت حينها، ولا ما كانت عليه العلاقات بين الذكور والإناث، ولا دور النساء المؤثر والفعّال في حياة الأسرة الاقتصادية والاجتماعية، حين أسمعهم أظنهم يتحدثون عن مجتمع غريب عنّي، ربما لأنهم نشأوا على علاقات وعادات وسلوكيات قد تم نقلها من مجتمعات الاغتراب الخليجية التي عمل فيها السوريون وتأثروا بها، ثقافة غريبة شوهت شكل علاقات المجتمع وغيرت عاداته وأساءت لمكانة المرأة فيه.
يرغمني ما أسمع دوماً على العودة لذاكرتي واسترجاعها لأرويها حيثما استطعت، ذاكرتي المحمّلة بالتفاصيل والكثير من الحب، أرويها كشهادة حية لطفلة عاشت في قريتها البعيدة عن مدينة درعا مسافة خمسة كيلومترات، أتحدث عمّا رأت عيني وما سمعت أذني وما سجلت ذاكرتي، عن مجتمع كادت النساء فيه أن تكن شريكات حقيقيات، يعملن يداً بيد مع الرجل، يزرعن ويحصدن كما يزرع ويحصد، يرعين الأسرة ويمسكن زمام أمورها المالية، يدلين برأيهن فيما يخص أسرهن دون خوف، وغالباً ما تتم إطاعتهن.
لهن رأيهن في البيع والشراء، الزواج والطلاق، مستقبل الأبناء والبنات، والأجمل أنهن كن يحببن ويعشن تجاربهن كأي إنسان يمارس إنسانيته دون خوف، يستمتعن بالاحتفالات، يتزوجن عن حب ويطلّقن عن إرادة، لا يسامحن على خيانة ولا يهادنّ على كرامة، للنساء صدر البيت وأمّا بوابته فبين يديهن، يستقبلن عابر السبيل والضيف ويقمن بواجب الضيافة، لا يضير امرأة وجود الرجل بالبيت من عدمه، فهي تقوم بما توجبه عادات وتقاليد الاستضافة، وتقدم ما يليق بحسن الضيافة. شاركت النساء بإقامة الأعراس مع الرجال سواسية، بدءاً من تحضير الطعام وانتهاء بالرقص الشعبي الذي كان يقوم على وجود الرجل والمرأة بالتبادل ويداً بيد، كم كانت تفتنني رقصة النساء أمام الرجال عندما يؤدين الجوفية، وهي واحدة من الدبكات الشعبية المتوارثة، تماماً كما كانت تأخذ عقلي كلماتهن التي يرددنها وراء الجنازة عندما كن يخرجن فيها مع الرجال، قبل أن يتم منعهن لاحقاً.
لم تكن تلك الممارسات الاجتماعية في طقوس الفرح والحزن عيباً، كما لم يكن حديث النساء المازح والضاحك مع الرجال عاراً. علاقاتهم طيبة وبسيطة، مبنية على فطرة إنسانية سليمة لا على قاعدة نقصان ولا على قاعدة خبث، علاقات جميلة مع الأقارب والجيران لا تضع المرأة في خانة الاتهام ولا تعرضها للّعن والرجم، ولا تُعزل عن مجتمع الرجال رعباً من سلوك منحرف لم يكن يدور بخلد أحدهم حتى الشك بوجوده. قد شهدت هذا كله في دور عديدة وأعراس كثيرة، وفي مضافات جمعتهم سوية ومصاطب صيفية سهروا معاً عليها.
في قريتي وأنا بعد طفلة صغيرة سمعت عن قصص الحب دون أن تكون وصمة عار يستهجنها ويستنكرها المجتمع، كانوا يفهمون الحياة كقرابة وصداقة وجيرة وحب، ويمارسون علاقاتهم الاجتماعية الإنسانية كما يليق ببشر أنقياء، هناك لم ألحظ فرقاً بين ذكر وأنثى، فصوتها ليس عاراً، ورأيها ليس ناقصاً، واستشارتها ليست نقصاناً في كرامة الرجل وهيبته، لعل أكثر من أفتخر بها في قريتي هي عمتي الجميلة التي كانت في 1966 ملكة جمال القمح، تزوجت بإرادة حرّة، وأنجبت وعملت يداً بيد مع زوجها لتبني مستقبل أسرتها وأبنائها، كان بيتها مضيافاً تستقبل به ( خلق الله) كما تقول، لم يمس كرامتها يوماً رجل لأنها تعتبر نفسها نداً للرجال، ولم يستنكر أحدهم طريقتها في التعامل مع الجميع بنديّة دون أن يخالجها شعور أنها أضعف أوأدنى مرتبة لأنها أنثى، عمتي جميلة الروح والعقل من يقولون عنها أخت الرجال، وأنا أقول شرف للرجال أن يكونوا إخوتها .
أما جدتي فحكاية تُروى، لا زلت أراها في الذاكرة وهي تلف السجائر وتضعها في علبة معدنية أحتفظ بها، تدخن وتصنع القهوة العربية بإتقان، كأنّي أرى وأسمع الآن، المحماس على النار تحمّص قهوتها وتنعشني رائحتها، ودقة مهباجها يطحن القهوة تُطربني موسيقاه، تجلس في مضافتها مع جدي جنباً إلى جنب، يستقبلون الأسر الصديقة والقريبة والغريبة، يتسامرون ويضحكون تحت نور “اللوكس” في زمن كانت فيه الكهرباء لم تدخل بعد إلى القرية لكن قلوب أهلها كانت كافية لتنير العالم.
كل الثقافة المجتمعية والعادات التي كانت سائدة وأنا طفلة تغيرت وتلوثت، وتم صنع بديل مشوه لها ليحل مكانها، ربما هي لعنة الغربة بحثاً عن الرزق، الغربة التي التزم فيها أبناؤنا بعادات وتقاليد المجتمعات الخليجية التي عملوا بها، فاختلط عليهم الأمر حتى ظنوا الثقافة والعادات المكتسبة أصيلة ووضعوا الثقافة والعادات الأصيلة في طي النسيان، أو ربما هي لعنة الاستبداد الذي أجبر السوري على الرحيل عن أرضه وأمعن في تجهيل من بقي ضماناً لسلطته، لعنتان تضافرتا فذهبتا بعلاقات المجتمع وشكله أدراج الرياح ليغدو مجتمعاً غريباً ومختلفاً لا يشبهنا، بدءاً من أزيائه وانتهاء بشكل العلاقات والسلوك والعادات المختلفة جذرياً.
قبل نكسة المجتمع تلك كانت المدارس مختلطة، وبقيت لسنوات دون أن يسجل فيها أي حادثة مخلة بالأخلاق وأدب التعامل، ولم يمنع الأهل بناتهن من الذهاب إليها خشية عليهن من الصبيان، لأنهم جميعاً تعودوا أن يتعاملوا بطبيعية وفطرة نقية لم يلوثها الشك والغيرة المريضة.
لم يكن من الممكن تمييز دين النساء من زيهن، فالزي الشعبي للنساء في حوران ابن المنطقة والتاريخ، العصبة التي تغطي الرأس، والشنبر الذي يغطي الرقبة، والشرش الطويل، لا يدلّون على دين يفرض الستر كما يظن البعض، إنه زيّ موغل في القِدَم تشترك فيه كل نساء حوران، وعندما بدأ بالانحسار ارتدت الصبايا أزياء وفق الموضة الدارجة حين تخلين عن زيهن الموروث، وكل ما درج لاحقاً من أزياء كانت لا تشبه تراث حوران.
ورغم كل هذا التحوّل المجتمعي والفكري، أصرّت النساء على التمسك بمكانتهن والحفاظ عليها، تمسّكن بالعمل خارج المنزل إن سنحت لهن فرصة، وشاركن في إدارة اقتصاده سوية مع الرجل، ولم يتنازلن عن حقهن بإبداء الرأي والنقاش في قضايا مهمة تخص الأسرة رغم عواقب التحدّي، لم يستسلمن بسهولة ولم يتنازلن عن مكانتهن كما كان مطلوباً منهن، ولكنهن بالتأكيد لم يستطعن الوصول لكل ما يسعين له، فلقد تغير نمط تفكير المجتمع وأصبحت القيود الموضوعة عليهن تزداد يوماً بعد يوم، وباتت معركتهن الحفاظ على ما كانت تملكه الجدّات بدلاً من الوصول لمكاسب أكثر وأكبر.
هل يعي جيل اليوم ما كانت عليه أمهاته وأخواته ما قبل عملية التحول، أم أن ذاكرته الممسوحة والمشوهة عنهن تصرّ أن المرأة منذ الأزل في مرتبة دونية ناقصة دوماً درجات عن مرتبة الرجل، هل بهذه السهولة تُمحى الذواكر ويحل بدلاً منها ذواكر مصطنعة للتاريخ تلغي ما قبلها جذرياً.
ربما هذا ما سهّل بعد أشهر قليلة من بدء الحراك تهميش النساء، فصلوهن عن الرجال في التظاهرات، حرّموا عليهن القيام بأعمال عديدة بدعوى الخوف عليهن، عزلوهن باعتبارهن عورة صوتاً وجسداً، حصروهن بأعمال نمطية قرروا أنها تليق بالنساء كضعيفات ناقصات، وضعوا لهن تقاليد لباس وفق مواصفات جديدة شديدة بحجة سترهن والستر عليهن، هددوهن بالقضاء الشرعي إن رفضن الامتثال لها، أرغموهن على التزام المنازل في حال لم تعجبهن القوانين والقواعد الجديدة، فهل يعقل أن يكون كل هذا تحت راية الحرية والكرامة والعدالة؟ أية حرية تلك التي تعيق نصف طلّابها وتشل حركتهن وتنهي فعاليتهن تحت أي مسمى كان؟
في أعياد آذار، أعياد النساء، لا ربيع للنساء المكبلات يبشرهن بالخير، ولا حرية ترتجى لمجتمع مشلول نصفه يضيّق حرياتهن في طريقه للحرية. أي حرية تلك التي تجعل من مكانة أحفاد جدتي وعمتي مكانة ضئيلة تضيق مساحتها حتى تكاد تخنقهن، وأي مستقبل لهن وقد أصبحن أقل شأناً ومكانة من جداتهن وأمهاتهن.
لعلنا نحتاج أن نغسل ذاكرتنا وذاكرة أبنائنا من الشوائب لنعي من نحن ونصحح المسار، نحن السوريات الصالحات لنكون قائدات للتغيير، السوريات اللواتي تجاوزت جداتهن وأمهاتهن محظورات تُفرض عليهن اليوم، سوريات يبنين على ماضي جداتهن وأمهاتهن المشرّف ليحققن ما لم يستطعن تحقيقه، خير خلف لخير سلف، يبنين مستقبلاً تكتمل فيه مواطنتهن وينلن حقوقهن كاملة غير منقوصة ولا مشوهة على صعيد الأسرة والمجتمع والدولة.