عن الطغاة والحبر

عن الطغاة والحبر

شهد الكاتب هرمان هسّه، الحائز على نوبل 1946، الحربين العالميّتين الأولى(1914-1918) والثانية(1939-1945) وناهضهما بشدّة، كمناهضته للحروب عامّة. في مقال بعنوان “الحرب والسلام”، كتبه سنة 1918، يقول:” إنّهم على حقّ وبلا أدنى شكّ أولئك الذين يصفون الحرب بأنّها حالة بدائيّة وطبيعيّة. ولطالما يتصرّف الإنسان مثل الحيوان فإنّه يعيش الصراعات دوماً. والسّلام أمر يصعب تعريفه ونحن لا نعرفه، إنّما بإمكاننا الإحساس به والبحث عنه، هو مثلٌ أعلى إنّما شديد التعقيد، لا استقرار له وجميعنا يعرف القاعدة الجوهريّة:” لا تقتل!”.”لا تقتل” لا تعني ألّا تؤذي غيرك! بل ألّا تحرم نفسك من الآخر كي لا تؤذي نفسك.”لا تقتل” تكاد تعني “لا تتنفّس!” ويرى هسّه أنّ الخوف لا يعلّم البشر، ولطالما يجدون في الحرب متعة فلن يأبهوا بذكريات الخراب والدمار، أو يرتدعوا عن إشعالها باستمرار.

 لكنّ هسّه بدا أكثر تفاؤلاً في مقال آخر كتبه 1948، بعنوان “عن رومان رولان”، المفكّر الثوري والأديب الفرنسيّ الحائز على نوبل 1915، بيّن فيه إمكانيّة تحقيق السلام انطلاقاً من إيمانه بالمعرفة؛ معرفة الداخل الإنساني وتلمّس الطاقة النورانيّة الكامنة فيه. وبوجود كثير من المؤمنين الصادقين خارج الكنائس والطوائف يرعبهم انحطاط الروح الإنسانيّة وتغييبها للسلام وزعزعة الثقة في العالم، من بينهم رومان رولان، وليو تولستوي أستاذ هذا الأخير، والمهاتما غاندي الذي خصّه رولان بأحد مؤلّفاته. يقول هسّه:” مات الثلاثة العظام لكنّهم ما يزالون أحياء في قلوب الآلاف، يؤازرونهم لصون إيمانهم ورفع مشاعلهم لتنوير هذا العالم البليد والفاقد للعقل.”

وإذاً، لا أمل في تحقيق سلام مستقرّ إطلاقاً، لتتأبّد صرخة كازينتزاكس التشاؤميّة:” لا جدوى يا يسوع، لا جدوى.” خاتمة روايته شبه الملحميّة “المسيح يصلب من جديد”، وتحكي إلى جانب آلام المسيح خلال صلبه، عن صراع البشر التاريخيّ لخلق حياة إنسانيّة أرقى. إنّما عبثاً! صدرت الرواية سنة نشوب الحرب العالميّة الثانية، وبعد عامين من صدور رواية إيريش ماريّا ريمارك “لا جديد على الجبهة الغربيّة.” وعندها أتوقّف قليلاً لأسباب أدرجها فيما يأتي.

يعدّ النقد “لا جديد على الجبهة الغربيّة” من أفضل الروايات التي تناولت موضوع الحرب، إن لم تكن أفضلها. صدرت عن دار أثر/الدمّام 2020، في نسخة جديدة، وللمرّة الأوّلى في ترجمة مباشرة من الألمانيّة إلى العربيّة، أنجزتها المترجمة ليندا حسين.  

تحكي الرواية عن الإنسان وتحديداً عن الجنديّ في خوضه الحرب العالميّة الثانية. سبعة جنود/شخصيّات الرواية الرئيسين، زملاء صفّ مدرسيّ واحد في سنّ الثامنة عشرة. يجدون أنفسهم بغتة بعيداً عن الأهل والديار غرباء على الجبهة الغربيّة؛ مكان هو مسكن للموت المتربّص بهم كوحش جائع، للحمّى، للهذيان والجنون! وفيه سيكتشفون العالم وأنفسهم؛ حقيقة قيمهم وأخلاقهم؛ أفكارهم وقناعاتهم، إزاء خيارين وحسب، أن يكونوا قتلة أو مقتولين في حرب لا تخصّهم بشيء، حرب غير شرعيّة ولا أخلاقيّة هدف قادتها الوحيد توسيع نفوذهم وأطماعهم الاستعماريّة. فإقرار الحروب تتفرّد به الحكومات والسلطات السياسيّة، فلم يحدث في التاريخ أن شنّ شعب حرباً على شعب آخر، والشعوب هم وقود الحرب وضحاياها. تلك حقيقة موجعة واجهها الأصدقاء، ليتعاطف الراوي الجندي بول بويمر مع جنديّ فرنسيّ عدوّ مصاب، ويحاول إنقاذه.

عند استشهاد أوّل الزملاء، يطرح الجندي بويمر السؤال العبثيّ المؤلم: “الآن يرقد هنا، لأجل ماذا؟” سؤال يصعب حدّ الاستحالة أن يطرحه جنود يخوضون حرباً شرعيّة أخلاقيّة وواجبة وطنيّاً تقرّرها الشعوب بنفسها لطرد الاحتلال من أراضيهم. شاسع هو الفرق بين حرب استعماريّة، وبين حرب شعب يقاوم الاستعمار لتحرير بلاده، وصون ذاكرته ولغته وهويّته الموحّدة، كحرب غزّة ضدّ الكيان الصهيونيّ الغاصب.

في رواية ريمارك، تباغت الجنود الزملاء اكتشافاتهم المريرة: نفاق العالم وانحرافه بمؤسّساته المختلفة؛ التربويّة والتعليميّة، العسكريّة والدينيّة! فما الذي تغيّر في العالم حتّى اليوم؟ لا شيء! تكفي حال البلدان العربيّة في حروبها الراهنة شواهد لاستفحال النفاق والفساد والاستبداد وقتل حتّى المشاعر الوطنيّة، إضافة إلى توحّش هذا العالم “الفاقد لعقله” الذي تديره وتقرّر مصيره المصالح الخاصّة لثلّة من دول العالم “المتحضّر” الاستعماريّة أصلاً، تتسيّدها أمريكا! ومن بين فضائل المقاومة الغزّاويّة الفلسطينيّة الباسلة تعريتها للكيان الصهيونيّ الهشّ واللّا أخلاقيّ، وفضحها للعالم الرسميّ وضميره الميت، وللموقف العربيّ الذليل! حقّاً، يستحضر الغزاة حكّاماً عبيداً لهم، طغاة على شعوبهم. فتحالفهم حتميّ لضمان استقرارهم معاً!

في عودة للرواية، قتلت الحرب جسد الراوي بويمر، في حين قتلت روح الروائيّ ريمارك الذي خاضها بدوره. وسيثير كلاهما غضب هتلر والنازيّين، فتُحرق الرواية وكتب أخرى لريمارك، تُسحب منه الجنسية، وبدمغة خائن للوطن يُنفى إلى الخارج! وأدى تصاعد حدة التطرّف النازيّ إلى منعه من العودة إلى وطنه، ليموت في منفاه. ويجنّ جنون النازيّين لعرض أوّل فيلم مأخوذ عن الرواية ذاتها في ألمانيا، لدرجة أنّهم خلال العرض أثاروا الصخب فوق رؤوس المشاهدين، وأطلقوا الفئران بين أقدامهم! هترليّون نازيّون متعطّشون لخوض حرب عالميّة ثانية انتقاماً لهزيمتهم في الحرب الأولى، فيُهزمون مجدّداً؛ دُمّرت ألمانيا وانتحر هتلر!

ألا يذكّر هتلر بجنون عظمته وإجرامه وسعيه لإبادة من ليسوا ألماناً، بالمجرم نتنياهو المؤمن بتشريع الدين الصهيونيّ العنصريّ لاستعباد من ليسوا يهودا/”الغوييم” وإبادتهم؟! ألا يتطابق موقف هتلر المتنصّل من معاهدة فرساي 1919، التي شاركت ألمانيا في انعقادها، وأشعل شرارة الحرب العالميّة الثانية بغية تحقيق النصر انتقاماً لهزيمة بلاده في الحرب الأولى، مع موقف نتنياهو الناكر لاتفاق “أوسلو”-غير العادل أصلاً بحقّ الشعب الفلسطينيّ وخرقه لقوانين الحرب الدوليّة، ليمعن وما يزال في ارتكاب مجازره المروّعة انتقاماً لهزائمه المتلاحقة؟ يعجزه صمود المقاومة المدهش، صاحبة الأرض الشرعيّة، وقد عرّته أمام العالم: فنتنياهو ليس مقاتلاً، إنّما مجرّد قاتل متوحّش! ثمّ ألا يماثل نتنياهو هتلر بمحاولات طمسه لكلّ ما يصدر من نقل للوقائع والحقيقة، سواء صدر عن المقاومة أو عن أبناء جلدته، ولهؤلاء قانون لعقوبتهم؟ وقد بلغ الكذب والتزييف والتزوير لديه مبلغاً عالي الصفاقة، كأسلافه الصهاينة، بدءاً من تزوير التاريخ وليس انتهاء بآخر كمين أوقعت وستوقع فيه المقاومة جنوده! وما يزال يلزمهم من الأكاذيب والتزوير زنة ثلاثة آلاف عام من عمر وجود الشعب الفلسطيني على أرض كنعان العربيّة، الاسم الذي رافقها حتّى سنة 1200ق.م، مع غزو القبائل الكريتيّة لها، فسمّيت فلسطين وبقيت للفلسطينيّين وحدهم.

أليست الصهيونيّة الوجه الآخر للنازيّة؟ وفي الأحوال كلّها، الطاغية هو الطاغية!

ورجوعاً للرواية، وفيها نلقى اختلاف حول مآل معنى الكتابة وجدواها، في حالات الإحباط، فقد باتت تمثّل لبويمر اليائس خلاصاً شخصيّاً وفرديّاً. أمّا لدى ريمارك فإلى جانب أهمّيّتها على الصعيد الشخصيّ، فلها هدفها الأخطر على الصعيد العام، وضمّن روايته صرخته الإنسانيّة لشجب الحروب وإيقافها، وتحقيق حياة إنسانيّة عادلة وكريمة هي حقّ شعوب الأرض قاطبة. صرخة ساهمت في شهرة الرواية الواسعة.

لا شكّ تبقى الكلمة سلاح المثقّف الأوحد لمحاربة الظلم والطغيان، وتجفيف الحبر محال كتجفيف البحر. حتى وإن دفع مثلاً غزو الصهاينة لبيروت وحصارها 1982 بخليل حاوي للانتحار، ولشلل الكتابة لدى محمود درويش لأربع سنوات. لكنّ درويش تجاوز إحباطه، ففي سنة 1985، أجاب على سؤال أحد محاوريه عن دور الشاعر الفلسطينيّ في ظلّ غياب الأمل المطبق، قائلاً:” أن تكون شاعراً فلسطينيّاً، في هذه اللحظة، معناه أن تحوّل تساؤل هاملت إلى حسم، فبدلاً من القول:” أن تكون أو لا تكون عليك أن تقول:” أن تكون أو تكون: هذا هو القرار.”

إذاً، حين تعجز الكلمة وتسكت على السلاح أن ينطق. فلا حياة إنسانيّة حقيقيّة في أرض محتلّة!

ومجدّداً، وبحزم أشدّ اتخذت المقاومة الفلسطينيّة اليوم “القرار”.

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

تعرّض زكي الأرسوزي (1899-1968 م) لإهمال كبير، ولم يُكَرَّس في الأدبيات الفلسفيّة العربيّة إلا على نحوٍ عَرَضيّ، بصفته أحد دعاة الفكر القوميّ، ومؤسِّس فكرة حزب البعث العربيّ، التي أخذها ميشيل عفلق منه وحوّلها إلى تنظيم سياسيّ فاعل في سوريا، وتلاشى ذكر الأرسوزي مع تلاشي الآمال الضائعة للإيديولوجيات الدّاعية إلى قيام وحدة قوميّة بين العرب، وطُمِسَ بذلك فكر إنسان ممتاز، وأُهملت رؤيته التي تؤلِّف نظرة إبداعيّة عميقة في ماهيّة اللغة، تحديداً اللغة العربيّة، علاوة على ما عاناه في حياته من تجارب وجوديّة عنيفة واضطراب وجدانيّ وفقر وحرمان وعُزلة بسبب مواقفه السياسيّة، فضاعت شخصيّة الأرسوزيّ الحقيقيّة بين صراع السياسيين البعثيين على السُّلطة، وخضعَ لاستقطاباتهم وتنافراتهم ثم غُيِّبَت على نحوٍ نهائيّ جهود الأرسوزي لمواجهة الاحتلال العثمانيّ-التركيّ والاستعمار الأوروبيّ.

لكنَّ المهمَّ هنا ليس قراءة الأرسوزي قراءة إيديولوجيّة أو سياسيّة مُسْتَهلكة؛ بل الكشف عن العناصر الأصيلة في رؤيته الفلسفيّة للعالم، أو بالأحرى إظهار شخصيّة الأرسوزيّ الحقيقيّة التي احتجبت وراء غبار لعنة شهوة السيطرة على الحُكم.

لقد انصّبت عناية الأرسوزيّ على كشف ماهيّة اللغة العربيّة، ويمكن تصنيفه بصفته مؤسِّس تيار فلسفة اللغة في الثقافة العربيّة المعاصرة، غير أنَّ حقل الدراسات اللغويّة الذي أسّس له الأرسوزيّ بقي مجهولاً، علماً أنَّ الدراسات التي قدّمها فلاسفة اللغة الغربيّون، أصبحت مركز اهتمام الثقافة الغربيّة، بل العربيّة أيضاً، بدءاً من أواخر القرن الماضي، وصولاً إلى يوم النّاس هذا. إذ نجد حضوراً كبيراً بين أوساط المثقفين، ترجمةً وتأليفاً، لنصوص منقولة أو مستوحاة من جورج إدوارد مور (1873-1958م) أو برتراند رسل (1872-1970 م) أو لودفيغ فيتغنشتاين (1889-1951 م) وغيرهم. علاوة على ظهور دراسات عربيّة كثيرة محكومة بالنزعة البنيويّة التي أسس لها فرديناد دي سوسير (1857-1913)؛ وفي المقابل لا نكاد نجد للأرسوزي ذِكْرَاً بصفته فيلسوفاً عربيّاً معاصراً عُني عناية حقيقيّة بقضيّة اللغة.

تعمّق الأرسوزي في ماهيّة اللغة العربيّة في “مؤلَّفه العبقريّة العربيّة في لسانها”، ووجد أنَّ اللسان العربيّ مكوَّن على نحوٍ اشتقاقيّ، فالألفاظ التي ينطق بها الإنسان العربيّ ترجع إمَّا إلى ظواهر إدراكيّة حسيّة، تحديداً صوتيّة-بصريّة مُستَمدّة من الطبيعة، أو إلى أُصول شعوريّة مُستَمدّة من النَّفْس الإنسانيّة.

ويوضِّح الأرسوزي حقيقة الألفاظ التي ترجع إلى ظواهر طبيعيّة صوتيّة بصريّة، فتمثيلاً لا حصراً: نجد أنَّ الكلمة “خَشَّ” هي صورة صوتيّة-مرئيّة، ناجمة عن “حركة في عُشب يابس”. وهذه “الصُّورة” أصبحت على المستوى اللغويّ نواةً لتوليد أفعال ومشتقات جديدة مثل: خَشُنَ، خشَبَ (=جَفَّ)، خَشَعَ، إلخ؛ ومِنْ خَشَّ بتحويل الخاء إلى حاء يمكن اشتقاق حَشَّ والحَشيش؛ وبتحويلها إلى عين نحصل على عشَّ والعِشّ، وإلى ما هنالك. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، يُبيِّن الأرسوزي أنَّ الإنسان العربيّ لم يقف بالنسبة إلى بناء الألفاظ التي ينطق بها عند حدود الصُّور الطبيعيّة الصَّوتيّة-البصريّة فقط، بل اعتمد على التّصويت الطبيعي عند الإنسان، أي الأصوات التي تُعبِّر عن حالات شعوريّة معيّنة مثل “أَنَّ” التي تدلّ على التوجُّع أو التألُّم، فظهرت أفعال ومُشتقّات وفق الآتي: فبإلحاق الهمزة جاءت “أنا”، وبإلحاق التّاء “أنتَ”، أنتما، وبقيّة الضمائر. ومن “أَنَّ” اشتُقَ الفعل أَنَّبَ (=عنَّفَ)، والاسم الأنين، وإلى ما هنالك.

وركّز الأرسوزيّ على أنَّ الذهن العربيّ لم يقتصر -في عمليّة تكوين اللسان العربيّ-على الصُّور الصوتيّة المرئيّة أو الأصوات المُعبِّرة عن حالات نفسانيّة، بل نهج نهجاً اصطلاحيّاً أيضاً، يقوم على إظهار الحروف عن طريق التداعي، فالحروف الأسهل من حيث تسلسل الظهور تتوالد لتكوِّن صورة تصبح موضوعاً للفكر، ومدلولاً عليها في الوقت نفسه بألفاظ، فمثلاً من حرف الباء (ب) صنع التداعي أسماء من قبيل الـ:”أَبّ”، و”الأُبّهة”، وأفعال من قبيل أَبِهَ، أَبى….

وعُني الأرسوزيّ بكشف مناهج تكوين الألفاظ في اللسان العربيّ، فاكتشف أنَّ هناك صوراً صوتيّة ذوات أصول فيزيولوجيّة، فمثلاً هناك صور صوتيّة ترافق حركة عضلات الفمّ من قبيل: عَضَّ، وهنا يشتق الذهن مع المحافظة على الإيقاع بإضافة حرف أو بتحويل آخر، فبالإضافة نحصل على عَضَبَ (=قطَعَ)، وبالتحويل، أي بتحويل العين إلى قاف، نحصل على “قَضَّ (=ثَقَبَ)”. هذا، وبالطريقة نفسها اشتُقَ فعل “قَدَّ (=قَطَعَ)” ثم “قَدَرَ(=قَسَمَ) ومنها: القَدَر؛ وقَدَسَ (قَطَعَ)، ومنها: “القُدْس (=الحجر المقطوع)” وتوالت المشتقات مثل القُدُّوس، والمُقَدَّس، والقداسة، والتّقديس، وحُمِّلت بمعان مختلفة، إلخ.

ولقد فهم الأرسوزيّ اللغة فهماً يدلّ على عمق نظرته، فهو يُرجعها إلى غريزة متأصِّلة في الإنسان أسماها “غريزة الكلام”، ووجد أنَّ غريزة الكلام موجودة على نحوٍ متفوِّق عند العرب، منذ فجر التّاريخ، بدلالة أنَّ علم اللغات المقارن يكشف وجود قواعد مشتركة بين اللسان العربيّ واللغات الهندو-أوروبيّة من ناحية، إضافةً إلى كشفه وجود اشتراك في المفردات وأساسيات النحو بين اللسان العربيّ واللغات الساميّة من ناحية أخرى، وهذا يثبت أنَّ الإنسان العربيّ خاض تجربة كونيّة نادرة في تكوين لغته، كان لها تأثير عالميّ لا يمكن نكرانه. والحقيقة أنّنا إذا أرجعنا اللغة العربيّة إلى أُصولها الكنعانيّة (=الفينيقيّة)، لوجدنا كلام الأرسوزي صحيحاً، إذ قام اليونانيون بتعديل الأبجديّة الكنعانيّة (الأوغاريتيّة)، بما يتناسب مع لسانهم الهندو-أوروبيّ. ولا شك في أنَّ استخدام اليونانيين للأبجديّة الألفبائية-الصوّتيّة الكنعانيّة أسهم في تطوير طُرق التّفكير النّظريّ عند اليونانيين لما في اللغة الكنعانيّة من إمكانيّة تؤهِّل الناطقين بها للقيام بعمليات التّفكير المجرّد. هذا، وحينما وصل التجار والمستعمرون اليونانيون إلى أتروريا (=منطقة وسط إيطاليا الحالية)، ونشروا الثقافة الهيلينية في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد. أدخلوا الحروف اليونانية-الكنعانيّة لتشكيل الأبجدية الإتروسكانية (=الإيطاليّة القديمة). التي عُدِّلت من قبل الرومان، وأصبحت أبجدية أساسيّة لأوروبا الغربيّة.

لقد امتاز الأرسوزي من بين مختلف المُنَظِّرين القوميين العرب بأنّه دخلَ إلى السياسة من بوابة الفلسفة، وهذا ما جعل طريقة تفكيره أكثر عُمقاً وأبعد غوراً؛ إلا أنَّ لهذه الطريقة في التفكير مخاطرها، فقد جعلته مُفكِّراً يوتوبيّاً، إذ بنى آماله على حُلم ضائع بتكوين دولة مثاليّة تكتنف أبناء أمّة عربيّة واحدة أسماها “الجمهوريّة المُثلى”، ويقدّم الأرسوزي في كتاب له يحمل الاسم نفسه (=الجمهوريّة المثلى) تحليلات لمعنى هذا الاسم عينه، مستخدماً بصيرته اللغويّة الفذّة في تفسير معنى كلمة جمهوريّة، فيوضِّح أنّها منحوتة مِن “جم” وتدلّ على (الجمّ الغفير)و(جهر) وتعني إفصاح كلّ فرد من النّاس عن رأيه في ما يتعلّق بتنظيم الشؤون العامة. وحدّد الأرسوزي معنى كلمة “المُثلى” على أساس أنّها مأخوذة من “المَثَل الأعلى”، أي من الكمال، تبعاً لتكوين كلمة الكمال نفسها. وشرحَ تكوين كلمة كمال شرحاً لغويّاً رائعاً: كمُلَ من كُم الزَّهرة، وحرف “ل” المُلحق بـ”كم” يُفيد هنا معنى النموّ، فالكمال-وفق قوله-مُستوحى من برعم يستكمل شروط كِيانه بالزهرة.

 وينفر الأرسوزيّ نفوراً كبيراً من واقعه العربيّ الذي كشف فيه خطر تحوّل الإنسان العربيّ إلى عبد، ويُفْهم معنى العبوديّة، وفق منظار الأرسوزيّ، على أساس أنَّ الإنسان العبد هو الذي يكون آلة أو أداة بيد نفسه أو بيد غيره من النّاس: يكون عبداً لنفسه إذا حوّلَ طاقاته الخلّاقة إلى أداة للحصول على شهواته، ويكون عبداً لغيره إذا استهلك مواهبه في خدمة الأقوى. ويطالب الأرسوزي باستبدال الإنسان الحرّ-النبيل بالإنسان العبد-الأداة. وهنا يفجِرّ الأرسوزي بعبقرّيته اللغويّة السَّاحرة ينابيع مأساة الإنسان العربيّ، فكلمة “حريّة” في رأيه اشتُقت من كلمة “حرب”، ونبيل اشتُقت من “النِبَال”، أي السِّهام التي يُرمى بها الأعداء؛ لذلك يصعب على الإنسان أن يحتفظ بإنسانيته أو بالأحرى بحرّيته إلا إذا كان مُحارباً رامياً لأعداء إنسانيته بالويلات!

جمع الأرسوزي في شخصيته بين عالم اللسانيات والمفكر السياسيّ؛ فعاش حياةً تنوس بين الهدوء والاضطراب، ولا نجد شبيهاً للأرسوزي الآن أقرب من المفكِّر الأمريكي نعوم تشومسكي الذي جمع في شخصيته هو أيضاً بين عالم اللسانيات والمفكّر السياسيّ؛ إلا أنَّ الفرق بين الأرسوزي وتشومسكيّ فرق كبير جدّاً، فالأرسوزيّ عاش حياة قهر مستمر وفي أعمق لحظات معاناته كان هدفه بناء أمجاد أمّة عظيمة فقدت القدرة على النّهوض؛ بينما تشومسكي عاش حياة حافلة بالأمجاد في على أرض جمعت شعوباً من مختلف أنحاء العالم، وكوّنت أمّة عالميّة. لقد نجحت أُمّة تشومسكي الطارفة ولم تنجح بعد أُمّة الأرسوزيّ التليدة.

المراجع:

زكي الأرسوزي، المؤلفات الكاملة، دمشق، 1972.   

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

 قراءة في  المجموعة القصصية “هو” للكاتب السوري فراس الحركة

 قراءة في  المجموعة القصصية “هو” للكاتب السوري فراس الحركة

حسب تعبير موباسان (إن هناك لحظات منفصلة في الحياة، لا يصلح لها إلا القصة القصيرة)، والقصة القصيرة تبدو النوع الأدبي الأقرب إلى روح العصر الذي اتسم بالسرعة والاختزال فتناسلت أنواع جديدة منها كالأقصوصة والقصة القصيرة جداً (ق.ق.ج) إمعاناً في الاختصار. والحقيقة أنها حافظت على  جمهورها دوماً وذلك بقدرتها على اقتناص اللحظة والإبحار بالقارئ في تلك المسافة القصيرة من السرد بتركيز وانتقاء مهمين.

وفي هذا السياق صدر مؤخراً عن دار موزاييك للطباعة والنشر مجموعة قصصية بعنوان (هو؟) للكاتب والقاص السوري فراس الحركة وهو الحائز على جائزة زكريا تامر للقصة القصيرة عام 2008 وجائزة  اتحاد الكتاب العرب للنصوص المسرحية عام 2009 عن مسرحيته (صاحب النساء السبع).

تحمل المجموعة عنوان (هو؟)، وإذ ينتهي العنوان بعلامة استفهام يفتح باب السؤال لدى القارئ للبحث عن دلالة ضمير الغائب فهو ليس إخبارياً، لكنه عنوان القصة الأخيرة في المجموعة والتي سيتوقف القارئ عندها كما العديد من القصص التي تفتح باب التفكر والتأويل لإماطة اللثام عن مآل النص وتفكيكه في محاولة البحث عن المرامي البعيدة والقريبة التي يأخذنا إليها الكاتب. إذ يصور الذات الإنسانية في تشظيها سابراً عوالمها الداخلية وصراعاتها المشحونة عاطفياً في مشهدية تصويرية تميل للغرابة حيناً  وبلغة تقترب من الشعر حيناً.

وعلى مدار ثماني وعشرين قصة حوتها المجموعة ينوع الكاتب أسلوبه فيتجاوز الترتيب الزمني للحدث منطلقاً من المشهد الأخير في بعضها مستعيداً خيوط السرد عبر تصاعد الحالة النفسية للشخصيات أو من المشهد الذروة ليفكك الحدث الذي يستنتجه القارئ ويقوم بتركيب خيوطه، فالقارئ هنا وغالباً يشارك الكاتب في إعادة بناء القصة في خياله عبر الإيحاء الذي يعتمد عليه الكاتب، ومفككاً الغموض الذي لجأ إليه ليستدرج القارئ نحو المشاركة في تخيل الحدث واتباع خيوطه المتعددة والمتشعبة.

يتخذ القاص فراس موقع السارد الذي يقوم بوصف وسبر العالم الداخلي للشخصيات جاعلاً الحدث في هوامش السرد منتقياً مواضيعه من المحيط بحيث يملك عوالم أبطاله النفسية والذاتية غالباً مقدماً المقولة على القص  تارة كما في قصة الطريق أو الصندوق الأسود وممسرحاً القص تارة أخرى كما في قصة العازف أو الأبواب ومحاولاً فتح العوالم النفسية لشخصياته وهواجسها وانفعالاتها وهمومها وهذا ما جعل الإبهام والغموض حاضراً في السرد وترك الباب مفتوحاً أمام القارئ كما في قصة انتقام مسلطاً الضوء على معاناة الفرد أمام المجتمع القاسي والمستكين لقوالبه الجامدة والمتخلفة  وظلمه للإنسان سواء بقوة العادات والمفاهيم المتخلفة أو بقوة السلطة الراسخة والتي تسعى لإدامة قيودها وذلك الصراع بينهما والذي ينتهي غالباً لصالح الأقوى.

يفضح المجتمع المتخلف وما يرتكبه بحق الأفراد إذ يكيل دوماً بمكيالين في سبيل الحفاظ على مقدساته ومقولاته التي كرسها عبر الزمن فيطلق أحكامه المستمدة من المفاهيم المتخلفة والخرافات والتي درج عليها كما في قصة ابن الجنية ليبرر أفعالاً وأحداثاً يخاف أن تتداولها الألسن حيث تصبح البنية النفسية لهذا المجتمع مهددة حين ترى الحقيقة. إنه المجتمع القائم على أوهام وكذبات صنعها بنفسه عبر الزمن . ففي قصة ابن الجنية نرى البطل فاضل والملقب بالنمر رغم كل أفعاله الحميدة وصفاته النبيلة التصق به لقب ابن الجنية ما جعله غير مرغوب به رغم أن هذه الجنية أمه لم تكن سوى مناضلة ساعدت الثوار في الجبال وماتت بتسمم جراحها، وكما تموت الحقيقة بالنكران يبقى اللقب العار ابن الجنية متوازياً مع ابن الحرام ومرفوضاً مثله.

وكما في قصة أطلال حيث يقوض الواقع أحلام الإنسان وقصص الحب التي تموت بيد الواقع ولا يبقى منها إلا الذكريات التي يطمسها الزمن مع تقدم الحياة التي لا ترحم فالحبيبة تتزوج ممن لا تحب ومكان اللقاء (البيادر) تقوم عليه البيوت الإسمنتية هكذا يحل الجماد محل العواطف.

وفي قصة الدم نرى انتقال المعركة من الرصاص الحي إلى الكلمة التي في النهاية تغتالها السلطات حين تعتقل الكاتب. السلطات التي تعيد  إنتاج الحزن وتجعله مستمراً ورفيق جيل الشباب في قصته (ذلك الحزن) حين تعتقل رفيقهم الذي عاد إلى البلد بعد غياب طويل.

مثلما تغتال المفاهيم الجامدة قصص الحب وتقسر الشاب في قصة أنا قدرك للتخلي عن الحبيبة نتيجة إعاقتها والزواج بأخرى .

يبرع الكاتب في وصف لحظة الذروة في الانفعال العاطفي والصراع النفسي للشخصيات التي تنتقل بين ضمير المتكلم وضمير الغائب وذلك في مشهدية تصويرية تأتي على لسان القاص محاولاً تصوير تلك الانفعالات والصراع الذاتي المكتمل مع المحافظة على إشارات مفتوحة توحي بالنهايات.

لا تأتي القصص في سوية واحدة فهناك موضوعات مطروقة سابقاً كواقع المرأة المستلبة الراضخة لمشيئة المجتمع الأبوي ومعاناتها في انكسار قصص الحب وقتل الذات وتحويلها إلى أداة إنجاب وعمل لا أكثر بينما تموت المحاولات الصغيرة ويبقى صوتها ضعيفاً، مؤكداً أن تحرر المرأة لا يكون إلا بيديها. يحاول الكاتب التجديد في أسلوب الطرح وليس الموضوع وهذا ينطبق على أكثر من موضوع كما في قصة الأبواب أو الطريق حيث يجسد الجماد ويؤنسنه على طريقة أنسنة الحيوان وإنطاقه في كليلة ودمنة لتقديم العبرة والمقولة، ليصبح الطريق شخصية تتمنى وتريد أن تكون ذاتاً تملك وجهة وهدف وصول.

يقول غيورغي غوسبودينوف: “إن المتاهة قد تكون من وفرة المخارج وليس فقدانها.”

وفي قصة الأبواب نرى أنها مخارج لطرق تتنوع وتنفتح بين الداخل والخارج ، بين الذات والمحيط تتعدد وتتداخل وكل باب يُفتح أمامه طريق على هدف ويستعرض البطل المتمثل بضمير الغائب هذا الأمر باحثاً عن اكتمال رؤاه. أبواب سبعة بما يحمل الرقم سبعة من قدسية في الذاكرة الجمعية وحين يصل إلى الباب السابع إذ يجتمع الأمل مع الفرح والنور و معاناة البلاد وبحث الإنسان عن شرط الحياة يأتي صوت المذياع في بيان رسمي يرمز للسلطة التي تصادر كل اكتمال وكل كيان باحث فينتهي البطل إلى البكاء.

يقابل الأبواب النوافذ وهو عنوان قصة أخرى (نوافذ صامتة) إذ نرى خلف النوافذ قصصاً مختلفة يجمعها الفقد والغياب والموت والإحساس بالاغتراب حيث يجتر الإنسان آلامه الخاصة . هذه الحيوات المتعددة كمثل مشاهد سينمائية أو عروض مسرحية يقوم كل منها بدوره دون تأخير.

لا تختلف معاناة الكاتب عن أبطاله فيصور تشتت المثقف واحتدام الصراع في داخله للبحث عن ذاته وعن تحقيقها إذ يرتقي من النواح إلى مرحلة القرار في قصة ارتقاء.

أما في قصة ارتكاب وحيث يصور أعماق الكاتب المشتتة والدؤوبة نحو التجلي وذلك عبر مونولوج داخلي يتنوع خطه البياني بين الذروة والقاع بين الانتشاء والبكاء وحالات متلاحقة تجعله يكشف غربته الداخلية وتناقضه مع المحيط وظروف الواقع والآلام التي تلتهم الإرادة وتحاول قتل اللحظة المبشرة بولادة الإبداع.

يبحر الكاتب في تلافيف العقل باحثاً عن رؤاه كصوفي يحتدم العالم في داخله فيقطر الواقع المر ويتطهر منه باكتمال الفكرة والإبداع الموازي للنور.

تبدو ذروة هذا الاغتراب والتشظي في قصته (هو؟) وضمير الغائب هنا إشارة إلى الظل رفيق الجسد في الضوء لكن ظل الأنا المتكلمة هنا وهو الكاتب يتجسد في العتمة يقول: (أفغر عيني في العتمة أجد الظل).

والظل ليس انعكاساً لجسم مادي بل هو ذات أخرى تنفصل عنه وتتجسد لعلها الحلم ولعلها المكبوت ولعلها الذات المتمردة المشاكسة حيث يفعل ما لا يجرؤ عليه الكاتب ساخراً منه ومن جبنه وعجزه إنه الكائن الحر المدفون في داخلنا.

وهذا الفصام يبدو جلياً في قصص فراس الحركة إذ  يغوص في العوالم  النفسية والداخلية للشخصيات واصفاً انفعالاتها وهواجسها ويوجهنا إلى البحث عن الشبيه. اللغة عند فراس لاعب ماهر إذ تعبر بدقة عن تلك الإرهاصات وتميل إلى الشعر أحياناً مختزلة ومكثفة لكن يؤخذ عليه الإسهاب في الوصف في بعض الأحيان ما لا يخدم البنية القصصية ويشتت القارئ.

(هو؟) مجموعة مختلفة في البناء والأسلوب تبشر القصة القصيرة بفتوحات جديدة سجل فيها فراس الحركة اسمه بمهارة.

حين لا يأتي أحدٌ ليضع حداً للمجزرة: قصائد للشاعر الأمريكي كوس كوستماير

حين لا يأتي أحدٌ ليضع حداً للمجزرة: قصائد للشاعر الأمريكي كوس كوستماير

ترجمة عن الإنكليزية: أسامة إسبر

كوس كوستماير شاعرٌ ومسرحيٌّ وروائيٌّ أميركي بدأ حياته الأدبية كاتباً مسرحياً وكاتب سيناريو. صدرت له عدة مسرحيات وثلاث مجموعات شعرية وتُرجمت له رواية إلى العربية بعنوان ”فارغو بيرنز“  صدرت عن دار خطوط وظلال في الأردن في ٢٠٢١. عُرضت مسرحياته في أميركا وفي بلدان غربية أخرى وحصل على العديد من الجوائز بما فيها جائزة دائرة نقاد المسرح في لوس أنجلوس لأفضل مسرحية وجائزة جمعية نقاد المسرح الأميركية.

من أعماله المسرحية ”حول النقود“،  ”تاريخ الخوف“، “المستنقع الغربي الكبير“، و”حلم الحرية المطلقة“، وصدر له في الشعر الدواوين التالية: ”سرير الزواج“، ”العام الذي اختفى فيه المستقبل“، ” بلا عنوان“، أما في الرواية فله ”دين مفقود“، ”سياسة اللامكان“، و“جادة الأيام الحزينة“.

القصائد التالية هي قصائد جديدة كتبها الشاعر عن حرب غزة، وخصَّ بها ”صالون سوريا“.

١- عناد

الرجلُ يستعملُ يديه بدل المطرقة

يركع وحيداً بين الأنقاض

يضربُ الفولاذ

يُدْمي الحجر

يصرخُ منادياً أسماءهم بأعلى صوته

 يصلّي كي ينطق من تبقى

غير أنه لا يخرج أحد.

الرجلُ الذي يستخدم يديه بدل المطرقة

ينبش الأرض بأظافره

يتضرّعُ إلى الموتى

يتوسّل إليهم أن يرجعوا.

حين تكتفي الريح من الإصغاء

تُعْول وتهبّ مبتعدةً

حينها، حتى المطر

يشعر بالعار من بقائه.

٢- الحرب على الأطفال

“هذه حرب على الأطفال”.

جيمس إلدر الناطق باسم الأمم المتحدة متحدثاً من جناح في مستشفى في غزة.

تتقدّم الجيوشُ

فوق الحليب الأسود والدم المسفوح.

يبكي أطفالٌ رضّعٌ

تحت الأنقاض ويفرُّ الناس.

تُعرّى أمهاتٌ

وتُقْحم أصابعُ في أعضائهن.

يُلفُّ آباء بالرايات ويُضْرَبون.

يُجْبرُ أطباء على السير على الماء

يُقتل أطفالٌ في حاضناتهم

يُقتل أشقاءٌ وشقيقات

وتتعفّن جثثهم في ضوء الشمس

حين لا يأتي أحدٌ كي يضع حدّاً للمجزرة.

تتدفق الأسلحةُ من الولايات المتحدة.

سياستنا موادّ لصناعة الأسلحة.

شهدْنا نهاية الأيام

وما من طريقةٍ كي نبعث المستقبل.

الأنهار تتدفّقُ داكنةً وحمراء من الدم

وما من مكانٍ نهرب إليه،

 أو نختبئ فيه

ما من طريقةٍ لإصلاح الريح المتكسرة

أو لإعادة الأطفال

كي نغنّي وندغدغ بشرتهم الناعمة التي كالعسل

حين لا يأتي أحد ليضع حداً للمجزرة.

نرى أجساد الأطفال

تُرْفَع محطّمةً من تحت الأنقاض.

نسمعُ أشخاصاً يتسوّلون شربة الماء

يصلّون للسلام،

لكن لا أحد يأتي كي يخفّف أحزانهم

ويحوّل أمنياتهم إلى خبزٍ

أو يروي ظمأهم الحارق

لإنقاذ أطفالهم من الدفن

لا أحد يتمرد

 ضد العرض المقيت لأكاذيب قديمة

تتقدّم عبر أخبارنا اليومية

وتزحفُ على شاشاتنا في الليل

كي تحتفي بدولارات جُمعت

وأذى أُلحق بالآخرين

حين لا يأتي أحدٌ ويضع حداً للمجزرة.

٣- درس لشرح المفردات

(إلى نعومي شهاب ناي)

نتعلّمُ اللغة في مركز العالم المحترق.

(السياسة، جريمة، صديق، عذاب، شظايا، دولة)

كلّ كلمة لطخةٌ لا نستطيع إزالتها

(بطل، قناص، شهيد، طاغية، سلطة، مصير)

هناك كلمات مجنونة، وأخرى مُهلكة وغادرة

وهناك كلمات كثيرة كاذبة.

(غريب، صاروخ، وطني، خصم، الآخر، نار)

إن نَحْو المأساة عظيمٌ، وإذا ما أصغيتَ

ستسمعه يتكسّر على الجدران

ويعاود ترتيب الجثث في جميع الأمكنة.

دَرْسُنا اليوم هو كلمة ”دبابة“.

 هل تعرفونها؟

Tank: الكلمة ذات المقطع الأحادي الثقيل

تمتلك شهية أسطورية

للموت وتقتلُ كل شيء

يقع في مدى بصرها.

تستهدف الجنود والأطفال والنساء والمعلمين

والطلاب والمزارعين، والأطفال

والناس بشتى أصنافهم.

هذا الاسم الذي لا يعرف الصفح

يتكاثر في جميع الأمكنة

ويفضّل أن يعمل في الشوارع

ليتمكن من استخدام خطمه القاتل والإجهاز على فريسته

دون أن يضطر لالتهام ما تبقى.

وكل ما يتبقى هو الشيء نفسه دوماً:

مرادف للأسى

وكلمة أخرى للكراهية.

٤- فن الحرب

حين جاءت الطائرات

كان قايين يستلقي في فراشه في البنسيون

 شبه نائمٍ ولم يحلق ذقنه بعد.

أنتم تعرفون المشهد،

أعرف أنكم تعرفونه،

ومطّلعون على خلفية الفيلم:

الغرفة القذرة بالأسود والأبيض

حيث كلّ الأغطية رطبة من الخبز المتعرّق

التلفاز مُدار، والسيجارة مُشعلة.

وحين بدأت القنابلُ بالسقوط

كان يقف عند النافذة

في الوهج الأحمر للصواريخ

والسماء مذهلة وملتهبة.

تعرفون الأغنية،

 أعرف أنكم تعرفونها:

الأطفال يموتون، هذه الجعجعة الفارغة.

النار تلتهم حقول القمح

الظلال تتقيّح في الشوارع.

لكن هذا هو قابيل، أتفهمون؟

الرجل نفسه الذي يحدّق بالأطفال وهم يحترقون،

ويركضون في عاصفة معدنية

صُنعت بلغةٍ

لم يتعلموها أبداً في المدرسة.

يتذكر فجأة

كيف سقط أخوه الأصغر هابيل تحت الضربات

قرب مذبحٍ دمويٍّ في يوم الأضاحي الكريه ذاك.

السماء فارغةٌ وصامتة الآن

آه، لكنّ جميع الأمهات يعرفْن

أن الموت قادم غداً إلى البلدة.

يقفْن خلف نوافذهن ويحدّقْن في الخارج

إلى الأشلاء وشظايا العظام، والبراز الدموي.

تعرفون المشهد:

 الرئيس، ثم بالطبع فواصل إعلانية

وفجأة ابن الإنسان

بوجهه المنهك منعكساً على لوح زجاج النافذة

يصيح بصوت مرتفع: ما الذي فعلتُه؟

ما الذي فعلته؟ 

ثم يكرر الصياح: ما الذي فعلته؟

٥- النظام العالمي الجديد

يتجلى جمال الأمم حين تكون النكهات كلّها محليةً،

 وتصبح الحياة لذيذة في جميع الأمكنة

إذا تُبّلت بطريقة ملائمة.

في اليونان، مثلاً، يمكن أن تشرب الريتسينا، وتتذوّق على شفتيك

أحجار التاريخ المرّة. يتصلّبُ لسانك كالفولاذ داخل فمك

وتشعر بأنك قادر على ممارسة الحب مع زوجتك

طوال الليل حتى الصباح.

أحجارُ اليونان نظيفةٌ وبيضاء،

لكن النبيذ الأحمر الداكن لبوجليا يجب ألا يُزدرى أبداً. فهو يمنح

فمك طَعْم الطمي

والشذى الأسود للتوت المسحوق.

لكلّ منزل سرّهُ،

 ولكلِّ أمةٍ متعتها:

الجوز الأرضي من السنغال

نبيذُ النخيل من غامبيا.

خيوط المعكرونة الفضية النحيلة والساكي الحارق من اليابان،

الشنكليش والمكدوس من قلب سوريا الجريح،

 أطباق المازة التي تُدْعى التاباس من أسبانيا

وخبز التشاباتي من إسلام آباد.

يجب أن تُزال الحدود اليوم،

على الفور،

وتحلّ محلّها قوائمُ طعامٍ بأطباقٍ محلية.

وفي هذا النظام العالمي الجديد

سنمدّ مائدةً مشتركة تحت قبة السماء

ونتحلّقُ حولها كأصدقاء وجيران

ونعدّ وليمةً عظيمة.

نحتفي بالصداقة أولاً،

نحكي قصصاً مدهشة بكل اللغات

عن أعاجيب عادية رأيناها.

نتقاسم كلّ ما أحضرناه،

 ونعتني بالجميع

مبتدئين بكبار السن ثم بالصغار.   

حينها كم ستبدو الحياة ثمينة لنا!

 كم ستبدو رائعة وعذبة!

وبعد العشاء نتذوّق أباريق متخمّرة

من شاي النعناع القوي،

ثم نجتمع معاً تحت النجوم

ونهدهد أطفالنا إلى أن يناموا. 

اصطناع الأدب الصهيوني:قراءات في فكر غسان كنفاني

اصطناع الأدب الصهيوني:قراءات في فكر غسان كنفاني

حين نقرأ كتابات غسان كنفاني النظرية التي كرسها لدحض الدعاية الصهيونية وتفكيك ما تضمنته خزانة الأدب الصهيوني المليئة بالافتراءات، وكشف ما وقع فيه من مغالطات وأكاذيب ندرك بوضوح لما كان صاحب “عائد إلى حيفا” من أوائل من استهدفتهم آلة القتل الدموية الصهيونية، ومن هنا نجد ضرورة استحضار أفكاره والاطلاع على قراءاته لواقع يزداد كارثية وموتاً.

يوضح غسان كنفاني كيف تقاتل الصهيونية على جبهة اللغة، فالأدب كان سلاحًا بيدها لا يقل أهمية عن الاستثمار السياسي هذا إذا لم تسبقه، فالأدب الصهيوني تعبير عن الأدب الذي كتب ليخدم حركة استعمار اليهود لفلسطين سواء كتبه يهود أو سواهم ممن يتعاطفون ويتبنون أفكارهم الاستعمارية، فمن خلال تقصي جذور الصهيونية الأمر الذي أدى لغسل أدمغة عدد كبير من البشر، يتعقب كنفاني بعضاً من هذه الأعمال ويفند زيفها وضلالها من خلال شعار هام وهو: “اعرف عدوك”.

فهو يوضح كيف قفزت اللغة العبرية فجأة بعد احتلال فلسطين من لغة ديانة إلى لغة قومية، على الرغم أنه خلال ألفي سنة ماضية لم تشكل اليهودية فيه رابطة قومية ولا روابط جغرافية ولا سياسية أو اجتماعية فمن أجل ذلك تم التركيز على اللغة لادعاء مشتركات غير موجودة بالأصل، وهذا يوضح الحملة التي تشنها الصهيونية على من يتمسك بلغته الأصلية غير العبرية مثل جماعة الييديش، لغة يهود أوربا الشرقية.

كيف ولدت الصهيونية الأدبية:

برز الإنتاج الأدبي الصهيوني بشكل كبير في فترة الانفراج التي عاشها اليهود ولم يكن انعكاساً للاضطهاد الذي عانوا منه، وفي فترة الحكم العربي بالأندلس تميز أفضل المفكرين اليهود وكذلك في المغرب ومصر ومنهم “موسى بن ميمون”، بالوقت الذي عانى اليهود في أوربا من الاضطهاد والقهر والتمييز.

وكان أمام اليهودي المضطهد موقفان: إما أن يتعذب في سبيل المساواة والاندماج أو المزيد من الشعور بالتميز والتمسك بأسطورة التفوق، فلم يكن الاضطهاد هو الرحم الذي نشأت منه الصهيونية.

وباعتبار أن الأدب العبري بمجمله أدب ديني فقد كان ثمة ضغط على التيار الذي يدعو للمساواة والاندماج على حساب إعلاء الآخر السلبي الذي يدعو للتفوق والاستعلاء، لذا استخدمت الصهيونية السياسية العرق والدين في الأدب الصهيوني لخدمة أهدافها العنصرية، ففي بداية القرن التاسع عشر بدأت اوضاع اليهود بالتحسن في أوربة مع شعارات نابليون بالمساواة في فرنسا، وبدأ الصوت الصهيوني يتوضح وقد أخذ شكله النهائي في مؤتمر بال عام 1897، وبدأت الشخصية اليهودية تتحول من نموذجها الشايلوكي إلى شكل أكثر توازناً نتيجة دعوات معاداة العنصرية، وبرز في إنكلترا تحول كبير بنبذ النموذج الشايلوكي وتعامل إنساني جديد مع الشخصية اليهودية عبر إنتاج ثقافي غزير، وبالمقابل فإن الأقلية اليهودية الموجودة في لندن بدأت تشكل نموًا اقتصاديًا واجتماعيًا لافتًا وصولًا إلى نقطة الانعطاف الهامة التي حدثت عام 1858 عندما أصبح اليهودي ليونيل روتشيلد عضوًا في البرلمان البريطاني لأول مرة في تاريخ اليهود مع تصاعد أعدادهم وتمركزهم في لندن، لينعكس ذلك على الأدب وتسييس الشخصية اليهودية فيه.

فبعد كتاب هارنغتون ورواية ايفنتهو لوالتر سكوت التي تطرح الطيبة والرومانسية التي ثبتها شيلي وبايرون في الشخصية اليهودية، كان المطلوب نموذجًا آخر لشخصية غير رومانسية وترفض الاندماج كذلك، على غرار الشخصية التي خلقها بنيامين دزرائيلي باعتباره داعية عنصرياً. ففي روايته “دافيد آلروي” طرح البطل اليهودي الصهيوني قبل نصف قرن من ولادة الصهيونية كموقف عنصري متطرف بتأكيده أن العرق العبري صاف غير مختلط ، وذات الموقف تبناه هتلر مقلوبا بعد 80 سنة ومجمل قول دزرائيلي في روايته أن اليهود وحدهم مهيؤون لقيادة العالم، وعلى خطى تطور وضع اليهودي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي كان الأدب صدى لهذا التطور والانتقال من البطل الرومانسي إلى الشخص الحائر وبعده إلى الشخصية العنصرية التي تؤمن بتفوق العرق، وقد وضحته شخصية مردخاي لدى “جورج إليوت” في روايتها “دانييل ديروندا” في ترسيخ هذا الأمر ورسم خطة عمل لصهينة اليهودي واستغلال عقدة التفوق إلى أبعد حد بالخلط بين العرق والدين حتى أصبح كتابها إنجيلاً صهيونياً.

منشأ شخصية اليهودي التائه وتطورها:

يرى غسان كنفاني أن اليهودي التائه مفهوم يدور في الحلقة الدينية التي استولدته وهو يتقلب بين دور المذنب لدور المتذمر؛ من موقف الخاطئ إلى موقف المعذب متأرجحًا بين التنور والتعصب ليركب بعدها اليهودي الجوال على موجة تحويل العرق والدين إلى قضية التفوق العنصرية.

قد تكون شخصية اليهودي التائه قد مثلت في الأصل حيرة الإنسان تجاه معضلة الموت والفرار منها إلى الأسطورة قبل أن تتخذ شكلها النهائي في حكاية رجل شاهد صلب المسيح واستعجله للذهاب إلى الصليب وحكم عليه المصلوب بالتجول في العالم إلى يوم القيامة، وكانت هذه الشخصية محببة إلى أن جاء وقت انقلبت إلى شخصية اليهودي الجوال صاحب قضية اجتماعية وتحولت تدريجيًا لتطرف وانزلقت إلى العنصرية وانتقلت الشخصية من المجال الديني إلى أن أخذت طابعها السياسي.

 وقد تجلت في مسرحية “الغريب” ل ديفيد بينسكي وتبنتها فورًا فرقة هابيما في توظيف الديني لخدمة قضية سياسية ليشكل بعدها ثلاثي الدين والعرق والسياسة أبشع غزو استعماري في العصر الحديث، ويبلغ هذا التيار ذروته مع الكاتب السويدي الحائز على نوبل بار لاغركفيست في روايته القصيرة ” موت اهاسورس” حيث اليهودي الجوال هو من يحاسب الرب على العقوبة التي جعلته يتوه في أنحاء الأرض، ويعتبر أن عذاب التجوال على مدى القرون هو أصعب من عذاب الصلب  نفسه، ويرى ذاته في موته أي نهاية تشرده في إسرائيل، ليصل كاتب آخر هو “أهارون دافيد غوردون” إلى نتيجة بأنه لهم ميزة أن يكونوا الأوائل ليس لأنهم الأفضل وإنما لأنهم تعذبوا كثيرًا.

فالرواج الذي هيأته السياسة للأدب الصهيوني ورعت انتشاره قد تسلح بكل الأسلحة الممكنة كالمبالغة والتزوير وطمس الحقائق، وكان يقوم بمهمة مزدوجة تعبئة اليهود لخلق جو عالمي للتعاطف معهم وطمس كل ما يمكن أن يعرقل مشروعهم.

إذ إن الأسلوب الدعائي الذي اتبعه تيودور هرتسل في روايته ” الأرض القديمة الجديدة”

قبل أن يتحول بكليته إلى السياسة بتصوير أرض فلسطين وكأنها بلاد ممتدة تنتظر عودة اليهود ليحيوها ويعيشوا فيها، ولا كلمة عمن يقطن في هذه الأرض بالأساس وعن مصيرهم.

شعوران يسيطران على الشخصية اليهودية كما صورها الأدب الصهيوني الأول هو الفخار وهو أمر مقبول والنوع الثاني احتقار البشر والنظر بدونية إليهم، على الرغم من أن الدراسات العلمية وضحت أن اليهود المعاصرين لا صلة لهم قومية أو دينية بيهود العهد القديم، وما يفسر رفض الصهيونية لفكرة الاندماج مع الشعوب التي عاشت في ظهرانيها ذلك التخطيط لأن تحل مكان وأرض شعب آخر، إذ يؤكد كنفاني في اعتراضه على أسلوب التفكير اليهودي في أنه لو تم التفريق بين الدين والقومية كمفهومين مختلفين لما وقع هذا الخلط والالتباس.

سمات البطل في الرواية اليهودية:

أهم صفتين للبطل أن يكون هارباً من اضطهاد وأن يكون آتياً من بلاد أوربية. ولقد صورته معظم الروايات وهو يعيش حالة غرام مع شخص غير يهودي وغير عربي يتفاعل مع قضيته وينضم إليها، ويبرز العرب كأفراد لا قضية لهم وبالغالب مأجورين من قبل قوة خارجية.

ويبقى السؤال لماذا عجزوا عن الاندماج مع الشعوب التي أتوا منها، من هنا جاء تضخيم حالة الاضطهاد التي عانوا منها وتصغير واحتقار الشعوب الأخرى، إذ لا يستطيع الكاتب الصهيوني أن يتجاوز عقد العرق والدين بالإضافة إلى القضايا الأخرى كالاضطهاد ومذابح هتلر.

وقد أجمل هذه المحاور التي دارت حولها الأعمال الروائية الصهيونية:

  • التفوق اليهودي المطلق والبطل المعصوم
  • الموقف من العرب ومن الشعوب الأخرى
  • الشخصية اليهودية وعلاقتها بإسرائيل
  • المبررات الصهيونية للغزو الإسرائيلي مثل الاضطهاد الذي عانوه والمذابح الهتلرية.

لذا فإن عقدة التفوق ستقود إلى موقف عنصري آخر سبق أن ثبته هتلر الذي يدعون العداء له، وتصوير العرب وهم يلقون القنابل على اليهود ورغم ذلك هم لا يتحركون كونهم في غاية الانسجام وهم يسمعون الموسيقى السنفونية، والغريب أن قنابلهم ومعداتهم الحربية لا تقتل النساء والأطفال، أما العرب فرغم تردي معداتهم القتالية والحربية لا يقتلون إلا النساء والأطفال، نعم هذه هي الصورة التي أرادوا تصديرها الى العالم،  فالدعوة الصهيونية إلى غزو فلسطين ترافقت بتبرير كأي مستعمر أو غازي متمثلة بأسطورة التفوق الحضاري والعلمي والبدني والأخلاقي، وأنهم أتوا لمساعدة البلاد التي يغزونها والعمل على ترقيتها.

فالأدب الصهيوني واجهته معضلتان: أولاً التبرير لماذا رفض اليهود الاندماج مع المجتمعات التي أتوا منها على الرغم من أن ذات الكتّاب الذين نادوا بذلك شجعوا على الاندماج بالمجتمع الأميركي والثانية تبرير اقتلاع شعب من أرضه وتهجيره عنها، إذ أفصح الأدب الصهيوني عن احتقاره لكل الشعوب وبالأخص العرب باعتبارهم أعداء مباشرين لهم، أما اليهود القادمون إلى أرض لا يعلمون عنها شيئًا فهم من يستميت في الدفاع عنها، وما العرب في حرب فلسطين بالنسبة لهم إلا عبارة عن حرب مرتزقة ومأجورين لا قضية لهم وهم غير جديرين بوطن بتأكيد سهولة الوصول إلى أراضيهم ونسائهم، هذا ما يسوقون له في رواياتهم من أكاذيب وتضليل للرأي العام العالمي وهذه هي الصورة السيئة التي يضعون العربي فيها.

ففي رواية “الينبوع” ل “جيمس بشنر” يصور المقاومة العربية في حرب عام 1948 بأنها حرب أناس قدموا من الصحراء للغزو مدهوشين من جمال المزارع اليهودية، كما ينفي فكرة أن يكون العرب قد حاربوا الصليبين يومًا، ويعطي أفكاراً حقيرة ومغلوطة عن الدين الإسلامي، وفي عمل آخر يؤكد أن المنطقة كانت صحراء هنا ولم تنتعش وتخضر إلا مع مجيئهم وأن كل ما فعله اليهود هو أنهم سرقوا منهم الأمراض والأوساخ والملاريا التي كادت تقضي عليهم. ويبدو الكاتب “جوشوا بارزيلاي” ناشزًا عن ذلك السيل من الافتراءات الدعائية التي يملؤون صحائفهم بها، حيث يصف أرض فلسطين قبل أن تلمسها قدم أي كائن يهودي مهاجر بأنها الجنة ذاتها ببساتينها وخضرتها، وذلك قبل أن تجند الدعاية الصهيونية لوصف أرض فلسطين بالصحراء وقبل أن يستوردوا شتلات النخيل من العراق ويخصبوا بها أرض الكنانة على حد زعمهم.

بماذا تبرر الصهيونية اغتصاب أرض فلسطين:

إن مذابح هتلر واضطهاد الغرب الأوربي تقف وراء مظلومية اليهود، إذ يذكر أحد أبطال إحدى الروايات بعد تدميره دبابتين عربيتين: “هذا من أجلك يا سارة”، لنعرف أنها سارة التي قضت في مذبحة بألمانيا، فالسؤال هنا ما شأن عرب فلسطين بتلك المذابح ولماذا عليهم هم دفع الثمن وخاصة أن قسماً كبيراً من اليهود عاشوا مع العرب دون أي مشاكل تذكر، كما يشير للوجود الإنكليزي في فلسطين: “هل يملك أولئك الإنكليز حق الوجود في فلسطين أكثر من اليهود الذين تعرضوا للاضطهاد” يعترف باللا شعور بأنه مستعمر آخر، فالإنكليز كانوا مستعمرين وليسوا أصحاب الأرض،  وفي مروية أخرى يقول:” إنها دار الأتراك” فهل وجود أي مستعمر ينفي حق أهلها الأصليين في وجودهم على أرضهم، فالاستعمار التركي كان في أغلب البلدان العربية والفرنسي والإنكليزي كذلك، وهذا لا يعطي أي حق لأي مستعمر جديد بغض النظر عن ظروف ومعاناة عاشها في أي مكان بالعالم، هذا إذ تجاهلنا الخرافات اللاهوتية عن يهود بنوا الأهرامات تحت سوط الفراعنة.

مع ذلك هناك بعض الأدباء اليهود المقيمين بفلسطين قبل عام 1948 كانوا غير قادرين على تحميل العرب الجرائم الهتلرية ولكونهم ليسوا مطالبين بتبرير الهجرة لأنهم موجودون قبلًا لذا كانت كتاباتهم أقرب للموضوعية ومنهم “يائيل دايان” ففي روايتها “طوبى للخائفين” وإن كانت تحاول تبرير العنف باعتباره وراثة جاءت من الأجيال السابقة فإنها انتقدت فكرة البطل المعصوم الذي خلقته الدعاية الصهيونية، وهناك “بنيامين تموز” الذي وصف علاقة العربي بشجرة الزيتون العتيقة وكيف تم قطعها، هذا النموذج تحرص الصهيونية على تجنبه رغم أنه لا يستطيع أن يتعدى نصف الطريق أي لا يمكنه أن يرسم اللوحة كاملة فهي حركة ذات حرية محدودة.

بين جائزة نوبل وعدوان 5 حزيران: 

في عام 1966 منحت جائزة نوبل لكاتب صهيوني هو شموئيل يوسف عغنون وكأنها أشبه بوثيقة بلفور أدبية فلجنة نوبل وجدت في كتاباته العرقية المتعصبة رسالة إسرائيل إلى عصرنا وبعدها بسبعة شهور كان عدوان الخامس من حزيران وهو تتويج لكل ما تم تحضيره من غسل أدمغة العالم واليهود بثقافة عنصرية خرقاء.

ذلك الكاتب الذي أجمع النقاد على اكتظاظ نتاجه الأدبي بأفكار استعمارية توسعية وأردفها بقصص دينية لا تجد صدى لها إلا عند اليهودي المحافظ، لأنه لا يغطي قيمًا عالمية ولا موضوعًا إنسانيًا مشتركًا.

عمر أميرلاي: رائد السينما التسجيلية السورية وصانع نهضتها

عمر أميرلاي: رائد السينما التسجيلية السورية وصانع نهضتها

في مطلع سبعينيات القرن الماضي وبينما كان معظم صناع السينما في سوريا يتجهون نحو إنتاج الأفلام التجارية الرائجة، كان السينمائي الشاب عمر أميرلاي، ومن خلال عدسة كاميرته الثاقبة والذكية،  يَشقُّ طريقاً سينمائياً يختلف عن السائد، ليُشكل الملامح الأولى لصناعة السينما التسجيلية السورية، ويعمل على تطويرها. وفي وقتٍ كان فيه معظم السينمائيين السوريين والعرب يهربون من صناعة السينما التسجيلية، نحو السينما الروائية والأعمال الدرامية، كي يتجنبوا الصراع مع السلطات السياسية والرقابية والدينية، كان أميرلاي يعمل على كشف ممارسات تلك السلطات ليؤسس بذلك لمدرسة سينمائية نقدية استقصائية تطال جذور المشاكل وأسبابها، وتعالج أبرز القضايا الإنسانية والإجتماعية، فهو الذي يقول : ” لولا السينما لما كنت خضت في وحل واقعنا، ولما كنت عرفت الإنسان وأحببته، ولما كنت اكتشفت تلك الحقيقة البديهية من أنني جزء من الحياة وليس العكس، ولما كنت روَّضت طبعي العدمي ونزقي قبل أن أعرف إلى السينما سبيلاً”.  

ولد أميرلاي في دمشق عام 1944، بدأ مسيرته الفنية كرسام كريكاتير، سافر إلى باريس ليدرس المسرح في جامعة “مسرح الأمم” بين عامي 1966 و 1967، ثم  انتقل إلى دراسة السينما في المعهد العالي للدراسات السينمائية في باريس، لكنه توقف عن الدراسة بعد أحداث ثورة الطلبة التي وقعت في جامعة مونتير عام 1968، والتي أدخلته إلى ميدان العمل السياسي، ليعود بعد ذلك إلى دمشق في العام 1970 ويبدأ مسيرته الفنية بفيلمه  محاولة عن سد الفرات .

 منذ بدايتها تميزت تجربة أميرلاي السينمائية بصوتها النقدي المرتفع والمنادي بالحرية والعدالة، حيث عالجت قضايا الحريات المكبوتة بطريقة ذكية استطاعت تجاوز سلطة الرقيب، وأظهرت الواقع الحقيقي لسوريا دون تجميلٍ أو مواربة، لتوصل صوت الناس المهمَّشين والمقهورين وتوثِّق جانباً من حياتهم البعيدة عن الأضواء، وتفضح الواقع المؤلم الذي صنعه المفسدون في البلاد، مُشكٍّلة بذلك ثورة حقيقية في صناعة السينما السورية. ورغم أن الأفلام التسجيلية لم يكن لها الانتشار الواسع، ولم تكن تحقق مشاهدات كبيرة أو تجني أية أرباحٍ تُذكر، ظل أميرلاي طيلة حياته ملتزماً بخطه السينمائي، المنحاز لقضايا الشعب، ومخلصاً لمبادئه وأفكاره التي تأثر بها الكثير من المثقفين العرب، فحقق في عصره ما عجز عنه معظم زملائه السينمائيين.

ورغم أن أعماله  تنتمي إلى السينما التسجيلية إلا أنه استخدم فيها تقنيات السينما الروائية، بمختلف فنونها الإبداعية، التي أبرزت مدى فهمه وإتقانه للغة السينما، وذلك من خلال اختيار كوادر الفيلم وحركات الكاميرا وزوايا التصوير والمؤثرات البصرية وإنتاج الصورة السينمائية المكثَّفة والمعبِّرة والتي تنتصر على التعليق الصوتي في كثيرٍ من المشاهد، لتقدم العديد من الأفكار والمقولات دون حاجةٍ للكلام، هذا إلى جانب إدخاله لعنصري الحكاية والخيال الفني إلى المادة التسجيلية كي يُحررها من الجمود والحالة التقريرية، ليقدم بذلك فيلماً تسجيلياً بإحساس إنساني عالٍ وبلغةٍ سينمائية شاعرية وبديعة، استطاعت بفضاءاتها الجمالية وقوة تأثيرها أن تخفف من حجم قسوة وبشاعة المواضيع التي تم تناولها، فيما استعاض عن استخدام الموسيقى التصويرية في معظم أفلامه باعتماده على أصوات الطبيعة وأصوات الحياة اليومية التي منحت أفلامه بعداً سينمائياً مميزاً وقوة تأثير مضاعفة.

عدسة تؤرِّخ الوجع السوري  

في وقتٍ لم يكن السوري يعرف ما يجري خارج حدود قريته أو مدينته، استطاع أميرلاي من خلال فيلم الحياة اليومية في قرية سورية أن يسلط الضوء على معاناة وأوجاع سكان قرية المويلح/ دير الزور، التي تشبه حال الكثير من القرى السورية، حيث صوَّرت عدسة كاميرته الثاقبة أدق تفاصيل الحياة اليومية البائسة التي يعيشها سكان القرية المحرومة من أبسط متطلبات الحياة في ظل تراجع حجم الإنتاج الزراعي. وقد اعتمد الفيلم، الذي منعته الرقابة من العرض، على وجهتي نظر تكرسان حجم الهوة الكبيرة بين الواقع الحقيقي وما يقوله المسؤولون في الدولة والإعلام. فبينما يقول طبيب القرية إن نسبة الوفيات بين الأطفال قليلة، تكشف لنا الصورة السينمائية واقع الأطفال المصابين بالهزال، وارتفاع نسبة وفياتهم نتيجة تفشي الكثير من الأمراض في القرية. وبينما نجد معلم المدرسة يوعِّي التلاميذ بضرورة الاهتمام بنوعية الأغذية التي تجعل أجسادهم صحيةً وقويةً، نجد أن  طعام معظم الناس لا يتعدى الخبز والشاي الأسود، وأن غالبتهم تعاني من فقر الدم وسوء التغذية.  

قُّدِم الفيلم بطريقة سينمائية تقترب من أسلوب السينما الإيطالية الكلاسيكية، حيث أبرزت لقطاته الطويلة والمعبِّرة جانباً من الطبيعة الساحرة للمكان، وأضاءت على كثيرٍ من الطقوس والتفاصيل الإنسانية المميزة التي يعيشها الفلاحون البسطاء والمعدمون، والتي أظهرت أجمل ما فيهم من صفات طيبة ونبيلة رغم قساوة المكان والظروف المؤلمة التي تعصف بحياتهم.

وفي فيلم الدجاج يرصد أميرلاي حجم التغيرات المخيفة التي وقعت في قرية صدد / حمص، التي كانت تشتهر بالصناعات النسيجية اليدوية (البسط والأزياء التقليدية وغيرها) وتمتلك نحو 400 نول، حيث تخلى معظم  حرفيو القرية عن تلك الصناعة العريقة نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد، ناسين تراثهم الثقافي والمهني، ليلجؤوا، إلى جانب الكثير من فلاحي القرية، إلى إنشاء المداجن وتربية الدجاج، ولكن مشاريعهم هذه، ورغم إنفاق الكثير من الأموال عليها، لم تحقق لهم أية أرباحٍ تذكر، وذلك نتيجة ارتفاع أسعار الأعلاف والأدوية وجميع مستلزمات تربية الدجاج، وعدم تقديم مؤسسات الدولة أي دعم أو مساعدة لأصحاب المداجن، الذين اضطروا بعد خسائرهم  المتعاقبة للتخلي عن تلك المشاريع والبحث عن أعمال أخرى، أو مغادرة بلدتهم نحو الخارج للبحث عن فرص عملٍ مناسبة.

تم تصوير الفيلم بلغة سينمائية رمزية جمعت بين التسجيلي والروائي وتضمنت جانباً من الكوميديا السوداء، المستوحاة من فن الرسم الكاريكاتوري، حيث يظهر الدجاج في الفيلم، من خلال اللقطات القريبة المصحوبة ببعض الأغاني والموسيقى، وكأنه شخصيات بشرية تنفعل وتُعبِّر عن ضجرها وسأمها من الواقع، فيما تظهر رؤوس الدجاج في لقطات أخرى، ومن زوايا مختلفة، وهي تتحرك بسرعة وترافقها أصوات بعض المسيرات والهتافات وكأن المشهد يحاكي محاولة تدجين الشعب. ويقول أميرلاي في حديثه عن هذا الفيلم: “اخترت أن أحكي عن البشر بلغة الحيوان، فذلك نوع من التعبير عن قهر المثقف، وعجزه عن إنطاق الناس”.  

 استطاع أميرلاي بحنكته وذكائه أن يتحدى سلطة الرقابة ليخرج فيلمه الشهير طوفان في بلاد البعث  الذي تضمن نقداً سياسياً لاذعاً لممارسات سلطة حزب البعث في البلاد، وأبرز مدى تغلل الحزب في جميع مفاصل الحياة والآثار المترتبة على سياساته، خاصةً فيما يتعلق بواقع التربية والتعليم، ليُرينا من خلال تصوير إحدى المدارس النظام التعليمي الأشبه بالنظام العسكري، والذي يزرع أفكار البعث في أدمغة التلاميذ، حيث يظهرون في بعض المشاهد، بطريقة كوميدية سوداء، وهم يرددون شعارات البعث ويغنّون نشيده ويتلقون الدروس التي تتحدث عن إنجازاته. وقد تم تصوير الفيلم في قرية النائب ذياب الماشي، الذي  شغل منصب عضوٍ في مجلس الشعب لنحو 55 عاماً متواصلاً، ويظهر الماشي في بعض المشاهد بشكلٍ كريكاتوري ليتحدث عن إنجازات البعث ويمدح قياداته ويمجدها، فيما يظهر مدير المدرسة، وهو أحد أقرباء الماشي، ليشيد بالدور الريادي لحزب البعث في دعم العملية التعليمية وتربية الأطفال على حب الوطن، بشكلٍ يثير السخرية والحزن في آن معاً.

بدت معظم لقطات الفيلم طويلة وصامتة تعكس حالة الجمود والرتابة والروتين الممل الذي تعيشه البلدة عموماً والمدرسة خصوصاً. ونتيجة لصوته النقدي المرتفع، مُنع الفيلم من العرض في سورية، ثم لاحقته الرقابة السورية إلى مهرجان قرطاج في تونس لتُخرجه من المسابقة الرسمية للمهرجان، فيما تعرض أميرلاي للملاحقة الأمنية واستدعى للتحقيق أكثر من مرة ومُنع من السفر.

الجولان المحتل حضر في فيلم طبق السردين  من خلال تداعيات ذاكرة أميرلاي التي أعادته إلى لقائه مع خالته وهو في عمر السادسة، ليتذكر طبق السردين الذي كانت تفوح رائحته في منزل الخالة، التي حُرمت عائلتها من تناول السمك الطازج الذي كان يأتيها من يافا قبل احتلالها من قبل إسرائيل. تتجول كاميرا الفيلم في شوارع مدينة القنيطرة لتُظهر الكثير من مشاهد الدمار المؤلمة التي خلفها الاحتلال الإسرائيلي، فيما يظهر مبنى سينما الأندلس، المبنى الوحيد الذي نجا من الدمار. ولكي يبتعد الفيلم عن الحالة التقريرية استطاع  أميرلاي بإبداعه السينمائي أن يوجد خطاً روائياً يدعمه خيالٌ بصري، تَظهر فيه شخصية طفلٍ يحاكي طفولة أميرلاي بشكل حكائي، لتسير مشاهد الفيلم في خطين، تسجيلي وروائي حكائي.

سينما تخطت حدود سوريا

لم يكتف أميرلاي بتسليط الضوء على القضايا الإنسانية والاجتماعية في سوريا فقط بل انطلق إلى خارجها ليصنع في مصر عام 1983 فيلم  الحب الموؤد الذي يُعتبر من أجرأ الأفلام الاجتماعية العربية التي تجاوزت الخطوط الحمراء. ويتناول الفيلم واقع المرأة ومعاناتها في ظل مجتمع محافظٍ تحكمه العادات والتقاليد الدينية والمجتمعية والسلطة الذكورية، ويتطرق بجرأة نادرة لفكرة الحب والجنس خارج نطاق الزواج، ويُرينا انعدام الثقافة الجنسية في المجتمع، كما يطرح مدى المعاناة النفسية والجسدية التي يعيشها الشباب، من كلا الجنسين، في ظل حرمانه من الحب والعلاقات الجسدية، وهو ما يضطره لكبح غرائزه وشهواته الجنسية أو اللجوء إلى الدين ليساعده على ضبطها، إذ لا يمكنه إشباعها خارج نطاق الزواج، الذي لا يستطيع البعض إليه سبيلاً في ظل ارتفاع تكاليف المهر. كما يضيء الفيلم على الواقع المؤلم الذي تعيشه المرأة المتزوجة، التي تتلقى شتى أنواع العنف والاضطهاد من قبل زوجها، ليكشف لنا كيف تعيش قيوداً مؤلمة حتى ضمن العلاقة الجنسية مع الزوج الذي، في كثير من الأحيان، يمارس تلك العلاقة معها كنوع من الواجب دون أي إحساس أو شعور عاطفي تجاهها.  

وبعد عشر سنوات على وفاة صديقه الباحث الفرنسي ميشال سورا أخرج أميرلاي عام 1996 فيلم في يوم من أيام العنف العادي مات صديقي ميشيل سورا ، ويروي من خلاله اختفاء سورا الذي اختُطف في بيروت عام 1985 من قبل إحدى المنظمات الجهادية الإسلامية، ثم قُتل على يد خاطفيه بعد عام من اختطافه. تنتقل الكاميرا في الفيلم انتقالات درامية  وشاعرية ووجدانية، حيث تظهر بعض المشاهد ضمن أجواء معتمة وخانقة، تتضمن بعض الديكورات الفنية المُعبِّرة، وتصاحبها موسيقى تصويرية خفيفة، فيما تقترب بعض المشاهد الأخرى من أجواء العرض المسرحي. الشخصيات التي تتحدث عن سورا، لا تتحدث بطريقةٍ تقريريةٍ وإنما بأداءٍ أقرب إلى التمثيلي، يدعمه خيالٌ بصري غني تقدمه الصور المتنوعة واللوحات التشكيلية والأعمال النحتية، الحافلة بالكثير من التفاصيل والأفكار. ومن خلال  ما جرى مع شخصية سورا أظهر أميرلاي صوراً تعيدنا بقسوتها ومأساويتها إلى ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية، التي أنتجت الكثير من الفصائل المسلحة وعصابات القتل التي اغتالت الكثير من الشخصيات الفكرية والتنويرية والثقافية.  

ومن خلال فيلم مصائب قوم يتحدث أميرلاي عن الظروف المؤلمة التي فرضتها الحرب الأهلية اللبنانية على الناس، والتي جعلت أعمال القتل والعنف عملاً يومياً اعتيادياً. كما يسلط الفيلم الضوء على تجار الحرب والأزمات، الذين لم تتأثر تجارتهم ونشاطهم الاقتصادي رغم حجم الموت والدمار، وذلك من خلال شخصية الحاج علي التي تتكيف مع جميع الظروف وتبحث عما يحتاجه السوق في الحرب لتتاجر به وتزيد من حجم أموالها، ومن هنا نكتشف أن مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد.

سينما البورتريه

حاول أميرلاي من خلال مشروع سينما البورتريه تسليط الضوء على بعض الشخصيات الثقافية والسياسية البارزة، ليبرز مدى أهميتها والدور الريادي الذي لعبته في حياتها. ومن خلالها كان يطرح الكثير من القضايا والمفاهيم السياسية والاجتماعية والثقافية والإنسانية والفكرية ليتم مناقشتها بشكل واسع مع محاولة إسقاطها على الواقع.

شَكَّل فيلم فاتح المُدرِّس ، الذي أخرجه أميرلاي بمساعدة المخرجين أسامة محمد ومحمد ملص، مرجعاً ثرياً وهاماً عن شخصية المدرِّس الاستثنائية، أحد أبرز مؤسسي الحداثة التشكيلية في سوريا، والذي ترك بصمة فريدة في تاريخها الفني والثقافي. ويوثِّق الفيلم، بعدسةٍ ذكية وبلغة سينمائية شاعرية، أدق تفاصيل مرسم المُدرِّس، بفوضاه الجميلة وفضاءاته الرحبة، ويُظهر لنا اللوحات والألوان الموزعة في كل مكانٍ بشكلٍ مسرحي، ليُضيء على أهم تفاصيل الحياة اليومية للمُدرِّس، فيما تُبرز بعض اللقطات وبطريقة حكائية عملية الرسم التي يقوم بها، والتي نتعرف من خلالها على تفاصيل وفضاءات غنية في عالم الفن التشكيلي واللوني. ويتحدث المدرس من خلال الفيلم عن طفولته وشبابه، وعن بعض تجارب الفن التشكيلي في العالم، وعن فلسفة الضوء والألوان وعلاقته معها، إلى جانب الملامح التي شكلت تطور الفن والثقافة في سوريا في منتصف القرن الماضي، لنتعرف من خلال ذلك وعن قرب، على شخصية المُدرِّس المتفردة والغنية، التي تَظهر بحالات مختلفة: مرة كفنانٍ مبدع ، ومرة كأستاذ ومنظِّر للفن، وأخرى كإنسان عادي وبسيط.

وفي فيلم “وهناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء” الذي صوره أميرلاي مع المسرحي الكبير سعدالله ونوس، يظهر الأخير وهو جالس على سريره في المستشفى يقاوم مرض السرطان الذي أنهك جسده، متحدثاً عن الكثير من الآراء والأفكار السياسية التي تبناها في حياته، وعن الخيبات والانكسارات التي تعرض لها بوصفه مثقفاً عربياً، وذلك نتيجة فشل السياسات العربية وما تعرض له الواقع العربي من هزائم متلاحقة وتحديداً هزيمة حزيران 1967. استطاع أميرالاي من خلال الفيلم أن يربط ما بين مرض ونوس وتداعي المثقف العربي وكأنه بذلك يُرينا واقع الثقافة العربية المحتضرة. وبالتزامن مع حديث ونوس عن الهزائم العربية يعرض الفيلم بعض المشاهد الأرشيفية لصور النكبات العربية وللخطابات الفارغة لبعض الزعماء السياسيين، بالتوازي مع لقطاتٍ أخرى لبعض المرضى داخل المستشفى وكأنه بذلك يحاكي مرض الأمة العربية.  ومن خلال اللقطات المتكررة لقطرات السيروم التي يتغذى عليها ونوس المحتضر، يحاول أميرلاي أن يقول لنا إن البلاد كلها بحاجةٍ لسيرومات تتغذى عليها.

أميرلاي الذي حاول تسليط الضوء على حكايات الأبطال المنسيين لينقذها من النسيان، عرَّفنا من خلال فيلم نور وظلال  على شخصية نزيه الشهبندر، الذي لا يعرفه سوى القليل من السوريين، وهو أبرز صناع السينما في سوريا، بدايات القرن الماضي، ومخترع أول آلة تسجيل صوتية، قَدمت خدمة كبيرة لصناع السينما في سوريا ولبنان ومصر، إذ كانوا آنذاك يضطرون للذهاب الى أوروبا لكي يسجلوا أصوات الفيلم السينمائي. يضيء الفيلم من خلال شخصية الشهبندر على الوجه الثقافي الجميل لسوريا في بدايات ومنتصف القرن الماضي، وعلى بدايات صناعة السينما ومراحل ازدهارها، ويتحدث عن بعض صالات السينما كسينما الهبرا التي بُنيت عام 1917، كما يُرينا بعض مواقع التصوير داخل الاستيديوهات التي صُورت فيها بعض أفلام تلك المرحلة.  صَور الفيلم، وبحرفية سينمائية عالية تقترب من تقنية السينما الروائية، أدق تفاصيل حياة الشهبندر داخل منزله، الذي يشبه شريطاَ سينمائياَ مليئاً بالحكايا والذكريات، ليُرينا من خلاله علاقة الشهبندر مع آلاته ومعداته وخرداواته السينمائية التي يعيش معها وحيداً ويتعامل معها كصديقة مقربة، ويخشى عليها، وهو الذي أصبح كهلاً، أن تلقى حتفها بعد رحيله. وهكذا استطاع الفيلم أن ينصف شخصية هامة ومحورية في تاريخ سورية كانت مهددة بالنسيان لتموت وحيدة في بيتها، وقد كتب في شارة نهاية الفيلم : “إلى نزيه شهبندر وأمثاله ممن نذروا حياتهم لكي تجد السينما مكانا لها في بلدهم .. نهدي هذا الفيلم” .

ولم تقتصر سينما البورتريه عند أميرلاي على الشخصيات السورية فقط بل تناول من خلال  فيلم  الرجل ذو النعل الذهبي شخصية رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، الرجل الفقير الذي أصبح ثرياً ينتعل حذاء ذهبياً لا يعلق عليه الغبار. ويدافع الحريري من خلال الفيلم عن مكانته السياسية والاجتماعية ويتحدث عن دوره في دعم وتطوير لبنان في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، كما يظهر في الوقت ذاته كرجل عادي وبسيط يعيش حياته البسيطة البعيدة عن الأضواء. وقد أدخل أميرلاي نفسه كشخصية في الفيلم مقابل الحريري، لتتحدث بلسان المثقف الذي يحاور رجل السلطة، وليبرز العلاقة الجدلية والإشكالية بين تلك الشخصيتين، ونظرة كل منهما إلى الحياة عموماً وإلى الوطن خصوصاً.

ومن خلال فيلم ” إلى جناب السيدة رئيسة الوزراء بنظير بوتو”  حاول أميرلاي تسليط الضوء على حياة  بوتو التي كانت جزءاً بارزاً وهاماً من عالم السياسية في باكستان، ولعبت دوراً مؤثراً في تاريخ بلادها، لكن ولصعوبة الوصول إليها، جعل أميرلاي الفيلم توثيقاً لمحاولاته المتكررة للقاء بها دون جدوى.

توفي أميرلاي في الخامس من شباط/ فبراير  عام 2011 إثر جلطة دماغية، عن عمرٍ ناهز السابعة والستين عاماً، تاركاً لنا إرثاً سينمائياً ثرياً تضمَّن نحو عشرين فيلماً تسجيلياً، هذا إلى جانب مساهماته الكبيرة في إغناء الثقافة السورية حيث ساهم في تأسيس اتحاد نوادي السينما عام 1982، بهدف نشر ثقافة السينما بين الناس في عموم المحافظات السورية وتطوير ذائقتهم الفنية، كما استطاع جذب أجيالٍ عديدة من الشباب نحو العمل السينمائي ودعم مشاريعهم فنياً، وكان شريكاً داعماً للتجارب السينمائية لبعض أصدقائه المخرجين كمحمد ملص وأسامة محمد، اللذين استفادا من أفكاره ورؤيته السينمائية والإخراجية التي تركت بصمة مؤثرة في تاريخ السينما السورية وشكلت مدرسة متفردة ومرجعاً هاماً لكثيرٍ من صناع السينما في سوريا والوطن العربي، وقد حققت أفلامه شهرة عالمية وعُرضت في أهم المهرجانات السينمائية، كمهرجان أمستردام الدولي و أدفا في هولندا ، مهرجان أفلام في مدينة مارسيليا الفرنسية، مهرجان الفيلم العربي في برلين ، ومهرجان الدوحة و الاسماعيلية وغيرها، فيما حازت بعض أفلامه على جوائز هامة، من بينها جائزة التحكيم الخاصة من مهرجان تولون الفرنسي، وجائزة مهرجان برلين السينمائي عام 1976، وذلك عن فيلمه “الحياة اليومية في قرية سورية”، فيما حصل فيلم “طوفان في بلاد البعث” على جائزة أفضل فيلم قصير في بينالي السينما العربية الذي أقامه معهد العالم العربي في باريس عام 2006.  

 ونذكر هنا أبرز أفلامه وفق تسلسلها الزمني: فيلم “محاولة عن سد الفرات” عام 1970، “الحياة اليومية في قرية سورية” 1972،  “الدجاج” 1977، “عن ثورة” 1978، “مصائب قوم” 1981، “رائحة الجنة” 1982، “الحب الموؤد” 1983، ” فيديو على الرمال” 1984 ، “العدو الحميم” 1986، “سيدة شيبام” 1988، ” شرقي عدن”  1988، “إلى جناب السيدة رئيسة الوزراء بينظير بوتو” 1990، ” نور وظلال” 1994، ” فاتح المدرس” 1995، ” في يوم من أيام العنف العادي مات صديقي ميشيل سورا” 1996 ، ” وهنالك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء” 1997. “طبق السردين” 1997 ، “الرجل ذو النعل الذهبي” 1999، و”طوفان في بلاد البعث” 2003.  

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”