بواسطة عمر الشيخ | مارس 7, 2025 | العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
تطفو اعلى سطح المشهد السوري ثنائية متضادة: واقع معيشي متردٍّ، والتكيف مع سلطة جديدة. فالنظام السابق، الذي طالما صاغ سردية تبسيطية عن المعارضة بمختلف أطيافها، تستخدمها اليوم موالاته في تفكيك سلوكيات الإدارة الجديدة، متجاهلين طبيعة البلاد كدولة متآكلة، لا سيما على المستويين السياسي والاقتصادي. هذه المخاوف ليست وليدة اللحظة، بل تعكس تراكمات من التفكك الاجتماعي الذي عزّزه النظام السابق عبر التفرقة المناطقية، وأدى إلى ترسيخ الخوف من السياسة والسلطة، حتى بين من لم يكونوا جزءاً من منظومته.
لكن، هل كان السوريون يعرفون بعضهم البعض حقاً؟ ربّما على المستوى الظاهري، من خلال اللهجات والملامح الدينية، لكن هل امتلكوا وعياً كافياً بمستقبل البلاد بعد سقوط الدولة الأمنية؟ منذ اندلاع الثورة السورية وحتى سقوط النظام، ظل الهدف الأسمى هو الإطاحة بالأسد، دون إدراك أن جزءاً كبيراً من السوريين-قد يصل إلى بضعة ملايين لم يكونوا يرغبون في سقوطه، إما خوفاً من الفوضى، أو بسبب استفادتهم منه أمنياً واقتصادياً. في المقابل، كان هناك كثيرون لم يدركوا تماماً تبعات انتصار الثورة، ليس فقط من حيث نشوة التغيير، بل من حيث ضرورة البحث عن بدائل واضحة وصياغة رؤية متماسكة لشكل الدولة القادمة، وهو نقاش لم يُفتح بجدية خلال سنوات الثورة. فهل يحلّه النضال السياسي السلمي في المرحلة القادمة؟
بين السلطة الجديدة وأزمة الثقة
اليوم، بعد سقوط النظام، يواجه السوريون معضلة إعادة بناء الثقة فالحكّام الجدد يمتلكون تصورهم السياسي لإدارة البلاد، بينما الشارع السوري يتملّكه القلق، محاصراً بأسئلة واحتجاجات حول هذا التصور. وبدل أن يكون الحوار الوطني عملية ممتدة، تستكشف المخاوف والمجاهل، اقتصر على لقاءات محدودة لم تشمل جميع المناطق، ولم يستمر سوى يومين انتهيا ببيان فضفاض، لم يحدد آليات التنفيذ، بل أجّل البتّ في قضايا لا تقلّ أهمية عن العدالة الانتقالية ووحدة سورية، مثل قوانين الأحزاب والعمل الثقافي (راجع مقالتي “قراءة في بيان الحوار الوطني السوري” المنشورة في في صالون سوريا، 28 فبراير 2025).
بعد مرور ثلاثة أشهر على سقوط النظام، تزداد أزمة الثقة وضوحاً، حيث يقف السوريون بين جوع خانق وأمل مرتجف، بين الحاجة إلى الخبز والحاجة إلى المعنى. فالنظام السابق لم يكن مجرد كيان سياسي، بل ممارسة ممتدة من القهر، حيث تحوّلت السياسة إلى مزيج من الخوف والفساد والانتهازية. واليوم، في ظل انهيار الاقتصاد، تترسخ قناعة شعبية بأن خطابات التغيير وحدها لا تكفي، وأن الحكم الجديد سيُختبر بقدرته على استعادة السياسة بوصفها أداة لإنقاذ الوطن، لا مجرد إعادة إنتاج للسلطة.
ما الذي يجب أن يحدث؟
الخطوات الأولى يجب أن تبدأ بكسر احتكار القرار وإعادة تعريف السياسة كأداة لإعادة توزيع الموارد، لا كوسيلة لتثبيت النفوذ. لا يمكن لأي سلطة جديدة أن تؤسس شرعيتها دون مواجهة أزمة الثقة بشفافية، عبر سياسات اقتصادية تُنصف الفئات الأكثر تضرراً، وقنوات تواصل تعيد للناس الإحساس بأن أصواتهم مسموعة، وخطوات ملموسة تُخرج السياسة من دوامة الشعارات إلى ميدان الفعل.
لكن وسط هذا المشهد، يفاقم غياب إعلام وطني مستقل الأزمة، إذ يترك الباب مفتوحاً أمام سيل من الأخبار المتضاربة، ما يؤدي إلى خلط الحقائق وضياع القضايا المحقة وسط انتشار الشائعات. هذا الفراغ الإعلامي يسمح للقوى الموالية للأسد حتى اللحظة بمواصلة نشر الخوف والتضليل، غير آبهة بمستقبل البلاد، بل ساعية إلى تفتيت المجتمع وتعميق الانقسامات عبر الدعاية الرقمية. في ظل هذا الواقع، لا يمكن إعادة بناء المشهد السياسي دون إعلام مسؤول يواكب اللحظة بصدق، ليكون جسراً بين الشارع والإدارة، بدل أن يُترك المجال لمنصات الفوضى التي تخلط الأوراق وتبدد إمكانات التغيير.
الإرث الثقيل للنظام
لم يكن النظام السوري مجرد سلطة ديكتاتورية، بل شبكة اجتماعية وأمنية زرعت في المجتمع ثقافة سياسية قائمة على الخوف والاصطفاف الأعمى. ليس غريباً إذن أن نجد اليوم من كانوا جزءاً منه –من العسكريين والموظفين والمخبرين يُعيدون تموضعهم، متباكين على انهياره وكأنهم ضحاياه. هؤلاء الذين استفادوا من سلطته ليقتلوا معنوياً ومجازياً، بلا حساب، وحين لم يُعاد إنتاجهم في النظام الجديد، قرروا لعب دور الثوريين، ولم يكن هذا انتقالاً سياسياً، بل محاولة لإعادة إنتاج أنفسهم.
في قلب هذا الخراب، يظهر إرث حافظ الأسد، الذي زرع في الأذهان أن الطوائف لا أمان لها دون سلطة قمعية تحميها، فبقي هذا الوهم مترسخاً حتى بعد سقوط النظام. فبين من يرى أن زوال الأسد هو نهاية الوطن، ومن يظن أن أي سلطة جديدة هي استمرار للاستبداد، تضيع إمكانية التفكير بمسار مختلف، حيث لا تعني السياسة مجرد ولاءات، بل إعادة بناء المعنى نفسه بعد عقود من التزييف.
هل يمكن تجاوز هذه الأزمة؟
إن الدول الضعيفة تنتج شعوباً هشّة سياسياً، لكن لا يوجد شعب عقلاني بالفطرة، ولا عاطفي بالفطرة. هناك ظروف تخلق ثقافة سياسية معينة، والمجتمع السوري بحاجة اليوم إلى تجربة سياسية حقيقية، وإعلام مسؤول، وتعليم جيد، واقتصاد مستقل، ونخب غير شعبوية. لا تتغير الشعوب بالكلام، بل بالممارسة والتجارب. واليوم، بعد سقوط النظام، فإن الرهان ليس على مجرد تغيير الحكام، بل على تغيير مفهوم السلطة نفسها، بحيث تصبح السياسة فعلاً جماعياً، لا أداةً لاحتكار القرار، ولا منصةً لتصفية الحسابات.
يهزم الإنسان حين يسلّم بسرديات الأنظمة الساقطة، دون أن يختبر حريته بنفسه أو يعبّر عن ذاته بصدق ومسؤولية. وحده الصدق المسالم والحضاري يصنع المعنى الحقيقي للحرية. سورية اليوم ليست في صراع على بناء الدولة، بل على من يملك الحق في الحديث باسمها. وحتى يُحسم هذا الجدل، سيبقى الوطن معلقاً بين خطاب الماضي وأوهام المستقبل، في انتظار من يعيد بناء الثقة التي فُقدت بين الجميع.
بواسطة طارق علي | مارس 3, 2025 | News, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
عندما أعلن الرئيس السوري، أحمد الشرع، حاجة بلاده لثلاث سنوات لكتابة الدستور الجديد، أثيرت عاصفة من التساؤلات الشعبية والقانونية حول المدد الزمنية المطلوبة فعلياً لكتابة دستور، خاصة أن الشرع عطّل العمل بدستوري عام 1950 و2012. يعتقد البعض أن كتابة دستور ناجح لسوريا هو عملية تتطلب الكثير من الوقت والجهد خاصةً إذا تم من خلال عملية شاملة تشارك فيها جميع فئات الشعب السوري. ويُثير البعض الآخر مخاوف حول الانقسامات المجتمعية العميقة في البلد ما قد يجعل عملية التوافق حول الدستور الجديد أكثر صعوبة. هذا المقال يُسلط الضوء على آراء بعض الخبراء حول صياغة دستور توافقي جديد في سوريا.
تجارب دستورية
إن كتابة الدستور هي عملية توافقية تنظم علاقة الأفراد ببعضهم وبالمجتمع وبالدولة وهي مرحلة ضرورية بعد قيام أي ثورة، أو إنهاء نزاع، أو صراع، أو حرب أهلية مسلحة.
وفي هذا الصدد يستذكر الخبير والاستشاري القانوني معتز الفاضل أنّ تونس استغرقت ثلاث سنوات ما بين 2011 و2014 لكتابة دستورها والمصادقة عليه إثر سقوط بن علي وانتخاب لجنة دستورية، وفي مصر جرى نفس الأمر باستصدار تعديل عسكري على الدستور مع سقوط حسني مبارك ريثما جرى اعتماد آخر في عام 2014، أما ليبيا فتدفع حتى اليوم ثمن عدم وجود دستور منذ سقوط القذافي عام 2011 والتوجه لدستور بديل مؤقت أوقد فتيل الحرب في البلاد رغم محاولات وضع دستور جديد وشامل عام 2017 لكنّ ذلك الدستور لم يكتب له النور نتيجة استمرار الصراع المسلح.
لن نبدأ من الصفر
يضيف الفاضل في معرض كلامه لـ “صالون سوريا”: ” ثمّة دول احتاجت الكثير من الوقت لصياغة الدستور لتعقيد ملفات الانتقال السلطوي كجنوب إفريقيا حيث كان الانتقال الديمقراطي من الفصل العنصري الى الحرية الشاملة عملية طويلة ومعقدة، واستغرقت صياغة الدستور عدة سنوات من المفاوضات والتوافق. لذلك يبدو من الطبيعي أن تأخذ سوريا فترتها الزمنية الملائمة، رغم أني أرى مع الكثير من الزملاء القانونيين والفقهيين أن ثلاث سنوات رقم مبالغ به جداً، فنحن لدينا دستور جامع لعام 1950، إذاً، لن نبدأ من الصفر، فهناك فصول جاهزة بأكملها، ووفق تقديراتي يمكننا خلال نصف عام إلى عام أن نضع على الأقل مسودة دستور”.
وبحسب الخبير فإن اجتماعات جنيف ما بعد القرار 2254 وعام 2015 يمكن البناء عليها لأن جزءاً كبيراً منها كان مرتبطاً بمناقشة آلية وضع دستور جديد للبلاد. وأضاف الفاضل “لذا لا زلت لا أفهم الغرض من المماطلة والبلد تمرّ في أحلك أوقاتها وأكثرها حاجة لعقد اجتماعي ناظم ودستور جديد!”
“دستور بعين واحدة”
يرى الباحث في الشؤون الدبلوماسية أسعد عرفة أنّه لا يجب البناء على الدستور من الصفر، لأنّ هناك فعلياً الكثير مما أنجز منه خلال فترات متباعدة، ولكن كلّ ما نرجوه ألّا يكون الهدف هو وضع دستور جديد بالكامل يتكامل مع ايديولوجية معينة تعنى بها قيادة البلد الجديدة.
ويضيف لـ “صالون سوريا”: “نخشى ألّا يقتضي ذلك الدستور الجديد ببناء دولة مواطنة حقيقية أو فصل للسلطات، وإنما تقديم دستور شرعوي يراعي الحالة التي خرجت من رحمها الفصائل التي حررت سوريا، وهذا مبرر رفض المرحلة السابقة من النقاشات المدنية التي تمّت في جنيف وغيره من دساتير سابقة معمول بها، وبالتالي ترغب الفصائل في وضع نفسها في خانة واحدة”.
وحول تصريحات الشرع حول دستور جامع يُجيب: “في هذه الحالة يجب الاحتكام لمناقشة ما تم إقراره مسبقاً مما يوفر الكثير من الوقت والجهد في حال توافرت النوايا الطيبة بمعزل عن ضغوط داخلية أو خارجية”.
موجبات الوقت الطويل
يؤكد الدكتور والأكاديمي القانوني هادي المنفي خلال حديثه مع “صالون سوريا” أنّ الأسد ترك خلفه “شبحاً” لدولة مدمرة بكل المقاييس المؤسساتية والبنيوية ما شكّل فراغاً كبيراً وإرثاً وتركة ثقيلةً للغاية لمن سيخلفه في الحكم، ما يعني أنّ الحاجة لبناء الدولة ومؤسساتها من جديد سيتطلب وقتاً وجهداً ومشروعاً كبيراً، والدستور السوري جزء منه.
بدورها تبيّن المحامية لمياء قباقيبي أنّ الدستور يجب أن يخضع لاتفاق شامل وأن يعرض كما العرف على الاستفتاء أو أن يكون ممثلا ًبلجنة موثوقة تمثل كافة أطياف الشعب السوري الذين لا ما يزالون على غير وفاق حول تمثيلهم حتى الآن- وبالتالي هناك أيضاً قضية سبعة ملايين لاجئ خارج الحدود في دول المنفى وهؤلاء يشكلون عائقاً كبيراً أمام أي استحقاق كبير على شاكلة الاستفتاء أو الانتخابات المقررة بعد أربعة سنين.
وتتابع: “في حال تمكنت الأمم المتحدة من لعب دور إيجابي فقد لا نستغرق كل هذه المدة لكتابة دستورنا، وتدخل الأمم المتحدة إذا قوبل باتفاق داخلي يسعى لرأب الصدع فإنّه سيثمر نتائج سريعة كما حدث في البوسنة والهرسك أواسط التسعينات خلال اتفاقية دايتون”.
دستور عام 1950
يرى كثير من الأخصائيين القانونيين أنّ الحل الأمثل كان الاعتماد على دستور عام 1950 بشكل مؤقت لتجنيب البلد الفراغ الدستوري، وهو أول دستور جرى إقراره بعد خروج الانتداب الفرنسي وقد صاغه كبار رجال القانون في الدولة ومن بينهم الرئيس ناظم القدسي. وكان ذلك أول ما يميزه، أما ثاني ميزاته فهي شكله المتقدم في نمط وطريقة إدارة الدولة والبلاد وتنظيمهم مع مبادئ الحكم.
وقد كان الدستور الوحيد الخالص الذي يؤمن الرفاه للسوريين والسوريات والتعددية، ويقيم نظاماً اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً يراعي العدالة الاجتماعية في أبهى صورها، إلى أن جاءت الدساتير اللاحقة لتنسف الحياة السياسية والتعددية وتفضي إلى حكم شمولي ذي قطب واحد يدفع اليوم ثمنه السوريون والسوريات.
بواسطة أسامة إسبر | مارس 1, 2025 | News, العربية, بالعربية, تقارير, غير مصنف, مقالات
أعرف جرمانا جيداً، كنت أحب الذهاب إليها وقضيتُ فيها أوقاتاً ممتعة في منازل أصدقاء ما يزالون يسكنون هناك، وفي القلب. كانت أحياناً سهرات صاخبة تتخللها اختلافات في الرأي ونرفزة وصياح ومقاطعة كعادة السوريين في الحوارات السياسية في إطار اختلافٍ في الآراء لا يفسد للود قضية. وكنا نعود في أوقات متأخرة من الليل متفقين على اللقاء في بيت آخر لنكمل الحوار الذي لم يُحسم، أو لنستمع إلى قصائد جديدة لشاعر صديق. كانت جلسات المنازل أكثر راحة لتبادل الآراء في الأدب والسياسة بعيداً عن آذان مخبري العهد المتبخّر، الذين مُنحوا سلطة مطلقة غير قانونية على رقاب الناس في المقاهي والمطاعم.
حين قرأتُ في الإعلام التصريحات الأخيرة لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، المتهم بارتكاب جرائم حرب، والذي يعدّ نفسه رئيسَ بعثة تبشيرية للتقدّم الغربي في عالم يتسم بالإرهاب والتخلف، كما يروّج في خطاباته، اختلط لديّ الشخصي بالموضوعي، وثار غضبي من هذه التصريحات الملغومة التي تهدف إلى إذكاء نار الفتنة.
ثمة من يصطاد في الماء العكر، على الإعلام الاجتماعي، مستغلاً هذه التصريحات للتشكيك بوطنية الآخرين، ولا شك أن اصطياداً كهذا يعكس ذهنية طائفية منحطة تهدف إلى تخريب النسيج الجوهري للخارطة السورية الذي يشكل فيه ”بنو معروف“ أحد أجزاء القلب السوري. والجدير بالذكر أن سوريي السويداء خطّوا ملحمة فريدة في النضال المدني اللاعنفي ضد نظام بشار الأسد يثير الإعجاب، ويُضْرب به المثل، وتحمّلوا الحصار وشظف العيش، كي يوصلوا رسالتهم للسوريين كافة بأنه لا خيار إلا في حياة كريمة مشتركة مع السوريين كلهم في إطار نظام ديمقراطي حقيقي، بعيداً عن المصطلحات التي تسمم عالمنا.
أن يصرح رئيس وزراء من طينة نتنياهو ووزير دفاعه كاتس أنهما أصدرا الأوامر للجيش الإسرائيلي كي يستعدّ للدفاع عن جرمانا في العاصمة دمشق لهي مهزلة القرن الواحد والعشرين، وأمر يستدعي الضحك والسخرية، إذ كيف لمن تلطخت يداه بدم الأطفال والنساء والشيوخ وهادم البيوت فوق رؤوس سكانها، وقاتل ٤٥ ألف فلسطيني، هذا من دون أن نحصي اللبنانيين والسوريين الذين قُتلوا في الغارات داخل سوريا، كيف يمتلك هذه الجرأة- المسخرة، ويعلن جاهزيته للدفاع عن جرمانا. ليست هذه إلا بلاغة كاذبة وجوفاء ذلك أن نتيناهو ومن لفّ لفه لا تهمه سلامة أحد من السوريين، وهو الذي تفوح منه رائحة العنصرية الصهيونية، كما يعرف ذلك الموحدون الدروز قبل غيرهم. إن ما يهمّه بالدرجة الأولى هو الأرض السورية والماء السوري والثروات السورية وربما في النهاية اليد العاملة السورية، في ظل تفكّكٍ وركوعٍ واقتتالٍ بين السوريين. لكن هذا التصريح يحمل في طياته ما يحمل، ذلك أنه رسالة صريحة للقوى الدينية والسياسية في سوريا وللسوريين كلهم بأن إسرائيل، بعد ٢٠١١، وفي أعقاب حرب التدمير في غزة وجنوب لبنان، صارت ”سلطان“ الأراضي السورية التي تقع في الجنوب، وهذا يعني أن الجغرافية السورية صارت مقسمة في ضوء الأوضاع القائمة بين أراض واقعة في شمال سوريا تحت سيطرة ”السلطان“ التركي حيث يحشد الجيش التركي قواته، و“السلطان“ اليهودي الذي انتهك الاتفاقيات والترتيبات الأمنية في الجنوب. ذلك أن الأتراك، الذين يدعمون التحول السياسي القائم في سوريا، المتمثل في منح كرسي الحكم لهيئة تحرير الشام والتنظيمات المنضوية في عملية ردع العنوان، في إطار الصفقة السياسية الكبرى التي ما تزال تفاصيلها طيّ الكتمان، يتحركون من جهة فيما الإسرئيليون يتحركون من جهة أخرى لإحكام السيطرة على الجغرافية السورية إلا أن تصريح نتنياهو الماكر يلعب على وتر التوازنات الطائفية، موهماً من يريد أن يفهم خطأ بأن مكوناً ما هو تحت حمايته، كما لو أن أبناء هذا المكون يقبلون بأن يحميهم مجرم حرب يطلق التصريحات من أجل توجيه المزيد من الضربات للنسيج السوري المثقل بالجراح.
بدأت القصة في عهد رأس النظام الفار الذي أبدى جبناً فاضحاً في وجه انتهاكات إسرائيل شبه اليومية للمجال الجوي السوري، وفي وجه الإنزال العسكري المهين في قلب مصياف، بينما وجّه قواته وبراميله وجنرالاته، الذين كانوا يطيعونه طاعة عمياء، للبطش منذ البداية بمعارضي حكمه، الأمر الذي تطوّر إلى حرب حقيقية في الداخل على أنقاض هوامش المدن حيث اندلعت الانتفاضة المدنية قبل أن يسطو عليها ويركب موجتها الأصوليون.
اخترق الطيران الحربي الإسرائيلي المجال الجوي السوري واللبناني وعربد في السماء السورية قاصفاً على هواه، وكانت عملية التدمير الكبرى في أعقاب فرار بشار الأسد إلى موسكو. كانت البداية غارات متلاحقة طالت المدن السورية كلها وسط تواطؤ روسي وعجز إيراني ولامبالاة عربية بخطورة هذه الرسالة التي قالت للعرب بالبنط العريض إن اختراق المجال الجوي السوري يعني أن أجواءكم كلها تحت مؤخراتنا. ثم أُرسلت الرسالة من جديد في عهد القوى التي استولت على السلطة في دمشق وتم تدمير معدات الجيش السوري كلها، وانتُهكت الأرض السورية من جديد وسط صمت لم تعكر صفوه كلمة استنكار أو إدانة واحدة.
والآن تأتي الرسالة مرة أخرى بشكل استفزازي، كما لو أن جرمانا مستوطنة إسرائيلية، لكن الرسالة المضادة تأتي من السويداء، ومن سكان جرمانا أنفسهم، الرافضين لحماية مجرم حرب مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية، وهذا هو الموقف الوطني النبيل لبني معروف على مدار التاريخ السوري.
إن الردّ السوريّ الحقيقي الوحيد الفعال على هذه التصريحات المريبة، وللتخلص من بلاغة لا تجد في قاموسها إلا كلمة فلول لشيطنة الآخرين وتسريحهم من وظائفهم، هو بناء دولة ديمقراطية حقيقية قوية تمثل سوريا كلها خارج الاستئثار بالسلطة والتوجهات الديكتاتورية العسكرية والفصائلية الأحادية التي دفع ثمنها السوريون كلهم، بطريقة أو أخرى، في عهد الأسد من دمهم ورفاههم.
بواسطة عمر الشيخ | فبراير 28, 2025 | العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
رغم ما حمله من تأكيد على وحدة البلاد وأهمية تحقيق العدالة والمواطنة، فإن البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني السوري الذي عُقد يومي (24 و25 من الشهر الفائت) في قصر الشعب بدمشق، قد افتقر إلى أحد العناصر الحاسمة في أي عملية سياسية ناجحة: الجدول الزمني وآليات التنفيذ. لم يحدد البيان مساراً زمنياً واضحاً للانتقال السياسي، ما يفتح المجال أمام تأجيل الإصلاحات أو استغلال غموضها لتفريغها من مضمونها. غياب هذه الآليات قد يعرقل تطبيق القرارات، إذ إن أي مشروع وطني لا يمكن أن يتحقق بمجرد التوافق على العناوين العريضة، بل يحتاج إلى آليات عمل تضمن التزام الأطراف المعنية بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، خصوصاً فيما يتعلق بتوحيد الجهود العسكرية والأمنية، وهي مسألة حيوية لاستقرار البلاد في المرحلة القادمة.
في المقابل، لا يمكن إنكار بعض الجوانب الإيجابية التي وردت في البيان، وعلى رأسها تأكيده على رفض أي محاولة لتقسيم سورية، ما يعكس إرادة واضحة للحفاظ على سلامة أراضيها واستقلال قرارها الوطني. كذلك، أتى التركيز على بناء جيش وطني محترف وحصر السلاح بيد الدولة كضرورة لاستعادة الأمن ومنع تكرار تجربة الفصائل المتناحرة التي عرقلت الانتقال السياسي في دول أخرى شهدت تحولات مشابهة. كما أن تضمين احترام حقوق الإنسان وضمان تمثيل المرأة والشباب يعكس توجهاً نحو بناء نظام ديمقراطي حديث، وهو ما يتطلب ترجمة فعلية لهذه المبادئ ضمن دستور جديد يضمن المساواة ويمنع العودة إلى هيمنة السلطة الأمنية.
ولكن يمكن تلمس بعض أوجه القصور في البيان أيضاً، لا سيما فيما يتعلق بالعدالة الانتقالية. فرغم الإشارة إلى ضرورة محاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات، لم يضع البيان تصوراً واضحاً للكيفية التي سيتم بها ذلك، وهو ما يترك هذه القضية الحساسة معلقة دون ضمانات واضحة. إن أي عدالة انتقالية فاعلة لا بد أن تستند إلى آليات قانونية محددة وإلى رؤية شاملة لمعالجة الإرث الثقيل للنظام السابق، بما يشمل كشف الحقائق، وإنصاف الضحايا، وإعادة بناء النسيج الاجتماعي على أسس جديدة تتجاوز عقلية الانتقام أو التسويات السياسية الشكلية.
التحدي الاقتصادي أيضاً ظل غامضاً في البيان. رغم الدعوة إلى تحفيز عجلة التنمية وتطوير القطاعات الإنتاجية، لم يطرح المؤتمر أي سياسات واضحة يمكن البناء عليها لتحقيق هذا الهدف. سورية تواجه اقتصاداً منهاراً وإعادة الإعمار لن تكون ممكنة دون رؤية اقتصادية مدروسة توازن بين الاستثمار الأجنبي والحفاظ على استقلالية القرار الوطني. هذه النقطة تحديداً تكشف عن الحاجة إلى مؤتمر اقتصادي موازٍ، يتعامل بجدية مع المسائل المالية والإنتاجية وآليات دعم الطبقات الفقيرة التي أنهكها النزاع.
بالنظر إلى ما سبق، تبدو الدعوة إلى رفع العقوبات الدولية واحدة من أكثر القضايا التي تحتاج إلى نقاش معمّق. فالبيان يطالب برفع العقوبات دون تقديم رؤية واضحة حول كيفية تحقيق ذلك في ظل التعقيدات السياسية والاقتصادية التي تحيط بالملف السوري. إن إنهاء العقوبات ليس قراراً يمكن فرضه بإرادة داخلية فقط، بل هو مرتبط بشروط يفرضها المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة، تشمل الإصلاحات السياسية، والشفافية في إدارة الموارد، وضمان عدم إعادة إنتاج الفساد الذي كان أحد أسباب فرض العقوبات في المقام الأول. وفي غياب خطة اقتصادية متكاملة تواكب هذا المسعى، تبقى هذه المطالبة أقرب إلى الطرح النظري منها إلى المطلب القابل للتحقيق. لا شك أن السوريين يعانون من التداعيات الاقتصادية لهذه العقوبات، لكن فكّ العزلة الدولية لن يكون ممكناً دون تحولات جوهرية في طبيعة الحكم القادم لسورية في ظل تلميحات عن استئثار ناعم بالسلطة قد يغفل إعادة ثقة المجتمع الدولي بسورية الجديدة. ومع ذلك، فإن التركيز فقط على رفع العقوبات دون تقديم بدائل اقتصادية عملية قد يعزز من وهم أن الحل يكمن في انتظار قرارات الخارج، بينما المطلوب هو بناء اقتصاد متين قادر على الصمود والتعافي بغض النظر عن الضغوط الخارجية.
و من اللافت أن البيان لم يمنح الثقافة السورية دوراً مركزياً في عملية إعادة البناء، رغم أن سقوط نظام الاستبداد لا يعني فقط تغيير السلطة السياسية، بل يتطلب أيضاً تفكيك الرواسب الثقافية المتجذرة في الفكر والتي عززتها عقود من القمع. لعل المجتمع يعمل على إعادة صياغة هوية وطنية جديدة قائمة على قيم الحرية والتعددية والانفتاح. لقد أُهملت هذه المسألة في البيان، في حين أن معالجة آثار الاستبداد تحتاج إلى مشروع فكري يسير في نفس المضمار الزمني الراهن لاستراتيجية العمل الوطني، ويضمن ألا تتحول الدولة المستقبلية إلى مجرد نسخة جديدة من النظام السابق بأيديولوجيا حكام سورية الجدد، وإن كانوا بوجوه مختلفة.
رغم أن البيان قدم إطاراً عاماً يمكن البناء عليه، إلا أن غياب الجداول الزمنية وآليات التنفيذ الواضحة قد يحوّله إلى مجرد وثيقة سياسية غير ملزمة. سورية اليوم بحاجة إلى أكثر من بيانات حسن نية، فهي تحتاج إلى خطة عملية تتضمن خطوات واضحة وزمنية، تضمن تنفيذ الإصلاحات الكبرى، من إعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية، إلى تحقيق العدالة الانتقالية، وصولًا إلى إعادة صياغة ثقافة سياسية واجتماعية تواكب التحولات العميقة التي تمر بها البلاد. التحدي الآن ليس في طرح الأفكار، بل في كيفية تحويلها إلى سياسات واقعية يمكن تنفيذها على الأرض، وهو ما يظل غائباً في هذا البيان الذي، رغم طموحه، يبدو مفتقراً للأدوات التي تجعله قابلاً للتطبيق حسب ما جاء به.
بواسطة سلوى زكزك | فبراير 24, 2025 | Cost of War, News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
تقول الأرقام الواردة من دمشق، إنّ ما يقارب مليون سوري وسورية قد عادوا إلى بلدهم بعد سقوط النظام. لقد شكل هذا السقوط المدوي صدمة عاطفية دفعت كل قادر على العودة للسفر فوراً. انقسم العائدون إلى شريحتين: شريحة مدفوعة بالعاطفة وتمتلك وثائق تمكنها قانونياً من العودة؛ وشريحة من الصحافيين\ات السوريين\ات العاملين\ات في محطات إعلامية عربية ودولية ممن عادوا فعلياً للعمل على الأرض السورية فحققوا استجابة عاطفية وحضوراً عملياً، وكانوا خير بداية للإعلام المنقول من على الأرض في جو عارم من الزخم المهني والعاطفي.
لكن السؤال الأهم بعد هدوء العاصفة العاطفية وتصديق واقع رحيل النظام إلى غير رجعة، هو ماذا عن باقي عودة السوريين\ات المنتشرين\ات في بقاع الأرض؟
تجدر الإشارة إلى أن عدداً كبيراً تجاوز المائتي ألف سوري من النازحين\ات السوريين\ات في لبنان وخاصة من النساء والأطفال قد عادوا إلى سوريا في الأشهر الأخيرة وحتى قبل سقوط النظام بحوالي خمسة أسابيع تزامناً مع الضربات العسكرية الإسرائيلية.
هل يعود السوريون؟ إنها محطة جديدة من الأسئلة المستجدة والتي تتصارع الأجوبة عليها، لأنها أكبر وأوسع من الإجابة بالنفي أو بالإيجاب.
ترتبط الإجابة على سؤال العودة بظروف كل شخص وحالته القانونية والمالية والعائلية. وترتبط أيضاً وبشكل أساسي بالعمل وبالتوصيف الاقتصادي المهني، كما ترتبط بالبعد العاطفي الوجداني أو العائلي المتشابك ما بين سوريا وما بين البلد المقيم فيه.
لكن وللأسف الشديد وتطبيقاً للمثل العامي الشهير (راحت السكرة وإجت الفكرة)، تبدو موجبات العودة أقل من موانعها. فعلى سبيل المثال يعيش وليم وهو مهندس سوري في ألمانيا، ولم يتمكن بسبب اللغة والتقدم في العمر من تعديل شهادته، وهو يعمل الآن كسائق باص للنقل الداخلي في إحدى المدن الألمانية، يروي وليم حكايته مع العودة قائلاً: “بعد خمسة أيام من سقوط النظام سألني المشرف على العمل وبصورة رسمية هل سأعود إلى سوريا؟ كان السؤال صادماً لأنه ورد من المشرف أولاً، ولأن صدمة الفرح بسقوط النظام لم تسمح لي بتوجيه هذا السؤال حتى لنفسي!” ربط المشرف سؤاله بحقيقة صادمة لوليم وللمشرف أيضاً، وهي أن ستة عشر سائقاً من أصل أربعين سائقاً يعملون في شركة النقل هم من السوريين. من المؤكد أن وليم يعرف هذا، وأن كافة السائقين السوريين يعرفون بعضهم البعض، لكن توقيت السؤال يتضمن حرص الشركة وربما ألمانيا على ضرورة ترتيب جدولة العودة إلى سوريا حتى كزيارة. تتعادل وجوه الصدمة هنا، إذ تطفو على السطح مصلحة العمل، بينما يغرق السؤال عميقاً في وجدان وليم وشركائه في العمل من السوريين.
الصدمة الأكبر حول سؤال العودة كانت في البيوت، بمشاورات انفعالية، مترددة ومركبّة جرت بين أفراد العائلات وخاصة بين الزوجين، وصلت بعض الصدامات إلى طلب الطلاق إن لم يوافق الزوج أو الزوجة على العودة أو إن قرر العودة تم بشكل منفرد.
ثمة قطب مخفية وغير معلنة تجعل من عدم العودة قراراً مؤكداً، مثل التبدلات الشخصية التي اتخذها أصحابها وخاصة صاحباتها مثل الزواج من أجنبي، أو خلع الحجاب. وللأمانة وفي بعض الحالات وبعد مرور أكثر من سنوات عشر على اتخاذ هكذا قرارات شخصية يبدو أن بعض الأشخاص لم يعلنوها في بيئاتهم العائلية، بل وقد تُخفى حتى عن الأب والأم، رغبة بعدم فتح أي نقاش وتداركاً لأي عتب أو مساءلة قد تصل إلى درجة القطيعة.
لن يعود السوريون\ات ممن لديهم أطفال لا يعرفون حروف اللغة العربية ولا الأرقام ولا التحية ولم يتحدثوا بها مطلقاً منذ ولادتهم. كما يمكن القول إن سقوط النظام قد شكل صدمة وجودية للجميع خاصة أن أحداً لم يتوقع سقوطه رغم الأمل الكبير بذلك ورغم الجروح النازفة شوقاً ورغبة بلم الشمل. إن سقوط الأبدية أربك الجميع وخلق حالة من اختلال التوازن الوجودي والعاطفي، تغيرت فجأة خارطة الأولويات لدى الجميع، حزمة من القرارات الفجائية والارتجالية التي طغت على تفاصيل الحياة اليومية.
بدأت بعض اللاجئات بالتزام قرار جديد، قرار عاصف بالتوقف عن شراء أي شيء جديد حتى لوكان قطعة ملابس منعاً لتراكم الأغراض التي سيشكل تصريفها أو التخلص منها عائقاً أمام إجراءات العودة. كما أن البعض منهن وفوراً قُمن بالتخلص من الكثير من قطع الملابس الفائضة وحتى قطع منزلية مثل الحرامات والأغطية أو بعض أدوات المطبخ. وبعض الأشخاص كسلمى، فقد كان قرار العودة لهن حاسماً وممكناً ولو كان مؤجلاً، لذا فقد افتتحت سلمى حقيبة كبيرة وألصقت عليها بطاقة كبيرة مكتوب عليها (شنتاية سوريا)، وبدأت بتوضيب كل الأشياء التي تراها ضرورية لاصطحابها معها إلى سوريا في رحلة العودة النهائية.
لن يعود كل السوريين\ات، ولن تكفي الصفحات للإجابة على هذا السؤال، وعنوان العودة يبدو موازياً تماماً للسؤال السابق، إلى أين سيكون اللجوء؟
الأهم هو أنه بات للسوريين\ات وطناً، يفرض التفكير به كمساحة متاحة للزيارة مهما كانت قصيرة، وطن استعاد السوريون والسوريات فجأة تفاصيله بزخم عاطفي غير مسبوق. تقول لي صديقة: “فور إعلان السقوط والدموع تغمر وجهي انتابتني موجة حنين لا يطفئها ماء البحار كلها”، لكنها أردفت قائلة: “تخيلي أن رائحة سوق باب الجابية تسربت من أنفي، وكأنها كانت كتلة مخزنة في الأعماق وانفجرت فجأة، بت محاطة بها وكأنني أقف هناك، أوسع صدري وحواسي كلها لاستنشاق هواء حُرمنا منه مع أنه كان ملوثاً، كان عصياً حتى على الحضور في يوميات اللجوء الممتدة والطاعنة في قسوتها وفي مرارتها المتسارعة.”
هناك ملايين من السوريون والسوريات ممن لجؤوا في أوروبا وتركيا وكندا ومصر ولبنان والأردن، فعلى الأقل أصبح ثلث سكان سوريا خارج بلادهم منذ سنة ٢٠١١. هذا عدا عن ملايين السوريين\ات المقيمين في أوروبا ودول الخليج و أربيل والعراق منذ قبل الثورة السورية، فهل سيعود هؤلاء أيضاً؟ لا أحد يمتلك جواباً حاسماً، تبدو الأسئلة كما الأجوبة متفاوتة الأهمية، متقلبة، غير حاسمة وعدوانية في بعض تفاصيلها، لكنها تستحق الإنصات، تستحق التمعن بجدية بالغة وبحنان يليق بالسوريين والسوريات وبسوريا.
يسعى العديد من السوريين\ات الآن إلى الحصول على جنسيات بلاد لجوئهم، فقط لضمان إمكانية زيارة سوريا مراراً والعودة إلى بلدان لجوئهم التي صارت تعادل بلدانهم الأصلية في التوصيف القانوني لحضورهم، ربما لن يعود الكثير ممن يتمنوا العودة لأنهم يفتقدون إمكانية تغيير صفة اللاجئ فقد فاتهم سن العمل والمقدرة على تعلم اللغة الجديدة، سيعيشون حلماً مريراً أزاحوه جانباً واستسلموا لفكرة أنهم بلا وطن! لكن الازدواجية الحاصلة اليوم تشكل اختباراً قاسياً، مرهقاً وشديد المرارة للعاجزين عن تجاوز واقع أن بلدهم صار مباحاً للعودة، وأن فرق التوقيت بات عاملاً حاسماً يؤكد اللا عودة، خاصة أنهم في البلد بلا دعم مادي وبلا ضمان صحي وبلا بيوت وربما بلا أهل أو جيران، وربما أبناؤهم هنا في بلاد اللجوء لكن بظروف لا تشبه اللمة العائلية، لكنهم غارقون في العجز وفي الخيبة.
البلدان لا تزول ولا تسقط مهما طالت الأزمنة، لكنها تضيّع أبناءها في كل سياقاتها الثابتة والمتحولة سلباً أم إيجاباً.
لك السلام وعليك السلام يا بلد، سوريا يا بلدنا.
بواسطة طارق علي | فبراير 12, 2025 | العربية, تدريباتنا, تقارير, مقالات
في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع والخمسين بعد سقوط نظام بشار الأسد، جاءت الكلمة المرتقبة لقائد العمليات السورية أحمد الشرع التي تضمنت إعلانه لنفسه من خلال اتفاق الفصائل ليكون رئيساً انتقالياً للجمهورية لكنه لم يجد منبراً إعلامياً سورياً رسمياً لنقل الخطاب، فاعتمد على القنوات والمنصات الخارجية لتنقل كلمته المقتضبة التي تحتوي على خارطة طريق واسعة، وتولت قنواتٌ قطرية وسعودية على رأسها “العربي الجديد” و”العربية” وغيرها نقل الخطاب للشعب السوري.
التوقيت الملائم
لا شكّ أنّ الشرع اختار بمنتهى الحكمة توقيت إعلان الكلمة، كإشارة رمزية ومعنوية بالغة الأهمية والدلالة، لكن كان ينقصها التعبير عن السيادة من خلال الإعلام الرسمي، أو بالأصح عن جزء من السيادة إذا ما اعتبرنا الإعلام شريكاً يقوم بالتعبير عن سيادة الدول كمراقبٍ ومنبرٍ ووسيلة إعلان وسلطة رابعة لا يضاهيها في مكانتها أحد.
الإعلام الغائب
حتى اليوم لم تنجح الدولة السورية الجديدة )المتحولة من الحالة الفصائلية إلى عقلية بناء الدولة كما جاء على لسان الشرع( بمعالجة ملف الإعلام وإعادة البثّ للقنوات السورية، وهي فعلياً كثيرة “السورية – الإخبارية – دراما – سما – نور الشام – التربوية – إذاعة دمشق – صوت الشباب وغيرهم”، ولا إعادة بثّ الروح في مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وهو الذي يدير معظم هذه القنوات والإذاعات ضمن القطاع العام.
ورغم أنّ التحرير حملَ معه سريعاً تعيين فريق وإدارة للهيئة، لكنّها لم تنجح حتى الآن في الضلوع بدورها في رسم بيئة وبنية وهوية جديدة للمنظومة الإعلامية، فيما خلا أنّها صرفت مئات العاملين أو منحتهم إجازات غير مدفوعة.
منظومة مهترئة
لا يخفى على السوريين أنّ الهيئة العامة واحدةٌ من كبرى قطاعات الفساد في سوريا، إذ تضمّ بين أروقتها زهاء 8 آلاف موظف وهي لا تحتاج أكثر من ربعهم على أكثر تقدير لإدارة كامل المنظومة، ولكنّ ذلك ليس سبباً كافياً لتعطيل العمل الإعلامي. فهل سمع أحدٌ يوماً ببلدٍ قائمٍ لا توجد فيه مؤسسات إعلامية! بل وهل سمع أحدٌ ببلد قامت فيه ثورةٌ ولم يترك كل شيء ليعوّم الإعلام أولاً وليتلو بيانه الأول من خلال السيطرة على الإعلام الرسمي! وهذا كان عرفاً في سوريا التي شهدت انقلابات كثيرة بين 1946 و1970، وكلّها كانت تكتسب شرعيتها من “البيان رقم 1”.
اهتمام عالمي وفقر داخلي
نجح الرئيس السوري الجديد وبالضربة القاضية بالاستحواذ على الاهتمام العالمي الإعلامي، فترى القنوات الغربية والعربية مستنفرةً لنقل تصريحاته وكلماته ولقاءاته، فيما خسر الإعلام المحلي وسط شكوكٍ تحوم في مكانها حول أهلية من عهد إليهم بإدارة الملف وإعادة تشكيل قنواتٍ تعدّ الأقدم في البث التلفزيوني على مستوى العالم العربي. وهناك انتقادات تُشير إلى تسليم الملف لشبانٍ صغار ينعكس عليهم نقص الخبرة بحكم العمر، وبحكم مسؤولياتهم السابقة المحدودة في نطاق إدلب.
ورغم أنّ تولية ملفٍ بهذه الضخامة لهؤلاء الأشخاص يعاب على الإدارة الجديدة، لكنّه في ذات الوقت قد يحمل بشائر خيرٍ معه إذا ما تمكنوا من ضخّ حماس الشباب في المشروع ومفاجأة السوريين بمنظومة جديدة لها رونقها الخاص، الرونق الذي ينعكس جمالاً بعد انقطاع طويلٍ في جدول البث ومواعيده ومواقيته.
ماذا عن الرعيل القديم؟
تحمل تلك التصورات مخاوف جمّة للموظفين الأساسيين، المذيعين والمحاورين والمعدّين منهم على وجه الخصوص، فأولئك الذين باتوا بلا عمل ولا مورد رزق منذ سقوط النظام، وهم الذين تكفلوا لسنواتٍ بنقل “انتصارات” نظامهم وأخباره، فكيف سيتم التعامل معهم؟ هل سيتم اعتبارهم فلول نظامٍ غير مرغوبٍ به.
في هذا الإطار، وصلتنا تصريحات من مصادر موثوقة من وزارة الإعلام السورية في حكومة تصريف الأعمال أنّه سيجري تعيين إدارات مهنية لكلّ قناةٍ وسيجري تأهيل كوادر جديدة وتدريبها، وهنا سؤال آخر أكثر إلحاحاً، من سيدرب تلك الكوادر!
وأكد المصدر أنه: “الآن مطلوب من كل وسيلة إعلامية تريد العمل في الأراضي السورية، سواء كانت تبث لصالح المعارضة أو الموالاة سابقاً، داخلاً أم خارجاً، التقدم بطلب ترخيص جديد للعمل ليتم النظر فيه واتخاذ قرارٍ بشأنه”.
حريّة الإعلام!
بالتزامن كانت السلطات السورية الجديدة قد وضعت يدها على إذاعة شام إف إم وقناتها الفضائية مع ترخيصها، وقامت بطرد مديرها ومالكها مع موظفيها مستحوذةً على حسابات الإذاعة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي الإذاعة الأكثر رواجاً في سوريا خلال سنوات الحرب.
ولشام إف إم قصتها، حيث أنّها كانت موضع شراكةٍ بالتناصف بين مالكها الأساسي سامر يوسف ورجل الأعمال الشهير رامي مخلوف ابن خال الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، قبل أن يتم إقصاء مخلوف من المشهد وتتحول إدارة النصف العائد له إلى سيرياتيل، ما خلق مشاكل بين الشريكين يوسف وسيرياتيل على صعيد شكل الإدارة حينها، أي في عام 2020.
مع سيطرة الحكومة على الإذاعة أقفل يوسف هواتفه واحتجب عن الردّ على المكالمات والرسائل بأنواعها، وبعد محاولات حثيثة تمكّن “صالون سوريا” من التواصل معه وإقناعه بالتعقيب على الموضوع لكنّه اكتفى بالقول: “لن أعلق بأي شيء في المرحلة الراهنة”.
كذلك حصل مع قناة سما التي جرى صرف موظفيها والاستحواذ عليها بتهمة عودة ملكيتها لرجل الأعمال محمد حمشو المتورط بدعم النظام السابق مالياً وعسكرياً، وخصوصاً بعد فشل محاولة التسوية بينه وبين الحكومة السورية.
تكبيل صاحبة الجلالة
يرى صحافيون\ات كثر على اختلاف التوجهات السياسية أنّ حريّة الإعلام يجب أن تكون مصانة ومكفولة وفق شرعة الأمم المتحدة وحقوق الإنسان وحرية التعبير وكل ما جاء في الإعلان العالمي للحقوق والحريات.
ويعتبر بعضهم أنّه في حال تورط مالك وسيلةٍ ما في أمرٍ يضر بمصلحة البلد السياسية عبر الدعاية والتزييف والتزوير وغير ذلك، فهذا لا يعني مصادرة الوسيلة وإغلاقها ومحاسبة فريقها كاملاً، بل محاسبة المتورطين قضائياً لا عرفياً.
كل ذلك التخبط، وكل تلك القضايا، أتاحت من جديد المكان لوسائل التواصل الاجتماعي لتلعب دورها وفق أجنداتٍ متباينة، فبين التحريض والموضوعية تاه المواطن السوريّ وصار عاجزاً عن فهم ما يحصل من حوله منتظراً شاشاتٍ وطنيةً موثوقة تقول له الحقيقة كاملةً وتقربه من إداراته الجديدة ليفهم معها شكل البلاد المتجدد.