إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد “هاني الراهب” ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه، ودائماً كان قلمه سلاحه المسدد بوجه الطغاة والطغم الحاكمة.
شكل إنجاز هاني الراهب انعطافة هامة في مدونة السرد السورية، وكان سباقاً في اجتراحه لآفاق التجريب بالسرد؛ ومقتحماً لعوالم الحداثة مع إيمانه الراسخ بأهمية توظيف الموروث الثقافي العربي وتطويعه لخدمه مشروعه الحداثي. ولقد ابتدأ هذا المشروع مبكراً وأصدر روايته الأولى ” المهزومون” وهو على مقاعد الدراسة الجامعية في الثانية والعشرين من عمره ونالت في ذلك الوقت جائزة دار الآداب كونها لامست وجدان الفرد العربي المهزوم بفعل انكسارات الواقع وخيبة آمال جيل كامل إثر تداعيات السياسة وإخفاق تيارات المد القومي، وفككت وشخصت الهزائم المتتالية التي أحدقت بالفرد العربي وانتكاسات منظومة الشعارات الرنانة ونتائجها الكارثية في هزيمة حزيران والتي كان لها وقع قاس على الوجدان الجمعي وكانت سبباً في تشظي الذات العربية وخرابها النفسي وضياعها. أكملت روايته “شرخ في تاريخ طويل” تعميق أسباب الضياع الذي عانت منه شخصياته وعلاقتها بمحيطها السياسي على خلفية “هزيمة 48 و”67. وتكرر ذلك أيضًا في روايتي “الوباء” و”بلد واحد هو العالم”.
وبين أول رواية ” المهزومون”، وآخر رواية ” خضراء كالبحار” والتي أنجزها قبيل وفاته في عام 2000 مرت مياه كثيرة، ومرت أزمان قاربت أربعة عقود، وفي الوقت التي كانت فيه روايته الأولى المهزومون تنطق بمضمونها وتصوّر واقع الشخصية العربية المهزوم في كل شيء جاءت روايته الثانية “خضراء كالبحار” متوجة مجموعة الروايات التي يبدأ عنوانها ب “خضراء” والتي يرصد فيها الحياة العائلية الرتيبة حيث الأمان والاستقرار يفتقد النبض والعاطفة ويأتي الحب ليقتلع الأعماق ويهز منظومة ثبات الشخصية التقليدي” نورما” في عجزها عن ولوج الحياة الحقيقية ودلالة جفاف النهاية لها، فعقم الزوج مهند يوازيه عقم الأنظمة العسكرية وعقم تجربتها بما أنها لم تلد أي جنين، وشخصية نورما الممزقة بين جبلين أو رجلين، بين خطرين خطر الحرية وتبعاتها مع فراس، أو خطر الجمود والتكلس والحياة الرتيبة الشبيهة بالموت مع مهند، نورما الشخصية الممزقة بين حالين فما أن تصل إلى ضفاف حالة حتى تعاود النكوص إلى نقيضها، فمن الانجراف وراء الحب والحرية إلى الارتداد إلى العائلة والحجاب الذي تصل إليه في نهاية المطاف، وهنا يرصد الراهب تهاوي عالمها الداخلي وخواءه من المعنى في الإطار الخشبي للحياة المطمئنة الراكدة، وكيف تفاجئ نفسها عندما تطلق موجات الحب لآلئ دفينة في أعماقها، وتظهر مواهبها النقدية التي حجبها يباس حياتها الرتيبة التي رسمها لها النظام البطريركي ممثلاً بالأب والزوج وهيمنة التقاليد والاطمئنان الكاذب ليعكس كل ذلك الصورة التي عبر عنها فراس الفنان في التشوه الذي رسمه في ملامحها باعتباره “الجمال المعتدى عليه، الجمال الذي ينقصه حريته”. ويتداخل هنا السرد مع التشكيل والنحت والموسيقا في تجسيد الملامح والتفاصيل لإظهار البعد الداخلي للشخصية الذي أنتج المرأة بتلك الطبيعة المقولبة والخاملة والعاجزة عن العطاء والحب عبر الولوج إلى الطبقات الداخلية لشخصية وازدواجها بين خطابها الواعي لوجودها الحي وخطابها المستند على البرمجة العائلية، وعندما تتمرد عليها تتعثر وتخرج بشكل مشوه وغير مقبول وتبقى تراوح في مكانها رغم استفزازات الشعور والعاطفة ليطرح السؤال: “هل الحب غياب للوعي أم هو وعي آخر؟
كل ذلك يعبر عنه الحوار الداخلي للشخصية وصراعها مع ذاتها بين الصوت العالي للنسق المهيمن وبين رغباتها الذاتية التي تعكس أناها الخاصة، فالمرأة ورغم نزوعها العارم لاقتناص فرصتها بالحياة ترجع بالنهاية للتماهي مع النسق الثقافي السائد في المجتمع، وترجع إلى قيدها رغم كل التناقضات التي عاشتها بسبب من علو ووطأة العرف الاجتماعي وأسواره المكبلة وهذا ما رأيناه في الشخصيات النسائية في مجموعة الروايات التي يبدأ عنوانها ب”خضراء” فهي مهزومة وراجعة إلى الحضن الأبوي المهيمن متناسية أحلامها وجموحها العارم نحو الحرية.
مجموعة الروايات التي يبدأ عنوانها ب”خضراء” باعتبارها أحدث ما كتبه هاني الراهب “خضراء كالحقول”، “خضراء كالمستنقعات”، “خضراء كالبحار”، و”خضراء كالعلقم” عكست تلك المساحة بين اللون والحالة الشعورية وذلك الالتباس بين رمزية الاخضرار وأطيافه في عالم الدلالات الذي يحيل إليه الأخضر ففي ” خضراء كالمستنقعات اشتغل على تعالق السياسي مع الاجتماعي ومعركة البطلة سلمى مع المجتمع المتعصب للالتزام بالحجاب وهي على أهبة الانخراط بكومونة يسارية، إذ يتقدم السرد على لسان امرأة باعتراض على قساوة المثل ضرب العصافير بالحجارة” ضرب عصفورين بحجر واحد” لينتقل إلى تجسيد الخوف الجاثم في الصدور من ألف عام نتيجة الأنظمة القمعية المتتالية “لا يموت الناس من الجوع لكن كرامتهم تموت بسبب الخوف” والسؤال الواقعي عن أولويات المرحلة متسائلاً “ألم يكن بالإمكان أن يتحمل التنظيم الاجتماعي زبداً تفوهت به أفواه حالمة” لينتقل إلى الهم المركب للمرأة علاقتها مع الرجل وعلاقتها مع السلطات القائمة.
” متى نبتت شجرة الملكية في تراب الحياة” فالمستنقع قمة المأساة التي تعيشها النساء خائبة الروح باستقرار عميق في استسلام الأحلام وهدرها لما هو مستقر في ذاكرة الخنوع البشرية، ورغم ذلك كل التنازلات الاجتماعية التي مارستها البطلة سلمى لم تمنحها إحساساً بالأمان المفترض.
المياه الخضراء الداكنة توحي برييع وما من ربيع، توحي باخضرار وليس سوى المياه الآسنة تموت البطلة مئة مرة وتبقى على قيد الحياة وما عداها قصص وروايات وقد أقحم الكاتب اسمه الحقيقي في النص كنوع من صد القارئ من الاسترسال في الخيال ورده إلى الواقع مراقباً ومحايداً.
معاناة هاني الراهب الحياتية من المنع التضييق والاعتقال وسحب جواز سفره من السلطات القائمة آنذاك وفصله من عمله في جامعة دمشق وارتحاله للعمل في دول النفط تلقي ظلالها الكامدة على أغلب أعماله وتظهر متوارية كسيرة ذاتية تظهر فيها ملامح حياته الشخصية ففي رواية “رسمت خطاً على الرمال” كانت رحلته في بلد النفط واغترابه عن مكانه الأول وهو المسكون بمدن الأسئلة مطلقاً إياها على مدنه المتخيلة ” ماذا، متى، كيف”. كما يبرز الغرائبي والعجائبي فيها متكئاً على حياة شخصيات سردية مثل أبي الفتح الإسكندري وعيسى بن هشام وشهريار وشهرزاد ودنيا زاد وأفقر زاد عبر الخيال المجنح الخارق وغير المألوف في تجواله بين تخوم عوالم لامتناهية يرسم فيها تحولات الشخصيات وتهشيمها وإعادة صياغتها من جديد، فقد اشتغل فيها على تقنيات مكثفة في التلاعب بالزمن بين الإبطاء والتسريع بحسب أهمية ودلالة التكثيف والانبساط في الحدث المروى عبر التنقل بالأزمان من ماض سحيق يستلهم حكايات ألف ليلة وليلة ومقامات بديع الزمان الهمذاني في خلطة عجائبية من عالم الخيال واللامعقول متنقلًا بين الأرض والسماء والماضي والحاضر والحياة والموت في تشظي للزمن والتركيز على بؤر فاعلة في استعادته لواقع الفرد المنفي والمبعد الملاحق للقمة العيش التي ماتزال تنأى عنه مفككاً للخطاب الديني الذي يهلل للحاكم في كل زمان لأن “”الرضا والرقاب ملك يديه، أي تاج أعز من تاجيه”، في تحريف واع للعبارة المسكوكة.
كذلك صنفت روايته “الوباء” باعتبارها من أفضل مئة رواية عربية والتي حازت جائزة اتحاد الكتاب ورصد فيها سيرة أسرة عبر ثلاثة أجيال في رحلة أبنائها من الريف إلى المدينة وعلاقتها بالسلطة والعسكرة في بناء سردي متماسك موظفا التراث الشعبي والروحي والديني في أسطرة الشخصيات وتشكيلها ورصده للشخصية العربية في تغيراتها وانعكاس الأزمات السياسية على وعيها ومصائرها.
العتبات النصية كعناوين ملتبسة:
العنوان باعتباره جزءاً من العتبات النصية للعمل يشكل أحد مفاتيح النص المعبرة عنه أو لجزء منه، إذ تثير فهماً مخاتلاً مما يصعد من فعالية التشويق في الوصول لأفكار النص، فالعنوان “رسمت خطاً على الرمال” عنوان مراوغ فهو قد يشير إلى الخطوط الواهية التي تفصل البلدان العربية وقد رسمها الميجر فيكس بقلم رصاص ليشكل دويلات النفط أو بتأويل آخر قد يفسر محاولة من الكاتب في الحفر على وعي لوجود مفقود الأمل من تحققه.
“شرخ في تاريخ طويل”: العنوان نفسه قصة قصيرة تحيل إلى أهمية تفكيك هذا التاريخ المشروخ في بناه الأساسية وخاصة محرماته الثلاثة الدين والجنس والسياسة.
“بلد واحد هو العالم” كعنوان يختزل معنى مقولة كاملة في أن المسائل الصغيرة صورة عن كبريات المسائل وتكثيف لها وإن ما يحصل في مكان ما صدى لواقع وتوجهات مكان آخر.
“ألف ليلة وليلتان” في تناص مع عنوان النص الشهير وانحراف عنه في تجاوزه الإرث الحكائي المعروف ليزيدها ليلة أخرى كناية عن رؤيته الخاصة بتجدد الهزائم واستمراريتها فقد أخذ العنوان من سياقه وأجرى عليه تحويراً ليرده إلى معنى آخر.
“خضراء كالبحار” جسده تعبيره المباشر “الفرح والجمال كنزان صغيران في هذا العالم وأنت الخضراء كالبحار تجعلينهما يكبران”.
ولكن في جانب آخر تظهر دلالة معاكسة للعنوان وهي عكر الأعماق الذي يظهر على السطح نتيجة تقلب أعماقها وتلونها بين ذاتها الحقيقية والذات المتقولبة فيها التي برمجت شخصيتها وفق الأعراف السائدة.
ويكفي عنوان “خضراء كالعلقم” في تبيان المفارقة بالعبارة الواحدة في التعارض بين الاخضرار الذي هو لون النماء والاستمرار والأمل وما يقابلها من طعم الواقع المر.
في كل ما سبق يركز هاني الراهب على الشخصيات المهتزة والمهمشة وصراعها مع نفسها وواقعها. “الأرض الواطئة هو الشعور الذي يخلق مع الكائن” في وصفه الكائنات المهزومة سواء على صعيد القضية الوطنية أو على صعيد القضية الاجتماعية كواقع المرأة في الشرق، وقد لا يفي مقال واحد للإحاطة بتجربة هاني الراهب السردية فكل عمل وكل نص من نصوصه يحتاج دراسات وأبحاث عدة، وتبقى قضية الحرية هي العنوان الأبرز في أعماله نتيجة لإحساسه الوجودي العارم بأهمية الكينونة الإنسانية للفرد وقد توجت باجتراحه عالم التجريب في التعبير عن رؤاه ومواقفه في صيرورتها الإبداعية المتألقة.
يحدث في الحرب أن تستيقظ الساردة صباحاً، تستعدّ لقضاء نهارها في عملها اليوميّ، وقبل أن تتناول قهوتها كالعادة، يطلب أبوها منها مرافقته إلى محلّه في هامش المدينة:” سألني بتودّد إذا ما كنت سأرافقه مشياً في الشارع المفضي إلى الخوف…” بذريعة أنّها ستتناول قهوتها مع أمّها مجبورة الساق، وإلى حين يتمكّن طلّابها من تجاوز حواجز التفتيش الكثيرة وصولاً إلى المدرسة. يصيب صاروخ جدار غرفة المعيشة، مكان شرب القهوة المعتاد، فتنسحب وأمّها إلى مكان أكثر أماناً؛ الحمّام، عوض الخروج من البيت، بسبب جبيرة ساق أمّها المكسورة. وفي الحمّام، تغلي القهوة بعد أن تسلّلت إلى المطبخ، لجلب دلّة وفنجانين، ولعجلتها المرتعبة تنسى الملعقة، فتضطرّ أمّها لوضع القهوة في الماء بأصابعها، ولتحريكها تقترح استخدام فرشاة أسنان الأب! وفي إثر سقوط صاروخ آخر، وانهيار أحد جدران البيت، وتطاير الغبار الخانق، يحطّ الهذيان ويُدفِق الأسئلة واقعيّة، وجوديّة وعبثيّة، تسأل الساردة:” أمّي، لماذا على المرأة أن تكون (ست بيت)؟ “أمّي، ألا نملك إجابات لكلّ شيء؟” ” أمّي، هل سيغفر لنا أبي هذا؟” استخدامهما فرشاة أسنانه لتحريك القهوة! يبدو المشهد غريباً، بيد أنّ واقع الحرب المفترض أنّها السوريّة الراهنة، بفجائعها الغرائبيّة والكابوسيّة تفوق التصوّر والتصديق، فالقصّة لم تحدّد مكان حدوثها.
تتسلسل الأحداث وتتنامى على وقع القصف، وتتداخل الأزمنة ما بين الأمس واليوم، وتتوالد مشاعر الرعب؛ فالأمّ تحار كيف ستنجو مع جبيرتها، وتصرّ على ترتيب الأشياء في البيت وتنسيقها الصارم المعتاد، ترتدي حجابها، فالسترة واجبة حتّى في لحظة الموت! والأب يعود، بعد خروجه من الباب، لتقبيل زوجته وابنته، كأنّما في وداع أخير، ثمّ ينصرف إلى عمله. والابنة المرتعبة تتأمّل داخل البيت وخارجه، بانتظار موت مرتقب. فضاء مشحون بالرعب يستبدّ حتّى بطلّاب الساردة/المعلّمة في المدرسة، فقد رسمت إحدى الطالبات دجاجة تفقس صواريخ!
ذلك ما حكته لنا الساردة/ الكاتبة نهى حسين، في القصّة البديعة “جبيرة”، أولى قصص مجموعتها البكر “سيلفادور دالي يعدّ لي الفطور!” إصدار دار ممدوح عدوان/دمشق 2024.
بعيداً عن الحرب، وقد ذُكرت في أربع قصص، انشغلت الكاتبة في النصوص السبعة المتبقة، بالموت أيضا، بالظلم المجتمعي الذكوري، بالطفولة المعنّفة، وبغير ذلك. يتكرّر ذكر الأطفال في النصوص، فثمّة طفلة أخرى رسمت في حصّة الرسم معلّمتها/الساردة التائهة القلقة على شكل شجرة متشابكة الأغصان! أمّا الطفلة/ الساردة في القصّة الغريبة المدهشة والمخيفة “الكافور”، فقد رسمت في حصّة الرسم: “حديقة أزهارها توابيت.” فهي تعيش في بيت لا يتوقّف عن استقبال الجثامين لغسلهم وتهيئتهم للدفن. طفلة لا تتوانى عن فتح باب البيت لعويل الأهالي حاملي الجثمان، وعن مناولة أبيها الأكفان الاحتياطيّة المركونة في غرفتها. ولكسر الضجر تبدأ بتطريز عصافير ملوّنة على حوافّ الأكفان البيضاء، قبل أن تأخذها لأبيها مُغسّل الموتى، مهنة ورثها عن أسلافه، ويحرص على الحفاظ عليها. وقد اعتاد أهالي القرية حمل جثامين موتاهم إليه، يفضّلونه على مغسّلي الدكاكين. بدا الأب كآلة تعمل لا تتوقّف. رفض طلب زوجته بالانتقال إلى مسكن آخر لإبعاد طفلتهما عن الأجواء الجنائزيّة، وقد باتت تقضّ مضجعها؛ هلع وبكاء، كوابيس وهلوسات، فتهرع الأمّ إلى إيقاظها، تسقيها ماء وتقرأ عليها القرآن لتعاود النوم، تشرح لها:” أنّ الموت سنّة طبيعيّة كتعاقب الليل والنهار وتوالي الفصول.” تصلّي الطفلة طلباً للاعتياد. تقول:” أريد حصّتي من الحياة من دون هذا القرب الحميم من الموت.” (يؤخذ على الكاتبة هنا، تقويل الطفلة ما لا تدركه اللغة الطفليّة.)
على وقع سيل ماء غسيل الموتى خارج الغرفة، وانتشار رائحة الكافور المعطّر، تسرد الطفلة حياتها وسط طقوس جنائزيّة مضجرة؛ أكفان ونعوش وتفجّع، ورائحة الكافور تعشّش في البيت، وفي النوم. ذات ليل ثلجي، طرق على الباب يوقظها، وكعادتها حين تنشغل أمّها، أو تغطّ في نوم عميق بعد نهار جنائزيّ متعب، تهرع الطفلة لفتح الباب. لم تجد وشاحها السميك، فتلحف الكفن الذي تطرّز على حوافّه العصافير، لم يكن بالباب جثمان أو عويل، إنّما هرّة غطّاها الثلج، فلم يكن بدّ من إدخالها، انتبهت الطفلة إلى أنّ الهرّة لا تموء، فتخمّن أنّ البكاء على فقدان ما كابدته، أفقدها صوتها. تدخل الهرّة غرفة الطفلة، مأخوذة بالعصافير المطرّزة على الكفن. تتقدّم بقسوة نحو الطفلة، فيتضخّم خوف هذه! في الصباح، حين ناولت أباها الكفن ذاته، انتبهت إلى اختفاء عصافيرها عنه، وحين سألت أباها عنها: “دخل في اضطراب مفرط، وقال:” لقد التهمتها القطّة وفرّت كالمجنونة.” رمزيّة أبدعتها القاصّة ببراعة. بلى، لا بدّ للأب أن يضطرب كثيراً، وأن يؤكّد أنّ القطّة التهمتها وفرّت، التهمتها تماماً حيث لا أمل في استعادتها! فالعصافير ترمز إلى الطيران والانعتاق. وفي بيت لا تصلح فيه للعيش سوى مهنة غسل الموت التاريخيّة الموروثة، على القطط التي ترمز للجنس/الحياة المضادّ للموت، أن تفرّ وأن تكون قاسية، متوحّشة ولصّة! وعلى الأب أن يبعد عن ابنته رغبتها في أن تكون لها حصّتها: “من الحياة من دون هذا القرب الحميم من الموت.” قصّة تترك أثرها في نفس القارئ بقوّة.
بديهيّ أنّ أوّل ما سيخطر في بال القارئ مع ذكر الرسّام سيلفادور دالي هو السرياليّة وتعني “ما فوق الواقع”. نشأت هذه المدرسة في فرنسا، وتوهّجت في عشرينات وثلاثينات القرن المنصرم. وتهدف إلى الغوص في العقل الباطن واللّاوعي، لاستكشاف ما يبطن من أفكار تتنافى مع الواقع والحقيقة، وتعتمد الأحلام، تأثّراً بعلم النفس الفرويديّ وسواه، فتدمج الخيال بالواقع بعيداً عن الأطر والقواعد المكرّسة، في شتّى الفنون الإبداعيّة. تزعّمها، الشاعر أندريه بروتون وأطلق بيانها الأوّل رفقة أدباء آخرين مثل بول إيلوار ولويس أراغون، ورسامين مثل ماكس إرنست وسيلفادور دالي هذا الذي يعدّ الفطور للكاتبة نهى حسين، أولى وجباتها/ إصداراتها الأدبيّة. لكنّنا سنلمس بوضوح سافر، أنّ ما ورد في المجموعة برمّتها لا يمتّ إلى السرياليّة بصلة، إذ أنّ الأحداث والأفعال تتتابع عبر رصد الساردة، الشخصيّة الرئيسة في أغلب النصوص، بوعي شديد للواقع من حولها وما ينجم عن ذلك من ردود أفعال، وهواجس ومخاوف، حيرة وتيه، تساؤلات، وتأملات فلسفية وجوديّة تنحو إلى العبثيّة مرّات كثيرة، تنقله إلى عوالم فنّيّة، بواقعيّة تارة وبرمزيّة تارة أخرى، وإن بدت غريبة أحياناً فذلك يعود إلى مخيّلة الكاتبة الوسيعة الجميلة، تحلّق كما الشعراء أحياناً وتأتي بصور أدبيّة محمّلة بالهواجس المتأتّية من واقعها. ليكون العنوان شرْكاً يعثّر القارئ!
ثمّة أيضاً، ما يشي باستعجال نهى حسين في نشر مجموعتها اللّامتجانسة هذه، والكتابة الأدبيّة إنّما هي أيضاً فعل تأنٍّ وصبر. ففي حين نجدها قاصّة بارعة في نصوص خمسة تراوحت بين الحداثة والتقليديّة، وبين الواقعيّة والرمزيّة، وأُدرجت في سرد مكثّف، سلس، عفوي، مقنع وممتع، ولغة أنيقة شعريّة حينا وشاعريّة أخرى في اتساق جميل ومؤثّر، محمّلة بأفكار عميقة وتأمّلات لافتة. إلّا أنّنا نلقى في قصص أخرى مثل “نزح الماء” القصديّة والافتعال والمبالغة! وفي قصّة “الجوبي” محاولة متعثّرة لتقديمها بشكل القصّة القصيدة فيما يبدو، كما أنّها تعاني من إبهام مطبق، يُذهِب بمتعة الاكتشاف لدى القارئ!
في نصوص أخرى يبهت الشكل الفنيّ وينتفي، فمثلاً في نص” حجراً إن شئت” تتحدّث الساردة عن جدليّة العلاقة بين الذات المهنيّة والذات الإبداعيّة، والصراع اللّامنتهي للتخلّي عن المهنة قاضمة الوقت وخانقة الفعل الإبداعيّ. النصّ لافت إنّما ليس قصصياً البتّة، أُدرج بخطابيّة ومباشرة لن تسترها أناقة اللغة أو التأمّلات. أمّا نصّ “طابع مجهود حربيّ” وقد جاء في مقاطع تطول أو تقصر، هي رسائل متتالية ترسلها كاتبتها إلى حبيبها الذي بعد عنها، من دون ردود منه، ومن دون أن نعرف عنه شيئاً. رسائل انكتبت بلغة شعريّة لافتة، إنّما أُثقلت بهواجس ورؤىً مختلفة وتحتشد فيها الأفكار فتزدحم، (هو حال النصوص غير القصصيّة كلّها)، فبدت الأحداث فيها ظلالاً لقصص تمكث على ضفاف دانية هنا، ونائية هناك، بانتظار إنجازها!
ذلك التباين بالأشكال التي وردت فيها النصوص غير القصصيّة، واحتشاد الأفكار بشكل مبالغ، رغم أهمّيتها، فقد طغت على فنّيّة القصص، ما لا يؤمّن للقارئ، في النهاية تكوين وحدة انطباع فنّيّة شاملة للمجموعة.
وسمت الكاتبة مجموعتها بــ “سرد حكائي”، وكأنّما تبريراً لخلط ما لا يتجانس! فلا شكّ أنّ نهى حسين تدرك أنّ السرد الحكائي يعني السرد القصصيّ والسرد الروائيّ. وللتوضيح أورد تمييز جيرار جينيت في كتابه “الخطاب الجديد للنصّ السرديّ”، بين ثلاثة مكوّنات للخطاب السرديّ، هي: “الحكي: الترتيب الفعليّ للأحداث في النصّ. القصّة: التتالي الذي حدثت فيه هذه الأحداث فعليّاً. السرد: فعل السرد ذاته.” لنفهم من جينيت ومن نقّاد منظّرين آخرين، كتزيفيتان تودوروف صاحب مصطلح “علم السرد”، على أنّ السرد الحكائيّ، أكان حداثيّاً أو ما بعد حداثيّ أو تقليديّاً، فإنّه يشترط وجود حكاية فيها يتنامى الحدث والشخصيّات بقوّة روح القصّ.
يجدر القول إنّ نهى حسين كاتبة جادّة ولافتة، بلا أدنى شكّ، تدفعنا لمتابعة إصداراتها القادمة بحماس.
لم تكن النجمة الذهبية التي فاز بها الفيلم السوري “ذاكرتي مليئة بالأشباح” مناصفة مع الفيلم المصري “رفعت عيني للسما” في مهرجان جونة السينمائي في القاهرة مؤخراً، هي الجائزة الأولى له، فقد شارك في عدة مهرجانات حتى الآن وحصل على الجائزة الأولى في مهرجان الأفلام الوثائقية في الدانمارك، وعلى إشارة خاصة للتميز في مهرجان رؤى الواقع في سويسرا، وجائزة أفضل قصة في المهرجان السينمائي الدولي في بوينس آيرس.
وهو من إنتاج ملتقى هارموني الثقافي، في حمص وأول فيلم طويل للمخرج السوري أنس زواهري الذي نشأ في المدينة. ولهذا يضع عبارة عريضة في بداية الفيلم: “من جديد ها أنا في حمص، مدينتي القديمة، عائداً لئلا ينال النسيان مني، لأصنع لنفسي ذاكرة مما تبقى، فملأت الأشباح ذاكرتي”. نعم تغيرت المدينة وحين تسمع قصصها ستدرك حجم ما جرى.
فالفيلم يروي قصص عينة من أبناء حمص بلسانهم وماذا فعلت الحرب بهم وكيف تركتهم. وكأن زواهري أراد أن يكون جزءاً من الفيلم الذي لا يمكن التنبؤ بأثره على المشاهد ولكنه من المؤكد ليس بالقليل.
المكان حمص القديمة، البداية كاميرا ثابتة في المكان المشغول بالدمار مع حركة خفيفة للبشر كأنهم يسيرون في فلك هذا الدمار وبقايا الحرب الشاخصة، حيث يفرض الواقع ثقله على المشهد، فما زالت شواهد الحرب تنتصب، وما زال الخراب يسرق الأنظار رغم حركة الحياة على جوانبه. البيوت المهدمة والصور العائلية المرمية والتالفة في الأرض، الجدران المتصدعة والكنائس المحروقة والجوامع التي سقطت أحجارها، طرق أغلقت بالأتربة، مدينة الألعاب التي بقي منها القضبان فقط والساحات الخالية كل هذا الخراب يوحي بالأرواح التي غادرت وكأن أشباحها تسكنه.
تتجول الكاميرا في الشوارع لتقدم وجه المدينة، حيث يتجاور الدمار مع البيوت المسكونة، وتعيش بقايا الحرب مع الناس وتشاركهم المكان، السيارات المحروقة والدكاكين بواجهاتها المكسرة، مع بسطات الخضار الطازجة، واجهات الأبنية المخترقة بالرصاص، الشرفات التي هبط سقفها كأنها عيون أغمضت، ثم الغسيل على أخرى. يتجاور السواد والبياض والأبنية القديمة المهدمة والحجارة الأثرية مع بيوت الإسمنت كأن الموت والحياة جنباً إلى جنب في مشهد المدينة الذي جمع المتناقضات، حركة الناس في الشوارع والمقاهي الفارغة. يقول أحد السكان: “الحياة الاجتماعية باتت ممزوجة بالقهر والحزن والأشخاص يميلون للعزلة والوحدة” في إشارة لغياب الحياة الحقيقية. من المؤسف أن يتحدث الشباب عن سطوة الحزن في أعماقهم حيث كل شيء يأخذك إلى الحزن.
تتنوع الإجابات عن علاقة الناس بالمدينة والمكان. تقول فتاة إن علاقتها بالمدينة مضطربة فرغم حبها لها هناك أشياء أقل من عادية لكنها هنا غير ممكنة. تقول أخرى: “لم يعد لي أحد هنا لكنني أحب المدينة وبقيت لأقدم لها شيئاً”.
شكلت الحرب مفصلاً قاسياً في حياة الشباب الذين كانوا في بدايتها ليسوا أكثر من أطفال انتزعوا من طفولتهم على صوت الرصاص والقصف وفقدان الأمان وفقدان أحبتهم، فكان الجرح قاسياً. لقد غيرت التجربة حياتهم. تتوالى أصوات الرواة في الفيلم ويخبروننا عن تجاربهم و يعرون الوجه الوحشي للحرب التي يدفع الأبرياء فيها أثماناً باهظة لا يمكن استردادها. ولم يتوقف ذلك حتى بعد انتهاء الحرب التي أرخت على الحياة الجديدة بظلها بعد عودة الناس إلى المدينة التي غادروها مرغمين بسبب الحصار والاشتباكات المشتعلة حتى تم إغلاقها، إذ تغيرت الأخلاق والحياة والبشر.
تروي الفتاة كيف قُتل والدها بالخطأ لمروره في لحظة بدأ فيها تبادل إطلاق الرصاص بين الطرفين المتحاربين: (الجيش “النظامي”، والجيش الحر) ليجمع في جسده رصاصهما كأنه جسد المدينة/الوطن. وتستيقظ العائلة على فقدان الأب والمعيل وكأنهم جميعاً أصابتهم الحرب في مقتل لتحمل وهي في هذا العمر الصغير عبئاً ثقيلاً. أما الشاب فيروي قصة أخيه الذي خطف من قبل من كانوا أصدقائه قبل الحرب فكانوا سجانيه في حمص القديمة وحين تحرر اعتقل على حاجز الجيش بتهمة تشابه الأسماء وبقى مفقوداً يبحثون عنه حتى تم تسليم هويته لوالده مع شهادة وفاة موقعة قبل عام إذ مات “بأزمة قلبية” في المعتقل.
ما تعجز الكاميرا عن وصف فداحته يرويه الرجل الأعمى، اللقطة الثمينة في الفيلم، فكيف له أن يعبر عما تغير في المدينة وما حدث لها وهو الذي لا يرى، يعيدنا في حديثه إلى فترة العودة للمدينة بعد انتهاء الاشتباكات فيخبرنا عن رحلة العودة والفرح الذي غمرهم في الطريق إلى أن صاروا في قلب المدينة فمنذ أن اقتربوا من الساعة القديمة فيها وصولاً إلى الحي لم ينبس أحد بكلمة لكنه كان يسمع البكاء الصامت، وعرف أن المشهد أكبر من أن يروى.
لقد تخيل حجم ما يرونه، إذ كان أثناء الحرب يسمع صوت انهيار البيوت بعد تبادل القذائف، البيوت التي تطبق على نفسها. يروي وكأنه يلمس روح المدينة التي أنهكتها الحرب وذاك التعب الذي يهد الروح من حجر وشجر وبشر.
تستمر الحياة بعد الحرب لكنها لا تنجو. فقد ذهبت الحرب بأخلاق الكثيرين وشوهتهم خاصة أولئك الذين عاشوا في ظروف غير آمنة وغير صحية بالمرة. كما نرى في قصة الفتاة التي قُتلت أمها في ليلة العيد من قبل شابين مراهقين بهدف السرقة. تقول: :أنا واثقة أنهما لو طلبا المال من أمي لأعطتهما إياه دون تردد, لكنهما قتلاها من أجل مبلغ تافه”. هكذا صارت بلا بيت ولا أهل وحيدة لا تعرف ماذا ينتظرها.
حكاية الأم نموذج لكثير من الأمهات الحمصيات بل والسوريات اللواتي غادر أبناؤهن وتفرقوا تحت ضغط الحرب المشتعلة إلى بلاد الشتات. تحدثنا الأم كيف صار البيت فارغاً بعد أن كان يعج بأولادها وأصدقائهم، تنظر من الشباك وتجلس مع الذكريات تنتظر عودتهم، تقول إنها تتواصل معهم عبر الشاشة فتشعر كأنها تشاهد فيلماً وأن هناك شيئاً ناقصاً دوماً فما الذي يُشبع حضن الأمهات.
بين القصص نرى أعمال ترميم ويوميات الناس البسطاء الذين تابعوا العمل ليعيشوا وبعض الحرف التقليدية التي عادوا إليها بحثاً عن لقمة العيش بينما خيل إلينا أنها انقرضت.
هل نجا من بقي بعد الحرب؟
يقول أحدهم: بعد الحرب أسوأ من الحرب ذاتها والحياة غدت خانقة ومعطلة رغم أنها تمضي. يرافق ذلك صور المحلات الكثيرة المغلقة والأماكن الخالية والركام.
تقول الفتاة: صار اليوم الذي لا يحدث فيه موت، أو حدث قاس هو اليوم السعيد الذي نتمناه وكأننا ننتظر كل يوم النجاة من المجهول الذي قد يحدث.
يبدو الإصرار على انتزاع الحياة والأمل رغم كل شيء في حركة الناس وابتساماتهم العفوية وضحكة الأطفال. يقول أحد الشبان إن التاريخ يعلمنا ان لا شيء سيدوم، وإن التغيير قادم لكن على المستوى الفردي لا شيء واضح أمام الناس، ولا يعرفون ماذا يمكن أن يتغير في حياتهم الآن؟ وماذا ينتظرون؟
كان الصمت الموسيقا التصويرية للمشهد في كثير من الأحيان أما البداية فكانت موسيقا الخوف الذي يسكن الذاكرة تلك التي توحي بالرعب والأشباح ثم أصوات الحياة اليومية، وصوت الرواة، وصوت الأذان الذي يوحي بالسكينة. ثم ينطلق صوت أحدهم في غناء الموشحات الحمصية الأصيلة لتمتزج المشاعر المتناقضة التي يعيشونها ويعبرون عنها بين الفرح و الحزن الثقيل والكره والحيرة والغضب.
يشرك زواهري أشخاصاً من الشارع يقفون للصورة ويمرحون فأهل حمص عرفوا بمبادرة الفرح وبالنكتة الحاضرة، ويقدم أشخاصاً في عملهم يتحدثون معه ويروون عن حياتهم اليومية.
القصص في ملتقى هارموني الثقافي:
عانت حمص من الحرب مدة طويلة مثل كل المدن السورية وربما أكثر فقد بدأت شرارة الأحداث فيها. وتزداد الحاجة فيها للعمل المجتمعي الذي يعنى بالإنسان سواء الملتقيات أو النوادي التي تقدم نشاطاً نوعياً وفعاليات ثقافية تجمع الشباب لتأسيس بنى جامعة وعمل مشترك يحررهم من عبء الماضي و الشرخ الحاصل، وأمراضه النفسية بالاهتمام واكتشاف كوامن طاقاتهم وإمكانياتهم واطلاقها بحثاً عن أفق جديد.
يحاول ملتقى هارموني الثقافي أن يقدم فعاليات على هذا المستوى إذ كانت بعض القصص التي رواها الفيلم جزءاً من مشروع الملتقى بعنوان ما وراء الألوان، تجتمع القصص لتحكي بعض قصة المدينة وذاكرة جيل من الشباب يحاول الاستمرار رغم كل شيء، وليس بوحهم بهذه القصص سوى جزء من التحرر من التجربة، و محاولة البحث عن شفاء منها.
سبق ذلك التحفيز على كتابة القصص عبر ورشات كتابة ثم عرضها مكتوبة في المعرض السنوي للملتقى على شكل خيم إذ تحولت كل خيمة إلى عمل فني متكامل فإلى جانب كل قصة منحوتة أو لوحة رسمت من وحيها وصور غرافيك صممت لها ومعزوفة موسيقية أيضاً وبعض الأشغال المتممة للديكور، في محاولة لوضع الزائر في جو القصة، أراد الشباب أن يخبروا العالم عبر قصصهم عن تجاربهم المريرة فكانت بمثابة شهادة قدموها وعبر وضع اليد على الجرح الشخصي الذي لم يعد شخصياً أبداً.
نجح أنس زواهري في فيلمه بنسج هذه القصص التي عمل عليها الملتقى سواء في المعرض أو خارجه، مع حياة المدينة اليومية سينمائياً، واستقراء عيون الرواة، وهم ينقلونها بصوتهم وحركات جسدهم التلقائية وعفويتهم، إذ يتحدثون، يصمتون، ويبكون. وترتبك حركاتهم، وتتهدج أصواتهم وتذهب النظرات إلى البعيد.
يقال إن عين الكاميرا تقدم الصورة بشكل مختلف عن عين الإنسان فالمشهد الكامل تعجز العين عن الإحاطة به أحياناً لكن وأنت تتابع الفيلم وتسير معه في طرقات المدينة القديمة ترتبك ذاكرتك في التعرف على مدينتك وستتردد بالإشارة إلى الأماكن بالأسماء، ليس لأن الكاميرا تقدم المشهد من زاوية مختلفة عن ذاكرتك فقط، بل لأن الحرب غيرت كل شيء في الأمكنة دون أن تأبه. وهذا ما لخصه زواهري في العبارة الأولى التي أُخذ منها عنوان الفيلم الذي يتابع رحلته في المهرجانات.
على صوت الموشحات الحمصية تنسرب مياه العاصي بهدوء، كأن الحياة التي تمر دون أن تترك أثراً وكأنها ليست أكثر من هامش حياة.
تقف الفتاة التي كبرت أكثر من عمرها تحت عبئها الثقيل تتأمل وردة تفتحت وسط الخراب كأنها رسالة أخرى بلسان الشباب ولكن ليس للعالم بل إلى الحياة نفسها فما زال هناك ورد قد يزهر.
ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي والاجتماعي. حيث ولد ياسين الحافظ في عام 1930 بدير الزور السورية كما يروي هو في سيرته الذاتية، بل الأيديولوجية والسياسية، التي سطرها في كتابه: الهزيمة والايديولوجيا المهزومة.
عاش الحافظ في بيئة صحراوية عشائرية تقليدية، بقي تأثيرها عليه مدى الحياة، لكن اتصاله عبر والده بالشيخ محمد سعيد العرفي(1896- 1956)، مكَّنه من تجاوز تلك العشائرية، وكان ذلك أيضاً مناسبة للتعرف على إسلام سني نُزعت منه قشرته الصوفية – على حد تعبيره – وطُرِدت منه الخرافات، إسلام متزن، متوازن، بسيط إلى حد البداوة، وعلى استعداد للتصالح مع بعض منجزات العلم، وقد ساعده ذلك على الانعتاق الكلي المبكّر من التقليد العشائري، والانتقال إلى ممارسة سياسية حديثة، تتجاوز الممارسات السياسة القبائلية. وقد كان النضال ضد الاستعمار الفرنسي المدخل الأولي الذي قاده إلى ميدان السياسة، وبالتالي كان شغله وانشغاله منذ صغره يتعدى المصلحة الشخصية أو العائلية أو العشائرية، فكان الحافظ ممن أسهموا في بلورة التجربة الحزبية في دير الزور، بل في سورية والعالم العربي، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. (الحافظ، 1978، الهزيمة والايديولوجية المهزومة، ص6).
يُذكر على هذا الصعيد أن الحافظ انتسب إلى الحزب الشيوعي السوري عام 1955، ثم تم فصله منه بعد عام تقريباً بسبب انتقادات الحافظ للحزب، ثم شارك في صياغة المنطلقات النظرية لحرب البعث في مؤتمره السادس عام 1963، لكنه سرعان ما انشق عن الحزب وشكَّل ما عرف باسم حزب البعث اليساري، وقد انبثق عنه حزب العمال الثوري العربي 1965، وقد كان الحافظ أميناً للحزب حتى وافته المنية عام 1978. لم تكن التجربة الفكري لدى الحافظ وليدة تأمل فكري بحت، فقد تشكلت بنية الوعي لديه ارتكازاً على تجربة شخصية كانت بمثابة الحاضنة التي عملت على تفتق روائز الوعي التقدمي لديه، فموقفه من المرأة ومن مسألة تحررها التي تعدُّ – حسبما يرى – رائزاً ومحكاً لتحرر المجتمع وتقدمه ككل. هذا الموقف قد ساهم في إبرازه وتأصيله، ما عاناه الحافظ من التمييز بسبب العرق والدين، فوالدته، كانت أرمنية مسيحية، وسط بيئة تقليدية محافظة، فعانت ما عانت من تمييز ورفض مجتمعي، مما انعكس بشكل غير مباشر على الحافظ، فكانت مواقفه الفكرية مبنية على خبرة حياتية مريرة، لاسيما أنه تم سجنه لمدة عام تقريباً غادر على إثر ذلك سورية إلى لبنان ليمضي فيه بقية حياته. قضية والدته جعلت قضية تحرر المرأة في طليعة الأفكار التقدمية التي تبناها الحافظ، كذلك ساعدته في تجاوز الحدود الفاصلة بين البشر سواء أكانت عرقية أم دينية، الأمر الذي جعله منفتحاً على الآخر الغريب، وبالتالي كانت تجربته الفكرية والسياسية محكومة بهاجسين عميقين، وهما الديمقراطية الغربية والاشتراكية الشرقية.
فالتجربة السياسية للحافظ، كانت ذات طابع قومي فرضته وقائع الاستعمار الأوربي من جهة، وقضية فلسطين من جهة أخرى، ويتحدث هو نفسه عن هذه التجربة التي بدا بها راديكالياً ورومانسياً، وقد تمثلت راديكاليته بموقفه العدائي ممن تسبب في نكبة فلسطين، وهم الحكَّام العرب المتواطئون مع الاستعمار الذي مكن لإسرائيل احتلال فلسطين، أما مثاليته فكانت تتجلى بإيمانه بأن الحل يكمن في الإطاحة بالنخب الحاكمة واستبدالها بحكام أشبه بأنبياء صغار، فكان موقفه وأحكامه السياسية بادئ ذي بدء سطحية أو مسطحة، وقد استغرق هذا التسطيح قرابة عقد ونيف، حتى أدرك الحافظ أن الأزمة الحقيقة تكمن في العمق أو ما قبل أو ما تحت السطح، ويقصد بذاك الشعب؛ القاعدة العريضة لأي نخبة سياسية أو ثقافية. وبالتالي فالعيب ليس محصوراً بالنخب، بل يتسع لشمل المجتمع الذي أفرز هذه النخب، والمجتمع العربي بالذات هو المهزوم الحقيقي، وقد فاته اللحاق بموكب التقدم والحضارة، والفوات التاريخي مصطلح خاص بالحافظ، ويعني عدم اللحاق بالنهضة العصرية.
وقد ترافق هذا الانتقال الفكري السياسي من السطح إلى العمق –عند الحافظ – بانتقال اعتقادي من معتقد لآخر، فمن إسلام صوفي سطحي إلى إسلام عقلاني علماني متزن، ثم انتقال إلى معتقد جديد قوامه القومية العربية التي فرضتها القضية الفلسطينية، مع تلاوين يوتوبية، ما لبث أن انتقل إلى معتقد جديد وهو العقيدة الماركسية، دونما تجاوز كامل للقومية، فقد كانت ماركسيته متصالحة مع قوميته، كما يصرح هو: لم أعد قوماوياً بل قومياً (أو أموياً) وبالتالي لم تعد الأممية دعوة إلى تخل عن القومية، بل دعوة إلى فهم المصلحة القومية في سياق عالمي رحب وأكثر توازناً وواقعية، وأخيراً دعوة إلى تجاوز النرجسية القومية، وإلى تواضع في فهم الذات القومية… من هنا كنت على الدوام، وعلى درجة متفاوتة من الوعي، أضع الثورة القومية الديمقراطية في المكان الأول والأولي في سيرورة المجتمع العربي وتقدمه.” (الحافظ، 1978، الهزيمة والايديولوجية المهزومة، ص11-12).
ومن هنا كان الحافظ يدعو إلى تعريب الماركسية، أو تكييف الماركسية للأوضاع العربية الملموسة، ولم يكن يرى من تناقض بين القومية والماركسية، وأن كل ما يبدو من تناقض بينهما إنما مردَّه إلى الوهم، وما إن تجاوز الحافظ هذا التناقض حتى تفوقت ماركسيته على قوميته، وبدا المنطق الماركسي مُحكماً متسقاً، بينما بدا المنطق القومي العربي مفككاً ساذجاً. والحديث هنا عن الماركسية غير المؤسساتية وغير السوفيتية، التي انتقدها الحافظ على مدار سنوات، لكنه سرعان ما وجد نفسه ضمنها متجاوزاً نقده لها، في تناقض يبدو غريباً إلى حد ما.
وينتقد الحافظ منهج السياسات العربية، ويرى أنها إما سياسيات ثورية رومانسية أو واقعية محافظة. والنتيجة في كلتا الحالتين تكمن في النزوع المحافظ الذي يحكم الرؤية السياسية العربية. فالواقعية المحافظة تتنكر بالنتيجة للقوى الكامنة أو الممكنة لدى الأمة، ولذا تتجه تلقائياً إلى الخنوع والمصالحة، وبالمقابل فإن الثورية الرومانسية تجد نفسها بالنهاية عاجزة عن الفعل السياسي، فتقع إثر سلسلة من الإخفاقات، في نزوع يائس واستسلامي ومحافظ سياسياً. (الحافظ، 1997، التجربة التاريخية الفيتنامية، ص145) وينتقد الحافظ أيضاً الفكر العربي التقدمي بفرعيه القومي والماركسي، ويرى أنه ” فكر مستريح، بلا إشكاليات ولا هموم، لذا فهو متفائل، وهو متفائل لأنه فكر أيديولوجي، فكراني، يعيش مع نفسه لا مع الحقيقة الواقعية… الفكر القومي العربي الذي ما زال فكراً تقليدوياً في جوهره ( وبالتالي هو قوماوي وليس بالقومي) … وقد اختزل ( وبالتالي سطح) المسألة القومية إلى مسألة الوحدة العربية واستراح، في حين أن مسألة الوحدة العربية رغم أنها التتويج والمآل، تشكل جانباً من جوانب المسألة القومية، وتظاهرة من تظاهراتها.( (الحافظ، 1997، التجربة التاريخية الفيتنامية، ص132-133).
ويرى الحافظ أن ثمة عوامل عدة ساهمت في إفشال كل التجارب النهضوية، في بلادنا العربية، بما فيها التقدمية الماركسية، ومن بين تلك العوامل مثلاً عدم بزوغ ثقافة ليبرالية عربية حديثة، وعدم ولادة أنتلجنتسيا عربية حديثة ثورية، أضف إلى ذك أن الماركسية العربية قَدَّمت نفسها للشارع العربي كطبقة متعالية؛ وهي طبقة خواجات أو متخوِّجة، وهذا ما جعلها معزولة ومنبوذة، خلافاً للماركسية الفيتنامية التي شكلت حركة شعبية واسعة؛ لأن نشوؤها بالأساس كان قومياً لا محلياً. (الحافظ، 1997، التجربة التاريخية الفيتنامية، ص91-92). وليس كما الماركسية العربية، تحمل نفس الشعارات القومية والأممية، لكنها تمثِّل على الأرض نخبة معزولة من الأنتلجنتسيا. أدرك الحافظ الدور الذي يلعبه العامل الأيديولوجي في نجاح أو فشل أي تجربة ثورية، ومن هنا رأى أن الناصرية قد أخفقت؛ ليس لأنها برجوازية صغيرة، بل لأن أيديولوجيتها متأخرة ومحافظة، وتفتقر إلى وعي كوني تاريخي. لقد كان عبد الناصر فرصة تاريخية ضاعت على الأمة العربية، لأن الأنتلجنتسيا العربية والمصرية خصوصاً لم تكن تملك وعياً مطابقاً لحاجات التقدم العربي، لهذا فشلت التجربة القومية الناصرية.
وفي لبنان حيث كانت محطته النهائية، تعرَّف خلال تواجده هناك على أعمال المفكر المغربي عبد الله العروي (1933-1971)، وقد ساعدته تلك الأعمال على تجاوز الأيديولوجيا بمعناها التقليدي، كما ساعده العروي على وعي البعد التاريخي للواقع العربي، حيث كان العروي ينشد التاريخانية كأساس وحيد للتقدم العربي، وهذا التقدم لا بد أن يتم على خطى أوربية ليبرالية، فحاضر أوربا هو مستقبل الأمة العربية، ومن هنا ندرك كيف أن الحافظ جمع بين القومية والماركسية والليبرالية، برغم كل الواقعية والنقدية التي اتسم بها فكره. وهذا مصير كثير من الكبار الذين انتهوا إلى توليفة تجمع المتناقضات في أطروحة واحدة.
رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع أنصار العالم الافتراضي نقل إلا جزء يسير من الكتب المطبوعة ورقيا أو الصحف، للأسف حتى المكتبات الضخمة غير قادرة على جمع وعرض كل ما طبع.
من هنا كانت الأرصفة في دمشق المكمل الحقيقي لهذا العنصر المعرفي، ولا يمكن تجاهلها في أي مكان من العالم. فمن ناحية هناك تنوع كبير في ما تعرضه من كتب التي تشمل كافة ميادين الثقافة والعلوم والفنون، والأهم من ذلك هي أن بسطات الأرصفة هي المالك الوحيد للطبعات النافدة من السوق والإصدارات القديمة من دون أن تفعل ما تفعله بعض المكتبات إذ لا يوجد اصطفاف سياسي ولا قطيعة مع أي مؤلف، كما أنك تجد على الأرصفة كتباً خاصة بالجامعات وكتب الأطفال واليافعين وقصصهم التي قرأتها الأجيال السابقة من سوبرمان إلى تان تان، المواد التي لا تمكن مشاهدتها في المكتبات الأنيقة، لكنك تضطر لجمع أجزاء الكتب والمجلات من أكثر من مكان كما يحدث حين تريد اقتناء كتاب العقد الفريد.
قرار محافظة دمشق الأخير (يوم الأربعاء 16 تشرين الأول 2024) والقاضي بإزالة بسطات الكتب المتواجدة منذ سنوات تحت جسر الرئيس، المنطقة الأشهر لبيع الكتب، بذريعة تجميل المكان أثار حفيظة شريحة كبيرة من المثقفين والعاملين في هذا المجال حتى أن البعض وجه عبر منصة فيس بوك دعوة للتوقيع بالاسم والصفة لتوجيه رسالة مفتوحة إلى السيدة وزيرة الثقافة السورية ومحافظ دمشق فحواها “أنه بهذا القرار سِدت آخر رئة لتنفس هواء المعرفة، الهواء الذي يميز كل عواصم العالم من باريس الى القاهرة وبغداد وبيروت، وكأن مثل هذا القرار الجائر قدر دمشق كي تحتضر أكثر فأكثر”. وأشاروا إلى بسطات الرصيف المشهورة في تلك العواصم ومن أبرز الأسماء التي وقعت على هذه الرسالة المخرج السينمائي محمد ملص، والروائي خليل صويلح، والكاتب والمخرج المسرحي سامر محمد إسماعيل والشاعر أوس أسعد وآخرون كثيرون.
أبو طلال، المحارب القديم المتقاعد، الذي بحث عن عمل يحقق له دخلاً مادياً وسعادة لا يرى أن المقاطعة الثقافية التي صنعتها الحرب وغياب الإصدارات الجديدة مشكلة فمن وجهة نظره هناك الكثير من الكتب المهمة والقيّمة التي تستحق القراءة، والتي لم نطلع عليها بعد. وهناك كتب قيّمة، لا يمكن أن تجدها في أهم وأشهر المكتبات السورية، لكنها متوفرة في بسطته بأسعار زهيدة مقارنة بأسعار الكتب الجديدة التي صدرت خلال السنوات الماضية. أضاف بنبرة جازمة: “لا تمكن المقارنة بين أمهات الكتب وكتب التنفيعة التي تصدرها الجهات الرسمية أو بعض دور النشر الخاصة”، وهناك الكثير من الكتب التي يرفض شراءها، أو وضعها ضمن المجموعة التي يقتنيها، لكنه يعتب على بعض الأشخاص الذين ينظرون إلى مكتبة الرصيف بتعال خاصة من أطلق عليهم اسم (البروليتاريا الجديدة)، كما انتقد الحكومة التي رفضت ترخيص أكشاك خاصة لبيع الكتب مثلما فعلت مع أكشاك بائعي التبغ ومشروبات الطاقة. واعتبر قرار إزالة البسطات جائرا بحق باعة الكتب والمواطن غير القادر على اقتناء نسخة جديدة بسبب ارتفاع سعرها بينما بقيت بسطات حمالات الصدر الصينية والثياب المستعملة وورق اليانصيب التي لم يطالها قرار تجميل المكان.
عماد، بائع الكتب الرصيفية، يؤكد أنه كان يعيش وعائلته من مهنة بيع الكتب والصحف والمجلات لكن الحرب السورية دمرت بيته الذي كان مخزنا لما يزيد عن خمسة آلاف عنوان في منطقة دوما وهو اليوم يضع كمية محدودة من الكتب والمجلات القديمة ونادرا ما يجد طالبا لها. يقول: “المجلات القديمة أهم من المجلات المطبوعة حديثا، بالنسبة لي لا يمكن أن أقارن مجلة شعر أو الآداب مع ما يأتينا اليوم. إن القيمة الثقافية مختلفة ومضمون النص أهم”. أما عن قلة الكتب لديه فقال: “كان عملنا خلال الحرب أشبه بعمل أي محل مجوهرات، يعرض علينا أن نشتري مجموعات من الكتب وموسوعات أكثر مما يطلب منا كتاب، مجموعات فاخرة، تجليد فني، وأسعار زهيدة، لكن لا أحد يسأل عنها (الجمل بليرة وما في ليرة). المهتمون بالقراءة والمثقفون مفلسون”. وفيما يخص القرار الأخير أعلن أن مورده المادي توقف بشكل كامل.
تحت جسر فكتوريا يفاجئك أبو مهيار (محمود بوكس) كما يسميه أصحاب البسطات المجاورة له فهو ليس مجرد بائع كتب مستعملة بل يمكن أن تطلق عليه اسم (غوغل) فما أن تسأله عن كتاب حتى يعطيك شرحا وافيا عن محتواه وعن مؤلفه ولمحة عن الكتب التي صدرت بخصوص هذا الموضوع، ويرشدك ماذا يجب أن تقرأ ولماذا، لتكتشف بعدها أنه خريج كلية الآداب قسم اللغة العربية. وما يميزه عن أقرانه هو أن لديه خدمة التوصيل، واللافت أنه يتسوق كتبه من البسطات كأي مقتن للأشياء القيمة، ويواظب على حضور معارض الكتاب في سورية ولبنان. الأرشيف الذي يمتلكه يضم مجلات كروز اليوسف، والآداب، ومجلة شعر ومجلات أخرى مختصة في المسرح والسينما والصحف التي تعود لعام ١٩٢٠. أما ثروته الحقيقية (مكتبة المنزل) التي كانت تحتوي على خمسة عشرة ألف كتاب فقد التهمتها الحرب مع ابنه ومنزله بالكامل. أبو مهيار متمسك بمهنته ويرفض الهجرة خارج البلاد. يضحك قائلاً: “صار بيع الكتب مثل الدعارة، أو بيع الدخان المهرب. يجب أن تتواصل مع القارئ على الهاتف وتعطيه موعد بالخفاء وتنتبه من أن يراك أحد فيصادرون الكتب”.
أكثر ما يثير شجونك عناوين الكتب التي لن تراها بعد اليوم فقرار الإزالة بدأ ومن لم يجمع كتبه ويرحل تقوم الجرافة بتجريفها كأية أنقاض أو قمامة. ولم يعد بإمكاننا لوم أبي حيان التوحيدي على حرقه لكتبه، ولا لوم الداراني الذي ألقى بمؤلفاته في التنور.