بواسطة أسامة إسبر | فبراير 10, 2023 | Cost of War, Poetry, العربية, غير مصنف, مقالات
(شذرات وأقوال)
-١-
من يتطوعون لإنقاذ الآخرين، ويهرعون إلى نجدة الضحايا والمحتاجين، هؤلاء هم أبطال الحياة الحقيقيون. الضوء الذي يتوهّج من أيديهم يعري رجال السياسة ورجال الدين والكذب الذي صار الروح المحركة لوجودنا.
يندفع الأبطال وسط الأنقاض غير آبهين بالخطر كي ينقذوا حياة الآخرين لأنهم يعرفون قيمة الحياة الإنسانية، ولهذا يحق لهم أن يقودوا المجتمع لأنهم بتطوعهم يعلموننا درساً عظيماً في السياسة ألا وهو أن المهمة الإنسانية الأنبل هي إنقاذ الإنسان من كل ما يستهدف وجوده وإنسانيته، في وقت تعمل فيه كل السياسات العربية على تحويله إلى رقم خاضع ومدجن.
-٢-
حين تنشبُ الحرائق ولا نقدر على إطفائها، حين تضربُ الزلازل ولا نقوى عن رفع أنقاضها، حين تتمدد الحروب ولا نستطيع احتواء نتائجها، حين يُخْترق الفضاء وتُقْضم قطع من الأرض ويُعاد رسم الخريطة ولا نجرؤ على رفع رؤوسنا، ألا نستطيع التساؤل: لماذا عجزنا على امتداد أكثر من نصف قرن عن بناء مؤسسات تكون جاهزة للعمل في اللحظة التي يتعرض فيها الشعب لخطر وجودي؟
-٣-
أحزاننا تفيض كالينابيع وقلوبنا مقهورة. أعيننا تفتش الأنقاض بحثاً عن أية علامة، وآذاننا تصغي. لقد دُفنت البيوت تحت الركام، البيوت المنكوبة، البيوت المهزوزة والمردومة والتي تبدو كفلول جيش من الإسمنت محطم ومهزوم.
-٤-
تغزونا صور الأنقاض: أنقاض مدن دمرتها الانفجارات ثم جاء زلزال كي يضع ختمه على الفاجعة، لكن النبل الإنساني يتجلى في أوقات الكوارث لدى من يعرف أن الضحايا أينما سقطوا على الخريطة، وكيفما كان شكل قتلهم، هم أعضاء بُترت من جسده، وصورهم تسكن في قلبه وتظل حية فيه.
-٥-
لي أصدقاء في أنطاكيا، وفي كل المدن المنكوبة، منهم من عاش ومنهم من لا أخبار عنه.
قال لي صديق من أنطاكيا على الهاتف: لقد متُّ وانبعثتُ إلى الحياة. وبوسعك أن تقسم حياتي الآن إلى حياة قبل الزلزال وحياة بعده.
-٦-
مات صديق لي في جبلة تحت الركام هو وزوجته، حين رُفعت أنقاض البناء الذي كان بيتهما فيه وجدهما رجال الإنقاذ متعانقين. هذا العناق، هذا الحب وسط الكارثة، زرع روحاً جديدة في حياتنا تهزم الموت، وهذا ما نحتاج إليه كي ننقذ أنفسنا.
-٧-
العنصريون ينمون كالفطر في العالم، وثمة كثيرون يمارسون العنصرية حتى دون أن يعوا ذلك في طريقة استخدامهم للغة. هناك عرب يعيشون في أمريكا أعرفهم شخصياً يطلقون على السود اسم العبيد دون خجل. وثمة في تركيا من يحتقر الناطقين بالعربية، ووصل الأمر إلى جرائم قتل ضد السوريين، وتجاهلهم تحت الأنقاض.
في أوقات الكوارث لا تخبو نار العنصرية، ويصبح إنقاذ الآخرين من الموت معتمداً على مرتبتهم القومية. إن هذا النوع من العنصرية الذي ينتشر بيننا وبين شعوب كثيرة مجاورة دليل على أن الحجر قد يكون أفضل من الإنسان أحياناً، كما قال أبو العلاء المعري:
أفضل من أفضلهم صخرة
لا تظلم الناس ولا تكذبُ.
-٨-
إلى طفلة عُثر عليها حية تحت الأنقاض:
كان وجهكِ عينين فقط، رأيتُ بهما كيف اتخذ الموت شكل الأنقاض.
كان الموت أيضاً أجسادنا التي تقف بعيداً وتتفرج
غير قادرة على فعل أي شيء.
-٩-
بعد الموت عصّة قبر، قال كثير من السوريين.
بعد الموت يعضّك القبر،
يسحق صدرك، يفتتك، يخلطك بالتراب.
إلى حياة محاصرة،
إلى حياة من الفقر والضيق والنزيف
في خريطة أدمتها الحرب والتهمت قطعاً منها
سكانها على حافة الهلاك
أتى الزلزال ليوقّع لوحة تحمل اسم:
الموت لا يأتي بالتقسيط.
-١٠-
الذين نسُيوا تحت الأنقاض،
جرح لن يندمل في الذاكرة،
سينزف كلما تذكرنا ما حدث.
-١١-
رائحة الموت تفوح بين الأنقاض.
جندريس،
على أطلالك لا تعرف العين أين هي
أو إن كانت عمياء أم مبصرة،
والشاشة التي تعبر فوقك ليست صهوة.
جندريس،
فوقك كان الفراغ يجهش بصوت الريح
والسماء تبكي وتذرف قطرات المطر.
-١٢-
حلب،
عمارات كثيرة مضعضعة.
الشقوق في الجسد الإسمنتي
جراح في الأجساد
طعن في الأرواح.
المدينة مثخنة بجراح وكدمات غيرت ملامح وجهها.
لكن لها جذوراً في القلوب لا تتوقف عن النمو.
حلب،
زائر آخر في مطلع الفجر
يُركع المدينة
ويكسر عظماً آخر في ظهرها.
-١٣-
جبلة\اللاذقية
كان المطر غزيراً،
الظلمةُ تسيل داخلة من النوافذ المحطمة،
والبَشَرة تتجلد.
كان البحر خريطة مطفأة
والجبال تندب أشجارها.
فوق أنقاض بيوت هدمها الزلزال،
كانت الريح تخمد الأصوات
وهي تحملها بعيداً.
-١٤-
إن قدرة الدول سواء الكبرى أو الصغرى على تدمير الحياة أعلى بكثير من قدرتها على الحفاظ عليها وحمايتها.
تمارس الدول الكبرى فحولتها باستعراض عضلاتها العسكرية من خلال صواريخها الفرط صوتية وطياراتها الشبح أو المسيرة ورجالها الآليين وقنابلها وقاذفاتها الاستراتيجية. بضغطة واحدة على الزر تتغير مصائر وتولد مراحل جديدة، وفي هذا السياق تتحول الثقافة المكتوبة والمنطوقة إلى تعليق على السياسات القاتلة التي هي توأم للزلازل.
الطبيعة تقتل من دون عقل، فيما العقلُ البشري يوظّف نفسه في خدمة القتلة. إن نظرة فتاة مأسورة بين الأنقاض تخترقنا وتصل إلى تلك النقطة من تحللنا الإنساني ككائنات للتنوير، زعمت مرة أنهم امتداد لله.
إننا الآن صفر ممتلئ بنفسه حتى التخمة وملغم في كل أطرافه وعلى وشك الانفجار وتفجير الكوكب.
-١٥-
ليست الزلازل من يدمّر ويقتل فحسب. إن من يمهد الطريق لفتكها الأشدّ مهندسون يمررون كرة الخديعة كي يسجلوا هدفاً في مرمى الفقراء، ومتعهدون لاعبون في فريق الخداع نفسه، وقضاة تصطبغ ثيابهم بالدم، ومحامون ينحازون إلى صف المجرمين.
-١٦-
مدننا مصابةٌ بأمراض مزمنة، أحدها التورم الخرساني السرطاني القائم على أسس واهية، ولهذا نشعر أننا نعيش معلقين في الفراغ، ودوماً على وشك السقوط.
-١٧-
لا توجد إنسانية صرفة تجمعنا على ما يبدو، حتى المساعدات للمنكوبين تحت راية ما يُسمى بالتدخل الإنساني يُشاع أنها تتم داخل معادلة: معي أو ضدي.
-١٨-
ينهار البناء كأن تدميره مدروس. يتقوض بعينه ضمن دائرته الهندسية كأنه اختير كي يُدمّر، ويتداعى ساقطاً لوحده على من فيه، كما لو أن الزلازل تقصف بصواريخ موجهة. هل هذه مصادفة؟ أم أن الموت ينتقي؟ أم أن العشوائية العمياء والمدمرة تأخذ أحياناً شكلاً منطقياً؟
-١٩-
نخسر أصدقاء مقربين وأشخاصاً لا نعرفهم، ونعلن تضامننا مع الذين علقوا تحت الأنقاض. إنهم ينتظرون تحت إسمنت وجودنا المفتت، تحت أنقاض حياتنا اليومية، عالقين هناك والأمل بأن تُفْتح فجوة ويبزغ ضوء وتعاود الحياة وصل شرايينها المقطوعة يحوم فوق المشهد كطائر مذعور.
-٢٠-
سكنتُ في غرف وشقق في دمشق كانت كلها على القائمة السوداء للزلازل. هزة خفيفة في قشرة الأرض كانت كافية لتحويلها إلى أنقاض، فتخيلوا الأمر إذا حدثت هزة قوية. لا شك أنها ستتحول إلى ذرات لامرئية في ريح الدمار. نعيش حياتنا دوما على شفا جرف هار، ونتوهم أننا سعداء.
-٢١-
لا حاجة للتنبؤ بالزلازل وبوقت حدوثها وبالجدل الذي لا طائل منه. ما نحتاج إليه هو مهندسون يبتكرون حلولاً معمارية لمواجهتها وسياسيون يؤمنون بأن هدف السياسة هو خدمة الإنسان، وبأن توزيع الثروة والحياة الكريمة والمنزل الآمن والحرية والدخل الكافي وجواز السفر المحترم هي البنود الأساسية على أجندتهم الانتخابية.
بواسطة طارق علي | فبراير 9, 2023 | Cost of War, Poetry, Reports, العربية, غير مصنف, مقالات
لا يدري المرء ماذا يكتب عما حلّ بسوريا فجر السادس من شباط الجاري وتالياً، بدا الأمر كمزحة سمجة في ثوانيه الأربعين الأولى، فجأة اهتزت مدن بأكملها، أبنية، منازل، حجارة، أشجار، والكثير من الأرواح.
أرواحٌ كانت حتى الأمس القريب تتحمل شظف العيش وتكابده قهراً لتذلّه قبل أن يذلّها بلقمة عيش صار الحصول عليها صعباً، مريراً، أليماً، كليماً. فصار السائر من منزله إلى الخارج بغية الحصول على مالٍ يعينه ليسد رمق أسرته كمن يسير في حقل من الأشواك البرية، حتى حقّ في السوريين جمعاً هذه المرة، ما قاله الشاعر السوداني إدريس الجماع يوماً: “إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه، ثم قالوا لحفاةٍ يومَ ريح اجمعوه.”
وما أكثر أيام الريح على الخارطة السورية، ما أكثرها وما أعنفها وما أعتاها، ولكن من كان يتوقع أن تتآمر الطبيعة عليهم أخيراً، بعد اثني عشر عاماً من القصف والدماء والدمار، من كان يتوقع أنّ الأسوأ لم يأت بعد؟.
جاء الأسوأ حقاً حين توقفت عقارب ساعة حياة آلاف الضحايا عند الرابعة وسبع عشرة دقيقة فجر السادس من شباط، من إدلب المكلومة، إلى حلب الحزينة، فاللاذقية الجريحة، وابنتها جبلة الثكلى، إلى طرطوس وحماه.
لأول مرّة في الحرب السورية يجد السوريّ حدثاً أكبر من تحزباته السياسية جعل الجميع في الموت سواسية، وأي ميتة؟، تلك الميتة التي يسمع قبلها استغاثات ضحاياها من تحت الركام.
جاءت المأساة لتقول إنّ الإنسانية حين تنبري لتدافع عن جراحها تكون أقوى من ألف منطق أوجدته الحرب وعززته وكرسته، أصوات تعالت من إدلب تسأل عن حال ضحايا الداخل السوري، وأصوات أخرى من الداخل السوري كسرت حاجز الفراق وسألت عن إخوانهم في إدلب.
بيد أنّ التضامن كان ناقصاً، فأرقام الوزارات المعنية في سوريا أشارت لعدد ضحايا الداخل فقط، وأرقام المعنيين في إدلب أشارت لضحايا الشمال السوري فقط، فبئس أيام صارت فيها سوريا داخلاً وخارجاً، قاتلاً ومقتولاً، كارهاً ومكروهاً.
الناس لبعضها
ليس من السهل الحديث عما جرى، هي أيام عصيبة على السوريين، أيام قاهرة مسكونة بآلام كبيرة، 300 ألف شخص خرجوا من منازلهم في حلب واللاذقية وجبلة وحماه، 300 ألف شخص فتحت لهم الشوارع صدرها رحباً تحت سماء معاندة شاءت أن ترسل غيومها أمطاراً وثلوجاً لتزيد معاناتهم.
ولكن السوريين رفضوا مبيت إخوانهم في العراء، فهبّوا على قلب رجل واحد يتداعون لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض، لإطعام المنكوبين، لتدفئتهم، لإيوائهم، من درعا إلى الحسكة، مروراً بكل محافظات البلاد.
ليس على سبيل المبالغة القول إنّ عشرات الحملات الأهلية تم تنظيمها بجهود ومبادرات فردية وجماعية من المجتمع المدني الذي أثبت نفسه كفاعل حقيقي قادر على القيام بمهامه وإن كانت تطوعية.
حملات من كل المدن جمعت ما تيسر من أدوية وطعام وأغطية وخيم وخلافه وتوجهت بها إلى المناطق المنكوبة، وفرق أخرى قوامها ممرضون وأطباء وصحيون، وفرق ساهمت ولا زالت برفع الأنقاض، كل ذلك إلى جانب عمل الهلال الأحمر السوري وبقية المنظمات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية والتي يدعمها جميعها استنفار واسع للقوات العسكرية.
إلى جانب كل ذلك استمر سيل الدعم الذي وصل ويصل تباعاً من دول عربية وغير عربية للمرة الأولى منذ بدء الحرب في سوريا، في خطوات وصفها ناشطون بـ”كسر الحصار”، ليتزامن هذا الـ “كسر” مع وسم تداوله الناشطون بكثرة يدعو لرفع العقوبات الغربية عن سوريا لتسهيل وصول المواد الأولية اللازمة للإغاثة. وعلى حد وصفهم تركيا حصلت على أضعاف ما حصلت عليه سوريا من مساعدات، رغم أنّ سوريا بطبيعة الحال تعيش حالة نكبة مستمرة منذ أكثر من عقد، حالة أدت لتخلخل ودمار البنية التحتية.
وكان قد نشر هيثم مناع الناشط والحقوقي، الرئيس السابق لهيئة التنسيق المعارضة في الخارج، بياناً من جمعيات ومنظمات مدنية وحقوقية عددها 47 طالبت جميعها برفع الحصار والعقوبات عن سوريا، وجاء في البيان: “نطالب برفع العقوبات فوراً عن سوريا والسماح بإمدادها بجميع المواد وبالوصول إليها من أجل أن لا تتحول هذه العقوبات إلى جريمة ضد الإنسانية، وتسهيل عبور قوافل المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة عبر المعابر الحدودية مع سورية، إضافة إلى السماح بجمع التبرعات المادية والعينية وإيصالها للمناطق المتضررة.”
أين المساعدات؟
اعتباراً من اليوم الثالث لما بعد الكارثة بدأت ترتفع أصوات كثيرة تسأل عن المساعدات، وهل هي فعلاً وصلت لمستحقيها؟، وإن كانت وصلت فعلام أُسر كثيرة لا زالت في الطرقات بلا مأوى أو بدون غذاء وأغطية.
وفي هذا السياق فقد انتشرت قصة “مختار قرية اسطامو” المنكوبة في ريف اللاذقية، والذي اتهم من قبل عشرات الأشخاص بسطوه على المعونات التي وصلت إلى القرية، مطالبين بمحاسبته على الفور بذريعة استغلال النكبة.
ورد المختار على الاتهامات بالقول: “استلمت من رئيس بلدية قمين ٥٠ حصة غذائية مؤلفة من معلبات اضافة الى ٥٠ بطانية و١٠ وسائد، و٣٠ حصة تفاح مغلفة، و٨ كراتين إندومي، و١٠ كراتين أقراص عجوة، و١٣ شرحة خيار وبندورة”.
وأضاف “بحسب التعليمات فإن المساعدات مخصصة للمتضررين الذين خرجوا من منازلهم، وذوي الضحايا، لكن ما حدث هو أن الجميع كان يريد المساعدات وهذا أمر خارج عن إرادتي ولا أملك سوى تنفيذ التعليمات”.
تدخل عمرو سالم (وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك) على خط هذه القضية سريعاً مبيناً وجود مختارين في المنطقة، وكلاهما وزع تلك المعونات لأقاربهما فعلاً (غير متضررين)، مؤكداً أنّه تم حل المشكلة وإيصال المساعدات إلى مستحقيها.
قد تبدو قضية المختار ثانوية في حدث كهذا، ولكن فعلاً بدأ القلق يساور السوريين عن مصير المساعدات، خاصة أنّ الكميات التي جمعت داخلياً وخارجياً، تكفي على حد تعبيرهم- لإيواء كل متضرر بشكل تام، وقد يبدو هذا حقيقياً من حجم القوافل الداخلية والطائرات التي وصلت من الخارج.
وفي هذا الإطار يقول الصحفي بلال سليطين: “أنا أثق بـ ٩٩ بالمئة من العاملين على الأرض من جمعيات ومتطوعين في سوريا لمواجهة أضرار الزلزال ومساعدة الناس، ومن ليس له ثقة بهؤلاء هذا حقه لكن إذا كان حقاً يريد المساعدة يمكنه أن يثق بعائلته ويقدم المساعدات عن طريق أهله لكي يسلموها مباشرة للمحتاجين”.
ويشير سليطين لوجود أخطاء إلا أنّ معظمها ناتجة عن سوء التنظيم وقلة الخبرة: “لكن حجم العمل الإنساني والتعاضد واندفاع الجمعيات والمتطوعين بكبرو القلب”.
وتصف المهندسة لمياء أحمد من اللاذقية الوضع بالمأساوي والحزين وغير المقبول، وفي ذات الوقت تتهم معظم الجهات بالتقاعس.
وتشرح: “اسمحوا لي عبركم أن أوصل هذه الرسالة، ليس فقط حول إيصال المساعدات، ولكن عن الذين يلهثون لأخذها، نعم أفهم ظروف الناس الصعبة ولكن هذا ليس وقتاً مناسباً لنقاسم المنكوبين رغيف خبزهم، أقسم أنّه ثمة العشرات يصطفون على الدور ليأخذوا معونة وهم أصلاً غير متضررين أو منكوبين”.
تتابع أحمد حول مشاهداتها مؤكدةً أنّه ثمة أسر لغاية نهاية اليوم الثالث ما بعد الكارثة تنام على الأرض دون مأوى أو اهتمام، منوهةً في الوقت ذاته لضرورة الانتباه من الأفراد أو الجمعيات التي ستستغل هذا الحدث لتسوق لنفسها.
بدوره يرفض المحامي مفيد نصرة من جبلة ما ساقته المهندسة أحمد، معتبراً أنّ مدناً بأكملها منكوبة ولا يمكن استثناء أحد من حالة الجوع القائمة، وخاصةً أنّ الزلزال عززها إذ عطل الحياة والمهن واليوميات بشكل شبه تام، يقول: “المنازل التي لم تسقط على الأقل تصدعت وحال الكثير منها خطر ولجان الهندسة في حالة شبه عدم استجابة”.
ويبين نصرة أنّ لديه أخاً يعمل مياوماً وبسبب هذا الظرف هو لا يملك مالاً لإطعام أطفاله: “هذه نكبة شاملة أصابت كل العوائل رغم نسبية الأمر أحياناً”.
وفي الأثناء تداول سوريون على نطاق واسع قائمة تضم أسماء شيوخ خمسة جوامع معنية باستضافة المنكوبين متهمين إياهم بسرقة المعونات وإساءة معاملة الناس وعدم تأمين شروط تليق باستضافتهم. لم يتسن لكاتب التقرير التحقق من هذه المعلومة، التي انتشرت متزامنة مع عشرات المعلومات والبيانات والتنويهات والمنشورات التي تتهم أشخاصاً بعينهم أو بما يمثلونه من سلطة بالتقصير وسرقة المعونات.
وبحسب المحامي أحمد معروف من حلب فإنّ سرقة المعونات تندرج تحت مسمى سرقة خلال النوائب، فهي سرقة عقوبتها مشددة، حسب المادة 627 من قانون العقوبات. وقد تصل العقوبة حتى 15 سنة حبس.
وفي هذا الإطار يتضح اتجاهان: الأول هو الدور “الجبّار” وغير المسبوق للمجتمع المدني، والثاني هو بعض ضعاف النفوس الذين استغلوا الكارثة، وعموماً هذا ليس غريباً في بلد أفرز من أمراء الحرب ما أفرزه خلال السنوات العجاف الماضية.
في الأسباب
قلّة الخبرة وضعف التنسيق أفضيا لحالة من الفوضى الشاملة في التعامل مع الحدث، وبافتراض النيّة الحسنة لجميع العاملين، إلّا أنّ هذين العاملين أديا لتشتيت الجهود باتجاهات عدة، جعلت عائلات بأسرها حتى الساعة تنتظر معونةً أو إيواءً.
وعلى الرغم من أن المئات أعلنوا فتح بيوتهم لاستقبال المنكوبين، إلّا أنّ الفوضى عينها هي ما حكمت الأمر، فقلّة أفادت قلّة، على اعتبار أنّ المعونة لم تصل بالضرورة إلى الأكثر حاجةً.
يبقى أنّ سوريا المدمّرة، المهدمة، كبُرت اليوم بأولادها، أولادها الغلابة الذين قدموا كل ما يستطيعون من تبرعات نجدةً لإخوتهم، وقد تكون الحالة الأكثر لفتاً هي تلك التي تبرعت لـ “مشروع أحمد الإنساني،” وهو مشروع طبي ناشط خلال الأزمة السورية وتطوع في عمليات الطبابة إثر الزلزال، فبحسب منشور لهم على صفحتهم الرسمية في فيس بوك، جاء إليهم رجل وتبرع بـ “جاكيت” وحيد يملكه وكان يرتديه.
بواسطة ناظم مهنا | فبراير 3, 2023 | Roundtables, العربية, غير مصنف
” الحرب تحررنا من الوهم”
فرويد
أحد عشر عاماً من الحرب، إنها حقبة زمنية، كفيلة بأن تفرض سلوكاً وأخلاقاً وثقافة جديدة على الكائنات التي تعيش على تماس مباشر مع الحرب وما يتمخض عنها، أي الإنسان داخل سورية بشكل خاص. مع التأكيد على أن جيلاً من شباب اليوم قد شبَّ مع الحرب، هؤلاء يطلقون عليهم شعبياً صفة: “أولاد الحرب” لهؤلاء سلوك خاص ونمط حياة يختلف عن المألوف.
بعد كلِّ هذه السنوات من الدمار المادي والنفسي، والهجرة الخارجية والداخلية، تشكلت في المدن الكبرى تجمعات من المهاجرين الذين جعلتهم القرابة واللهجة والزي والثقافة البيئية يكونون شكلاً من أشكال )الغيتو (المغلق أو المندمج نسبياً في أحياء فقيرة في المدن و حول المدن.
في السنوات الأخيرة، أي منذ قرابة الثلاث سنوات تراجع الحديث عن جبهات القتال ونقاط التماس حتى صار قسم كبير من الناس يكاد لا يبالي بها، ولا بما يجري من معارك أحياناً في شمال سوريا أو مناوشات في الجنوب السوري. ربما اعتاد الناس هذا الإيقاع الإخباري الممل الذي لا يحمل أي جديد، إنها المراوحة في المكان التي لم تعد تستحق عندهم حتى أن يلتفتوا إليها، وكأن الحرب قد استقرت على ما هي عليه، وما حدث قد حدث، ومن المفارقات أن النتائج الكارثية التي ترتبت عن الحرب، تمَّ القبول بها على انها أمر اعتدنا عليه، فانقطاع الكهرباء الطويل، قال لي أحد سكان دمشق عنه: لو أنهم ينظمون الانقطاع حتى نعرف أن نتكيف مع هذا الانقطاع. حتى غلاء الأسعار والفساد الإداري يريد قسم كبير من الناس أن تتدخل المؤسسات الحكومية لوضع ضوابط له، أو بالأحرى يريدون أن يشعروا أن الدولة تحسُّ بهم حتى ولو لم تفعل لهم شيئاً نافعاً، حتى بات يُخشى أن يكون كل هذا الخراب، والسلوك الغريزي المنفلت أصبح أمرا مألوفاً يمكن المساكنة معه وقبول مساوئه!
لقد كشفت سنوات الحرب عيوباً كثيرة وأوهاماً كثيرة أيضاً، وتبين أن أنشودة التناغم والانسجام الوطني لم تكن حقيقية، وسرعان ما انكشف رأس جبل الثلج وانفك عقد هذا الانسجام، ليتبين أننا داخل هذا الوطن الصغير مجموعات متنافرة متهادنة؛ طائفية ومذهبية وعرقية ومناطقية وكل شيء يذهب إلى التفتيت! ولكن لحسن الحظ أن قسماً كبيراً من السوريين، مثلهم مثل كل الشعوب، لا يحبون الحروب، ولا يحبون حمل السلاح، ولا يتأثرون كثيراً بالميديا، ولا يحبون أن يهاجروا أو يغامروا قاطعينً البحار في قوارب الموت، هؤلاء كثيرون وهم الباقون الآن في الداخل السوري تحت إدارة الحكومة، يعانون من آثار الحرب التي فتكت بأولادهم ودمرت مساكنهم وممتلكاتهم، ويعانون اليوم من الحصار الدولي الجائر واللاأخلاقي والمحكم جدا والمفروض عليهم! ويعانون من مافيات الفساد المحلية الأخطبوطية التي لا تقل فتكاً وشراسة من أطراف الحرب، ويعتقد قسم كبير من الناس أن هذه المافيات ليست فقط أنانية وجشعة تبحث عن مصالحها، بل هي مجرمة وخائنة. وهذا ما يقوله الناس العاديون في المقاهي أو حتى في أماكن عملهم وفي منازلهم.
لقد فرضت الحرب حالة استقطاب حادة جداً بين السوريين؛ مؤيد ومعارض، سوريين في الداخل وسوريين في الخارج، وسوريون تحت سيطرة الحكومة الرسمية، وسوريين تحت سيطرة المعارضين، تحت رايتين وسلطتين، وكل طرف أو فصيل من المعارضين له حلفاؤه وممولوه الإقليميون والدوليون، كما للحكومة حلفاؤها الإقليميون والدوليون! وهذا )الستاتيكو (القائم منذ سنوات، قد يستمر لسنوات! لكن ما لبث الناس في الداخل والذين يعيشون آثار الحرب والمعاناة مع الفساد ومع الحصار أن انقسموا عمودياً من الناحية الاقتصادية بين من يملكون ومن لا يملكون قوت يومهم، وتشكلت شريحة من أثرياء الحرب البطرين، والذين لا يعانون من أي حصار ولا ينقصهم شيء بل يعيشون في خيلاء، ويستهلكون أحدث وسائل الترفيه التي لا تتوفر حتى لأثرياء العالم الرأسمالي!
وهناك شريحة أخرى من المواطنين الذين يتلقون التحويلات الخارجية التي تصلهم من أولادهم أو أقاربهم، هؤلاء يترفهون وينعمون بنمط من الاستهلاك والوفرة التي تزداد نهماً كنوع من غريزة الحياة في مواجهة غريزة الموت. ولكن القسم الأعظم من السوريين، لا يصلهم تحويلات من الخارج ولا من الداخل، ولا يملكون شيئاً ويعيشون في أقصى حالات البؤس والحرمان والقهر، ويبدو أن الدولة التي يلوذون بها وكانت تشكل لهم أملاً وحماية لم تعد قادرة على القيام بواجبها حيالهم وتبدو وكأنها تتخلى عنهم، وهي بالكاد توفر لبعض العاملين والمتقاعدين الحد الأدنى من المعاش الذي لا يصمد البتة أمام انهيار العملة الوطنية والفساد وغلاء الأسعار اليومي الذي يشمل كل المواد وارتفاع ضرائب الخدمات الضئيلة!
الدولار، أو “مارس” إله الحرب الجديد والمتجدد! هو أكثر ما يحسّ به السوريون اليوم، هذا الوثن الجديد الذي منعت الحكومة الحديث فيه والتداول العلني به، إلا أنه أقوى من كلِّ منع. إنه أكثر حضوراً من أي شيء، يتحدث به الناس اليوم بالجد وبالهزل، من التاجر الكبير إلى أصغر حانوتي في أبعد قرية! لقد دخلت هذه اللفظة في لغة الحرب بقوة، وأصبحت المفردة تحمل دلالات رمزية وواقعية، وتهكماً على المنع الفاشل بالتحدث ولو لفظياً بهذه المفردة، اخترع الناس أسلوبهم المتهكم الذي راح يطلق على الدولار لغة مقنعة وبارعة، كأن يقول أحدهم، وهو يغمز بعينه:”اللي ما بيتسمى” أو “اللي شو كان اسمو” أو “هداك اللي بالك منو” و”الأخضر”…
بين من يملك الدولار ومن لا يملك أي دولار توجد هوة شاسعة ولا تزال تتسع، وكأن لسان حال الفساد يقول إن الذين يستطيعون الشراء والاستهلاك هؤلاء هم المحترمون، والذين لا يستطيعون الشراء دعهم يموتون.
إن الزائر لمدينة دمشق من الخارج سيدهش وهو يرى المطاعم الفخمة تكتظ بالرواد وبالزبائن والسيدات اللواتي يدخن المعسل ويرتدين أجمل الثياب، وسيقول في نفسه مندهشا: هل حقاً هذه البلد عاشت قرابة 12 سنة حرباً؟! وهو الذي كان يعتقد أنه لن يرى سوى الخرائب والدمار. لكن حقيقة الأمر هذه صورة خادعة ومزيفة، وإن ملايين السوريين حياتهم مختلفة وعلى العكس من ذلك، فهم يعانون من الحرمان ويعانون من انعدام الموارد، ومن الأمراض وعدم المقدرة على العلاج أو شراء الدواء، يعانون من الانقطاع الجائر للكهرباء والماء ووسائل العيش والتدفئة والغاز والمواد الضرورية التي قلما تتوفر لهم، بينما لا ينقص أخوتهم من الحي الآخر الذين يعيشون في كنف الإله مارس أي شيء من مستلزمات الحياة.
في ظل هذه الظروف القاسية، تعيش المرأة العاملة أصعب ظروف العيش، تقول واحدة من المعلمات التي فرضت عليها القوانين أن تُعلّم بعيداً عن سكن أهلها إن معاشها الشهري مئة وعشرون ألف ليرة سورية، وهي تستأجر غرفة في الأحياء البائسة بمئتي ألف ليرة!
إن حياة الفقراء أشبه بالجحيم الأرضي، إنهم أكثر ضحايا الحرب والحصار والفساد تعرضا للدمار النفسي والأخلاقي. وقد لوحظ في الآونة الأخيرة ارتفاع نسبة الجريمة الأسرية وغير الأسرية، وارتفاع عدد المنتحرين بشكل غير مسبوق!
ومع ذلك، وعلى الرغم من قتامة المشهد، وتناقضات الصورة والواقع إلا أن نوعاً من التهكم الذكي والمرح لا يزال موجوداً تعبيراً عن حيوية الناس وشكلاً من أشكال المقاومة للكآبة، ولكن جنباً إلى جنب مع البذاءة اللفظية والكذب والخداع، والبذاءة التي عدّها تروتسكي يوماً بنية فوقية، مصدرها النخب الحاكمة وتنعكس على الطبقات الشعبية التي تتلقفها تنفيساً للكبت والقهر، هذه البذاءة تنتشر على كافة المستويات والشرائح الاجتماعية، وفي كل الأجناس والأعمار وبشكل علني وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الحفلات الخاصة والعامة.
إن الحرب ضربت كل أشكال التحفظ، وضربت البنى التقليدية، وحطمت كثيراً من الأوهام، وكشفت أنبل ما في الناس وأسوأ ما فيهم!
أما بالنسبة للأطفال، فتتحدث التقارير عن التسرب من المدارس وعن عمالة الأطفال والتشرد والتعرض للعنف والاعتداء… هذا عدا عن سوء التغذية التي تصيب الأسر الفقيرة. إن آثار الحرب السلبية تسري في المجتمع كالطاعون، ومن المحال ومن الكذب أن نغفل تأثيرات هذه الحقبة من الزمن التي انصبت على رأس السوريين ودمرت حياتهم وأمنهم، وجعلت حالهم المأساوي يتحدث عنه العالم كنوع من الكوارث التي يتوجب تجنبها وعدم الوقوع فيها.
بواسطة Salon Syria Team | يناير 30, 2023 | Roundtables, بالعربية, غير مصنف, مقالات
تُعنى مجلة صالون سوريا الإلكترونيّة في الوقت الراهن بإعداد ملفّ يتناول حياة السوريين اليوميّة، ويتكوّن هذا الملف من موادّ صحافيّة يقدّمها باحثون من مختلف الاختصاصات، وستكون المنهجيّة المُعتمدة ذات أبعاد ميدانية استقصائيّة من أجل استطلاع آراء عينات من الناس من مختلف الشرائح الاجتماعية؛ ذلك من أجل الكشف عن آليات مقاومة الظروف القاهرة من انقطاع للتيار الكهربائي أكثر من عشرين ساعة في اليوم في غالبية أنحاء سوريا، والنقص الكبير في مياه الشرب، وتوقّف المواصلات بسبب فقدان الوقود، والنضوب الشديد في المحروقات، ومعاناة سوء التغذية، والتعرّض للبرد القارص، وغياب الخدمات الطبيّة والصحيّة، وإلى ما هنالك من ظروف لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً؛ إلا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
أصبح الإنسان السوريّ ضحية لحصارين: داخلي وخارجيّ؛ غير أنه استطاع التكيُّف مع أوضاع لا يمكن أن يوجد ما هو أسوأ منها في العالم الآن، من هنا جاءت المواد الصحافية من أجل التعمّق في فهم كفاح شعب بأكمله من أجل الانبعاث من الرماد، ولذلك جاءت محاور الملف على النحو الآتي:
أولاً-استقصاء آراء عينات من المجتمع السوري في أسباب معاناتهم الدامية أكثر من عقد من الزمان؛
ثانياً-استطلاع وجهات النظر فيما يتعلّق بابتكار أساليب إنقاذية للحياة على مستويات مختلفة؛
ثالثاً-البحث عن تحديد خطر التأثيرات النفسية المرضية في الأطفال بسبب قسوة الظروف الحياتيّة: التوحّد-السايكوباتية-النرجسيّة-اضطراب الشخصيّة الحدّيّة وإلى ما هنالك؛
رابعاً-اكتشاف طرق تأمين الطعام والشراب والعلاج والتدفئة والنظافة الشخصيّة والعامة، وكل ما يتصل بالحياة اليومية؛
خامساً-دراسة الواقع التربويّ بأبعاده المختلفة؛
سادساً-تحليل سوية التعليم الجامعي بمرحلتيه الدنيا (الإجازة) والعليا (ماجستير ودكتوراه).
سابعاً-البحث في واقع العمال والفلاحين والحرفيين؛
أخيراً-استقصاء آراء العاطلين عن العمل.
عناوين المواد المنشورة ضمن الملف:
أن تعيش في هذا الموات: السويداء المُهَمَّشة
نهر عيشة.. حياة مزدحمة بالفقر والصّبر!
دمشق: أزمات متواصلة وحلول غريبة للبقاء على قيد الحياة
عندما يصبح الاستحمام قضية رأي عام
حيلٌ ومحاولاتٌ لمقاومة الفقر والجوع
عن مقاومة العجز اليومي في ريف حماه
بواسطة مالك معتوق | أكتوبر 23, 2022 | غير مصنف
أيمن مصطفى، شابٌ من جسر الشغور من إدلب، أدمن على حبوب الكبتاغون المخدرة، عن قصته يروي: “كنت في سنتي الجامعية الأخيرة حين اعتقلتني قوات النظام بتهمة أني مُعارض، وبعد مساعٍ كثيرة من عائلتي، أُطلِقَ سراحي بعد تسعة أشهر، أريد محوها من الذاكرة، اضطُررتُ لترك دراستي خوفاً، وكبرت في داخلي رغبةُ بالانتقام مما فَعَلَ بي النظام في فترة سجن، فانضممت لجماعة السطان مُراد” وهي إحدى فصائل المعارضة السورية المسلحة.
في ميدان المعركة، تعرض الشاب لإصابة في موجة قصف نفذتها السوخوي الروسية على إدلب أدت لبتر قدميه، وبسبب الألم الشديد وصف له الطبيب مسكناً “دواءٌ مخدر” لتبدأ رحلته مع الإدمان.
يقول أيمن: “دفعني اليأس لزيادة الجرعات من حبتين يوميا كما وصف طبيبي المُعالج إلى ثمانِ حبات، وبمرور الزمن وصلت إلى مرحلة الإدمان، تابعتُ التعاطي ظناً مني أن المخدرات قد تُنسيني ما أُعانيه”.
ايمن هو واحدٌ من جيشٍ من المستهلكين للمخدرات في الشمال السوري ممن يلوذون بالكبتاغون، هرباً من “اليأس الذي أصبح علامة الحياة اليومية للكثير من السوريين” بحسب قوله.
تنسيق عالي المستوى
منذ أعوام، تَدخُل المواد اللازمة للإنتاج أو الكبتاغون الجاهز لتغليفه في كبسولات، إلى شمال البلاد، تحمِلُهُما المليشيات الإيرانية المتحالفة مع النظام والتي يتركز وجودها في الشرق والجنوب الغربي لمحافظة إدلب وفقا للخبير في الاقتصاد غير المشروع ريتشارد أوستن.
وتتسرب المخدرات من حقول القِنّب في ريف حمص الغربي وجرود القلمون إلى معقل حرس الثورة الإيرانية في نُبُّل والزهراء شمال حلب بأيادي حزب الله ومنها إلى المناطق التي تصفُها المعارضة بـ”المحررة” شمال البلاد.
ينطلق “الخط الأول لنقل المخدرات من نقاطٍ متفرقة على خط التماس الواصل بين إدلب المُعارَضَة وإدلب النظام، أما الثاني: فيمر من مناطق سيطرة الجيش في دمشق إلى مناطق سيطرة المعارضة عبر الباسوطة بريف عفرين شرقي حلب” وفقاً للرائد في شرطة إدلب الحرة محمود السمرة.
فيما يمتد الخط الثالث وفقاً للأمني المعارض، من دير حافر بريف حلب، مرورا بمنبج الخاضعة لسيطرة “قوات سوريا الديموقراطية”، وصولا إلى مدينة الباب الخاضعة لسيطرة المعارضة، لتنتقل منها المخدرات، إما إلى شمال شرقي سوريا ومنه إلى إقليم العراق الشمالي (كردستان)، أو نحو مناطق أخرى تسيطر عليها المعارضة.
لا يُخفي السمرة الخذلان الذي يشعر به حين يقول: “كَم هو مُخجِل أن بعضا من المعارضة، يُغذي انفلاتُهم الأمني وغَضِهِم البصر عن تسلل المخدرات إلى الشمال، مما حوّله لسوق رائجة للمخدرات”.
سلام العصابات
وتستغل الفصائل المتنوعة نقاط التفتيش عبر خطوط التماس لتسريب المخدرات من مناطق سيطرتها عبر منبج في الريف الحلبي إلى شمال شرق سوريا، ويؤكد الخبير الأمريكي ريتشارد أوستن “أن بعضاً ممن يحملون راية المعارضة يزرعون الحشيش في رأس العين قبل أن يتم تهريبه إلى مناطق الإدارة الذاتية”.
ويضيف أوستين بأن “زراعة الحشيش في حارم وسلقين بريف إدلب، وعفرين والباب والراعي بريف حلب، تتم بغطاء من قيادات عسكرية مُعارِضة، فيما تشكل سرمدا وجسر الشغور مَركَزا إنتاج الكبتاغون في إدلب”. كما تم العثور على مساحات واسعة مزروعة بالحشيش في دركوش بريف إدلب الخاضع للمعارضة المسلحة وفقاً للرائد السمرة.
ويقول خالد زهران المتتبع لشؤون تجار ومنتجي المخدرات “بشكل لا مثيل له تتشابكُ علاقات الميليشيات الإيرانية مع جهات مرتبطة بالجيش الوطني وهيئة تحرير الشام التي تسيطر على تجارة المخدرات في الشمال السوري”، ويضيف: “حتى أن مكاسب المخدرات لعبت دوراً بإجراء اتفاقيات المصالحة بين دمشق وبعض معارضيها فيما بات يُعرف بسلام العصابات، ليتحول العمل العسكري ضد النظام إلى تعاون بتجارة الممنوعات”.
وإن كانت هيئة تحرير الشام، بحسب زهران ضيقت الخناق على صغار تجار المخدرات، إلا أن “المعلومات تُشير إلى أن هذه مناوراتٌ صُوَريَة، يتم فيها إلصاق جريمة التجارة بعناصر يُراد التخلص منهم، لإفساح المجال لأصحاب مشاريع المخدرات المرتبطين بالهيئة” بحسب قوله.
الأخطر في الأمر بحسب الناطق باسم الجيش الوطني، “أن النظام بات يشترط تلقي الأسلحة مقابل المخدرات التي يتم تصديرها إلى شمال غربي سوريا”.
أبو موسى هو أحد عناصر “الجيش الوطني” الذي طلب عدم ذكر اسمه، يقول لـ”صالون سوريا”: “في الشمال يُنسق تُجارُ مخدرات مع تُجار النظام وحزب الله لشراء المواد المُخدرة، فإذا ما تم شراء بضاعة بقيمة مليون دولار، فيجب على التجار تقديم أسلحة بنفس القيمة للجهة البائعة بديلاً للمخدرات”، مؤكداً أن “هناك مافيا تمتلك مقومات الشبكات المنظمة، من سلاح ونفوذ وعلاقات مع شخصياتٍ محسوبة على المعارضة، تقوم بتأمين وصول المخدرات إلى الشمال بالإضافة لحماية من يعمل على ترويجها”.
ويؤكد العسكري المعارض: بأن اعترافات من ُقبِضَ عليهم من تجار المخدرات تُبين ارتباطهم بشبكات في لبنان، وجهات في النظام، كما أكدت اعترافات بعضهم أن عدداً من المسؤولين عن هذه الشبكات موجودون شمال سوريا وفي الأراضي التركية.
بواسطة هيفاء الأحمد | أكتوبر 3, 2022 | العربية, تقارير, غير مصنف
عبثاً يحاول لؤي شردوب (٢٢ عاماً) الإقلاع عن تعاطي الحبوب المخدرة، أدمن لؤي عليها منذ إصابته الحربية التي جعلت منه معاقاً، وهو في مقتبل العمر ليجد في تلك الحبوب ملاذه الوحيد للخروج من واقعه النفسي المضطرب.
بدأت حكاية لؤي مع التعاطي بعد أن أصيب خلال قصف طائرات النظام الحربية لبلدته معيشورين بريف إدلب الجنوبي أواخر عام ٢٠١٨، استهدف القصف السوق مخلفاً قتلى وجرحى وبينهم لؤي.
استيقظ لؤي في المستشفى على كابوس فقدانه لقدمه اليسرى وإعاقة في يده اليمنى جراء إصابة بليغة في تلك الحادثة كادت تودي بحياته.
ولم يكن من السهل على شاب بقمة نشاطه وحيويته أن يقتبل واقعه الجديد كمصاب بالإعاقة يحتاج المساعدة حتى في أبسط أمور حياته، وهو ما دفعه للبحث عما أعتقد أنه “أفضل الحلول” لخروجه من الحالة النفسية الصعبة التي يمر بها، وهو اللجوء إلى المخدرات وتحديداً حبوب الكبتاجون.
لا ينكر لؤي معرفته المسبقة بأنه يلجأ لحل يضر بصحته الجسدية ”أعرف أنه يسبب الإدمان، لكنني بحاجة لعلاج آلامي الروحية التي تعصف بي كل حين بلا رحمة، ولم أفكر بالعواقب، أردت تخدير نفسي وحسب“ يقول لؤي.
لم يكن ابراهيم السلوم (٢٦ عاماً) بأفضل حالاً من لؤي بعد أن وجد نفسه عاطلاً عن العمل بلا آمال أو طموحات، منفياً في مخيمات النزوح النائية التي تخلو من كل مقومات الحياة.
يقول ابراهيم الذي يحيط السواد بعينيه ويعتري الحزن ملامحه ”كنت أحلم كما كل الشباب في العالم بعمل دائم وحياة زوجية مستقرة، غير أن ما ألاقيه من ظروف معيشية صعبة جعلتني اصطدم بواقع قاسي، سيجعل مني هامشاً في الحياة طوال عمري“.
مامر به ابراهيم من اضطرابات نفسية، وخاصة بعد فشل عبوره إلى الأراضي التركية بغية العمل، وتحسين واقعه المعيشي دفعه للتعاطي بحسب قوله، ويضيف ابراهيم “بما أنني لا أستطيع تغيير هذا الواقع المقرف، ربما أتمكن من إيجاد مسكن لألم نفسي الذي لا يتوقف”.
حصل ابراهيم على الكوكائين من أحد المروجين في المخيمات، بدأ يعطيه الحبوب بكمية قليلة، ثم ازدادت مع مرور الوقت.
يعمل ابراهيم على تأمين ثمن تلك الحبوب من خلال عمله بالمياومة التي يحصل لقاءها على مبلغ مالي بسيط لا يتعدى الخمسين ليرة تركية في اليوم، يدفعها جميعها لشراء تلك الحبوب التي أصبحت جزءا من حياته.
وانتشرت شبكات لترويج المخدرات في أماكن متعددة من شمال غرب سوريا في الآونة الأخيرة، وتعمل هذه الشبكات على استقطاب زبائن جدد بشتى وسائل الإقناع ، مستغلة الظروف المعيشية الصعبة والضغوط النفسية بسبب التهجير والنزوح وظروف الحرب بشكل عام.
ومن أنواع المواد المخدرة المنتشرة في مناطق إدلب وشمال غرب سوريا الكبتاجون، الكوكايين، الهيروين، الحشيش، إضافة إلى الكريستال ميث او ما يعرف بالشبو او الاتش بوز.
كما ساهم في انتشار الإدمان انتشار الصيدلات غير المرخصة والعشوائية بانتشار الأدوية المخدرة التي راحت تباع لمن يطلبها دون الحاجة لوصفة طبية، وتصل تلك الأدوية إلى أكثر من ٣٠ نوع مثل ترامادول، ديالين، دبالين، فوستان، بيوغابالين، زولام، أوكسي كودون بلس، كايزول، سيدافيت بلس، موتيفال لكسوتان، لارجاكتيل، كلونازيبام، بحسب الصيدلانية رحاب العمر (٣٢ عاماً).
وتقول الصيدلانية رحاب ”أسعار هذه المواد رخيصة جداً مقارنة بالمواد المخدرة الأخرى، وكثيراً ما يقصدني المتعاطون لطلبها لكني أرفض بيعها دون وصفة طبية حصراً، لكن للأسف لا يفعل كل الصيادلة ذلك، البعض منهم امتهن الصيدلة دون أدنى خبرة والتزام بأخلاقياتها باحثين الربح لاغير.“
وعزت د.رحاب كثرة تعاطي هذه الحبوب إلى ”اﻹحباط والفقر وكثرة اﻹصابات الجسدية، بالتزامن مع قلة الرقابة على الصيدليات المخالفة وتجار المخدرات الذين راحوا يصولون ويجولون في المنطقة بلا رادع“ بحسب قولها.
من جهته بدأ جهاز الأمن العام في محافظة إدلب حملة أمنية تستهدف تجار ومروّجي المخدرات، بالتزامن مع حملة مشابهة يقودها “الجيش الوطني” المدعوم من تركيا شمالي حلب في أيار ٢٠٢٢.
وقال المتحدث الرسمي لجهاز الأمن العام، ضياء العمر، عبر معرّفه الرسمي في تلجرام، إن الجهاز الأمني أطلق بالتنسيق مع وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ حملة لاستهداف تجار المخدرات شملت مناطق واسعة من محافظة إدلب، شملت مخيمات النازحين على الحدود السورية- التركية بمدينة أطمة، إضافة إلى مدن وقرى حارم، وجسر الشغور، وسرمدا، ومدينة إدلب.
واعتقلت القوات التابعة للأمن العام عدداً من تجار ومروّجي المخدرات وبحوزتهم كميات منها، بحسب المتحدث الرسمي باسمها.
من ناحيته يقول المحامي عادل الويس المختص في القضاء الجزائي في إدلب ”لايمكن التهاون مع هذه القضية المدمرة للمجتمع بكل ما تعنيه الكلمة من معنى“. ويتم الحكم على المتعاطي والمروج والتاجر بالسجن الذي يترواح بين سنة وخمس سنوات بحسب الجرم الموجه إليه مع دفع غرامية مالية تصل إلى عشرين ألف دولار.
ووفقًا لتحقيق نشره موقع “الجريمة المنظمة والفساد” (OCCRP)، في ١٦ من حزيران ٢٠٢١، فإن تجارة المخدرات ازدهرت في سوريا بالآونة الأخيرة على يد مرتبطين بعائلة رئيس النظام السوري.