بواسطة Samer Ismail | مارس 9, 2018 | Culture, Reports, غير مصنف
تصادم أساليب حاد شهده المسرح السوري في سنوات الحرب السبع الفائتة، فالمسرح الذي كان يرتهن لأشكاله القديمة وتكراراته المملة خلع هذه المرة ثوب الوقار القومي، ليرتدي بزته المموهة وقبعة الإخفاء الماهرة من جميع أنواع الرقابات السلطوية منها قبل الاجتماعية والقبلية. يمكننا الإطلالة على هذه الخشبة التي تصرخ وهي تحترق؛ إذ سجلت مسارح سوريا -ولاسيما في العاصمة دمشق- عشرات العروض التي عبّرت عن شجاعة واضحة ورغبة في الإشهار والصراخ في وجه الموت العمومي وغرائز التدمير الهمجية.
المسارح السورية أيضاً ولاسيما الأثرية منها والتاريخية من مثل مسرحي بصرى وتدمر تم السيطرة عليهما من قبل المليشيات المسلحة، بل تحول مدرج تدمر التاريخي إلى منصة إعدام شاهد العالم كله ماذا فعل ما يسمى بـ (تنظيم الدولة الإسلامية- داعش) فوق خشبته الحجرية.
سيكون نصيب المسرح القومي من عروض الحرب هو الأغزر إنتاجياً، ولن تكون الرقابة القبْلية حديدية كما كان الوضع ما قبل الحرب، فلجان المشاهدة وقراءة النصوص صارت أمراً شكلياً، وصار من الممكن تقديم أطروحات موضوعية على الخشبة بهامش مفاجئ من حيث سعته وقدرة العاملين في المسرح على أخذ الأمور حتى نهاياتها في انتقاد طرفي النزاع على حدٍ سواء.
“كأنو مسرح” لـ غسان مسعود عن نص لابنته ” لوتس مسعود” كان مثالاً على توسيع هوامش جديدة، وتسمية الأشياء بمسمياتها على الرغم من الحلول الفنية المتواضعة والبنية المباشرة للنص المكتوب؛ إذ كان (مسعود) قد ركز على تناول الحرب من مقلبٍ آخر عبر تطويع نصوص المآسي الكبرى لشكسبير في مسرحيته “عرش الدم- الأوبرا السورية” ولتكون “مكبث” باقتباس رياض عصمت عنها هي حكاية العنف والشر والطموح بالسلطة؛ وحيث (الدم يطلب الدم) كإسقاط ماهر عن نبذ للعنف، وإدانة القتل العبثي.
مثله كان عرض ” اختطاف” لـ أيمن زيدان، والذي قام بالتعاون مع محمود الجعفوري بإعداد مسرحية “الأبواق والتوت البري” للإيطالي داريو فو، موجهاً نقداً لاذعاً لتحالف السلطة مع المافيا، والاستثمار في الإرهاب تحت عناوين وشعارات يسارية ضللت الشعوب وجعلتها نهباً لحكومات رجال الأعمال المتعاقبة.
سوف يقدم (زيدان) أيضاً مسرحية “دائرة الطباشير” مستعيراً نص المخرج والكاتب الألماني “برتولت بريخت- 1898- 1956” عن العنوان ذاته الذي أراده “زيدان” مفتوحاً على كافة الإسقاطات الممكنة حول الحرب الدائرة في بلاده منذ سنوات؛ وذلك بحذفه لكلمة “قوقازية” من عنوان النص الأصلي؛ تاركاً “الدائرة” هنا دون إغلاق مكاني أو زماني.
من جانب آخر تناول المسرح الحربي البيئات الفرعية ذات الثقافات الإثنية والعرقية عبر أكثر من عرض كان أبرزها “المرود والمكحلة” لكاتبه عدنان العودة ومخرجه عروة العربي. خروج من سطوة النصوص القديمة نحو أشكال مسرحية جديدة للمراهنة مجدداً على فعل اللهجة وقدرتها على ابتكار الحركة على خشبة المسرح؛ وصولاً إلى خصوصية إبداعية تسعى لتأصيل اللهجات المحلية في اللعبة المسرحية، وذلك بالذهاب أكثر خلف ما يشبه ملحمة سورية معاصرة بدأت عام 1917 بمذبحة الأرمن على يد العثمانيين، لتتقاطع مع حكاية شاب سوري- كردي يصادف أخته من أمه في ليلة من ليالي دمشق بعد سنوات طويلة.
سيكرر (العربي) التجربة في عرض (مدينة في ثلاثة فصول) عن نص ( احتفال ليلي خاص في دريسدن) لـ مصطفى الحلاج، وذلك عبر التعرض لجذر الإشكالية السورية من خلال السؤال التالي: الحرب بين من ومن؟ يسأل أحد الممثلين في العرض؟ فيجيب آخر: “الحرب بين (نا) و(نحن) وليست بيننا وبين إسرائيل، نحن يقتلنا و(نا) يقتلُ نحنُ”. سوف لن تحضر هنا وصايا ” غوبلز” وزير الدعاية الحربية في حكومة هتلر، بقدر ما سنشهد سجالات لها إسقاطاتها على الحرب السوريةبالنظر أكثر نحو التجارب الطازجة.
الأماكن البديلة:
حضرت الأماكن البديلة جنباً إلى جنب مع فن الارتجال كجزء أساسي من مسرح الحرب السوري، ليأتي في مقدمته مختبر مفتوح بشكل علني وشجاع على كتابة النص الجماعي عن أعراض الصرع السوري، وذلك دون التعويل على النصوص الأجنبية المترجمة أو الاقتباس عنها، بل في اقتراح صيغة راهنة وحارّة عن المعيش اليومي وفداحة الخسائر الإنسانية في ظل الحرب. الجنون هنا أتى كثيمة مناسبة لاختراع أبعاد أكثر تحرراً في مخاطبة الجمهور، ولاسيما في التجربة التي قدمها المخرج سامر عمران في مسرحية “رماد البنفسج” محققاً تعاوناً لافتاً مع الكريوغراف نورا مراد لصياغة فضاء مسرحي أطل على اللحظة الراهنة بكل تناقضاتها ومفارقاتها الصادمة؛ حيث عمل كل من “عمران” و”مراد” على تحقيق عرض استوحى حكايته من مستشفى الأمراض العقلية؛ متخذين من سيكولوجيا الجنون مادةً رئيسةً لإدارة الممثل. شخصيات ذكّرت برائعة الألماني بيتر فايس “مارا ساد” وقصة “العنبر رقم ستة” لتشيخوف.
سوف يكرر (عمران) هذه التورية في استخدام مقهى شعبي في قلب دمشق القديمة، وذلك ليقدم مسرحيته “نبوءة- إنتاج عين الفنون” مسنداً دور الحكواتي لممثلة شابة (ربا الحلبي) ليكون الجمهور أمام حكواتية امرأة في مناظرة ذكية مع الكرسي الفارغ الذي يتوسط مقهى النوفرة الأثري بعد موت” أبو شادي” آخر حكواتي في دمشق بعد نزوحه من بيته مع أسرته من ريف دمشق بفعل النزاع الدائر؛ فمنذ موت آخر حكواتي في البلدة القديمة، أصبح أعرق مقاهي العاصمة السورية يستقبل زواره دون سماعهم سيَر عنترة وعبلة وأبي زيد الهلالي، إلا أن “عمران” في “نبوءة اختار “مقهى الشام القديمة” المواجه مباشرةً لمقهى “النوفرة” في تحدٍ فني لافت لرجال احتكروا مهمة السرد لقرون طويلة؛ متناولاً سنوات الحرب في بلاده؛ لتسرد المرأة هذه المرة حكاية من نوعٍ آخر؛ مبتعدةً عن قرقرة ماء النراجيل وجمر أدخنتها وصيحات أنصار الزير ودياب الغانم. الحكواتية الشابة تلت نبوءاتها المتعددة دامجةً بين التمثيل والترتيل والغناء، مفتتحةً بمقطعٍ من “ملحمة السراب” لسعد الله ونوس 1941- 1997″ المسرحية التي كانت بمثابة استشراف مبكّر لما سيؤول إليه واقع البلاد.
صرخة المسرح في وجه الحرب استمرت قوية وهادرة من خلال عروض كان لها طابعها السياسي، وسمتها الجدلية والمعاندة لأطروحات السياسة (دعارة العقل) كما يصفها نيتشه، ولتأتي عبارة “هوب هوب” لتكون عنواناً للمسرحية التي قُدِّمت على مسرح الحمراء، ولتكون بمثابة طلب صريح وواضح من “سائق الحافلة” السورية بإيقاف فوري وعاجل للحرب الدائرة منذ سنوات على امتداد كامل البلاد؛ فالعرض الذي أخرجه الفنان عجاج سليم كان قد اشتغل عليه مع اثني عشر ممثلاً وممثلة في ورشة مفتوحة على الارتجال الجماعي مع الممثل؛ مطوّعاً نص “الجزيرة القرمزية” للروسي “ميخائيل بولغاكوف-1891- 1940” عن إعداد جوان جان؛ ولصالح مقاربة جريئة اتخذت من الكارثة الوطنية الأعنف في تاريخ البلاد موضوعاً فنياً لها؛ إذ يأتي عرض “هوب هوب” ليكون العرض الجماعي الأول الذي رفع عقيرة المسرحيين السوريين عالياً إزاء ما يدور على أرضهم؛ مقتبسين العبارة الشعبية “هوب هوب” كصرخة بمدلول سياسي لا يخلو من التهكم والمرارة؛ حيث بدا هذا جلياً من كلمة المخرج “سليم” على بروشور العرض: ” (هوب هوب) تعني الطلب من (سائق الحافلة) التوقف السريع؛ وفي اللهجة الدارجة تشير بشكل عام إلى الرغبة بإنهاء فعل، أو حوار، أو مشكلة، …أو أزمة؟”.

هوب هوب
مختبر مسرحي:
بمقابل عروض المسارح الكبرى للعاصمة والأماكن البديلة كان ثمة مختبر مسرحي ينمو بهدوء وكتمان داخل جدران المعهد العالي للفنون المسرحية؛ مختبر كان من الصعب عليه أن يزدهر ويترعرع على مسارح العاصمة السورية؛ أولاً من جهة المحرّمات الدينية والسياسية التي ستواجهه في حال العمل على هذه المسارح المفتوحة نسبياً أمام شرائح متنوعة بين الجمهور والحشد، وثانياً من جهة طبيعة العروض التي يديرها أساتذة ومخرجي الأكاديمية المسرحية الأعرق في البلاد، والتي تنحو إلى صيغ أكثر تحرراً ومباغتة للراسخ في الدماغ الجمعي الديني والسياسي.
هكذا على الأقل قدم فايز قزق عرضه ( إيواء واء واء- أستوديو شريف شاكر) كحلقة من سلسلة عروض كان (قزق) قد بدأها مع طلاب التمثيل، فمن ( وعكة عابرة- 2008) إلى ( حكاية السيدة روزالين- 2011) وصولاً إلى هذا العرض؛ والذي برهن من خلاله بطل عروض (فرقة شكسبير الملكية) تجربةً إثر أخرى أن البروفة هي الزمن الأصلي لصياغة العرض المسرحي؛ سواء من حيث اشتغاله على الارتجال كمسوّدة دائمة الكتابة مع الممثل، أو حتى من خلال تلك الرغبة في نبش خفايا هذا الممثل وزعزعة كيانه الداخلي؛ دافعاً إياه إلى أقصى ما يمكن من البذل والسخاء على الخشبة؛ خارجاً في مسرحية ( إيواء واء واء) إلى براح التأمل الجماعي والبحث وفقاً للفرضية التي وضع المخرج السوري ممثليه فيها؛ لتكون وجهاً لوجه مع الحرب الدائرة في بلادهم.
حكاية الشخصيات الثماني عشرة في عرض ” إيواء واء واء” بدت مزدحمة بحضورها وأفكارها واضطراباتها الموحشة، وتعويلها على التناقضات، من مثل مشاهد الأطفال في لحظة التناسخ العجيب نحو القتل والتآمر، دار الإيواء الذي تحول إلى ماخور، المواجهة الصادمة بين الدين والمدنية، قصة الحب الكردية في عيد النوروز؛ قارب الموت المزدحم بدوره كسفينة نوح سوريّة؛ يكاد الدم يحفُّ بها من كل جهات الأرض الأربع، الملاكم ورجل الدين، الديوث والعاقر؛ الخادم والسيدة. متتالية لا منتهية من غثيانات منفلتة بوحشية على خشبة العرض؛ جعلها (قزق) تبدو كصورة مصغّرة عن بلادٍ ترقص في حفلة تعذيب جماعي؛ حيث لا يهدأ سعير المواجهة حتى يعود ويشتعل وفق ثنائيات متحاربة، سعير لا ينجو منه حتى الأموات في أكفانهم.
كوميديا الحق والحق الآخر! قدمها المخرج تامر العربيد هو الآخر ضمن صيغة الارتجال في عرضه” جسور- مسرح فواز الساجر” متكئاً على نص “قضية أنوف” للكاتبة المكسيكية الساخرة (ماروشا بيلالتا) فاستطاع فريق ممثلي هذا العرض صياغة مشروعهم الساخر من الحرب، معوّلين في ذلك على تقنية الارتجال الجماعي في كتابة شخصياتهم وتلوينها.
لقد كان الاقتراب من تجسيد الشخصية النمطية المسخية في “جسور” تجاوز ذلك عبر إسقاط حكاية المسرحية على المقتلة السورية؛ حيث أطل الجمهور من خلال شخصيات هذا العرض على بلدة خرافية اختلف أبناؤها من أجل أتفه الأسباب (أصحاب أنوف قصيرة وآخرين طويلة)! فاندلعت بينهم حروب عبثية مضحكة؛ قاربها الممثلون بأداء حار ولافت من خلال أسلوبي “الفارس” و” الغروتيسك” لتحضر المأساة والعنف والقتل والمؤامرات بين ذات البين في قالب طريف وكاريكاتوري.
الفنان جهاد سعد جاء أيضاً إلى خيار الورشة الفنية المفتوحة في عرضه “هستيريا” واضعاً ممثليه التسعة على “مسرح سعد الله ونوس” وجهاً لوجه مع امتحانات عدة للجسد واللياقة والصوت وحساسية التفاعل الجماعي على الخشبة؛ لتقدم هذه التجربة عروضها في المعهد العالي للفنون المسرحية بصدامية أداء جماعي جعلت الممثل منساقاً إلى نوعية خاصة من مسرح العنف الذي تتغلب فيه القدرة البدنية على صناعة الشخصية المسرحية؛ حيث استطاع “سعد” في صياغته الفنية الجديدة أن يحقق توريات مسرحية متعددة؛ رامزاً بقوة إلى حال العلاقات الإنسانية في ظل الحرب؛ وما ترتب من آثار نفسية قاسية لهذه الحرب على كل من الرجل والمرأة في ظل هيمنة نشرات الأخبار الدموية على وعي الناس وطبيعة سلوكهم اليومي.

لقطة من مسرحية تصحيح ألوان
مسرح تعدد أصوات
مجدداً خرج عبد المنعم عمايري هو الآخر عن كليشيهات المسرح السوري، متابعاً تجربته على الارتجال، والتي كان قد بدأها بعرض “سيليكون- 2010” آخذاً ممثليه نحو مفازات الممثل الحقيقية، فالنص هنا كان نتيجة لكتابة جماعية امتزجت فيها السيرة الذاتية بصيغة الجماعة، فعمايري أكد في تجربته هذه التي حملت عنوان “ليبيدو” حيوية المقترح وأحقيته كمحترف لانهائي، وكمسوّدة لا متناهية تتم كتابتها في كل مرة يصعد فيها الممثلون على الخشبة؛ فمن خلال إبرام تناص باهر بين نصوص “روميو وجولييت، ريتشارد الثالث، عطيل” لشكسبير، و كل من نصي “عربة اسمها الرغبة” لتينسي وليامز، و”رحلة الليل في النهار” ليوجين أونيل غزل الممثلون أطروحتهم الخاصة بهم، وتصوراتهم الشخصية حول مفهوم إعداد النص وبنائه نحو صيغة عرض احترافي، ليدفع عمايري ممثليه في (ليبيدو) إلى تجربة فعلية لاختبار قدراتهم الأدائية بطريقة تتيح لهم ديمقراطية شاسعة من خيارات الكتابة والتمثيل وإنتاج الأفعال عبر ينابيع الحياة والعيش ضد الحرب.
(سوريون بعنوان) ساق أيضاً تجربة تعدد الأصوات عن أشعار محمود درويش حيث حضر كل من: (السائق العصبيُّ، الجنديّ، الجامعيّ، السيّدةُ، الشاعر، والمسافر) شخصيات المسرحية التي اقتبسها عرض ( سوريون بعنوان- مسرح سعد الله ونوس) من أشعار محمود درويش؛ مطوعاً تعدد الأصوات (البوليفونية-Polyphonie) في نصوص: (لا تعتذر عمّا فعلت، الجدارية، مديح الظل العالي)، لتأتي كحوارات درامية قام بأدائها ممثلو فرقة المعهد العالي للفنون المسرحية؛ مرتكزين في هذه التجربة التي أشرف عليها كل من ( سامر عمران، ووسيم قزق، وشادي كيوان، ونورس عثمان) على إيحائية النص الشعري كخطاب أدبي ينطوي على حوارية الأنا والآخر.
بدوره قدم الفنان أسامة غنم نص (مجموعة الحيوانات الزجاجية) لكاتبها ( تينسي وليامز1911- 1983) محيلاً هذا النص إلى عرضٍ سوري بامتياز تحت عنوان (زجاج- مسرح فواز الساجر). مهارة عالية سجلها (مختبر دمشق المسرحي) الذي يشرف عليه (غنم) بنفسه منذ العام الأول للحرب؛ منهياً بتجربته الجديدة جدلية النص والعرض؛ لصالح فن الأداء وقدرة الممثل على اكتشاف نفسه من جديد على الخشبة؛ بعيداً عن عبودية هذا الممثل لخطة إخراجية صارمة، تعتبر الأدبي مادةً درامية بحتة؛ لا يجوز (درمتتها) إلا بما تمليه المؤشرات والإحالات النصية للكاتب؛ بل عبر الممثل الشريك والمنغمس حتى النهاية في اللعبة المسرحية.
فهم عميق ومؤثر ساقته النسخة السورية ( إنتاج -مواطنون فنانون- آفاق) من نص (الحيوانات الزجاجية) مطوعةً مفردات محلية ومفارقات نفسية أليمة لصالح بناء الشخصيات من جديد؛ انتزاعها من أربعينيات القرن الفائت؛ لزرعها في صراع مرير بين تفاهاتها اليومية وأحلامها المهدورة؛ حيث تصير هذه الشخصيات المتورّمة بثراء عالمها الداخلي؛ نسخةً عن عائلة سورية حزينة؛ عائلة أرادها مخرج العرض صورة عن بلادٍ بأكملها؛ فلم يكن من السهولة بمكان وبعد سبعة أشهر من البروفات المستمرة، الوصول إلى تلك المكابدات الدفينة التي قدّمها (زجاج) بحيوية عالية ورغبة وقلق شديدين لمقاربة الحطام الاجتماعي؛ دافعاً بشخصياته الأربعة إلى أمكنة خطيرة من الذاكرة الجماعية.
بسام كوسا خاض هو الآخر تجارب لافتة في مسرح الحرب السورية؛ كان أبرزها عرض “الكوميديا السوداء عن نص لـ (بيتر شافر) المسرحية التي كتبها رائد الغرابة الإنكليزية عام 1965؛ ليذهب عرض “الكوميديا السوداء” نحو نظرة غاية في الطرافة على حماقات مجموعة من الشخصيات التي تتحسس طريقها في غرفة داكنة الظلمة على مسرح الحمراء الدمشقي؛ حيث ترتطم الشخصيات بكم كبير من المواقف والمفارقات المضحكة بناء على انقطاع الكهرباء؛ الفرضية التي بنى عليها كاتب النص مواقفه الساخرة من كذب المثقفين وانهيار قيم الطبقة الوسطى وتحولهم من ذات إلى موضوع؛ فضلاً عن نفاق أصحاب المال وعلاقات الحب العابرة في فضاء غميضة من التخفي في العتمة.
تجربة سوف يعيدها (بسام كوسا) في مسرحية (تكرار) مقتبساً نص (المتحذلقات السخيفات) لموليير. العرض الذي جاهر عبر ثلاثة أزمنة بتعرية طبقة تجار الحرب ومحدثي النعمة، قدم ثلاث نسخ متتالية من رائعة الكاتب الفرنسي، مطلاً من خلالها على زمن النبلاء المزيفين في القرن السابع عشر، جنباً إلى جنب مع طبقة الباشاوات وأصحاب الطرابيش ورجال ونساء الصالونات الأدبية مطلع القرن العشرين في سورية، وصولاً إلى الزمن الراهن للبلاد، حيث صاغ مخرج العرض مع تسعة من ممثليه ما يقارب ثلاثية تاريخية عن زيف الطبقات الصاعدة في أوقات الأزمات، معللاً بذلك مدخله إلى العرض بمونولوج ألقته الممثلة (فرح دبيات) عن تشابه البشر وعدميتهم في كل الأزمنة، (فلا جديد تحت الشمس)!
(عرض البحر) مسرحية هي الأخرى مزجت العبث بالعنف حققها مجد فضة على خشبة سعد الله ونوس مع كل من الممثلين وسيم قزق و الفرزدق ديوب وياسر سلمون؛ ليطل (فضة) بذلك على أبرز نصوص الكاتب البولوني “سلافو مير مروجيك” من خلال نسخة سورية عمل عليها دراماتورجياً مع إبراهيم جمعة.
التجربة التي قدمها المعهد العالي للفنون المسرحية؛ بدت أقرب إلى مسرح اللامعقول من حيث اعتماد المخرج على أسلوب “الغروتيسك” فعكست قالباً عبثياً لشخصيات العرض متكئة على تقنيات مسرح الكلام، وذلك مع الإبقاء على هيكل النص الأصلي “في أعالي البحار” حيث نشاهد ثلاثة رجال يقطعون رحلتهم نحو المجهول فوق طوفٍ خشبي؛ وليكون الجمهور شاهداً على تباينات حادة في الشخصيات الثلاث؛ حيث هناك الانتهازي والرومانسي والعضلي الأهوج.
أنماط كشفت عبر حوارها المطوّل عن ماضيها قبل اختيارها للهجرة عن بلادها، وعن قصص حب وخيبات عاشتها الشخصيات الثلاث في عملها وعلاقاتها الحميمة وصدامها مع الآخر المختلف سياسياً عنها، كلاً حسب وجهة نظره لكن ومع نفاد المؤن على متن الطوف تتكشف نوازع بدائية لدى الرجال الثلاثة؛ وصولاً إلى فرضية التضحية بواحد منهم ليكون زاداً للرجلين الآخرين بدلاً من موت الجميع جوعاً في عرض البحر.
مسرحية (ستاتيكو) ناقشت هي الأخرى الحرب السورية بذكاء لافت، مستعينةً بنص لشادي دويعر وإعداد مخرجها الفنان جمال شقير الذي ذهب في تجربته الأولى إخراجياً نحو مناقشة ثقافة الانتحار عبر شخصية (حكم) التي لعبها سامر عمران إلى جانب كل من نوار يوسف و محمد حمادة، مسجلاً على شريط كاسيت وصيته الأخيرة قبل أن يتدخل كل من جاره وصديقته في تعطيل خطته للموت بعد لجوء الفتاة الشابة إلى شقته للاختباء عنده بعد عودة الأهل المفاجئة.
العرض الذي أنتجته مديرية المسارح والموسيقى حاز ثلاث جوائز في الدورة الأخيرة لمهرجان قرطاج، ذاهباً نحو حذافير الواقع في محاكاته للديكور الذي أنجزته سهى العلي عبر تصميمها لشقة تطل على شارع من أحياء دمشق ليلاً تموضع في عمق الخشبة، بينما حافظ على موقع لافت للوحة (الغارنيكا) لـ بيكاسو؛ مسقطاً الحرب الأهلية الإسبانية على الواقع السوري الراهن؛ في إشارة لما حمل بطل العرض على الانتحار.
بواسطة Sora Alloush | مارس 9, 2018 | Culture, Roundtables, غير مصنف
ولو كانَ ورداً أقلَّ الذي نامَ ما بيننا في السرير
أكُنّا سنحلُم أكثرَ بالنوم في شُرفات البلادْ؟
وما الحبُّ إنْ لم يكن عارضاً للحديث عن الريحِ
أو جمرةً تتباهى بأحلامنا كلّ صبحِ
وتأخذنا من يدينا لكيلا نموتَ إذا جاء وقتُ الرمادْ!
وما الشوقُ إنْ لم يكن مؤلـِماً وغريباً كصبّارةٍ
وانتظاراً يغيّـرُ أقدارَنا لو أرادْ؟
وحين أفكّرُ فيكَ يهبُّ من المزهريةِ صوتُكَ
يسقطُ قلبي على درجِ البيتِ مني
وأنسى تماماً – كأيةِ عاشقةٍ– كيف يشتدُّ عودُ الغريبة في البرد
أصعدُ نحو هلاكي رويداً رويداً
فيجعلني الوقتُ أغنيةً لا تُعادْ
ولو كان ورداً أقلَّ أكنتَ ستمضي بعيداً لتبحثَ عن وطنٍ آخرٍ
أو نشيدٍ جديدٍ؟
أكنتَ ستكسرُ قلبي كما فعلَ الآخرون به،
أم ستبقى جميلاً كأيّ غريبٍ يرى في المنافي ملاذاً من الحرب
والتركاتِ البخيلة من شجرِ النار أو كذبِ الأصدقاءْ؟
كبرنا كثيراً على أنْ نكون سوانا
وهذا الرحيلُ الذي كان محضَ اتفاقٍ مع الشمس كي نمسكَ الغيم
أصبحَ كلَّ الذي تركتْهُ لنا الأرضُ من سِـيَـرِ الأنبياءْ
* * *
بواسطة Ibrahim Hamidi | مارس 9, 2018 | News, غير مصنف
الخطة الروسية للغوطة، هي: تقسيم شرق دمشق إلى شطرين، شمالي وجنوبي، على أن يضم الشطر الشمالي «منطقة خفض التصعيد» مع «جيش الإسلام» بوساطة القاهرة وضمانة موسكو، فيما يجري عزل الشطر الجنوبي الذي يضم «فيلق الرحمن» و«هيئة تحرير الشام» (النصرة سابقا) وبعض الحضور لـ«أحرار الشام» مع تكثيف القصف والعمليات العسكرية لإخراج «النصرة» أو «تكرار نموذج حلب».
اللافت، أن هناك رابطاً ضمنياً بين سير العمليات العسكرية والقصف المدعوم روسيا في الغوطة من جهة وعمليات الجيش التركي وفصائل معارضة صوب عفرين شمال غربي حلب الجارية بضوء أخضر روسي أيضاً من جهة ثانية. كما بدا أن الحديث الجدي عن استئناف مفاوضات السلام في جنيف أو بدء المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا تشكيل لجنة دستورية بموجب مخرجات مؤتمر سوتشي، مؤجلان إلى ما بعد انتهاء العمليات العسكرية.
في التفاصيل، أقر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطة عسكرية للسيطرة على غوطة دمشق مع توفير كل الإمكانات العسكرية لتحقيق ذلك قبل موعد الانتخابات الرئاسية في 18 الشهر الجاري. ولاعتبارات مختلفة، جرى إقرار خيار تقسيم الغوطة إلى شطرين. وقال دبلوماسي غربي أن الخطة قضت بأن تتقدم قوات العميد سهيل الحسن المعروف بـ«النمر» من الطرف الشرقي من النشابية وأوتايا لتلتقي مع قوات الفرقة الرابعة التابعة للحرس الجمهوري التي بدأت العمليات من طرف حرستا وإدارة المركبات. لكن الذي كان مفاجئا، هو سرعة تقدم قوات «النمر» التي اتبعت أسلوب «الأرض المحروقة» بدعم روسي وبطء تقدم القوات الأخرى من الجبهة الأخرى وقيام مقاتلي «أحرار الشام» بعمليات عكسية. وتحدث الناطق باسم قاعدة حميميم أليكسندر إيفانوف أمس عن «تعثر تقدم القوات البرية من الفرق العسكرية القتالية من الجهة الغربية من الغوطة الشرقية. وأصبح لدينا تفاؤل متزايد بإمكانية تحقيق ذلك بوقت قريب بعد أن تم إرسال قوات الفرقة السابعة».
وأسفرت الحملة العسكرية خلال أسبوعين عن مقتل 900 مدني بينهم 91 يوم الأربعاء، بحسب «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، علما بأن الغوطة تضم 400 ألف شخص. ودعا مجلس الأمن الدولي أول من أمس إلى تنفيذ قراره الصادر في 24 الشهر الماضي الذي يطالب بوقف إطلاق النار في عموم سوريا لمدة 30 يوما وإدخال المساعدات، لكن للمرة الثانية لم يسمح بدخول المساعدات يوم أمس.
وتستند الخطة الروسية إلى القرار 2401 وإشارته إلى أن وقف النار لا يشمل «داعش» و«القاعدة»، إضافة إلى «كل الأفراد والمجموعات المرتبطة بالقاعدة والتنظيمات الإرهابية الأخرى بحسب تصنيف الأمم المتحدة»، إذ إن الجانب الروسي يعمل مع ضباط مصريين لتحييد دوما عن العمليات العسكرية عبر تجديد التزام اتفاق «خفض التصعيد» الذي أنجز في القاهرة في صيف العام الماضي. إذ يضم «جيش الإسلام» 7 – 8 آلاف مقاتل، ويعتبر القوة الرئيسية في الغوطة.
في المقابل، ترمي موسكو من خلال دعم تقسيم الغوطة إلى شطرين إلى التعاطي مع القسم الجنوبي بطريقة مختلقة. وأوضح الدبلوماسي أنه بعد تحقيق التقسيم سيكون التركيز على مناطق «فيلق الرحمن» و«النصرة» و«أحرار الشام» في القسم الجنوبي من الغوطة. وتجري محاولات لإخراج عناصر «النصرة» على أمل تجديد اتفاق «خفض التصعيد» الذي عقد أيضا مع «فيلق الرحمن» في جنيف نهاية العام الماضي.
وأدى رفض «النصرة» الخروج من شرق حلب نهاية العام 2016 إلى استمرار العمليات العسكرية إلى حين سيطرة قوات النظام وحلفائها على المنطقة. وأبلغ دي ميستورا مجلس الأمن مساء أول من أمس أن في جنوب الغوطة هناك 270 عنصرا من «النصرة» وموسكو تقول إن عددهم 350 عنصرا و«هذا العدد لا يشكل إلا نسبة قليلة من 8 – 9 آلاف مقاتل معارض في الغوطة». وقال: «لن أنسى عدم النجاح في الحد من عذابات سكان شرق حلب».
وأشار المسؤول الغربي إلى وجود رابط بين تطورات غوطة دمشق وعملية «غضن الزيتون» قرب عفرين و«كأن هناك مقايضة لغوطة دمشق مقابل عفرين كما حصل عندما جرت مقايضة شرق حلب بمناطق درع الفرات بين حلب وجرابلس على حدود تركيا». ولاحظ «بطئاً في المفاوضات الجارية لإخراج النصرة من القسم الجنوبي للغوطة».
بالتزامن مع قرب تقسيم الغوطة الشرقية لدمشق، سيطرت القوات التركية وفصائل سورية موالية أمس على بلدة جنديرس الاستراتيجية جنوب غربي عفرين بعد أسابيع من المعارك العنيفة. ورفع عناصر «فيلق الشام» الفصيل الأساسي في «غصن الزيتون» رايتهم على مركز الإدارة الذاتية داخل جنديرس.
وأعطت موسكو أنقرة ضوءاً أخضر للقيام بعملية «غضن الزيتون» في 20 يناير (كانون الثاني) بالتزامن مع معارك شرق دمشق كما حصل لدى مباركة عملية «درع الفرات» نهاية 2016 بالتزامن مع معارك شرق حلب. وتشارك روسيا وتركيا مع إيران في رعاية عملية آستانة. ومن المقرر أن يجتمع كبار الموظفين في الدول الثلاث في آستانة في منتصف الشهر قبل لقاء وزراء الخارجية في الدول الثلاث للتمهيد لقمة ثلاثية روسية – تركية – إيرانية الشهر المقبل تضع تصورا للحل السياسي السوري.
وفي موازاة محاولات مسؤولين عسكريين واستخباراتيين أتراك وأميركيين للبحث عن حل لـ«عقدة» منبج وتدفق مقاتلين من «وحدات حماية الشعب» الكردية من شرق سوريا حيث يقيم الجيش الأميركي إلى عفرين، ينتقل مسؤولون أتراك إلى موسكو في الأيام المقبلة لوضع لمسات أخيرة على تفاهمات تتعلق بـتسوية في غوطة دمشق لتحييد المدنيين وإدخال المساعدات من جهة وبترتيبات الوجود التركي و«الجيش الحر» في عفرين، بحسب معلومات.
عليه، لن يأخذ الحديث عن تشكيل اللجنة الدستورية بموجب بيان سوتشي، صفة جدية قبل الانتهاء من ترتيبات الغوطة – عفرين – منبج والانتخابات الرئاسية الروسية والقمة الثلاثية للدول الضامنة. وكان لافتا أن اجتماع ممثلي الدول الضامنة الثلاث مع دي ميستورا في جنيف قبل أيام لم يتضمن حماسة ثلاثية لتحريك اللجنة الدستورية مع أن العواصم الثلاث تبادلت قوائم لسوريين مرشحين لبحث الإصلاح الدستوري السوري.
تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»
بواسطة Louay Salman | مارس 8, 2018 | Cost of War, Culture, غير مصنف
همّشتْ الحرب الدائرة المثقفين السوريين وأنواع الفنون الثقافية، وحُرم الكتاب والمثقفون المقيمون في الداخل، رغم ظروف الحرب، من المشاركة في المهرجانات والمعارض والأنشطة الثقافية العربية. كانت القطيعة داخلية وخارجية، وقد أدت إلى حرمان الجمهور من الاطلاع على كافة الإصدارات الجديدة من كتب ومجلات كانت تأتي إلى العاصمة السورية بشكل دوري قبل الحرب. واليوم نجد أنفسنا أسرى العالم الإلكتروني – في الأوقات التي تأتي فيها الكهرباء – باحثين عن كتاب أو مجلة أو صحيفة لنطلع من خلالها على ما يدور من أحداث ونتاج ثقافي لم يعد يصل إلينا كمنشورات ورقية.
المقاهي تعود جزئياً
عاد لبعض المقاهي الدمشقية ألقها وتحولت إلى مواقع للتواصل الاجتماعي بعد أن هجرها الكثير من المثقفين صوب العالم الافتراضي. تجد غالبية المهتمين من روائيين وكتاب يحرصون على تواجدهم في المقاهي الشعبية للمشاركة بحوارات وندوات ارتجالية للبحث في ظاهرة أو النقاش حول إصدار جديد رغم أن أبرز ما يسيطر على الجلسات هو الوضع الأمني والتطورات السياسية، لكن أغلب المثقفين يغيبون عن فعاليات ثقافية منظمة تطلقها المؤسسات الرسمية، وهي لم تخرج عن شكل الصالونات الثقافية التي كانت منتشرة في سورية قبل عقود، لكن من دون أن يكون هناك أي اتفاق مسبق على المواضيع التي ستطرح أو تناقش أثناء هذه الجلسات الودية والتي نادرا ما تصل إلى سبعة أفراد.
إعادة تدوير
المطالعة على ضوء الشموع في ساعات الليل هي ما يميز ليالي المثقفين السوريين، كثير منهم عاد لقراءة كتب كان قد قرأها سابقاً، أو قراءة كتب مركونة في مكتبته المنزلية ولم يسمح له الوقت للاطلاع عليها في زمن الكهرباء والتواصل الاجتماعي، حتى زمن الكتابة على الورق عاد وفرض نفسه بقوة. ولم يعد البعض يرزح تحت رحمة التيار الكهربائي، المهم أن لا يتوقف عن الفعل.
هناك قسم كبير من المثقفين بدأ يرتاد مكتبات الرصيف للبحث عن كتب قديمة أو كتب ترفض المكتبات وضعها على رفوفها ليطفئ عطشه الثقافي، إعادة تدوير ثقافية لصحف ومجلات صادرة في عشرينات وثلاثينيات القرن المنصرم.
ورغم الكثير من العراقيل هناك من يصر على إنشاء حركة ثقافية ولو على الصعيد المحلي، القاص خضر الماغوط قال: “ما زلنا نتابع الحياة الثقافية والأدبية، عن طريق الندوات والمحاضرات والملتقيات الخاصة التي أحدثتها الحرب في العديد من المناطق السورية، غير خاضعين للظروف القاهرة والصعبة التي تصادفنا،” مؤكدا على “أن المقاطعة الدولية والعربية المفروضة على سورية لم تكن مقاطعة اقتصادية فقط، بل هي مقاطعة لكل نواحي الحياة بما فيها الثقافية، فلم يعد يصل من دور النشر الخارجية إلى سورية كتب، مجلات، صحف، دوريات أو حتى تبادل للوفود الثقافية بين سوريا والعالم الخارجي. تُوجه إلينا دعوات لمهرجانات الرواية والقصة من قبل المنظمين في الدول العربية، لكن السياسة تحرمنا من المشاركة ولا تمنحنا سمة دخول.”
يضيف أن المكتبات وأكشاك بيع الصحف أصبحت خاوية تماماً من كل ما هو جديد. وبالطبع افتقدنا جميعاً إلى الكثير من الصحف والمجلات التي كنا نتابعها وفقدناها فجأة، وكان من الممكن أن يحدث تصحر ثقافي بالكامل لولا وجود الكتب والجرائد والمجلات الورقية بما يعادلها من النسخ الإلكترونية عبر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت في متناول الأغلبية من المهتمين رغم بعض الصعوبات أحياناً.
هناك دوريات ليس لها مواقع على الشبكة العنكبوتية، وأخرى لا تزود مواقعها إلا بعناوين الموضوعات، إضافة إلى قلة عدد الصحف والمجلات السورية، حتى الصحف التي تصدر غاب عنها زوايا الثقافة والفكر والأدب والإبداع لسببين، أولهما أن الجريدة الرسمية تخصص أغلب صفحاتها لمواضيع تخص الحرب والصراع في المنطقة، وغابت عنها الصفحات الثقافية، إلا في ما ندر، أما الصحف والمجلات الخاصة فنجدها جنحت إلى الاهتمام بالدعاية والإعلان التجاري، أضف إلى ذلك الشللية والعلاقات الخاصة، فلا يجد الكاتب مكاناً له طالما هو بعيد عن الشلل واللوبيات الثقافية، هذا ما يحدث أيضا في الجرائد والمجلات الحكومية، التصحر موجود في العلاقات بين المثقف والصحف المحلية، أكثر مما هو ناتج عن غياب الصحف والمجلات الخارجية، لكن رغم الإمكانيات البسيطة والثقافة والوعي، استطعنا تجاوز المعوقات التي تسعى إلى توقف حياتنا الاجتماعية والفنية والثقافية وما زال هناك وسائل لاستمرار الحياة الثقافية، رغم قساوة الظروف التي خلقتها الحرب وتخلقها في كل لحظة.
الشاعرة عبير سليمان تؤكد على استمرار علاقتها مع الكتاب رغم أنها فوضوية نوعا ما: “قبل الحرب كنت أحرص على اقتناء الإصدارات الجديدة وأثابر على القراءة، أثناء الحرب أقرأ مجموعة من الكتب وبشكل عشوائي من غير أن أنتهي من قراءتها أنهيت بعضها فقط، الكتب التي أحرص على قراءتها وأنتهي منها في يوم واحد كتب الشعر ربما لأنها الأقرب وجدانيا.”
أما فيما يخص دور النشر الخارجية لم يعد يصلنا الجديد، أحيانا نستطيع الاطلاع على النسخ الإلكترونية للأصدقاء خارج سورية، أما الكتب الأخرى فنعرف عنها من خلال ما تكتب عنه الصحافة. في سورية دور النشر مستمرة وثمة أزمة إعلانية، لا أحد يلقي الضوء على الأسماء والإصدارات الجديدة، ودور وزارة الثقافة خجول بالنسبة للكتاب كما النشاطات الأدبية شبه المعدومة، ولولا التواصل الافتراضي بين الكتاب والشعراء لاعتقدنا أن أنواع الأدب أصابتها قذيفة ولفظت أنفاسها الأخيرة.
الكاتب والفنان التشكيلي أيمن الدقر قال: “لا أعتقد أن التصحر الثقافي بسبب الحرب، التصحر قائم أصلا عند معظم الناس. لا أعتقد أن هناك عائلة سورية لا تمتلك مكتبة منزلية، وهناك مكتبات تزخر بكتب مهمة وعشرات الكتب التي تحمل توقيع مؤلفها وأجزم أن أحدا منهم لم يقرأ إلا صفحة الإهداء.” لكن بشكل خاص وإن كنا نريد الحديث عن النخبة أو القارئ الحقيقي، أعتقد أن أغلب ما كان يرد من مجلات لا يستحق القراءة أما الكتب فهناك ما يستحق المطالعة والاقتناء، غير أن غالبية الدوريات التي كانت تصل ورقية كالصحف حجزت لها مكانا على صفحات الانترنت، ومن يريد فعلا أن يقرأ ويتطلع إليها يستطيع ذلك بسهولة باستثناء القليل ممن لم يتصالحوا مع التطور التكنولوجي وما يزالون يستخدمون القرطاس والقلم جازماً أن أسباب التصحر الحقيقية بدأت قبل الحرب. يسأل: “أين كتب الطفل ومجلات الأطفال واليافعين؟.” الطفل استبدل الكتاب بجهاز خليوي وألعاب إلكترونية، مع تطور عالم الميديا والقنوات الفضائية التي تعمل على خلق ثقافة جديدة أرهقت الإنسان العربي وجعلته غير قادر على تنمية ميوله الثقافية وتركته رهينة القلق والخوف من المستقبل.
من جسر فكتوريا إلى جسر جورج واشنطن
عمار شاهين صاحب بسطة لبيع الكتب، قال لنا: “بالطبع هناك مشكلة بالنسبة للإصدارات الجديدة التي لم يعد يصل أغلبها، لكن ذلك لم يؤثر بشكل كبير، هناك آلاف الكتب المهمة التي تستحق القراءة ولم تطلع عليها الأجيال الجديدة، وهي موجودة لدينا بأسعار زهيدة مقارنة بأسعار الكتب الجديدة التي تصدر وغير مهمة.” ويرى شاهين أن الكتب القديمة والمجلات مضامينها أهم بكثير مما فقدناه من الكتب والمجلات الحديثة التي لم تعد تصل أثناء الحرب، مضيفا: “هل يمكن مقارنة مجلة شعر أو الآداب بالمجلات الثقافية التي كانت تأتي من الخليج وكتب التنفيعات. كنا دائما نرفض شراءها ووضعها ضمن مجموعتنا، حتى الإصدارات القديمة من المجلات السورية – مجلة المعرفة – أهم بكثير من الأعداد الجديدة التي تصدر اليوم من المجلة ذاتها، لدينا الكثير الكثير من أمهات الكتب القيمة التي لا يمكنك أن تجدها أصلا في أشهر المكتبات السورية، لكن ما زال البعض يتعامل مع مكتبة الرصيف بتعالٍ خاصة، ولم تهتم الحكومات بمكتبات الرصيف وتمنحها أكشاكاً خاصة بها كما منحت بعض المهن اليدوية وبائعي السجائر.
عادل صاحب بسطة صغيرة في مدخل بناء يؤكد أنه كان يعيش وعائلته من مهنة بيع الكتب والمجلات، لكنه اليوم يضع كتباً قديمة ومجلات قديمة نادرا ما يجد راغبا لها. يقول: “اليوم يعرض علينا كتب ومجموعات أكثر مما يطلب منا، أكثر من شخص طلب مني أن أبيع له مجموعات أدبية، وموسوعات كان اقتناها في زمن الرخاء، اليوم رغم ارتفاع سعر الورق والتجليد الفني سعر تلك المجموعات أقل لكن لا أحد يقبل أن يقتنيها، المهتمون بالكتاب والثقافة لا يملكون المال، وأصحاب الأموال لا يعنيهم إلا المجلات الفنية وأخبار الموضة،” نعم هناك جفاف وتصحر و”تقحل” حسب تعبيره.
أبو مهيار الميداني لديه عروض للكتب المستعملة، لكن الكتب القيمة مغلفة يضعها جانبا في صناديق كرتونية، مجلات مسرحية وسينمائية تعود إلى أيام الوحدة بين سورية ومصر، مجلدات ضخمة، أعداد قديمة جدا لمجلات مصرية ولبنانية، جهة مخصصة للكتب الصادرة عن دور نشر عراقية، للوهلة الأولى تعتقد أنه مجرد بائع “كومسيون” يشتري ويبيع الكتب المستعملة، لكن ما إن تبدأ الحديث معه حتى تجده يكبر ويكبر حتى يملأ الفراغ تحت جسر فكتوريا. يكاد رأسه يوازي الجسر، تكتشف أنه ليس مجرد بائع أو مطلع يرشدك إلى الكتب المهمة، يقدم شرحا وافياً عن كل كتاب، حتى الكتب غير الموجودة لديه يقدم لمحة عن المؤلف وأهم ما صدر له بما فيها الكتب المترجمة، تكتشف لا حقا أنه خريج كلية الآداب قسم اللغة العربية. يقول: “ما تشاهده عندي مجرد جزء مما كنت أملكه من الكتب، المكتبة التي فقدتها مع منزلي وابني المخطوف في حي “عين ترما” كانت تضم خمسة عشرة ألف كتاب وكلها كتب مهمة، سأبيع ما بقي لدي من كتب وأهاجر إلى أمريكا، لدي موافقة من قبل الحرب لكن لم أسافر، اليوم لم أعد أملك إلا القليل من الكتب.
دور النشر والمكتبات
بعض الدور لا تصدر عنواناً واحداً في العام، وبعضها تعيد طباعة ما نشرته سابقاً. الدور العلمانية وبعض الدور الدينية ما زالت تحافظ على نشر كتب جديدة، الكل يحاول الحفاظ على وجوده رغم المتغيرات السياسية، وكثيرة هي العناوين التي يعاد نشرها، أو تقوم بعض الدور بطباعتها على نفقتها الخاصة إكمالا لمشروعها غير المعلن. بالمقابل هناك الكثير من دور النشر توقفت عن العمل بسبب الظروف الاقتصادية التي فرضتها الحرب، ودور عمرها بعمر الحرب لم تطبع كتابا واحدا، وأخرى قديمة تعيد طباعة عنوان واحد فقط. كلفة طباعة الكتاب الواحد اليوم توازي طباعة ستة كتب في العام الأول من الحرب وذلك بسبب غلاء الورق والأحبار والمواد التي تخضع لانخفاض سعر الليرة، وهذا برأي الكثيرين سبب إحجام البعض عن اقتناء الكتاب اليوم، والذي لا يتناسب سعره مع دخل الفرد. كما يلجأ بعض الكتاب لطباعة مؤلفه على نفقة المؤسسات الرسمية من غير أن يدفع ليرة واحدة لكنه يقع في مشكلة الحذف والرقابة التي ترفض غالبا ما لا يتوافق مع مزاج الرقيب.
العناوين الجديدة
العناوين الجديدة قليلة نسبياً في أي مكتبة مختصة. يتصدر الواجهة كتب الصراعات السياسية والحروب، وكتب تروي سيرة بعض الحكام الذين أثروا في العالم أثناء فترة حكمهم. الرواية تحتل المكتبات لكن أغلبها إصدارات قديمة ومحلية، الكتب والروايات التي تطبع في دول مجاورة لكتاب سوريين من غير الممكن أن تجدها على رفوف مكتبة بسبب غلاء ثمنها والاحتكار الذي تمارسه الدور الخارجية على المؤلف حين تكون الطباعة على كلفتها.
يرجع صاحب مكتبة نوبل المشكلة إلى غياب الكثير من العناوين الجديدة بسبب فرق الأسعار ودخل الفرد يقول: “إن دخل الفرد في الحرب لم يعد يسمح له باقتناء كتابين، جميع أنواع الكتب السورية تضاعفت أسعارها ثلاث أو أربعة أضعاف بما فيها الكتب القديمة كونه لم تعد تتكرر طباعتها، غير أننا لم نعد نستطيع تلبية رغبة القارئ بأنواع الكتب التي تصدر في دور نشر خارج سورية لعدة أسباب أولها فرق السعر وانخفاض سعر الصرف، وأجور الشحن الغالية نسبياً، الأمر الذي يضاعف سعر أي كتاب إلى عشرة أضعاف سعره في السابق، حتى أننا لم نعد قادرين على شراء عناوين جديدة لوضعها في الواجهة ولا أحد يسأل عنها، الكثير من المهتمين يسألون عن أسماء وعناوين لكنهم يحجمون عن شرائها، وللأسف لم يعد يوجد نهم للقراءة بسبب ظروف الحرب، للأسف الثقافة لم تعد أولوية عند المواطن السوري. وبعد بدء الحرب الكثير من المكتبات أغلقت أبوابها ومنها ما تحول إلى مطاعم للوجبات السريعة ولبيع إكسسوارات الهاتف الخليوي.”
لم تتوقف الجهات المعنية بالثقافة والكتاب عن العمل طيلة فترة الحرب سواء في طباعة المؤلفات السورية، أو ترجمة المؤلفات من لغات أخرى، محاولة أن يكون سعر الكتاب متماشياً مع دخل الفرد رغم الزيادة التي طرأت عليه خلال الخمس سنوات الماضية، حتى أنه بإمكان المهتم ترقب المعارض الصغيرة الدائمة والتي تقدم حسومات للقارئ تصل إلى خمسين بالمائة أحيانا، لكن أغلب الإصدارات تتعلق بالحرب وآثارها وأسبابها وتداعياتها وثقافة المقاومة، العروبة وأسئلة النهضة، الأزمة السورية وثقافة التكفير الإرهابي، الحرب القذرة …الخ. أما الكتب الثقافية فنجدها مكررة كأن تصدر المجموعة الكاملة لشاعر أو قاص، أو دراسات نقدية عن الشاعر وشعره وغالبا ما تكون بتكليف من الشاعر ذاته لبعض أصدقائه، أو تكون من أجل المال فنجدها خالية من النقد الحقيقي وتتجه نحو الإطناب والتصفيق والتأليه الأدبي، وللأسف أغلب الإصدارات الثقافية ضعيفة من حيث المضمون والكتب التي تحمل قيمة قليلة نسبيا بالنسبة لما يتم طباعته ونشره كل عام. وهو أحد أسباب عزوف ونفور الفرد عن قراءتها والاطلاع على محتوياتها.
دمرت الحرب الكتاب كما دمرت رموزاً من التراث الإنساني، وهو ليس مجرد كلام استهلاكي فهناك الكثير من الجرائم الفنية ارتكبت بحق المكتبات الخاصة، ومستودعات كثيرة للكتب خاصة وعامة لا أحد يعرف شيئاً عن مصيرها، وثمة كتب نُهبت وكتب أُحرقت وكتب كان مصيرها حاويات القمامة، مكتبات شخصية تركها أصحابها وأغلب تجار الكتب المستعملة فقدوا مستودعات مليئة بكتب قديمة، وكل هذا انعكس على الجو العام وعلى حياة الفرد والمثقف فلم تنج الثقافة هي الأخرى من اللصوص والحدث اليومي والقذائف والحرب.
بواسطة Mohammad Saleh | مارس 8, 2018 | Cost of War, غير مصنف
أحاول قراءة الواقع من كل الزوايا التي أستطيع الرؤية منها ومستنداً إلى التاريخ (المدوّن والشفهي) ووقائعه من وجهات نظرٍ متعددة. قرأت الكثير عن حوادث تاريخية ومجازر شهدتها بلادنا وقد استُخدِمت بعض السرديات حول هذه المجازر بغرض التحريض الطائفي لاحقاً رغم أن جذر المجزرة الأصلية لم يكن يمتّ للطائفية بصلة. ورغم ذلك يتداول البعض هذه السرديات دون نقد بغرض التحريض الذي قد يُفضي إلى القتل ويتم إضافة تفاصيل مختلقة قد تطغى على جوهر وجذور الحدث نفسه.
فعلى سبيل المثال كنت أسمع عن مجزرةٍ ارتكبها الإسماعيليون بحق العلويين في بلدة القدموس (التابعة لمحافظة طرطوس) منذ بضع مئات من السنين، وبحسب المرويات فقد قتلوا خمسين من رجال الدين العلويين الذين تم رميهم في بئرٍ في قلعة القدموس. كانت الروايات أحياناً تزيد من قسوة المشهد عبر رواية تفاصيلٍ عن التمثيل بالقتلى وكأّنّ الرواة شهود عيانٍ لكنّ الصور المكثفة التي ينسجها الخيال تجعلك، إن كنت علوياً، متحفزاً لقتل كل اسماعيليٍ. أما واقع الحال فإنّ القصة وإن حدثت فعلاً إلا أنّ أسبابها ليست طائفية كما يتداول البعض مساهماً في بناء مظلومياته الخاصة. ربما كان الضحايا جميعاً من خارج المذهب العلوي أو ربما قتل بضعة أفراد والبقية كلهم من المذهب الإسماعيلي من أنصار ولي عهد قلعة القدموس الذي تم تهريبه وقتل أنصاره ليستتب المُلك (الإمارة ) لابن أمير القلعة، الذي أصدر أمراً بتعيين ابنه ولياً للعهد بدلاً من أخيه الذي هرب بعد قتل أنصاره في القلعة وكوّن أسرةً جديدةً من مذهبٍ آخر وأصبح علوياً.
كان “صالح” ولي عهد القلعة والجد الأكبر لعائلتي وأصبح أعرجاً جرّاء القفز من القلعة وبقيت ذكرى هذه الحادثة متداولة في عائلتنا. قد يقول قائل إنّ ولي العهد الفار كان علوياً قبل مغادرة القلعة، يبقَى ذلك مجرّد تكهناتٍ لا يمكن التحقق منها. والمغزى من هذه القصة، وغيرها من قصص المظلوميات المتداولة بين من يحسبون أنفسهم أبناء طوائف ومذاهب، أن أساس المجزرة كان صراعاً بين الأخوة على السلطة وليس على المذهب.
بدأت بهذه المقدمة الطويلة لأشير إلى توظيفٍ مشابه لحوادث، لا أساس أو دافع طائفي وراءها، وقعت في عدة مناطق بعد اندلاع الانتفاضة السورية وخلال الحرب الدائرة ويتم تداولها بغرض التحريض الطائفي ولحرف الأنظار بعيداً عن جذر الحدث، وقد عايشتُ بعض هذه الحوادث عن قرب.
في 8 شباط/فبراير من العام 2014، وأثناء المفاوضات على خروج المدنيين من حمص القديمة وإدخال المعونات لمن سيبقى تحت الحصار كانت هناك مطالبات بالكشف عن مصير المختطفين بالمناطق المحاصرة والذين تم اختطافهم على خلفية طائفية. انتهت المفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة بعد مخاض عسير وتم الاتفاق بموجبها على خروج المدنيين ممن يريدون الخروج وإدخال مساعدات غذائية لمن رفض الخروج. وبالفعل خرج الكثير من المدنيين وغالبيتهم من النساء والأطفال والعجزة وتم إدخال المساعدات تحت إشراف الأمم المتحدة، في هذه الأثناء تداعى الكثير من أهالي المخطوفين من أحياء الزهراء وعكرمة والنزهة للاعتصام ضد تنفيذ الاتفاق حتى يتم الكشف عن مصير أبنائهم المخطوفين.
أخذت هذه الدعوة أشكالاً تحريضية على صفحات التواصل الاجتماعي بشكل مريب، فقد تداول بعض الناشطين (المعارضين) الخبر تحت عنوان “أهالي الأحياء الموالية يعتصمون ضد إدخال الغذاء إلى المحاصرين بحمص القديمة” في حين دعا بعض المؤيدين صراحةً بالموت للمحاصرين بناءً على دوافع طائفية، بينما انتفى العنوان الحقيقي لسبب الاعتصام وهو الكشف عن مصير المختطفين الذين تمت تصفيتهم وحرمانهم من الحياة وبنفس الوقت وُجد من يتهم الآخرين بأنهم يريدون منع الغذاء عن المحاصرين. هذا لا يعني أبدا عدم وجود مثل هؤلاء الذين يريدون منع دخول المساعدات إلى المحاصرين لاعتبارات شتى ولكن الجميع خرج تحت عنوان نريد معرفة مصير المفقودين وقد تم تغييب ذلك العنوان تماماً عن كل الصفحات والأخبار. كنتُ قد كتبت حول هذا التحريض والتشويه لحقيقة ما يحدث على صفحتي الشخصية السابقة على الفايسبوك (قبل إغلاقها إثر اعتقالي) بعد اتصالي مع بعض الناشطين الذين دعوا إلى الاعتصام. وقد سألت شابة اختُطف شقيقها واسمه حسن ادريس وأخبرتني عن أسباب تنظيم هذا الاعتصام وأكدت لي أنه “يوجد بعض من يستغل الاعتصام لهدفٍ آخر ولكننا سنخرج من أجل هدفٍ واحد ألا وهو معرفة مصير مخطوفينا.”
كنت قد حذرت وقتها وأنا أرى التهافت على التحريض الطائفي: “تريثوا وتبينوا ولا تهجموا كالمجانين حتى لا يصيبكم الندم. ما حدث مخجل أن يفعله كائن بشري، ولكن ردة الفعل كانت من نفس البضاعة وكلي أسف وأنا مكتئب لدرجة أنني فكرت بتسكير كل أنواع الاتصالات وقنوات التلفزيون. لن ننتصر إلا بالحب ومن يصدر الحقد سيرتد إليه.” لكنّ التشويه والكذب لم يتوقف.
بعد اتفاق الوعر (آذار/مارس 2017) تمت الدعوة مجدداً للاعتصام على طريق طرابلس من أجل الموضوع نفسه والمطالبة فقط بمصير المخطوفين، ولكن لم يتم الأمر ولم يعرف أحد من ذوي المخطوفين أية معلومة عن أبنائهم. ربما كانت السلطة راضية عن ذلك حتى لا يكون هناك مطلب من الطرف الآخر بالكشف عن المختفين في سجون النظام أيضاً. الذي يهمني من المثال الذي أوردته هنا، ومثله كثير، هو الآلية التي يتم من خلالها استغلال العنف والغضب من أجل التحريض الطائفي وفرض قراءة للحدث من زاوية واحدة وهي نفس الزاوية التي يتم من خلالها توصيف الصراع في سوريا كصراعٍ بين طوائف عبر إخفاء الأسباب الرئيسية لبعض الحوادث لأنها لا تخدم أجندته وهذه جريمة بحق المجتمع وأهالي الضحايا، ولكن يوجد دائماً من يلوي عنق الحقيقة ويعزو الحدث لشيء آخر.
عند انعدام الأمانة والتعتيم على حقيقة حدثٍ ما، فإنّ الناقل يُخفي شيئاً من القصة ويضيف ما يناسبه ليقدمه لهذا الطرف أو ذاك حتى لو تسبب الخبر في تشويه التاريخ وهدم الوطن والتحريض على القتل. يجري الآن توثيق الكثير من الحوادث التي حدثت بالسنين السبع الأخيرة ويمكن أن تجد وثائق لا تتعدى مصداقيتها أكثر من ذكر الواقعة، في حين تضلل تلك الوثائق الباحث عن حقيقة ما حدث فعلاً ويضيع السبب والفاعلين والشهود، وبرأيي هذه جريمة يرتكبها هؤلاء بحق السوريين. أن تخفي الكثير أو القليل من الوقائع لأنها لا تتفق مع قضيتك أو تعريفك للضحية والمجرم فأنت تسهم في استمرار الجريمة.
بواسطة Ibrahim Hamidi | مارس 7, 2018 | News, غير مصنف
أكد وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، في حديث إلى «الشرق الأوسط» أمس، أن زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى لندن ستسفر عن نقل العلاقات إلى مرحلة جديدة من الشراكة الاستراتيجة بين البلدين.
وقال جونسون إن المحادثات السعودية – البريطانية ستتناول تعزيز العلاقات الثنائية وملفات الشرق الأوسط، موضحاً: «نحن نعتقد ونفهم حق السعودية للدفاع عن أمنها». وأشار إلى أنه «ليس مقبولاً أبداً أن تُستخدم الصواريخ الحوثية الإيرانية ضد السعودية، ونريد أن نرى نهاية لها. ولندن توافق الرياض القلق من الدور الإيراني» في الشرق الأوسط.
وعن الملف السوري، قال جونسون: «ما قام به النظام السوري بالسلاح الكيماوي والكلور والسارين، مقرف. ويجب أن يحاسب على ذلك. وهذا أحد الأسباب. العديد من الناس الذين كانوا ينتقدون الرئيس دونالد ترمب أيدوه عندما قرر توجيه ضربات (على قاعدة الشعيرات) بعد الهجوم على خان شيخون» في أبريل (نيسان) العام الماضي.
وسئل عن تقارير تفيد بأن ترمب يبحث توجيه ضربات جديدة، فأجاب أن هناك تقارير من ان الأمر يناقش حالياً في واشنطن. وأوضح: «ليس هناك اقتراح محدد. هذا شيء افتراضي. لكن قرار ترمب الهجوم على قاعدة الشعيرات في أبريل العام الماضي، قرار صحيح».
ولاحظ جونسون أن الغارة الأميركية على «مرتزقة» روس قرب دير الزور أدت إلى «مقتل 195 منهم. وهذا أكبر عدد رأيته من الروس الذين قتلوا من قبل الأميركيين طوال حياتي»، ما يعني أن الروس يخسرون. وأضاف أن ما يحصل في غوطة دمشق «مأساة وأمر شائن… لكن لا نستطيع إرسال إشارات إلى الناس الذين يعانون أننا سنأتي لمساعدتهم ولا ننفذ وعودنا. الخيارات التي لدينا محدودة». وزاد: «فرصة التدخل العسكري حصلت في 2013 ولم نأخذها، ونحن نعيش تداعيات ذلك إلى الآن».
وهنا نص الحديث الذي جرى في مكتب جونسون في الخارجية البريطانية مساء أمس:
– أنت ذاهب بعد قليل لاستقبال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في المطار؟ وهذه أول زيارة لولي العهد إلى دولة أجنبية بعد مصر؟
– نعم إنني ذاهب لاستقبال ولي العهد السعودي في المطار. وإنني فخور بصفتي وزيرا للخارجية البريطانية وأيضاً الحكومة البريطانية فخورة بذلك. وهذه شهادة لعمق العلاقة التاريخية التي تعود إلى أمد بعيد من زمن (رئيس الوزراء الراحل) ونستون تشرشل وجد الأمير محمد. بريطانيا كانت منخرطة بدفء مع السعودية. شراكة عميقة بين البلدين. وحان الوقت كي نضع الأساس للانتقال إلى مرحلة جديدة.
– ما هي هذه المرحلة؟
– مرحلة نؤسس فيها مجلساً للشراكة الاستراتيجية الذي يعقد أول اجتماعاته غداً (اليوم). لو نظرت إلى الأمير محمد، فإنه يغيّر بلده والحديث في كل مكان عن هذا الأمر. وهذا أمر واقع. أطلق برنامجاً للإصلاح نعتقد أنه مشجع ويسير في الاتجاه الصحيح. هناك تقدم يحصل وممكن أن يحصل، لكن نعتقد في بريطانيا أنه مشجع وأن هناك انسجاماً عظيماً بيننا وبين السعودية. لدينا مجالات لتعزيز التعاون، حيث إن اقتصادي البلدين قويان ولدينا أهم الجامعات ونظام تعليم قوي ومركز علمي لتقنية المعلومات في بريطانيا. وإننا نرى ما يقوم به الأمير محمد برؤيته ونقل السعودية بعيداً من النفط والذهاب إلى اقتصاد المعلومات والذكاء الاصطناعي والمدينة الجديدة «نيوم» التي سيقيمها.
نعتقد أنه يمكننا التعاون في هذا المجال وإقامة شراكة في الثقافة والصحة والنقل والتكنولوجيا والتعليم في كل المجالات السياسية أيضا. سنتحدث، والحكومة ستتحدث مع الأمير محمد حول أفكاره لنرى ما يمكن القيام به لبناء شراكة ليس فقط للمستقبل القريب، بل إقامة بنية تحتية بيننا تستمر لوقت طويل وأجيال قادمة.
-كيف ترى الإصلاحات في السعودية من حيث السرعة والعمق؟
– أعتقد أن الشعب البريطاني يحتاج الى معرفة وفهم ما يقوم به الأمير محمد. أن تقود النساء السيارات، هذا أمر عظيم. بالنسبة للبعض يراه خطوة صغيرة، لكن في السعودية هي خطوة كبيرة. هناك أيضا في السعودية، انفتاح على الموسيقى والسينما. ما نشعر به وبقوة أن هذا يحصل في بلد عظيم وقيادي في العالم الإسلامي، وهذا بداية لتغيير في كل العالم الإسلامي. لذلك، فإننا معجبون بقوة بما يقوم به الأمير محمد، ونريد الانخراط بما يحصل، وفهمه ودعمه.
– ماذا عن التبادل التجاري؟
– سأخبرك قصة. عندما ذهبت للقاء الأمير محمد قبل أسابيع، غادرت من مطار هيثرو. كانت هناك امرأة شابة مشت معي إلى الطائرة، وقالت لي إنها من السعودية وهي لم تذهب لعشرين سنة، لكنها تذهب الآن وللمرة الأولى (منذ سنوات طويلة) لأنها سعيدة جداً بأنها باتت قادرة على حضور مباراة كرة قدم. هذا شيء صحيح. إن الأمور تتغير بوضوح. ويجب علينا أن نكون جزءاً من ذلك ونشجعه.
– تجارياً، هل يمكن بالفعل رفع مستوى الاستثمارات السعودية في بريطانيا إلى مائة مليار دولار أميركي خلال عشر سنوات؟
– نأمل بذلك. هناك استثمارات في أميركا بقيمة 400 مليار دولار أميركي. نحن أفضل من أميركا وآمالنا كبيرة. لذلك، نحن نأمل في الحصول على استثمارات سعودية.
– وشركة «أرامكو» قد تدرج في سوق لندن المالية؟
– دعنا نرَ. يجب أن ننتظر ونرى، إن شاء الله. نأمل ونعمل لتحقيق ذلك. لكن لا أستطيع الذهاب إلى تفاصيل الاستثمارات التجارية. يجب أن نترك ذلك لولي العهد.
– هناك جدول أعمال مكثف للزيارة ولقاءات رفيعة المستوى واستثنائية مع الملكة إليزابيث والأمير تشارلز ورئيسة الوزراء تيريزا ماي وقادة من بقية المؤسسات البريطانية والروحية. ما الرسالة من ذلك؟
– أهمية ذلك عظيمة. إن الأمير محمد رجل إصلاح ولديه رؤية معتدلة للإسلام. وهي تظهر أن لديه رغبة بالاستماع إلى جميع الديانات وأنه رجل تسامح واحترام متبادل. هذا أمر عظيم بالفعل.
– بالنسبة إلى الشؤون الخارجية، ماذا عن اليمن؟ ما المطروح على جدول الأعمال؟
– بصراحة، نحن نعتقد ونفهم حق السعودية للدفاع عن أمنها والرغبة في حماية نفسها، ونفهم أن الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي، وأن هناك قراراً دولياً يطلب دستوراً، وأن هناك تحالفاً يريد تحقيق ذلك (إعادة الشرعية). نفهم ذلك ونرى أن الحل سياسي في اليمن. يجب أن يكون هناك تقدم سياسي، ونحن في حاجة لرؤية نهاية لصواريخ الحوثيين.
– كيف يمكن وقف صواريخ الحوثيين؟
– يجب أن تكون هناك عملية سياسية وعمل لوقف هذه الصواريخ. ولا بد من محادثات بين الأطراف وآمل في تحقيق تقدم لعقد صفقة لتسوية سياسية تقبل بعض الدور للحوثيين في الحكومة اليمنية وتطلق برنامج استثمار في اليمن الفقير. وهناك شيء ضروري هو وقف اللاعبين الآخرين العسكريين. لا بد من دستور جديد في اليمن. وهذه الفكرة تلقى بعض الاهتمام.
– ماذا عن دور إيران في ذلك ودعم الحوثيين؟
– ليس مقبولاً أبدا أن الصواريخ الإيرانية تستخدم ضد السعودية. نريد أن نرى نهاية لهذه الصواريخ.
– كيف… وهناك دول عربية قلقة من دور إيراني الإقليمي؟
– نحن نوافق على ذلك. نريد رؤية الدور الإيراني في اليمن مضبوطاً. وهناك طريقة لتحقيق ذلك، مع دعم الحل السياسي.
– ماذا عن سوريا؟ هل تتفقون مع الرياض إزاء الملف السوري؟
– سوريا مأساة كبرى. أعتقد أننا نتفق مع أصدقائنا السعوديين في الرغبة القوية بإطلاق المفاوضات السلمية في جنيف وبداية عملية سياسية. ما يحصل في الغوطة الشرقية لدمشق أمر شائن. آمل في أن الروس والأسد سيقتنعون بأنهم لن يربحوا الحرب بهذه الطريقة. إنهم يزرعون الحقد لأجيال وأجيال. إنها مأساة وسيكون مستحيلاً أن يحصلوا على قبول الشعب السوري بعد كل ما حصل. يجب أن تكون هناك عملية (سياسية) وانخراط المعارضة السورية لمناقشة الوصول إلى حل سياسي لسوريا. هذا رأي بريطانيا. أعتقد أن ما قام به النظام السوري بالسلاح الكيماوي والكلور والسارين، مقرف. ويجب أن يحاسب على ذلك. وهذا أحد الأسباب، كثير من الناس الذين كانوا ينتقدون الرئيس دونالد ترمب أيدوه عندما قرر توجيه ضربات (على قاعدة الشعيرات) بعد الهجوم على خان شيخون (في ادلب).
– هناك تقارير أن ترمب يناقش حاليا توجيه ضربات أخرى؟
– هناك تقارير ان الأمر يناقش حالياً.
– ما موقف بريطانيا من ذلك؟
– ليس هناك اقتراحات محددة. هذا شيء افتراضي، لكن قرار ترمب بالهجوم على قاعدة الشعيرات في أبريل (نيسان) العام الماضي، قرار صحيح.
– يبدو أن وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون يراهن على الانخراط مع الروس؟
– يجب الانخراط مع الروس الذين يريدون الخروج (من سوريا). وإذا هم يريدون تمويل إعادة الأعمار، يجب أن ينخرطوا في العملية السياسية.
– هل تعتقد أن الرهان على الانخراط مع الروس صحيح وسيحقق نتائج؟
– أعتقد أنه يجب أن نحاول. الروس صار لهم في سوريا وقت طويل. شاهدنا قبل أسابيع أنه في دير الزور مات كثير من الروس يعملون مع شركة مرتزقة. نحو 195 قتلوا. هذا أكبر عدد من الروس الذين قتلوا من قبل الأميركيين اراه طوال حياتي. أيضا، يخسر الروس وهناك كلفة لهم في سوريا. وليس هناك حل بالسلوك الروسي الحالي. الأسد يسيطر على نصف الأراضي السورية وعلى 75 في المائة من الناس، لكنه لا يريح قلوب السوريين وعقولهم. كثير من السوريين سيواصلون المقاومة. الروس يفهمون ذلك وعليهم أن يدفعوا نحو تحقيق حل سياسي.
– ماذا عن الغوطة الشرقية، هل تعتقد أنه بالإمكان إنقاذ الغوطة بالتمني؟ تمني أن يتوقف الروس؟
– لا. أبداً، لا. لكن لا نستطيع إرسال إشارات إلى الناس الذين يعانون بأننا سنأتي لمساعدتهم ولا ننفذ وعودنا. قمنا بذلك سابقا. الآن، الخيارات التي لدينا محدودة. الناس في الغرب مرعوبون ومتعاطفون مع ما يحصل ومع المعاناة ومأساة الناس (في الغوطة). لكن لا بد من القول إن فرصة التدخل العسكري حصلت في 2013 ولم نأخذها، ونحن نعيش تداعيات ذلك حتى الآن. يمكن أن نقوم بضربات محددة، كما حصل في الشعيرات، لمساعدة الناس. المأساة هي أنه سيكون أسوأ أن نعد الناس الذين يعانون بأننا يمكن أن نقدم حلاً سحرياً عسكرياً، لكن في الواقع لا أرى ذلك (ممكناً).
تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»