رمضان جديد أم قيم جديدة

رمضان جديد أم قيم جديدة

يلقي أحمد (اسم مستعار) بحمولته من أكياس المحارم الورقية على الرصيف، ويختبئ بين سيارتين ليدخن سيجارته، هرباً من أعين المارة ومديره، فـ”الدنيا رمضان ، وإذا دخّنت علناً قد يتراجع بعض المتسوقين عن الشراء منك تحت ذريعة تدخينك” بحسب قول صاحب المحل.

يقترب شريك أحمد منه ويقول له: “لا داعي للاختباء، لقد رأيت فتاة تشرب الماء علناً، وسيدة تضع حبة سكاكر في فمها، ورجل غيرك يدخن أيضا!”.

ويظهر تبدل جلي في السلوك اليومي للمقيمين في دمشق تجاه الصيام في شهر رمضان، لا يقتصر على إشهار المفطرين لأنفسهم فقط، فحتى غالبية محال بيع الطعام الجاهز والعصائر لم تغلق أبوابها في شهر الصيام.

على عكس أحمد، لدى أم منار ثلاثة أبناء يشهرون إفطارهم علناً، لكنها ومن منطلقها الإيماني، تصر على دفع دية إفطارهم طيلة شهر الصوم، في السابق كانت أم منار تدفع كفّارة إفطارهم نقداً للعائلات الفقيرة عبر الجمعيات الخيرية أو أحد الشيوخ.

ويحدد المرجع الشرعي في وزارة الأوقاف هذا البدل سنوياً، وهذا العام قدّره بمبلغ مقداره ما بين ثمانمائة وألف ليرة، وهو قيمة وجبة لجائع على من أفطر دفعها. لذلك قررت أم منار هذا العام بمشاركة صديقتها لشراء كرسي متحرك لطفل فقد ساقه في الحرب، وبصورة مباشرة دون اللجوء إلى أية وساطة. ويعكس قرار أم منار هذا التغيير الذي يختلط فيه الإنساني مع الإيماني والتفاعل مع الحاجات الجديدة الأكثر إلحاحاً في زمن الأزمات.

وليس أولاد منار حالة فريدة في دمشق، فأغلب الموظفين في الدوائر الرسمية والخاصة يواظبون على تناول إفطارهم اليومي في أماكن العمل. تقول سامية إن زميلتها في العمل لا تصوم، لكنها تراعي مشاعر الصائمين بالتوقف عن إعداد القهوة في مكان العمل وخاصة لما لها من رائحة نفاذة تبعث الشهوة القوية لها، وتضيف سامية “حتى أن بقية الزملاء لا يأكلون الخيار أو البيض أو الفلافل في وجباتهم الصباحية خلال شهر رمضان، لرائحتهم الشهيّة والقويّة أيضاً”، أي أن المراعاة لا تتجاوز فعل التوقف عن أكل ما تطغى رائحته لتجنّب إيقاظ جوع أو شهوة الصائمين.

وحول هذا الموضوع، ينص القانون السوري في المادة 517 من قانون العقوبات، على معاقبة كل من يشهر إفطاره علنا في شهر رمضان بالحبس لمدة شهر كامل! مع الإشارة إلى أن نص الحكم لا يتضمن عبارة إشهار الإفطار أو عدم الصيام، وإنما التعرض للآداب العامة وعدم مراعاتها في شهر رمضان، وهي مادة شبه معطلة حاليا، ولم يصدر أي حكم بموجبها طيلة فترة السنوات الثماني الماضية.

وفي حال غياب أية مواد قانونية صريحة وواضحة تعاقب على فعل الإفطار أو إعلانه، فإن الأحكام الحقيقية المجتمعية المتداولة هي الأكثر تأثيرا.

التبدل أيضاً يبدو في صورة جديدة مرعبة دخلت حياة السوريين، فعلى إحدى مجموعات “الواتس آب” النسوية، وهو وسيلة التواصل الأكثر رواجا في سورية، تبارك رويدة بقدوم رمضان، لكن مباركتها النمطية التي لا تتجاوز كونها بروتوكولاً اجتماعياً، تصطدم بردود عنيفة من قبل بعض عضوات المجموعة، إذ تقول إحداهن “رمضان وصيام والجوع ينهش في جسد السوريين!”، فيما تنهرها أخرى وتربط بين المباركة بالصوم والاحتفاء بقيم داعش!

من جهة ثانية، وفي ظل التردي الكبير لأحوال السوريين الاقتصادية، انطلقت في رمضان عدّة مبادرات جديدة في طرحها، بدت على جدران الشوارع ومراكز التجمعات العامة، كالدعوة إلى إعفاء المستأجرين من إيجار بيوتهم في شهر رمضان، والإصرار والتكرار على السوريين في الخارج لإرسال ما تيسر للأسر المحتاجة في هذا الشهر لردم الفجوة الكبيرة بين القدرة الشرائية الضعيفة عند السوريين وبين حقيقة وحجم المتطلبات الأساسية للعيش، وخاصة الدواء والسكن والطعام.

ومن الظواهر القديمة التي لم تعد مقبولة، هي ارتداء بعض السيدات للحجاب أو الجلباب في شهر رمضان حصرياً، إذ بات يشار لهذا التصرف على أنه نفاق اجتماعي، وإن كان مؤقتا، لكنه يعكس هشاشة عميقة تتأمل في دواخلها رحمة أكبر، وسلم حسنات أكثر توازنا يمنح اللاجئات إليه سلاما داخليا ورضاً يحتجنه.

وإن كان لرمضان تعريف خاص ورائج، فهو ما يأتي به من وجبات الطعام الغنية والمنوعة، حيث تجهد الوسائل الإعلانية لترويجها رغبة في مكاسب اقتصادية مباشرة. لكن هذا تغيّر كلياً،  الحالة الاقتصادية السيئة التي يعيشها السوريون وانخفاض القوة الشرائية هي أحد الأسباب فقط، يُضاف إليها تغيير النظرة نحو الأولويات الأساسية، وحول جدوى نمط العيش الغارق في تفاصيل مرهقة ماديا وجسديا ومعنويا .

إذ باتت موائد الإفطار تقتصر على نوع واحد من الطبخ، إضافة لصحن من السلطة أو الحساء وآخر من الفول أو الفتة، فيما بات التنوع المبالغ به إسرافاً غير مرغوب به.

وحتى الدعوات العديدة التي اعتاد أفراد العائلة على تبادلها على موائد الإفطار الجماعية، باتت أمراً مكروهاً، وغالبا ما يتم اختصارها بدعوة واحدة، تلبية للشرط العائلي وتثبيتا لحالة انفكاك باتت مقبولة عن التقاليد العائلية.

وكما تحمل كل الشهور تبدلات تتعمق في حياة السوريين بفعل الحرب وشروخها العميقة وتكلفتها الباهظة، يأتي شهر رمضان ليثبَت هذا، من التغيّر في الوظيفة المجتمعية، أو في وظائف الأفراد، حيث يبدو أنها تتعرّف من جديد وفق هويات أقل ضيقا أو تشنجاً، لتصبح ظائف أقل إلزامية، تخفف الخناق المقيّد على الأفراد وإن بفسحة ضيقة، لكنها تتسع.

الحلفاء والخصوم ينتزعون “التنازلات المؤلمة”  في سوريا

الحلفاء والخصوم ينتزعون “التنازلات المؤلمة” في سوريا

يواصل خصوم دمشق وحلفاؤها الضغط والإفادة من نقاط الضعف السياسية والاقتصادية للحصول على تنازلات سيادية تتعلق بالجغرافيا والامتيازات الاستراتيجية تحدّ من خيارات أي حكومة سورية لعقود مقبلة.

وتضمنت تنازلات الحلفاء والخصوم حصول إيران على عقد لتشغيل مرفأ اللاذقية على البحر المتوسط، ثم استئجار روسيا لمرفأ طرطوس، بينما اعترف الرئيس الأميركي دونالد ترمب لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية المحتلة، مع موافقته على تمديد البقاء مع الأوروبيين شمال شرقي سوريا، بالتزامن مع تكريس تركيا لوجودها في مناطق شمال سوريا، وتحويلها إلى منطقة نفوذ.

إيران

منذ بداية العام الحالي، زاد التواصل بين مسؤولين سوريين وإيرانيين، إذ قام الرئيس بشار الأسد بزيارة طهران ولقاء المرشد الإيراني علي خامنئي في نهاية فبراير (شباط)، وعقدت اجتماعات اللجنة العليا المشتركة في نهاية يناير (كانون الثاني)، وأسفرت عن توقيع سلسلة من الاتفاقات بينها «اتفاق اقتصادي طويل الأمد»، إضافة إلى إعطاء أولوية لإيران في إعمار سوريا.

لكن الضغط الإيراني على دمشق استمر من بوابة عدم الاستنفار لحل أزمة الوقود ومشتقات النفط. وبحسب صحيفة «الوطن»، في دمشق، فإن خط الائتمان الذي كانت تقدمه إيران سنوياً توقف في 15 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ومع ذلك «بدأ الحديث عن السيناريو الأسوأ المحتمل، وهو أن البلد بات بحاجة إلى سيولة مالية ضخمة لتغطية الفجوة الكبيرة التي تركها توقُّف الخط، فمنذ توقفه قبل ستة أشهر وسوريا تفتقد النفط، وبهذا المعنى، ووفقاً لوزارة النفط، فإنه لا ناقلة نفط خام وصلت منذ ذلك الوقت».

وتحتاج سوريا إلى ما قيمته 200 مليون دولار شهرياً لتغطية فاتورة مشتقات النفط، في وقت انخفض فيه إنتاج سوريا من 380 ألف برميل إلى 24 ألفاً يومياً خلال السنوات الثماني الماضية (هناك كمية موازية تنتج شرق الفرات). وقالت الصحيفة: «نحن بحاجة إلى توريدات، وهنا، تحديداً، جاءت أزمة توقّف الخط الائتماني الإيراني الذي كان الرافد الأساسي ي هذا الإطار».

في بداية 2017، وافقت طهران على تقديم خط ائتمان جديد، بقيمة مليار دولار أميركي، علماً بأنها قدمت منذ 2013 خطوط ائتمان بقيمة 6.6 مليار دولار، خُصّص نصفها لتمويل تصدير النفط الخام ومشتقاته. ووفق وكالة الطاقة الدولية، كانت إيران تصدر 70 ألف برميل من النفط يومياً إلى سوريا.

واستفادت طهران من الأزمة الاقتصادية الأخيرة للحصول على تنازلات، بينها العمل على تنفيذ اتفاقات ثنائية كانت جُمّدت في بداية 2017. لكن الأهم استراتيجياً كان الوصول إلى البحر المتوسط. وفي 25 فبراير، طلب وزير النقل السوري من المدير العام لمرفأ اللاذقية العمل على «تشكيل فريق عمل يضم قانونيين وماليين للتباحث مع الجانب الإيراني في إعداد مسودة عقد لإدارة المحطة من الجانب الإيراني»، تلبية لـ«طلب الجانب الإيراني حقّ إدارة محطة الحاويات لمرفأ اللاذقية لتسوية الديون المترتبة على الجانب السوري»، بسبب الدعم المالي والعسكري الذي قدمته طهران لدمشق.

ويُشغّل مرفأ اللاذقية منذ سنوات بموجب عقد بين الحكومة و«مؤسسة سوريا القابضة» التي وقّعت شراكة مع شركة فرنسية لإدارة المرفأ. لكن الحكومة طلبت من «سوريا القابضة» التزام الاتفاق بين دمشق وطهران لمنح الأخيرة حق تشغيل المرفأ اعتباراً من سبتمبر (أيلول) المقبل.

إلى هذا، تشمل الاتفاقات أيضاً استثمار إيران حقول الفوسفات في منطقة الشرقية، قرب مدينة تدمر التاريخية لمدة 99 سنة واستحواذ شركة إيرانية، يدعمها «الحرس الثوري»، على مشغّل ثالث للهاتف النقال، والاستحواذ على 5 آلاف هكتار من الأراضي للزراعة والاستثمار.

روسيا

أثارت الامتيازات الإيرانية حساسية روسيا التي كانت جمدت في العام الماضي تنفيذ الاتفاقات المتعلقة بالفوسفات والهاتف والميناء بين طهران ودمشق. لكن بالنسبة إلى موسكو، فإن الملف الأكثر حساسية كان سيطرة إيران على مرفأ اللاذقية لقربه من قاعدتيها في اللاذقية وطرطوس، إذ إنه سيكون أول وصول لإيران إلى المياه الدافئة، ويترك طريق «طهران – بغداد – دمشق – المتوسط» مفتوحاً للإمداد العسكري والاقتصادي. وقال القائد الجديد للحرس الثوري الإيراني، حسين سلامي، في أول تصريح له بعد تسلمه مهامه رسمياً، أمس: «(فيلق القدس) بقيادة قاسم سليماني وصل إلى البحر».

وسعت طهران قبل 2011 إلى تحويل ميناء طرطوس إلى قاعدة عسكرية، لكن موسكو اعترضت، ثم تدخلت عسكرياً في سبتمبر 2015، ونشرت منظومتي صواريخ «إس 400» و«إس 300» في اللاذقية، ثم قررت توسيع ميناء طرطوس، وحصلت من دمشق على عقدين للوجود العسكري؛ أحدهما «مفتوح الأمد» في اللاذقية، والثاني لنصف قرن في طرطوس.

ولم يتأخر رد موسكو، حيث وصل نائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف إلى دمشق للقاء الأسد وبحث معه «التجارة والتعاون الاقتصادي، خصوصاً في قطاعات الطاقة والصناعة وزيادة التبادل التجاري وتجاوز جميع العوائق». ونقلت وكالة «تاس» للأنباء عن بوريسوف قوله إنه من المنتظَر أن توقع روسيا عقداً لاستئجار ميناء طرطوس لمدة 49 سنة.

وكانت دمشق وموسكو وقعتا في 2017 اتفاقاً يسمح لروسيا بإقامة قاعدة في طرطوس هي الوحيدة لها في البحر المتوسط لمدة 49 سنة، ذلك بعدما توقيعهما اتفاقاً لإقامة قاعدة برية روسية في حميميم قرب اللاذقية بمدى زمني مفتوح. وكما استفادت روسيا وإيران من الخسائر العسكرية لقوات الحكومة في 2015 في تعزيز وجودهما العسكري في سوريا عبر قيام قواعد عسكرية، فإنهما تستفيدان حالياً من الأزمة الاقتصادية للحصول على امتيازات استراتيجية. وبدا أن هناك نوعاً من الصراع أو التنافس بينهما على مناطق الحكومة ومستقبل البلاد.

أميركا

بالتوازي مع فرض عقوبات اقتصادية أميركية وأوروبية على دمشق وتفكيك شبكات كانت تصدر مشتقات نقطية إلى سوريا، وتجميد أي محاولات للتطبيع السياسي أو المساهمة في إعمار سوريا، تراجع الرئيس ترمب عن قراره بـ«الانسحاب الكامل والسريع» من شرق سوريا. وتستمر الاتصالات الأوروبية – الأميركية لبلورة تصور لمستقبل الوجود شرق الفرات وفي قاعدة التنف والانتقال من محاربة «داعش» جغرافياً إلى ملاحقة خلايا التنظيم هناك. واتفقت موسكو وواشنطن على تمديد اتفاق «منع الاحتكاك» في الأجواء السورية، إضافة إلى استمرار أنقرة وواشنطن المفاوضات حول إقامة منطقة آمنة بين نهري الفرات ودجلة.

وتدعم قوات التحالف الدولي، بقيادة أميركا، «قوات سوريا الديمقراطية» التي تسيطر على ثلث مساحة سوريا البالغة 185 ألف كيلومتر مربع، وتضم 90 في المائة من النفط السوري ونصف الغاز السوري، إضافة إلى معظم الموارد الزراعية والمائية. وتقع تلك المنطقة في زاوية الحدود السورية – العراقية – التركية وتتحكم بخط الإمداد بين إيران والعراق وسوريا ولبنان. وتردد أن صهاريج كانت تنقل مشتقات نفطية من العراق إلى سوريا تعرضت إلى قصف في اليومين الأخيرين.

إلى هذا، فإن الرئيس ترمب قرر، في 25 الشهر الماضي، الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل. وقام نتنياهو أول من أمس بزيارة الهضبة واعتبرها جزءاً من «أرض إسرائيل». وكان هذا بمثابة نعي لجهود طويلة من الرعاية الأميركية للمفاوضات السورية – الإسرائيلية القائمة على مبدأ «الأرض مقابل السلام» وابتعاداً عن مبدأ في العلاقات الدولية، وميثاق الأمم المتحدة، بـ«عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة».

قبل ذلك، رعى الرئيس ترمب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين إعادة «القوات الدولية لفك الاشتباك» (أندوف) إلى الجولان، المشكّلة بعد اتفاق برعاية أميركية في عام 1974. وعملياً، بات «خط الفصل» في الجولان قوامه البعد الأمني المتعلقة بالتزام اتفاق «فك الاشتباك» كأمر واقع من دون بعد سياسي أو تفاوضي يتعلق بـ«الأرض مقابل السلام»، بحسب الفهم الأميركي.

في موازاة ذلك، تواصل روسيا غض النظر عن الغارات الإسرائيلية على «مواقع إيران» في سوريا. ولم يحصل أن اعترضت منظومة «إس – 300» الجديدة أو القديمة هذه الغارات، مع «هدايا» قدمها بوتين إلى نتنياهو بينها رفات جندي إسرائيلي قُتِل بعد مشاركته في معركة السلطان يعقوب بلبنان في الثمانينات.

تركيا

في 1939، جرى ترتيب استفتاء في إسكندرون شمال غربي سوريا بموجب تفاهم فرنسي – تركي أسفر عن قرار ضم الإقليم إلى تركيا باسم «هاتاي». وخلال فترة «سنوات العسل» بين أنقرة ودمشق في بداية العقد الماضي، جرى توقيع سلسلة من الاتفاقات المتعلقة بالتجارة الحرة، وإزالة الحدود، تضمنت الاعتراف بالحدود كأمر واقع. كما أن البلدين كانا وقعا في 1998 «اتفاق أضنة» لمحاربة الإرهاب والسماح للجيش التركي للتوغل شمال سوريا لـ«ملاحقة الإرهابيين» و«حزب العمال الكردستاني».

في 17 سبتمبر الماضي، جرى توقيع اتفاق بين بوتين ونظيره التركي رجب طيب إردوغان تضمن إقامة منطقة «خفض تصعيد» في «مثلث الشمال» الذي يضم إدلب وأرياف حلب وحماة واللاذقية. وفي نهاية 2016، وبداية 2018، أسفر اتفاقان آخران بين روسيا وتركيا عن إقامة تركيا منطقتي نفوذ في «درع الفرات» وعفرين. وعليه، نشر الجيش التركي العديد من نقاط المراقبة في العمق السوري، وربط هذه المناطق التي تزيد على 10 في المائة من مساحة سوريا بتركيا اقتصادياً، وفي البنية التحتية الخدمية والإدارية والإلكترونية. وأعلن «الائتلاف الوطني السوري» المعارض والمدعوم من أنقرة أمس فتح مكتب له شمال سوريا، هو الأول منذ 2011.

ويجري الحديث حالياً عن صفقة صغيرة تتضمن انسحاب روسيا من تل رفعت والسماح لتركيا وحلفائها للدخول إلى شمال حلب وفتح طريق غازي عنتاب – حلب مقابل دخول روسيا وحلفائها إلى مثلث جسر الشغور لحماية قاعدة حميميم والتفكير بتشغيل طريق اللاذقية – حلب.

وإذ فرضت موسكو على دمشق عدم شن هجوم واسع على إدلب لأن علاقاتها مع أنقرة أكبر وأوسع من إدلب وتتعلق بتفكيك «حلف شمال الأطلسي» (ناتو) والعلاقات الروسية – التركية واللعبة الكبرى، تواصل تركيا مفاوضاتها مع أميركا لإقامة «منطقة أمنية» بين الفرات ودجلة عبر نسخ تجربة «درع الفرات» شرق الفرات في منطقة تمتد بطول أكثر من 400 كلم وعمق 30 كلم، تضاف إلى مناطق النفوذ الأخرى شمال سوريا.

وتقول موسكو إن اتفاق «خفض التصعيد» مؤقت ومحكوم بفترة محددة، فيما يقول خبراء في العلاقات الدولية: «ليس هناك شيء دائم أكثر من الشيء المؤقت»، مع وجود تحذيرات من تحوُّل مناطق النفوذ الثلاث (الأميركية شرق الفرات، والروسية – التركية غرب الفرات، والتركية في الشمال) وجمود الصراع العسكري، إلى واقع مستمر.

*تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

سوق الوراقين…وجه جميل لدمشق

سوق الوراقين…وجه جميل لدمشق

لا يزال سوق الكتب المستعملة، الواقع تحت جسر الرئيس، مقصداً لكثيرٍ من الكتاب والمثقفين ومحبي القراءة، فقد شكَّل هذا السوق المزدحم وسط العاصمة دمشق، ذاكرةً خصبةً لكل من مر به، كما ساهم في تنمية ثقافة روَّاده، خاصة من القراء المبتدئين، ورَفَد مكتباتهم المنزلية بالعديد من الكتب، إذ أنه صديق عطوف على ذوي الدخل المحدود، ففيه لا يتجاوز سعر الكتاب المستعمل ثلث أو حتى ربع سعر الكتاب الجديد.

 ويعود تاريخ هذا السوق لعام ٢٠٠٣، عندما تجمّع فيه عددٍ من باعة كتب الرصيف الذين كانوا منتشرين في منطقة الحلبوني والبحصة والتكية وغيرها، ليضم اليوم نحو ثلاثة عشر بائعاً، يلقِّبهم البعض بـ”ملوك الكتب”، فهم ليسوا تجاراً بقدر ما هم قراء شغوفون بالمعرفة تربطهم بالكتاب علاقة وثيقة. فالتعامل مع الكتب “يبقي الإنسان على تواصلٍ مع المفكرين والأدباء والعلماء” وفقاً لأبو طلال، أحد أقدم باعة السوق وأشهرهم، يقول أبو طلال ” من يقرأ كتاباً يوجه صفعةً حقيقيةً للجهل” مشبهاً علاقته مع كتبه بدخول المرء إلى حديقة “يقطف منها زهوراً من كل لونٍ وعطر”، ولأن بائع الكتب يتمتع بقراءتها فهو كبائع العطر “إن لم يبع العطر يشمَّه” على حد وصفه.

ويحتوي هذا السوق على كتبٍ نادرةٍ وفريدة في شتى مجالات الأدب والتاريخ والعلوم وغيرها، ويُعَد كنزاً ثميناً للباحثين عن عناوين أو ترجماتٍ معينة فُقدت منذ زمن، وعن تميز السوق يتحدث أبو سارة أحد الباعة فيه قائلاً “معظم المكتبات الحديثة توجهت نحو بيع الكتب الرائجة كالكتب الدينية وكتب الطبخ والترفيه والتسلية، بينما بقي هذا السوق محافظاً على تنوعه وغناه، ورغم اصفرار أوراق بعض الكتب واهتراء أغلفتها إلا أنها تحتفي بقيمةٍ فكريةٍ ومحتوى معرفي ثمين، فكتبنا تعتمد على المضمون لا على الشكل التجاري المبهرج”، مضيفاً “هناك من يفضل شراء الكتب القديمة ذات الأغلفة الباهتة والحواف المتآكلة، كونها تمثل له تراثاً فكرياً وذاكرة ثقافية، فهي كالطوابع والعملات والقطع الأثرية النادرة”.

مهنة مربحها فكري ومعنوي

“لو أنني سائق سيارة أجرة، بائع سجائرٍ أو خضار لحققت دخلاً أفضل بكثيرٍ من عملي هذا، فأنا أجمِّد لأجله رأس مالٍ كبيراً مقابل أرباحٍ بسيطة لا تعادل حجم تعبي اليومي، لكن حبي للتعامل مع الورق والكلمات يشعرني بالرضى والسعادة، فهو عملٌ إنساني نبيل يخاطب العقول والقلوب” يروي البائع أبو سارة، مضيفاً “قد تحقق بعض الكتب الجديدة أرباحاً جيدة إلا أن غلاء أسعارها يجعل مبيعاتها محدودة إذا ما قورنت بمبيعات الكتب المستعملة، لكن الأخيرة لا تعود علينا بمرابح مجزية، لأنها ترأف بحال زبائنها أصحاب الدخل المحدود”. ونتيجة هذا الواقع بات عدد بائعي الكتب المستعملة يتناقص يوماً بعد يوم، ومن بقي يزاولها هم “بعض المخلصين للكتاب والساعين نحو الربح المعنوي والفكري قبل المادي” بحسب أبو سارة.

أما أبو طلال فيرى أن “الكتاب يفقد دوره الثقافي والتنويري إذا عومل كسلعةٍ يُجنى من ورائها المال”، وعن علاقته بزبائنه يقول: “أحب رؤية الزبون يقلّب الكتب لساعاتٍ ويتفحص عناوينها ومحتواها بدقة، فأتناقش معه حولها وأنصحه في اختيار بعض القراءات، ولا يهمني في نهاية الأمر إن اشترى كتاباً أم لا، ما يهمني هو تحفيزه على القراءة وامتلاك أدواتها، لأنه سيعلِّم غيره، ومن يقرأ يفكر، ومن يفكر يبني مجتمعاً متقدماً”. ومن خلال العلاقة الوطيدة التي يبنيها أبو طلال مع زبائنه يأتي مكسبه المادي، إذ غالباً ما يعودون لشراء الكتب، التي تصفحوها وأعجبتهم، بعد توفير المال اللازم، وقد يأتون بصحبة زبائن جدد.

مكان لا يناسب الثقافة

يستقبلك التلوث السمعي والبصري عند اقترابك من السوق، فالتناقضات والفوضى تحيط بالسوق المكتظ بتجمع لوسائط النقل العامة، إضافة لسوق تجاري لبسطاتٍ من كل شكلٍ ولونٍ، يعتمد باعتها على النداء المتكرر لجذب انتباه العابرين.

من جهة أخرى، يفتقر سوق الوراقين إلى البنى التحتية المناسبة، وتنقصه الإنارة الجيدة والمظهر الجمالي المطلوب، حيث تنتشر مئات الكتب على الأرصفة بين الغبار وبقايا القمامة وتكاد تدوسها أقدام المارة، وفي الأيام الممطرة يضطر بعض الباعة إلى تغطية كتبهم بالشوادر والنايلون، مما يجبرهم على التوقف عن العمل، كذلك يعانون من ظروف البرد خلال جلوسهم في أمكنتهم المفتوحة على كل الجهات.

يصف أبو سارة معاناته مع المكان قائلاً “عملنا فكري يتطلب هدوءاً وصفاء ذهنياً، وموقع السوق لا يؤمن لنا هذا، إذ تتصدع رؤوسنا طوال النهار من الصراخ المتواصل للباعة والضجيج المزعج لوسائط النقل، ولا نكاد نسمع حديث زبائننا وزوارنا، فهم غالباً يضجرون من البقاء طويلاً، وهو ما يؤثر سلباً على حجم مبيعاتنا”. ويضيف “بينما تحظى بعض السلع التجارية في جوارنا بالدلال والامتياز وتتربع على رفوفٍ ملونة، تستلقي بعض كتبنا على الأرض كالخردة، بغير سقفٍ يحميها أو جدارٍ تستند عليه لتتعرض للرطوبة والغبار وعوامل الطقس، وهو ما يساهم في اتساخ أغلفتها واصفرار أوراقها والإسراع في تلفها”.

السوق خلال الحرب

أدت الحرب لتغير هوية بعض المكتبات إذ تحولت إلى محال تجارية ومطاعم نتيجة تراجع حركة بيعها للكتب وعجزها عن شراء الكتاب الجديد، حيث حلَّق سعره بشكلٍ خيالي، مما اضطرت مكتبات عديدة في دمشق لبيع الهدايا والألعاب والقرطاسية وغيرها لتقاوم الإفلاس وتتمكن من الاستمرار. ونتيجة ارتفاع سعر الورق وتكاليف الطباعة، وضعف الإقبال على النشر، توقفت دور نشرٍ كثيرة عن عملها مستسلمة لإفلاسها لتبيع كتبها ومحتوياتها، بأسعار زهيدة لتجار الورق وباعة الكتب المستعملة.

 ولم ينج سوق الوراقين من لعنة الحرب هو الآخر، ففقد السوق معظم رواده خلال السنوات الماضية، حيث تكدست مئات الكتب لفترات طويلة حتى أصابها التلف واستحال بيعها، ما اضطر أصحابها لإرسالها إلى معامل الكرتون أو استخدامها كمادةٍ للتدفئة، ورغم شلل حركة البيع وتراجع الإقبال على السوق، استمر عمله بفضل بعض باعته المخلصين له، ومن بينهم أبو طلال الذي يلخص ذلك بقوله “حافظنا على روح المكان وقاومنا بكتبنا قبح الحرب، تابعنا عملنا رغم إفلاس معظمنا، لنثبت للعالم أننا كناشري ثقافة صمدنا مع كتبنا لنكمل رسالتنا الإنسانية”.

ورغم انتعاش حركة السوق في العام الأخير، قياساً للأعوام التي سبقته، لم تعد لما كانت عليه قبل عام 2011 وربما لن تعود في المدى القريب، ويعزو أبو سارة سبب ذلك إلى “سفر الكثير من القراء الشغوفين باقتناء الكتب، وتردي الواقع الاقتصادي عند معظم الناس ليصبح شراء الكتاب نوعاً من الكماليات، عدا عن أعباء وهموم الحياة اليومية التي جعلتهم ينسون الأشياء التي يحبونها”

أما أبو طلال فيعزو السبب إلى “تغير المزاج الثقافي العام الذي يتحكم بنوعية القراءات التي تتجه بمعظمها حالياً نحو ثقافة القراءة الاستهلاكية والاستسهال في الحصول على المعلومة السريعة، عبر اللجوء إلى الإنترنت والكتب الإلكترونية”.

خيبة واسعة في دمشق من ٨ نكسات وتطورات

خيبة واسعة في دمشق من ٨ نكسات وتطورات

تسود خيبة في دمشق بعد نكسة في المزاج الذي كان سائداً نهاية العام جراء تطورات سياسية وعسكرية واقتصادية عدة حصلت أو لم تحصل في الربع الأول من العام الجاري، ما ساهم في تفسير قيام الرئيس السوري بشار الأسد بأول زيارة إلى طهران الأسبوع الماضي لبحث سبل التعاطي مع هذه التطورات مقابل تركيز دول غربية وواشنطن على «الصبر الاستراتيجي» للحصول على تنازلات من موسكو، بحسب أجواء نقلها دبلوماسيون زاروا العاصمة السورية.
كانت نهاية العام الماضي، شهدت زيارة الرئيس السوداني عمر حسن البشير إلى دمشق وفتح الإمارات والبحرين سفارتيهما وتبادل زيارات مع عمان وقيام مدير مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك بزيارة القاهرة وحديث عن انفتاح سياسي عربي وأوروبي وإعادة الحكومة السورية إلى الجامعة العربية ومساهمة عربية في إعمار سوريا و«دور عربي ضد إيران وتركيا»، إضافة إلى قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 14 ديسمبر (كانون الأول) الانسحاب من شرق سوريا واستعجال مسؤولين أكراد التفاوض مع دمشق.
وساهمت هذه الأمور في رفع مستوى التفاؤل في دمشق، لكن المشهد الراهن مختلف حالياً حيث تسود خيبة لثمانية أسباب، بحسب دبلوماسيين:

1 – التطبيع العربي: بات واضحاً، أن قرار عودة دمشق إلى الجامعة لن يحصل في القمة العربية المقبلة في تونس نهاية الشهر الجاري. كما أن مسيرة التطبيع بين دول عربية ودمشق تجمدت. وأظهرت الجولة التي قام بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في الخليج ربط دول عربية رئيسية استئناف العلاقات الدبلوماسية بالحل السياسي بموجب القرار 2254. وإذ تريثت دول عربية بتعيين دبلوماسيين في سفاراتها في دمشق، بقي الأردن مستمرا في مسيرته الثنائية.
بحسب دبلوماسيين غربيين، تعود فرملة التطبيع إلى أسباب بينها: الأول، «فائض ثقة» من بعض المسؤولين في دمشق بالحديث عن أن «العرب يجب أن يعودوا إلى سوريا وليس العكس» وأن دمشق لن تقدم طلبا إلى الجامعة لإعادتها إلى الجامعة العربية التي كانت سوريا بلدا مؤسسا فيها. الثاني، ضغوط الإدارة الأميركية على دول عربية بـ«وقف التطبيع مع النظام» بالتزامن مع إقرار مشروع قانون في الكونغرس يعاقب «المتعاملين مع الحكومة السورية». ثالثاً، زيارة الرئيس الأسد إلى طهران ولقاؤه المرشد الإيراني علي خامنئي. وإذ كانت الزيارة ردا على وقف التطبيع وعوامل أخرى، فسرت في عواصم عربية وغربية بقرار دمشق عدم الابتعاد عن طهران وتوقيع اتفاق طويل الأمد. وقال مسؤول غربي: «في ظرف كهذا تعني عودة سوريا إلى الجامعة دخول إيران إلى الجامعة العربية وليس دخول العرب إلى سوريا».
2 – الانسحاب الأميركي: أحدثت تغريدة الرئيس ترمب في نهاية ديسمبر (كانون الأول)، صدمة بين حلفائه وأصدقائه. وإذ ساهمت في استعجال دول التطبيع، دفعت دمشق إلى «مزيد من الثقة» بالتعاطي مع ملف التطبيع العربي أو التفاوض مع الأكراد. لكن القرار الحالي لترمب هو إبقاء 400 جندي شرق سوريا والإبقاء على قاعدة التنف. وتضغط واشنطن على عواصم أوروبية لإرسال «قوات حفظ سلام» إلى شرق سوريا. بحسب معلومات، فإن مسؤولا أميركياً أبلغ محاوريه قبل أيام، أن واشنطن لن تسمح لـ«قوات سوريا الديمقراطية» بالتفاوض حالياً، بل إن التفاوض سيكون من موقع القوة للوصول إلى «وضع خاص» للمنطقة الخاضعة لسيطرة الحلفاء.
كما تتفاوض واشنطن مع أنقرة لإقامة «منطقة أمنية» شرق الفرات في محاذاة حدود تركيا وسوريا. وتبحث في نشر «قوات حفظ سلام» فيها مع بقاء الحظر الجوي. وعقد رئيسا الأركان الأميركي والروسي اجتماعا في فيينا قبل أيام لتجديد العمل بـمذكرة «منع الصدام» والتمسك بخط التماس الذي هو نهر الفرات: شرقه لحلفاء واشنطن، إضافة إلى قاعدة التنف ومنبج. غربه لحلفاء موسكو.
3 – معركة إدلب: ضغطت دمشق مرات عدة لجر موسكو إلى هجوم في إدلب، كما حصل في مناسبات سابقا عندما فرضت الحكومة السورية أجندتها على روسيا أو قادت وزارة الدفاع الروسية العملية في سوريا على حساب وزارة الخارجية، لكن موسكو وأنقرة نجحتا في تمديد العمل في اتفاق سوتشي لخفض التصعيد في إدلب. ونجحت تركيا في فرض مبدأ تسيير دوريات متوازية وليس مشتركة في محاذاة «المنطقة العازلة» في «مثلث الشمال» السوري.
لا يعني هذا إمكانية عدم حصول «عملية محدودة» ضد المتطرفين في إدلب والعمل على فتح الطريقين الرئيسيين بين حماة وحلب وبين اللاذقية وحلب. لكن روسيا تعطي أولوية حالياً للإطار الاستراتيجي لعلاقاتها مع تركيا. ولم تكن صدفة إعلان أنقرة بدء تشغيل منظومة «إس – 400» الروسية في أكتوبر (تشرين الأول) مع بدء تسيير دوريات متوازية. ونقل عن مسؤول روسي قوله: «ما بين روسيا وتركيا أكبر بكثير من إدلب».
4 – اتفاق أضنة: في الأشهر الماضية، وضع الرئيس فلاديمير بوتين بمهارة «اتفاق أضنة» على طاولة التفاوض مع الرئيس رجب طيب إردوغان بديلاً من «المنطقة الأمنية» الجاري التفاوض عليها بين واشنطن وأنقرة. لكن أنقرة تحفظت على بندين في الاتفاق: عدم التعاطي سياسيا مع دمشق وأن يكون عمق التوغل التركي شمال سوريا هو نحو 30 كيلومترا وليس خمسة كيلومترات كما نص «اتفاق أضنة».
الاتفاق، الذي يعود إلى يوليو (تموز) 1998. كان يسمح بفتح نافذة في التطبيع بين أنقرة ودمشق، لكن يبدو أنه وضع على الرف حالياً. وربما يعود الحديث عنه لاحقاً بعد الانتخابات المحلية التركية في نهاية الشهر الجاري، التي تشغل المسؤولين الأتراك.
5 – اللجنة الدستورية: في الأيام الأخيرة للمبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، بدا أن «الضامنين» الثلاثة (روسيا وتركيا وإيران) في حالة هجوم لفرض أسماء القائمة الثالثة الممثلة للمجتمع المدني. لكن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش رفض الموافقة على هذه القائمة في 18 ديسمبر (كانون الأول). كان هذا بين الأسباب، التي دفعت لافروف إلى التعاطي بمرونة مع مطالب المبعوث الدولي الجديد غير بيدرسون. طلبت موسكو من الأمم المتحدة ترشيح ستة أسماء جديدة إلى القائمة. كما أن بيدرسون متمسك بالتفاوض على «قواعد عمل» اللجنة بالتوازي مع الاتفاق على الأسماء الستة، ضمن تصوره لـ«مقاربة شاملة» لتطبيق القرار 2254.
وأبلغت موسكو الجانب السوري عدم الارتياح لانتقادات الرئيس الأسد في خطابه الأخير لمسار سوتشي – جنيف الذي سعى الجانب الروسي لتعويمه، في وقت تسعى دول غربية للتمسك بمسار جنيف. وتزامن هذا مع عودة في الخطاب السياسي العربي لموضوع «الانتقال السياسي» كما حصل في البيان الختامي للقمة العربية – الأوروبية في شرم الشيخ في 25 الشهر الماضي. وقال معارض سوري: «باتت دول عربية تعتقد أن الانتقال السياسي هو المدخل لإخراج إيران من سوريا».
6 – العقوبات والإعمار: عادت موجة العقوبات الأوروبية والأميركية التي شملت فرض الاتحاد الأوروبي العقوبات على شخصيات ومؤسسات مقربة من دمشق ومنخرطة بالإعمار في 21 ديسمبر (كانون الأول) وضم سبعة وزراء سوريين إلى «القائمة السوداء»، إضافة إلى إقرار الكونغرس قانونا يربط الإعمار بالحل السياسي بالتزامن مع ترك ملف السلاح الكيماوي مفتوحاً. بحسب المعلومات، فإن مؤتمر الدول المانحة في بروكسل بين 12 و14 الشهر الجاري، سيؤكد على الموقف نفسه بربط المساهمة بالإعمار بـ«حل سياسي ذي صدقية». وقال دبلوماسي غربي: «الدول الغربية تعتقد أن ملفات العقوبات والشرعية والإعمار هي الأوراق التي تملكها أميركا والدول الأوروبية للتفاوض مع روسيا حول سوريا، ولن تتخلى عن هذه الأوراق مسبقاً». اللافت، أن مسؤولا روسيا رفيع المستوى سيشارك في مؤتمر بروكسل الذي كان وزير الخارجية السوري وليد المعلم بعث برسالة إلى غوتيريش للمطالبة بعدم رعايته أو دعوة الحكومة إليه.
7 – الأزمة الاقتصادية: الحديث الرئيسي في دمشق ومناطق سيطرة الحكومة وتشكل 60 في المائة من مساحة سوريا، يدور حول الأزمة الاقتصادية وانقطاع الكهرباء والغاز وقسم من الخدمات والمواد الاستهلاكية. ويعتقد دبلوماسيون غربيون أن الأزمة تعود إلى: «الآثار الارتدادية للعقوبات الغربية على إيران من جهة ورغبة طهران بالضغط على دمشق لإظهار أولوية هذه العلاقة، إضافة إلى العقوبات المفروضة على دمشق». وقال أحدهم: «استعادة الحكومة السيطرة على الجنوب والغوطة ساهم بالأزمة بسبب توقف التمويل الذي كان يأتي إلى مناطق المعارضة ويعبر إلى مناطق الحكومة»، لافتا إلى أن جلسات عقدت في عواصم غربية لبحث منعكسات الأزمة على اتخاذ القرار في موسكو ودمشق وطهران. وكان لافتا، أن أصوات الانتقاد ظهرت بين موالين للحكومة الذين كانوا «ينتظرون قطف ثمار الانتصارات العسكرية اقتصاديا وخدماتيا».
8 – الغارات الإسرائيلية: لم تتوقف الغارات الإسرائيلية في سوريا في السنوات الأخيرة، لكن زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأسبوع الماضي نجحت في طي صفحة توتر بين موسكو وتل أبيب بعد إسقاط القوات الجوية السورية طائرة روسية في سبتمبر (أيلول) الماضي، بحسب مسؤولين. وكان بين الطلبات الإسرائيلية، عدم تسليم قيادة منظومة «إس – 300» الجديدة إلى الجيش السوري. والرد على الضربات الإسرائيلية، كان ضمن الأمور التي بحثها الرئيس الأسد مع خامنئي في طهران.
وإذ ساهمت هذه العناصر الثمانية في خيبة بين مسؤولين في دمشق وقلق لدى آخرين وتعب بين موالين، فإنها عززت تفكير مسؤولين غربيين باستخدام مصطلح «الصبر الاستراتيجي» القائم على عدم استعجال تقديم تنازلات بل انتظار نتائج هذه الضغوطات في دفع موسكو لتقديم تنازلات ومرونة للبحث عن حل سوري. وهناك رهان على التركيز على الملف السياسي والتفاوض بعد القضاء على «داعش» شرق سوريا.
في المقابل، تواصل موسكو العمل على مستويات عدة: دفع الدول العربية لاستئناف التطبيع، استخدام ورقة اللاجئين مع الدول الأوروبية، تفاهمات عسكرية مع الأميركيين والأتراك والإسرائيليين.

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

لا إجـازات، لا اسـتقالات ولا سـفر…لموظفي الحكومة

لا إجـازات، لا اسـتقالات ولا سـفر…لموظفي الحكومة

تحاصر المؤسسات الحكومية في سوريا اليوم موظفيها بجملة من القوانين والإجراءات، تقيد حقهم في طلب إجازة أو الاستقالة و حريتهم في السفر، حتى بات حصولهم على إجازة بلا أجر ومغادرتهم البلاد حلماً صعب المنال، تصحبه مجموعة من الوثائق والإجراءات المتعبة.
فإلى جانب معاملة الاستيداع (إجازة بلا أجر)، على العامل لدى الدولة الراغب بالحصول على إجازة لمغادرة سوريا، استحصال تأشيرة خروج من الوزير المختص في المديرية التي يعمل لديها، وكفالة موظف آخر في نفس القسم الذي كان يعمل فيه؛ يؤكد فيه قدرته على إنجاز المهمات الموكلة لصاحب الطلب في حال لم يعد لعمله بتاريخ انتهاء الإجازة، بالإضافة إلى بيان وضع من شعبة التجنيد للموظفين الذكور ممن هم في سن الخدمة الاحتياطية.
واجه علاء، الموظف في شركة الكهرباء حماه، كل هذه الإجراءات المعقدة أثناء قيامه بمعاملات الاستيداع وتأشيرة الخروج، من أجل السفر إلى لبنان، بهدف قضائه لمهلة أربع سنوات تسمح له بدفع البدل النقدي للخدمة العسكرية الإلزامية والعودة إلى وظيفته.

ويبلغ البدل النقدي المحدد للحصول على إعفاء من الخدمة العسكرية ٨ آلاف دولار أمريكي، يشترط لدفعها أن يقضي الشاب أربع سنوات خارج سوريا.

 يقول علاء عن هذا “إجراءات تعجيزية! على الموظف تقديم طلب الإجازة للمدير العام في شركته، من ثم الانتظار ليتم رفعها إلى المؤسسة العامة للكهرباء في دمشق والتي تقوم بإرسالها إلى وزارة الكهرباء للحصول على موافقة الوزير، من ثم يعود الطلب بدورة عكسية ليصل أخيراً إلى الشركة في حماه”. ويستغرق هذا الإجراء فترة تتراوح ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر، وتأتي معظم الطلبات بالرفض خاصة بالنسبة للموظفين الشباب، بحسب علاء.

أما تحصيل تأشيرة الخروج فيحتاج الموظف الحكومي لتجاوز تناقضات  طلبات الوزارات وشعبة التجنيد، يشرح علاء قائلاً “تطلب الوزارة ورقة بيان وضع من شعبة التجنيد لمنحه تأشيرة الخروج للموظف، إلا أن شعب التجنيد ترفض منحها للمؤجلين على أساس سند إقامة خارج البلاد كما في حالتي”. وبهذا يدخل صاحب الطلب في دوامة معاملات بيروقراطية جديدة؛ تتطلب منه التقدم بطلب جديد لشعبة التجنيد يشرح فيه حاجة الوزارة إلى ورقة بيان الوضع للتحقق من عدم تخلفه عن خدمة العلم، في حين أن صورة عن دفتر التجنيد كفيلة بإظهار تأجيل الموظف، حسب علاء.

ويحق للموظف استخدام إجراءات تأشيرة الخروج مرة واحدة خلال ثلاثة أشهر فقط، علما أن الموظفين الراغبين بالحصول على استيداع لمدة تصل لسنة قابلة للتجديد لمدة ٥ سنوات، يحرمون من التعويضات وزيادة الراتب وكل الامتيازات، لدورة المستندات نفسها.

رفض الإجازات والاستقالات

ترفض العديد من المديريات الحكومية طلبات الاستقالة من الوظائف الرسمية من الشبان الذين في هم سن الخدمة العسكرية، بحجة “الافتقار للعنصر الشبابي” وفقاً لما يأتي في ردود الوزارات.

كما حصل مع رامي الذي أراد الاستقالة من وظيفته في إحدى الشركات التابعة لوزارة النفط في حمص بهدف السفر، وذلك لكي يتخلص من إجراءات الاستيداع نهائياً وليتمكن من العودة لسوريا بعد ذلك دون أية عقوبات. يقول رامي “لقد رفض طلب استقالتي ثلاث مرات، بحجة أن الدولة بحاجة إلى العنصر الشبابي في المرحلة الراهنة، لذا قمت بطلب إجازة بلا راتب لمدة سنة، إلا أنه رفض أيضاً”. واحتاج رامي لوساطات عدة، ليتمكن أخيراً من الحصول على إجازة لمدة ثلاثة أشهر وتأشيرة خروج من الوزير، استغلها للسفر إلى لبنان من ثم إلى ألمانيا، حيث يعيش اليوم، دون التمكن من تجديد طلب الإجازة وزيارة سوريا ثانية.

ويقضي تعميم صدر عن رئاسة مجلس الوزراء عام ٢٠١٦ بوجوب دراسة وتقديم المقترحات اللازمة بشأن الإجازات بلا أجر، التي تزيد مدتها عن ٦ أشهر من قبل لجان مركزية مشكلة برئاسة معاون الوزير المختص ومدير الشؤون الإدارية أو الموارد البشرية ومدير الشؤون القانونية، في حين تمنح الموافقة على طلبات الاستقالة بقرار من الجهة صاحبة الحق بعد الحصول على موافقة مكتب الأمن الوطني، والتأكد من عدم حاجة الجهة العامة للعامل.

وفي اتصال مع مدير قسم في إحدى المؤسسات العامة الحكومية في دمشق، والذي فضل عدم الكشف عن اسمه، قال إن “الدولة السورية تواجه بشكل جدي نقصاً واضحاً في الكوادر المؤهلة كالمهندسين والأطباء والجامعيين، ونقصاً في اليد العاملة الفنية التي تحتاجها لإعادة تأهيل بعض المنشآت المتضررة جراء الحرب، وأن حالة الرفاهية وقلة ساعات العمل الفعلية التي كان يتمتع بها الموظفون في السابق تراجعت بشكل واضح”، إذ بات معظم الموظفين يشعرون بضغوطات عمل أكبر حسب تعبيره. وكشف أيضاً أن الإجراءات التي تطبق اليوم هي نفس الإجراءات التي كانت تطبّق سابقاً، إلى أنها أصبحت أكثر صرامةً مع اقبال العديد من الموظفين إلى الاستغناء عن وظائفهم.

ورغم الأزمة الاقتصادية التي تعيشها سوريا بعد الحرب ما يزال راتب الموظفين الحكوميين يترواح بين ٦٠-١٠٠ دولاراً أمريكيا فقط وهو ما يضعف اقبال السوريين على الوظائف الحكومية إضافة للصعوبات الإدارية التي تواجههم فيها.

حكم المستقيل

“لم تعد تقبل طلبات الاستيداع كما في السابق” يقول علاء الذي رُفض طلب استيداعه دون ذكر السبب، مضيفاً “هنالك طلبات استيداع رفضت من المرة الأولى، وآخرون نجحوا باستحصالها لسنتين أو ثلاثة لا أكثر”، وبحسب الشاب فإنه لم يسمع بزملاء له نجحوا مؤخراً باستحصال الإجازة.

ويعطى الموظف بعد رفض طلب الإجازة أو الاستقالة، مهلة ١٥ يوماً للالتحاق بوظيفته وإلا سيصدر بحقه قرار حكم المستقيل، وما إن يصدر هذا القرار لن يكون بإمكان الموظف طلب الاستقالة. أما الموظفون الذين صدر بحقهم قرار حكم المستقيل، إضافة لكل من ترك عمله لأكثر من خمسة عشر يوماً دون إخطار الجهة المسؤولة؛ فيواجهون عُقوبة ب”الحبس من ثلاث إلى خمس سنوات، وغرامة لا تقل عن الراتب الشهري مع التعويضات لمدة سنة كاملة” وفقاً للمادة 364 مكرر.

ويخضع الموظفون المقيمون خارج سوريا لأحكام قرار حكم المستقيل في حال تم رفض طلبات الاستيداع الخاصة بهم، ولم يعودوا خلال المهلة المذكورة.يروي رامي تجربته قائلا “صدر بحقي قرار حكم المستقيل، ولا أعلم ما سيكون بانتظاري في حال عدت إلى سوريا، لأننا بتنا نسمع قصصاً متضاربة، بين أشخاص دفعوا مبالغ مالية تقدر بـ 500 ألف ليرة سورية لإسقاط دعوى حكم المستقيل، وآخرين رفضت طلبات استقالتهم لكن لم ترفع بحقهم الدعوى، كما أن هناك أشخاصاً شطبت أسماؤهم”.
ويبدو أن وضع المؤسسات الحكومية الراهن، يفرض على حكومة السورية التساهل في تطبيق هذه القوانين، إذ صدرت قرارات عدةخلال الأعوام الماضية تعفي هؤلاء الموظفين من العواقب المفروضة فور عودتهم إلى الوظيفة، ما يوحي بالحاجة والعجز الذي باتت تعاني منهما الأجهزة الحكومية مع انقطاع عشرات الآلاف من موظفيها عن مزاولة أعمالهم.

الوظيفة الحكومية: من حلم إلى كابوس

“إجازات مرفوضة، استقالات مرفوضة، حكم المستقيل، تأشيرات خروج وزارية، بيانات وضع، غرامات مالية، تكاليف جانبية، كلها أمور اختبرتها خلال السنوات الثلاث الأخيرة فقط لأنني كنت يوماً موظف قطاع عام لمدة عام واحد” يقول علاء الذي يشعر اليوم “بالندم الشديد” بحسب وصفه لأنه تقدم يوماً بطلب للعمل في دوائر الدولة السورية.

ويضيف علاء “بعد العناء الكبير الذي تكبدته وعائلتي لاستحصال الأوراق المطلوبة، وعدم قدرتي على زيارة البلد، أرى أن النتيجة النهائية مثيرة للسخرية!، فعلى سبيل المثال يساوي مجموع التكاليف التي تكبدتها وسأتكبدها حين أعود إلى سوريا، ضعفي مجموع رواتبي المقبوضة طيلة فترة عملي لعام ٍ واحد ، أي أن الدولة السورية ستتلقى مني مبالغ وغرامات وتعويضات ورسوم أكثر مما أوفتني إياه من رواتب، ولربما أمثل وزملاء كثر لي استثماراً لا بأس به، خاصة وأن معظمنا سيوفي مبلغ الثمانية آلاف دولار أمريكي كبدل نقدي عن خدمة العلم”.