تدمير صالات العرض

تدمير صالات العرض

أعلن الجيل الجديد للسينما السورية قطيعة مباشرة مع سينما الرواد، متخذين من مفردات الحرب مادةً جوهرية في صياغة أشرطتهم التي يبقى تقييمها رهناً للزمن الآتي، ففي حين نطل على تجارب لافتة على مستوى صياغة الفيلم بصرياً وفكرياً وجمالياً، تعاني أفلام الشباب من ضعف واضح في إنتاج بنية سينمائية بعيدة عن مشاهدات التلفزيون والفيديو كليب، لتبقى عشرات الأشرطة بعجرها وبجرها وثيقة عن زمن وقفت فيها كاميرات شباب وشابات سوريين في مواجهة الرصاص والقذائف، بعد أن فقدت البلاد العديد من صالات العرض، إضافةً لانقسام شاقولي عانت منه النخب السينمائية بين داخل وخارج.

واقع صالات العرض

مع انكفاء رؤوس الأموال الخاصة عن الإنتاج السينمائي السوري، باءت كل محاولات الحكومة السورية للاحتفاظ بصالات العرض السينمائية الخاصة؛ فمنعتها قوانين أصدرتها وزارة الثقافة منذ الثمانينات بعدم تحويلها إلى محلات تجارية.  لكن القانون الذي أصدرته وزيرة الثقافة السابقة نجاح العطار بحصر استيراد الأفلام من قِبل مؤسسة السينما، تم تعديله عام 2000 بإمكانية استثمار هذه الصالات وإعفاء أصحابها من كل الضرائب والرسوم في حال قيام ملاكها بإعادة ترميمها وصيانتها، فتم تعديل قانون استيراد الأفلام لإتاحة الفرصة لأصحاب هذه الصالات باستقطاب آخر إنتاجات السينما العربية والعالمية بتسهيلات واسعة مع سوق الأفلام الدولية، أو حتى السماح بتحويل هذه الدور إلى (مولات)- مراكز تجارية بشرط افتتاح صالات سينمائية صغيرة ضمنها.

شرط لم يعجب أصحاب هذه الصالات، فلم يطوروا من صالاتهم رغم الوعود التي قطعوها للمؤسسة العامة للسينما بالتطوير والتحديث، بل حوّلوها إلى أماكن عرض من الدرجة الثالثة، متبعين طريقة العرض المستمر لثلاثة أو أربعة أفلام يومياً وببطاقة دخول واحدة، ناشرين على جدران ومداخل صالاتهم ملصقات (بوسترات) لأفلام متهالكة أكل الدهر عليها وشرب.

اليوم توفي جميع أصحاب هذه الصالات، تاركين شأن هذه الدور العريقة للورثة الذين سافر قسم كبير منهم خارج البلاد من مثل عائلات مأمون الثري، صبحي فرحات وآل مسعود.

إن نزهة سيراً على الأقدام من شارع الفردوس وشارع شيكاغو باتجاه شارع ٢٩ أيار في العاصمة دمشق، سنلاحظ ما حلَّ اليوم بصالات دنيا و الفردوس و السفراء و الأهرام والخيّام والأمير وأوغاريت وسابقاً الزهراء قبل إغلاقها مؤخراً للصيانة. فجأة صار من المتعارف عليه أن هذه الأماكن تحولت إلى ما يشبه (غرف نوم مفروشة) لبنات هوى يقمن باستدراج شبان صغار إلى عتمة الصالة، مقابل مبالغ معلومة لمستخدمي الصالات التي ما زالت تعرض بتقنية الـ35 مم لكنها مؤخراً استخدمت تقنية الإسقاط (الفيديو بروجوكتور) لعرض أفلام بورنو مُقرصنة يشتريها القائمون على هذه الصالات من سوق البحصة المجاور!

تخبرنا الكتب وصور العروض والملصقات السينمائية بأن جمهور هذه الدور كان من الطبقة الوسطى التي اضمحلت وبادت مع سنوات الحرب السورية، فلا يمكن اليوم أن يدخل إلى هذه الصالات سوى من تقطّعت به السبل، ثم إن الصالة الوحيدة التي تم إعادة تأهيلها هي صالة (سينما سيتي- دمشق سابقاً) من قبل مستثمرها المنتج الراحل نادر الأتاسي، حيث وصل سعر بطاقة الدخول للشخص الواحد عام 2016 إلى  ٢٥٠٠ ليرة- ما يعادل ٦ دولارات أمريكية وهذا مبلغ ليس بإمكان المواطن العادي دفعه، إذا ما قرر أن يحضر مع عائلته إلى السينما.

ليست صالات دمشق من تعاني وحدها من هذا الواقع المزري، بل إن صالات حمص من مثل سينما حمص وصالة سينما الأمير قد توقفت بفعل الحرب وتم تدميرها بشكل كبير، وسرقة تجهيزاتها التقنية، ومثلها صالة سينما الأوبرا التي هُدمت وبُني مكانها مجمعات تجارية في المنطقة، وكذلك سينمات الشرق والفردوس والحرية، بينما تحولت كندي اللاذقية إلى ما يشبه مستودعاً حربياً، ومثلها كندي دير الزور التي أتت داعش عليها تخريباً وتدميراً، بينما فقدت حلب معظم صالاتها وعلى رأسها كل من صالة أوغاريت ليتم إعادة إحياء صالة الزهراء مؤخراً لتزاول تقديم عروضها.

بالمقابل ما تزال كندي طرطوس تعمل محتضنة ناديها السينمائي الذي تشرف عليه جمعية عاديات طرطوس بينما تستمر كل من صالتي كندي دمشق ودُمّر في عرض أفلام المؤسسة وأحدث تظاهرات سوق الأفلام العالمية، مع حضور خجول لعشاق السينما، حيث بقيت العروض التجارية لأفلام المؤسسة متوسطة الإقبال، في حين تحظى العروض الخاصة لهذه الأفلام بحضور إعلامي وفني كثيفين.

نوادي وأفلام    

دخل مشروع (دعم سينما الشباب) عامه السادس، ليكون بمثابة مختبر للمخيلة الجماعية الشابة في سنوات الحرب، حيث تزامن ذلك مع صعود نوادٍ سينمائية مستقلة في بعض المدن السورية؛ تقوم بعرض الأفلام السورية والأجنبية الممنوعة منها و المرخص بعرضها، إضافةً لمناقشتها مع الجمهور عبر إدارة مخرجيها ونقادها الشباب، كان أبرزها النادي الذي انشق عن نادي تيار بناء الدولة والذي كان يديره أنس جودة، فيما تقدم نادي LTC A- بإدارة الناشط السينمائي فراس محمد إلى واجهة الأنشطة السينمائية الأسبوعية، محتفياً بأفلام كل من نبيل المالح ومحمد ملص ورياض شيا وعبد اللطيف عبد الحميد وغيرهم، ليؤسس مؤخراً بدعم من مؤسسة السينما ما أسماه بـ (بيت السينما) إضافة لتفعيل (النادي السينمائي الجامعي) بالتعاون مع اتحاد الطلبة، وليكون لقاء شهرياً دورياً للجمهور مع أمهات الأفلام العالمية والعربية، التي يعقب عرضها نقاش حول الفيلم وتحليله فنياً وفكرياً وجمالياً بين صناع الفيلم وجمهور الطلبة.

في اللاذقية كان لمهرجان خطوات حضوره منذ عام 2014 والذي توقف جزئياً، إضافةً لدورات سيناريو أقامها الكاتب حسن م. يوسف هناك، في حين انفرد نادي حلب السينمائي بإدارة الناقد فاضل الكواكبي بأنشطته التي توقفت عام 2014 بعد ازدياد حدة المعارك في المدينة، فمنذ الثمانينات توقفت أنشطة النوادي السينمائية المستقلة التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والنقابات الشعبية، وكان أبرزها نادي دمشق السينمائي في حي الطلياني بدمشق، والذي كان له دور كبير بنشر الثقافة السينمائية في البلاد.

وكانت السينما المستقلة قد شهدت نشاطاً مع بداية الألفية الثالثة عبر تظاهرة سينما الواقع- دوكس بوكس التي كان يديرها المخرج عروة نيربية بالتعاون مع مؤسسة السينما، لتتأسس مع سنوات الحرب نوادٍ جديدة كان أبرزها نادي أحفاد عشتار بإدارة السيدتين لينا الأسعد وديمة العقاد، إضافةً لورش عمل أدارها المخرج محمد عبد العزيز مع طلاب الدبلوم السينمائي، إذ أن هناك عودة إلى مفهوم النوادي السينمائية المدعومة من المجتمع الأهلي، والتي ترافقت مع إتاحة الفرصة أمام سينما الهواة، أو ما يدعى بالسينما المستقلة التي ازدهرت بعد الانتقال من التصوير على شريط الـ 35 ملم إلى تقنية التصوير بكاميرا الديجيتال، مما فتح الباب واسعاً أمام عشرات الشباب لدخول غِمار إخراج أفلام سينمائية تفاوتت مستوياتها بين الجيد والرديء والمتواضع.

لقد وضعت تظاهرة سينما الشباب معايير فنية لعمل المخرجين الجدد، لكن أصحاب هذه التجارب ما تزال تعاني أفلامهم من التكرار والتأثر بالتلفزيون والفيديو كليب، إلا أن هذا لا يعني عدم وجود تجارب جريئة وعميقة فنياً وإنسانياً، وبعيدة عن الخطاب الأيديولوجي المباشر، بل نحا بعضها إلى هواجس الإنسان السوري في ظل الحرب، إنما تبقى شروط المُنح التي تقدمها المؤسسة بحاجة إلى تحسين شروطها الفنية والإنتاجية، مع ضرورة تقبل أفكار الشباب مهما بدت للوهلة الأولى تشاؤمية أو غير تعبوية، فهذه النوعية من الأفلام ستزول مع الزمن.

هكذا بلور الفن السينمائي في الحرب رغبة الشباب السوري به كشكل من أشكال التعبير المباشر والمغري للتعبير عن هواجسهم، والأكثر التصاقاً مع طبيعتهم وثقافتهم البصرية؛ وما يحدث اليوم في سورية من سباق نحو السينما أشبه ما يكون بما حدث في السبعينات والثمانينات بتوجه الشباب نحو كتابة قصيدة النثر وإصدار أعداد كبيرة من المجموعات الشعرية ذات التوجه الحداثي، لكن ليس هذا المهم، بل المهم هو إيجاد مسارب عمل للمخرجين الهواة الذين يخضعون لدورات تدريبية، فلم يتم حتى الآن دعمهم لتشغيلهم في السينما أو التلفزيون، ناهيك عن عدم وجود صالات عرض وقنوات فضائية كافية وقادرة على استيعاب إنتاجاتهم.

لقد طرح مفهوم (سينما الشباب) طرحاً مغايراً لما اصطلح على تسميته بـ السينما البديلة. المفهوم الذي ذُكر لأول مرة في دورة مهرجان دمشق لسينما الشباب عام 1971، وجاء كرد على السينما التجارية العربية ولاسيما المصرية، حيث بزغ هذا المفهوم لأول مرة مع التأثر بموجة السينما البديلة التي سادت سبعينات القرن الفائت في أوروبا في كل من فرنسا وتشيكوسلوفاكيا السابقة، وحققت نجاحات لا كتيار بل كأفلام، لكن الفارق اليوم بين السينما البديلة بالأمس والسينما البديلة اليوم، هو أن الأولى قامت على أيدي سينمائيين محترفين، وليس على أيدي هواة، وأبرز أسمائها في مصر كان  كل من سعيد مرزوق وعلي عبد الخالق ومدكور ثابت، أما في سورية فكان نجومها كل من نبيل المالح وعمر أميرالاي، وفي لبنان برهان علوية وسمير نصري وكريستيان غازي وجان شمعون.

وبدأت فكرة تظاهرة سينما الشباب عام 2007. فأخذ وقتها هواة السينما ينشطون ويقدمون أفلامهم التي ينتجونها بجهودهم الذاتية، أو برعاية من بعض الجهات الخاصة. نشاط دفع المؤسسة العامة للسينما باعتبارها الجهة الحكومية الوحيدة المعنية بالشأن السينمائي في البلاد؛ إلى تقديم الدعم والرعاية لهذه السينما التليدة؛ وكان المقصود بهذه السينما هنا تحديداً هو كل مواهب الإخراج السينمائي الشابة؛ التي لم تتلق تعليما سينمائياً أكاديمياً، وليست مصنّفة في نقابة الفنانين السورية، فليس في سورية معهد متخصص بتخريج الكوادر السينمائية، ولم يعد هناك  من إنتاج سينمائي خاص؛ فبات من الضروري وجود جهة ما، قادرة على تقديم كل عون ممكن لهواة السينما، وذلك كي يفصحوا عن أنفسهم وموهبتهم.

انطلاقا من هذا كله ولد (مشروع دعم سينما الشباب) ولكن بسبب مشاكل في التمويل تأخر تنفيذ المشروع حتى عام 2012 عندما انطلقت الدورة الأولى منه بعشرة أفلام، تبعها في العام التالي خمسة وعشرون فيلماً، ثم استقر العدد حالياً على ثلاثين فيلماً سنوياً؛ لتصل ميزانية كل فيلم منها إلى ما يقارب مليون ليرة سورية إذ تقدم المؤسسة للمخرجين الشباب كل مستلزمات تنفيذ أفلامهم، من مدير تصوير وإنتاج وفنيي إضاءة ومساعدي إخراج وغير ذلك، إضافة إلى سيولة مالية، كما تقدم للمخرجين الشباب خدمات ما بعد التصوير من مونتاج ومكساج وغيرهما، وصولاً لإنجاز الفيلم بالكامل. وذلك بعد حيازة النص على موافقة لجنة مختصة تدرس السيناريوهات المقدّمة فتختار الأصلح من بينها.

مع سنوات الحرب أمسى مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة من أكثر النتائج الملموسة التي تمخضت عن مشروع دعم سينما الهواة، فأمسى شبه تقليد بعد عقد دورته الخامسة في نيسان الماضي؛ ففيه تعرض الأفلام التي أنتجها المشروع بعد ست سنوات على انطلاقته، وتوزع جوائز على أصحاب التجارب اللافتة وفق نظام لجنة تحكيم مكونة من أبرز المخرجين والنقاد المخضرمين، تعطي مُنحها للمخرجين الجدد، بعد تقييمها ورصد درجة تفاعل الجمهور معها؛ إذ يبدو أن المشروع رغم انتقادات يوجهها البعض لسوية الأفلام التي يحققها هواة آخذاً بالتبلور حيث أقامت مؤسسة السينما في الأعوام الماضية ما يشبه نواةً لمعهد سينمائي في دمشق، مهّد له بالإعداد لدورات تدريبية بمشاركة أساتذة لإعطاء شهادة دبلوم علوم السينما كان أبرز المشاركين فيه كل من: سمير ذكرى وريمون بطرس وحسن سامي يوسف ونجدت أنزور وغسان شميط وفاضل الكواكبي ومأمون الخطيب ومحمد عبد العزيز وجود سعيد وعلي المالح وآخرين.

التباين الحاد في سوية أفلام الشباب السوري عن الحرب، وضع القائمين عليها أمام مكاشفات لابد منها، فكان أبرزها بيان لجنة تحكيم مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة الثالث -21- 26 نيسان-2016- دار الأوبرا السورية والتي أتى بيانها على لسان رئيس تحكيمها المخرج نجدت إسماعيل أنزور كإشارة قوية للمخرجين الشباب بمراجعة أعمالهم مراجعةً نقدية مبتعداً عن المجاملة حيث قال: “تلاحظ اللجنة بقلق أن معظم الأعمال المشاركة لم تراع طبيعة الفيلم القصير وخصوصيته الإبداعية، لا من حيث البنية ولا من حيث الطبيعة والخطاب، كما أن جل هذه الأعمال اتخذت من الدراما التلفزيونية مرجعية جمالية وبصرية لها، فهناك أعمال تصدت لأفكار كبيرة بإمكانيات ضحلة وبسيطة، مما حال من تمكن مخرجيها من تقديم هذه المقولات بالشكل المطلوب، وترى اللجنة أن معظم الأفلام تم تجسيدها في أماكن تصوير واحدة وخلو هذه الأماكن من البشر وكأن الأحداث تجري في مدن مهجورة، ما عدا بعض الاستثناءات؛ وتقترح اللجنة أن يعاد النظر في آلية قبول السيناريوهات المقدّمة من قبل الشباب، وضرورة وجود مستشارين دراميين يشرفون على كتابة هذه الأفلام، وإخضاع مخرجيها إلى دورات مكثّفة قبل إعطائهم فرص الإنتاج.”

الفعالية الشبابية التي تحقق من خلالها ما يزيد عن مائة فيلم على مدى السنوات الست الماضية، لبت جوع النشء الجديد إلى أدوات تعبير مغايرة لأجواء الفرجة السطحية التي عمل التلفزيون على تكوينها لعقود طويلة في البلاد مكرّساً ثقافة مناوئة لحساسية الفن السينمائي، وقدرة هذا الأخير على تربية ذائقة مرموقة بعيداً عن نجوم المواسم الرمضانية، إلا أن أفلام سينما الشباب آثرت في معظمها الشكل المباشر للحرب والإرهاب كعنوان عريض لطروحاتها السينمائية، مقتربةً في معظمها من أجواء الفيديو كليب من حيث تركيزها على التلذذ الجمالي بالصورة، وطغيان الموسيقى التصويرية على كامل البنية الفيلمية، دون الإلمام بإدارة الممثل داخل الكادر، والأهم من هذا وذاك، عدم الأخذ بأهمية السيناريو كأساس جوهري لتحقيق فيلم متوازن فنياً بعيد عن مشاهدات التلفزيون ومسلسلاته، مما عكس فقر فني في وعي بعض المخرجين، في حين أتت قلة قليلة من الأفلام المشاركة على سوية معقولة من الدراية بمتطلبات وشروط الفن السابع.

فيديو: حرمانها من حاستي السمع والنطق لم يقفا عائقاً أمام إرادتها

فيديو: حرمانها من حاستي السمع والنطق لم يقفا عائقاً أمام إرادتها

نوهات رضوان بكماء كردية-سورية ترسم من وحي الحرب مفاتيح الأمل. هي فتاة عشرينية بكماء منذ الولادة تبدع في الرسم وتصميم الاكسسواروالمشغولات اليدوية وصناعة الدمى. ولدت نوهات في عائلة مؤلفة من عشرة أشخاص في مدينة القامشلي حرمانها من حاستي السمع والنطق لم يقفا عائقاً أمام إرادتها. لم ترتد أية مدرسة متخصصة في الرسم ولدت موهبتها الفريدة منذ نعومة أظافرها. تأثرت بالحرب الدائرة في بلادها والتي تسببت بتهجير العشرات ممن عرفتهم من اصدقائها واقربائها وجيرانها. لم تبخل ريشتها في رسم معاناة المهاجرين واللاجئين السوريين كقصة الطفل آلان الكردي الذي غرق في أحد الجزر اليونانية قبل سنوات. شاركت نوهات في العديد من المعارض التي أقيمت في مدينتها وتطمح أن تشارك يوماً في معارض عالمية. 

اعداد لامار اركندي
نصوير ومونتاج : ياسر حمزة
سوريا / القامشلي

زواج السكايب،  خيار في زمن الحرب

زواج السكايب، خيار في زمن الحرب

رغم آلام الحرب، وتشتت العائلات بين من هم داخل البلاد واللاجئين خارجها، إلا أن قصص الحب بين السوريين لم تنته، فقد تُوّج الكثير منها بنهايات سعيدة رغم الظروف الراهنة وذلك عبر “زواج السكايب”  الذي طغى على تقاليد الزواج السائدة في المجتمع السوري منذ قرون عديدة محطماً بذلك قيد التوارث ومعلناً زمناً جديداً تلعب فيه التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة دوراً أساسياً.

فأحمد (27 عاما) كان يعمل في أحد البنوك الخاصة بدمشق مع بداية “الثورة” قبل أكثر من سبعة أعوام،  واضطر للهجرة إلى ألمانيا بسبب حملات التجنيد الإجباري والاحتياطي التي يشنها النظام لسوق الشباب للقتال في صفوفه. وإذا كانت ظروف “الثورة” السائدة في البلاد والألم والدماء والدمار فرضت على أحمد الهجرة من وطنه، الا أنها لم توقف قصة حبه لـ”عزيزة” التي بقيت تعيش في إحدى ضواحي ريف العاصمة مع عائلتها، ليبقى أحمد على تواصل معها عبر وسائل التواصل الاجتماعي رغم البعد الجغرافي بينهما.

منذ اندلاع الحرب في البلاد عمدت نسبة كبيرة من الشباب في سورية إلى الهجرة لدول الجوار والبلدان الأوروبية هرباً من الموت على الجبهات وبحثاً عن مستقبل أفضل ومصدر للرزق، ما أدى  إلى تزايد انحسار تواجد شريحة الشباب في مناطق سيطرة النظام وشوارعها الرئيسية، وباتت غالبية المارة في الشوارع هم من النساء والفتيات، وممن تجاوزوا سن الخدمة الاحتياطية من الرجال وطلاب المدارس والجامعات والمسنين، إضافة إلى المتطوعين في الميليشات التي تقاتل الى جانب قوات النظام.

ووفق مكتب التنسيق للشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشوا)، يتواجد في سورية سبعة ملايين ونصف شخص نزحوا من مناطق إقامتهم إلى مناطق افترضوها أكثر أمناً، إضافة الى أكثر من خمسة ملايين لاجئ خارج البلاد. ويؤكد أحمد، أنه ومنذ مغادرته البلاد لم تنقطع الاتصالات اليومية بالصوت والصورة بينه وبين “عزيزة” عبر “الواتساب، الفيسبوك، السكايب، المسنجر…”، إلى أن قرر الانتقال إلى خطوة تالية، أكثر رسمية، تمثلت بتواصله عبر الهاتف مع والديها وطلبه ليدها منه رسمياً، واقتراحه بأن تتم الخطوبة رسمياً عبر إرسال أقاربه في دمشق إلى بيتها وطلبها رسمياً من أهلها، الأمر الذي تم بعد موافقة والديها على ذلك.

لم تطل فترة خطوبة أحمد لـ”عزيزة” سوى لعدة أشهر، حيث أقدم على خطوة تالية، أكثر رسمية، بطلبه من أهلها بأن يتم عقد قرانهما عبر “السكايب” كما يفعل العديد من السوريين، ما دفع والدها الى طلب فترة أيام للتفكير بالأمر “للاستفسار حول إن كان هذا الأمر صحيحاً من الناحية القانونية والدينية”.

ويوضح أحمد أنه بعد أيام قليلة تلقى رداً من والد “عزيزة” بالموافقة، وتم عقد قرانهما بحضور أقربائه إلى بيت أهلها وكذلك بحضور العريس عبر “السكايب”، ليتم بعد ذلك بأيام سفر عزيزة إلى مكان إقامة زوجها في ألمانيا.

وغالباً ما يتم “زواج السكايب” عن طريق أهل أو أقارب العريس الذين يتواجدون داخل البلاد، عبر زيارة يقومون بها لأهل العروس لطرح الأمر، وإن تمت الموافقة المبدئية بين العائلتين يتبعها خطوات رسمية أخرى وتعارف أكثر بين العريسين عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى أن تتم الموافقة النهائية وعقد القران عبر “السكايب”.

وتتلخص طريقة “زواج سكايب” بأن يرتدي الشاب بدلة أنيقة، والفتاة فستان العرس أو فستاناً أبيض على أقل تقدير. يفتح الشاب في بلاد المهجر “السكايب”، وحيداً أو مع عدد من الأصدقاء، بينما تكون العروس في سورية، أو العكس، جالسة مع أهلها وأهله في كثير من الأحيان. يقرأ الشيخ في سورية الفاتحة، فيرد الشاب عبر “السكايب” بـ “آمين”، يحادثه الشيخ عبر “السكايب” ويسأل الفتاة هل هي موافقة، وتعلن الفتاة موافقتها، يرتدي الشاب محبسه وحده، وكذلك الفتاة، لتنطلق الزغاريد.                

تختلف قصة الصيدلانية “نور” (23 عاماً من محافظة درعا جنوب البلاد) عن القصة السابقة.  أنهت “نور” دراستها الجامعية العام الماضي، وتروي والدتها أنها تلقت اتصالاً هاتفياً من أخيها الذي يعمل في مهنة الطب ويقيم في تركيا، عرض خلاله عليها تزويج الفتاة من زميل له سوري الجنسية ويعمل معه في ذات المشفى.

تشير الأم إلى أنها أبلغته بأنها سوف: “تستشير الفتاة وترد له الجواب”، لافتة إلى أنه اعتبر في اتصال آخر بعد أيام قليلة قبل أن ترد الجواب له بأن العرض “فرصة لا تفوت” وعليها أن تقنع الفتاة بالموافقة.

وتوضح الأم، أن “نور” رفضت الفكرة بمجرد طرحها عليها وردت قائلة: “كيف؟ … أنا لم أره… لا أعرفه… لم أتحدث إليه قط!” وأضافت الأم أنه بعد ثلاثة أيام من التفكير في الأوضاع السائدة في البلاد ومقاربة الأمور قبلت “نور” العرض وتعرفت على “العريس” عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومن ثم تمت قراءة الفاتحة عبر “السكايب”، وبعد ذلك بفترة وجيزة سافرت إلى تركيا حيث تولى خالها هناك إتمام الزواج.

ومع الانتشار الواسع للزواج الإلكتروني، أكد القاضي الشرعي الأول “محمود معراوي” في تصريحات نُشرت مؤخراً أن عقود الزواج عبر وسائل التواصل الإجتماعي الصوتية والمرئية صحيحة شرعاً، مؤكدًا أن نسبة عقود الزواج التي تتم عبر الوكالات وصلت إلى 50% من مجمل العقود التي تعقد في المحكمة الشرعية. وبين “معراوي” أن قانون الأحوال الشخصية أجاز الزواج بالمراسلة الخطية، ومن باب أولى الزواج عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، عبر “سكايب” وتثبيتها عبر وكيل في المحكمة، بشرط أن تكون الوكالة مصدقة من وزارة الخارجية وذلك بعد تصديقها من وزارة الداخلية.

وأشار القاضي الشرعي الأول إلى أن “العقد يحتاج شاهدان يعرفان هذا الخطيب بحضورهما وحضور الخطيبة ووليها وفي هذه الحالة يكون العقد صحيحاً”. واعتبر أنه من باب الحيطة والحذر يُفضل ألا يتم الزواج عرفياً عن طريق “كتاب شيخ” لمن يقيم في الخارج وممكن أن يوكل أحداً من أهله أو محامياً ليتم إجراء العقد في المحكمة مباشرة. ولفت “معراوي” إلى أن القانون سمح لأي شخص خارج القطر أو حتى داخله أن يوكل شخصاً من طرفه أو يوكل محامياً من أجل إبرام عقد الزواج مع الزوجة أو وكيلها.

ورأى “معراوي” أن ازدياد نسبة الزواج عبر “سكايب” يعود إلى “هجرة الشباب بشكل كبير خلال سنوات الأزمة”، مشيراً إلى أن هناك العديد من الصعوبات التي يواجهونها في تثبيت عقود الزواج أو عقدها داخل المحكمة، بسبب الحاجة إلى إرسال وكالة لمن يوكله لعقد الزواج.

ويلاحظ في مناطق سيطرة النظام عدم تردد الكثير من الأهالي في تزويج فتياتهم إلى شبان يعيشون خارج البلاد عبر وسائل التواصل الاجتماعي وذلك دون التدقيق كثيراً عند بعض التفاصيل مثل مقدار “المهر” و”الحفل” وغيرها، وتقول إحدى الامهات: “لا مشكلة أبدا إذا كان الشاب جيداً وأخلاقه حسنة… وزواج بهذه الطريقة أفضل من عدمه.”

ويتخوف العديد من الأهالي في داخل سوريا من بقاء فتياتهم دون زواج مع تزايد مشكلة تأخر سن الزواج،  حيث ارتفعت نسبة تأخر سن الزواج 70 في المئة من جراء الحرب التي تعصف في البلاد، بعد أن كانت ما بين 30 إلى 40 في المئة قبل الحرب وذلك بحسب تقارير حديثة.

وبعد أن كانت أسباب تأخر سن الزواج وتبريرات عدم الزواج تعود إلى الأعباء التي تلقى على الشبان مثل الهجرة والمهور المرتفعة وتكاليف الأعراس الباهظة ومسؤولية العائلات، جاءت الحرب لتزيد الأمر سوءاً، مع تضاعف تكلفة الزواج عشرات المرات، حيث ارتفع ثمن غرفة النوم المتوسطة من 40 ألف ليرة سورية إلى أكثر من 500 ألف ليرة، وكذلك بدل يجار المنزل من 5 آلاف ليرة إلى أكثر من 150 ألف ليرة.

التعفيش” أحد تجليات ثقافة الاستبداد”

التعفيش” أحد تجليات ثقافة الاستبداد”

احتلت حملة   التعفيش   في مخيم اليرموك حيزاً كبيراً في وسائل التواصل الاجتماعي، وتم تناولها من جوانب متعددة أغلبها أدان العملية التعفيشية  والقليل برّرها ومنهم من اعتبرها أقل الخسائر بعد خسائر الأرواح التي لا تعوض.

التعفيش وهي الكلمة البديلة عن غنائم الحرب التي استخدمها العرب سابقاً (ومشتقة من كلمة “عَفش” والتي تعني مفروشات البيت) والفرق بينهما ليس كبيراً، ولكن التعفيش وهو السرقة العلنية بقوة السلاح وتحت سمع وبصر وبمشاركة من هم مكلفون بحماية تلك الممتلكات وهنا تكمن المأساة. كانت إدانة المعارضين للمعفشين هي إدانة للسلطة التي يحملونها مسؤولية حماية هذه المنطقة أو تلك. وهي مدانة فعلاً وتتحمل مسؤولية كل عمليات النهب التي حدثت، ولكن لم تتم إدانة السلوك التعفيشي بشكل عام والذي تفشى بين الفئات المتحاربة منذ بداية الصراع، فلم تتم مثلاً إدانة الفصائل التي نهبت مدينة حلب ومحيطها وفككت معاملها وباعتها لتركيا وكأنّ هذه الفصائل لم تكن مسؤولة عن حماية ممتلكات الناس وإنما السلطة هي المسؤولة. وقد صمت آنذاك العديد من المعارضين أو أنكروا حدوث أية انتهاكات من أصله، وفي كل مرة يتم لوم السلطة فإنها تربح نقطة لصالحها بسبب سوء الخطاب المعارض لها.

النهب هو جزء من اقتصاد الحرب ومن أعراض الحرب القائمة، وبالمحصلة هدف الحروب هو استيلاء القوي على ممتلكات الضعيف ويمكن أن يتم الاستيلاء بطرق متعددة وحرب على مستويات متنوعة: إما عن طريق حرب مباشرة وغزو واستيلاء على مقدرات البلاد بالقوة العسكرية، أو بإبراز القوة والتلويح بها والتهديد بالتدخل إذا تعرضت مصالحها للخطر، أو باختلاق المشاكل وخلق الحروب بين الدول والتي تحتاج إلى سلاح لتكمل حروبها وبالتالي تجني الدول أرباحا هائلة من تجارة السلاح، وأخيراً الحرب غير المعلنة والتي تتمثل باستيلاء العسكر على السلطة التنفيذية في بلد ما وشن غزوات عبر شبكة مخابراتها على من يعترض استيلاء تلك الطبقة على ممتلكات البلد الذي تسيطر عليه. وهذه هي الأخطر لأنها تحاربك باسم القانون الذي يصاغ وفق مصلحتها وما يدر عليها من عائدات.

يمكن أن يكون قانون تأميم لصالح تلك الطبقة الحاكمة بخلاف ما تروج له أجهزتها الإعلامية التي تدعي أن ذلك لمصلحة الشعب. كل القوانين التي تصاغ في هذه البلدان هي لمصلحة الطبقة البيروقراطية الحاكمة وأذنابها.‎

يمكن أن تصل هذه القوانين إلى حدٍ من الضغط لتفجر الوضع الداخلي إلى مستوى حربٍ لتستعيد الطبقات الثائرة بعضاً من حقوقها المسلوبة سواء كانت حقوقا سياسية أو اقتصادية. ويمكن أن يكون من النخبة المنتفضة بعض من النماذج الحاكمة يريدون أن يصلوا الى امتيازات الحكام السابقين دون إعطاء بقية الثائرين حقوقهم أي مجرد استبدال لص بلصٍ جديد. هذه الحالات تنجح في الوصول إذا كان نجاح التمرد أو الثورة أو الانقلاب سريعاً أو استطاعت النخبة إخفاء مطامعها حتى الوصول الى الحكم كما حدث بمعظم الدول التي حصلت على استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية.

حيث يرى البعض أنّ فترة الاستعمار كانت أقل سوءاً مما يحصل على يد  أبناء البلد ولكن النهب بقي وربما تطور عبر أسماء براقة وأثمان أكبر رغم كل الدماء التي سالت منتظرة لحظة مغادرة المحتل. المحتل الذي رحل بعد إبقاء عملاء له يقدمون له خدماتهم كما لو كان موجوداً وتبقى جامعاته ومستشفياته هي الأماكن التي يرتادها الحكام الجدد ومنتجات سلاحه هي المشتراة لحماية السلطات الحاكمة وقد يحدث أن يتغير مصدر السلاح بتغير الحكام ولكن يبقى كل شيء كما تركه المحتل دون تغيير. وبالتالي نجد أنّ السوريين مازالوا يحلمون بدولة كما كانت دولتهم عشية الاستقلال.‎

التعفيش هو كل هذا الذي تفعله الحكومات في عالمنا الثالث والصورة في مخيم اليرموك هي الصورة الأوضح، وللأسف هذه هي ثقافة الاستبداد فالحاكم هو صاحب ومالك كل شيء من أرواحنا حتى ترابنا، لذلك عندما سيطر بعض السوريين على مناطق مختلفة من سوريا أعادوا إنتاج الآلية ذاتها ولكن للأسف لم تكن ردود الفعل بنفس الطريقة.

ما زلنا نحتاج إلى فهم للدولة خارج فهم إمكانية تعفيش السكان، حيث تدير مؤسسات الدولة حكومة مؤتمنة على مواردها ولديها أجر على أدائها لعملها وليست مالكة لتلك الموارد، وأن يكون لدينا حكومة مؤتمنة على إدارة موارد تلك البقعة الجغرافية لا تعفيشها وفق قوانين خاصة مع إتاحة ثغرات كبيرة بتلك القوانين لتعفيش الأموال والممتلكات عبر مؤسسات أمنية أوخارج الطرق المباشرة لمؤسسات الدولة عبر الرشوة للأمن الداخلي وشرطة المرور والمالية والجمارك.

التعفيش الحاصل بمخيم اليرموك هو نتاج ثقافة الخليفة والسلطان والأمير صاحب البلاد. حيث ليس لدينا شيء من ثقافة الدولة الحديثة وما تزال شرائح من شعب هذه المنطقة تهتف بحياة الزعيم حتى يصل لها شيء من مكتسبات التعفيش.

الثقافة التي نحملها عن السلطة والدولة والإدارة هي أصل التعفيش، فالتعفيش في عقولنا حيث نسامح السلطات التي تعفش إذا كنا نواليها ونستنكر نفس الفعل لغيرها، ويجب أن تكون مهمتنا في الحدّ الأدنى استنكار الفعل ذاته. ونحتاج إلى منظومة أخلاقية ثقافية جديدة وإعادة هيكلة شاملة لمؤسسات الدولة (بما فيها القطاع  الأمني) كي تلائم أخلاق العصر المتمثلة بميثاق حقوق الإنسان والمواطنة المتساوية وحصيلة التجارب الإنسانية على المستوى العالمي.

!حمص التي لا تشبهني

!حمص التي لا تشبهني

بعد غياب أعوامٍ، تجوّلت في شوارع حمص، التي كنت أحفظ أدق تفاصيلها. كنت أطوفها بسيارتي، قبل اندلاع الثورة، كل يوم مرة أو مرتين، أثناء ذهابي وعودتي من عملي، وكنت أتسوق حاجياتي من لباس ومأكل وبقية متطلبات المنزل قاصدةً كلّ أسواقها، البعيدة منها والقريبة، الحديثة “المودرن” منها والشعبية، وصولاً إلى “البسطات” المنتشرة في منطقة الساعة القديمة، والتي منعها المحافظ السابق، المغضوب عليه من قبل أهلها، إياد غزال، في فترة ما قبل الثورة.

اليوم، لا شيء يشبهها؛ شعرت باغترابي وغربتي عنها. لعله الزمن الذي بدأ يمحو تفاصيل المدينة من ذاكرتي، أو لعلّني أنا من تعمّدت القطع معها ونسيانها، بعد تتابع الخيبات، وتتابع التدمير والتهجير. أو أن رفضي للتقسيم الطائفي حينها هو ما دفعني إلى رفض المدينة، ومغادرتها؛ فقد قُسمت حمصُ بالدبابات والحواجز، ولا يمكنك اجتيازها دون التأكد من أن طائفتك تتناسب مع الحي الذي تقصده.

هذا المشهد، الطائفي، تغير اليوم؛ لا حواجز طائفية، ولا تقسيمات، ولا حساسيات حتى. عاد مشهد الحياة الطبيعية، أو كما اعتدنا تسميته بالتعايش، إلى أحياء المدينة المأهولة منها. أبو محمد صاحب محل في حي كرم الشامي يعزّي نفسه بأنّ الوضع أفضل منه قبل 2011، من ناحية الحساسيات الطائفية، وأن جميع سكان المدينة خبروا خطورة ذلك، ويرغبون بالعيش بسلام. منطقي ردّه، ففترة الثورة، بما تعنيه من أحلام ورغبة في التغيير كانت قصيرة، سنة أو سنة ونصف، قبل أن يتمكن النظام من إرغام المقاتلين على التمركز في الأحياء القديمة، وتحويل الثورة إلى حرب استنزاف، وتهجيرٍ وتدميرٍ شامل لتلك المناطق، وانكفاء سكان الأحياء الغربية عنها.

رغم تراجع الحساسيات الطائفية الملحوظ لي، ما زلت أشعر بالغربة. الحقيقة أن من أشعل الحساسيات الطائفية، هو نفسه من أخمدها؛ لم يعد له من حاجة إليها، فقد تمكن من السيطرة على كامل المدينة، ومؤخراً أكمل سيطرته على الريف الشمالي، وأعلن عودة حمص ومحيطها بالكامل إلى “حضن الوطن”، وأنّها آمنة! هي بالفعل آمنة بالنسبة إليه من العصيان، وبالتالي لم يعد من حاجة إلى أدوات القتل من قذائف عشوائية، أو حتى تفجيرات في أماكن مكتظة كانت تحصد وتجرح المئات. حتى “الشبيحة”، الذين كانوا الأكثر انفلاتاً في المدينة، تم سحبهم إلى الخدمة العسكرية، بعد انتفاء الحاجة إليهم داخلها.

هي مدينة آمنة بالنسبة للنظام. الأحياء التي صمدت في وجهه سنوات شاهدة اليوم على ذلك؛ الخالدية والبياضة وعشيرة ووادي السايح والسوق المسقوف وجزء كبير من باب هود، مدمرة بالكامل، وخالية من أي سكان، منهوبة بالكامل، ومحروقة الجدران. لم يتبين ما يُبيَّت لهذه الأحياء مستقبلاً، عدا حي الحميدية، ذي الغالبية المسيحية، سُمح بالعودة إليه وترميم بعض مبانيه وكنائسه. لكنّ المرور بتلك الأحياء يومياً يبثّ الرعب في قلوب سكّان بقية الأحياء، ويجعلهم يختارون الصمت، خوفاً من مصير مماثل.

استوقفتُ صبيةً في مقتبل العمر لمساعدتي في الاستدلال على أحد الشوارع الفرعية في حيّ الإنشاءات، صَعُبَ على ذاكرتي المنهكة بتفاصيل سنوات الحرب استحضاره. كان ردُّها مليئاً بالحيوية، بنبرة صوتها وتعابير وجهها وإيماءات يديها، أعادت إليَّ بعض الألفة، وذكرتني بطيبة وعفوية “الحماصنة”، واندفاعهم للمساعدة. شعرت ببعض الارتياح، وتابعت جولتي باتجاه حيّ كرم الشامي، حيث انتقل سوق المدينة إليه. هو أيضاً استفزّ ذاكرتي الحمصية؛ تباع فيه بضائع من حلويات ومشتقات الألبان واللحوم والخضار، كلّها بجودة عالية، وبأسعار أقل من باقي الأحياء، وأقل من نظيرتها في أسواق دمشق بمعدل 15 إلى 25 بالمئة، بما يذكرني بأنّ حمص ما زالت أمّاً للفقير.

المشهد مختلف في سوق الناعورة وشارع أبو العوف والسوق المسقوف؛ أقل من نصف المحال فقط قد فُتِحت، ببضاعة خجولة، وحركة شراء محدودة. الحكومة هي من أرغمت أصحاب المحلات على فتحها، بالترهيب تارةً، وبالترغيب تارة أخرى، عبر تقديم بعض الخدمات المجانية كتعزيل الأنقاض من المحال التي أعيد افتتاحها.

قُدِّمَت هبات مالية لمتضرّري حي الحميدية، عبر الكنائس، من قبل منظمات دينية مسيحية، مما ساعد الكثير من السكان على ترميم بيوتهم والعودة، ليصبح الحيَّ المأهول، أي الحميدية، محاطاً بالدمار من جهاته الأربع.

مظاهر التشبيح في الأحياء الشرقية، ذات الغالبية العلوية، باتت أقل بكثير. صورٌ لآلاف ضحايا الحرب من مقاتلي النظام تملأ الجدران، مقابل آلاف الأرامل والثكالى؛ بعضهن يتعرضن للاستغلال من قبل المسؤولين بسبب الحاجة إلى عمل أو معونة لكفاية قوت الأطفال.

يسود هذه المنطقة حالة من الفقر وتراجع المستوى المعيشي، تلحظها من كمية ونوع البضائع التي تُعرَض في المحال. يقول أحد أصحاب محلات الحلويات في حي الأرمن، إن البيع تراجع كثيراً هذه الأيام، بعكس ما كان عليه في الفترات التي انتعش فيها سوق التعفيش. معظم الشبيحة واللصوص هم من الفئات المهمشة والجاهلة في الغالب، وكل الأموال التي كانوا يجنونها من بيع المسروقات أنفقوها على “ملذّاتهم الشخصية” بالمعنى الحرفي لهذا التعبير، الذي ارتبط بأصحاب الجنح والسوابق في السجون؛ فقد سمحت “الجهات المختصة” بافتتاح الملاهي الليلية في الجزء الشرقي من الحي، والتي سببت إزعاجات للسكان بسبب الشجارات اليومية للمخمورين، والأعيرة النارية. قادة الشبيحة حافظوا على مستوى معيشتهم، وعبر استغلال نفوذهم. مثلاً أحدهم افتتح معهداً لتدريس طلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية؛ حيث يتهافت الأهالي لتسجيل أولادهم بمبالغ كبيرة، تحت دعاية قدرة القائمين على هذا المعهد على تسريب الأجوبة إلى الطلاب داخل قاعات الامتحان.

في حي العباسية الذي يتواجد فيه نسبة من السكان الشيعة، أيضاً تراجعت مظاهر المبالغة في الاحتفالات بالمناسبات الدينية، بعد أن كسرت روسيا جبروت إيران في المدينة، عبر إلزام النظام باتفاق الوعر، والذي تضمن ترحيل الراغبين، والإبقاء على من يشاء، بعكس رغبة المليشيات الإيرانية، بإفراغه وتعفيشه، كما فعلت باتفاق حمص القديمة في 2014.

نعم، باتت حمص مدينة وادعة، كما يسمّيها إعلام النظام. لكنها وادعة لدرجة الموت؛ إذ لا أحلام ولا آمال بمستقبل أفضل، بل أناسٌ مُثقلون بصمت الانكسارات، وهمّهم تدبر شؤونهم الخاصة. حمص التي أعشقها هي اليوم مدينة الموت والدمار، مدينة الانكسارات، المدينة التي لا تشبهني!