مخترع سوريّ يبتكر نقالة معزولة للحماية من نقل عدوى كورونا

مخترع سوريّ يبتكر نقالة معزولة للحماية من نقل عدوى كورونا

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

ابتكر المخترع السوري عصام حمدي نقالة معزولة لنقل المريض المصاب بفيروس كورونا دون إيذاء المحيطين به ونقل العدوى وخاصة للكادر الطبي. وفي حوار مع المخترع حمدي يقول إن الاختراع ليس جديداً وإن الحاجة لهذا الاختراع في ظل الوباء الذي يمر العالم به أصبح حاجة ملحّة بعد ظهور الكثير من الحالات في سورية وضعف الإمكانيات الطبية في البلاد.

وأضاف لكل اختراع حكاية. وحكاية النقالة المعزولة بدأت منذ سنوات عندما كنتُ أشاهد فيلماً يتحدّث عن مدينة يضربها وباء، كانت الأطقم الطبية ترتدي الألبسة العازلة والأقنعة الواقية للحماية من الوباء، وراودني السؤال: ماذا عن الباقين من غير الأطقم الطبية؟ ولأن المشكلة المطروحة واردة الحدوث وسبق أن شهد العالم جوائح متنوّعة؛ فقلبت أفكاري لتنضج فكرة طريقة لنقل المرضى الذين يحملون أمراضاً خطيرة بطريقة تعزلهم بالكامل عن الجو المحيط. وفي الوقت نفسه تؤمن لهم العناية والرعاية ومقوّمات الحياة وأهمها الهواء والسوائل والعلاج.

فكانت الفكرة الأساسية صنع نقالة معزولة على أن يكون هيكلها الخارجي مصنوعاً من مواد شفافة لتحقيق غاية سهولة مراقبة المريض وراحة المريض النفسية، فصمّمتها بشكل متوازٍ من لدائن مستطيلة ونصف  دائرية تساعد على بقائها منتصبة في إطارات صلبة، وأن تكون خفيفة الوزن وقليلة الحجم وقابلة للطي ومصنوعة من اللدائن الشفافة ولها أقواس معدنية أو بلاستيكية تبقيها ثابتة، وأداة إغلاق محكم لها لمنع تسرب أي هواء داخلي إلى الخارج.

ويتابع: لتخديم المريض على أكمل وجه زوّدتها بقفازات مطاطية مقلوبة ولتأمين حاجة المريض من الهواء، ولتعقيم الهواء الخارج من داخلها تمّ تزويدها بمضخة هواء ويمر الهواء الداخل والخارج بجهاز تعقيم يضخ الهواء المعقم للداخل ويسحب الهواء الفاسد للخارج، لأن النقالة من وظائفها أيضاً نقل المرضى الذين يخشى عليهم من العدوى مثل المصابين بحروق أو أمراض مناعيّة. لذلك من الضروري تعقيم الهواء الداخل والخارج، كما أنها مزودة بعدة أكف معزولة لخدمة المريض، ومزودة أيضاً بفتحات معزولة من أجل مرور أنابيب السوائل والسيروم وإعطاء الأدوية. وبعد نقل المريض يمكن تعقيمها ويفضل حرقها بعد فصل الأجهزة الإلكترونية عنها نظرا لرخص ثمنها. ويتابع المخترع حمدي وصفه للنقالة مستذكراً لحظات الإنجاز وزمن الابتكار، وبعد أن يأخذ نفساً عميقاً قال: حصلت على براءة اختراع برقم 5029. وبعد عامين تم تطوير هذه النقالة تحت اسم الحاضنة المحمولة التي أصبح بالإمكان استخدامها لعزل المرضى وعلاجهم.

تطوير النقالة المعزولة  من أجل علاج المصاب بشكل معزول بالكامل

زوّدت الحاضنة بفراش خاص يضخ تحت المستخدم هواء معقماً ليحافظ على صحة الجلد وتوجد في الفراش أقنية تسحب الهواء الفاسد وأي سوائل لخارج الحاضنة مع تعقيمها قبل أن تصل للجو الخارجي. فالحاضنة المحمولة هي تطوير للنقالة المعزولة، في الحاضنة المحمولة يمكن نقل وعزل المريض المصاب بمرض معدي من أجل علاجه بشكل معزول بالكامل دون أن يحتك بأي وسط خارجي.

وصممت لتكون قابلة للطي وسهلة الاستخدام ومريحة للمستخدم، ويمكن تخزين ونقل كميات كبيرة منها بطريقة سهلة وحجم قليل للاستخدام في الجوائح في حال كان هناك حاجة لدعم للمشافي الميدانية أو دعم المشافي العادية بها.

كما أضاف: تم تطوير جهاز تعقيم ليضخ الهواء المعقم تحت المستخدم ضمن أقنية توزع الهواء المعقم تحت المريض من أجل الحفاظ على  صحة الجلد، هذا الهواء أيضا يكون بدرجة حرارة مناسبة للمريض حسب درجة حرارة الجو المحيط، فيمكن أن يكون دافئاً أو عادياً. وزودت أيضاً بأقنية موزعة في فراش الحاضنة تسحب الهواء الفاسد والسوائل من عند المريض ألى خارج الحاضنة بضغط سلبي بعد أن يمر على جهاز التعقيم بشكل تقني وسريع بصورة أكبر.

يوضح حمدي الغاية من ابتكاره: لباس العزل الذي يرتديه الطاقم الطبي يقي مرتديه فقط، لذلك تكمن أهمية النقالة المعزولة في العزل الكامل للمريض عن الوسط المحيط بما فيهم الكادر الطبي وكل من هو قريب من المريض، ويكمل: لاحظنا نسبة الإصابات الكبيرة ما بين الأطباء والممرضين المحتكين بالمصابين رغم إجراءات الوقاية وذلك في البلدان الأكثر تطوراً، فماذا عن بلد مثل سوريا، وهنا تكمن أهمية زيادة الإجراءات الاحترازية التي من شأنها مضاعفة الوقاية والحماية بطرق لا تكلف كثيراً ولكنها تقي الكثير.

ويختم أمين سر جمعية المخترعين في سورية المهندس عصام حمدي بحسرة: تقدّمت بطلب براءة اختراع وحصلت عليها برقم 2012040071، لكن لم تحظَ النقالة بالاهتمام اللازم رغم مشاركتها بأكثر من معرض، لكن تبرز أهميتها الآن لنقل مرضى كورونا بطريقة آمنة وكلفة زهيدة.

وكان “حمدي” قد وضع الأجهزة التي أنجزها من جهاز داعم لعمل المنفسة واختراع النقالة المعزولة بشكل متاح للجميع بغض النظر عن الحماية الملكية التجارية والصناعية، وذلك نظراً للخطورة التي يشكلها فيروس كورونا في حال انتشاره في سوريا، ولكن سرعان ما ختمت شرطة محافظة دمشق المحل الوحيد في سوريا  لتطوير أجهزة الكمبيوتر الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة وجرحى الحرب بالشمع الأحمر، كما تحدث مؤسس المركز عصام حمدي: هكذا قطع ختم الشرطة أهم التجارب التي تتم على إنهاء مسطرة الجهاز الداعم لعمل المنافسة والنموذج المصغر للنقالة المعزولة والماوس العاملة بالقدم الواحدة، غير سائلة أو مبالية بحياة الملايين الذين يمكن أن تنقذهم هذه التجهيزات التي أطورها بآخر مركز تجارب لي.

وتابع: حاولنا مقابلة الضابط المسؤول عن القسم في البحصة ولكن لم يتح لنا شرف مقابلته لنشرح له ما نعمل عليه وتم تحويلنا لعناصر. وقال حمدي مستغرباً: في العالم يستنجدون بنا وعندنا يحاصروننا. أفلا يحق للمخترعين أن يعاملوا معاملة مراكز البحوث أو على الأقل معاملة محلات الأجهزة الطبية لنستطيع أن نكمل اختراعاتنا في هذه الأزمة القاتلة.

يوميات الحجر السوري: بعض الابتلاء الأسري!

يوميات الحجر السوري: بعض الابتلاء الأسري!

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

خرجت ولم تعد، هذه الجملة ليست محاكاة لفيلم يحيى الفخراني الشهير في ثمانينات القرن الماضي، بل هذا توصيف دقيق لرحلة سراب خارج أبواب منزلها، الأبواب التي لطالما ظلت موصدة في وجه أحلامها الكبرى، أحلام على شاكلة العيش حرة، وحرةُ بالمفهوم المشرقي عامة تعني للمجتمع ضياعاً للأخلاق، أما من وجهة نظرها فتعني امتلاكها لمفاتيح الحياة كما تشاء هي، لا الآخرون.

الفتاة العشرينية ضاقت بها الحياة ذرعاً مع أسرة متحجرة خلف باب بيت لا يعلم حال من بداخله إلا سكانه، سكانه الكثر على قلتهم، وجود ماجد ـالأخ الأكبر لسراب– حول حياتها إلى جحيم، فالأخوة المتباعدون صاروا قريبين من بعضهم كما لم يحدث منذ أيام الطفولة. يوميات الحجر الأولى مرت ثقيلة ومشبعة بالقسوة، تلك القسوة التي يصطلح أنها نوع من التعنيف القائم على النوع الاجتماعي.

القصة بدأت حين استمع ماجد خلسة لمكالمة ليلية عاطفية بين سراب وحبيبها السري  (أمام عائلتها على الأقل)؛ فهي تنتمي لبيئة متوسطة الحال والثقافة على حد سواء، مكالمة ما بعد منتصف الليل تركت في وجهها أثر لكمة أحاطت بعينها، لكمة غيرت معها مفاهيمها للحياة الأسرية الخانقة، ولاحقاً، وليومين متتاليين ظلت عرضة للإهانة والتقريع والشتم. تقول سراب عن تجربتها: “لستُ من أولئك الذين يقبلون الإهانة، أنا ممتلئة بالحرية، الحرية التي تجعلني أطابق المثل القائل: تموت الحرة ولا تأكل من ثدييها”. وتضيف: “لم يكن هناك خيار آخر، لا بد من ترك المنزل ولو كان بطريقة الهرب”، كان ذلك في أواخر آذار، وبعد أقل من أسبوعين على بداية الحجر المقيت، على حد وصفها.

الفتاة الشامية الصغيرة تقطن عند صديقتها بعد الحادثة، لا أحد من أهلها يعرف أين هي، وهي ترجح أنهم أبلغوا الشرطة عما يبدو أنه حادثة اختفاء، وهي لا تبالي، فأثر اللكمة آلم روحها، لا جسدها، الحب ليس جريمة واكتشافها لمدى العنف المحتمل لدى ماجد جعلها تُعيد حساباتها بكل ما يتعلق بالأسرة ومفهومها، على حد تعبيرها.

التعارف الأسري

لا يمكن القول أن البيئة السورية الاجتماعية متمازجة ومتصالحة مع نفسها، وليس المكان هنا ملائماً للخوض بما فرضته الحرب من تغيرات اجتماعية طرأت على يوميات الأسر السورية، وليس من اللائق إرجاع الأمر لتبدل الظروف المعيشية عامة، فالأمر برمته يتعلق بالأمزجة التي طفت على السطح بكل وضوح، لتفرض معها تبايناً غير مدروس وأقله غير صحي في بيئة غير سوية.

ليست المشكلة في الأسرة بتكوينها المعرفي كنواة صغرى لبيئة كبرى، إنما المشكلة بالتباين الواقع بين أسرة وأخرى، الأمر الذي زاده الحظر وضوحاً، فبدل أن ينشغل أفراد الأسرة بيومياتهم المتعبة في الخارج، صاروا –حرفياً– منشغلين بيوميات بعضهم داخل المنزل، الأمر لا يبدأ بانتقاد الطعام، ولا ينتهي بمواعيد الاستحمام، مع المرور على الشكل والأسلوب والحديث وساعات النوم؛ فتجد الأب قد اكتشف فجأة أن ابنه ينام كثيراً، ويستيقظ في الظهيرة مثلاً، وهنا أحالت القاعدة كل الموجودين إلى متقاعدين بلا عمل بحكم الضرورة، ما يحيلنا إلى النكتة العربية التي صارت عرفاً، بأن الأب يصعب عليه أن يجد أحداً بلا عمل في المنزل؛ فعلى الجميع أن يعمل كخلية نحل في إصلاح أي شيء معطل، كل شيء، بدءا من الأشياء التي لا تعمل، وانتهاء بالأشياء التي تعمل، على طرافة الموقف، ولكنه ولد ضيقاً، يوماً بعد يوم صار غير محمول، يقول مازن (مهندس زراعي): “لا يعقل أن يوقظني أبي في السادسة صباحاً لأصلح معه سماعة الاستحمام، هي تعمل أصلاً، مشكلته أنها توزع الماء بشكل دائري، وهو يريده مخروطي، يعتقد أنني مصممها الأساسي، حقيقة لا توجد مشكلة في الحمام، المشكلة فقط أنه لم يهن عليه أني نائم بلا عمل”.

اكتشاف الذات

انطلاقاً من المقولة “تسعة أعشار العافية اعتزال الناس”، كان اكتشاف الناس لذواتهم، فالحظر فرصة جدية للغاية لجلوس الناس مع أنفسهم، في محاولة لمراجعة سير حياتهم في سنين مضت، بل وربما التركيز على اتخاذ قرارات لطالما كانت مؤجلة، وربما مستبعدة.

وحتى أنها فرصة جوهرية لاكتشاف الآخرين من أهلهم، الآخرون وهم المبعدون عن بعضهم قسراً بحكم ضراوة ظرف الحياة في الخارج، إذ فجأة تجد نفسك أمام أخ جديد، أخت جديدة، أب وأم غيرتهما سنون الحياة الأخيرة.

وليد أصابه الذهول حين رأى رسومات أخته هبة، لم يكن يعرف مسبقاً أن عاماً واحداً صقل موهبة أخته وجعل منها رسامة جميلة، يقول وليد: “آخر ما توقعته أن أرى رسوماً بهذا الجمال”، ويضيف :”منذ أشهر ربما لم أدخل غرفة هبة، لم نكن نلتقي أساساً، فطبيعة عملي تحتم عليّ العودة متأخراً للمنزل، والمغادرة باكراً، صدمت بحق بما أصبحت تصنعه، صارت غرفتها أقرب لمعرض احترافي”. وعن ذهوله يكمل: “حقيقة صدمني مظهر الغرفة واللوحات المعلقة فيها، أنا فخور جداً بما تعمل، وسعيد أكثر أنه صار هناك متسع من الوقت لأجالسها وأسمع منها عن هواجسها بالفن الذي ظل مستتراً داخل عقلها في كل هذي السنين من الاغتراب الذاتي عن أنفسنا”.

يوميات الحب حازت على نصيبها أيضاً، ليس في السلبية فقط، بل بالجانب الإيجابي أيضاً، لميرا قصتها مع الحب، قصتها التي أرادت بكل ثقة أن تبوح بها، ربما كان وضع الأسرة الاجتماعي لاعباً أساسياً في تكوين فكرة المكاشفة، فهي تريد أن تكون حقيقية مع أهلها، بل أن الحظر واشتياقها لحبيبها الذي لم تعد تراه شجعاها لإخبار أهلها، تقول: “انتظرت اجتماع المساء أمام التلفاز لأظفر باهتمام الجميع، وأخبرتهم عن رائد، حبيبي للعام الثاني على التوالي، صارحتهم بكل شيء، وكنت أثق منذ البداية أنهم أكثر انفتاحاً من رفض الأمر، أخبرتهم عن علاقتنا وعن نيته خطوبتي وعن كل شيء يتعلق به”. ردة فعل العائلة كانت هادئة ومتقبلة للموقف، بل وقرروا التعرف عليه، وأكثر من ذلك، خرقوا الحظر به، فصار زائرهم الوحيد في يوميات الحظر الطويلة، لأكثر من أسبوعين على التوالي، حتى اليوم، وكذا تحول اللقاء من المطاعم والمقاهي إلى داخل المنزل الممتلئ بأهله، وبذا كانت ميرا محظوظة، على خلاف معظم بنات جيلها، البنات المكبلات بأهلهن وأسوار منازلهن، داخل الحظر وخارجه.

اختلافات عقائدية

من الترف في مكان الحديث عن التموضع السياسي بعد عشرة أعوام من الحرب، فالمواقف حقيقة قد حسمت منذ عام الصراع الأول، ولكن الانفتاح السياسي الفردي أقله جعل من السوري أكثر قدرة على الانتقاد وإبداء الرأي، وكما في كل أسرة هناك مواقف عديدة حيال كل الأمور الحياتية، وكذا السياسية، فسمير استفاق فجأة على اعتراضه أن أخاه مؤيد شيوعي، سمير لا يحب الشيوعيين، يقول مؤيد: “أخي لا يحب الشيوعيين، وليس لديه سبب، وربما لا يعرف عنهم شيئاً، لكنه لا يحبهم فقط”. الخلاف سرعان ما تطور بين الشقيقين ليتحول إلى عراك يقض مضجع المنزل بأسره، فسمير الذي لم يحسم موقفه الحزبي رغم بلوغه عامه الثلاثين، إلا أنه صار أكثر امتعاضاً من تقبل آراء أخيه الانتقادية حيال عمل الحكومة السورية، بل راح يخونه غير مرة، موعزاً كثرة الانتقاد لتدبيرات خارجية تلوث عقول الشباب. وهو ما يرفضه مؤيد بالمطلق، والمهم بالأمر أن الشقيقين على شفا حفرة من فراق ايديولوجي غير مفهوم المعالم قد يحيل علاقتهما المبينة على وحدة الدم إلى نزف الدماء، ذلك حقيقةً ما توقف عن الحصول بين السوريين منذ سنوات طويلة.

الطلاق، أبغض الحلال

“لن أكمل معه يوما واحداً، إنه نزق ومتهور وغير محتمل”، تقول هيام عن زوجها، وتكمل: “لولا الحظر ولولا أن المحاكم مغلقة لخلعته حالاً دون تردد، أنا انتظر افتتاح المحاكم أريد الطلاق”. وترفض هيام أن تعلل سلوك زوجها بظرف الحجر الذي يؤثر نفسياً على الجميع، بل ترى أن حياتهما معاً صارت ضرباً من جنون، وتشكر الحجر الذي أتاح لها فرصة التفكير الملي في قرار الابتعاد.

تقول: “كانت حياتنا لا بأس بها، بالكاد نلتقي بالليل بحكم عمله الطويل خارج المنزل، وأنا كنت مشغولة طوال الوقت بحكم عملي كمُدرسة، أما الآن فقد اتضح كل شيء، لا يمكن أن نكمل سوياً في كل هذا التباين اليومي بالتصرفات”. قصة هيام التي تنتظر طلاقها تشبه قصص عشرات السوريين، ولكن الجيد في قصتها أن زوجها مقتنع أيضاً بالطلاق، فهو الآخر اكتشف استحالة استمرار حياتهما الزوجية معاً، رغم أنه لم يمض إلا عام على زواجهما.

الحظر الذي ألزمنا منازلنا جعلنا عراة أمام أنفسنا، جعلنا نعيش في مساحة لولبية تخلق داخلنا أفكاراً لطالما ظلت مستترة خلف حجاب اللاوعي، جعلتنا أكثر قرباً من أرواحنا، أكثر إدراكاً لأحلامنا، أقل تقبلاً لواقعنا، وأكثر تمسكاً بما نريد.

داخل كل أسرة سوريّة هناك حكاية فريدة، لا أحد سعيد بالمطلق، الجميع بدأ يكتئب ولو بدرجات، هذا ما ستلحظه من حديثك مع كثر، إلا أن ما يعول عليه هو القادم بعد الخروج من المنزل والعودة للحياة الطبيعية، فهل ستعود الحياة على شاكلة الفيلم الايطالي “perfect strangers”، الذي يتحدث عن سبعة أصدقاء قدامى متزوجين، يجتمعون ويذهبون لتناول العشاء، وهناك يقررون فجأة بأنهم سيتشاركون جميعاً في محتويات الرسائل البريدية والمكالمات، بحيث تصبح جميعها متاحة أمام بعضهم البعض، لكن هذا يجعل النقاب يسقط عن الكثير من الأسرار، لتتحول الأمسية إلى عراك وخيانات وخلافات وخسارات، لنجد في نهاية الفيلم حين نزول الجميع من منزل المضيف، اقتراب كل زوجين من بعض وسيرهم معاً متناسين كل ما حصل تماماً، مخططين لموعد السهرة القادم.

كيف يواجه أطفال سوريا الكورونا؟

كيف يواجه أطفال سوريا الكورونا؟

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

تبدو التقارير التي تنشرها منظمة الصحة العالمية ووسائل الإعلام حول ندرة إصابة الأطفال بفيروس كورونا مطمئنة وواعدة إلا أنّ ما يحدث لهم من حالاتٍ نفسيةٍ أثناء الحجر قد تكون أشد خطراً وألماً عليهم وخصوصا في بلدٍ كسورية تعاني من صعوبات الحرب التي لم تنته بعد لتأتي جائحة  كورونا وتضيف فصلا جديدا من فصول الخراب المستمر.

في الأيام الأولى للحجر كانت ابنتي الوحيدة (8 سنوات) تظنّ أنها عطلة رائعة أشبه بعطلة العيد، كانت سعيدةً لأننا سنجلس طويلاً معاً ولن أضطر لتركها والذهاب للعمل وسيكون هناك متسعٌ من الوقت لفعل أشياء ممتعةٍ ومسلية، ورغم جهودي لابتكار تلك الأشياء المسلية والمفيدة  أصبحت جملتها المفضلة بعد مضي أسبوع واحد فقط: ” لقد مللت”!

 في البداية حاولتُ استغلال الوقت المتاح لنا وتنظيمه وتوزيعه بين تدريسها لتعويضها عن انقطاع المدرسة، وبين ممارسة هواياتها المفضلة كالعزف والرسم والأشغال اليدوية، كما مارسنا التمارين الرياضية وشاهدنا الرسوم المتحركة وقرأنا جميع القصص في مكتبتها وتشاركنا أعمال المنزل، وعلى الرغم من كل المحاولات لكسر روتين الملل والقيام بأشياء جديدة إلا أنّ طول مدة الحظر جعلت كل ما نقوم به مملاً ومكرراً. من المؤكد أن التواصل الحسي المباشر ضروري ومهم لنمو شخصية الطفل من كل جوانبها، وحرمانه من الحركة والتواصل الاجتماعي مع المحيط سينعكس سلباً على نموه وملكاته، لذا بدأت ابنتي تدريجياً بفقدان اهتمامها بهواياتها وسيطر الملل على حياتها ولم تعد ترغب باللعب وترفض قراءة الدروس أو مطالعة الكتب، وفقدت رغبتها بالرسم وعزف الموسيقى، ومهما يكن الوقت الذي نمضيه معاً، إلا أنها باتت دائمة الشكوى من وحدتها ومن افتقادها الكبير لمدرستها وأصدقائها.

غياب الأب

بعد استشهاد زوجها اعتادت ريم وأطفالها (4 و6 سنوات) تمضية الوقت خارج منزلهم البسيط المؤلف من غرفةٍ واحدةٍ وذلك عبر القيام بزياراتٍ لا تنتهي للأهل ولجميع الجيران والأصدقاء وحتى أصدقاء الأصدقاء أحياناً، هاربةً من وحدتها وواقعها وعاجزةً عن العمل بسبب صغر أعمار أطفالها ومكتفيةً بالراتب المتواضع الذي تتقاضاه كتعويض من الدولة على استشهاد زوجها.

الحجر الصحي الذي فرضته كورونا وضع ريم مباشرةً أمام مرارة واقعها إضافة لصعوبة التعامل مع طفلين اعتادا الخروج واللعب مع الآخرين دون رقيب. بداية الحجر كان نشاطهما الدائم كارثة حقيقية، وصراخاً ولعباً وعنفاً متبادلاً بينهما ما اضطرها لاستخدام العقاب الجسدي لكبحهما ومن ثم إجبارهما على الجلوس أمام التلفاز عندما تكون الكهرباء متوفرة.

العنف المفاجئ الذي أبدته الأم انعكس على الأطفال بشكلٍ مباشرٍ، فقد تحولا إلى طفلين خاملين وبدت علامات الاضطراب في سلوكهما تبدو واضحة، الطفل الكبير كان ينزوي لوحده وكثيراً ما كان يُكلم نفسه أو أحد ألعابه بالإضافة إلى اضطراباتٍ في النوم والأحلام المزعجة، أما الطفل الصغير فلم يكن بأفضل حال من أخيه فقد كانت تأتيه مساءً نوبات هلع ويُمضي ساعةً قبل النوم في الصراخ والبكاء، إضافةً إلى تبوله في فراشه على نحوٍ متكررٍ.

نوال (35 سنة) تعاني هي الأخرى من غياب زوجها في لبنان وقد هرب من الخدمة الاحتياطية وهو الآن عالق هناك دون عمل ولا يستطيع العودة. كانت نوال تعمل في مشغلٍ للخياطة قبل أن يتوقف بسبب الحجر الأمر الذي اضطر ابنها المراهق عُمر (14 عاماً) إلى العمل في توصيل الطلبات لدى أحد المحلات لتأمين دخلٍ للأسرة ريثما ينتهي الحجر وتعود أمه للعمل.  تحكي نوال عن مخاوفها الكبيرة على ابنها وهي تذرف دموعها وتقول “يخرج عمر للعمل منذ الصباح وحتى المساء، يؤلمني اضطرارنا لعمله في هذا الوقت بالذات، فالمرض من جهة ودخوله سن المراهقة من جهة أخرى، أخشى عليه من رفاق السوء والاستغلال وأخاف أن يتعلم التدخين أو تعاطي الممنوعات وأشعر بخوفٍ شديدٍ عليه وكأني أرميه بيدي للتهلكة”.

ألعاب الكترونية

سعاد (38 سنة) التي حاولت جاهدة تنظيم وقتها وأوقات أسرتها بصورةٍ دقيقة ومن مختلف الجوانب لتجعل من أطفالها (قيس 12 سنة، وصقر 10 سنوات) نموذجاً مختلفاً عن أطفال الحي الذين يضيعون أوقاتهم بالألعاب الإلكترونية، وكانت تحاول الشرح لأمهاتهن عن سوء تلك الألعاب ومخاطرها الجسدية والنفسية على الأولاد من وجهة نظرها.

كانت تسال نفسها دائماً كيف يمكن لأمٍ أن تسمح لأولادها بالجلوس لساعاتٍ طويلة أمام هذه الألعاب؟ ما الممتع في ألعاب العنف والمعارك؟

 لكن بقاء الأطفال كلّ هذه المدة في المنزل وتعطّل كافة الأنشطة والنوادي التي كانت تملأ وقت الأطفال بعد المدرسة أفلت زمام الأمور من يدها بدءاً من مواعيد تناول الأسرة للطعام وانتهاء بمواعيد النوم.

تقول سعاد “حاجة ولديَّ للتواصل مع أصدقائهما في فترة الحجر جعلتني أوافق على استخدامهما للموبايل، وبدأت الأمور بالتطور وصار من الضروري تنزيل الألعاب الالكترونية كي يتشاركا مع أقرانهما اللعب أو على الأقل ليستطيعا إيجاد أحاديث مشتركة فيما بينهم والآن صارت هذه الألعاب تشغلهما طول الوقت. تغيّرت مواعيد نومهما وصارا أكثر بدانةً،  وعندما حاولت حرمانهما منها وإعادة التنظيم إلى حياتنا تفاجأتُ بحجم إدمانهما على تلك الألعاب وبالعنف الكبير الذي اكتسباه سواء في التعامل معي أو فيما بينهما، إذ تحول جو الإخاء بينهما إلى أنانية وعداوة وتنافس على فوزٍ افتراضي غالباً ما ينتهي بعراكٍ وصراخ ٍحقيقي.”

علاقات على المحك

تبتسم سميرة بمرارة عندما تستمتع لأغنية فيروز “خليك بالبيت” فلم يعد هناك مكان للاشتياق بينهما، فزوجها الذي كانت تفتقد غيابه وتتمنى حضوره في البيت، أصبح بقاؤه بسبب الحجر الصحي كارثةً حقيقية أدّت لدمار هذا الزواج.

تقول سميرة: “زواجنا كان تقليدياً، كنتُ في العشرين من عمري وكان في الخامسة والعشرين، لم نعش قصة حب قبل الزواج لكن الأيام التي عشناها معاً كانت جملية لا تخلو من الاحترام والألفة، كانت أدوارنا واضحة هو ملتزم بعمله خارج المنزل (موظف صباحاً وسائق بعد الظهر)، وأنا ملتزمة بدوري كربة منزل. لا أنكر مرورنا بخلافاتٍ كأي زوجين أو افتقادي له في كثير من المواقف التي تخص تربية الأطفال كمشاكلهم في المدرسة أو صعوبات مرحلة المراهقة التي عانيت منها مع ابني الأكبر، فظروف الحياة الصعبة وخاصة فترة الحرب، والمشاكل المادية التي تعرضنا لها ككل الناس في بلدنا فرضت عليه العمل المستمر وجعلته بعيداً وغريباً عن تفاصيل المنزل. بعد بقائه في المنزل لوقتٍ طويلٍ، بسبب فترة الحجر، تحوّل إلى شخصٍ مزاجيٍ وعصبيٍ مختلفٍ تماماً عن الشخص الذي كنا نعرفه. أصبح يتدخل بتفاصيل لم يُعرها يوماً أي اهتمام كطريقة تنظيفي للمنزل وطريقة طهي الطعام ثم طريقة تربيتي وتعاملي مع الأطفال، ومَنع الأطفال من اللعب داخل المنزل وصرنا نتحرك على إيقاع مزاجه وأوقات نومه ويقظته وبرامجه المفضلة على التلفاز.  كنتُ أبرر له تصرفاته “لم يعتد قضاء كل هذا الوقت في المنزل” لكن المبررات لم تعد مقبولة حين تحولت إلى عنفٍ لفظيٍ وصراخ  ومن ثم إلى غضبٍ لا يهدأ إلا بضربهم، لم يبقَ أمامي من حلٍ سوى الهرب بالأطفال إلى منزل والدي الأمر الذي فاقم من المشاكل بيننا إلى حدّ الانفصال.”

من الممكن أن تكون هذه الخلافات فترةً مؤقتةً  في حياة هذه الأسرة لكن من المؤكد أن انعكاساتها على الأطفال كفقدان ثقتهم بوالدهم وشعورهم بعدم الأمان لن تمحى بسهولة.

مازلنا نسير في المجهول فأزمة كورونا لم تنته بعد وربما ما هو آت أسوأ في حال تفشي المرض، لقد بات على السوريين توقع الأسوأ دوماً فليست الكورونا إلا تفصيلاً آخر في المأساة السورية، مأساة دفع الأطفال أغلى أثمانها ولا يزالون، قد يسأل طفل عن معنى جملة “خليك بالبيت” وهو بالأساس يعيش في العراء أو في مخيمات بعيدة بعدما تهدّم بيته، وقد يصح القول بأنّ الكورونا لن تصيب رئات الأطفال بالمرض والالتهابات لكنها حتماً ستبقى محفورة في ذاكرتهم ونفوسهم  كفصلٍ جديدٍ من فصول مأساتهم الطويلة.

العنف غير المعلن في زمن الكورونا

العنف غير المعلن في زمن الكورونا

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

كرّست جائحة فيروس كورونا نمطاً حاداً ومستجداً في شكل الحياة اليومية لأهل الأرض، يوماً بعد يوم تتسع دائرة المواجع الشخصية والعامة، الجسدية والنفسية، لا نجاة من القلق، وزمن تراجع الخوف المشحون بالضعف، زمنٌ ضئيل وضعيف ولا يعوّل عليه.

من مواطن العزاء للبشرية، أنها وقفت معاً في مواجهة تداعيات هذا الفيروس، الذي تحول إلى جائحةٍ عالميةٍ تُسابق الضوء في سرعة انتشارها. لكنّ المواجهة الموحدة لا تعني أبداً وجود أوجهٍ متطابقة من أشكال العنف التي فرضتها هذه الأزمة العالمية، أشكالٍ لا تعدّ ولا تحصى لكنها استحقاقٌ إنسانيٌ وإن تمظهر في حالاتٍ قليلة العدد نسبياً وعلى نطاقٍ ضيقٍ، ثمة مواجع خاصة وخفية، موجعة وتعني أشخاصاً محددين، غير معلنة لأنها خارج سرب المواجع العامة.

ماري سيدة في السبعين من عمرها، أرملة ولم تنجب، تعيش بمفردها في بيتٍ واسعٍ، وهي تتناول طعام إفطارها، سقط جسر الفك العلوي من فمها، باتت بلا أسنان! طبيب الأسنان أغلق عيادته خوفاً على سلامته أولاً ولأنّ المخبر الذي يصنع له الأسنان التركيبية ممنوعٌ من فتح أبوابه، كما أنّ غالبية زبائنه يسكنون في الريف، وإن كان قريباً جغرافياً لكنه مغلق بسبب التوصيف الإداري.

 باتت ماري مضطرة لأن تعيش على السوائل، واسطوانة الغاز في ساعاتها الأخيرة، لم تفعل ماري شيئاً، لا أحد يمكنه إعارتها أسنانه! ولا أسنان جاهزة في السوبر ماركت أو في الصيدليات لتطلب إيصالها لها عبر خدمة التوصيل إلى البيوت، اتصلت بطبيبها، قال لها المخبر مغلق وفنيو المخبر يعيشون في الضواحي المغلقة.

 لا أحد من المعنيين فكر بعيادةٍ إسعافيةٍ لمعالجة الأسنان مرفقةً بمخبرٍ للتعويضات السنية وجعلها في متناول المحتاجين لخدماتها وخاصةً من كبار السن.

بادرت أغلبية الناس وخاصة من الفئة العمرية الشابة لمدّ يد العون لكبار السن الوحيدين والوحيدات، لكن ثمة مطالب لم تخطر على بال أحد. هيام، سيدة في الثمانين من عمرها، تعيش وحيدةً أيضاً في الطابق الثاني عشر في برجٍ سكني في منطقة راقية، لا تريد شيئاً من الأطعمة أو الأدوية أو المنظفات، فطبيعتها الوسواسية دفعتها ومنذ سماعها لأول خبر عن أول إصابة بالكورونا لملئ خزائنها بالمؤن ولشراء أدويتها الدائمة عن عامٍ كامل. لكنها مشتاقة للحديث مع شخصٍ تعرفه، تثق بأخباره، وتفرح لنبرة صوته ومداعباته اللطيفة، اتصلت بسلمى، ابنة صديقتها، وطلبت منها طلباً عجيباً “أرغب بأن تزوريني اليوم يا سلمى، لكن عبر سماعة الانترفون، فأنا خائفة جدا حتى من استقبالك، فلربما نقلت لي العدوى؟” لبّت سلمى دعوة هيام، استغرقت الزيارة عشرين دقيقة، لكن المصيبة أنّ هيام باتت تطالب سلمى بزيارات مماثلة ومتكررة، وسلمى لا تملك وقتاً كافياً ولا أخباراً مطمئنة.

أشارت بعض الدراسات إلى ارتفاع نسب الإصابة بفيروس الكورونا بين الرجال بنسبة تعادل ضعف نسبة إصابة النساء، وقد اعتبرت بعض النساء الكورونا فرصة لتسخر من اهتزاز ثقة الرجال بقوتهم الجسدية في مواجهة فيروس صغير لا يُرى بالعين المجردة،

قوة يتحكم الرجال عبرها بمصائر النساء وبتفاصيل حيواتهن، ليحققوا الهيمنة بحكم القوة الظاهرة والمنسوبة للرجال حصراً، والسلطة بحكم الغلبة الجسدية والنفسية والمجتمعية، لكن هذه القوة تعرضت لاهتزازاتٍ عديدة، اهتزازاتٍ أظهرت خللا ًفي موازين القوى، مفسحةً المجال أمام تراجع قوة ذكورية تقليدية بظهور نمطٍ معزز ٍمن القوة فرضته كورونا بقوة الخوف وبسطوة الحذر الشديد.

 وليد رجل خمسيني، يخافُ على صحته جداً، مهووس بالنظافة الشخصية، يزور الحلاق يوم الثلاثاء فقط، لأنه اليوم الذي يلي عطلة الحلاقين، ويذهب باكراً جداً ليكون أول زبون، ليتنعم بمنشفة تم غسلها في يوم العطلة ولم توضع على رأسٍ غير رأسه أبداً، لكنه في زمن الكورونا التزم الجلوس في المنزل، وطالب زوجته بالتسوق وبشراء الخبز وبالحصول على الأدوية والمواد المعقمة من الصيدلية تحديداً لتثبيت جودتها، وانزوى في غرفته يكاد لا يخرج منها، وكلما عادت زوجته من الخارج يطالبها بتعقيم كل شيء، حتى شعر رأسها، وهي تصرفاتٌ فاقمت من مشكلةٍ قديمة عند وليد، تحملتها زوجته تحت إلحاح الواجب كزوجةٍ مخلصة، رغم رفضه  لكل طلباتها بضرورة مراجعته لطبيب نفسي، لكنها الآن باتت ممزقة بين حقها بالحياة الكريمة وبين تطرف مواقفه،  مما دفعها للتوقف عن تلبية طلباته وتهديده بالذهاب إلى منزل والدتها المتقدمة في العمر، علّه يخفف من أوهامه المرضية ومن معاملتها بدونية غير مقبولة وكأنه مسموح له التضحية بها من أجل بقائه في حالةٍ من الأنانية والعدوانية لا مبرر لها وغير مقبولة. لكنّ وليد بقي أسير مخاوفه وبات حبيس غرفته وأوهامه وفقد كل إمكانيات التواصل حتى مع زوجته.

في الأزمات الكبرى، تتوجه المبادرات والأفكار والآليات نحو الاحتياجات الأكثر شمولية، نحو الخدمات المركزية ونحو الاحتياجات الأكثر أولوية حسب توصيف مراكز معالجة الأزمات.

يعمل غاندي في بيع الألبسة المستعملة، وله زبائن كثر وخاصة من السيدات، لكن قرار الإغلاق شمله وبات محكوماً بالتوقف عن العمل. أربعون يوماً مرت على إغلاق المحل، وما كان متوفراً من مالٍ نفذ، ولم يتبق منه شيئ. غلاء الأسعار يلتهم كل الموارد، والعائلة بحاجة لطعامٍ وشرابٍ ودواء، وتحت عنوان الحماية والحفاظ على الصحة العامة كان من المبّرر ترك الناس دونما مورد، حتى أصحاب الموارد المتوسطة باتوا بلا أي مدخرات، فحياة الفرد هي الأهم وصاحبة الأولوية المطلقة، لكن كيف وبماذا؟ لا أحد يملك جواباً، لأن السؤال نفسه مؤجل ولا يمتلك الأولوية القصوى.

اتصل غاندي بزبائنه، أبدى استعداده لإيصال قطع الملابس إلى بيوتهن، لكنه كان يحتاج لموافقتهن على الشراء أولاً في ظل شح مالي كبير وواسع وفي ظل المخاوف من رفض الزبائن شراء ألبسة مستعملة ربما يرتع الفيروس على سطوحها وبين طياتها. كما أنّه كان محتاجاً لمبادرةٍ من صديقٍ يملك سيارة خاصة لنقل غاندي مع بضاعته مجاناً إلى بيوت الزبائن، وكان له  ما سعى إليه. حمل غاندي معه بضاعة كان قد احتفظ بها في منزله قبل الإغلاق، لكن بعد وصوله إلى أبواب بيوت زبائنه اصطدم بقلة الطلب على بضاعته، قطعة أو قطعتان في أكثر حد، والناس محرجة من المفاصلة، إحراجٌ تلمسه غاندي أيضاً وفرض عليه خفض أسعار بضاعته، لكن الرمد أفضل من العمى كما يقال، وما كسبه غاندي اليوم لن يمكنه من شراء بضاعةٍ جديدةٍ بدلاً من التي باعها، لكنه سيوفر عليه عناء الاستدانة من صديق أو قريب، في زمنٍ بات الاقتراض نادراً بل حتى مستحيلاً.

وكما تُرك العجزة منسيين في دورهم دونما احتسابٍ حتى لأعداد المتوفين منهم، ليشكل موتهم بصمت وإهمالهم وكأنهم أضاحي الفيروس الفتاك وصمة تمييز سلبي ضد فئة من المجتمع، وكما تُركت النساء وحدهن لمتابعة مسلسل المظالم الطويل، وكما تُرك الجوعى غارقين في فاقتهم في محاولاتٍ بائسةٍ منهم لترك الشوارع حيث يعيشون، وكما تُرك اللاجئون والنازحون تائهين في غربةٍ مضاعفةٍ، عُرضة للوعيد والتهديد بالترحيل أو بالموت، وكما سُرّح عشرات الآلاف من العمال، وكما تم ترحيل مخالفي الإقامات من عمالٍ أجانب لكنهم فقراء، كذلك نمت في دائرةٍ ضيقةٍ دائرة متفرعة عنها لكنها غارقة في التجاهل والنسيان وكأنها منفية خارج الزمان والمكان، توضحت في تلك الدوائر الضيقة دروب آلام ٍجديدة، مضفورةٍ بالشوك ومسيجةٍ بالعتمة.

وتجد الإشارة إلى أنّ الأزمات بحدّ ذاتها وفي خضم البحث عن حلولٍ لها أو عن كوابح تقلل من فرط مساوئها ُتنسي أصحاب القرار والمبادرات أو القائمين على حلها مرغمين وتحت وقع الصدمة التوجه نحو فئاتٍ لا تصرخ مطالبةً باحتياجاتها الإنسانية والضرورية، ويقيّم المجتمع ومراكز الخدمات والقرار هذه الاحتياجات على أنها احتياجاتٍ ثانويةٍ، مما يؤجل أو يمنع المساعدات عن أفرادٍ وإمكانية الوصول إليهم، وتتفاقم المشاكل أو مواطن النقص البنيوية لتصبح عنفاً صارخاً لا يمكن إنكاره ولا تجاهله أو الامتناع عن مد يد العون لأصحابه. ربما هنا يبرز دور المبادرات الفردية أو المجتمعية، وربما هنا يتوجب الاهتمام أو لفت النظر للفئات الأكثر هشاشة بالبنية النفسية أو بالفئة العمرية أو بحجم الاحتياج من حيث عدد الأفراد أو طبيعة العمل، أو المكان، خاصة عندما يتحول المكان بحد ذاته كمكان السكن أو العمل إلى مصدرٍ للعنف يساهم في تكثيف تغييب الخدمات أو يفاقم من صعوبات الوصول إلى الاحتياجات مهما بدت ثانوية أو قابلة للتأجيل.

 وربما هنا تصبح الأزمات الكبرى مجالاً رحباً للإبداع الإنساني الفريد من نوعه والمتميز في أشكاله، في محاولة نوعية لتلبية المسكوت عنه، المخفي أو غير المعلن، لكنه احتياجٌ صارخٌ ولابدّ من تلبيته.

الطب البديل :علاجات تزدهر في زمن الكورونا

الطب البديل :علاجات تزدهر في زمن الكورونا

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

تنتشر بعض العبارات التي نسمعها بكثرة هذه الأيام حول “وصفات سحرية تشفي من الأمراض” أو “علاج طبيعي دون دواء” وغيرها الكثير، وخصوصاً في ظل انتشار وباء كورونا الذي اجتاح العالم وما رافقه من حالات الإحباط والخوف التي سيطرت على الجميع، بالإضافة إلى كشف هشاشة الكثير من الأنظمة الصحية وعجزها حيال الوباء، مما ساعد في انتشار الشائعات والأخبار المغلوطة حول وصفات طبية وخلطات أعشاب وغيرها فيما يسميه البعض بالطب البديل.

علاجات بالطاقة أو باليوغا

في أغلب المدن يوجد نوادي ومراكز للعلاج باليوغا، الأمر الذي يُعد إيجابياً وله نتائج جيدة في أغلب الأحيان في تخفيف الضغط والتوتر من خلال ممارسة تمارين الاسترخاء والتأمل التي تساعد كثيراً في علاج الاضطرابات النفسية وتحسن المزاج العام؛ إلا أن الموضوع لم يقف عند حدود كونه رياضة فقط لها تعاليمها وأصولها بل تعدى ذلك للدخول بما يسميه البعض علوم الطاقة والروح وقدرات الجذب  والبرمجة اللغوية العصبية وغيرها من المسميات التي تُصنف ضمن ما يعرف بالعلم الزائف حيث لا يوجد أي أدلة علمية تُثبته. الخطورة هنا هو عندما يتم التعامل مع هكذا نظريات بوصفها علوماً حقيقية وتصديقها بشكل كامل ورفض كل ما عداها وتفسير كل ما يحصل في حياة الفرد والمجتمع وفق تصوراتها فقط، فالفشل والحظ السيئ والمرض والفقر وكل ما يمكن أن يحدث من إشكاليات في الحياة يكون سببها فقط خلل في نظم الطاقة داخل الجسد على حد تعبيرهم. وكثيراً ما نرى هؤلاء وقد اقتنعوا بأن كل ما يحدث من ظواهر ومشكلات مردها إلى نظرية المؤامرة دون أخذ الأسباب الموضوعية والعلمية الكامنة وراءها.

 (سليمان 41 عاماً، مهندس) أحد هؤلاء المقتنعين بهذه النظرية وقد حاول جاهداً إقناعي بصحة أفكاره دون أن يسمح لي بالرد عليه ومناقشته “بحجة جهلي لهذه العلوم وبأن طاقتي سلبية تجلب لي المشاكل دوما”. سليمان مقتنع تماماً بأن فيروس كورونا هو لعبة دولية وتضخيم إعلامي للتغطية على مشاكل أخرى وأن سبب المرض ليس بفيروس بل هو الموجات ذات التردد العالي لشبكات الجيل الخامس للإنترنيت، ولم تفلح معه كل الحجج التي قدمتها له وبقي مصراً على رأيه، وما أدهشني حقاً وأغضبني بنفس الوقت هو قراره بالامتناع عن تقديم اللقاحات لابنته الصغيرة بحجة أنها من ضمن ممارسات المؤامرة الكونية على البشرية وبأن الموضوع ليس أكثر من كذبة كبيرة لخداعنا، ما دفعني بالنهاية لان ألجأ لتهديده بالشكوى عنه إذا لم يتراجع عن قراره.

انتشار الشائعات بهذه الطريقة له أسبابه المعروفة والمفهومة أيضا وخصوصا عند الفئات الأقل تعليماً في المجتمع، لكن ما يثير الاستغراب حقا هو انتشار هذه الشائعات بين الأوساط المتعلمة والحاصلة على شهادات عالية، فكم كانت دهشتي كبيرة عندما سمعت طبيب الأسنان الذي أتعالج عنده وهو يفسر جائحة كورونا على أنها خدعة ومؤامرة بين الدول وأن الفيروس سلاح حربي مصنّع في المختبرات في الوقت الذي لا يعير أي اهتمام للتقارير الطبية والعلمية والإحصاءات الدولية التي تتكلم عن الوباء، كذلك الأمر مع جاري الصيدلاني الذي أصر على البقاء في المنزل ريثما ينتهي تأثير غاز السارين وتنتهي التجارب الكيمائية التي تنفذها الدول، مصدقا ما يشاع عن ذلك وبأن الفيروس لا وجود له من الأساس.

طب الأعشاب

ينتشر استخدام الأعشاب العطرية والطبية وخلطات الزهورات بشكل واسع لدى غالبية السوريين إما بتناولها كمشروبات ساخنة أو بإضافتها للطعام، لكن الأمر تعدى ذلك إلى اعتبارها أدوية تستطيع شفاء جميع الأمراض. وعن مخاطر هذه الادعاءات يقول (مازن، طبيب مخبري، 55 عاماً): “إن التعامل مع الأعشاب الطبية بوصفها علاجاً فيه الكثير من المغالطات والأخطار أيضاً، وخصوصاً عند اعتبارها بديلاً للأدوية، فالبعض يقوم أحيانا بإيقاف الأدوية واللجوء لخلطات الأعشاب مما يشكل خطراً حقيقيا قد يصل للموت أحياناً، إن العلاج بالأعشاب موجود منذ القديم وحتى اليوم وهناك شركات أدوية متخصصة في ذلك في أغلب الدول المتقدمة تُقدم خلطات أعشاب طبية بناء على تجارب ودراسات علمية تُحدد فاعليتها وآثارها، لكن للأسف لا يوجد لدينا شركات أو معاهد مماثلة، وفي أفضل الأحوال تبقى في حدود الخبرة الشخصية لبعض الأفراد.”

وتنتشر العديد من البرامج في محطات التلفزيون لأشخاص يُقدمون خلطات عشبية تُداوي أي مرض على حد زعمهم بما فيها الأمراض المستعصية كالسرطان مثلاً، وكذلك الأمر بالنسبة لمواقع التواصل الاجتماعي حيث نرى الكثير من المواقع والصفحات تقوم بتقديم وتسويق الأمر ذاته. وبحسب رأي الدكتور مازن أيضاً فإن “المعلومة المتداولة بين الجميع عن أن الأدوية الطبيعية أو خلطات الأعشاب هي آمنة وبأنها في أسوأ حالاتها إذا لم تنفع فهي لا تضر هي معلومة خاطئة بالمطلق وتشكل خطراً حقيقياً على كثير من المرضى، فهناك العديد من الأعشاب التي لها تأثيرات قد تفاقم المشكلة الصحية دون أن ينتبه المريض، لذا أنصح الجميع بعدم استعمال أي خلطات عشبية على أنها أدوية فعالة والاكتفاء بتناول بعض الأعشاب كالنعناع والبابونج وغيرها من المشروبات التي يتناولها الجميع عادة دون أي ضرر وبكميات محدودة.”

كثيراً ما نسمع عن حالات تعرض فيها البعض لأخطار كبيرة نتيجة الجهل بالموضوع وتطبيق وصفات للتخلص من أوجاعهم بحيث تنتهي بهم القصة لمشكلة أكبر في أغلب الأحيان كما حدث مع أحد أقاربي عندما وصف له أحد المعالجين بالأعشاب بأن يضع نبات القريص مع مهروس الثوم على ظهره ليلة كاملة ليتخلص من آلام الفقرات، فكانت النتيجة حرقاً شديداً وحساسية كبيرة في الجلد بقي قرابة الشهر يُعالجها.

المعالجة بالغذاء

تعتبر نوعية الغذاء وتوازنه عاملاً حاسماً في الحفاظ على صحة جيدة، وكثيراً ما نسمع الأطباء يرددون بأن المعدة هي بيت الداء والدواء، لذلك فإن تطبيق حميات معينة في بعض الأمراض يكون أمراً ضرورياً و إلزامياً وخصوصاً فيما يتعلق بأمراض كالحساسية أو الهضم أو السكري أو ارتفاع الضغط وغيرها، لكن بشرط أن تكون هذه الحميات مترافقة مع العلاج الطبي ومتممة له.

(غادة، 41 عاماً، خبيرة تغذية) قُمت بزيارة عيادتها بسبب فضولي الكبير حول الموضوع من جهة وشهرتها وسمعتها الجيدة في هذا المجال من جهة أخرى، لم تبخل علي بالإجابات رغم كثرة أسئلتي وبدا لي لأول مرة أن الإجابات المقدمة منها مُقنعة وعلمية على عكس الكثير ممن يدعون الخبرة في هذا المجال خصوصاً وأن لي تجربة شخصية مع العلاج بالغذاء والحميات. تقول غادة: “إن عبارة غذاؤك دواؤك التي نسمعها كثيراً هي صحيحة بالعموم، فتنوع الطعام وتحديد كميته ووقته له الأثر الأكبر على الصحة، وما أراه اليوم من سوء التغذية الشديد لدى الكثيرين يُشعرني بالعجز والحزن، ويصبح الكلام عن تحقيق تغذية متوازنة أو علاج بالغذاء كمن يطلب المستحيل ويقابله الناس عادة بالكثير من التهكم والسخرية، فلتحقيق تغذية جيدة وصحية لأسرة من 5 أشخاص نحتاج لـ 300 ألف ليرة شهرياً كحد أدنى وهو رقم يُعتبر أعلى كثيراً من دخل أغلب الأسر السورية.”

وتُضيف غادة: “يتم التعاطي مع العلاج بالغذاء بصورة خاطئة وخاصة اليوم في ظل انتشار الكورونا، فلا يوجد أي غذاء أو حمية قادرة على الشفاء من الأمراض أو أن تكون بديلاً لأي دواء، مجمل الموضوع أن النظام الغذائي الصحي والمتوازن يجب أن يتحول إلى نمط حياة متكامل بالنسبة للجميع حينها يكون له الدور الأكبر في تقوية المناعة وبناء نظام صحي فعال.” وبالنهاية تبقى هذه الوصفات والعلاجات تكميلية لها فوائدها في تخفيف بعض الأعراض والمساعدة على الشفاء، إلا أنها تتحول إلى مشكلة حقيقية إذا أسيئ استخدامها أو تم اعتبارها بديلاً عن الطب.

.Photo by Content Pixie on Unsplash*