رحلة في عوالم الدهشة

رحلة في عوالم الدهشة

في أسلوب جديد ومختلف عما عهدناه يأتينا طارق إمام بدهشة متصاعدة في عمله الأخير “أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها” الصادر عن دار الشروق 2023، منذ العتبات النصية التي بدأها بإهداء العمل لوالده “أنت فوق التراب وأنا تحته” في سرد يحفل بالثنائيات الضدية الفوق والتحت؛ الولادة والموت؛ الطفولة والشيخوخة، في تبادلية الأدوار وتواترها في نسبية الحياة والموت، الموت الذي يراه كاستيقاظ مستمر في قلب واقعية المفاهيم في مفهوم الموت المقلوب “عندما مات استيقظ ولم ينم”.

فالغرائبية التي يكسر بها نمطية الأشياء والواقع تقودنا إلى المعنى المضمر في بواطن السرد، فالمعنى أشبه بمؤامرة خاصة يحيكها إمام لاستجلاء معنى غير واضح يتطلب جهدًا من القارئ في التحليل والتنقيب عن مراميه.  

ضمت المجموعة الأولى التي حملت العنوان “لأننا “نولد عجائز” حوالي تسعاً وعشرين أقصوصة تتوالى فيها المفارقة والدهشة ففي قصة “الحياة” يستغرب من ملاقاته لنفس الجار الذي يلتقيه عندما يقطن أي منزل جديد بتاريخ وأسرة وعلاقات مختلفة لكنه يكون هو نفسه في أحبولة التشابه والاختلاف، وربما هم الناس العاديون يتكررون أو أن نظرتنا عنهم واحدة أو هم متشابهون بالأصل.

وفي قصة “كلانا ضيف الآخر” نرى المشهد المقلوب في انتقال كرة يلعب بها أطفال الحي لتكون مجسم كرة أرضية على طاولته ذاتها، الكرة التي تلف الكون وسط الجثث في رمزية لما يحفل به العالم من الموت.

 يقوم طارق إمام بخلط المفاهيم ما بين الموت والحياة؛ بين العمى والإبصار؛ بين اليقظة والنوم، ويشتط في فانتازيا الأحلام في “نائم يحلم بنائم”، عندما يحلم برجل يحلم في حلمه متسائلاً عن حلم ذاك الذي في الحلم.

يستفيد الكاتب من اشتغالات فن القصة القصيرة في الإيجاز والتكثيف لدرجة لا تتجاوز أحيانًا كل قصة الصفحة أو نصف الصفحة ولكنها تحتشد بمعان وأفكار ولعب على المفاهيم بطريقة غير معهودة.

ففي قصة “وجهك كالقمر” رغم بديهية التعبير العادي المتداول في أكثر من بيئة  فإنه يرجعه الى  معناه الجغرافي الحقيقي بكون القمر جرماً سماوياً حجرياً ليشير الى جفاف الحب وإلى امتهان المرأة أيضاً عندما يمرر رجل الفضاء بحذائه على وجه القمر وليخالف التعبير الدارج بأن التشبه به تشبه بالجمال، في توظيف عبارة عادية لأكثر من فهم وتفسير بقصة لا تتجاوز خمسة أسطر، ليعود مع القمر بحكاية أخرى عندما يصر صاعد للفضاء أن يذهب إليه بدرًا وبما إن القمر متغير فما أن يقترب منه حتى يصبح هلالًا يتعلق فيه كأرجوحة، وعندما يصبح في المحاق يسقط عنه إلى اللانهاية، في رمزية بديعة لرؤية الزمن المتحول في حياتنا، وقد نفسر أو نرى تأويلاً مخالفًا لما يقصده الكاتب أو يفكر به وهذه ميزة إضافية ذات صفة تشاركية مع القارئ فكل ما اتسعت مساحة التأويل أضافت غنى وثراء للعمل.

في الحوار بينه وبين الفيلم الذي اعتبر أن السارد وجه إهانة له لخروجه من منتصف العرض، بطرح العلاقة بين الفيلم والمشاهد كصديقين أو زميلين يتعاتبان ليستمر صاحب “ماكيت القاهرة” في قلب المفاهيم واستفزاز عقل القارئ بالعبارات الغرائبية على غرار كاميرا تتدلى من حزام رقبة وبين رقبة تتدلى من حزام كاميرا، فهو لا يبتعد عن الموت في الصورة وأداة التقاطها، وكذلك الناس الذي تراهم مقلوبين. هل يجب أن نمشي على رأسنا كي نستطيع التعامل معهم في إيماءة لعالم كل شيء فيه مقلوب، ويرد هذا في مكان آخر عندما انقلب البشر ليمشوا على السماء وتكون الارض أفقًا لهم ويتضرعوا الى الله في الأرض السابعة، في تهكم ضمني يطرق فيه أبواب ما بعد الحداثة في تهشيم الثوابت وكسر المقدسات ومساءلتها إذ يشرع في قصة” الدليل” بالسؤال المباشر هل الله موجود؟ وإذا لم يوجد لن توجد ذنوب ومقابر ليؤكد أنه وجد عندما وطئت رجل بشرية اليابسة، وكذلك بين الطريق وقاطع الطريق وكيف يتحول أحدهما إلى الآخر في أنسنة الأشياء مرة وتشيئ الكائنات مرة أخرى.

في المجموعة الثانية “هايكو المدينة” نعرف من هذا العنوان أن طارق إمام يهجس بالمدينة كما في رواية “ماكيت القاهرة” وهو يغامر بتداخل أجناسي بين مفاهيم تتبع القصيدة النثرية الخاطفة والقصة الومضة في نوع من الفن التجريبي لتمازج الأجناس بحس مغامرة عالي الجرأة عبر إحدى وخمسين أقصوصة تراوحت كل منها بين سطر وثلاثة أسطر تقريبًا.

 لعبة التصغير والتكبير والشبيه والأصل لا تغادر منظومة المعاني التي يدور بها وحولها صاحب “الحوائط اللانهائية” بقدرة هائلة على تكثيف المعنى باقتصاد كبير بالمفردات عندما يصور موت المدينة بالشريط المائل على حائط العالم أو المدينة التي لم تترك مقابر لساكنيها؛ مقابر لمن لم يموتوا بعد؛ إذ لا يتمتع أبناؤها برفاهية القبر.

نلاحظ أيضاً التناص  مع أحد المقاطع لأدونيس إذ يقول إمام:

” مات مالك دار العزاء

قدم المعزون الواجب واقفين

المقاعد ذهبت خلف النعش”

بينما يقول أدونيس:

“أيها الميت فوق الخشبة

يا صديقي

 رسمت وجهك أزهار الطريق

 ومشت خلف خطاك العتبة.”

كذلك في المجموعة الثالثة “لأننا نموت أطفالا” دائمًا يخالف توقعات القارئ الذي يحاول أن يتابع ويفهم لأن القصص التجريبية تبتعد عن التركيبة المنطقية فالقصة القصيرة تروي نفسها بنفسها من خلال دمج مجموعة من الحوارات الداخلية لشخصيات متعددة تتداخل فيما بينها ودائمًا يعود إليه هاجس المصغرات كالحصان الحي في حجم الإصبع حصان يوضع على باطن الكف لصغره ويعيش سائر نشاطاته الحيوية من الصهيل إلى البراز في نسبية الكائنات لبعضها وتناوب صفاتها، وفي “التلويحة” يذهب جزء منا مع من غادروا وكأن الوداع لا يكتمل إلا عندما يقتلع المغادر جزءًا من كينونة الآخر.

وأيضًا يلعب على تجريد المعاني من ارتباطاتها في “الاسم ” اسم بلا مسمى، إذ يتحدث الاسم عن نفسه ككينونة بلا هوية، لم يجد لبوسًا يلبسه ليكتمل وجوده بأن يعّرف بالآخر لذا بقي نكرة، وأيضًا انعدام الأمل في أفق ما يجسده بالقزامة التي ترافق المولودين وكأنهم منذورون للموت لذا لا يكبرون وفي “حصة التشريح” كان البؤس للجثامين فقدانهم لنعمة لموت وتوريطهم بالحياة.

شيفرات عدة تلوح في كل قصة مختزلة بمفردات ذات شحنة دلالية على غرار اليد المفتوحة كرجاء المضمومة كقبضة، فهذا التسول وهذه الحاجة ينذران بأنها ستتحول إلى قبضة أي إلى عنف، إيحاء بمقدمات ستفضي إلى نتائج.

أما جبروت الرجل ضمن الملصق فهو يحيي ويميت ويحول كل شيء لسلعة لكنه بكل سطوته لعبة لطفل يفتش عما في داخله، وإذ تحدث باشلار عن المكان باعتباره كينونة الوجود والبيت رمز الحميمية أو وعاء الكينونة فإن إمام يدفع للفهم المعاكس في المدن التي تقذف أبناءها خارجها، في حالة افتقاد الأمان والحلم وتجسيد حالة الغربة والوحشة التي يعيشها إنسان المنطقة في قصة “المدينة” لتتفرع الفانتازيا لديه في “نهر الدموع” حيث تتحول الدموع نهرًا يجلس الزوار على ضفافه في كوميديا الحزن الغارق بالدمع.

ثمة مسألة أعترض عليها وهي توشيح بعض النصوص باللهجة العامية المصرية لأنها وإن بدت واقعية وقريبة من تلقي القارئ لكنها قد تصعب على الناطقين بلهجات أخرى. 

أعتقد أن كل قصة من قصصه رغم قصرها وتناولها لمشهد أو لقطة من عمر أصحابها كما اصطلح في العنوان تحتاج لوقفة خاصة لتناول احتمالات التأويل والفهم فيها الأمر الذي يقودنا للسؤال وماذا بعد؟ وماذا يريد من كل هذا التحليق في فضاء المغامرة؟  نعم هي مغامرة اجتراح آفاق غير مطروقة في احتمال تقبل الآخرين لها أم رفضهم، وجرأة كبيرة في فتح بوابات مجهولة لكن الأكيد أن طارق إمام وصل ببراعة لإبهار القارئ بغرائبية ما يقرأ ويتخيل.

الرواية وقضايا النساء

الرواية وقضايا النساء

كانت المرأة حاضرة دوما في الأدب والفن عبر التاريخ ولا شك أن ما عانته من معاملة الجنس الأدنى الملوث بدمه والمرتبط بالخطيئة الأولى والطرد من الجنة وارتباط الإغواء بجسدها والمتع الدنيوية المرفوضة دينياً، سيترك صداه في الإنتاج الأدبي والفني سواء العالمي أو العربي، الذي تفاوت في تناوله لقضية المرأة بين التسليع والاستهلاك وبين نقد الصورة التي قيدتها عبر التاريخ منذ فقدت مكانتها الاجتماعية كأم عظمى لها قدسيتها وتدور حولها الحياة.

“نعاس”

رافقت الاستكانة والاستلاب حياة المرأة لتغدو كائناً يقوم بالواجبات المنوطة به دون نقاش مستهلكة طاقتها، حتى تفقد ذاتها وأحلامها وشغفها بالحياة ، كما في الرواية القصيرة  “نعاس”  للكاتب الياباني هاروكي موراكامي فالبطلة تشعر أنها تعيش حياة ليست حياتها وفي لحظة من تراكم الضغوط و الإرهاق تعي ما فقدته وما تفقده بشكل يومي ومستمر وترفضه. يعبر موراكامي عن لحظة الوعي هذه بحلم تراه البطلة، حيث يقوم عجوز بإلقاء الماء عليها، فتستيقظ وكأن حياتها الحالية المستسلمة إنما هي حالة إغماء يجب أن تصحو منها، تستيقظ  ولا تعود قادرة على النوم بمعنى أنها لن تعود للحياة السابقة أبداً، فهي تستيقظ ليس من النوم فقط بل من حالة الاستهلاك والاستلاب اليومي وفقدانها ذاتها أمام عبء الواجبات الزوجية والأسروية، وحيث نرى كيف يتحول الانسان ( رجلاً أو امرأة) أمام الضغط الاقتصادي إلى روبوت  لكن الحياة تمضي في هذه الأثناء  دون عودة . تستيقظ البطلة ولا تعود قادرة على النوم لتستعيد حياتها  التي تحب  فتعود مثلا  للقراءة التي انقطعت عنها بعد الزواج وتتناول الشوكولا المحرمة بالبيت لأنها تسوس الأسنان فزوجها طبيب أسنان ثم  تبدأ  بالخروج  في نزهات ليلية بالسيارة دون أن تخبر أحداً وكأنها تسرق حريتها ومتعتها وهذه النزهات التي يقود موراكامي بطلته إليها ليست سوى التعبير عن علاقتها بالخارج الذي يتمسك بسلبها النور فهو يريدها في الظل دوماً وفي الخوف أيضاً. إنه الخارج المجتمع الذي نرى أنه لن يترك البطلة تكسر حدوده وتتجاوزه بسهولة، إذ تتعرض في إحدى النزهات لمحاولة السطو على سيارتها من شبان يتجولون ليلا بحثاً عن فريسة وتنتهي الرواية بمشهد مفتوح في إشارة لاستمرار هذا السعي من قبلها ( البطلة) واستمرار قتله من قبل المجتمع .

“ميثاق النساء” و”أقفاص فارغة”

أما حنين الصايغ الروائية اللبنانية في روايتها الأولى “ميثاق النساء” الصادرة عام 2023 فقد تناولت الاضطهاد والظلم الاجتماعي الذي تعيشه المرأة الريفية في بيئة دينية ملتزمة بحكم سلوك الأقليات في بلد عانى من حروب أهلية على أساس طائفي لفترة طويلة، وحيث تتواشج الأحكام الاجتماعية مع التعاليم الدينية والعادات الريفية السائدة مكبلة النساء بالحرمان من أبسط الحقوق كالتعليم. لكن بطلتها، تدرك أن المواجهة والعلم طريقها للتحرر من ربقة الواقع ولتحقيق أحلامها واتساع أفقها ومنح نفسها فرصة الإبداع والتطور الذي تريده أن يفتح آفاقاً ليس لها فقط بل لابنتها أيضاً.

وهذا ما تلتقي به مع الشاعرة الدكتورة فاطمة قنديل في روايتها الأولى “أقفاص فارغة” الحائزة على جائزة نجيب محفوظ عام 2022 أي أهمية التعليم الذي يصبح وسيلة لتحقيق الذات والاستقلالية وطريق لتحقيق الحلم بهما.

  فأقفاص فارغة وهي سيرة ذاتية للكاتبة التي قامت بنبش ذاكرتها دون احتراس أو خجل ودون أن تهاب الآخر أو معاييره الاجتماعية  تحدثنا عن معاناتها منذ الطفولة بما يرخيه عالم الكبار على عالمها ويؤثر في خياراتها فهي الفتاة التي حرمت من غرفة خاصة بها لأن الأولوية كانت للذكور بالاستقلال وكيف تعرضت للتحرش، وكيف أمضت زمناً طويلا في مسامحة الآخرين وغفران أخطائهم بحقها مما سمح لهم باستغلالها تحت تأثير العاطفة والعرف الاجتماعي وحتى على الصعيد الشخصي، أذعنت للحب فقبلت أن تكون زوجة ثانية، لتتلقى الصدمة مرة تلو الأخرى لكنها نهضت من جديد فأتمت تعليمها ونالت الدكتوراه في النقد الأدبي وأسست لحضور أدبي عالمي كشاعرة نالت الجوائز رغم محاولة أخوتها التصغير من نجاحاتها و إنجازاتها.

في رواية قنديل نرى المجتمع الذكوري المتناقض بين سعيه للتطور وبين أحكامه التي تحرمه من قوة بشرية وإنسانية (النساء) جديرة بالاعتراف بمساهمتها وحضورها، معرية عفن العلاقات الاجتماعية القائمة على ازدواجية المعايير وانهيارها أمام المصلحة والنفعية التي تسربت إلى أكثر العلاقات حميمية تحت الضغط الاقتصادي وانهيار الطبقة الوسطى في مصر. ونرى تناقض الذكر وتمزقه النفسي بين النكران وممارسة سلطته على أخته وخضوعه لزوجته فالمعايير مزدوجة بل متناقضة وتخضع لسلطة القوي مما يفقدها أخلاقيتها الحقيقية. لنلمس كيف تعيد الأسرة دوماً إنتاج الظلم على العنصر الضعيف وهو المراة.

 ولعل التغيير يأتي من الأفراد، فحين تقرر تغيير المكان دون ترك عنوانها تقطع علاقتها بالماضي وترمي أقفاص الذاكرة لتتحرر من ذاتها القديمة وبذاتها المدركة والواعية لقيمتها وحقيقتها وتصبح ما تريد.

خيط البندول لنجاة عبد الصمد

 ليس من السهل أبداً أن ترمي معايير المجتمع دفعة واحدة وتتخلص من أحكامه التي يحاسب بها المرأة، كحكم العانس أو العاقر، نعم إنه الخارج الذي لن تستطيع المرأة تجاوزه بسهولة خاصة حين يطعنها بأنوثتها أو أمومتها. كما في رواية خيط البندول للكاتبة السورية نجاة عبد الصمد الصادرة عام 2023 فالبطلة تريد طفلاً لا تمنحه لها الطبيعة لتقع تحت سطوة الحرمان من أعز ما تملك (الأمومة) فتبدأ رحلتها في محاولات طفل الأنبوب المتكررة دون جدوى، وتتعطل حياتها المهنية ومشاريعها وأحلامها وينعكس الفشل مرة تلو أخرى على علاقتها بزوجها وبذاتها وبالآخرين، لم تكن الرغبة بالحمل ذاتية وحسب، بل هي اجتماعية أيضاً فالمرأة تخشى احتمال رفض المحيط لها إذ تفقد وظيفة أساسية ( الأمومة) وقد تكرس ذلك في اللاوعي الجمعي.

وللمفارقة إنها الأمومة نفسها التي تصبح جريمة ومأساة عند فتاة مراهقة تتعرض للاغتصاب فتنجب طفلا غير شرعي. ورغم أنها لأبوين متفهمين وواعيين إلا أنها تخاف وتخفي الأمر عنهما إذ إن الحدث أكبر من استيعابه من قبلها، لا شك أن تجربة الاغتصاب تجربة مريرة على المرأة وخاصة على فتاة صغيرة مراهقة. تقوم الكاتبة بوصف هذه التجربة التي إن لم تدمر حياة الفتاة فستترك أثرها واضحاً على حياتها. من آلام الولادة إلى تلك المشاعر الجامحة والمتناقضة التي تعيشها الأم الطفلة بين الرفض والتمني بين الشفقة والقسوة. في لحظة منفلتة من كل الحسابات حين يحتقن ثدياها بالحليب وتلح الرغبة بإرضاع الطفل الذي لا ذنب له إذ تغدو مشاعر الأم ناراً تكوي جوفها وأحشاءها، وفي هذه الإضاءة تجعلنا عبد الصمد ندرك ضغط غريزة الأمومة على المرأة الذي يجعلها تتحمل كل أنواع القهر في حياتها مقابل أن لا تخسر أبناءها في مجتمعات لا يقف القانون فيها إلى جانبها أبداً.

لا تتوقف الكاتبة عند تجربة الحرمان من الأمومة وضغطها على المرأة بل تأخذنا إلى ما يمارسه المجتمع عليها بأكثر من شكل فالأم التي خسرت زوجها ستتزوج من أخيه رغم أنها ترفضه نفسياً وروحياً حفاظاً على شرف العائلة وأولادها وتحت ضغط العرف الاجتماعي.

في خيط البندول تمزج نجاة بين دورها كروائية ومهنتها كطبيبة. فتخبرنا عن أهمية التوعية والثقافة الجنسية للجيل الشاب لتوجيه طاقاته ومنحه الوعي اللازم للجسد واحتياجاته وخاصة الفتيات من اجل ثقافة صحية وتفكيك خيوط الأزمات النفسية التي ترافق النساء إذ يحملن اغترابهن عن جسدهن مدى الحياة في المجتمعات الشرقية، بينما شاهدت هي حين درست الطب في روسيا كيف أن الفتيات اللواتي يخضعن لدورة الإسعافات الأولية مثلاً، يتم تدريبهن على الفحص النسائي كأي فحص طبي آخر.

وتتابع بتطعيم سردها بمعلومات من تاريخ الطب لنرى اضطهاد المرأة قديماً ففي القرن الثامن عشر في أوربا، كانت المرأة ممنوعة من إكمال تعليمها أو مزاولة بعض المهن كالطب ما اضطر الطبيبة البريطانية مارغريت آن بكلي لانتحال شخصية خالها المتوفي في مقتبل العمر لتستطيع إكمال تعليمها ثم ممارسة الطب باسم الطبيب جايمس باري إذ تنكرت بلباس رجل لمدة اثنين وخمسين عاماً. عملت خلالها في الجيش البريطاني في الهند وفي جنوب افريقيا وأجرت أولى العمليات القيصرية وتابعت ترقيتها في أوربا وكندا باسم الخال جايمس حتى أصبحت كبير الجراحين والمفتش العام للمستشفيات العسكرية، إلى أن توفيت فاكتشف أمرها على يد الخادمة وكانت الفضيحة، إذ اتهمت بانتحال اسم ورتبة ضابط بريطاني رغم كل ما قدمته وفعلته عبر تاريخها المهني والإنساني.

ربما لا يستطيع الأدب تغيير الواقع لكنه يستطيع المساهمة في بناء الوعي والتنوير بتقديم النموذج الإيجابي وتسليط الضوء عليه وكشف القضايا المسكوت عنها وتعرية الظلم والقهر اللذين تتعرض لهما النساء. في مجتمعات ما زالت بحاجة لتمكين الإنسان وانتمائه الوطني والمدني والقانوني وخصوصاً المرأة عبر الحث على التغيير الجذري في البنى الاجتماعية الراعية لكل هذا.

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية “مثل الماء لا يُمكن كسرها” للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن هذه المجموعة الشعرية المتميزة لم تأخذ حقها من الدراسة والنقد، ففيها تقدم الشاعرة نموذجاً لشعر المرأة يتخطى الخطوط الحمراء ويتحداها ويناقضها في مفهومها الإجتماعي والديني. هناك مقطع توقفت عنده طويلاً: على قدمي ركع الرجال، أعطنا عشبة جلجامش، عندنا نساء شبقات، من الندى يرغبن بالكثير، وبحيضهن تخضر الأرض .هذه العبارة (بحيضهن تخضر الأرض) هي ثورة على القيم والأفكار والمعتقدات الاجتماعية والدينية التي تعد المرأة في فترة الحيض مدنسة وكأن قيمتها الإنسانية هبطت. لكن فرات تربط الحيض بالحياة، تخضر الأرض كأن الحيض نسغ يمتزج بدم المرأة، كنسغ الشجر الذي يُعطي الحياة للأغصان .

في مقطع آخر: “قالوا لنا أنت له وهو لك

وخُتمنا بخاتم أحكامهم

شهود زور وقعوا على ورقة

 ختموها بخاتم الحاكم بأمر الله

زينوا لنا الفرح  والموت والحب.”

-رابعة العدوية امرأة كانت تنام تحت عباءة الرغبة وتصرخ في جلد الرجل شهوة وفي جسد المرأة شهوات. كنت النهر وأنا ضفتاه والعابرون هم الحصى في جسدي. كنت تشبه الليل وأنا أشبه الموسيقى. كنتً تُشبه الموت وأنا أشبه الحياة  لذلك لم أخلق لك ولم تُخلق لي “.

في مقطع بعنوان عانس: “دخل عليها الشجر والنهر والورد والندى، قالوا لها: جئنا لننام في سريرك لنعلن الولاء لك. غنت لها الأٌقمار، الطيور هاجرت إليها، الجبال ركعت عند قدميها – هتفوا لها: بريء رحمك لم يمسسه الرجال.”

وفي مقطع بعنوان أمومة تقول: “عندما نهضت الأمومة بكل جبروتها وصرخت: أولادي خرجوا من رحمي، شربوا من دمي. إنني أراهم يتخبطون، لا أنا منهم ولا هم مني. امرأة من بعدها قالت : قديماً كان الإنسان وقبله كان الإله–وقبلهما كانت المرأة ولأن الجميع خرج من رحمها لذلك يرجمونها بالحجارة.”

الأمومة كما تُعبر عنها الشاعرة فرات إسبر قوة ونعمة، والرحم الذي يخلق الحياة يثير النقمة لدى رجال يريدون المرأة خاضعة ويتحكمون بها، لكن المرأة هي الأصل وهي تخلق الحياة، وقد بين العلم أن الكون كله يُشبه الرحم.

في داخل المرأة عدة نساء، كأن روح المرأة أرواح داخل جسدها: “وأنا حارسة الكلمات على إيقاعها أرسمك قاتلاً مُحارباً شهيداً وبكل ألوانها. أرسمك خائناً وعاشقاً ومرتداً ولكنك في بيت شهوتي تكون واحداً وأنا امرأة عبرت وأخرى تأتي وثالثة تولد ورابعة في مخاض وخامسة في وأد وسادسة في قفص وسابعة في تابوت وثامنة في عقد زور وتاسعة مُقيدة وأنا التي عبرت – اسمعني اسمعني بلغة الطير ولغة الحجر ولغة الماء ولغة الريح أنا عابرة الأكوان مع الوجع.”

سيدة التعب

استوقفتني عبارة (سيدة التعب) وكأن التعب من مزايا وصفات المرأة خاصة في عالمنا العربي،  فالمرأة هي العطاء بلا حدود وهي من تنجب الأطفال وتربيهم وهي تعتني بالزوج وبالأهل حين يمرضون أو يصلون إلى أرذل العمر، لكن، ومن خلال تجربتي الحياتية أيضاً، لا يحق للمرأة أن تتعب، وإذا تعبت تُلام وتُتهم بالتقصير وأحياناً بالجنون. في مقطع رائع بعنوان “مثل الماء لا يمكن أن تُكسر” تقول: “صديقتي التي ماتت، لا تشبه النساء، يداها قاسيتان وبشرتها جافة، تُشبه الغبار، إنها غبارية اللون، لا تحب العطور، ذات يوم حلمت أنها تسبح في بحيرة الورد ولكنها استيقظت فجأة لترى نفسها في كومة من غبار.” وفي نهاية المقطع تقول: “ذات يوم جربت عطر النساء، صديقتي التي لا تشبهني لا تُحب العطور، هي سيدة التعب، صديقتي التي تشبهني كانت أنا، ومن يومها قررت أن أغيب معها في الغبار.” نلاحظ تكراراً كثيراً لكلمة غبار ولامرأة من غبار، فالغبار لا قيمة له وقلة من تلاحظه، وهو بلا لون مميز أو رائحة. ولقد أبدعت فرات إسبر في وصف المرأة بأنها امرأة من غبار لأنه لا أحد يحس بها وبوجع روحها وبتعبها وبأحلامها وتوقها للحرية، لتكون ذاتها، إنها دوماً المُلحقة بالآخر، كينونتها في خدمة الآخر وفي العطاء بلا حدود دون تذمر أو تعب، هي في الحقيقة كأنها كائن خفي لا أحد يراه على حقيقته، لا أحد يحس أنها متساوية تماماً مع الرجل وأن لها طموحاً وأحلاماً وشغفاً، عليها أن تكتفي فقط بعبارة (الجنة تحت أقدام الأمهات) في هذه الحالة وحدها تكون لها قيمة وتُقدس، لكن الجنة ليست تحت أقدام المبدعات اللاتي يتعرضن للاعتداء ويُتهمن بالأنانية وسوء السمعة والاسترجال، وكم من نساء يعجزن عن التعبير عن مشاعرهن وأحلامهن، كم من نساء يكدن ينهرن من التعب لكن المجتمع الذكوري زرع في نفوسهن منذ أن كن طفلات أن غاية المرأة هي الخدمة، خدمة الأسرة وأنه ممنوع عليها أن تتعب لذا تشعر أنها تعيش وهي تُخفي ذاتها الحقيقية داخل روحها، تلك الذات تُصبح صديقة المرأة تناجيها وتُفضفض لها عن تعبها. مؤثرة وعميقة تلك العبارة (صديقتي التي تشبهني كانت أنا ومن يومها قررت أن أغيب معها في الغبار).

ويبقى الحنين إلى الوطن موجعاً كالحرق، ففي مقطع بعنوان بيتنا تكتب فرات ابنة مدينة جبلة:     “آه يا بيتنا غادرك الأحبة واحداً واحداً والآخر غاب ولم تزل هناك أم تعد العشاء وقلبها لى الباب –وأب يقول تأخر المطر والأحبة لم يقرعوا الباب وما زلنا سنين انتظار. يا بيتنا ألا يزال الدرب نفسه والحارة القديمة، سوق جبلة العتيق، قلعة الرومان، نادي المعلمين، ومدرستي الثانوية؟ لملم الدمعَ يا هدب، صار بحيرة، والمراكب ما أوصلتني إلى الشط البعيد، في غفلة تُهت بحلمي وأيقظني قرع باب، أيقنت زائراً قد طل في غربتي يسأل عني، ما كان ذاك غير صوت ريح وأنين مطر.”

تُعبر فرات إسبر عن الخوف بكلمات قليلة تبدو بسيطة لكنها عميقة وتُلامس شغاف الخوف، في مقطع بعنوان “البيت الذي اسمه الخوف” تكتب: “أنا وأنت هنا  بين هذه الجدران وبيت كبير لا يُمكن أن أصف أسراره ! على بابه يقف الخوف. هل ترى هذا الشباك العالي ذا الأقفاص؟ – والرجل الحارس يراقبنا.–أتراه. كيف يحدق؟ من داخل هذه الجدران أكتب إليك أنا وأنت ولا أحد سوانا. أنا وأنت كانوا ثلاثة، كانوا أربعة وكنا كثيرات أنا ونفسي، أنا ونفسي أكثر من اثنتين ولكن في قفص واحد.

انظر. ..انظر

هذه الشجرة تشبهني تماماً وهي تموت“.

في مقطع آخر: “تسألني اليوم لماذا أنت حزينة؟ كانت الرصاصات تخترقني والقناص الذي وراء الباب وكل الذين سقطوا أمامي كانوا أنا. أنا اليوم أسألك من أنت؟ أنت لا تدري وأنا لا أدري ولكن لا بد من سؤال.”

تكتب فرات إسبرعن الحب بطريقة صوفية شاعرية، لا تستعمل كلمات تعبر عن الشهوة والرغبات، يبدو وصفها للحب أشبه بمن يصف رحيق وردة أو نسمة عليلة كأن الحب حالة وجدانية أو كأن الحب كوشاح من نور يُغلفنا. في مقطع بعنوان “كل الأضواء مطفـأة إلا ضوء قلبي إليك” : وردة الحب كم بتله لديك، كم ساق؟ أمنا الأرض مغمورة في الحب وباقي الكواكب من غيرتها تنام!  شك نساء وغيرة وهذا السفر الطويل لن يلحق بالأيام. بتلات الزهر سكرى. – هل تذهب معي الليلة إلى تلك المملكة التي يسمونها الحب، التي يسمونها الموت، وأنا بها من السحر مس جنون.”

في مقطع آخر تقول: “احملني على ظهرك يا ضوء قلبي، أنا بيت الأمنيات التي لا ! يستجاب لها. أنا العجوز التي لم تلحق الحلم وما زلت تسألني: أتريدين الصعود إلي أم أنا أهبط إليك؟”

ومن مجموعة أوراق من دفتر الورد اخترت الورقة الأولى:

“إلى وجه أمي الذي ضاع مني، إلى حبها الذي لم أستطع اللحاق به، إلى قدميها عاريتين أول الظهيرة ويديها المتعبتين قبلتي، أنا المرأة التي كنت مثلها.”

الورقة الثالثة: “الوردة التي ذبلت لم تكن في حديقة كانت في وجع النسغ، في حزن التراب.– لم تقف عند باب ولم تسأل النجم عن مدار.”

ومن مقطع تأملات امرأة : “كل الذين أحبهم ماتوا، وكل الذين لا أحبهم ماتوا، وها أنا في غابة الموت أهيم. الكراهية طائر أسود اللون يختلس النظر إلى قلبي يريد أن يقنص بذور الحب منه. – الحب طائر بلا أجنجة وحده يحلق عالياً في السموات، وحده يعرف أسرار اللغة وفك أزرارها. جسد تتقاسمه العشائر، قلب مصلوب في جدران الجسد. نحن في الماضي، نحن في الحاضر، نحن في وجع المستقبل. من خلف نظارتي أراقب الكون، أرى بشراً من كل ألوان الطيف، من خلف نظارتي أراقب ذاتي، أرى ما لا يراه أحد، رغبة في الحب ورغبة في الزوال. –أعرف أنني لم أفرح، أعرف أن الفرح لن يأتي، وسأغلق الأيام على حزنها.”

فرات إسبر شاعرة متميزة، هي تحكي عن المرأة الكونية الخلاقة القوية، والعاشقة المخذولة، لكنها حرة وتكسر القيود وتتحدى الأطر التي يسجنونها فيها. حين قرأت ديوانها “مثل الماء لا يُمكن كسرها” كنت أقرأ العالم كله من خلال رؤية امرأة تتقن الغوص في معاني الحياة والحب والموت والرغبة، هي ترسم بالكلمات عالمنا والوطن والأم والحبيب والأبناء والغربة، والأرض التي تخون أحياناً كالبرق. وأحب أن أختم بعبارة كتبتها فرات: “العمر زنزانة نعزف فيها أناشيد البقاء.”

هل تنتهي معاناة السوريين بالخروج من البلاد؟: إضاءة على رواية  “إعصار عذب”

هل تنتهي معاناة السوريين بالخروج من البلاد؟: إضاءة على رواية  “إعصار عذب”

ترمينا الحياة في زواريبها وسراديبها دون شفقة فتارة إعصار بطيء وتارة عاصف، تارة يحطمنا وتارة يجعلنا نحلق في العذوبة، ومن هنا تستلهم  الروائية السورية شادية الأتاسي عنوان روايتها الأخيرة (إعصار عذب) الصادرة في 2023 عن الدار العربية للعلوم مقاربة واقع السوريين الذين أتتهم الحياة كعاصفة حملتهم من واقع إلى واقع وقلبت كيانهم وأماكنهم وهوياتهم. ترصد الرواية حياة أسرة سورية تقطن في العاصمة دمشق، حيث تقوم الأم وحدها بتربية أطفالها الأربعة بعد أن توفي الأب بعد خروجه من السجن الذي قضى فيه فترة طويلة، وتنتقل الأم من الهموم العادية إلى الهموم المصيرية التي حملتها الأيام وثم الحرب للأسرة.

الراوي هو الابنة الصغرى البطلة سليمى التي تنطق بلسان الكاتبة وقد ورثت حب القراءة من والدها بينما ورث نبيل الأخ الأكبر عنفوان الأب وتحديه. غادر نبيل البلاد بعد تجربة اعتقال إلى سويسرا أما الأخوات فكان لكل واحدة منهن تجربتها الخاصة. انفردت سليمى بالمعاناة ودفعت من جسدها ونفسها الثمن الغالي فبعد أن تزوجت الشاب الذي احبته اكتشفت أنها تدخل بيتاً للأشباح تسيطر فيه الجدة التي ربت الشاب وتعيش عقدة الامتلاك تجاهه فتفرض جو الكآبة والقسوة وتبعد بين الزوجين، ورغم تحمّل سليمى إلا أنها تختار الطلاق بعد أن فقدت جنينها إثر شجار مع الجدة. احتوتها العائلة وساعدتها لتبدأ من جديد وتعود للدراسة التي تركتها نزولاً عند رغبة الزوج  لتتفرغ له، ولتعمل في التدريس بعد ذلك  وحين نشبت الحرب في البلاد كانت تكتب في المواقع والصحف ما أثار الجهات الأمنية فاختارت السفر مرغمة هروباً من التضييق عليها.

كيف يعيش اللاجئون في المجتمع الجديد

 تبتعد الأتاسي عن سنوات الحرب الطويلة ويومياتها لكنها تلمح إلى معاناة السوري اليومية والممتدة سواء في فقدان الأمان أو فقدان مستلزمات العيش البسيطة والبديهية كالكهرباء وتلك الكآبة المخيمة كالعتمة في أنحاء المدينة لتتابع رصدها أوضاع السوريين في الغربة بعد وصولها إلى سويسرا حيث لم يشكل  السوريون جالية لقلتهم إلا أن أتاسي  ميزت عدة نماذج من السوريين: منهم من استطاع الاندماج في المجتمع الجديد واحترام قوانينه وعلاقاته وأسلوب الحياة مستثمراً الإمكانيات المقدمة له  لبدء مشروعه الخاص، ومنهم من أعلن عدم تكيفه مع المجتمع الجديد ورفض أسلوب العيش فيه ونعته بالفاسق والكافر وحاول أن يعيش أفكاره التي حملها معه وعاداته دون النظر إلى مواءمتها للمحيط الجديد إذ يسيطر عليه الخوف من التأثر  فينكفئ  دون الاختلاط.  فهناك الشاب الذي يتخلى عن دراسته وتفوقه وحياته ويعود إلى الرقة السورية للجهاد مع الجماعات المتشددة وأمه التي تريد من سليمى عدم الاختلاط خشية التأثر وتدعوها لمتابعة الجلسات التي يديرها شيخ الجامع القريب، و هناك نموذج جيل ولد وعاش في المجتمع الأوربي ورفاهيته لكنه يحمل هم الوطن ويسعى لاعتباره قضيته كابنة نبيل التي ولدت وعاشت في سويسرا إلا أنها تشعر بالانتماء لوطن والدها وتذهب إلى مخيم الريحانية في تركيا لمساعدة اللاجئين.

لم يغب عن الكاتبة أيضاً إظهار ردود فعل السكان الأصليين في حذرهم من الغرباء الذين قدموا إلى وطنهم والريبة والشك في سلوكهم تجاه المهاجرين وخاصة بعد أن سبقتهم سمعة الإرهاب وتقارن بين واقعين؛ الشرق والغرب حيث تتلاشى الحدود وتصبح مجرد خطوط وليست قضبان سجن كما في الواقع العربي.

المعاناة في الداخل ومخيمات اللاجئين قضايا معلقة

استطاعت الروائية أن تقترب من أنماط حياة السوريين في الغربة وطريقة تعاملهم مع ظروف الحياة الجديدة كما ترصد من خلال أبطالها قضايا معلقة ما زالت فيها معاناة السوريين مستمرة فعن طريق علاقة سليمى بالشاب الكردي الذي التقت به في مطار بيروت تتعرف على القضية الكردية على لسان أهلها الصريح وما آلت إليه بعد سنوات من الحرب المشتعلة في البلاد وتناحر الأطراف الكردية وغياب نسق واحد لرؤية الحل على الأرض وهو ما يدفع ثمنه الأبرياء: فكريم الكردي يتعرض لإطلاق نار مقصود خلال زيارته للقامشلي ويكاد يموت. كما تصف  الكاتبة الحياة في مخيم  الريحانية وما يتعرض له السوريون في المخيم من إذلال وسرقة وفقدان الغذاء والدواء والشقاء تحت المطر وانجراف الخيام والبرد واغتصاب الطفولة في ظروف غير إنسانية  تصل حدود بيع الفتيات الصغيرات نتيجة الظروف السيئة للحياة في المخيم بأسعار بخسة  تحت ذرائع ومسميات كثيرة كالزواج والسترة. 

 تتابع سليمى حياتها  واضطراب علاقتها العاطفية مع كريم الكردي السوري كما تبدأ مشروعها الكتابي الذي كانت تحلم به دوما وتعده استكمالا لمشروع والدها الذي بدأه ودفع ثمنه من عمره في الاعتقال.

الاندماج لا يعني النسيان

تبدأ الرواية بوصف مكان سكن سليمى والتي تسرد الرواية متقمصة صوت الكاتبة الراوي العليم وبضمير المتكلم الذي يجعل سيرة حياة سليمى تبدو كسيرة ذاتية للراوية ويمنح السرد حميمية تأخذ القارئ وتشده  لتروي  عبر حكاية سليمى حكايات شخصيات كثيرة لا تتوقف عند أخوتها في العائلة وحيث يأخذها الحنين كل حين عبر المقارنات الكثيرة فهي إذ تصف مدينة لوزان ووحشة الغربة تتذكر حميمية توضّع بيوت حي المهاجرين. وحين تبدأ الرواية بمقولة تولستوي إن كل امرئ يحاول تغيير العالم لكنه لا يريد تغيير نفسه نجد أنها لطالما حاولت أن تبدأ من جديد بعد كل كبوة  والمضي قدما وراء مشروعها حتى استطاعت أن تستقل به عن مشروع والدها وتحدد طريقها نحو القادم من الأيام باختيار العودة إلى كريم المصاب والعيش معه في باريس.

تشوه المبادئ والحياة السياسية

تعرج الكاتبة على الجانب السياسي ليس فقط عن طريق تسليط الضوء على الانشقاقات في الجانب الكردي، بل نرى ذلك التخبط الذي كان ومازال السوريون يقعون به فوالدها أسس حزباً ثم انشق عنه لاختلافه معه بالخروج عن مبادئ التأسيس، وأخوها انتمى لليمين ثم غير بوصلته إلى اليسار بينما نجد أن الانطواء تحت جناح أحد الفريقين الموالاة والمعارضة قد قسم السوريين بشدة حتى على صعيد العلاقات العائلية: مثال علاقتها بعائلة أختها وصهرها الذي كان يمسك العصا من المنتصف ليضمن مكانه مهما اختلف الظرف السياسي وهو الذي أرادها ان تغادر البلاد حتى لا تحرجه بموقفها، أو العلاقات العاطفية: فقد انسحبت من محاولة إنعاش حب قديم لاختلافهما في الموقف السياسي.

تصف الكاتبة جو البلاد الكئيب والحزين وغرق الناس في تأمين سبل العيش والحياة وتفرق الكثير منهم في بلاد واسعة ليجرهم الحنين من أعناقهم كلما ابتعدوا. تنحاز الأتاسي بصورة أكبر إلى الإنسان وألمه ومعاناته  مشبهة رجل الأمن الذي طردها من البلد بديكتاتور وأنها في تلك اللحظة كانت البلاد كلها، التي تعيش قلقها وخوفها وحزنها ويلتبس كل هذا بروحها، وكيف غيرت الظروف حياة الناس ونكوصهم إلى طريقة التفكير الغيبية لفقدان الأمان والحلم والمشروع والإحساس بالواقع المتزعزع والمضطرب، وكشف شذرات عميقة من النفس البشرية وتناقضاتها.

 نلاحظ كيف تتفتح الذات الإنسانية حين تتوفر لها ظروف النماء الصحية وتعثر على ظرف مناسب فحين التقت بكريم في مطار بيروت وبدأت معه حديثاً وحيث لم تعد تشعر برقابة تنتهك خصوصيتها وقدرتها على التعبير كانت كأنما تفتح أقفال روحها المكبلة بالماضي أي تجربتها الشخصية القاتمة وتجربة بلدها التي مازالت تعيش أزمتها وحربها كما تظهر في ذهنها وتطرح أسئلتها الوجودية ومشاغلها الفكرية والفلسفية بعد استقرارها في المجتمع  الجديد.

يتميز سرد أتاسي صاحبة رواية تانغو الغرام بسلاسة وحميمية وتنحو لغتها إلى الشاعرية ويعيش القارئ معها في مكان وزمان الحدث حيث تماثلنا الشخصيات في المعاناة لكنها تنحو إلى التفاؤل وتحفيز الإنسان على العطاء وفتح الأبواب أمام الحياة والحب.

“الوريث”:رواية متعددة التقنيات

“الوريث”:رواية متعددة التقنيات

تتحدث رواية “الوريث” عن “أيوب” الوريث المنتظر للعائلة الجليلة من دمٍ نقي، وعن رحلة ولادته ثم نضاله العبثي وهروبه ومنفاه الإجباري، وعن الصراع داخل العائلة، والصراع بين السلطة والمعارضة في بلاده، تحت ظل حكم دكتاتوري يحكم قبضته على كل من يتنفس في البلاد. لكن أيوب هذا بنظارته الغامقة ليس شخصاً عادياً. إنه شخصية مركبة بدقة مع شخصية عمته البتول، لتؤدي المطلوب منها في سرد قصة “العائلة الجليلة” الأب وزوجاته وأبناءه وبناته وتحول مصائرهم ودمار قلعتهم المقدسة بكل هيبتها من قبل الدكتاتور الذي كان يحكم بلاد ما بين الرافدين وأعوانه.

 ربما تُختزَل الرواية كلها في العنوان “الوريث”، فالعنوان هو العتبة الأولى للنص الروائي، يُضمِر أكثر مما يُظهِر، وربما يتبادر للقارئ في البداية أن القصة ستتحدث عن شخص سيرث إرثاً مادياً من عائلة ارستقراطية ما وأن هناك صراعاً عليه، لكن ما سيفاجئ القارئ أن هذا الإرث ليس له ورثة أو أن ورثته أبناء البلاد جميعهم! لكن لن يحمل هذا الإرث الرمزي الرهيب هنا سوى سليل العائلة الجليلة المُنتظر من دم نقي “أيوب” بكل جلال اسمه المنحوت من الصبر، فهذا الإرث هو مجموعة كبيرة من التناقضات. إنه إرث عائلي، وديني، وتاريخي، ونضالي، وسياسي، وثقافي، وفكري، وهذا الوريث سيحمل عبء قرون من الصراع الديني والايديولوجي، لذلك لن يكون أيوب إنساناً عادياً بل كائناً أسطورياً، سيولد ولادةً أسطورية وينتهي نهاية أسطورية.

بالنسبة للتقنيات المستخدمة في هذه الرواية نجد أن حازم كمال الدين يأتي إلى عالم الرواية من عالم المسرح، وقليلاً من عالم السينما، وله تاريخ طويل في الكتابة والتمثيل والإخراج المسرحي في بلجيكا، البلاد التي اختارها لتكون منفاه بعد هروبه من حُكمٍ بالإعدام أصدره بحقه نظام (صدام حسين) على أثر عرضٍ مسرحي في بلده الأم العراق، لذلك سنرى تأثيرات الخلفية المسرحية في معظم أعماله الروائية، حيث ستبدو التقنيات التي يتبعها في الكتابة الروائية غريبة قليلاً على القارئ العربي، فهو من الكتاب الذين يستخدمون تقنيات ما بعد حداثية عديدة في النص الواحد، وربما روايته “الوريث” أكثر الأمثلة وضوحاً للكتابة السردية التي تستخدم هذه التقنيات.

من المسرح تبدو تأثيرات مسرح “البوتو”[1] الياباني السوداوية والنقدية بسخريتها اللاذعة لكل شيء، خاصة للواقع المحلي بطبقاته وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية، عُرِفَ حازم كمال الدين كمعارض للسلطة وهو أمر يظهر في معظم كتاباته السابقة، إحدى همومه الفكرية الدائمة تعرية السلطة وأدواتها وما أنتجته من فساد عميق تسبب في شروخ هائلة مزقت المجتمع العراقي. وأيضاً نجد تأثيرات المسرح في بداية النص من خلال التعريف بالشخصيات الرئيسية للرواية وهو أمر متعارف عليه بكتابة المسرحية وليس الرواية، ومن خلال المونولوغات التي تخاطب القارئ وكأن النص خشبة أو عتبة بين الشخصية الروائية والقارئ.

من الفنون الأخرى سنجد السينما كمونتاج وكلقطة سينمائية فهو يُقطّع الفصل، ويستخدم تعابير سينمائية مثلا كـ (كلوس آب) لتقريب الصورة مفتتحاً الفصل الأول واصفاً المشهد عن بعد ثم يبدأ بتقريبه من القارئ، حيث يمكننا أن نميز به الخلفية السينمائية للكاتب والتي نلاحظ بها تمازج عدة فنون منها التصوير والنحت والصوت الذي يصفه بدقة ليلتقط انتباه القارئ، ويهيئ دخوله إلى بيئة القلعة المقدسة مكان الحدث في الجزء الأول من الرواية، كما يستخدم “الكولاج” والآرت كونسبت” في روايته، نجده لديه في وضع صور إيضاحية مع معلومات تاريخية حول بعض الأمور خاصة عندما يصل البطل إلى أوروبا مثل الصور والحديث عن المرحاض أو التواليت، حيث يتحدث عن تاريخ المرحاض في أوروبا وكيف تطور ليصل إلى الكرسي المتعارف عليه اليوم، أو حول مكان نزول اللاجئين في قلعة “لو بتي شاتو” حيث يتحدث عن تاريخ المكان والتبدلات التي طرأت عليه، أو عندما يتحدث عن المطار والمحطة في بروكسل، أيضا نجد ذلك في وضعه لصور توحي بما يريد أن يوهم القارئ به كصورة مقبرة الأجداد، والقلعة المقدسة، وصورة الثور والكبش ثم الرضيع ثم صورة شاب ضخم الجسم، يهتم حازم كمال الدين كثيرا بالجانب التصويري للرواية لأنه يعلم أن الصور أسهل بالوصول للمتلقي من الكلمة التي تسبر عمق الشخصية، لذلك نجد أنه لم يبنِ حوارات حقيقية عميقة بين الشخصيات إلا نادراً، بل اعتمد على المونولوغات والرسائل أكثر في إشارة إلى بيئة لا تحترم الحوار أو الحوار فيها في حده الأدنى، حتى في الحديث عن التنظيرات السياسية وغيرها كل شيء كان في الحد الأدنى كقشرة رقيقة هشة، يبدو ككليشه لكونه غير أصيل في بيئته، إذ أن الحوارات الفكرية الحرة ليست ذات تاريخ في المنطقة مما سيؤدي إلى فشل معظم الجهود النضالية للمناضلين اليساريين، وبالتالي بقيت الشخصيات معزولة منفصلة عن بعضها رغم الروابط الخفية بينها. إذ لا أحد يمكنه إنقاذ أحد من المصير الذي ينتظره.

كما يستخدم المعارضة الأدبية وهي إحدى تقنيات الكتابة “الما بعد حداثية” في “سياق التناص ما بعد الحداثي للإشارة إلى دمج أو «لصق» العناصر المتعددة إلى جانب بعضها البعض”[2]. نرى ذلك مثلا في اختياره لأسماء الشخصيات المأخوذة من الأعمال المسرحية كـ”الملك لير” لشكسبير وابنتيه غرونويل وكورديليا العذراء، ومن القصص الشعبية والدينية لمنطقة الشرق الأوسط كأيوب وسارة وإبراهيم أو من تاريخ اليسار العالمي كإنجلز وروزا لوكسمبورغ، “قد تكون المعارضة الأدبية في أدب ما بعد الحداثة تكريمًا أو محاكاةً ساخرةً للأساليب القديمة. وتُعتبر تجسيدًا للجوانب الفوضوية أو التعددية أو أسلوب الحياة الغارق في المعلومات في مجتمع ما بعد الحداثة. وقد تكون مزيجًا بين أنواع متعددة بغية خلق سرد فريد أو التعليق على المواقف ما بعد الحداثية[3] أو في ذكر الأسماء التاريخية القديمة للبلدان مثل “بلاد ما بين الرافدين” و”بلاد العماليق” و”بلاد الطاووق” في القسم الأول من الرواية كناية عن العراق وسوريا وإيران.

كما سنجد من بين التقنيات الما بعد حداثية التي استخدمها “الانعكاسية الذاتية”، إذ سنلمح ظلال التجربة الشخصية ومرارتها خلف الفنتازيا، وسنرى السخرية واللهو والكوميديا السوداء والأحلام، التي تبدو واضحة في معظم أجزاء العمل، فرحلة أيوب تشبه إلى حد ما رحلة حازم كمال الدين من العراق مروراً بسوريا ثم مروراً بأثينا إلى أوروبا وبلجيكا.

كل شيء يبدأ من الأحلام، من اللاوعي البدئي، أحلام أيوب، منذ زرع والده الملك لير نطفته في رحم سارة ابنة عمه، وبدأ ينتظر وريث العائلة الجليلة، زرعٌ طالَ حصاده، ليولد أيوب ولادة أسطورية كائن بحجم ثور هائل، يعزز الأساطير التي تحيط عائلته بقدسية قديمة. الطفل المعجزة الذي سيأخذ كل أنواع المعرفة مرة واحدة الدينية والتراثية والسياسية من أبيه ومن عمته البتول. ثم سينطلق لمقارعة النظام الاستبدادي الذي يحكم بلاده متبعاً في ذلك تقليداً عائلياً قديماً، يجعل الروائي بطله يختزل الزمن متجاوزاً المراحل الدراسية جميعها بوصفه نابغة عصره، متلاعباً بالزمن فتارة يعود إلى أزمنة سحيقة موغلة في القدم عندما يتحدث عن نشأة القلعة المنحوتة من صخرة نيزك وأسطورة الجد وتارة ينتقل إلى زمن العائلة الأحدث وتارة يتغير الزمن مع انتقال أيوب وعمته الى أوروبا، حيث يجعل الزمن يتوقف لدى أيوب الذي يكبح نمو جسده ليجمده طفلاً عند التاسعة من عمره، محارباً الزمن وتطوره مستسلماً لمصيره الغرائبي، ومتحولاً إلى جذع شجرةٍ. حين يقرر “اللا قرار” “اللا اختيار” عند سقوط النظام الدكتاتوري في بلاده على يد الكاوبوي. بعد أن يقوم بجولة في حلمه “تحت نيران القصف والتدمير مستخدماً ظاهرة “الديجافو”[4]، ويقع في صراع نفسي كبير حول واجبه ومكان وقوفه وموقفه الأخلاقي.

يعيد حازم كمال الدين في هذا العمل تقويض وتفكيك صورة كل شيء يتعلق بواقع بلاده ويعيد تركيبه بطريقة سريالية، وبسخرية سوداوية مستفيداً من جميع التقنيات التي يجيدها (ككاتب روائي ومسرحي وسينوغراف ودراماتوج وسينمائي)، مقدماً نوعاً من الكتابة الهجينة متعددة الطبقات، ساخراً من كل شيء ومحطماً له، النظام الديكتاتوري ومعارضته واليسار الذي ينتمي له، (كنوع من جلد الذات)، يضع كوابيسه كلها على الورق محملاً أيوب كائنه الأسطوري الرهيب والبريء أقصى مما يحتمل، وهو يستخدم في معظم أعماله استعارات من الذاكرة الجمعية الشعبية والنخبوية. ليس فقط من الوسط المحلي لكنه هنا يستعين بأسماء أبطال أعمال لشكسبير مثلا “الملك لير” والد بطل العمل “أيوب” الملك الذي يخسر مملكته ويصبح شريداً مصاباً بقلبه بسبب جحود بناته لكن “لير” كمال الدين مختلف تماماً. تُدمّر قلعته ومملكته العائلية بسبب معارضته للدكتاتور يخسر أبناءه وبناته وتقع عائلته تحت التعذيب، وحتى “أيوب” وما يمثله بالذاكرة الجمعية العربية كشخصية صبرت على المصائب والاختبارات الإلهية العظيمة وكورديليا العذراء وسارة، ويعد هذا التناص أحد تقنيات أدب ما بعد الحداثة، فهو يجمع عدداً من أسماء الأعلام من بيئات حقيقية وأدبية مختلفة ليبني معها وعليها نسيجَ عملٍ روائي يرصد رحلة البطل أيوب من رحم أمه حتى هروبه الى أوروبا وفي الخلف رحلة عائلته الجليلة وأخوته وبلاده تحت حكم الدكتاتور الذي اختار له اسم “إسماعيل يس” [5]ليسخر منه. وبذلك يصيب “عدة عصافير بحجر واحد” انتقاد السلطة وهرمها وفسادها، وانتقاد العائلة المقدسة وخطاياها وعاداتها البائدة، ونجد هذا مثلاً في كشف العذرية الذي تتعرض له نساء العائلة، وانتقاد الأحزاب اليمينية واليسارية، السلطة ومعارضيها، لا يتوانى عن انتقاد ما يراه نضالا مضللاً، بطريقة جارحة غير مهادنة، وينتج نصاً روائياً ما بعد حداثياً، حيث “يتسم المؤمنون بما بعد الحداثة بتحديهم للسلطات، الأمر الذي يُعتبر دليلًا على الحقيقة المتمثلة بظهور هذا النمط الأدبي للمرة الأولى في سياق الاتجاهات السياسية في الستينيات. يُمكن ملاحظة هذا الاستلهام – من بين أمور أخرى – في الطبيعة الانعكاسية الذاتية لأدب ما بعد الحداثة فيما يتعلق بالقضايا السياسية التي يتناولها. غالبًا ما يُستخدم القص الما ورائي والمعارضة الأدبية في آن واحد بغرض السخرية”.[6]

بالنسبة لحازم كمال الدين كان عليه أن ينتج نصاً يوازي الواقع في غرائبيته، فالواقع العراقي وواقع المنطقة يتجاوز السريالي من جهة والعبثي من جهة أخرى بأشواط، لذلك يعتبر النص الروائي الذي يستخدم تقنيات ما بعد حداثية أصدق ما يعبر عن واقع يتجاوز المنطق الإنساني. (نلاحظ ذلك في وصف أساليب التعذيب والقمع والعنف الممارس على الأشخاص من نساء وأطفال ورجال، وتشوهات علاقة السلطة بالمواطنين).

فمنذ الفصل الأول من الرواية يصف القلعة ومحيطها، كل تفصيل في هذا الوصف متجهم ينذر بالخطر يُوظف ليدخل فيما بعد بكوابيس الجنين الذي بدأ يعي نفسه داخل رحم أمه سارة ويعي حجم المآسي التي ستنتظره خارج هذا الرحم والمصير الذي ينتظر أفراد عائلته، ويستخدم هنا “السرد المتقدم”[7] و”التوقع”[8] ويتضح هنا البعد التصويري في كتابة حازم كمال الدين، وهو أحد التقنيات التي يستخدمها ليُحَضِّر القارئ للدخول في سيرورة الحدث وتقلّب مصير الشخصيات، يحشد عددا كبيرا من التقنيات المابعد حداثية ليجعل الحكاية مرئية ومُصدّقة ليس بوصفها خيالاً غرائبياً يرتقي على ما وراء القص (الميتاسرد) وهي هنا حكايات الاستبداد التي يعرفها أبناء المنطقة جيداً وحكايات مرتبطة بأسماء شخصيات الرواية، بل مضيفاً إليها خبرته في الكتابة السوداوية التي تعمل على كشف وسبر حقائق المجتمع المحلي الموغلة في القدم وتعريتها بعنف، يتضافر الغرائبي مخلفاً الواقعي المعروف خلفه لينسج حكاية يتبدى فيها الهم السياسي الاجتماعي والثقافي والعائلي، ملمحاً لخيبة أملٍ عظيمة ألمت بالمناضلين اليساريين ولا يتوانى عن جلدهم والسخرية من طرق نضالهم القديمة وانفصالهم عن الواقع وتسرب الفساد إلى عددٍ منهم، كما يسخر من الدكتاتور الذي كاد يودي بحياته في لحظة ما، تنتهي حكايته ليلة سقوط نظام الدكتاتور في بغداد والتي يراها في أحلامه مسبقاً معلناً موقفه الأخلاقي الخاص مبتعداً عن الدكتاتور وعن من أسقطه (الكاوبوي)، رحلة شاقة تتجمد في لحظة ما.

تبدو اللغة مرنة لدى حازم كمال الدين إذ ينتقل في سرده بين طبقات متنوعة وملونة من اللغة، من اللغة البلاغية الجذلة، حيث تقوم المفردات بتصوير مشهد بصري معقد كالفصل الافتتاحي الذي يصف القلعة المقدسة لحظة استقبالها للوريث، ولحظة ولادته الأسطورية، ولحظة استعدادها لتلقي التغيير الذي طال انتظاره مهتماً بتفاصيل كثيرة تظهر التحول وتتنبأ بالقادم من الأيام، إلى مستوى بسيط من اللغة والمفردات التي تصل إلى العامية أحياناً كسيل شتائم تطلقه العمة البتول في لحظة ما، وعندما ينادي أيوب والدته مستنجداً بها، أو حادة وجارحة عند وصف مشاهد تعذيب، ومحرجة وقاتمة وساخرة عندما يصف محاولات انتزاع غشاء بكارة. تتدرج اللغة حسب الموقف والوظيفة المطلوبة منها في كل فصل. فهي تأتي من المخزون البصري العميق للكاتب ومن أهمية الصورة في عمله وحياته حتى أنه يمكننا القول إن المفردات تبدو في بعض الفصول “ثلاثية الأبعاد” مجسمة ومتحركة تصور مفردات الفضاء الذي تتحرك فيه الرواية لتواكب تقدم الأحداث والشخصيات ومصائرها، لكن هذا الأمر يظهر جلياً في الفصلين الافتتاحي والختامي من الرواية. كما كانت إحدى تقنيات الروي لدى المؤلف هي تقطيع الروي (الرواية) على شكل نصوص أو مشاهد يمكن أن تُقرأ بشكل متوالٍ أو بشكل منفصل مراعاة لصبر القارئ وللحفاظ على حيوية المتن.

صوت النساء في الرواية

 للوهلة الأولى يكاد صوت النساء في الرواية أن لا يصل للقارئ، لكن بقليل من الانتباه سنجد أن نساء عائلة أيوب لهن مقاومتهن الخاصة من أمه ساره ابنة عم والده الملك لير المكلفة بإنجاب الوريث، ومعاناتها في حمله وولادته العسيرة، إلى أخواته (غرونويل وكورديليا) اللواتي حكم عليهن بالزواج من أشخاص متنفذين في النظام كان دخولهم عليهن يشبه الى حد كبير الاغتصاب الذي شارك فيه الأب والأم رغم عنهما، طقس فض البكارة الأول، البكارة التي ترفض أن تُفضَ بمثل هؤلاء الرجال العنينين والذين يرمزون للخصاء ولسلطة الأمر الواقع هنا، كان التعامل مع البكارة هنا ذا اتجاهين مختلفين الأول سلبي لِما فيه من امتهان للمرأة حيث تبدو الأنثى كائنا مجرداً من الإنسانية والمشاعر يُضحّى به من قبل الأهل بالقوة ويُرمى كأضحية أمام رجال النظام الذين يرغبون بمصاهرة العائلة الجليلة (المقدسة دينياً بسبب نسبها) لتختلط أنسابهم بأنسابها وكان جرحاً هائلاً للطرفين. والثاني إيجابي إذ أن النساء يظهرن مقاومتهن بطريقة مبطنة وهي بأن غشاء بكارتهن المطاطي يرفض الاغتصاب بما يحمله من تلوث دمهن بدم رجال السلطة المُتسيدين بالقوة والعنف وبقربهن من الدكتاتور وحاشيته الفاسدة، أيضاً نجد ذلك يظهر في حوار كورديليا العذراء وجلادها الذي أصبح زوجها رغم عنها وعن أهلها، بعد أن أنقذها من تعذيبه وتعذيب زملائه الجلادين، لكنها ترفض تسليمه نفسها وتظهر رفضها له ولمعاشرته، بينما الشخصية النسائية الرئيسية في الرواية هي العمة البتول صاحبة (طقوس النرجس) التي لا يعرف أحد عمرها الحقيقي، والتي تعترف به في نهاية الرواية وهو 750عاماً، وتبدو كشخص حارس للعائلة الجليلة منذ أجيال بعيدة، لكنها بكل ما تختزنه من معارف وحكمة ومعرفة دينية وسياسية ونضالية لا شيء يحميها من انحرافات تقودها لأفعال عكس اسمها ورمزيته وما يمثله، وتعود لتنكص في النهاية وترمي بكل معرفتها ونضالها الفكري والحركي في سلّة القمامة وتمتهن السحر وقراءة الطالع، ويجعلها من ذوي “الاحتياجات الخاصة” لا يمنحها جمالاً بل قبحاً جسدياً يعطي بعداً تهكمياً من حارسة العائلة الجليلة، إذ أنها تصبح شخصية غير معصومة عن الخطأ والتلوث بالمحيط الفاسد. مصيرٌ مرير تُرمى فيه، وربما يبالغ في قسوته في تلويث هذه الشخصية وحرف مساراتها النضالية والأخلاقية، وربما لم يكن مبرراً بما فيه الكفاية، بينما حافظ على طهرانية أيوب حتى النهاية.

بالنسبة لشخصيات الرواية الأخرى، الأخوة والأخوات الرجال والنساء والأطفال (مصير أيوب الثاني)، نعرف مصائرهم المأساوية من خلال الاسترجاع[9] وهو هنا الرسائل (وهي إحدى تقنيات الكتابة السردية القديمة أعاد استخدامها هنا ليُدخِل الماضي في الزمن الحاضر للروي) التي تصل أخيراً إليه نعرف كم التعذيب والتنكيل الذي تعرضوا له مع أبناء منطقتهم على يد أعوان الدكتاتور. تاريخٌ طويل من الألم يظهر في هذه الرواية المتخيلة التي تعكس مرحلة تاريخية سوداء غير إنسانية في تاريخ العراق.

بالنسبة لأيوب الشخصية المحورية في الرواية، يبقى أيوب ذو العينين كخرزتين كريمتين وأهداب طويلة لا تريد أن ترى العالم الحقيقي كما هو، ترمقان كل شيء من خلف عوينات غامقة، يستسلم لمصيره الذي رآه وعرفه مسبقاً عن طريق الأحلام والكوابيس وهو جنين وحاول تغييره قبل أن يولد وذلك برفض خروجه من رحم أمه لكن القدر سيُطلقه رغماً عنه ليصارع عالماً لا يرحم، فهو مجرد معجزة صغيرة، ستسحقها قسوة البلاد. الشخصية الوحيدة النقية التي تحاول مواجهة كل شيء لدرجة تجميد نفسه ليبقى بمظهر طفل في التاسعة إذ يتجمد الزمن بالنسبة له في أوروبا بينما عمره الحقيقي سيصل في نهاية الرواية الى الأربعين عاماً مختزلاً الخيبة واللا جدوى من أي فعل مقاومة أو نضال بتحوله إلى جذع شجرة في بيته ليرسم الروائي فصل النهاية مشهداً بصرياً غرائبياً يذكر بمنحوتات الغرونيك الأوروبية القديمة، منحوتة يتوقف فيها الزمن والرعب، يمرّ بها العابرون مذهولين غير مدركين لحياتها الماضية. لكن هذه المنحوتة المرعبة في لحظة تحجرها تنذر بأن لحظة حياة أخرى قادمة، لا تقتل الأمل!

القارئ والروائي

 لا يزال الواقع العراقي بنظر المؤلف يبدو كجرح تخثر دمه في الأعلى وتيبس حتى بدا كأنه التئم، لكن عصفة ريحٍ صغيرة تنكأه وتفتحه من جديد ليظهر مدى عمقه، حيث الدم لا يزال طرياً يسيل عميقاً. لذلك كان على حازم كمال الدين ابتكار وتوليف عدة تقنيات كتابية ما بعد حداثية ليقارب الواقع العراقي المأساوي والفوضى التي وقع بها، إذ أن من الصعب على السرد التقليدي أن يلامس حجم المأساة والفجوات العميقة التي وقع بها تاريخ العراق المعاصر، ما بين الديني والسياسي والاجتماعي. تقول باتريشيا واو بأن القص المعاصر هو (استجابة ومساهمة في الوقت نفسه لمعنى أكثر تطرفاً يقول بأن التاريخ أو الحقيقة هما افتراضيان لم يعد هناك عالم من الحقائق الخارجية. بل سلسلة من التراكيب وفنون الخداع والهياكل غير الدائمة، كما يفكك الخطاب الميتاسردي قوانين الهيكلية الناظمة له من أجل تحقيق أهداف ما بعد حداثية مثل “كشف فوضى الوجود المعاصر وفضح زيف الوهم المهيمن على الوعي البشري، وبذلك يهدد هذا الخطاب نظام العالم الخارجي للنص، ويفضح عبثيته ووحشيته من خلال مساءلته الذاتية لسرديته وطبيعته التلفيقية بخروجه عن واقعية السرد المتخيل)[10].

لذلك لا يشتغل حازم كمال الدين على القصة بحد ذاتها إذ أن قصته غالباً ما تبنى على قصص معروفة من سكان المنطقة، فهو يخاطب عقل القارئ بما يعرفه مسبقاً كمسلمات، لكنه يُبدع باجتراح طرق جديدة لإيصال القصة، فهو يهتم كثيرا بالنواحي الإجرائية والفنية ليخلخل الأرضية القديمة للقصة تحت قدمي القارئ الذي يجد نفسه عندما يقرأ أعماله لأول مرة في أرض وعرة، لكنه سرعان ما يفكر كيف يأخذ مكانه داخل الحكاية التي غالباً ما تمسه بطريقة أو بأخرى، ومعروف عن حازم كمال الدين عمله الطويل على الرواية فهو يقوم بأبحاثه وبوضع مخطط إجرائي للتقنيات التي سيستخدمها في عمله الروائي إذ ليس هناك مصادفة في أي تفصيل يذكره في عمله. وفي النهاية لا يمكن الإحاطة هنا بكل تفاصيل الرواية فهي محملة بإمكانيات كبيرة للقراءة والتحليل والدرس. الرواية تقع في 375 صفحة من القطع المتوسط مقسمة إلى خمسة أقسام: الأول بعنوان بلاد الرافدين، الثاني بعنوان الولادة، الثالث بعنوان الطريق إلى المنفى، الرابع بعنوان أوروبا، الخامس بعنوان مونولوغات المنفى.

صدرت رواية “الوريث” حديثاً عن “دار الكتاب” في تونس في بداية عام  2024 وهي الرواية رقم 7 في منجز حازم كمال الدين الروائي، فقد صدر له سابقاً في مجال الكتابة الروائية: رواية “أورال” باللغة الهولندية عن Beefkacke publishing في بلجيكا عام 2010، ورواية “كاباريهت” عن دار فضاءات في الأردن 2014، ورواية “مياه متصحرة” عن فضاءات 2015 والتي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، و”يضج بي الجمال حتى يوم مماتي” عن دارPOLIS في بلجيكا وهي ترجمة (لمياه متصحرة)، ورواية “مروج جهنم” عن فضاءات 2019، ورواية “الوقائع المربكة لسيدة النيكروفيليا” عن فضاءات 2020، ورواية “من أحوال داليا رشدي” عن مؤسسة أبجد في العراق. والمؤلف مخرج وممثل وكاتب مسرحي وسينوغراف معروف في أوروبا بتجربته المسرحية الثرية، له عدد كبير من المسرحيات والترجمات في مجال المسرح والشعر والدراسات النقدية.


[1] – رغم أن “البوتو” أسلوب رقص ياباني احتجاجي عنيف في الأصل كان قد استخدمه حازم كمال الدين في عروضه المسرحية في بلجيكا إلا أنه هنا في روايته يحول الأداء إلى كلمات تصويرية سوداوية تسعى لسبر واقع الإنسان العراقي السوداوي ثم تغييره، تقول إيريني سمير حكيم “ولد الـ”بوتو” من الاضطرابات والفوضى السياسية والاجتماعية، التي أدت إلى فقدان الهوية اليابانية، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، التي دفعتهم إلى إعادة فحص ثقافتهم، وإنشاء نوع أصلي حديث من الرقص الياباني للتعبير عنهم. بهدف تخليق التغيير في الرقص الياباني”مجلة الفيصل 2022،1.

[2] — ويكيبيديا.

[3] — ويكيبيديا.

[4] – ويكيبيديا. الرؤية المسبقة للأحداث، وقد جعلها المؤلف ترافق البطل منذ كان جنيناً في بطن أمه سارة.

[5] – إسماعيل ياسين ممثل مصري كوميدي حاز على شعبية كبيرة لدى الجمهور العربي لفترة طويلة بسبب نوع الكوميديا البسيطة التي كان يقدمها.

[6] — ويكيبيديا.

[7]  – السرد المتقدم: سرد يسبق المواقف والأحداث المروية زمنياً هو أحد خصائص “السرد التنبؤي” قاموس السرديات لجيرالد برنس ص(17)

[8] – التوقع: “مفارقة زمنية تتجه نحو المستقبل انطلاقاً من لحظة الحاضر أو النقطة التي ينقطع فيها السرد التتابعي الزمني (الكرنولوجي) لكي يخلي مكاناً للتوقع” قاموس السرديات لجيرالد برنس

[9] – الاسترجاع: “مفارقة زمنية باتجاه الماضي انطلاقاً من لحظة الحاضر” وهو هنا نوع من “الاسترجاعات التكميلية ” ووظيفتها ملء فراغات سابقة تنشأ عن الثغرات” قاموس السرديات لجيرالد برنس.

[10] – من مقال “جماليات الميتاسرد في فنون ما بعد الحداثة” للباحث أحمد عادل غازي محمود مجلة بحوث في التربية الفنية والفنون العدد رقم (1) جامعة حلوان.

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

لا يختلف اثنان أنّ الدراما السورية أحدثت فارقاً وصنعت بريقاً أخاذاً في فترةٍ ذهبيةٍ امتدت ما بين عامي 2000 و2010. وتحديداً ما بين مسلسل الزير سالم الذي أخرجه الراحل حاتم علي ووضع فيه الراحل ممدوح عدوان عصارة ما يمكن لكاتب المجيء به نصاً وحواراً وأحداثاً ليجعل منه العلامة الكبرى التي كرست سوريا كسيدةٍ في الأعمال التاريخية التي لا تشوب نصها ونطق حروفها وأدواتها شائبة، وكان ذلك واضحاً وجلياً في ثلاثية حاتم علي (صقر قريش–ربيع قرطبة–ملوك الطوائف).

أما في عام 2010، العام الذي سبق الحرب السورية مباشرة فقد أسدلت الستارة على النتاج الضخم والمشبع فنياً وحركياً وبصرياً وذهنياً مع مسلسل “لعنة الطين” للكاتب سامر رضوان صاحب “ابتسم أيها الجنرال” وثلاثية “الولادة من الخاصرة” للكاتب نفسه و”تخت شرقي” للكاتبة يم مشهدي وغيرهم.

في هذا العقد قدمت سوريا ثورةً في الدراما الاجتماعية التي تخطت ما عداها لتلامس شرائح المجتمع كله تاركةً خلفها سبلاً وأدوات وحكايات تنطلق من البيئة التي جاءت منها بأسلوب تنفيذ سلس ومباشر وبسيط كان كفيلاً بصنع النجوم، نجوم اليوم.

سادة الدراما

لا يزال السوريون يعتقدون أنّهم سادة الدراما، يقدمون هذه المعلومة في كل موسم رمضاني خلال العقد الفائت، ويقولون بلا تفكير بأنّهم قدموا دراما اجتاحت الوطن العربي وعلمته كيف تكون الصنعة. ولكن ماذا يعرف العرب من المحيط إلى الخليج عن الدراما السورية؟

يعرفون شيئاً واحداً (شبرية أبو شهاب) في باب الحارة، وتلك الطامة الكبرى التي أغرقت سوريا في فخّ التجهيل وأوصلت للسوريين معلوماتٍ مغلوطة عن أنّ أعمالاً كزمن العار وأحلام كبيرة وغيرهما كانت تجعل العربي يتسمر خلف الشاشة، والعربي لم يسمع أساساً بتلك الأعمال، إلا ما ندر.

صراع سوريٌّ – مصري

يتجه السوريون هذا العام في جلساتهم وعبر منتديات النقاش في مجموعات التواصل الاجتماعي بصورة غريبة لمناقشة ومقارنة الفرق بين الأعمال السورية والمصرية واضعين عشرات الملاحظات على الأخيرة موجهين انتقادهم اللاذع إلى مسلسل “الحشاشين” بطولة “كريم عبد العزيز” وإخراج “بيتر ميمي”.

ينطلق هجومهم من إشراك اللغة العربية الفصحى باللهجة المصرية في سياق العمل، لتبدأ مواجهة حامية الوطيس يبدو فيها المدافعون عن الإنتاج المصري أكثر من الرافضين له، ويبدو هذا منطقياً لبلدٍ يملك شركات إنتاج تحقق شرطاً فنياً عالي الجودة ويمكن لشركات بلدهم تقديم ما يحاكيه لولا أنّ مزيجاً من الاستسهال والمبالغة والاستعراض جمع بين شركات سوريا ومخرجيها وممثليها، على ما يقوله مهتمون بالمتابعة.

مصر قدمت هذا العام مسلسلات: الحشاشين – العتاولة – المعلم – الكبير أوي 8 – المداح – أشغال شاقه – بابا جه – أعلى نسبة مشاهدة – امبراطورية م – بيت الرفاعي – بدون سابق إنذار – جودر – كوبرا – حق عرب – خالد نور – رحيل – سر إلهي – صيد العقارب – صدفة – صلة رحم – عتبات البهجة – 100 راجل وغيرهم.

وباتت المسلسلات المصرية تبدو وكأنها تحلق وحيدة كما تفعل منذ عقود في فضاء الفن العربي متفهمةً أخيراً أنّ الجمهور لا يحتاج عملاً من ثلاثين حلقةً، وبأنّ 15 حلقة كافية وتزيد عن حاجته وتشبع ذائقته الفنية.

“بوجقة وردح”

حتى الآن لا يمكن فهم أدوات عمل الممثل السوري وثباتها في مكان اللا تطور، حيث يحافظ على مبالغات في الأداء والصياح والاستعراض تجاوزتها مدارس التمثيل، فاليوم يتجه هذه المضمار لإبكاء المشاهد بلقطة يبدو فيها البطل حزيناً بنظراته لا حزيناً لأنّه يصيح ويمزق ثيابه. وهنا يمكن فقط استحضار مشهد المصري “سيد رجب” في فيلم “وقفة رجالة” إذ استطاع إبكاء المشاهدين في صالات السينما دون أن يذرف دمعةً واحدة حين توفيت زوجته وشريكه عمره.

حتى نهاية الأسبوع الأول من رمضان كانت معظم الأعمال السورية تقوم على التنميط، واستنساخ منشورات الفيس بوك، وأحاديث الشارع الممجوجة، وما يقال عنه بالعامية الشامية “البوجقة والردح” من قبل ممثلين محترفين يفترض أنّهم قاماتٌ كبرى متناسين أنّ قسطنطين ستانيسلافسكي” صاحب فلسفة إعداد الممثل قد علمهم أهم قاعدةٍ جوهرية وهي: “تحدثوا للعين وليس للأذن، فالعين هي العضو الأكثر حساسية الذي يقود معنى الفكرة.”

تصويبٌ لا هجوم

ما يحصل الآن ليس هجوماً على الدراما السورية، بقدر ما هو محاولة تصويب للأخطاء التي تكررها كل عام، فالفرنسي المحتل حاضر على الدوام بعمل أو أكثر كل موسم، ودمشق القديمة حاضرة كما المعتاد، والفتيان الزعران وبنات الليل والراقصات حاضرات أيضاً، وكما كلّ عام يتغير اسم الكاتب وتظلّ خطوط الحبكة متشابهة.

لا يمكن القول هنا إنّ ذلك يعود لخطورة مقصّ الرقيب، فالجميع بات يدرك أنّ الرقابة على الدراما باتت أقل ممّا كانت عليه، وإنتاج عملٍ اجتماعي لا يحتاج مغامرةً أصلاً! ومن أنتج وعرض “غزلان في غابة الذئاب 2006” وثلاثية “الولادة من الخاصرة 2011-2012-2013” وغيرهم يدرك جيداً أنّ السقف يمكن أن يكون عالياً والدليل الأمثل مسلسل “الخربة – 2011” للكاتب “ممدوح حمادة” والمخرج “الليث حجو” بكل إسقاطاته السياسية الشديدة والذي عرض ولا زال على الشاشات المحلية بين وقت وآخر، إذ لا ينسى السوريون أنّ “بقرة معلم أكرم” أهم من كل شرائع وقوانين ودساتير وحياة الإنسان في بلدهم.

مقارنة ظالمة

في هذا العام حضرت سورية بجملة من المسلسلات التي تفاوتت الآراء حولها، وما قد يظلمها هو مقارنتها بأعمال أخرى صنعت خلال الحرب.اليوم ينكب جزء من السوريين على مشاهدة أعمال هذا الموسم كـ: ولاد بديعة – كسر عضم (السراديب) – مال القبان – تاج – وصايا الصبار-بيت أهلي – الوشم. وكما في كل عام عانت هذه الأعمال على قلتها من الشرط التسويقي القاسي في السوق الخليجي والذي كان أساس ازدهار الصنعة السورية مطلع الألفية الحالية.

ممثلٌ مرغم على التمثيل

تعتقد رقيّة ميمون الخريجة الجامعية أنّ أعمال هذا العام جاءت متدنية المستوى، وفي قسم كبير منها لا تناسب المشاهدة العائلية، معلّلة ذلك بكم التناول الواسع لمواضيع حساسة تتعلق بالجنس وفتيات الليل والرقص وما شابه ذلك.

تقول: “هناك كميّة لا تصدق من النكد والحزن والانحدار الفني على مستوى النص المجتر والمكرر، لنتذكر قليلاً مشاهد مرّت في تاريخ درامانا ثم لنقارن، مشهد بكاء خالد تاجا في التغريبة الفلسطينية، الحلقة الأخيرة من أسعد الوراق، الاغتصاب في زمن العار، اجتماع العائلة في أحلام كبيرة، مقتل كليب في الزير سالم، مشاهد الأصدقاء في تخت شرقي، الخازوق في إخوة التراب، كل ذلك كان قبل 2011، أما بعده فصرنا نحسّ أنّ الممثل يؤدي وظيفته مرغماً”.

فلسفة مريبة

فيما تتساءل ناهلة عويتي الطالبة الجامعية عن السرّ الذي يجعل كل الحوارات في المسلسلات السورية مغرقة في الفلسفة والسفسطائية والغرابة والابتعاد عن طبيعة المجتمع وتكوينه البسيط، دون أن تنسى استذكار مسلسل “تخت شرقي – إخراج رشا شربتجي 2010″، والذي قدم في حينه صورة أكثر قرباً من يوميات الناس في بلدهم هذا. وتعبر عن رأيها: “الراقصة لديها فلسفتها الأفلاطونية، عامل الصيانة، الطبيب، الدهّان، القاتل، الضابط، الجميع يملك فلسفة مريبة وكذلك الطفل الصغير، أليس هذا نقلاً غير مفهوم في مستوى الدراما من الإمتاع العائلي الترفيهي البسيط إلى دائرة الانعزال عن القضايا اليومية التي تخلق بيئة العمل الدرامي كما يقول صناعه؟”.

بين الواقع والامتنان والإعجاز

في خضم ذلك يرجو الشاب محمد محمد أن تعود الدراما لواقعها بعيداً عن المبالغة المهولة في ترتيب المنازل وديكورها، قائلاً: “نريد شيئاً يشبه حياتنا وبيوتنا الفقيرة لتعود الدراما ملكاً لنا”.

ومن بين تلك الآراء يظهر رأي الأكاديمي معين نصراني مغايراً  إذ يقول إنه ممتن أنّ الشركات لا زالت قادرة على أن تنتج أعمالاً في بلد حطمته الحرب، ويُشدد على فكرته: “13 عاماً من الحرب ولا زلنا ننتج فناً، هل من بلد آخر يستطيع فعل ذلك!”

من سوء حظ معين أنّ جواب سؤاله جاء سريعاً من صديقه الواقف قربه، إذ قال بعفوية: “الرحابنة فعلوا ذلك في حرب لبنان”.

ثمّة نجوم من ذهب

لم يكن غريباً أنّ معظم من التقينا بهم لم يبدوا حماساً للأعمال الدرامية السورية، وهذا طبيعي ومفهوم، فالكثير من الناس في سوريا يملكون قدرةً تحليليةً على تمييز المنتج الرديء من السيء وإجراء مقارناتٍ تأخذهم دائماً نحو طلب الأفضل في ظلّ واقعٍ فعلي يسيطر عليه الاستسهال في معظم مناحيه. إلا أنّ ذلك بطبيعة الحال لا يمكن تعميمه، ففي سوريا نجوم من ذهبٍ قادرون على المنافسة شرقاً وغرباً، ولكنّ هؤلاء النجوم يخضعون لشروط مركبة، فإما شرط إنتاجي سيء، أو أجور قليلة، أو أدوار سيئة يضطرون للقبول بها لئلا يختفوا عن الشاشة. تلك وغيرها عوامل جعلت ولا زالت من الدراما السورية منكسرةً حزينةً لا ترضي صناعها قبل جمهورها.