سوريا: موجات حر شديدة في ظل انقطاع الكهرباء

سوريا: موجات حر شديدة في ظل انقطاع الكهرباء

تزامنت موجات الحرارة المتتالية مع انقطاع التيار الكهربائي في عدة محافظات سورية أكثر من 20 ساعة يومياً، ما يحرم المواطنين/المواطنات من تشغيل وسائل التبريد أو التكييف إن توفرت، وما يزيد الطين بلة انقطاع الكهرباء بشكل كامل وعام نتيجة لتعطل إحدى محطات التوليد، مثلما حدث ذلك مرتين في شهر تموز الماضي.

وتتعرض البلاد لموجات حرارة قاسية، إذ سجلت (المديرية العامة للأرصاد الجوية) درجات حرارة مختلفة تجاوزت 40 درجة مئوية في عدة مناطق، ووصلت إلى أكثر من 45 درجة في بعض المحافظات خلال الأسابيع القليلة الماضية، بيد أن الحرارة الملموسة بلغت درجات أعلى بكثير.

ولمواجهة لهيب الصيف، تلجأ بعض الأسر إلى مصادر طاقة بديلة عن الكهرباء الحكومية لتشغيل المراوح؛ مثل “الأمبيرات” بمقابل أجر أسبوعي أو شهري ما يشكل عبئاً مادياً إضافياً، في حين يعتمد آخرون على البطاريات ذات السعات الكبيرة، لكن الفئات الأكثر هشاشة وفقراً قد لا تملك مثل هذه الخيارات عموماً.

ومن ناحية أخرى، يفضل مواطنون الذهاب إلى المسابح هرباً من القيظ، بينما تقصد عائلات سورية الحدائق العامة والمساحات الخضراء بدمشق مساء، ويلجأ أفراد للنوم على الأسطح أو شرفات منازلهم.

ومع فشل الثلاجات المنزلية في أداء وظائفها لانقطاع الكهرباء بشكل متواصل، يزداد الطلب على شراء قوالب المياه المجمدة من الدكاكين أو الباعة الجوالين بهدف تبريد ماء الشرب على الأقل، حيث وصل سعر القالب الواحد إلى 16 ألف ل.س في ريف دمشق.

الصحة

تعاني هناء (72 عاماً- ريف دمشق) من موجات الحرارة وانقطاع التيار الكهربائي مثل غيرها من كبار السن، تقول هناء: “استحم بالماء البارد لتخفيف درجة حرارة الجسم، إنه الخيار الأفضل، لا يتوفر لدينا وسائل تبريد باستثناء مروحة صغيرة تعمل على الطاقة البديلة”.

وسجلت عدد من المراكز الصحية في ريف دمشق ودرعا مراجعات بسبب “ضربات الشمس”، وعلى الرغم من برامج التقنين الكهربائي إلا أن أغلب المراكز الصحية والمستشفيات تملك مصادر طاقة بديلة.

وفي زيارة لعدد من العيادات الطبية الخاصة في قلب العاصمة دمشق، يلاحظ أن المرضى يعانون من درجات الحرارة المرتفعة أثناء الانتظار ما إن يغيب التيار الكهربائي، وبشكل خاص في العيادات التي لا تحتوي على منافذ تهوية كافية أو لا تملك طاقة بديلة لتشغيل وسائل التبريد.

وذكرت مصادر طبية وإدارية في دمشق لـ “صالون سوريا” أن منظمات غير حكومية بدأت بتوفير مصادر طاقة بديلة لبعض المراكز الصحية في دمشق وغيرها بهدف استمرار تقديم الخدمات الطبية للمرضى، بينما يقول مواطنون في ريف درعا إن المشكلة لا تكمن بمصادر الطاقة دوماً، وإنما بخروج بعض المراكز عن الخدمة وقلة الكوادر الطبية والأدوية في القرى والبلدات النائية.

ضربة الحرارة!

وعن أضرار موجات الحر الشديد، يوضح الطبيب محمد الشعابين (داخلية- قلبية) في حديث مع “صالون سوريا” أن الحرارة المرتفعة تسبب ضغطاً استقلابياً وما يعرف بالإجهاد الحراري أو ضربة الحرارة، والسبب بذل الجسم جهداً لتخفيض حرارته.

وبحسب الطبيب المختص فإن أعراض ضربة الحرارة هي التعب الشديد، والتعرق المفرط، والدوار، وفقدان الشهية، والصداع، وتؤدي الضربة إلى اضطرابات النطق واختلاجات وتقيؤ وتشنجات عضلية، وقد تؤدي إلى الوفاة في حال لم تعالج بالسوائل الوريدية بشكل سريع.

ويحدد الشعابين الفئات الأكثر تأثراً بموجات الحر، وهم الأطفال والنساء الحوامل والعمال الذين يعملون تحت أشعة الشمس؛ فضلاً عن الرياضيين وكبار السن.

ويقول الطبيب: “يصاب مرضى السكري بالتجفاف ما يؤدي إلى حماضات سكرية ربما تفضي إلى الوفاة، كما أن التجفاف عامل مؤثر على مرضى القلب والكلى أيضاً، بينما يعاني مرضى (الربو) من صعوبة التنفس عموماً، وتسرع ضربات القلب”.

ويخلص أطباء سوريون مختصون في حديث مع “صالون سوريا” إلى أن عدم توفر وسائل تبريد كافية يؤثر على حفظ الأدوية، وقد يحتاج قسم منها للإتلاف سواء في الصيدليات أو في المنازل، وتتعرض الأغذية للتلوث ما يزيد من حالات الإسهال صيفاً، كذلك تسبب درجات الحرارة المرتفعة القلق والأرق ليلاً.

ويدعو الطبيب محمد الشعابين إلى تجنب التعرض لأشعة الشمس بشكل مباشر لمن يستطيعون ذلك، إلى جانب الإكثار من السوائل والأملاح لتعويض شوارد الصوديوم التي تُستنزف عن طريق التعرق كيلا تسبب اضطرابات قلبية أو عصبية، إلى جانب تغطية النوافذ، لكن فعالية هذه الإجراءات تبدو منخفضة في ظل غياب وسائل تبريد جيدة.

من جهتها، تنصح وزارة الصحة السورية عبر صفحة مكتبها الإعلامي على “فيسبوك” بعدم التعرض المباشر لأشعة الشمس خصوصاً بين الساعة 10 صباحاً و4 عصراً، وتجنب المشروبات التي تحتوي الكافيين أو السكر لأنها تؤدي إلى فقدان السوائل من الجسم؛ علاوة على ارتداء ملابس قطنية خفيفة وفضفاضة، وفتح النوافذ لاسيما ليلاً عندما تنخفض درجة الحرارة، والاستحمام بالماء البارد.

تموز: الأكثر سخونة

وسبق أن حذّرت منظمات مختصة من ظاهرة الاحتباس الحراري. في السياق ذاته، وصلت مستويات الغلاف الجوي لغازات الدفيئة الرئيسية الثلاثة -وهي ثاني أكسيد الكربون، والميثان وأكسيد النيتروز إلى مستويات قياسية في عام 2021، وفقا لتقرير المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO).

وكانت (المنظمة العالمية للأرصاد الجوية) بالاشتراك مع خدمة “كوبرنيكوس” لمراقبة تغير المناخ الممولة من الاتحاد الأوروبي أصدرت تقريراً عن درجات الحرارة المسجلة في شهر تموز. وأظهرت بيانات سجلتها خدمة “كوبرنيكوس” أن تموز في طريقه ليكون الأكثر سخونة على الإطلاق، طبقاً لما نقل موقع (أخبار الأمم المتحدة) الإلكتروني.

الرعاية التلطيفية: ثقافة تعزز كرامة المرضى

الرعاية التلطيفية: ثقافة تعزز كرامة المرضى

يُعد توفير خدمات الرعاية الطبية والصحية جزءاً أساسياً من التنمية المطلوبة لتحقيق العدل الاجتماعي في أي دولة. إلا أنه بسبب تداعيات الحرب التي استمرت لأكثر من عقد من الزمن، فإن أنظمة الرعاية الصحية سورية أصبحت مبتورة وتحقيق الرعاية الصحية والتلطيفية يشكل تحدياً كبيراً بسبب ضعف إمكانية توفيره في البلاد.

وتوضح مديرة الرعاية الصحية الأولية في وزارة الصحة الدكتورة رزان طرابيشي معنى مفهوم الرعاية الصحية والتلطيفية بأنه: “نهج للصحة والرفاهية يشمل كل المجتمع ويتمحور حول احتياجات وأولويات الأفراد والأسر والمجتمعات المحلية، إذ تتناول الصحة بجوانبهما البدنية والنفسية والاجتماعية الشاملة والمترابطة”.

وتؤكد طرابيشي أنه بحسب هذا المفهوم يجب أن تكون: “الرعاية الصحية ميسرة لكافة الأفراد والأسر في المجتمع بوسائل مقبولة لديهم ومن خلال مشاركتهم التامة وبتكاليف يمكن للمجتمع والدولة تحملها”، حيث يتم تقديم الخدمات الصحية من خلال مراكز الرعاية الصحية الأولية والفرق الجوالة والعيادات المتنقلة. وتنوه طرابيشي إلى ضرورة توافر هذه الخدمات بشكل مجاني لتحقيق مبادئ العدالة والإنصاف وعدم التمييز في المجتمع.

الرعاية التلطيفية

تعتبر الرعاية التلطيفية نوعاً من أنواع الرعاية الصحية، وتشرح طرابيشي هذا النوع بأنه “الرعاية التي تقدم للمريض وللقائمين على رعايته من ذويه بهدف الحد أو التخفيف من معاناتهم في مواجهة المرض وعيش المريض بكرامة واستطاعته الاعتماد على نفسه قدر المستطاع”. وتشمل الرعاية التلطيفية دعم الأسرة نفسياً واجتماعياً أثناء رحلة المرض، حيث يتم تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للمريض وأسرته، وتقديم المشورة للمرضى الذين لايزالون تحت العلاج. وفي الوضع المثالي، تُقدم الرعاية التلطيفية لجميع مراجعي المراكز الصحية كل حسب مرضه وحسب عمره وحاجته. فحاجات المسنين وأصحاب الأمراض المزمنة والسارية والأمهات الحوامل وحديثي الولادة متنوعة ومختلفة ويجب أن تُقدر ويتم تلبيتها بشكل مناسب من قبل الأطباء وطاقم التمريض والمتطوعين داخل المركز وعبر الزيارات المنزلية.

وتُنوه طرابيشي إلى أن “سوريا تعد من الدول التي تبنت الرعاية الصحية الأولية وباشرت العمل بها بتقديم الخدمات الصحية وفق العناصر الأساسية التالية كالتوعية والتثقيف الصحي، الإصحاح البيئي وتوفير مياه الشرب النظيفة.” إضافة إلى تقديم خدمات برامج التغذية كالترصد التغذوي، وخدمات الأمومة والطفولة المتكاملة، وخدمات برنامج التلقيح الموسع ومنها تقديم لقاحات الأطفال ضد الأمراض الشائعة ولقاحات السيدات في سن الإنجاب ولقاحات الكوفيد والأمراض الطارئة والأوبئة.

التخفيف من آلام المرضى ودعمهم نفسياً

قررت لمى الاستعانة بممرضة للعناية بوالدتها المصابة بسرطان الثدي، وذلك لانشغالها برعاية مولودها الجديد وعدم تمكنها من ملازمة والدتها طوال الوقت، الإتيان بعاملة مختصة بالرعاية التلطيفية ساهم على نحو كبير بتحسين حياة المريضة، وعن هذه التجربة تقول لمى: “كان إحضار ممرضة مختصة بالرعاية التلطيفية خياراً صائباً ساهم في تحسين حياة والدتي وعدم استسلامها للمرض، ففكرة ممارستها ليومياتها بشكل طبيعي يمدها بالقوة، فوجود مرافق يدعم المريض أمر أساسي وجوهري للتغلب على المرض وآلامه المبرحة”. وتضيف لمى أن دور الممرضة لا يقتصر فقط على تقديم الدواء في المواعيد المنتظمة وتخفيف حدة الألم، بل إتقان دور المستمع والإنصات لهم جيداً والتعبير عن مشاعرهم، فالدعم النفسي من أول مهام الرعاية التلطيفية، إلى جانب توفير سبل الراحة واستبعاد الأسباب التي تخلق أجواء غير مريحة.

وتؤكد لمى أن مفهوم الرعاية التلطيفية خفف عنها من وطأة الشعور بالذنب بسبب عدم تمكنها من المكوث المستمر مع والدتها، فالممرضة تظل ملازمة للمريض على مدار 24 ساعة في المنزل من لحظة بدء الخطة العلاجية إلى حين انتهائها.

القابلات القانونيات

 تعمل سناء كقابلة قانونية منذ عامين في مدينة اللاذقية، حيث قدمت الرعاية الصحية لمئات الحوامل وساعدتهن على الولادة المنزلية وداخل المستشفى، تقول لـ”صالون سوريا”: “لدورنا أهمية كبيرة تبدأ في الثلث الأول من الحمل ويشمل الإشراف على رعاية النساء الحوامل من مراقبة نبض الجنين وانقباض الرحم وصولاً إلى مراقبة العلامات الحيوية المرافقة للمخاض والولادة وما بعدها”.

تطور دور القابلة عن مفهومه القديم الذي كان يقتصر على التوليد فقط، دون الاكتراث بأبعاده النفسية والاجتماعية، وتعقب سناء بالقول: “هناك نظرة تقليدية حول القابلة نبعت من المسلسلات القديمة بأنها مجردة من المشاعر وتقوم بدور التوليد فحسب، لكن هذا مفهوم خاطئ”.

تحرص القابلة على زرع الثقة والحب والطمأنينة مع الحامل عند الاستعداد للولادة ومراقبة وضعها الصحي، وأحياناً أخرى القيام بعملية الولادة نفسها عند تغيّب أو تأخر الطبيب، وعن ذلك تقول: “أنظر إلى الحامل بعيني الرأفة والحب، أدعمها نفسياً عند المخاض وأحاول التخفيف من وجعها عبر التدليك والعلاج المائي، أشعرها بأنها بأيدي آمنة”. وتتابع حديثها: “في إحدى المرات كنت أرعى إحدى الحوامل ريثما يصل الطبيب الذي طال انتظاره، حاولنا الاتصال به لكنه لم يجب، حان موعد ولادة المرأة، فقمت بتوليدها على الفور، لكنه جاء بعد الانتهاء”.

اضطرابات النوم

لجأت أم تيم إلى أحد أفراد الرعاية الصحية لعلاج طفلها من اضطرابات النوم وحالات الهلع التي كانت تلازمه إثر حادثة الزلزال الذي ضرب سورية في 6 شباط ٢٠٢٢، وعن تجربتها تقول لـ”صالون سوريا”: “كان طفلي ينتابه شعور بالفزع لمجرد ذهابه إلى السرير، ويقضي ساعات طويلة بالبكاء والشعور بالخوف، إلى جانب الكوابيس”. وتضيف أم تيم أنها تمكنت بدعم من مختصة في العلاج النفسي السلوكي بأن تساعد طفلها على تجاوز الأزمة النفسية والتغلب على اضطراب ما بعد الصدمة عبر اللعب والرسم والتحدث ومنحه شعور الأمان”.

رعاية مرضى الزهايمر

وعن رعاية مرضى الزهايمر، تشرح جمان وهي عاملة في مجال الرعاية التلطيفية تجربتها  مع والدها الذي أصيب بالخرف المعتدل: “عندما يصاب عزيز لديك بداء الزهايمر، يتحول إلى طفل صغير يجب مداراته بصبر وحب كبيرين”. وتضيف الشابة: “لم يخطر في بالي قط أن يصيب والدي بالمرض، أكثر ما يحتاجه المريض هو الاحتواء واللطف والقدرة على تحمل سلوكيات المريض التي تبدأ بالتغير كالتفوه بالكلمات النابية وعدم الاهتمام بالنظافة الشخصية”.  بالرغم من مهارة جمان، لكنها طلبت يد العون من شقيقها لتحمل جزء من المسؤولية بعد ما قامت بتدريبه على المهام التي يجب التعامل مع مريض الزهايمر، وتضيف جمان: “دربت أخي على رعاية والدنا أثناء أوقات غيابي، كوضع جدول مهام وإشراك والدنا ببعض النشاطات اليومية كترتيب السرير وارتداء الملابس كي يبقى ذهنه يقظاً”.

خاتمة

يجب التنويه إلى أهمية الأنواع البديلة للرعاية الصحية نتيجة الأضرار الكبيرة التي لحقت بمراكز الرعاية الصحية في سوريا جراء الحرب، فقد خرج عدد كبير من المراكز الصحية عن الخدمة، لكن يتم العمل على استبدالها بفرق جوالة وعيادات متنقلة مع وضع خطة محددة لإعادة ترميم المراكز المتضررة. فقد شملت الخسائر جراء الحرب العديد من الجوانب كنقص بعض التجهيزات وعدم القدرة على الصيانة بسبب التكاليف الباهظة والحصار الاقتصادي، إلى جانب النقص الفادح في المحروقات والكهرباء.

إعادة بناء العلاقة ما بين الداخل والخارج

إعادة بناء العلاقة ما بين الداخل والخارج

يكشف الواقع السوري الراهن أزمة بنيوية حقيقية وعميقة ما بين السوريين والسوريات في داخل البلاد وخارجها (دول اللجوء). هل ثمة ضرورة لتسليط الضوء على هذه الأزمة! أم سنفعل ما درجنا عليه دوماً وهو الهروب إلى الأمام تحت ذرائع مختلفة مثل الحفاظ على وحدة العائلة والمجتمع! أو ضرورة الحفاظ على التلاحم مهما كان شكليا!

هل ينتمي ما أناقشهُ هنا إلى خانة النم، الغيرة، التشكيك، الحسد، الإدانة، الفذلكة! لا أدري أبداً لأن كل عرض مرتبط بردود فعل مختلفة، وعدم الدراية هنا ليس بسبب نقص المعرفة أو غياب الحقيقة، بل يعود لسبب جوهري وأصيل، وهو انكفاء السوريين والسوريات عن مواجهة الواقع بصورة جمعية؛ وانكفاء المختصين عن خوض غمار عمل قد تصنفه الغالبية في خانة نكث الأخطاء وربما الأحقاد؛ وقد يعتبره البعض عملاً خطيراً قد يدمر البنية المجتمعية التي يتوافق الجميع على ادعاء صلابتها وتماسكها وربما تجانسها! إذن هي ضرورة على الرغم من عدم ضمان النتائج، هي ضرورة تبدو آنية لكنها صادمة ونتائجها منفرة للغالبية ومرفوضة أيضاً، لكن جدياً فقد آن الاوان لكبس الملح على الجرح علّ تلك الصرخة تجد طريقها نحو التشكّل والإعلان.

على أحد مواقع التواصل الاجتماعي مجموعة لسوريات يعشن في ألمانيا، تبدو رسائلهن المتداولة بعيدة كلياً عن اهتمامات سوريات الداخل، مشاكل الأطفال في دور الحضانة والمدارس، مشاكل تعلم اللغة، لكن الأكثر جلبا للإدانة! أجل الإدانة من أهل الداخل، هي الأسئلة عن مواقع بيع الألبسة الأنيقة، مواقع تسوق الإكسسوارات والحلي الجميلة عبر الإنترنت، ويبدو أن الأكثر مدعاة لإثارة النعرات! أجل نعرات! قد يصح تسميتها نعرات بينية، هي الأسئلة عن بطاقات السفر وأفضل البلدان الأوروبية أو المدن الداخلية لقضاء الإجازات! هنا يفلت الحبل المشدود بقسوة ويتعالى القهر، تفلت الغيرة الكامنة من عقالها، ويعلو صوت الاتهامات بالتقصير والجحود.

فكيف لشعب إن صح التوصيف يعتبر التنزه في حدائق جدباء وكأنه نزهات في غابات خضراء ومنعشة أن يتقبل كل هذا الفرق في نمط الحياة! حتى قبل الحرب كانت المسابح مستحيلة وحلم الغالبية وخاصة الشباب والأطفال والطفلات والشابات. البحر وشواطئه مشروع قد يتحقق كل عشر سنين مرة واحدة، أما ركوب الطيارة فهو غصة خانقة بعدها صمت مطبق مغطس بالقهر.

تبدو القضية إذن مغرقة في القدم والحرمان متأصل في الوجدان العام وفي تفاصيل الحياة اليومية، المقاربة هنا لا تنتمي أبداً إلى مفاهيم أو معايير جودة الحياة أبداً، بل تنتمي بشكل مباشر إلى فعل الحياة أو العيش إن صح التعبير.

من نافل القول التأكيد على أن ما يجري يعبر فعلياً عن معارك مؤجلة بين طرفين متناقضين، والتناقض هنا في نوع الحياة وشكلها وفي تفاصيل العيش وليس بين البشر، التناقض هنا برسم المكان والزمان لا برسم الأشخاص حتى وإن كانوا أبناء أو إخوة أو أصدقاء أو أزواجاً أو أحبة.

قد يكون أهل الخارج محقين تماماً في ضيقهم وانزعاجهم من آلية التعامل معهم من قبل أهلهم أو شركائهم أو أصدقائهم في الداخل، لدرجة تبدو العلاقة وكأنها مع صندوق مالي على أهل الخارج ملأه دوما لتزويد أهل الداخل بكل ما يطلبونه.

تتغير العلاقة وتتحول إلى نمط جديد استهلاكي مفرط في أنانيته ومتكل على طرف واحد، فقط بذريعة أنه الأكثر وفرة، نمط غير تبادلي أبداً حتى دون أي وعد بسداد الممنوح أو جزء منه، أو التعويض بأساليب استرضائية قد تكون غير مالية، هنا تحديداً يكمن الخلل! طرف محروم من كل شيء وطرف يملك ما يستحقه أو ما يحصل عليه بعرق جبينه وبصورة شخصية بحتة، وهو فعلياً يحتاجه للعيش، لكن بنظر الآخر البعيد المقيم في بلاد الحرمان والعوز وفقدان الأمن النفسي والصحي والغذائي، فإن أهل الخارج محكومون بتقاسم ما يجنونه مع أهل الداخل. يقول جورج: “العشرة يورو لا تفعل شيئاً هناك، لكنها بالنسبة لي قد تكون كافية لشراء كيلو من اللحم يكفيني لإعداد عشر وجبات أو أكثر!” المصيبة هنا أن من يعيش في الداخل ينشئ حساباته على مقدار حاجته، على ما يعجز عن جمعه أو تأمينه، العلاقة هنا باتت فخاً خطيراً، والإجابات غير كافية أو مقنعة، يسود منطق الحاجة على منطق الحقوق وتتحول العلاقة إلى ما يشبه الصراع، ويمكن القول إنه صراع حقوق بكل ما في الكلمة من معنى.

على إحدى الصفحات أيضاً، تسخر إحداهن من الطلبات المتكررة لقريباتها بشراء كريمات واقية للشمس أو مغذية للبشرة ومن ماركات جيدة، السخرية هنا لا تتعلق بالعاطفة أبداً، بل بالجغرافيا تحديداً، على أهل الداخل الاكتفاء بأسوأ الكريمات، تماهياً مع واقعهم وتفاصيل حياتهم السيئة!

 يتم هنا توجيه رسالة ربما تكون غير مقصودة، تقول الرسالة: “إن جودة الكريم تتناسب طرداً مع المكان، ومع الجنسية!” يا لها من صدمة واقعية ومتجددة؟ وقد تقول إحداهن بلهجة الخبيرة الواقعية والمتمرسة: “زيت الزيتون البلدي هو الأفضل، في إشارة إلى نظرية الجود من الموجود!” وكأن الشعب السوري بكامله قادر على تأمين زيت الزيتون الأصلي والصحي والشافي لكل الأخاديد التي تركها العمر الملطخ بالحرب.

قضية العلاقة ما بين الداخل والخارج قضية مركبة، أطرافها كثر والمتأثرون بها كثر أيضاً، لذلك غالباً ما يتم الرد على أحد إشكالاتها بطريقة متذمرة وقاسية. تقول نوال عن تجربتها: “يتعامل معي أهلي وكأنني بحر لا تجف أمواله!” هي محقة في ذلك طبعاً، لدرجة أن أمر إرسال المال إلى أهلها بات عبئاً مادياً ونفسياً خانقاً. وتحاول نوال التخفيف منه بمباعدة الاتصال مع أهلها كي لا تتعرض يومياً لنفس الأسئلة ولنفس المطالب. تحاول عبثاً إرسال رسائل مفادها أن ساعات عملها طويلة وبأنها مثقلة بالأعباء والوقت ضيق والمناخ البارد يؤثر على طاقتها ولياقتها النفسية وبأنها مضطرة لتنفق كما ينفق زملاؤها وجيرانها لتثبت حضورها بينهم. لم تنفع كل تلك المحاولات ولم يصدقها أحد حتى حين أرسلت لهم بالورقة والقلم كما يقال الفروقات السعرية الكبيرة نتيجة ارتفاع الأسعار الذي طرأ على أوروبا خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وفي الحقيقة لا أحد يريد أن يصدقها، فحجم الاحتياج يتضاعف في سوريا والعجز يتضاعف والحل الوحيد هو في نوال شخصياً دون أي تعاطف، وربما بلا أدنى شكر أو تقدير من أهلها وذويها وبعض صديقاتها الذين باتوا كلهم شركاءها الفعليين في أجرها.

الخيبة قاسم مشترك بين الجميع فمن يبددها؟ لا أحد! واعتماد أهل الداخل على أهل الخارج مرده بشكل أساسي هو عدم إيمانهم أو قناعتهم بأن أحداً ما سيكترث لأمرهم في الداخل. لا موارد كافية والغلاء صار بعبعاً متوحشاً والمرض وكلفته العالية وفقدان السكن والأمان كلها عوامل تشعل نار العوز وتثقل أكتاف الجميع. وإن طالب أهل الخارج أهلهم في الداخل بعمل إضافي لتأمين دخل إضافي ستكون النتيجة هي التشكيك بالعاطفة والمزيد من الشكاوى وحكايات الظلم المتجدد، والتدخل في تفاصيل حياة الممنوحين من قبل المانحين بات تهمة وبات مصدراً جديدا للتناحر والغضب والسجالات ما بين أفراد الأسرة الواحدة، بغض النظر عن سؤال الحقوق وأسئلة الواجب والارتباط والمسؤولية.

 “كل شيء ضاق حتى ضاع،” هي العبارة التي تصف الواقع بصدق، ضاعت الطمأنينة والوفرة والمحبة جراء الضيق المتكامل والشامل للجميع. والخلل الذي أصاب العلاقات المجتمعية والأسرية تحديداً بات عصياً على الحل، الكل يطلب من الكل، والكل عاجز عن الاكتفاء بما لديه أو تأمين الكفاية لسواه. وحين يصبح العجز المتبادل أساساً للعلاقات، يتحول العجز إلى عقم عاطفي ونفسي وتشاركي.

 إن إعادة بناء العلاقة ما بين الخارج والداخل وتنظيم أسس الدعم المادي هي قضية مؤرقة، قد تجد بعض الحلول إن تمكن ابن من تأمين فيزا لأمه الوحيدة أو (وللأسف) قد يكون الخلاص بموت الأهل أو مقاطعة صديق أو صديقة بصورة نهائية نتيجة العجز غير القابل للمناورة أو التفاهم أو الحل. وإن حمّل البعض الزمن إمكانية توليد حلول أو استنباط آليات تخفف العجز، فإن الزمن يجيء بالمزيد من الأحمال الثقيلة ومن الأزمات الجديدة والمستجدة لا غير.

من سيبني سوريا والبطالة تهيمن على حياة شبابها!

من سيبني سوريا والبطالة تهيمن على حياة شبابها!

“العمل؟ اعمل؟ فرص؟، لا، لا، هذا لا يوجد في سوريا الجميلة، هنا تصل ليلك بنهارك، وتشحذ أنت وأهلك لتتخرج من الجامعة ثم أكبر عملٍ تقوم به هو أن تختار الجدار الأفضل في منزلك لتعلق شهادتك الجامعية عليه”. بحسرة بادية على وجهه يشكو المهندس المعماري علي غنوم (الذي تخرج قبل أربعة أعوام ولا زال دون عمل حتى الآن) من هذا الوضع خلال حديثه مع “صالون سوريا”. يحاول أن يخفي حسرته بابتسامة يبدو تعليلها ممكناً في السياق النفسي للسوريين الذين ذاقوا مرارة عيشٍ لم يشهده تاريخهم الحديث.

جيلا الثمانينيات والتسعينيات وجدا نفسيهما في مهب ريحٍ عاتية لم تسمح لهما بالحلم أساساً، ومن تمكن من خلق حلم لنفسه، لم يستطع تحقيقه.

من نافلة القول إنّ البلد التي ترزح تحت وطأة حرب غير مسبوقة دمرت معها أجيالاً كاملةً بمفاهيمها وعلومها وقدرتها على التغيير، وإن كانت نيّة التغيير تلك قائمة، ولكنّ ظروفاً أشد حجبتها وأرسلتها نحو عوالم يحكمها تأجيل المراد.

لم يكن الطريق أمام “صالون سوريا” صعباً خلال البحث بملف البطالة المتنامية، ولكن ما عقده هو احتدام التفاصيل المتشابهة بين أولئك العاطلين، فالجميع يملك القصة نفسها والأسباب والموجبات والشروط التي قادت إلى هذا الحال، ليصبح الخوض في الموضوع متطلباً لبحث أكثر تركيزاً لقراءة يوميات الناس بتأنٍ يكون معادلاً لحجم عذابهم في تأمين لقمة عيشهم.

لقمة مغمسة بالدم

مريم اسم مستعار لشابة من دمشق تخرجت قبل أعوام من كلية الآداب، قسم الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، سعت بصورة يومية متواصلة لتأمين فرصة عمل تواكب اختصاصها، ولكن دون نتيجة، حتى تمكنت من الظفر بوظيفة سكرتيرة في إحدى الشركات الخاصة.

تقول مريم عن تجربتها: “كانت رحلة بحثي عن العمل مضنية، فيها من الذل والمصاعب والبشاعة الكثير، ولكن لا بد أن أعمل، أولاً أنا خريجة جامعية، وثانياً أنا وأسرتي نحتاج المال مثل كل أسرة في هذا البلد، علينا أن نعين بعضنا لئلا نموت من الجوع، حقيقةً لا أدري إن كنا متنا من الجوع أساساً، لكني أعرف جيداً أنّ الدمعة التي لا تفارق عيني أبي لأنّه لا يستطيع إطعامنا تعادل كل قهر الكون”.

رغم أنّ مريم وجدت فرصة عملٍ، ولكنّ الأمور لم تسر لاحقاً على ما يرام، وبالمناسبة فقلةٌ من السوريين يعملون باختصاصهم الأكاديمي، وهذا كان حال مريم، وعملها ذاك ظفرت به بعد أن أكلت شوارع دمشق من قدميها لشدة ما مشت وتنقلت وبحثت حسب وصفها؟

بعد أقل من شهرٍ تعرضت مريم للتحرش اللفظي والجسدي من قبل مديرها في العمل، انهارت أعصابها وقتذاك كما تشرح لنا، وعانت الأمرّين، وحوصرت بين نارين، نار مرارة الحاجة للعمل، ونار صعوبة إبلاغ أهلها بما حصل، وفوق ذلك كرامتها التي هدرت على مذبح الراتب الشحيح.

وتصف معاناتها: “في الفترة الأولى كان يتعامل معي بشكل أخوي ومهذب جداً، وفجأة حاول الاقتراب مني ولا أريد الحديث بالتفاصيل، حصل ذلك في مكتبه، خرجت باكيةً ورحت هائمةً على وجهي في الشوارع، أنا الآن خائفة، خائفة كثيراً، خائفة من أي عمل آخر ومن الناس”.

استعباد مهني

تبدو رواية قصة مريم ضروريةً في السياق، فأحياناً تتخطى المشكلة نفسها، وتتجاوز حدودها المنطقية وتتعداها لتصل إلى تبعاتٍ تشكل عقداً نفسيةً مستحدثةً تصيب الباحثين عن العمل، أو الظافرين به. أليس غريباً أنّه حين يُسأل أي سوريٍّ عن عمله، يقول إنّه غير مرتاح؟.

قد يبدو الأمر شمولياً في طرحه بهذه الطريقة ولكن في الحقيقة إنّ قطاعات العمل المتنوعة على قلتها في الداخل السوري لا تؤمن ارتياحاً وظيفياً للعامل، فهناك مشاكل لا حصر لها تواجه العاملين، ليس بدءاً من الراتب الذي يعادل متوسطه الشهري نحو 11 دولاراً وصولاً لمشاكل الإدارات القائمة على الأعمال والشركات والمؤسسات والصراعات الوظيفية المطردة، مروراً بشروط الاستعباد المهني، وعدم التقدير، وغياب العدالة، ومشاكل التأمينات الاجتماعية.

وفوق ذلك القانون الذي يتعامى عن ضبط السوق الضيق لحماية حقوق موظفيه على صعيد القطاع الخاص الذي يعاني موظفوه أكثر من القلق الوظيفي حيث أنّ غالبية العاملين لا تبرم معهم عقود واضحة تضمن حقوقهم.

إجحاف وظيفي

هناك شركات رائدة كمثل شركة مابكو للأجهزة الخلوية والصيانة تجعل موظفيها الجدد يوقعون على أوراق ومستندات فارغة، وتلك المستندات كفيلة بسجنهم لسنوات. القائمون على العمل يرون في ذلك الإجراء حماية لحقوقهم هم من السرقة والإساءة والخيانة المهنية، أما عن حقوق موظفيهم، فلا إجابة!.

وثمة شركات كبرى أخرى تجبر الموظف على توقيع استقالته في يومه الأول بالعمل وترفقه ببقية الأوراق لتتمكن لاحقاً، في أي وقت، من الاستغناء عن موظفها دون مشاكل، ضامنةً ألّا يطالب بأيٍّ من حقوقه التي تنازل عنها سلفاً باستقالته المسبقة.

هذان الإجراءان على الرغم من إجحافهما وعدم قانونيتهما وإمعانهما في الإساءة الوظيفية للعاملين، يبدوان اليوم مقبولين جداً دون اعتراضات تذكر لدى المتقدمين للوظائف.

القبول بأية شروط

فايز الحسين (خريج قسم التاريخ وموظف سابق في شركة لا يرغب بذكر اسمها لأسباب خاصة) كان قد وقّع على أوراق فارغة واستقالة مسبقة.ويشرح فايز ظروفه: “كنت مضطراً للقبول بذلك، ثلاثة أعوام بعد التخرج ولم أظفر بعمل، هذه الظروف تتكاتف عليك لتقودك نحو خيارات غير آدمية وعليك أن تقبل بها أو أن تظل في منزلك لتسند جدرانه وتستدين ثمن الدخان من الناس”.

خرج فايز من الشركة بعد أكثر من نصف عام لعدم تمكنه من الانسجام بعد أن أعطى نفسه عدة فرص، وخرج دون أية حقوق أو امتيازات أو تعويضات، وكان يعرف ذلك سلفاً، ويستدرك قائلاً: “الشركات السورية لو تستطيع لكانت أخذت منا المال أيضاً بدل أن تعطينا”.

دراسات تبدو وهمية

توقفت إحصاءات الموقع الرسمي لمركز الإحصاء السوري (التابع لرئاسة مجلس الوزراء والمعني بتقديم بيانات وإحصائيات تتعلق بمجالات متعددة من بينها تعداد السكان والنمو الاقتصادي والسياحة والبطالة وغيرها) عند الفترة الممتدة ما بين 2001 و2011. وهذا بحدّ ذاته يثير الاستغراب على اعتبار أنّ المركز يصدر إحصائيات بين وقت وآخر، ولكن ليس على موقعه الرسمي المعني بذلك أساساً، إحصائيات متباعدة زمنياً والعثور عليها يتطلب بحثاً معمقاً عبر محركات البحث على الانترنت.

بعد بحث مضنٍ توصل “صالون سوريا” لدراسة أصدرها المركز العام الماضي تتحدث عن انخفاض كبير في نسبة البطالة التي تراجعت من 31.2 عام 2019 إلى 20.9 بالمئة عام 2020، وهي الدراسة الأخيرة التي صدرت عن المركز في هذا الشأن، ولكنّ ما جاء فيها من أرقام يبدو غير منطقي بالنسبة لاقتصاديين كثر، سيما أنّ المركز قال في وقت سابق إنّ ذروة البطالة كانت في عام 2015 ووصلت حتى 50 بالمئة.

لا أحد يدري كيف وصل المركز إلى هذه الأرقام، وعلى ماذا بنى في استنتاجاته ومسحه إن كان أجراه فعلاً، فخريجو الجامعات صاروا أكثر عدداً من أن يستوعبهم سوق العمل مهما أجريت عليه من تعديلات وتحديثات وهي لم تجرَ عملياً.

يكفي في هذا الإطار الاستدلال بخريجي كلية الإعلام كأنموذج، فالكلية على مدار سنوات الحرب كانت تخرج مئات الطلبة، بيد أنّ في سوريا قناة واحدة تتبع للقطاع الخاص، فعملياً مجموع كل القنوات بين خاص وعام في سوريا هو 6 قنوات، مع عدد قليل من الإذاعات والمواقع الإلكترونية والصحف الرسمية، إذن، خريجون جامعيون في تخصص لا سوق عمل له عملياً، وعلى هذا يمكن القياس.

يقبلون بأيّ عمل

يعمل أحمد معتز (خريج كلية الاقتصاد) محاسباً في سوبر ماركت صغير بدمشق، يجد أنّ عمله لا يتماشى بأي شكل مع طموحه، ويبدو هذا طبيعياً، فلا شك أنّ أحمد لم يدرس الاقتصاد أكاديمياً ليعمل محاسباً في محل صغير. ورغم ذلك، فهو عانى كثيراً حتى وجد هذا العمل الذي اضطر لقبوله في ظلّ شح فرص العمل بل وشبه انعدامها أحياناً، بحسبه.

ومثله سمية مؤنس الحائزة على درجة الماجستير في الأدب العربي، بيد أنّها تعمل في مجال المبيعات في محل ألبسة لقريبها، تقول سمية: “لم أجد عملاً يتوافق مع اختصاصي ولا حتى لا يتوافق معه، أقصد عملاً جيداً، وتحت اشتداد ظروف الحياة والقهر المعيشي كان لا بدّ أن أعمل بأي شيء”.

وعلى سوء حال أحمد وسمية إلّا أنّ حظهما يبدو أفضل بكثير من آلاف الخريجين الجامعيين الذين لم يجدوا عملاً رغم تخرجهم منذ سنوات. وهذا حالٌ عام في سوريا، فالسوق الضيق مكتظٌ لدرجة الانغلاق، أقلّه أنّ الحرب جعلت ذلك السوق عاجزاً عن تلبية متطلبات الدارسين مهنياً، وإلّا ما الذي كان سيدفع كل تلك الأعداد من الشبان والشابات للهجرة براً وبحراً وجواً!

هذا كلّه دون الحديث عن غير الخريجين الجامعيين، أولئك الذين لسبب أو لآخر لم تتح لهم الظروف إكمال تعليمهم، وهو حال قائم كنتيجة ضرورية للحرب القاسية، أولئك الأشخاص لا سوق عمل لهم من الأساس، باستثناء المصالح المهنية التي يمكن أن يشغلوها، ورغم ذلك، فتلك المصالح حتى وصلت حالاً متردياً لا يمكن التعويل عليه.

توزيع الثروات بعدل

تبدو العقوبات الغربية كمثل قانون قيصر وغيره إضافة إلى سوء إدارة الملف الاقتصادي حكومياً والتشعب الميداني والسياسي في الملف السوري وفقدان سوريا لمقدرات اقتصادية أساسية، كلّها عوامل أسهمت في صياغة الواقع الحالي على الأرض، والذي انعكس بطالةً متناميةً في ظلّ معدل تضخم غير مسبوق وتراجع هائل بمستوى التنمية، أشياء دفع ثمنها جيل سوريا الشاب.

لا يمكن الحديث عن البطالة دون الحديث عن الأثر النفسي المصاحب لها، والذي جعل المجتمع السوري أكثر ألماً مع تتالي السنوات، فمن كان يتوقع أن يعمل مهندسٌ على بسطة لبيع الملابس! حصل ذلك مع المهندس جابر الخير ولتكتمل معه مشهدية الغرابة في بلده أزيلت بسطته ضمن قرار إزالة البسطات الذي نفذته محافظة دمشق في العاصمة مطلع شهر أيار/مايو الفائت.

وما بين عامل بغير اختصاصه وباحث عن عمل روايات كثيرة تحكى، روايات عنوانها: نريد أن نشعر بمواطنتنا وبالقليل من حقوقنا أمام ذاك الكمّ الهائل من الواجبات، ومع ذلك الشعور مطالب يصفها أصحابها بالأحلام، مطالب على شكل توزيع الثروات بعدلٍ أمام كل ما يكتنزه أمراء الحرب من امتيازات وثروات.

سورية ما بعد الزلزال: معضلة إعادة إعمار الممتلكات الخاصة 

سورية ما بعد الزلزال: معضلة إعادة إعمار الممتلكات الخاصة 

في شباط/فبراير الماضي، ضرب زلزال مدمر جنوب تركيا وشمال سورية بقوة 7.7 درجات، تلاه آخر بقوة 7.6 درجات، ما أودى بحياة أكثر من 50 ألف شخص في البلدين.

فاقمت الكارثة الطبيعية معاناة سكان سورية بعد أكثر من عقد على اندلاع الصراع المسلح، حيث ألحق الزلزال أضراراً بالبنى التحتية إلى جانب الممتلكات الخاصة بالمواطنين، وما زالت مسألة تأمين المأوى تؤرق بال الذين خسروا منازلهم في المحافظات المنكوبة، ورغم تقديم حكومات وجهات رسمية وأهلية عربية وأجنبية منازل مؤقتة مسبقة الصنع للعائلات إلا أنها ليست بديلاً عن المساكن الدائمة في ظل أزمة اقتصادية وتضخم عام في أسعار مواد البناء والإكساء.

وأعلنت “اللجنة العليا للإغاثة” في الحكومة السورية خلال اجتماعها بتاريخ 2 آذار/ مارس الماضي أن عدد الأسر المتضررة المسجلة بلغ 91,794 أسرة، وبلغ عدد المباني غير الآمنة للعودة وغير القابلة للتدعيم 4,444 مبنى وعدد المباني التي تتطلب تدعيماً لتصبح آمنة 29,751 مبنى، أما عدد المباني الآمنة وتحتاج إلى صيانة فوصل إلى 30,113 مبنى، في حين هُدم 292 مبنى آيلاً للسقوط. (وكالة “سانا” الرسمية للأنباء).

قيمة الأضرار والخسائر

وأصدر “البنك الدولي” تقرير التقييم السريع للأضرار والاحتياجات الناتجة عن الزلزال في سورية (آذار، 2023)، حيث قدر البنك إجمالي قيمة الأضرار والخسائر بـ 5.2 مليار دولار أميركي. 

ويتصدر قطاع الإسكان قائمة القطاعات المتضررة (24% من إجمالي الأضرار)، تليه قطاعات النقل والبيئة والزراعة. تعرّضت محافظة حلب لأكبر قدر من الأضرار (44% من إجمالي الأضرار)، تلتها محافظة إدلب (21%). وجاءت مدينة حلب أيضاً على رأس قائمة المدن الأشد تضرراً، إذ بلغ نصيبها نحو 60% من مجموع الأضرار، ثم اللاذقية (12%)، وأعزاز (10%). ويُقدِّر التقييم احتياجات التمويل لإعادة الإعمار والتعافي في المحافظات الست المشمولة بـ7.9 مليار دولار أميركي.

وفي سياق متصل، كشف تقييم الأمم المتحدة لاحتياجات تعافي سورية من الزلزال في أيار/مايو 2023 أن إجمالي الأضرار والخسائر وصل إلى قرابة 9 مليارات دولار، وأن هناك حاجة لحوالي 15 مليار دولار للتعافي في المناطق المتضررة. 

من جهتها، أعدت “اللجنة الفرعية للإغاثة” في محافظة حلب تقريراً أولياً في أعقاب الزلزال. وأشار التقرير (تقرير غرفة عمليات محافظة حلب) في 17 شباط الماضي إلى أن عدد الأفراد المتضررين بلغ حوالي 65 ألف فرد، وتهدم 54 مبنى أثناء الزلزال، بينما هُدم 220 مبنى بسبب الزلزال في أحياء مختلفة من حلب، ووصل عدد المباني غير الآمنة لكنها قابلة للإصلاح إلى 2,287 مبنى، في حين ذكر التقرير أن عدد المباني غير القابلة للإصلاح ويجب هدمها بلغ 306 مبنى، وفي الوقت ذاته انتقلت حوالي 13 ألف أسرة إلى 188 مركز إيواء.

معضلة التمويل!

وافق “مجلس الوزراء” في آذار الماضي على مذكرة وزارة الأشغال العامة والإسكان لتأمين أراض بهدف بناء مساكن في محافظتي حلب واللاذقية تعود ملكيتها للمؤسسة العامة للإسكان والمجالس المحلية في المحافظتين، طبقاً لموقع المجلس على الإنترنت.

وفي هذا السياق، ترى وزيرة الاقتصاد السابقة في الحكومة السورية لمياء عاصي خلال حديث مع “صالون سوريا” أن تأمين التمويل اللازم لتعويض المتضررين مسألة صعبة، وتحتاج إلى جهود مشتركة من الحكومة والمجتمع المدني والمؤسسات المالية والتنموية المحلية والدولية، ولا يمكن أبداً الاعتماد على ما تخصصه الدولة في موازنتها العامة، لأن العجز المالي يشكل حوالي 30%، فضلاً عن نقاط ضعف كثيرة تعاني منها الموازنة ذاتها.

وصدر مرسوم تشريعي رقم 3 لعام 2023 يقضي بمنح إعفاءات خاصة للمتضررين من الزلزال تشمل الضرائب والرسوم المالية وبدلات الخدمات والتكاليف المحلية، ورسوم الترخيص على أعمال إعادة البناء أو التأهيل الكلي أو الجزئي لمنشآتهم ومحالهم ومنازلهم وأبنيتهم، حتى 31 ديسمبر/كانون الأول، 2024. وبموجب المرسوم، تمنح المصارف العامة قروضاً لمدة عشر سنوات للراغبين من المتضررين بمبلغ لا يتجاوز مائتي مليون ليرة سورية، وتسدد على أقساط يستحق أولها بعد انقضاء ثلاث سنوات على منح القرض. 

تعتقد عاصي أن القروض المعفاة من الفوائد والرسوم -حسبما وردت في المرسوم- خطوة جيدة في حالة تضرر المباني بشكل جزئي، لكنها لن تكون كافية في حال إعادة البناء بشكل كلي.

وتوضح عاصي أن القروض تصبح مجدية إذا تجاوبت المصارف بشأن منح القروض دون اشتراط الملاءة المالية (ضمانات)، حسب المادة 13 من المرسوم، لأن كثيراً من أصحاب الأملاك الخاصة سيفشل بتقديم مثل تلك الضمانات غالباً، حيث لم يرد صراحة أي نص يفيد بأن الخزينة ستتحمل خسائر العجز عن السداد أو ما يسمى بالقروض المتعثرة.

ولا تخفي الوزيرة السابقة خشيتها من ارتفاع أسعار مواد البناء والإكساء بشكل مستمر، ما يعني انخفاض القدرة الشرائية للقروض الممنوحة بشكل سينعكس سلباً على عمليات الترميم وحتى البناء.

صندوق مالي

وصدر مرسوم رقم 7 لعام 2023 بإحداث صندوق وطني لتقديم الدعم المالي للمتضررين من الزلزال، وحددت موارده المالية من الاعتمادات التي ترصد له في الموازنة العامة للدولة، والمنح والإعانات والهبات والوصايا والتبرعات والمساهمات المالية ذات الطابع المحلي والدولي التي تقدمها الدول والمنظمات والاتحادات والنقابات والصناديق والهيئات والمؤسسات والشركات والأفراد وفق القوانين والأنظمة النافذة، وكذلك الفوائد المصرفية لإيداعات الصندوق أو أي موارد أخرى يوافق عليها المجلس وفق القوانين والأنظمة النافذة، وقدم المرسوم تخفيضات ضريبية للمتبرعين من المكلفين بالضرائب.

وحول هذه النقطة، تشير عاصي إلى أن المأخذ الرئيسي على الصندوق هو أن إدارته حكومية بنسبة كبيرة، في حين أن المحفزات التشجيعية لاجتذاب تبرعات رجال الأعمال غير كافية ومرنة.

تعد عاصي القروض المتاحة للمتضررين والمعفاة من الفوائد وتتكفل بفوائدها الخزينة العامة للدولة، خطوة جيدة إلا أنها غير كافية لحل المشاكل الناجمة عن الأضرار والخسائر التي سببها الزلزال، لذا فإن القروض الإنسانية التي تمنحها المؤسسات المالية التنموية الدولية قد تشكل طريقاً آخر في سبيل تأمين التمويل اللازم لتعويض للمتضررين. 

قوائم أولية

أصدرت “محافظة حلب” في أيار الماضي الجدول الأول المتضمن أسماء المتضررين الذين انهدمت مبانيهم وعقاراتهم، ثم أتبعته بجدول ثان في حزيران.

وعلى غرار حلب، نشرت “محافظة اللاذقية” قائمتين بأسماء المتضررين في بعض العقارات التي تهدمت كلياً أو جزئياً أو التي أقرت لجان السلامة العامة أنها متصدعة وبحاجة إلى هدم أو تدعيم. 

تقترح وزيرة الاقتصاد السابقة لمياء عاصي تقديم القروض الإنسانية من قبل المؤسسات المالية والتنموية الدولية مثل القروض والبرامج التي يطلقها “صندوق النقد الدولي” وغيره، كالصندوق الائتماني للنمو والصلابة، وهو برنامج لمنح قروض للدول المتضررة من الكوارث الطبيعية بشروط ميسرة وفائدة منخفضة، وقد تكون فائدة صفرية وفترات سداد طويلة الأمد، ويمكن استخدام هذه القروض لتغطية جزء من التكاليف المطلوبة لتعويض المتضررين.

الأمومة واقع جديد واحتفالات مشتتة

الأمومة واقع جديد واحتفالات مشتتة

 تغيرت الصورة، يبدو المشهد العام مشوشاً، والأمهات يقفن على أعتاب القهر بصمت شديد، باتت الأمومة مخلباً يجرح القلوب ويوقظ ذاكرة القلب الموجوع بالغياب، فينساب التعب ملوثاً بشوق عصي على الاستجابة.

طالما كان عيد الأم مناسبة لهدية مميزة، ضخمة وغالية الثمن، ولطالما سعى الأبناء والبنات وبمشاركة الزوج أحياناً لشراء هدية جماعية وإن سعى البعض لشراء الذهب حسب مقدرتهم. لكن الغالبية توافقت فيما يشبه العرف على شراء هدية منزلية مثل طقم من القدور أو غسالة أو مجموعة كبيرة من الصحون وأدوات المطبخ.

تلعب الصورة النمطية لأدوار النساء الاجتماعية دوراً بالغاً في تضمين عيد الأم لمعنى وشكل الهدية، هي هدية تبعية متضمنة حكماً للقالب الاجتماعي التوصيفي لمهام النساء، كالطبخ والتموين وإعداد الولائم في المناسبات العائلية والغسيل وسواه من أدوار الرعاية المنزلية. المؤسف أن الهدايا رحلت مع البيوت وبقي الدور الوظيفي للنساء كما هو بفارق بسيط لكنه مؤلم وهو تشتت شمل العائلة. رحلت البيوت بهداياها وما ابتلعته الحرب أكمل عليه الزلزال، وما تبقى من البشر بعد قضم الحجر ابتلعته الهجرات.

تحتفل الأمهات اليوم بأعيادهن على شاشات الهواتف الجوالة، يستقبلن أحفادهن الذين ولدوا بعيداً جداً وخارج أسوار البلد العصي على استقبالهم على شاشات الهواتف الجوالة أيضاً. أعراس الأبناء والبنات، نجاحاتهم واحتفالات تخرجهم، رحلاتهم، مواعديهم العاطفية، وحتى لقاءات الأخوة والأخوات ببعضهم في بلدانهم الجديدة المختلفة تتابعها الأمهات عبر الشاشات الموصوفة بالذكاء والغارقة في الهجران والقسوة والاغتراب.

يتعامل الأبناء مع المستجدات اليومية بعين حذرة، يعرفون كل ما يحدث في بلدهم، أخطاء طبية بالجملة، فقدان الدواء، عجز الأمهات الجلي والواضح عن تأمين احتياجاتهن اليومية بسبب الغلاء أولاً وبسبب تردي أنواع الخدمات المقدمة وغياب أهمها كالكهرباء والماء والمواصلات.

قررت سمر أنها ستهدي أمها في يوم عيدها دعوة إلى الغداء تجتمع فيه مع شقيقاتها. يعتقد الأبناء والبنات أن تلك الدعوة هي هدية مميزة وغير تقليدية وتسعد الأمهات، لكن الأمهات لا يفكرن بالدعوات ولا يرغبن بها، يردن لقاء حقيقياً، احتضاناً شغوفاً واقعياً يمتزج فيه الجسد بالجسد وتحدق العيون بالعيون وتسمع الآذان صوت الأنفاس وصدى العواطف، باتت جملة: (المهم أنتم بخير) كذبة كبيرة ملت الأمهات من ترديدها وملّ الأبناء والبنات من سماعها.

بالأمس حصلت مرام على قسيمة تموينية بقيمة مائتي ألف ليرة كهدية مسبقة لعيد الأم من شقيقها المقيم في ألمانيا، لم تفرح بها لأنها لا تغني عن جوع تعانيه مرام مع طفلها الوحيد، تسكن في منطقة بعيدة جداً عن مركز المدينة، والمواصلات متقطعة، ما اضطرها لمغادرة بيتها في الثامنة صباحاً لتتمكن من الوصول والعودة قبل العتمة وقبل توقف المواصلات بسبب البعد وشح المازوت، اصطحبت معها طفلها، وفي مركز استلام مواد القسيمة، أعلنت لطفلها أنه حر في اختيار كل ما يشتهيه، تركت له حرية اختيار المواد التي تغطيها القسيمة، وكأنها تمنحه تعويضاً عن قسوة الحياة والحرمان الذي يعيشه. حدثٌ سيقول الجميع بأنه خاطئ ومفرط في عاطفيته وسذاجته، لكنه محاولة بائسة لإسعاد طفل محروم من الأب ومن السند العائلي ومن الأساسيات الضرورية للعيش ولتنشئة طفل ضئيل الحجم وبلا مدرسة أو رعاية وفاقد للاحتياجات الأساسية.

ثمة عنف جديد يحاصر الأمهات، في مراكز الإيواء التي ضمت الأمهات وأطفالهن الهاربين من الزلزال بعد فقدان المنازل أو تصدعها، تحولت الأمهات إلى مشاجب تحمل أخطاء أبنائها في بيئة محصورة وضيقة وخانقة. تم تأطير النساء هنا وخاصة الأمهات بأطر تقييمية قاسية يفرضها الأقوى والمتحكم بالمكان. ارتبطت كل الأخطاء بالأمهات حكماً، من بكى ابنها فهو طفل لم تضبط أمه مشاعره ولم تقوّم سلوكه كما ينبغي كي تحوز على رضى المجتمع، ومن بكت من الأمهات وصفت بأنها امرأة عاطفية وضعيفة وهشة وغير جديرة بأن تكون أماً مسؤولة عن حماية وتربية أبنائها وبناتها. ومن سرق طفلها قطعة من البسكويت أو تفاحة أو ضرب طفلاً آخر وصفت الأم بأنها هي من علمته أو دفعته للسرقة أو للاعتداء على طفل آخر.

ثمة واقع جديد تفرضه تفاصيل العيش غير الآدمية التي يعيشها الأبناء والأمهات معاً. في الحافلة الصغيرة تجلس أم وابنتها التي ولدت طفلاً مريضاً ويخضع الآن للعلاج في المنفسة، بدلاً من تهدئة الابنة تعبر الوالدة عن فرحتها بأنهم وجدوا جمعية تتبنى علاج الطفل لعجزهم عن علاجه. تقول الأم لابنتها: “الحفاضات من نوع ليبرو، وهي الحفاضات الأغلى ثمناً بين أنواع الحفاضات لجودتها.” في بلد تلجأ فيه الأمهات إلى استعمال الحفاضات التي تباع فرطاً وبالقطعة ومن النخب الثالث وربما الخامس وهي غير معقمة أصلاً والمطاط المحيط بها قاس ويسبب الحساسية لبشرة الأطفال الرقيقة.

تُعبر البنت عن قلقها بدموع محبوسة، لكن الأم تمنعها من البكاء بذريعة أن ذلك يوازي التشكيك بعدم نجاة الطفل، هكذا إذن تحرم الأمهات حتى من التعبير عن القلق على أطفالهن بغطاء من قيم تقليدية تشكك بالدعاء أو بالإرادة الغيبية المهيمنة.

والأمهات الوحيدات كيف يحتفين بيومهن؟ باتت كل الاحتفالات مكروهة، مناسبة لتذكر ماض لم يكن وردياً لكنه أفضل من أحوالهن اليوم. واقع بلا أي ضمان ولا أمل أو ثقة بأنهن سيبقين محميات أو سالمات أو أنهن سيمتن بحضور الأبناء والبنات والأحبة. تعبر أمل صراحة عن سعادتها الغامرة بسفر أولادها، تغص بدموع الشوق، لكنها تتابع قائلة: “أنا عاجزة حتى عن إعداد قالب كاتو منزلي، لا غاز ولا كهرباء ولا قدرة  مادية على شراء مكوناته، سأحتفل بنفسي وحيدة كي أضمن بقائي متمكنة من شراء حاجاتي الأساسية.” وتضيف: “العيد مجرد ذكرى ومشاعر داخلية عليها ألا تهدر مقتنياتي الشحيحة.”

 تغدو الأمومة بحد ذاتها إطاراً قاسياً ومجهداً للنساء، يُفرض على البعض ولادات جديدة رغم أن لهن عدداً كافياً من الأبناء أو البنات، وتحرم أخريات منه لأنهن زوجات لرجال متزوجين، تزوجن وقبلن زواجاً عرفياً أو سرياً طلباً للمأوى أو للدخل وربما فقط للحماية من استبداد أفراد العائلة والأقارب أو من المتحرشين والمستغلين والمتحكمين بالموارد وحتى بلقمة الطعام.

يتحول الأبناء فجأة إلى حوامل للضغط على الأمهات والنساء، تضطر النساء وخاصة الأمهات لاستنزاف طاقتهن وعواطفهن وقدراتهن الجسدية والنفسية لحماية الأبناء والبنات. تصير الأمومة مصدراً للقهر والخوف والتعب، تغدو الأمومة كما الحياة عملاً شاقاً في إطار عام غير إنساني وعنيف ينحدر بسرعة نحو الدرك الأسفل، درك مضيع للحقوق وهادر لمقومات العيش اللائق بالأمهات وبالأبناء وبالجميع. تتحول الاحتفالات مهما تغيرت لتلبية الاحتياجات الكبيرة والمتجددة، إلى مناسبات للبكاء وتأكيد الفقدان وتثبيت العجز، عجز شامل ومتمكن وهادر للقوة ولأمل.