بواسطة أوس يعقوب | مايو 15, 2025 | Cost of War, News, بالعربية, تقارير, مقالات
تبرز قضية المقاتلين الأجانب المنتظمين في صفوف عدد من الفصائل المسلّحة الموجودة اليوم على الأراضي السورية، كأحد أبرز القضايا التي وُصفت بـ “الحساسة” في رد القيادة السورية الجديدة على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وهي في نفس الوقت من أبرز القضايا المختلف عليها على الصعيد المحلي والعربي والإقليمي والغربي، في ظل تعقيدات المشهد الأمني والسياسي السوري خلال الشهور الخمسة الأولى للسلطة الحاكمة برئاسة أحمد الشرع، خاصّة بعد مجازر الساحل التي وقعت بين السادس والعاشر من مارس/ آذار الماضي، والتي أعادت فتح العيون على ملف المقاتلين الأجانب، لا سيّما إثر ثبوت ضلوعهم مع فرق محلية -وصفت من قِبل السلطات السورية بـ “غير منضبطة”، بالوقوف خلف المجازر التي خلّفت أكثر من 1600 قتيل مدني غالبيتهم الساحقة من الأقلية العلوية، بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”.
وتحدّث “المرصد” الحقوقي (مقرّه في المملكة المتّحدة)، عن ارتكاب قوات الأمن العام ومجموعات رديفة لها مجازر وعمليات “إعدام ميدانية” بحق الأقلية العلوية، وقعت غالبيتها يومي 7 و8 مارس/ آذار.
وإزاء حساسية هذا الملف الذي يجب حله والبت به سريعاً، جراء وطأة الضغوط المحلية والإقليمية والدولية، التي تضع القيادة السورية الجديدة على محك الاختبار الجدّي لمدى قدرتها على التعامل مع الملفات الشائكة، سعينا في هذا المقال إلى معرفة إلى أي دول ينتمي المقاتلون الأجانب؟ وكم يبلغ عددهم؟ وأين يتوزعون داخل سوريا؟ وما هو مصيرهم مع تضارب الآراء بين الدعوة لدمجهم في المجتمع المحلي، ودعوات لرفض منحهم أي صفة رسمية داخل المؤسّسات الأمنية والعسكرية السورية؟ وكيف ترى الإدارة الجديدة في دمشق صيغة التجاوب مع تخفيف ورفع العقوبات الأميركية لإنعاش اقتصاد البلاد المنهار جراء الحرب التي استمرت لما يقرب من 14 عاماً، والتي فرضت خلالها الولايات المتّحدة وبريطانيا وأوروبا عقوبات صارمة على الأفراد والشركات وقطاعات كاملة من الاقتصاد السوري في محاولة للضغط على الرئيس السابق بشار الأسد؟
وفقاً لتقارير صحافية متعدّدة ومصادر بحثية ومنظّمات معنية بمتابعة ملف هجرة المتطرّفين، فإنّ نسبة المقاتلين الأجانب من مجموع مقاتلي “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، التي سيطرت على زمام الحكم في البلاد بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، تبلغ نحو 30%. وقد جاءت هذه النسبة المئوية على لسان زعيم (جبهة النصرة) في حينها عام 2015 خلال لقاء تلفزيوني، إذ قال أحمد الشرع، الذي كان يعرف بـ “أبي محمد الجولاني” حينها، إنّ “من بين المهاجرين أوروبيون وقلّة أميركية مع وفرة في الآسيويين وتواجد لشيشان وروس وعرب”، وتابع: “هؤلاء أناس مسلمون أحبّوا أن يناصروا أهلهم والإسلام، ولا ينازعون أحداً في ملك أو شيء، وهم يتقدّمون الصفوف الأولى ويقاتلون، وكل الساحة بكل فصائلها تشهد للمهاجرين في شجاعتهم وتقدّمهم”.
وبعد انتصار الثورة السورية، قال الشرع لوسائل إعلام عربية ودولية: إنّ “المقاتلين الأجانب كانوا ركيزة أساسية في النصر، ويجب مكافأتهم لقاء ما بذلوه”، وعليه أجرى خلال وقت مبكر من وصوله إلى الحكم تعيينات وترفيعات لضباط أجانب إلى مناصب عسكرية عليا، شملت رتب عقيد وعميد ولواء، أثارت استغراب وقلق السوريين والقوى الإقليمية والدولية على حدٍّ سواء.
تشير معلومات متقاطعة عن مصادر مطّلعة، أنّ من بين الذين نالوا رتباً عالية كل من “كلمن عبدل بشاري” (خطاب الألباني)، وهو ألباني الجنسية ويقود منذ أعوام “جماعة الألبان” في سوريا، و”ذو القرنين زنور البصر عبد الحميد”، المعروف باسم (عبدالله الداغستاني)، وهو قائد “جيش المهاجرين والأنصار”، والتركستاني “عبد العزيز داوود خدابردي”، والطاجيكي “مولان ترسون عبد الصمد”، والمصري “علاء محمد عبد الباقي”، والطبيب الأردني من أصل فلسطيني، “عبد الرحمن حسين الخطيب”، وكان يعرف سابقاً بلقب (أبو حسين الأردني)، الذي مُنح رتبة عميد، وفي ما بعد عهد إليه قيادة “فرقة الحرس الجمهوري السوري”، وهي فرقة ضاربة في الجيش السوري، عدداً وعتاداً، وإليها تُنسب مواجهات الحدود اللبنانية خلال الأسابيع الماضية. الخطيب طبيب تخرج في جامعة عمان واعتقل هناك بتهمة الانتماء لـ “التيار السلفي” قبل أن يغادر السجن ويتّجه إلى سوريا ملتحقاً بصفوف (جبهة النصرة) عام 2013.
علاوة على هؤلاء هناك التركي “عمر محمد جفشتي” الملقب بـ (مختار التركي)، الذي أسندت إليه مهمة قيادة “فرقة دمشق” أو ما يعرف بـ “حامية دمشق”، وهي فرقة عسكرية ضاربة أيضاً. و”جفشتي”، وعلى رغم أنّه مطلوب من الجانب التركي، فإنّه تولى دور الوسيط في ملفات عدّة بين “هيئة تحرير الشام” والقيادة التركية خلال أعوام الثورة السورية! وقد تولى أيضاً نحو خمسين شخصية أخرى من قيادات المقاتلين الأجانب مهام ومسؤوليات أقل في “غرفة العمليات العسكرية” لكن خروج أسماء التعيينات اللاحقة لـ “مؤتمر النصر” شكّل مزيجاً من صدمة وخيبة للسوريين بمختلف أطيافهم من جهة، ولأوساط المراقبين للشأن السوري من جهة ثانية، وللغرب الذي رأى بعض مسؤوليه في عدد من التعيينات تحدّياً للمجتمع الدولي، على قاعدة أنّ بعض من تسلّم المناصب الكبرى مدرج على لوائح العقوبات الأوروبية والأميركية، ومدان بمجازر حرب وإبادة وجرائم ضد الإنسانية.
- خريطة تمدّد المقاتلين الأجانب في الأراضي السورية
نظراً إلى السرية الواسعة التي كانت تحيط بملف المقاتلين الأجانب في سوريا، فقد كان يصعب-ولا زال استخلاص أرقام دقيقة لعددهم، فيما ترجّح التقارير الصحافية أن يكون بالآلاف.
وبحسب تلك التقارير، يبرز عناصر الإيغور (تركستان) كأوسع وأكثر شريحة تشدّداً في صفوف المهاجرين، ومعظمهم منظّم في صفوف “هيئة تحرير الشام”، وترجّح مصادر مطّلعة أن يراوح عددهم ما بين 1500 و2000 مقاتل من دون إحصاء رسمي. ويتمركزون بصورة أساسية داخل مدن جسر الشغور في ريف إدلب وداخل جبلي التركمان والأكراد شرق محافظة اللاذقية شمال غربي سوريا. وينشطون تحت اسم “الحزب الإسلامي التركستاني”، وحيالهم تبدي الصين تخوّفات وتهديدات ومواقف حاسمة لخصوصية ملفهم القومي في سياق محاربتها للإرهاب وخشيتها من إعادة تصديرهم.
وتضم كتيبة “فرقة الغرباء” بين 300 إلى 400 مقاتل من الطاجيك والأوزبك، واندمجت مع “هيئة تحرير الشام” عام 2017، وأسهمت معها في معاركها تحت مسمى “لواء عمر بن الخطاب”.
ويقدّر عدد كتائب “أجناد القوقاز” بالمئات، وهم من جنسيات شيشانية توزعوا بين كتيبتي “أجناد القوقاز” و”جند الشام”. كذلك هناك “ملحمة تاكتيكال” التي تضم مقاتلين إيغور شديدي التدريب والخبرة ويطلق عليهم اسم “العصائب الحمراء”.
وهناك تنظيم حراس الدين (فرع القاعدة) تأسّس عام 2018 من مقاتلين أتراك وعرب من تونس ومصر والأردن والمغرب وغيرها، وما زالت حتى اليوم تستهدف قوات التحالف الدولي تحركاتهم في مدينة إدلب، إضافة لمهاجرين تركمان وغيرهم تأسّسوا عام 2013 وانضموا إلى كتائب متفرقة، وجميعها شاركت في معركة “ردع العدوان” (التي بدأت في شمال سوريا ثم وصلت دمشق في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024)، والتي شاركت في إسقاط نظام بشار الأسد.
ومع الإطاحة بالأسد، تحرّرت تلك الكتائب جغرافياً وتمكّنت من الخروج جزئياً من ريفي إدلب وحلب والتمركز في جبهات أبعد على الخريطة السورية، فقد استقرّت كتائب أجنبية في ريف جبلة قرب اللاذقية، وفي مناطق متفرقة من اللاذقية وريفها وقرب قرية الحميدية جنوب محافظة طرطوس الساحلية، وفي مناطق مجاورة للعاصمة دمشق ومحافظتي حمص وحماة وسط البلاد، متّخذة من معسكرات لكتائب وألوية سابقة للجيش المنحل مقاراً لها، وجميعها تُنسب إليها الاستفزازات والانتهاكات وحالات القتل والخطف والسلب التي يتعرّض لها أبناء وبنات الطائفة العلوية بالدرجة الأولى، إضافة لوجودها المستمرّ في إدلب وحلب بصورة رئيسة.
من المطالب الأميركية الثمانية من القيادة السورية الجديدة لـ “بناء الثقة” بين البلدين، والبدء في تخفيف العقوبات وإعطاء رخصة لمدّة سنتين، مطلب ذو صلة مباشرة بملف المقاتلين الأجانب، وهو “تشكيل جيش مهني وعدم وضع أيّ من المقاتلين الأجانب في مناصب قيادية أو أمنية حساسة داخل أجهزة الدولة السورية”، وذلك بحسب ما جاء في رسالة تسلّمها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني من نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركي، ناتاشا فرانشيسكي، في لقاء جمعهما على هامش “مؤتمر المانحين لسوريا” في بروكسل في 18 مارس/ آذار الماضي.
الردّ السوري على مطالب الإدارة الأميركية، جاء برسالة مكتوبة بعثت بها الخارجية السورية إلى واشنطن، قالت فيها إنّها طبقت معظم المطالب، لكنّ البعض الآخر يتطلّب “تفاهمات متبادلة” مع واشنطن، التي عكفت بدورها على دراسة ما ورد بالرسالة.
وتعهدت سوريا في رسالتها بإنشاء مكتب اتصال في وزارة الخارجية مهمته البحث عن الصحافي الأميركي المفقود أوستن تايس، كما تورد بالتفصيل إجراءاتها للتعامل مع مخزونات الأسلحة الكيماوية، ومنها تعزيز الاتصال بمنظّمة حظر الأسلحة الكيماوية. لكن الرسالة لم تورد الكثير من التفاصيل عن مطالب رئيسة أخرى، مثل إبعاد المقاتلين الأجانب والسماح لأميركا بشن ضربات لمكافحة الإرهاب.
بحسب وكالة “رويترز”، فقد أكدت الرسالة التي تم توجيهها في 14 أبريل/ نيسان المنصرم، أنّ المسؤولين السوريين ناقشوا مسألة المقاتلين الأجانب مع المبعوث الأميركي السابق دانيال روبنستاين لكنّ المسألة “تتطلّب جلسة مشاورات أوسع”.
كما ذكرت الرسالة أنّ ما يمكن تأكيده في الوقت الحالي هو أنّ إصدار الرتب العسكرية تم تعليقه بعد الإعلان في وقت سابق عن ترقية عدد من الضباط الأجانب في مناصب عليا بالجيش السوري، في إشارة واضحة إلى تعيين ضباط أجانب في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. ولم تذكر الرسالة ما إذا كان قد تم تجريد هؤلاء الضباط الأجانب من الرتب التي حصلوا عليها، ولم تشر أيضاً إلى الخطوات التي سيتم اتّخاذها في المستقبل.
وذكرت الخارجية السورية في رسالتها أيضاً، أنّها تأمل في أن تؤدّي الإجراءات المتّخذة، التي وصفتها بأنّها “ضمانات”، إلى اجتماع لمناقشة كل نقطة بالتفصيل، بما في ذلك إعادة فتح السفارات ورفع العقوبات.
وقالت المندوبة الأميركية لدى مجلس الأمن، دوروثي شيا، في 25 الشهر المنصرم، إنّ السلطات الجديدة في سوريا مسؤولة عن مكافحة الإرهاب، وعدم الاعتداء على دول الجوار، وإبعاد المقاتلين الأجانب.
“رويترز” نقلت عن مصدر مطّلع على نهج الحكومة السورية بهذا الشأن، عقب توجيه الرسالة للإدارة الأميركية، أنّ دمشق ستؤجل التعامل مع هذه القضية قدر الإمكان نظراً لأنّها ترى أنّ المقاتلين الذين ساعدوا في الإطاحة بنظام الأسد من غير السوريين يجب أن يعاملوا معاملة حسنة.
ورغم جهود دمشق المعلنة، لاحظ مراقبون وجود بعض الثغرات في رسالة الخارجية السورية، أبرزها عدم تقديم تفاصيل دقيقة بشأن خطط إخراج المقاتلين الأجانب من سوريا، أو آلية التعاون العملي مع واشنطن في تنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب. وتبقى هذه القضية وغيرها من القضايا العالقة بمثابة اختبارات حقيقية أمام أيّ تقدّم في المحادثات غير الرسمية بين الطرفين.
تحدّيات وعوائق متعدّدة تقف أمام القيادة السورية الجديدة، لجهة إعادة بناء جيش سوري وطني جامع يمثّل جميع السوريين بكافة طوائفه ودياناته وأعراقه، وقد جاء تعيين قائد الإدارة السياسية أحمد الشرع، للقائد العسكري لـ “هيئة تحرير الشام”، المهندس مرهف أبو قصرة، وهو من خارج المؤسّسة العسكرية، وزيراً للدفاع، بعد التشاور مع قادة فصائل المعارضة السورية، التي انضوت في عملية “ردع العدوان” دون بقية الفصائل، سواء في “الجيش الوطني”، أو في درعا والمنطقة الجنوبية، ما أثار حينها مخاوف من استئثار “تحرير الشام” بالسلطة، لا سيّما أنّها وضعت قياديين فيها، في مفاصل القرار السياسي والاقتصادي ولاحقاً العسكري، منذ تسلّمها السلطة في البلاد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024.
منذ اليوم الأول لتسلّمه وزارة الدفاع وجد مرهف أبو قصرة نفسه في مواجهة ملفات عسكرية معقدة، لعلّ أبرزها ملف دمج عشرات الفصائل التي ينضوي أغلبها في “الجيش الوطني السوري”، الذي شكّلته تركيا قبل أعوام عدّة، في الجيش السوري الجديد للقضاء نهائياً على الفصائلية التي تُعدّ بمثابة قنبلة موقوتة سيؤدّي انفجارها إلى تأزيم الأوضاع الأمنية. وكذلك ملف استيعاب المقاتلين الأجانب في الجيش السوري المقبل، بالإضافة إلى تركة ثقيلة تركها النظام المخلوع الذي حوّل الجيش إلى مليشيات تقاتل من أجل بقاء بشار الأسد في السلطة لا أكثر.
باحثون عسكريون وضباط منشقّون عن جيش الأسد يرون، أنّ أهم التحدّيات التي ستواجه وزارة الدفاع السورية المقبلة، هي “إعادة هيكلة الجيش وتنظيمه على أسس سليمة، خصوصاً أنّ القدرات والمقدرات التسليحية البرّية والبحرية والجوّية قد دمّرها الجيش الإسرائيلي بنسبة قد تصل إلى أكثر من 80%. وأنّه يجب دمج الفصائل في الجيش السوري بشكل مدروس جيداً، وأن يكون كاملاً، بحيث ينصهر الجميع في المؤسّسة المقبلة، ولا يكون دمجاً شكلياً بحيث تبقى بعض الفصائل بمسمّياتها الحالية ويكون ولاؤها لقائد الفصيل أو لقوى خارجية أو إقليمية”.
كما تبرز معضلة التعامل مع مصير صفّ الضباط والضباط المنشقّين عن جيش الأسد خلال سنوات الثورة، وإعادة الاعتبار لهم ومنحهم حقوقهم المادية والمعنوية المصادرة منذ بداية انشقاقهم، وترفيعهم إلى الرتب التي يستحقونها، ودمجهم في الجيش المزمع تشكيله من قِبل وزارة الدفاع في الحكومة السورية الجديدة.
بواسطة طارق علي | مايو 11, 2025 | Cost of War, News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
مع بداية تواتر انشقاق الضباط والعناصر عن الجيش السوري النظامي عقب اندلاع ثورة آذار/مارس 2011، بدأ ينمو حلمٌ كبير لديهم بأنّ أمامهم فرصةً تاريخية لإعادة بناء مؤسسة عسكرية ذات عقيدة وطنية راسخة وجامعة وغير متورطة بسفك الدم السوري أو التغول على أفراده، مؤسسة تحمي حدود البلاد وأمنه وتحفظ وحدته وتقوم على سيادته واستقلاله ودرء محاولات الفتنة داخله وصدّ أي عدوان قد يحمله الخارج.
بذلك سلّم الضباط واستسلموا لأحلامهم تاركين خلف ظهورهم رتبهم العسكرية بما فيها من نجومٍ ونسورٍ، تاركين الامتيازات والأفضلية والقدرة على الترقي والصعود الإضافي في سلم التراتبية العسكرية بما يحمله من امتيازات إضافية. ذهبوا للمجهول في رهان على الحاضر المحمول على الوعي الشعبي الرافض لوجود الأسد في سني الثورة الأولى وتصاعد المعارك التي أبوا أن يكونوا جزءاً مشاركاً فيها ضدّ أبناء جلدتهم. انتظروا بعد ذلك، انتظروا كثيراً، حاربهم جيش النظام، حاربتهم النصرة، حاربهم داعش، حاربتهم مختلف الفصائل، حتى أنّ بعضها تخلى عن مواجهة النظام وتفرغ لمحو أثر الجيش الحر. ظلّوا صابرين ومحاولين المرابطة ما أمكن بانتظار فرجٍ كانوا أول من بشر به وأكثر من فرح به مع سقوط النظام السوري وبشار الأسد في فجر الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، لكنّ ما حصل بعد ذلك جاء مغايراً، مخالفاً، صادماً، وغير متوقع إطلاقاً بالنسبة لهم، فتحرير طال انتظاره عمد إلى تهميشهم بشكل فاضح لا يرقى لمكافأة ثوريين شرفاء في أحيانٍ كثيرة.
التفوق العقيدي الشرعي
كانت الصدمة الأولى لأولاد المدرسة العسكرية النظامية من المنشقين مع تركزهم في مناطق شمال سوريا عقب قضم النظام السابق للمناطق واحدةً تلو الأخرى، وهناك شاهدوا وشهدوا على عقيدة قتالية مختلفة تماماً عما عهدوه، عقيدة لم تكن وطنية خالصة، حتى أنّها لم تحظ بالشكل الحداثي لإنشاء الجيوش الوطنية، بل كان يغلب عليها الطابع الأيديولوجي المغلق والمعلق على مرجعية شرعية إسلامية صارمة وحازمة لها منظروها وقادتها ومعتنقوها.
على رأس تلك القوى كانت “هيئة تحرير الشام” التي تحولت من داعش إلى النصرة فالهيئة بحدود عام 2016 ضمن تحول براغماتي يحمل رسائل دولية عميقة، ورغم ذلك لم تتخل عن عقيدتها التعبوية القائمة على القول الشرعي: “المقاتل ذو القضية هو ذاك الذي يحمل السلاح في سبيل إقامة شرع الله، لا في سبيل القتال من أجل (وطن) محدود أو دفاعاً عن دولة محددة بعينها”.
وزير الداخلية الحالي: المنظّر الجهادي السابق
في خضم تلك الأحداث ومع موجة بروز الشرعيين والأمراء في الهيئة بدأ يظهر اسم أنس خطاب حاضراً بقوة في صفوف الهيئة داخل إدلب، أنس الذي بات وزير الداخلية السوري في الحكومة التي شكلها الشرع أواخر آذار/مارس الفائت، بعد أن كان تسلّم منصب مدير الاستخبارات العامة في الأشهر التي سبقت تشكيل الحكومة الانتقالية. وكان الرجل إياه صاحب الأساس المركزي في تشكيل تلك العقيدة الشرعية السابقة، انطلاقاً من وجهة نظرٍ تؤكد أن الوطنية بمفهومها الطبيعي المتعارف عليه تشكل طعنةً وخيانةً للإسلام، وفي هذا الإطار وضع واحداً من أشهر مؤلفاته البحثية الكثيرة حول الجهاد والدولة، والذي حمل اسم: “حكم الانتساب للجيوش والجماعات الوطنية“. وفيه يقول: “الانتساب إلى الجيوش الوطنية التي تخدم الأنظمة الظالمة، يعني الخروج عن طريق الجهاد في سبيل الله والاقتتال من أجل مصلحة الأوطان بدلاً من مصلحة الأمة الإسلامية”. خطاب يرى أن الجيوش النظامية التي تحارب من أجل “دول” و”أوطان” ليس لها مكان في الفكر الجهادي. ويؤكد في موضع آخر: “الوطنية مذهب مستورد من أعداء الإسلام، يهدف إلى صرف المسلمين عن الولاء لله ورسوله، وتفتيت وحدة الأمة الإسلامية.”
اعتبر أيضاً أنّ أي ارتباط بالجيوش الوطنية كفر. وقد قال في هذا السياق: “الانتماء إلى الجيوش الوطنية التي تخضع لأنظمة علمانية أو قومية يُعد خيانة لله ورسوله”.
إرث الثورة الثقيل
الرؤية التنظيرية الجهادية العابرة للحدود والقارات كانت الطعنة التي منعت الضباط المنشقين من تسلّم أي مناصب قيادية أو حتى إيجاد موطئ قدمٍ يعتد به داخل جسد الجماعات الجهادية في الشمال والشمال الغربي من الأراضي السورية (ريف حلب وإدلب). وبناء على ذلك تمّ إقصاؤهم عن المشهد العسكري الفاعل مع اتهامات طالت بعضهم بخيانة العقيدة القتالية نفسها، فتراجعوا نحو المخيمات ودول المهجر منفكين قسراً عن التفكير من جديد بإعادة بناء جيش وطن. أحد أولئك الضباط الذين انشقوا عام 2012 قال في حديث لـ “صالون سوريا” طالباً عدم الكشف عن اسمه: “لم يعد هناك قيمة لابن الأرض، صرنا محض لاجئين في بلد دافعنا عنه بمآقي العيون، اليوم لا مكان لنا أمام الأفكار العابرة للحدود”.
يخشى بعض الضباط المنشقين من تبعات انتقامية في حال ظهور تصريحاتهم بأسمائهم الحقيقية، لذا سيستعمل “صالون سوريا” اسماً مستعاراً وهو سامر لضابط منشق برتبة رائد قال: “نحن في عزلة عن مجريات الأحداث، لا أحد يريد إشراكنا، لم تعد هناك فرصة أو وقت أو إمكانية أو أمل في بناء جيش وطني ذي عقيدة قومية خالصة، الآن زمن الأجانب الذين يتولون القيادة، الأجانب القادمين من الأراضي البعيدة، هؤلاء إرث الثورة الثقيل، الثقيل عليها وعلى قادة البلد الحاليين”.
بين العقيدة الجهادية والولاء الوطني
بعد سقوط نظام بشار الأسد واجه النظام الجديد معضلة في التفاضل بين أصحاب العقيدة الوطنية التقليدية، وأصحاب العقيدة العابرة للحدود، فمالوا نحو الأخيرة نظراً لما أبدته من شراسة وولاء خلال سنوات الثورة. وقد عبر الشرع ذاته عن ذاك حين أشار مؤخراً في لقائه مع صحيفة “نيويورك تايمز” إلى إمكانية تجنيس بعض أولئك المقاتلين لما أبدوه من تواجد وثبات إلى جانب الثورة خلال مراحلها الطويلة. وفي هذه السياق، نجد أن خطاب في مؤلفاته لا يكتفي بانتقاد الوطنية، بل يذهب أبعد من ذلك عندما يشير إلى ما يراه تحريفًا للمفاهيم الإسلامية من خلال الانخراط في الجيوش النظامية، حيث يرى أنّ “من يقاتل في سبيل فكرة وطنية ليس أكثر من أداة في يد الطواغيت الذين يزعمون أنهم يدافعون عن حدود مصطنعة بين المسلمين”.
لا يمكن فصل الرؤية الجهادية للهيئة التي تمتلك بين جناحيها زهو 7500 مقاتل أجنبي عن السياق العام الذي جعل خطاب يؤكد في مؤلفه المذكور أنّ المنشقين غير قادرين على التمييز بين العقيدة الجهادية والولاء الوطني. وعليه، ومع تعيينات الانتصار التي قادتها “هيئة تحرير الشام” أصبح قائد الحرس الجمهوري أردنيًا من أصول سلفية جهادية، وقائد حامية دمشق (فرقة دمشق) تركيًا، مع ما يزيد عن 50 تعيينًا أجنبيًا في قيادة العمليات العسكرية. وترفيع عددٍ من الأجانب لرتب عسكرية عليا، فيما تضاءل دور الضباط السوريين الذين بقوا في المناصب الشكلية غير المؤثرة فعلياً أو الذين تم تهميشهم عملياً.
الأمر برمته لم يمكن مرتبطاً بمسألة بناء قوة قتالية وحسب، بل بما هو أبعد من ذلك لناحية الضمان الفكري والأيديولوجي المبني على الولاء الشرعي ما فوق الوطني، وذلك لأنّ “المجاهد الحق” لا يقاتل من أجد “الحدود” أو “الدولة” بل من أجل إقامة “شرع الله وحدوده”. ويجسد خطاب ذلك الاعتقاد في قوله ضمن مؤلفه في “حكم الانتساب للجيوش”: “القتال من أجل الوطن هو فكرة ضالة، والأمة لا تتحقق بالحدود المصطنعة التي يفرضها أعداء الإسلام”.
وما الشام إلّا بداية “الفتح المبين”
يبدو الواقع في سوريا اليوم زجاجياً للغاية، مهيأ للتحطم في أي ثانية أو مفترق، يعكس تحولاً خطيراً في بنية بناء ما بعد التحرير وسط سيل تساؤلات عن سوريا المستقبل مع الأخذ بعين الاعتبار الضغوط الأميركية المتنامية ذات الشروط الثمانية لرفع العقوبات الجزئي عن سوريا، ومن بين أبرزها تحييد الجهاديين وإبعادهم عن المشهد. ويزداد الأمر تعقيداً في الحين الذي يبدو فيه أن “الجيش الوطني الجديد” هو جيش يملك في حيز واسع منه عقيدةً جهادية إقصائية تتمثل في فصائل مرتبطة بوزارة الدفاع ولا تمتثل لأوامرها ولا تتوانى عن ارتكاب المجازر والانتهاكات. وأبرز مثال على ذلك المجازر التي ارتكبت ضد علويي الساحل ودروز الجنوب الحاضرة بقوة كملف يزيد الضغط على الحكم الانتقالي القائم حالياً بفعل الابتزاز السياسي الدولي. يضاف لكل ذلك أنّه لم يعد يمكن التعامي عن أنّ الجيش السوري الآن هو من لونٍ واحد، وفكرٍ واحد، وأيدولوجيات مقلقة، ايدولوجيات يمكن أن تكفّر الشرع ذاته لانفتاحه على الغرب في تحول براغماتي تحتاجه سوريا فعلاً، مع خلعه عباءة الماضي الجهادي ونفض غبارها وارتداء البزة الرسمية وتصريحه المتكرر أنّ الثورة انتهت وحان وقت بناء الدولة بالعقلية الجامعة لأبنائها، وهو ما لا يعيره الجهاديون أي انتباه ضمن مشروعهم الجهادي الواسع، فالتركتساني والإيغوري والشيشاني والعشرات الذين ينتمون إلى جنسيات أخرى لا تعنيهم تلك البنيوية الحتمية لإعداد مشروع صياغة شكل “دولة” إذ إنّ حلم “الخلافة” لا زال يطارد أحلامهم، وما الشام إلّا بداية “الفتح المبين” بناء على تواصل مباشر متعدد مع مقربين من أولئك المقاتلين.
الظاهر والباطن
ورغم الاعتراف الواسع ببراغماتية وانفتاح المستوى السياسي السوري الأعلى على القضايا المحلية والإقليمية والدولية من منظور دولة قائمة تسعى لكسب الشرعية، يبقى تحدي الخلفية الجهادية للمقاتلين الأجانب ماثلاً، وتبقى الأيديولوجية الداعمة لهذا التوجه والتي يؤكدها خطّاب ضمن المؤلف التنظيمي المذكور سلفاً قائلاً: “القتال من أجل الوطن هو فكرة ضالة، والأمة لا تتحقق بالحدود المصطنعة التي يفرضها أعداء الإسلام”.
وعليه، يرى الضباط المنشقون (وهم بحدود سبعة آلاف ويزيد عدا عن العناصر) أنّ هذا الموقف، إذا استمر في الهيمنة على القرار العسكري في سوريا ما بعد الأسد ولو من تحت الطاولة، أو في باطن الأفكار، فقد يُفضي إلى المزيد من العزلة السياسية والعسكرية، ويعرّض سوريا لخطر فقدان هويتها الوطنية الجامعة لصالح فكر جهادي لا يعترف بالحدود الجغرافية أو الوطنية.
لكلّ مرحلة خطابها
بناء على كل ما سبق، فإنّه لا يمكن التغاضي عن الآثار المستقبلية لهذا التوجه القاعدي في هرم السلطة التي قد تصبح ذاتها بوابة عبور نحو معركة داخلية–خارجية لا تعترف في لحظة بالحدود والجغرافية والمواثيق والأسس والمعاهدات والعيش المشترك أو التشاركي، وحينها يصير الاحتكام إلى المرجعيات الدينية المهيمنة أساساً لا يمكن تجاوزه، وسبيلاً مفروشاً بالزهور لنمو قوى كداعش من جديد. سوريا اليوم في ظلّ معادلة شديدة التجاذب بين جيش سابق جرى تسريحه بالكامل، وجيش من المنشقين تم الاستغناء عن خدماتهم ويرزحون تحت مظلومية كبرى تضحي بمستقبلهم السياسي والعسكري، وجيش جهادي لا يملك البذور الوطنية لرؤية سوريا الجديدة.
وفي هذا الإطار يقول الخبير الدبلوماسي ماهر سمارة لـ “صالون سوريا”: “سأكتفي بالقول إن الشرع محاط بالألغام كيفما اتجه، تفكيك الحاضنة الجهادية أمرٌ شبه مستحيل، الرئيس الجديد من خلال تحليل سياقات خطاباته ولقاءاته يبدو منفتحاً ومتمسكاً بمشروع شامل وجامع، ويحيط به على المستوى الأقرب في الدائرة الضيقة أشخاص يشاركونه التوجه، ومن أبرزهم الشيباني وزير الخارجية، وأبو قصرة وزير الدفاع، وخطاب وزير الداخلية نفسه رغم كل مؤلفاته الجهادية، ولكنّ الجميع الآن مؤمن أنّ لكل مرحلة خطابها ولكلّ زمانٍ دولة ورجال، فمرحلة إدلب وعزلتها كانت تفرض أسلوباً في التعاطي العقائدي المختلف تماماً عن حال حكم سوريا بأكملها حالياً، وهذا الدرس الأكبر الذي يجب التعويل عليه، فما بعد التحرير يجبّ ما قبله.”
بواسطة مفيد عيسى أحمد | مايو 7, 2025 | Cost of War, News, العربية, بالعربية, تقارير, غير مصنف, مقالات
في بداية عام 2017 أنهيت زيارة لقرية “كوكب” الواقعة في “ضهر الزوبة” في بانياس والتابعة لقرية البساتين، وكان لي أن أعود باتجاه طرطوس سالكاً طريقاً من اثنين: إما عبر قرية الزوبة ثم الخريبة وضهر صفرا، ثم الروضة؛ لأصل إلى الطريق السريع بين طرطوس واللاذقية، وإمّا عبر الطريق الثاني الذي ينحدر في قرية البساتين ليصل مباشرة إلى الطريق السريع، وهو طريق أقصر وأسهل من الطريق الأول لكنه مقلق ويلزمه الحذر كما قيل لي والسبب أن أهل البساتين “سنّة” وهم معارضون في أغلبهم.
في ذلك الوقت كان يبدو أن النظام في سورية قد انتصر وأن المعارضة بصفتها السنيّة الغالبة قد خاضت معركتها وهُزمت، لكن سكان القرى العلويين المحسوبين على النظام، ما زالوا يتجنبون الاحتكاك بهم.
سلكت طريق البساتين بناء على تطمين من كنت ضيفاً عندهم، فقد قال صاحب البيت: “عم، لن يتعرّض لك أحد، أهل البساتين طيبون، عشنا وإياهم دهراً ولم يتعرض أحد للآخر إلى أن حدث ما حدث” وهو بذلك يشير إلى ما جرى من قتل في قرى البساتين والبيضا، وقد أكّد لي أن أهل “كوكب ” لا علاقة لهم به، فالذي ارتكبه هم مجموعات قدمت من الشمال تابعة لـ”هلال الأسد” الذي قُتل فيما بعد في معركة شمال اللاذقية.
انحدرت في قرية البساتين، وبعد أن قطعت مسافة قصيرة توقّف رجل على يمين الطريق؛ قبل أن أصل إليه بخمسين متراً وحياني بطريقة لن أنساها أبداً، انحنى انحناءة خفيفة ورفع يده إلى محاذاة رأسه بما يشبه التحية العسكرية وغض بصره عني.
تكررت التحية أكثر من مرة مع أكثر من شخص وكلما سلكت ذلك الطريق. تلك التحية التي يمكن تسميتها تحية الخوف والانكسار، قد تركت في نفسي أثراً وأسفاً عميقاً، فقد أحزنتني وضايقتني، ذلك الضيق الذي يتأتى من ضيم لا ترضاه، لكن لا تملك حياله شيئاً.
لسنا بصدد الكلام عن أسباب المجزرة التي حدثت حينها والتي قيل إنها رد فعل عما اقترفه أهالي البيضا والبساتين بحق عسكريين ومدنيين تم قتلهم هرساً في معصرة زيتون، وعلى ما حدث في بانياس البلد، كقتل “عماد جنود” وهجوم جسر القوز على رتل الجيش.
لكن عليّ أن أذكر نقلاً عن شهود عيان أن ضحايا تلك المجزرة كان الكثير منهم من الأبرياء ومن مؤيدي النظام حينها أو من الحياديين الذين لم يكن لهم موقف سياسي معلن من النظام أو الحراك السياسي الذي اعتمل في سوريا ومنها بانياس، أولئك الذين اختاروا الاهتمام بحياتهم اليومية وعدم الانجرار إلى أي نشاط سياسي أو فعل راديكالي.
أحد شهود العيان روى لي أن أحد أهالي البساتين كان يعمل على جرار في حراثة الأرض في قرية “كوكب” أوقف جراره ليعود إلى البساتين، حاول من روى لي (وهو علوي) وأشخاص آخرون منعه من العودة وإبقاءه لحمايته، لكنه أصر على العودة وهو يقول: “لم أفعل شيئاً ولست ضد الدولة، ولا يمكنني أن أترك أهلي.” ترك جراره وذهب ولم يعد أبداً.
وروى لي آخرون أنه تم إرسال تحذير من أهالي قرية كوكب “العلوية” إلى أهل البساتين والبيضا بأن هجوماً على وشك أن يقع على القريتين لا علاقة لهم به، وعليهم أن يكونوا حذرين.
تجاوب مع التحذير من تورّط في أعمال دموية ومظاهرات وهربوا، وبقي من لم يرتكب شيئاً لظنهم أنه لن يطالهم سوء، وهم من صاروا ضحايا.
قِيل الكثير عما حدث في سياق هياج جمعي يحدث عادة في مثل هذه الظروف، حيث لم يتم التمييز بين البريء والمذنب، فالكل مذنبون في نظر القتلة، المرأة التي التجأت إلى خم الدجاج لتختبئ مع أولادها وقُتلت، شيخ الجامع صاحب الموقف المعتدل الرصين، معلم المدرسة المنفتح…
هذا الهياج نفسه هو الذي حكم ما جرى في المذابح الأخيرة التي ارتكبت بحق العلويين في بانياس وجبلة واللاذقية، وفي حمص وقرى حماه وغيرها، مع فارق لا بد من ذكره وهو الدافع ومعطيات المرحلة.
ارتكبت تلك المذابح وما زالت بسبب مباشر هو تذرّع من ارتكبها بمحاولة انقلاب قام بها كل من “غيّاث دلا” و”مقداد فتيحة” كقادة لفلول النظام البائد. والمفارقة أن تحدث تلك المحاولة في قرية تبعد عن العاصمة ثلاثمائة كيلومتر، وقد ادعى من قال بذلك أنّ تلك المحاولة كانت تضم قسد والدروز، غير أنه بعد يومين من المذبحة تم توقيع اتفاق بين الشرع وعبدي، ومن غير المعقول أن يتم توقيع اتفاق في ظرف كهذا، ووضع سياسي حاد ومصيري حيث أحد الطرفين يسعى لإنهاء الآخر بهذه السرعة.
السبب غير المباشر والأقرب للواقع؛ هو الرغبة بالثأر والانتقام ممن يُعتبر حاضنة للنظام البائد، والحاضنة المقصودة هنا طائفية وليست سياسية، تلك الرغبة المخبوءة كالجمر تحت الرماد والتي تنفخ عليها من وقت إلى آخر أحداث وتداعيات خاصة في سنوات الحراك السياسي الأخيرة التي أزكت التناقضات السياسية وجعلتها أكثر حدة وبلبوس طائفي واضح.
بخصوص ذلك نُشرت بعض الخرائط شاهدت إحداها على شاشة إحدى الفضائيات العربية في عام 2011 وقد كتب على منطقة الساحل السوري “Killing zone“ منطقة القتل، وهذا يؤكد ما كان مبيتاً للمنطقة الساحلية.
التخطيط لما ارتكب في هذه المجازر كان واضحاً رغم التسويق الإعلامي لها بأنها أتت نتيجة “فزعة”، وهذه الكلمة بالذات تحمل معنى تراحمياً اجتماعياً يشي بطبيعة من استخدمها وتجاوب معها، كأنهم فعلوا ذلك لدرء خطر محدق داهم وهي سمة غالبة في المجتمعات البدوية.
الأكثر تأثيراً كانت الدعوة إلى الجهاد ذات البعد الديني التكليفي- فرض عين- وقد انطلقت من مآذن الجوامع في عدة مدن سورية، وتمّ بثّ هذه الدعوة وصور للتجمعات التي تآلفت تجاوباً معها بشكل مباشر على قناة الجزيرة، بالصوت والصورة، فتعالت صيحات وشعارات صريحة وبحماس واندفاع شديد تدعو إلى ذبح العلوية والقضاء عليهم.
المذابح التي ارتكبت ووثقت كانت دموية مفرطة وقاسية جداً، وفق شهادات لمن بقي حياً كان القتل يتم بعد سؤال الضحية “أنت شو؟”، رغم أنهم يعرفون انتمائهم الطائفي، لكن للسؤال هنا بعداً آخر هو الإذلال والتشفي قبل القتل.
روت زوجة المهندس “نبيل حبيب” أنهم دخلوا المنزل وسألوا زوجها بأسلوب فظ: “شو دينك؟” أجاب: “أنا مسلم.” أردفوا: “مسلم شو؟”
أجاب: “مسلم…” وصمت، ردوا بعنف: “مسلم سني أم علوي؟”
قال بهدوء: “علوي…”
ضربوه بأخمص البندقية وصرخوا: “إلى السطح.. اطلع عالسطح يا خنزير،” حيث حدثت المقتلة له ولجيرانه.
ضحايا المجازر كانوا أبرياء، تم انتقاؤهم من كوادر علمية واجتماعية وفق معلومات وتوجيهات حددت مكانهم وانتماءهم، وكأن القتل كان محملاً على الخريطة، إضافة إلى القتل العشوائي، فأول من قتلوا عجوزاً عمره ستة وثمانون عاماً، تصادف أن وجد في طريقهم، “قرب كراجات السرافيس”.
الصحافية ثناء عليان روت كيف قتلوا زوجها، فقد كتبت تنعيه على صفحتها “زوجي لم يكن فلولاً ولم يقاتل أحداً.. دقو الباب ولما فتح سألوه: أنت علوي أم سني؟ وبناء على جوابه تم قتله بدم بارد بعد أن أخذوا سيارته وموبايلي وموبايله… رحمة الله عليه رحمة واسعة..”
المفارقة أنه تم قتل امرأة خنقاً لجأت إلى خم الدجاج كما حدث في البيضا، ولكن في قرية “بصيرة الجرد” على أطراف جرد صافيتا.
في خضم ذلك الهياج الذي نتج عنه القتل وحرق المنازل والسيارات والتنكيل بالضرب وغيره، لا بد من ذكر ما هو إيجابي؛ المتمثل بمبادرة عائلات سنيّة لحماية المستهدفين العلويين. والغريب أن هناك عناصر من الفصائل الذين قدموا مع من ارتكب المذابح عملوا على نجاة عدد من الأهالي العلويين، وهناك حالات توثق ذلك، فمثلاً أحد عناصر الفصائل نقل بسياراته عائلات من القصور ساحة الذبح إلى مساكن المصفاة، وآخر حمى بناية بأكملها بالإدعاء أن ليس فيها أحد، وحوادث أخرى. توثق ترحيل أهالي خلسة.
حادثة لها دلالاتها المختلفة روتها تلك الأم التي وضعت مولودها قبل أوانه وكان لا بد له من حاضنة في مشفى بانياس الوطني، وهي من قرية علوية، اقتربت منها ممرضة سنيّة وقالت لها: “لا تقولي إنك علوية، سيقتلونك ويقتلوا الطفل، قولي إنك سنيّة.” ومضت لتجلب لها حجاباً وضعته على رأسها. هذا يوضّح فرقاً واضحاً وهو أن الهياج الطائفي وصل إلى حد الرغبة في إفناء الآخر “العلوي” والغريب والمؤسف أنه شمل الطبقة المثقفة والأكاديمية، فكيف لطبيب أن يأمر أو يتسبب بقتل طفل!
خلال أربعة عشر سنة حدثت مجازر كثيرة بحق العلويين والسنّة، لكن لم يستشر الهياج الطائفي كما حدث في مجازر العلويين الأخيرة، إلى درجة بدا وكأن الأمر غريزي موزع بين غريزة القتل وغريزة المحافظة على البقاء..منذ أيام شاهدت نفس التحية؛ تحية الانكسار والخوف التي رأيتها سابقاً وأنا أعبر قرية البساتين، لكن هذه المرة رأيتها على الحواجز، يؤديها من يعبر من العلويين.
بواسطة عمر الشيخ | مايو 3, 2025 | Cost of War, العربية, بالعربية, تقارير, غير مصنف, مقالات
تتّضح ملامح ما يمكن تسميته بـ “اللّاأدرية السياسية” من خلال مراقبة تفاعلات الرأي العام السوري، وتحليل الخطاب الشائع على المنصات الإعلامية، إضافة إلى التواصل مع فاعلين سياسيين وإعلاميين داخل البلاد وخارجها. هذا التيار، الذي يتمدد تدريجياً دون أن يُعرّف نفسه بوضوح، يتخذ من الشك المطلق والنقد العدميّ موقعاً مريحاً خارج الاستقطابات الحادة، لكنّه في الجوهر لا يفعل سوى إعادة تدوير الذهنية التي رسّخها نظام الأسد لعقود: الارتياب، المواربة، ورفض أي سرديّة لا تنسجم مع بنيته السلطويّة.
وحين تتحوّل العواطف إلى منطلق للموقف السياسي، فإنها غالباً ما تعجّل في إفشال أي هدف جماعي. فالانحياز الغريزي، رغم صدقه الإنساني، لا يكفي لتأسيس مشروع تغيير قادر على الصمود. وحين يُختزل الفعل السياسي في ردة فعل وجدانية، تتحول الأفكار إلى ضجيج لا ينتج موقفاً، ويغيب عنها التقدير العقلاني للمصلحة العامة. في هذا الفراغ، تبرز “اللّاأدرية” كحالة تبدو وكأنها ترفض التورّط العاطفي، لكنّها في الواقع لا تنتج فهماً أعمق، بل تقف عند سطح التعقيد دون تجاوزٍ أو انحياز، فتتعامل مع الواقع بوصفه عبئاً لا يُحتمل لا مشروعاً يجب التفكير والمشاركة فيه.
لقد شكّلت “الأسديّة” على مدى عقود منظومة ثقافية – أمنية متكاملة، هدفت إلى إنتاج وعي سياسي معادٍ للتنوّع، ومهيأ لتقبّل السلطة نقيضاً للفوضى. لم تكتف هذه المنظومة بقمع السياسة، بل أعادت تشكيل المجتمع من الداخل عبر ترسيخ صورة نمطية لكلّ منطقة ولهجة وطائفة، تُعيد تصنيف السوريين ضمن هرم خفي من التحقير والتمييز والاختزال. بهذه الأدوات، اشتغل النظام السابق على تفكيك أي إمكانية لتماسك وطني، مُغذّياً الشك المتبادل والتبعية كضمانة للاستقرار.
كما أن المفارقة الأوضح في خطاب اللّاأدرية أنه يستبطن أدوات النظام السابق نفسه، دون أن يعلن ذلك أو يعيه أحياناً. التهكّم على الهويات، السخرية من التعدّد، وشيطنة كلّ مبادرة سياسية أو مدنية بوصفها مشبوهة أو محكومة بالفشل مسبقاً، ليست سوى امتداد لمنطق السلطة القديمة في لباس نقدي. لا يوجد فارق جوهري بين من يقول “الكلّ كاذبون” ومن قال لسنوات: “لا أحد سواي يستحق الحكم”. ومع تفكك النقاش العام، وصعود اللّاأدرية كخطاب سائد وسط انقسامات السوريين، بتنا أمام حالة من العطالة السياسية تتغذّى من اللّامبالاة، وتعيد إنتاج العدمية كواقع متنامٍ. هي حالة ترفض الواقع، لكنّها أيضاً لا تقدم بديلاً له، ولا تؤمن بإمكانية تغييره.
يتبنى هذا التيار موقفاً منفراً من الجميع: لا يثق بالحكومة، ولا بالمعارضة، ولا حتى بالمجتمع المدني. لكنّه في المقابل، يُبدي حنيناً خفياً إلى بعض رموز النظام السابق ممن لم يتورطوا مباشرة في الدم، كما في حالة وزير الخارجية الأسبق فاروق الشرع، الذي تحوّل لدى شريحة من الموالاة والصامتين وبعض من يسمّون أنفسهم “ثوّار ما بعد النظام”، إلى مرجعية رمزية أو “حل توافقي”. هذه النزعة تعبّر عن تمسّك خفي ببقايا النظام، رغم التفاوت في عمق الولاء له. إنها محاولة لإعادة تدوير واجهات الأسدية تحت غطاء الحياد أو “الخبرة”، وهي في جوهرها لا تُنتج مشروعاً بقدر ما تعرقل أي محاولة جدية للتجريب ولبناء بديل. هكذا تتحوّل اللّاأدرية من موقف حيادي إلى أداة تعطيل فعلي.
لا يعني هذا أن النقد مرفوض؛ بل على العكس، لا يمكن لأي عملية سياسية أن تنضج دون نقد صارم. لكنّ الفرق شاسع بين النقد كأداة تحليل وتطوير، والنقد بوصفه منهجاً للتقويض المستمر. اللّاأدرية كما تتجلى اليوم ليست نتاج مراجعة عقلانية، إنما هي إفراز مباشر لثقافة سياسية مشوّهة، نشأت في بيئة قمعية ترى في كلّ اختلاف تهديداً، وفي كلّ مبادرة خديعة محتمَلة. وما يعمّق هذه الأزمة هو عودة بعض المنصّات إلى استثمار الانقسام الطائفي والمناطقي في الخطاب السياسي، لا بهدف إنصاف الضحايا أو ترميم الذاكرة، بل لتثبيت سلطات جديدة وإعادة إنتاج نفوذ قديم بلغة محدثة. إن سرديّات المظلومية حين تتحول إلى أداة نفوذ، تفقد قيمتها الأخلاقية، وتعيد تكرار منطق النظام بأدوات رمزية مختلفة.
مؤخراً، لم يُعامَل سقوط الضحايا من السوريين\ات كفرصة لإعادة التفكير بأسس بناء الدولة، من عدالة وقانون والتزام عام بالسلم الأهلي، بل جرى التعامل معه كحدث عابر، يُستهلك إعلامياً، ويُستخدم لتحريك الاصطفافات والانفعالات. هذا التعامل السطحي أخفى خلفه واقعاً مريراً: أكثر من 85% من السكان تحت خط الفقر وذلك يدفع بالمجتمع لكوارث غير متوقعة. آلاف العائلات ما تزال تعيش في الخيام، وجزء من البنية الأمنية موزعة بين ميليشيات تنسب نفسها للدولة لكنّها تمارس سلطتها بمنطق العصابة، وكيانات مناطقية تتصرّف من خلف متاريس الهويات الضيقة. في هذا السياق، عاد إلى الظهور مجدداً خطاب تمجيد الشخصيات، وتقديس “القائد”، كأن الوعي السياسي السوري لم يغادر بعد منطق الفرد المنقذ، رغم كل ما مرّ به من تجارب دامية. هناك من يريد تذويب الدولة في ذهنية إدارة المناطق المحررة!
أعتقد أن أحد الأسباب الجوهرية لتنامي اللّاأدرية السياسية في سورية اليوم هو غياب الثقة بإمكانية قيام جهاز أمني وطني عادل. فحين تستمر فوضى السلاح والانتهاكات، يشعر معظم المواطنين أنه لا يوجد فرق جوهري بين ما كان وما هو آتٍ. في هذه البيئة، تتغذّى اللّاأدرية على الشعور بالخذلان، وعلى الإحساس بأن أدوات القمع القديمة أُعيد تدويرها بأسماء مختلفة. إن كلّ تجاوز أمني غير خاضع للمحاسبة، وكلّ عنصر يمارس سلطته بدافع شخصي أو انتقامي، لا يعمّق فقط الفجوة مع الدولة، بل يعيد إنتاج المبررات الكاملة للحياد، للشك، وللسقوط في خطاب “لا أحد يستحق الثقة”.
وإن عدم خضوع المؤسسة الأمنية الجديدة لمراجعة جذرية ضمن إطار العدالة الانتقالية لا يعزز فقط استمرار الفوضى، بل يشرعن انسحاب معظم النّاس من المجال السياسي، ويحولهم إلى مراقبين ناقمين. من هنا، فإن إصلاح الأمن هو صمام أمان للثقة العامة، ولإمكانية تفكيك اللّاأدرية كموقف دفاعي متفاقم في المجتمع السوري.
إنّه لمن الأخطاء القاتلة أن يظن السوريون أن سقوط رأس النظام كافٍ لإغلاق صفحة الاستبداد. ما لم يُهدم ميراث الأسد في العقول، ستظل السياسة في سورية أسيرة الانفعال، والتردد، والانتظار. والمجتمع الذي لا ينتج سياسة، سيظل يدور في فلك السلطة، أيّاً كان شكلها. واللّاأدرية التي تتفشى اليوم تعبّر عن تيه صارخ. وهي انسحاب من الفعل العام باسم الحذر. هذا النوع من الانسحاب يُضعف المجتمع، ويقوّي بقايا المنظومة القديمة، التي ما زالت حيّة في ثقافة التهكم، وفي رفض التعدد، وفي احتقار كل مبادرة لا تأتي من “المعروفين”.
إذا أراد السوريون أن يبنوا بلداً جديداً بحق، فعليهم أن يتجاوزوا مرحلة الغضب، ويتخلّوا عن ردّات الفعل المتسرّعة، ويتقنوا العمل السياسي بمعناه العميق: التنظيم، التخطيط، المحاسبة، وتحمّل المسؤولية. لا خلاص من ميراث الأسد إلاّ بممارسة عكسية تماماً لكلّ ما كرّسه في النّاس: منطق الفرد، هوس الأمن، تحقير الاختلاف، وتسميم الثقة بين المواطنين. واللّاأدرية ليست مرحلة، بل مأزق قابل للتجذّر. والخروج منها يبدأ بالاعتراف أن الدولة لا تُبنى من الغضب والسخرية، ولا من الحنين للماضي، بل من إرادة واعية حاضرة، تُدير التناقضات بدل أن تهرب منها.
بواسطة رانيا كرباج | أبريل 14, 2025 | Cost of War, News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
حين نتأمّل المشهد السوري بعد عدّة شهورٍ من التحرير، ألا يبدو واضِحاً أنّ الاستبدادَ مُنتَجٌ محلّي الصنع، و ليسَ بحاجةٍ إلى داعمينَ عرب أو أجانب؟ لقد كبّرناهُ كلّ شبرٍ بندرٍ، إلى أن تعملَقَ و التهمَنا، هل تراه صنيعة نصف قرنٍ من الديكتاتورية التي جثمت على الصدور واستبدّت بالناس ومنعتهم من التنفس خارج سرديّتها، أم أنّه صنيعة نظام اجتماعي قبلي أبوي مرتبط بثقافة منطقتنا؟ أو ربّما الأصح الإثنَينِ معاً.
يُقالُ إنّ كلمة مُستبدّ باليونانية “ديسبوت” مُشتقّة من “ديسبوتيس” التي تعني ربّ الأسرة، أو سيّد المنزل، يبدو أنّه بالنسبة لليونان الاستبداد نظام اجتماعي يُربّى في البيت ثمّ ينطلق ليتحوّل إلى نظامٍ سياسيّ حيث الحاكم يُمارس سلطتَهُ الأحاديّة الاستبداديّة على منوالِ ربّ البيت، الفرقُ أنّ الأخير ربما يحمل في قلبِهِ تجاهَ أهلِ بيتِه بعضَ الشفقة، بحسب اليونان كذلك، فإنّ بذرة الخنوع تُسقى في البيت، حيث الاستسلام المُطلَق لسلطة الأب الواحد، يشكّل العائق الأكبر أمامَ نمو و تبلور شخصية أبنائه, هذا التبلور بحاجة إلى حريّة الإصغاء إلى الذات, و حرية التعبير عن الذات, وصولاً إلى حرية المُعارضة، أمّا الكبت الذي يفرضُهُ نظام اجتماعي يضيّق الخِناق على كل من يحاول أن يتنفّس خارج مفاهيمِه، فإنّه يؤدي إلى تربية شخصيات ضعيفة سوف تُماهي في المستقبل بين سلطة الأبّ و رجل الدين و الحاكم، وصولاً إلى سلطةِ الربّ المُتعالي، فإما أن تختارَ الخضوعَ المُطلَق، أو التمرّد والغضب المُدمّر، وإلى ما هنالكَ من التشوّهات.
بالعودة إلى القاموس العربي الإسلامي، نجد أنّ الاستبداد لم يحمل في طيّاتِه مفهوماً سلبيّاً، وهو إنّما يشيرُ إلى الحزم والعدل في تطبيقِ القانون، حتى إنّ المُفكّر وعالم الدين المصري الإسلامي “محمد عبده ” ذهبَ إلى أنّ الشرق بحاجةٍ إلى ما يسمّى ب” المُستبدّ العادل” القادر على إصلاحِهِ و تهيئَتهِ من أجلِ مرحلةٍ أكثر ديمقراطيّة، لكن هل هذا يعني أنّنا غير قادرين على العيش خارج مظلّة النظام الأبوي التراتُبي، حيث لا سلطةَ فوقَ رأسكَ، و عليك أن تكونَ سيّداً حرّاً يتحمّل مسؤولية هذه الحريّة. ربما رسّخ مفهوم الخلافة في الإسلام السلطة المطلقة للحاكم، على اعتبار أن الخليفة يستمدّ شرعيّته من الله مباشرةً، لكن لبعض المؤولين رؤية مختلفة فيما يخص فكرة الخلافة في القرآن الكريمِ, فالإنسان هو خليفة الله على الأرض، وهبهُ حقّ التصرّف بها حسبَ إرشاداتهِ و أوامرهِ، الإسلام من هذا المقام لا يحصر الخلافة بفردٍ أو طبقة، بل يحيلها إلى جميع أفرادِ المجتمع، كلّ بحسب موقعِه، بالتالي فإنّ أفراد المجتمع الإسلامي كلّهم خلفاء وشركاء في تسيير دفّة بلادهم، لا بدّ أن نتساءل هنا: هل الطبع القبليّ الأبوي غلب التطبّع الذي جاءت به الرسالة المحمّديّة؟ أم أنّ الفهم السطحي لها ساعد على ترسيخ المفاهيم المتوارثة؟ لقد بشّرتنا مقولة “ارفَعْ راسَك فوق أنتَ سوري حرّ ” ببداية حقبة جديدة في سوريا تقوم على احترامِ الإنسانِ بعيداً عن التصنيفات و التراتبيّات الاجتماعية والسياسية والدينية، لكن تحوّل شريحة كبيرة من الثورة المطلقة إلى الموالاة العمياء للحكّام الجدُد لا يبشّرُ بالخير، إذ يبرهن على حاجتِنا اللاواعية إلى حاكمٍ جديدٍ تتماهى صورَتهُ مع الأبّ كي نشعرَ بالأمان.
على النقيضِ من ذلك، يذهب عبد الرحمن الكواكبي في كتابهِ “طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد” إلى أنّ الإنسان مأمورٌ بمقاومةِ الظلم و مجابهتِهِ، لأنّه من غير الجائز أن يقبلَ المؤمنُ بعبوديّةٍ لغير الله، و إذا ارتضى لنفسهِ بالذلّ و قبلَ بالظلم دون أن يثورَ عليه، فإنّ عقابَهُ لا يقلّ عمّن مارس الطغيان وذلكَ استناداً إلى قوله تعالى “و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار”.
المُلفت كذلك في التجربة السورية، هو تخوين الطبقة الرمادية، تلك التي صمتَت لأسبابٍ متعدّدة، كذلك الطبقة التي كانت علاقتها بالحاكم بعد التحرير معتدلة، بانتظار أن تحكم على الأفعال و ليس الأقوال، وكأنّ خيانة الحاكم الرمز تحيلُنا إلى خيانة الأب و بالتالي الربّ. من الملاحظِ كذلك غياب أو تغييب العقل النقدي عندما يكون الحاكم من نفس طائفةِ المحكوم، فالأخير يكون أقدر على حمايته, إذ إنّه أقرب إلى الربّ الذي خلقه، لكن أليس من الأجدى أن يكون الولاء للوطنِ بتاريخه و جغرافيّته وتنوّعه ومصالحه الكبرى والصغرى، أليسَ تدمير المدن والقرى والبُنى التحتيّة والجيش والمؤسّسات والاقتصاد وكرامة الإنسان السوري، هو أعظم خيانة!
قد يكون للحاكم المُستبدّ دورٌ في تزييف الولاءات والأولويات، و قد تقومُ بهذه المُهمّة قوى أخرى، صاحبة مصلحة في خلط الأوراق وذرّ الفتن، أمّا تشويه التاريخ فهو الخطوة الأهم من أجلِ إنتاجِ شعبٍ بلا جذور، وبالتالي بلا هوية، يسهل تحويل ولائهِ وانتمائهِ الطبيعي إلى وطنِه، إلى ولاء و انتماء مُطلق إلى حاكم واحد، على منوال الإله الواحد، كما تسهل شرذمتُهُ وزجّه في حروب و صراعات طائفية ومحليّة، هنا تتلاقى مصالح الاستبداد والاستعمار، أما غياب خطاب وطني جامِع، يوحّد السوريين حول تاريخ وجغرافيا وثقافة مُشتركة، هوبالتأكيد مسؤولية النظام الحاكم، والذي أدى ربما إلى غلبة الخطاب الديني أوالطائفي، طالما تمّ إخصاء انتمائنا الأوسع لأرضنا، سوف نتعلّق بالتالي بانتماءات طائفية ومناطقيّة وقبليّة أضيق.
لقد انقسم السوريون بعد اندلاعِ الثورة إلى موالينَ للنظام ومُعارضينَ أو ثوّار. كان تعنّت رأسِ الحكم سبباً لاقتِتالِهم أربعة عشر عاماً، ارتُكبَت خلالها الفظائع على الأرض السوريّة، أمّا اليوم بعد سقوط السبب الرئيسي للمقتَلة، تشهدُ البلاد شرارة صراع وتقسيم على أساس طائفي، تمخّضت عنه مأساة الساحل السوري، حيث تعاملت السلطة القائمة بنفس عقلية السلطة البائدة، من حيث القضاء على ما تعتبره البيئة الحاضنة لأي تمرّد بما فيها من مدنيين وأبرياء. يذهب البعض إلى أنّ زوال رأس الاستبداد الذي كان يعتمد على القمع في تثبيتِ حكمِهِ أدى إلى الانفلات وظهور التشوّهات التي كان عليه أن يعالجَها عوضاً عن كبتِها، و هذا صحيح من ناحية لكن من ناحية أخرى من غير المجدي إنكار الأيادي الخبيثة والمصالح الخفيّة التي عبثت بالأرض السورية، فكل حديث عن الاستبداد لا يأخذ بعين الاعتبار الاستعمار هو رؤية قاصرة. قد يكون الاستبداد أداة الاستعمار، و قد يكون لكلّ منهما أجندة مُختلفة لكنّهما في المبدأ متّفقان و لديهما أعداء مشتركون هم الشعوب و الأوطان.
يتحدّث عبد الرحمن الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد” عن الاستبداد والدين، الاستبداد و العلم، الاستبداد والمجد و المال و الأخلاق و التربية و الترقّي، إلخ. ربّما ناهضَ الكواكبي الإستبداد و فضحَ أساليبَهُ في استعبادِ الشعوب لكنّ المُفكّر والفقيه الحنفي وأحد روّأد النهضة العربيّة كان يقارع في الحقيقة الاستعمار العثماني الذي مارسَ سياسة القهر و تشويه الهوية على شعوب المنطقة، أيّ أنّه قارعَ استعماراً مُستبدّاً، و أيّ قدرٍ أسوأ من أن تقع المنطقة تحت قبضة طغيانِه المزدوجة، وإن تغيّر اللاعبونَ على أرضِنا فإنّ قيدَنا واحد.
لقد لاحظنا كيف قامَ الثوار بتكسيرِ تماثيلِ المُستبدّين مُعلنين بداية حقبة جديدة عنوانها “الحرية”، هناكَ رغبة لاواعية في التحرّر من التراتبيّة الاجتماعية الأبوية التي أحالتنا إلى عبيد لكن تلك الرغبة بالتحرّر تظلّ غير فاعلة طالما أنّها تعيد بناء نفس النظام الاجتماعي والسياسي لكن برموز ورؤوسٍ جديدة, فالتحرّر من رأس الإستبداد يستوجب التحرّر من ثقافةِ الإستبداد, ليعودَ الناسُ متساوون في الحقوق و الواجبات بغضّ النظر عن موقعهم في تراتبيّة السلطة.
أمّا الحرية بفهومِها الأعمق فلا تقومُ إلا إذا كانت بوصلتَها الأخلاق، بمعنى أدقّ، السمو بالأخلاق. يفقد النضال من أجلِ التحرّر قيمتَهُ ومشروعيّتهُ عندما يعيدُ إنتاجَ عقلية سجّانيه، علماً بأنّ المستبد سيلجأ بكلّ الوسائل إلى توريطِ مُعارضيه، إنّها طريقتهُ الوحيدة من أجل الدفاع عن نفسهِ، فهو لا يملكُ أن يحارب من يحمل قيَماً و مبادئ أخلاقية أعلى إلّا إذا جرّه إلى مستنقع الشرّ الذي يسبحُ فيه.
قادَ نلسون مانديلا نضالَ شعبهِ ضدّ التمييز العنصري لكنه بعد ربعِ قرنٍ من السجن أعلنَ وقف الكفاح المُسلّح ودخل في مفاوضات مع رئيس جنوب أفريقيا الأبيض ويليام ديكلبرك. لقد اختار مانديلا النضال من أجلِ الحرية بكل ما تقتَضيه الرحلة من آلام، وثّقها في كتابه “رحلتي الطويلة في طريق الحريّة”، ربّما مقولتَهُ الشهيرة تلخّص هذه التجربة: ” حينما خرجتُ من السجن كانت مُهمّتي هي تحرير الظالم و المظلوم، تحوّلت مهمّتي لحرية كل الناس، بيضاً و سوداً، فقد كنتُ أعلمُ أنّه لابدّ من تحرير الظالم من الكراهيةِ والتحيّز و ضيق الأفق.” الحرّ الحقيقي إذن هو من يحرّر الآخر كي يتمكّن من شقّ طريقه بقوّته وإرادته الحرّة، وليس من يقرّر عنه، أمّا مقولة “من يحرّر يقرّر” التي تداولَها السوريون إبان التحرير فهي مقولة مسطّحة و تنقض نفسها بنفسها.
تنبّأ الكاتب و الصحافي والسياسي السوري ميشيل كيلو أنّ سوريا بعد سقوط الإستبداد ستمرّ بثلاثةِ مراحل إلى أن تصل إلىَ الديمقراطية: المرحلة الأولى ستكون وطنية جامعة مهمّتها اجتثاث الاستبداد من السياسة والمجتمع والتربية والاقتصاد والنفوس، ثمّ مرحلة تنظيم المجتمع على أسس ديمقراطي، و تغيير طبيعة المؤسّسات لتعملَ بالقانون. كي نصلَ إلى النظام الديمقراطي بحسب ميشيل كيلو، نحن بحاجةٍ إلى حلّ مشكلة الطائفية، وإخراج العنف من المجال العام، و التوزيع العادل للدخل الوطني، كما أنّنا بحاجةٍ إلى لملمة مجتمع تمزّقه القوميات. لمّح ميشيل كيلو إلى الفيدرالية ولم يستبعد قيام دولة إسلامية. بحسب ميشيل كيلو، والذي هو أحد مُنظّري الثورة السورية، علينا أن نبدأ باجتثاث ثقافة الاستبداد. أعتقد أنّه التحدّي الأصعب، و ما لم نعبر هذه المرحلة بنجاح سوف نستمرّ بإنتاج أنظمة سياسية على صورة ومثال النظام الاجتماعي المُمسك بخناقِنا. لقد افترض ميشيل كيلو أنّ التغيير سيبدأ من رأس الهرم، أي السلطة الحاكمة، ليطال كافة مناحي الحياة، مُفترضاً أن من سيصل إلى الحكم في سوريا هم ثوّار أحرار، و سيوصلون سوريا إلى برّ الحرية المنشودة.
من المعروف أنّ الثورة في سوريا قامت ضدّ نظامٍ استبدّ بشعبهِ وقتله واستأثرَ بالسلطة مما جرّ البلادَ إلى بحر الدمِ والتدخلات الخارجية والفصائل الأجنبية والتقسيم لذا فإنّ التحدي الأكبر الذي يواجه السلطة القائمة اليوم هو قدرتَها على الخروجِ من وصمة الاستبداد التي تلاحق هذه البلاد، و هذا لن يتمّ إلا عندما تتحرّر من نظرتِها الأحادية للمعضلة السورية، عن طريق إشراك كافة الأطياف السورية و تبنّي وجهات النظر والمظلوميات المختلفة من أجلِ ايجاد سردية سورية تلمّ الشمل الممزّق و تعيد بناء دولة المواطنة التي تمثّل آلام وتطلّعات كل الفسيفساء السوري المتداخل والمتكامل في آن واحد معاً.
بواسطة عمر الشيخ | أبريل 9, 2025 | Cost of War, News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
حادثة غرق جديدة تفاقم أزمة المهاجرين السوريين قبالة السواحل القبرصية. في 17 مارس/آذار 2024، انقلب قارب يقل مهاجرين، ما أسفر عن مقتل سبعة أشخاص على الأقل، فيما لا يزال أكثر من عشرة في عداد المفقودين. وقع الحادث على بُعد 25 ميلاً بحرياً من كابو غريكو، في منطقة بحرية ذات سيادة متنازع عليها، مما صعّب من عمليات الإنقاذ بسبب تداخل الحدود البحرية.
ليست هذه الحادثة الأولى، إذ تشهد المنطقة ارتفاعاً مقلقاً في حوادث غرق القوارب خلال الأشهر الأخيرة. ووفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، فقد لقي ما لا يقل عن 95 شخصاً حتفهم أثناء محاولتهم عبور المتوسط منذ بداية عام 2024، مقارنة بـ150 حالة وفاة خلال عام 2023 بأكمله في نفس المنطقة.
في سياق متوتر، أعلنت قبرص تعليق قبول طلبات اللجوء للسوريين، في قرار استبَق سقوط نظام الأسد في أبريل / نيسان 2024. وعلّلت الحكومة القبرصية القرار ببلوغ أعداد اللاجئين مستويات “غير مسبوقة”، تجاوزت 4% من إجمالي السكان، ما عدّته تهديدًا للأمن القومي والضغط على الموارد.
تُظهر بيانات المفوضية الأوروبية أن قبرص استقبلت في عام 2023 أكثر من 13,000 طلب لجوء جديد، غالبيتهم من سوريا ولبنان، وهو أعلى معدل في الاتحاد الأوروبي نسبةً إلى عدد السكان. أمام هذا التدفق، أعلنت الحكومة “حالة طوارئ هجرة”، وعلّقت استقبال الطلبات الجديدة، معتبرة أن القدرة الاستيعابية للدولة بلغت حدها الأقصى.
رغم تأكيد الحكومة القبرصية التزامها بالقانون الدولي ورفضها تنفيذ عمليات إعادة قسرية، إلا أن منظمات حقوقية شكّكت في هذه الرواية. فقد أشارت تقارير متقاطعة إلى حالات أُعيدت فيها قوارب مهاجرين دون دراسة طلبات اللجوء، ما يُعد خرقاً محتملاً للاتفاقيات الدولية. وفي ردّه على هذه الاتهامات، قال نائب وزير الهجرة القبرصي، نيكولاس يوانيدس، مؤخراً: “بعض القوارب تعود بسبب سوء الأحوال الجوية أو لأنها تتجه نحو الشمال القبرصي أو اليونان، لكن لا توجد سياسة ممنهجة لإعادة المهاجرين قسراً”.
تحرّك أوروبي مبكّر
مع سقوط النظام في سوريا، تسارعت التحركات الأوروبية لإعادة تقييم سياسات اللجوء، حيث أوقفت عدة دول رئيسية، بينها ألمانيا وفرنسا واليونان والنمسا، معالجة طلبات اللجوء المقدّمة من سوريين، في خطوة تعكس توجّهاً جماعياً لإعادة النظر في تصنيف سوريا كدولة منشأ للاجئين.
أمام هذا التحول، وجد آلاف اللاجئين السوريين أنفسهم في مواجهة واقع قانوني جديد، بعد سنوات من اعتمادهم على أنظمة الحماية الأوروبية. ووفقاً لتقارير صحفية، جمّدت اليونان وحدها أكثر من 9,500 طلب لجوء، في انتظار “توضّح الصورة السياسية في سوريا”، بحسب تصريح مسؤول يوناني أشار إلى أن بلاده “كانت بوابة الدخول الرئيسية للاجئين عبر البحر، لكن الوضع تغيّر الآن”.
وتماشياً مع هذا النهج، أعلنت الدنمارك والنرويج والسويد إجراءات مماثلة، علّلتها بـ”ضبابية الوضع السياسي والأمني” في سوريا. وقررت السويد، التي كانت في 2015 من أبرز الدول المضيفة للاجئين السوريين بعد ألمانيا، تعليق برامج إعادة التوطين انتظاراً لمراجعة تقييمها للوضع الداخلي في سوريا.
تدفّق كبير نحو قبرص
مع انسداد أبواب اللجوء في أوروبا، تحوّلت قبرص إلى واحدة من آخر الملاذات المتاحة أمام السوريين الهاربين من الفوضى، لتشهد الجزيرة الصغيرة موجة متصاعدة من محاولات الوصول غير النظامي عبر البحر. وبينما أغلقت دول كألمانيا والنمسا والسويد برامجها للاجئين السوريين، وشددت اليونان وتركيا الرقابة على الحدود، لم يبقَ أمام الكثيرين سوى ركوب أمواج المتوسط نحو قبرص، عبر طرق بحرية محفوفة بالمخاطر انطلاقاً من لبنان والساحل السوري.
تشير بيانات المفوضية الأوروبية إلى أن عدد الوافدين إلى قبرص ارتفع بنسبة 60% في عام 2023 مقارنة بالعام السابق، إذ استقبلت الجزيرة أكثر من 20,000 طالب لجوء، معظمهم من السوريين. وتُظهر الإحصاءات الرسمية أن نحو 90% من القوارب التي وصلت إلى سواحل قبرص انطلقت من لبنان، في حين تم اعتراض العديد من الرحلات القادمة من الساحل السوري.
وفي ظل هذا التصاعد، حذّر الرئيس القبرصي نيكوس خريستوذوليديس من بلوغ القدرة الاستيعابية للدولة حدّها الأقصى، مؤكدًا أن اللاجئين يشكّلون أكثر من 4% من سكان البلاد، وهو ما وصفه بـ”تهديد مباشر للاستقرار الداخلي”. وقال في مقابلة صحفية: “قبرص ليست مجهّزة لتحمّل عبء بهذا الحجم. اقتصادنا محدود، وبنيتنا التحتية لا تحتمل مزيداً من التدفقات غير النظامية”.
تمويل أوروبي لاحتواء الهجرة غير النظامية
مع إغلاق مسارات اللجوء القانونية في دول الاتحاد الأوروبي الكبرى، تحوّلت قبرص إلى نقطة ضغط رئيسية في ملف الهجرة غير النظامية، ما دفع بروكسل إلى تكثيف جهودها لاحتواء التدفقات، خاصة من سوريا ولبنان. في مايو/أيار 2024، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، من بيروت، عن حزمة مساعدات بقيمة مليار يورو لدعم استقرار لبنان، في خطوة تهدف إلى منع انطلاق قوارب اللاجئين من سواحله. وقالت إن الدعم يركز على تعزيز الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، لضمان عدم اضطرار اللاجئين السوريين إلى المجازفة بأرواحهم في البحر. كما خُصص جزء من المساعدات لدعم الجيش والقوى الأمنية اللبنانية، عبر توفير تجهيزات وتدريب في مجال ضبط الحدود البرية والبحرية.
وبالتوازي، رفعت المفوضية الأوروبية في يونيو 2024 ميزانية دعم دول العبور، مثل لبنان وتركيا، بنسبة 30%، لتعزيز قدراتها على الحد من الهجرة غير النظامية. وجاء ذلك متزامناً مع تكثيف التنسيق الأمني بين قبرص ولبنان، حيث أعلنت السلطات اللبنانية عن اعتراض أكثر من 15 قاربًا قبل مغادرتها في الأشهر الأولى من العام، بموجب اتفاق أمني جديد مع نيقوسيا.
الرئيس القبرصي نيكوس خريستوذوليديس، الذي شارك في مؤتمر بيروت، حذّر من أن “الوضع لم يعد مستداماً لا للبنان ولا لقبرص ولا للاتحاد الأوروبي”، داعياً إلى اتفاقات شراكة جديدة على غرار اتفاق 2016 بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، الذي ربط بين ضبط الحدود وتقديم مساعدات مالية وإنسانية للدول المستقبلة.
وفي سياق متصل، أعلنت الحكومة القبرصية في نيسان / أبريل العام الماضي عن تعزيز قدرات خفر السواحل، عبر تزويده بمعدات متقدمة وتوسيع صلاحياته، ما ساهم، بحسب وزارة الداخلية، في خفض عدد الوافدين غير النظاميين بنسبة 25% مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2023.
يعكس هذا التصعيد الأمني تحولاً جذرياً في مقاربة الاتحاد الأوروبي للهجرة: من الاستيعاب إلى الردع. وبين سياسات الإغلاق البحري وتضييق فرص اللجوء، يجد اللاجئون السوريون أنفسهم اليوم عالقين بين البحر والحدود، في خيارات تزداد خطورة وتقلّ بها البدائل.
نشاط التهريب نحو قبرص
رغم تشديد السياسات الأوروبية وتعزيز الإجراءات الأمنية، لا تزال شبكات التهريب تمثّل الحلقة الأخطر في أزمة الهجرة غير النظامية، مستغلة يأس المهاجرين وسوء أوضاعهم الاقتصادية. كثير من السوريين الراغبين بالوصول إلى قبرص أو أوروبا يقعون ضحايا لعصابات منظمة، تَعِدهم برحلات آمنة مقابل مبالغ طائلة، ليجدوا أنفسهم في نهاية المطاف على متن قوارب مهترئة وسط أمواج المتوسط، بلا أي ضمانة للنجاة.
بحسب المكتب الأوروبي لدعم اللجوء (EASO)، شهد عام 2023 ارتفاعًا بنسبة 40% في نشاط التهريب عبر شرق المتوسط، مع تسجيل أكثر من 500 محاولة عبور غير شرعية من لبنان وسوريا نحو قبرص وحدها. وتُظهر تقارير أمنية أن تكلفة العبور على متن قارب غير قانوني تتراوح بين 3,000 و5,000 دولار للفرد، ما يحوّل هذه الرحلات إلى تجارة رابحة لعصابات التهريب، التي تُقدَّر أرباحها بملايين الدولارات سنويًا.
في يونيو 2023، فككت السلطات القبرصية شبكة تهريب دولية ضمّت عناصر من جنسيات متعددة، كانت مسؤولة عن تنظيم أكثر من 20 رحلة غير نظامية من طرابلس اللبنانية إلى قبرص، مستخدمة قوارب صيد متهالكة. التحقيقات كشفت أن المهربين كانوا يتخلّون عن المهاجرين في عرض البحر فور اقتراب خفر السواحل، ما تسبّب بسلسلة من حوادث الغرق خلال الأشهر التالية.
وفي حادث مأساوي في يناير 2024، أجبر مهرّبون لبنانيون مجموعة من المهاجرين السوريين على القفز في البحر بعد تعطل قاربهم، مطالبين إياهم بالسباحة نحو الشاطئ القبرصي رغم عدم إجادة بعضهم للسباحة. لقي ستة أشخاص مصرعهم بعد أن ظلوا عالقين في المياه لأكثر من عشر ساعات قبل وصول فرق الإنقاذ. هذه الواقعة لم تكن استثناءً، بل جزءًا من أساليب متكررة تعتمدها شبكات التهريب: التخلي المتعمّد عن المهاجرين في المياه الدولية، أو استخدام قوارب صغيرة متعددة الرحلات لتفادي الرقابة البحرية.
استغلال ممنهج للخوف
لم يعد البحر الوسيلة الوحيدة التي يستغلها المهربون، فقد لجأوا إلى طرق تهريب أخرى، مثل إخفاء المهاجرين داخل شاحنات البضائع كما حدث في فبراير 2024 عندما ضبطت السلطات القبرصية مجموعة من اللاجئين السوريين مختبئين في شاحنة تبريد متجهة إلى ميناء ليماسول، في محاولة لتهريبهم إلى اليونان. في مارس 2024، ألقت الشرطة القبرصية القبض على سبعة مهاجرين في مطار لارنكا، كانوا يحاولون السفر إلى فرنسا باستخدام جوازات سفر يونانية مزورة، بعد أن دفعوا آلاف الدولارات لعصابات التهريب التي تروج لهذه الوثائق المزورة كوسيلة مضمونة للوصول إلى أوروبا.
الأخطر من ذلك هو استغلال الأطفال القُصَّر في عمليات التهريب، حيث رصدت السلطات القبرصية محاولات تهريب متكررة لأطفال دون ذويهم، بهدف استخدامهم لاحقاً كأداة للحصول على طلبات لجوء عائلية في أوروبا. هذا النوع من الاستغلال يعكس مدى وحشية المهربين الذين لا يترددون في تعريض الفئات الأكثر ضعفاً للخطر.
مع إغلاق الحدود الأوروبية وتشديد القيود على منح اللجوء، باتت هذه العصابات أكثر نشاطاً، حيث تلجأ إلى أساليب جديدة وأكثر تعقيداً لتجاوز المراقبة الأمنية. وفقاً للمحققين الأوروبيين، بدأت بعض الشبكات باستخدام نظام الرحلات متعددة المراحل، حيث يتم نقل المهاجرين أولاً إلى جزر صغيرة قرب قبرص قبل تهريبهم لاحقاً إلى البر الرئيسي عبر مجموعات صغيرة متفرقة، لتجنب اكتشافهم من قبل خفر السواحل.
في ظل هذا التصعيد، تجد الحكومات الأوروبية نفسها أمام معضلة مزدوجة، فمن جهة، هناك ضرورة لوقف تدفق الهجرة غير الشرعية، ومن جهة أخرى، تتزايد الضغوط الحقوقية على الاتحاد الأوروبي لضمان عدم انتهاك حقوق اللاجئين الذين يقعون ضحايا لهذه الشبكات. لكن مع إغلاق الخيارات القانونية أمام اللاجئين، تبقى المشكلة الحقيقية أن المهربين هم الجهة الوحيدة التي تفتح لهم الأبواب، ولو إلى الموت في البحر.
في ظل تصاعد أزمة الهجرة، تؤكد الحكومة القبرصية التزامها بالقانون الدولي والتشريعات الأوروبية، مشددة على أن سياساتها تهدف إلى إدارة الحدود بفعالية وليس إلى إعادة المهاجرين قسراً. ورداً على الانتقادات، صرح نائب وزير الهجرة القبرصي، نيكولاس يوانيدس: “التعامل مع ملف الهجرة يجب أن يكون مبنياً على الوقائع وليس على الادعاءات. بعض المنظمات تتحدث عن عمليات إعادة قسرية، لكنها لا تمتلك أدلة قاطعة”.
ورغم هذه التطمينات، تواجه قبرص ضغوطاً متزايدة مع ارتفاع عدد محاولات العبور غير النظامية. ووفقًا لتقرير أمني حكومي صدر في فبراير 2024، فإن التشديدات الأخيرة ساهمت في تقليل عدد القوارب الوافدة بنسبة 25% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2023، حيث تم تشديد إجراءات التدقيق على القوارب القادمة من لبنان وسوريا، مع إلزام السفن بالإبلاغ عن أي حالات مشبوهة.
بالتعاون مع وكالة فرونتكس الأوروبية، عززت قبرص مراقبة سواحلها، كما وقّعت اتفاقيات أمنية مع اليونان وإيطاليا في مارس 2024 لتعزيز تبادل المعلومات حول شبكات التهريب البحرية، ما أدى إلى إحباط عدة محاولات تهريب خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام. وفي أبريل 2024، تم نشر فرق إضافية من فرونتكس في البحر المتوسط لمساعدة قبرص في اعتراض القوارب قبل دخولها المياه الإقليمية.
ومع هذه الإجراءات، يجد المهاجرون أنفسهم أمام خيارات صعبة بين خطر العودة، أو المخاطرة بحياتهم في البحر، أو مواجهة القيود الأوروبية المتزايدة. لكن قبرص ترى في هذه السياسات ضرورة لحماية حدودها ومنع استغلال الجزيرة كمحطة عبور نحو دول الاتحاد الأوروبي الأخرى.
وإلى جانب تشديد السياسات الأوروبية تجاه الهجرة غير الشرعية، لم يعد اللجوء السوري يحظى بالأولوية كما في السابق. دول مثل ألمانيا وفرنسا واليونان والنمسا علّقت دراسة طلبات اللجوء، فيما فرضت السويد والدنمارك قيوداً إضافية، بينما تعمل لبنان وتركيا على الحد من تدفق المهاجرين.
أصبحت قبرص نقطة ضغط رئيسية، متوازنة بين الالتزامات القانونية والضغوط الأمنية. مصادر حكومية خاصة أكدت لموقع صالون سوريا أن نيقوسيا لن تتهاون في ضبط الهجرة غير الشرعية، معتبرةً أن استمرار التدفقات بات يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي. ومع تعزيز التعاون مع فرونتكس وتشديد الرقابة البحرية، يبدو أن قبرص تتبنى نهجًا أكثر صرامة لمنع استغلال الجزيرة كنقطة عبور إلى أوروبا.
بالنسبة للمهاجرين، لم يعد البحر مجرد طريق للخلاص، بل بات ساحة مفتوحة للمخاطر والاستغلال. بين شبكات التهريب التي تستغل يأسهم، والسياسات الأوروبية التي تغلق أمامهم الأبواب، يجد اللاجئون السوريون أنفسهم أمام خيارات محدودة وخيارات أكثر خطورة.
إلى أين ستقود هذه السياسات مستقبل اللاجئين؟ وهل ستتمكن أوروبا من تحقيق التوازن بين الأمن والالتزامات الإنسانية، أم أن البحر سيظل الحل الأخير والمحفوف بالمخاطر؟