كيف يفكر الشباب في سوريا في ظل الحرب

كيف يفكر الشباب في سوريا في ظل الحرب

ملف أعده عمر الشيخ وأسامة إسبر

ننشر المساهمات التالية لكتاب وشعراء وصحفيين وموسيقيين سوريين شباب في إطار ملف يركز على رؤية جيل الشباب في سوريا لتأثيرات الحرب الدائرة حالياً على كافة المستويات.  سننشر المواد تباعاَ ونقوم بتفعيل روابطها.

وقد عالج الكتاب المساهمون قضايا مختلفة في إطار أجوبتهم على الأسئلة التالية:

1- ماهي برأيك أكثر الظواهر الإنسانية التي كانت في الظل وعرتها الحرب في سورية وبات حلّها ليس متوقفاً على توقف الحرب وحسب، بل وعلى تغيير شامل وحقيقي.. سياسي فكري.. اجتماعي؟  

2- هل كانت غلبة الحضور الديني في المجتمع أساسية ومسيسة، كيف برأيك انعكست على الأحداث في البلاد ومن أثر بها واستثمرها؟

3- كيف ترى الثقافة كمصدر تنويري يمكن أن ينشر الوعي في المجتمع في مواجهة أي تطرف اجتماعي أو ديني أو عسكري أو اصطفاف عقائدي أو مناطقي؟!

4- كيف تنظر إلى ما يجري في سوريا في الوقت الحالي؟

5- كيف أثرت الحرب على حياتك؟ كيف عشت\تعيش حياتك في ظل الحرب؟

6- كيف أثرت الحرب على علاقتك بأصدقائك؟

7- هل تتصل مع شباب آخرين من طوائف أخرى؟ هل تشعر بأن الطائفية صارت علنية في سوريا؟

8- برأيك إلى أين تتجه سوريا؟

9- هل هناك أنشطة أو مشاريع في ظلّ الحرب تشعر أنها تعبّر عنك؟

10- هل هناك أفعال يجب أن يقوم بها الشباب في ظل الحرب كي يحافظوا على ما يمكن المحافظة عليه؟

11- برأيك من المسؤول عن إيصال سوريا إلى هذا الوضع الحالي؟

12- كشاب\شابة ما هي الأولويات بالنسبة لك في ظل الأوضاع الحالية؟

13- كشاب\شابة كيف يمكن أن يلعب جيل الشباب دوراً لإنقاذ سوريا وهل هذا ممكن؟

14- برأيك كيف يمكن التخلص من الطائفية في سوريا، كيف يمكن محاربة هذه الظاهرة والمنظومات التي تحاول أن تغذيها؟

الكتاب المساهمون في الملف

 ١: رهانات خاسرة
عامر العبود

٢: الموسيقيون السّوريون في نفق الحرب
عامر فياض

٣: تعايشاً مع الحرب: هكذا تمضي الصداقة
أحمد محمد السح

٤: تناقضات فكرية في الحرب تضيق وتتسع في آن معاً!
ملك بيطار

٥: أن تتعلّق بقشّة
شمس حمود

٦: صورة حلوة.. وواقعٌ مريرْ!
علا حسامو

٧: مُفارقات الكتابة في الكارثة السّوريّة
عمر الشيخ

٨: مشاهد في ظلّ الحرب
قصي زهر الدين

٩: نجوم شباك نشرات الأخبار
فريد حسن ياغي

١٠: ماذا عن الوطن؟
لبنى أبو خير

١١: كنت أخاف المسلمين وكل من كانوا لا يحملون ديانتي
يارا عيسى

بوتين لتفكيك ثلاث عقد أمام سوتشي

بوتين لتفكيك ثلاث عقد أمام سوتشي

“تبدأ موسكو الأسبوع المقبل اتصالاتها في اتجاهات عدة لتفكيك ثلاث عقد أمام انعقاد «مؤتمر الحوار الوطني السوري» في سوتشي المقرر يومي 29 و30 الشهر الحالي، في وقت تواصل «الهيئة التفاوضية العليا» السورية المعارضة جولة أوروبية – عربية تشمل برلين ولندن وباريس بعد عمان والقاهرة بهدف التوصل إلى قرار نهائي من المشاركة في سوتشي.
في دمشق، مؤتمر سوتشي هو حديث الأروقة، إذ أبلغ مسؤولون عسكريون روس وسوريون قريبون من قاعدة حميميم شخصيات سياسية وثقافية واقتصادية ودينية وعسكرية نية موسكو دعوتها إلى المؤتمر الذي يرمي إلى تشكيل لجنة دستورية ومجلس المؤتمر. ودفعت دمشق مسؤولين وأحزابا مرخصة للمشاركة في سوتشي على أمل في خفض سقف المؤتمر، بحيث يقتصر على تشكيل اللجنة وأن يوقع مرسوم التشكيل الرئيس بشار الأسد على أن تجري تعديلات على الدستور الراهن لعام 2012 ضمن إجراءات البرلمان الحالي، إضافة إلى المطالبة بعقد الجلسة المقبلة من مؤتمر الحوار في دمشق.
بالنسبة إلى موسكو، هناك ثلاث عقد رئيسية أمام وفاء وزارتي الخارجية والدفاع برغبة الرئيس فلاديمير بوتين في عقد المؤتمر وإعلان الانتصار السياسي قبل الانتخابات الرئاسية في 18 مارس (آذار) المقبل. ويبدأ المسؤولون الروس بعد أعياد رأس السنة بداية الأسبوع المقبل، اتصالات لتفكيك العقد الثلاث:
الأولى، عقدة مشاركة الأكراد. قررت موسكو عدم دعوة «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي»، و«وحدات حماية الشعب» الكردية؛ تلبية لرغبة أنقرة التي تعتبرهما امتداداً لـ«حزب العمال الكردستاني» المحظور في تركيا، لكن وزارة الدفاع الروسية أبلغت قائد «الوحدات» سبان حمو في موسكو قبل أيام، نيتها دعوة الإدارات الذاتية الكردية.
أنقرة غاضبة من قرار كهذا لأنها ترى أنه «يتناقض مع روح القرار 2254 الذي نص على وحدة الأراضي السورية، في حين أن الإدارة الذاتية هي مشروع تقسيمي»، بحسب مصدر تركي. لكن داعمي الإدارات الذاتية يرون أن «فيدرالية الشمال السوري ضمانة لبقاء سوريا موحدة». ومن المقرر إجراء الانتخابات التشريعية في موعد لاحق بعدما كانت مقررة بعد أسبوعين، حيث يجري تشكيل جسم تنفيذي وحكومي لفيدرالية الشمال.
ومن المقرر عقد لقاءات روسية – تركية – إيرانية منتصف الشهر لإقرار قائمة المدعوين إلى سوتشي التي تضم إلى الآن 1500 شخص. ويتوقع أن يجدد الجانب التركي رفض مشاركة الإدارات الذاتية مقابل اقتراح مشاركة «المجلس الوطني الكردي» المنضوي تحت لواء «الائتلاف الوطني السوري» المعارض.
بحسب مسؤول غربي، فإن موسكو اقترحت مشاركة «الإدارات الذاتية» لسببين: الأول، الضغط على أنقرة كي تضغط بدورها على فصائل عسكرية وسياسية سوريا معارضة للمشاركة في سوتشي. الثاني، إرسال إشارة إيجابية إلى واشنطن التي تقدم الدعم العسكري والسياسي للإدارات الكردية و«قوات سوريا الديمقراطية» التي تضم «الوحدات» وساهمت في هزيمة «داعش».
الثانية، عقدة حضور المعارضة السورية. أصدرت معظم فصائل «الجيش الحر» والفصائل الإسلامية والقوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني بيانات رسمية ضد مؤتمر سوتشي، لكن «الهيئة التفاوضية» لم تصدر إلى الآن بياناً ضد المؤتمر وإن كان الناطق باسمها يحيى العريضي أصدر موقفاً ضد سوتشي ثم خففه. وصاغ مسؤولون في «الهيئة» مسودة بيانات باسمها تضمن الإشارة إلى المواقف المعارضة والرافضة للمؤتمر والدور الروسي وتأكيد أهمية مرجعية جنيف، لكن المسودة لم تتحول إلى بيان رسمي.
وتلقت «الهيئة» نصائح من معظم حلفائها بضرورة فتح حوار رسمي مع موسكو وطرح الأسئلة الخاصة بسوتشي على الجانب الروسي بحيث تترك «الهيئة» الباب مفتوحاً أمام الانضمام إلى المسار الروسي لاحقاً. عليه، قام وفد من «الهيئة» برئاسة رئيسها نصر الحريري بجولة عربية شملت عمان والقاهرة ولقاءات وزيري الخارجية المصري سامح شكري والأردن أيمن الصفدي ومسؤولين آخرين يشرفون على «الملف السوري»، إضافة إلى الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبوالغيط. وبحسب معلومات، فإن المسؤولين العرب أكدوا ثلاث نقاط: الأولى، ضرورة التمسك بمرجعية مفاوضات جنيف وتنفيذ القرار 2254. الثانية، أن يكون مؤتمر سوتشي جزءا من مفاوضات جنيف والحوار مع الجانب الروسي لتحقيق ذلك. الثالثة، تنويه بموقف «الهيئة» في الجولة السابقة من مفاوضات جنيف وتفاعل وفدها مع المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا.
وأثار لقاء مسؤولين مصريين وفد «الهيئة» غضب دمشق، إذ أعرب مسؤولون فيها عن الانزعاج من «لقاء وزير الخارجية المصري مع المعارضة السورية وعدم لقاء الحكومة»، علما بأن الجامعة العربية جمدت عضوية الحكومة قبل سنوات.
ومن المقرر أن يزور وفد «الهيئة» برلين في 8 من الشهر الحالي للقاء وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل ومسؤولة الشؤون الخارجية والأمنية الأوروبية فيدركا موغيريني، قبل زيارة لندن في 12 الحالي للقاء وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون. وتنتظر «الهيئة» موعدا لزيارة باريس ولقاء الرئيس إيمانويل ماكرون، إضافة إلى احتمال القيام بزيارة رسمية إلى موسكو.
الثالثة، عقدة الحضور الدولي. ويبرز جانبان، الأول يتعلق برغبة موسكو في حضور دول عدة مؤتمر سوتشي، لذلك تريد حضور الدول المشاركة في عملية آستانة بينها مصر والأردن وربما أميركا بصفة مراقب. لكن الذي تريده موسكو أكثر هو «الشرعية الدولية» لهذا المؤتمر، لذلك تريد حضور المبعوث الدولي الذي يشترط أن يكون سوتشي جزءاً وداعماً لعملية جنيف، الأمر الذي أكده الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي اشترط أيضا أن يكون سوتشي جولة واحدة وليس عملية مستمرة مثل مسار آستانة. وبدا أن الأمم المتحدة حذرة في موقفها حيث لا تزال متمسكة بالحوار مع الجانب الروسي لتحقيق أفضل «شروط التكامل» بين مسار جنيف ومؤتمر سوتشي.
عليه، وجه دي ميستورا لعقد جولة تاسعة من مفاوضات جنيف في 21 الشهر الحالي، التي يمكن أن تجري لثلاثة أيام في مونترو على أمل في إحراز اختراق ولو بسيط بمناقشة ملف الدستور تحت مظلة دولية قبل عقد مؤتمر سوتشي.
بحسب مسؤولين التقوا مسؤولين روسا، فإن موسكو متمسكة بسوتشي وإحداث حدث سياسي – إعلامي قبل انتخابات 18 مارس، وهي ستسعى لتفكيك الألغام – العقد أمام المؤتمر السوري و«مستعدة لتأجيله بضعة أيام وتعديل فيه، لكن إلغاءه غير وارد».”

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

الثمار الروسية في سوريا… كسب الحرب لا يعني الانتصار

الثمار الروسية في سوريا… كسب الحرب لا يعني الانتصار

“مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2017، أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جولة كبرى في الشرق الأوسط وزار ثلاث دول، هي تركيا وسوريا ومصر. اللافت أن جولة بوتين في الشرق الأوسط تزامنت مع إعلانه عزمه الترشح في الانتخابات الرئاسية عام 2018. في ظل هذه الظروف، كان من المهم بالنسبة للرئيس الروسي استغلال فعاليات الجولة لتذكير المواطن الروسي بـ«نجاحات» الدبلوماسية الروسية بقيادة بوتين. وبالفعل، نجح الرئيس الروسي في تحويل جولته إلى حدث لافت للأنظار. وخلال زيارته لسوريا، أعلن بوتين الانتصار أمام الإسلاميين الراديكاليين، وبدء الانسحاب العسكري الروسي من البلاد. وبناءً على هذا الإعلان، نرى من الضروري طرح تقييم للنتائج الحقيقية للوجود الروسي في سوريا عام 2017.

يمكن النظر إلى تشكيل شراكة ثلاثية بين موسكو وطهران وأنقرة وبناء منصة آستانة للتفاوض باعتبارهما الإنجازين الرئيسين للدبلوماسية الروسية في سوريا. وجاء الحوار بين الدول الثلاث انطلاقاً من عدد من الحاجات العملية والاعتبارات البراغماتية لدى كل من الدول الثلاث. وبحلول نهاية 2017، بدا واضحاً أن التعاون الثلاثي بين روسيا وإيران وتركيا يخدم مصالح الأطراف الثلاثة بالفعل.

من جهتها، نجحت أنقرة في استغلال هذه الصيغة التعاونية في التعبير عن قلقها بخصوص دور الأكراد المتنامي في الصراع السوري. كما نجحت تركيا بالفعل في الحد من تدفق اللاجئين السوريين على أراضيها وبناء «مناطق نفوذ سنية» داخل سوريا، بالتعاون مع موسكو وطهران. على الجانب الآخر، تمكنت إيران من ضمان نفوذها فيما يتعلق بالعمليات السياسية داخل سوريا، بجانب استعانتها بمساعدة روسية لبناء ما وصف بأنه جسر بري من طهران إلى بيروت.

أما روسيا، فكان من المهم للغاية بالنسبة لها استغلال هذا التحالف الثلاثي في بناء اتصالات مع المعارضة المسلحة لبشار الأسد، الأمر الذي حققته بالفعل بمساعدة تركيا، وإلزام كل من إيران وتركيا بالتزامات مختلفة تضمن إبداءهما قدراً أكبر من المرونة خلال مناقشة مبادرات روسية لتسوية الصراع في سوريا.

في الوقت ذاته، تدرك موسكو تماماً أن مثل هذا التحالف وليد ظروف معينة، وليس دائماً. عليه، فإنه ينبغي استخدام لفظ «تحالف» هنا بحرص شديد. في الواقع، تتبع روسيا وإيران وتركيا آراء مختلفة تجاه سوريا ما بعد الحرب، ولكل جانب أهدافه الخاصة داخل البلاد. ومع هذا، فإنها وجدت نفسها مضطرة للتعاون مع بعضها البعض سعياً وراء تحويل إنجازاتها العسكرية في سوريا إلى مكاسب سياسية، ومحاولة إطلاق عملية سياسية داخل سوريا بناءً على الشروط الموائمة للدول الثلاث. من دون ذلك، لن تتمكن أي منها من الاضطلاع بهذا الأمر بمفردها، وستفوق التكاليف المتفاقمة للوجود العسكري في سوريا أي مكاسب حالية.

محادثات آستانة ومستقبلها

ومع هذا، جاء نجاح عملية آستانة جزئياً فقط. كان المشاركون في اجتماعات آستانة خلال 2017 أخفقوا في تحقيق أي تقدم ملموس في إطلاق حوار سياسي مستدام بين الأطراف المتناحرة. بيد أنه في المقابل، نجحت المفاوضات في إقرار مناطق خفض التصعيد والحد من مستوى إراقة الدماء على الأرض. وعليه، أصبحت الصيغة التي أقرت في آستانة منصة مهمة لتسوية قضايا عسكرية وأخرى تتعلق بوقف إطلاق النار، في الوقت الذي تبقى مسألة التسوية السياسية حكراً على عملية جنيف. وبذلك يتضح أن منصتي آستانة وجنيف تحولتا إلى مسارين تفاوضيين يكملان بعضهما البعض، وليسا متعارضين.

ومع ذلك، فإنه في أعقاب إطلاق عملية آستانة، سرعان ما أدركت موسكو عيوبها: ذلك أن الانضمام إلى تركيا وإيران لم يكن كافياً لتسوية الأزمة السورية، ناهيك عن نشر إجراء وقف إطلاق النار في كامل أرجاء البلاد. ولذلك، نشطت موسكو خلال 2017 في بناء اتصالات مع أطراف إقليمية أخرى، ودعمت مفاوضات في القاهرة وعمان لإقرار وقف إطلاق النار في الغوطة الشرقية وراستان وجنوب سوريا.

إلا أن هذه الخطوة الروسية خلفت تداعيات مثيرة للجدل. من ناحية، ساعدت المفاوضات في القاهرة وعمان في تحقيق استقرار في الموقف على مستوى البلاد. وجاء فحوى ما تمخضت عنه المفاوضات متناغماً مع إطار عمل اتفاقات مايو (أيار) 2017، وإن كانت هذه المفاوضات منفصلة بوضوح عن عملية آستانة. من ناحية أخرى، أثارت الاتصالات الروسية ـ الأميركية أثناء محادثات عمان قلقاً بالغاً داخل إيران إزاء إمكانية أن تحل المفاوضات الجارية في الأردن محل عملية آستانة التي تتمتع إيران بنفوذ فيها. لكن هذه المخاوف تراجعت تدريجياً عندما شرعت روسيا في استغلال منصة آستانة في التأكيد وإضفاء الشرعية على قرارات جرى اتخاذها في عمان والقاهرة، مشددة على أن مفاوضات الأردن ومصر من المفترض أن تجذب عناصر إضافية نحو عملية التسوية السياسية في سوريا من أجل إطالة أمد عملية آستانة، وليس الحل محلها.

وعليه، أدت تحركات موسكو خلال النصف الثاني من عام 2017 إلى تحويل المفاوضات حول سوريا إلى منظومة متعددة المستويات. وما تزال عملية جنيف على رأس المنظومة باعتبارها منصة التفاوض التي تضفي الشرعية على جميع القرارات المحورية المرتبطة بسوريا، بينما يتمثل المستوى الثاني في عملية آستانة، التي ينبغي النظر إليها باعتبارها منصة تفاوض وسيطة تعين على تعزيز فاعلية محادثات جنيف من خلال استثناء القضايا العسكرية منها. بجانب ذلك، تساعد آستانة في فرض وإضفاء الشرعية على القرارات التي تتمخض عنها محادثات القاهرة وعمان، والتي تشكل بدورها المستوى الثالث من المفاوضات.

الرحيل عن سوريا؟

أثناء زيارته القاعدة العسكرية في حميميم في إطار جولته في الشرق الأوسط في ديسمبر (كانون الأول) 2017، أعلن بوتين انتصار روسيا في مواجهة تنظيم داعش، وبدء انسحاب تدريجي للقوات الروسية من سوريا. وليست هذه المرة الأولى التي يعلن الكرملين عزمه سحب قواته من سوريا، إذ في مارس (آذار) 2016 أعلنت روسيا بالفعل عزمها إنهاء عملياتها العسكرية في سوريا بدعوى أنها أنجزت. لكن بدلاً عن إعادة القوات الروسية إلى أرض الوطن، تورطت روسيا على نحو أعمق في الصراع الدائر في سوريا. ومع هذا، تبدو روسيا عاقدة العزم هذه المرة على الوفاء بوعدها مع تبدل الموقف داخل سوريا على نحو واضح.

في الواقع، تنظر روسيا إلى تحرير الموصل والرقة (المعقلين السياسي والآيديولوجي لتنظيم داعش) من جانب تحالف محاربة الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة، علاوة على النجاحات التي حققها جيش الأسد في دير الزور وفي شرق سوريا باعتبارها نصراً حاسماً أمام «داعش». والاحتمال الأكبر على صعيد المستقبل المنظور أن تبدأ روسيا وإيران وتركيا عملية مشتركة ضد جماعة «تحرير الشام» داخل ما يطلق عليه إدلب الكبرى، ثم تقسيمها إلى مناطق نفوذ. ورغم أن هذا لا يعني نهاية الصراع المسلح في سوريا، فإنه بالتأكيد سيصبح أقل حدة.

جدير بالذكر أنه نتيجة الجهود الروسية والإيرانية، لحق ضعف كبير بقوات المعارضة غير الراديكالية أمام الأسد. واليوم، أصبحت هذه القوات على درجة أقل من الاستعداد للاستمرار في القتال عن ذي قبل. أيضاً، طرأ تحول على المزاج العام للمجتمع السوري في الفترة الأخيرة، ذلك أنه بعد مرور ما يقرب من سبعة أعوام على الصراع الدموي المدمر، اكتسبت قضايا السلام والاستقرار أهمية أكبر بكثير عن مشكلات السلطة والنظام السياسي المستقبلي. وبالتالي، فإن المرحلة الحالية من الصراع لن تتطلب الكثير من الوجود الروسي على الأرض.

البقاء داخل سوريا

مع هذا، ينبغي التنبيه هنا إلى أن روسيا تنسحب من الصراع المسلح فحسب، وليس الأزمة السورية ككل، بل على النقيض تنوي موسكو الاستمرار داخل سوريا لفترة طويلة. والملاحظ أنه خلال نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول)، تكثفت الجهود الدبلوماسية الروسية. ولم تنشط روسيا في مناقشة إمكانية تسوية الصراع مع الولايات المتحدة وعدد من دول الشرق الأوسط فحسب، وإنما بعثت كذلك بإشارات إلى الأسد بخصوص استعدادها لمساعدة دمشق في عملية إعادة الإعمار بعد الحرب.

وعليه، زار دميتري روغوزين، نائب رئيس الوزراء الروسي، دمشق، لمناقشة مشاركة شركات روسية في إعادة إعمار سوريا مع الأسد. وكشفت هذه الخطوة بدورها أن روسيا تعي جيداً أهمية اللحظة الراهنة لمستقبل وجودها بالبلاد.

ومع أن نظام الأسد المدعوم من روسيا بمقدوره اليوم اعتبار نفسه المنتصر في الحرب الأهلية، فإن هذا لا يضمن وجوداً مستقراً وآمناً لموسكو داخل سوريا ما بعد الحرب. المعروف أنه خلال الفترة النشطة للصراع المسلح، كانت المساعدات العسكرية للنظام السوري هي التي منحت موسكو نفوذاً داخل دمشق. لكن مع الانتقال إلى مرحلة ما بعد الحرب، تتراجع أهمية العامل العسكري باستمرار، ما يفسح الطريق أمام الجوانب المالية والاقتصادية للتعاون. ولا تزال هناك شكوك فيما إذا كان الاقتصاد الروسي المتداعي سيتمكن من إمداد موسكو بالموارد اللازمة لإطلاق عملية إعادة الإعمار. واللافت أن روسيا لم تبد في عجلة من أمرها بخصوص الإعلان عن استعدادها للمشاركة في عملية إعادة إعمار سوريا بعد الحرب. وجاءت زيارة روغوزين لدمشق فقط بعد محادثة هاتفية جرت بين الأسد ونظيره الإيراني حسن روحاني في 25 نوفمبر. وخلال لقائهما، شدد روحاني على أن إيران «على استعداد للمشاركة بنشاط في إعادة إعمار سوريا». وجعلت هذه التصريحات من زيارة روغوزين أمراً حتمياً، ذلك أنه كان من الضروري لموسكو أن تظهر أنها لن تتقهقر إلى موقع خلف طهران داخل سوريا ما بعد الحرب.

وبسبب محدودية مواردها، تحاول موسكو الحفاظ على أهميتها بالنسبة لدمشق عبر المسار الدبلوماسي من خلال الاضطلاع بدور نشط في صياغة العملية السياسية لتسوية الصراع. في الوقت الحالي، تركز موسكو جهودها الدبلوماسية على العمل مع الدول التي تملك نفوذاً على الأرض داخل سوريا.
وعليه جاءت الزيارة التاريخية لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى موسكو في أكتوبر (تشرين الأول) 2017؛ أكدت روسيا أهمية تشكيل جبهة معارضة موحدة لتمثيل القوى المناهضة للأسد خلال اجتماع جنيف التالي. وعليه، عقد لقاء لهذه الجبهة بالفعل داخل الرياض نهاية نوفمبر. وفي الوقت ذاته، كثف الكرملين مشاوراته مع طهران وأنقرة لمناقشة الوضع حول عفرين وإدلب ومستقبل مناطق خفض التصعيد. أيضاً، تولي موسكو اهتماماً منفصلاً لتهدئة المخاوف الإيرانية والتركية إزاء ولاء روسيا تجاه شريكيها. كان لقاء بوتين وترمب، والاجتماعات الروسية المتكررة مع مسؤولين إسرائيليين والصمت الروسي تجاه استفتاء الاستقلال داخل كردستان العراق قد أثاروا مخاوف من أن روسيا تتحرك نحو التخلي عن إيران داخل سوريا.
لذلك، أصدر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في نوفمبر 2017، بياناً حول شرعية الوجود العسكري الإيراني داخل سوريا، يحمل في طياته إشارات إلى تل أبيب مفادها أن الكرملين يولي اهتماماً لتعاونه مع إيران لا يقل عن اهتمامه بالتعاون مع إسرائيل. أيضاً، جمد الكرملين الاستعدادات الجارية لعقد مؤتمر الحوار الوطني السوري الذي شكل محاولة لتعزيز أهمية المعارضة شبه الرسمية ودمج الأكراد فيها، سعياً نهاية الأمر لتعزيز مواقف جماعات المعارضة الموالية لموسكو في جنيف. إلا أن الاجتماع أرجئ من أجل التخفيف من حدة المخاوف التركية إزاء مشاركة الأحزاب الكردية كقوى مستقلة.

التحديات القادمة

رغم ما سبق، ما تزال روسيا بعيدة تماماً عن إبقاء العملية السياسية في سوريا تحت سيطرتها الكاملة. ومع أنها قد تبدو جيدة على الورق، فإن بعض المبادرات الروسية لا يجري دوماً تنفيذها بنجاح على أرض الواقع. على سبيل المثال، كان من المفترض أن يساعد الاجتماع الثلاثي لرؤساء روسيا وإيران وسوريا في 22 نوفمبر 2017، الدول الثلاث، في الحد من التوترات القائمة بينها، والعمل على صياغة موقف مشترك إزاء مستقبل العملية السياسية في سوريا. ومع هذا، لم تتحقق هذه الأهداف على نحو كامل.

وبينت المشكلات التي تواجه روسيا أنه رغم الدور المحوري لها في عملية التفاوض بخصوص سوريا، فإنه من الواضح أن مواردها وقدراتها ليست على المستوى المطلوب. في المقابل، لا تبدو أي من إيران أو تركيا على استعداد للاضطلاع بدور ثانوي في عملية التفاوض، الأمر الذي اتضح خلال المحادثات رفيعة المستوى الأخيرة. وربما تتمثل النتيجة الأهم لهذه المحادثات في إرجاء عقد مؤتمر الشعب السوري في سوتشي، الذي كان مقرراً له بادئ الأمر مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2017، لأجل غير مسمى. وفي تلك الأثناء، يبدو أن كل ما يربط الدول الثلاث مصالح ظرفية وتشابهات تكتيكية، وليس أهدافاً استراتيجية مشتركة. ويكشف هذا بدوره أن أي طرف سيسعى لصياغة العملية السياسية لتسوية الصراع السوري سيواجه تحديات خطيرة لن يكون من السهل التغلب عليها.

إضافة لذلك، ثمة مشكلة أخرى تواجه موسكو وتدفعها نحو العمل بسرعة ـ شعورها باليأس. بمرور الوقت، يبدو واضحاً على نحو متزايد أن الأسد نجح في البقاء في السلطة، ومن غير المحتمل أن تتمكن أي قوة من إجباره على الخروج من الرئاسة، ناهيك عن إقناع النظام «البعثي» بالمشاركة في حوار وطني بالمعنى الحقيقي.

من جانبهما، أعربت مستشارة رئيس النظام السوري بثينة شعبان ونائب وزير الخارجية فيصل المقداد بالفعل عن تشككهما إزاء جدوى عملية التفاوض تحت رعاية الأمم المتحدة. ويتمحور الموقف السوري الرسمي حول فكرة ضرورة عقد أي مفاوضات مع المعارضة فقط بعد «إنجاز نزع تسليح» الأخيرة وضمان «عدم تدخلها في الشؤون الداخلية للبلاد».

تبعاً لهذه الرؤية، فإن الحوار الوطني الشامل الذي ينبغي أن يرسم ملامح مستقبل الدولة السورية سيتحول إلى مفاوضات بين طرف منتصر وآخر مهزوم. أما موضوع التفاوض فيدور حول وضع تعريف لحدود دمج المعارضة في الكيانات الواقعة تحت سيطرة الحزب «البعثي»، شرط أن تلتزم بجميع مطالب دمشق. وتنظر القيادة الروسية لدورها هنا باعتبارها قوة وسيطة قادرة على التأثير على النظام السوري. وحتى التوصل لتسوية لا يعني بالضرورة بالنسبة للمعارضة السورية أن النظام لن يحاول معاقبة خصومه بعد إلقائهم السلاح.

وتكشف نتائج الصراع المسلح السوري أن النظام بمعاونة حلفائه نجح في الفوز في الحرب، لكنه عجز عن تحقيق السلام وتسوية المشكلات التي أدت لاشتعال الأزمة في المقام الأول عام 2011.”

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

تطمينات اميركية وروسية لاكراد سوريا

تطمينات اميركية وروسية لاكراد سوريا

“تبلغ قائد «وحدات حماية الشعب» الكردية، سبان حمو، من مسؤولين عسكريين روس خلال زيارته موسكو أن الإدارات الذاتية الكردية ستدعى إلى «مؤتمر الحوار الوطني السوري» في سوتشي الذي سيؤسس «في شكل متدرج لسوريا اتحادية»، في وقت تلقى حمو بـ«ارتياح» تصريحات وزير الدفاع الأميركي جيم ماتيس بأن واشنطن ستدافع عن «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية – العربية ضد أي هجوم من قوات الحكومة السورية «بتشجيع» من إيران.
لكن بالنسبة إلى حمو، فإن المرحلة اللاحقة لهزيمة «داعش» شرق سوريا، هي الانتقال من «الانتصارات العسكرية» إلى «الاعتراف السياسي» من دول التحالف الدولي بقيادة أميركا من جهة وروسيا من جهة ثانية.
وكان حمو زار في اليومين الماضيين موسكو تلبية لدعوة من وزارة الدفاع الروسية للمشاركة في احتفالات النصر بهزيمة «داعش» بحضور وزير الدفاع سيرغي شويغو، ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف، ثم عقد حمو جلسات عمل مع مسؤولين في وزارة الدفاع وجهاز الاستطلاع في الجيش الروسي حول عملية آستانة ومؤتمر الحوار السوري المقرر في سوتشي.
ونجحت «قوات سوريا الديمقراطية» التي تشكل «وحدات حماية الشعب» الكردية عمادها الرئيسي في تحقيق توازن بين حلفين دوليين: الأول، أنها حررت مناطق شرق نهر الفرات من «داعش» بدعم من التحالف الدولي بقيادة أميركا. الآخر، شكلت غرفة عمليات مشتركة مع الجيش الروسي في دير الزور، وضمت أربع غرف صغيرة في دير الزور وريف الرقة وحلب وعفرين وتل رفعت.
ولا تزال «سوريا الديمقراطية» تحافظ على هذا التوازن بين الحلفين منذ توصل واشنطن وموسكو إلى رسم «خط التماس» بينهما وهو نهر الفرات في مايو (أيار) الماضي: شرق النهر لحلفاء أميركا وغرب النهر لحلفاء روسيا. وكان لافتاً، أن تحذيرات ماتيس في مقر وزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) قوات الحكومة السورية من الهجوم على «قوات سوريا الديمقراطية»، وضرورة احترام «خط التماس» تزامنت مع وجود قائد «وحدات الحماية» الكردية في موسكو للاحتفال بـ«النصر على (داعش)».

ماذا سمع حمو من الروس؟
بحسب المعلومات المتوفرة لـ«الشرق الأوسط»، فإن الجنرالات الروس المختصين في عملية آستانة والتحضير لمؤتمر سوتشي «أكدوا أن الإدارات الذاتية لشمال سوريا ستدعى إلى مؤتمر سوتشي»؛ الأمر الذي سيثير حفيظة أنقرة التي تعارض حضور أي طرف قريب من «الوحدات» أو «الاتحاد الديمقراطي الكردي» مؤتمر سوتشي.
وكانت قمة سوتشي بين الرؤساء، الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب إردوغان والإيراني حسن روحاني، أسفرت عن الاتفاق على ضرورة تفاهم الدول الثلاث على قائمة المدعوين إلى مؤتمر الحوار السوري. وجرى التأكيد على ذلك في اجتماع آستانة الأخير، بحيث يجتمع ممثلو «الضامنين الثلاثة» نهاية الشهر الحالي لإقرار قائمة أعدتها موسكو وضمت نحو 1500 سوري مدعوين إلى سوتشي.
واشترطت أنقرة إقصاء «الوحدات» و«الاتحاد»؛ الأمر الذي وافقت عليه موسكو؛ لأنها «حريصة على دعم تركيا للحوار السوري لأنها تدرك أنه لا يمكن أن ينجح من دون مشاركة المعارضة السياسية والعسكرية الفاعلة التي تدعمها أنقرة»، بحسب المصادر. ولاحظت أن أنقرة صعّدت في الأيام الأخيرة ضد مؤتمر سوتشي وضد الرئيس بشار الأسد، إضافة إلى أن معظم الفصائل العسكرية والسياسية السورية أصدرت بيانات ترفض المشاركة في مؤتمر سوتشي.
وقالت المصادر: إن «الروس يقيمون تعاوناً تكتيكياً مع تركيا لإنجاح سوتشي؛ لذلك فإنهم لن يوجهوا دعوات رسمية إلى الوحدات أو الاتحاد الكرديين، لكنهم سيدعون الإدارات الذاتية» التي أعلنت في شمال سوريا وشمالها الشرقي، وضمت ما يعرف باسم «فيدرالية الشمال السوري»، وتضم جميع المكونات وترمي لـ«تكون نموذجاً لسوريا المستقبل القائمة على فيدرالية الجغرافيا وليس المكونات»، حيث نظمت انتخابات بحضور مراقبين أميركيين وروس.
وبحسب ما سمع حمو، فإن موسكو حسمت تصورها لمؤتمر الحوار في سوتشي، بحيث يسفر عن إطلاق عملية لصوغ دستور سوري جديد عبر تشكيل لجنة دستورية من ممثلي الأطراف السوري تبحث مسودة الدستور التي أعدها الجانب الروسي بداية العام الماضي، ونصت في شكل رئيسي على تذويب صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح رئيس الوزراء وتشكيل «جمعية المناطق» من الإدارات المحلية، إضافة إلى البرلمان الوطني.
وأكد جنرالات روس لقائد «وحدات الحماية» أنهم متفقون على أن نموذج روسيا الاتحادية صالح لسوريا «لكن في شكل متدرج وعبر الصبر والتفاوض»، علماً بأن دمشق ترى أن نموذج روسيا «غير صالح لأن مساحة روسيا واسعة جداً وتضم قوميات وأدياناً على عكس سوريا الصغيرة والمتداخلة دينياً وطائفياً». وقال أحد الجنرالات الروس: «الحل في سوريا فيدرالي، لكن الأمر يحتاج إلى وقت، ولا بد من موافقة الحكومة الجديدة في دمشق على ذلك بعد صوغ الدستور السوري».
وقد تؤدي «العُقد» الكثيرة في الطريق إلى سوتشي، مثل مواقف أنقرة، ومشاركة الأكراد، ومواقف دمشق وطهران والمعارضة السورية إلى تأجيل المؤتمر السوري بضعة أيام أو أسابيع عن موعده المقرر في 29 الشهر الحالي، لكن الجنرالات الروس كانوا حاسمين في موقفهم: «بعد الانتصارات العسكرية ضد الإرهاب و(داعش)، لا بد من إعلان الرئيس فلاديمير بوتين النصر السياسي وعقد مؤتمر السوري قبل انتخابات الرئاسة الروسية في 18 مارس (آذار) المقبل».

ماذا عن واشنطن؟
قال وزير الدفاع الأميركي قبل يومين: إن «لدينا خطاً فاصلاً» بين المناطق التي يسيطر عليها حلفاء الولايات المتحدة في الشرق السوري، وتلك الخاضعة لسيطرة القوات الحكومية المدعومة من روسيا في الغرب و«سيكون من الخطأ تجاوز هذا الخط».
جاء هذا رداً على كلام الأسد من «كل من يعمل لصالح الأجنبي، خصوصاً الآن تحت القيادة الأميركية (…) وضد جيشه وضد شعبه هو خائن، بكل بساطة». وتابع الأسد بعدما التقى وفداً روسياً رفيعاً «هذا هو تقييمنا لتلك المجموعات التي تعمل لصالح الأميركيين».
وتفسير موسكو لموقف دمشق من الأكراد، أن طهران «تدفع لمواجهة بين قوات سوريا الديمقراطية والنظام»، ذلك أن جنرالات روساً أبلغوا حمو أن «قوات أخرى تدفع الحكومة السورية للمواجهة معكم»، بحسب المصادر. وأضافت: إن الجانب الروسي «وعد بعدم حصول ذلك».
في موازاة تعزيز العلاقة مع موسكو، تواصل «الوحدات» تلقي الدعم الأميركي؛ إذ تسلمت قبل يومين شحنات إضافية من السلاح والعتاد العسكري بموجب قرار تنفيذي وقّعه الرئيس الأميركي دونالد ترمب منتصف الشهر الماضي، وخصص نحو 400 مليون دولار أميركي لتسلح «قوات سوريا الديمقراطية» خصوصاً لدى تحول دورها من قتال «داعش» إلى الحفاظ على الأرض المسيطر عليها. وقال قيادي كردي أمس: لدينا برنامج عسكري واضح برفع عدد قواتنا من 25 إلى 30 ألفاً مع تغيير واضح في دورها بحيث تصبح جيشاً نظامياً».
ولدى سؤاله عن طبيعة الدور الأميركي في سوريا في العام المقبل، قال ماتيس: «سترون مزيداً من الدبلوماسيين على الأرض. سننتقل من السيطرة على الأراضي إلى تأمين الاستقرار، وإن العسكريين سيؤمّنون تحرّك دبلوماسيينا وأمنهم»، في وقت توقع قادة «الوحدات» أن تنقل واشنطن دورها من البعد العسكري إلى السياسي. وقال أحد القادة الأكراد أمس: «نريد من واشنطن أن تكشف تصورها السياسي لمنطقتنا والنظام السياسي الجديد في سوريا. نريد اعترافاً سياسياً بالمنطقة التي تسيطر عليها (قوات سوريا الديمقراطية)، أي النظام الفيدرالي السوري».
وباتت قوات النظام تسيطر على 55 في المائة من سوريا بعدما حققت تقدماً كبيراً على فصائل المعارضة وعلى «داعش» منذ التدخل الروسي العسكري المباشر نهاية 2015، أما «قوات سوريا الديمقراطية» فتسيطر على 28 في المائة.
وساهم دعم واشنطن لـ«سوريا الديمقراطية» في تعميق الفجوة مع أنقرة التي تقلق من قيام كيان كردي شمال سوريا قرب حدودها الجنوبية؛ ما أدى إلى تضيق الفجوة بين أنقرة وموسكو إزاء الأزمة السورية لتنفيذ القرار 2254 الذي نص على وحدة الأراضي السورية. ويسعى الجيش التركي لبدء عملية عسكرية في عفرين شمال حلب، حيث أقام الجيش الروسي مركزاً لها، خصوصاً بعد ضم إدلب إلى اتفاقيات خفض التصعيد، لكن الأيام الماضية شهدت هجوم قوات النظام على خطوط التماس بين حماه وإدلب بالتزامن مع تصعيد لهجة أنقرة ضد سوتشي والأسد.
وقال قيادي كردي: إن «قوات سوريا الديمقراطية» تسيطر على معظم الحدود مع تركيا باستثناء منطقتي جرابلسي وإدلب، وهي أقامت غرفتي عمليات مع الجيش الروسي في عفرين وتل رفعت بين حلب وتركيا، في وقت أشار دبلوماسي إلى مقايضات ومفاوضات معقدة تجري بين أنقرة وموسكو وطهران من جهة، وتصعيد بين موسكو وواشنطن وحلفائهما من جهة ثانية في الطريق إلى سوتشي الذي تسبقه جولة من مفاوضات جنيف في 21 الشهر الحالي.”

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

تشظيات

تشظيات

* 1*

اختفى فجأة البحارة الثلاثة الوحيدون، من مركب مهاجرين غير شرعيين، مكتظ بأكثر من 300 شخص، بعد مغادرته السواحل الليبية بحوالي الساعة. يبدو أنهم فروا بقارب صغير مجهز بمحرك، في غفلة من المهاجرين على المركب، وتركوهم في عرض البحر لمصير مجهول، بعد أن دفعوا أجراً عالياً من أجل التوجه بهم إلى سواحل إيطاليا. وسيتوه المركب العتيق، المثقل بركابه، في عرض البحر على غير هدى، في غياب البحارة المرشدين، ولا أحد فيه سوى مهاجرين، لا يدرون ماذا يفعلون، سوى الاتصال بالمجهول عبر الهواتف المحمولة.

كان البحارة الثلاثة جزءاً من شبكة تهريب كبيرة، في أعلى درجات الاحتيال والابتزاز، واستطاع المعلم الكبيرأن يكسب ثقة المسافرين المهاجرين بخبث شديد، فهو لم يقبض أجور السفر العالية الاستثنائية منهم، إلا عند تأكدهم من وجود المركب، وفي لحظة صعودهم إليه. وكان قد وعدهم باقتصارهم على مجموعات من السوريين والفلسطينيين والعراقيين، الهاربين من حروب مناطقهم عبر مصر، وبإنزالهم على الشواطئ الإيطالية مباشرة، بعد رحلة قصيرة، وبوجود ستر نجاة وكميات من طعام ومياه كافية للجميع. لكن سيفاجأ المسافرون بصعود أعداد كبيرة متتالية من الإفريقيين، تجاوزوا بها طاقة المركب بأضعاف. وعندما حاولوا الاعتراض، كانت الأمور قد مضت سريعاً، بحيث وجدوا أنفسهم في عرض البحر، مع ثلاثة من البحارة، الذين ادعوا بعدم معرفتهم بما يحدث، وبأنهم مجرد مهاجرين مثلهم، لكنهم ما لبثوا أن اختفوا تاركين المركب في عرض البحر. وزاد من سوء الوضع الازدحام الشديد على ظهره، مما جعل المسافرين، المختلفين بلغاتهم وجنسياتهم، يتدافعون ويتنازعون على مساحات للجلوس، تُقاس بالسنتيمترات، واكتشافهم متأخرين بعدم وجود ستر نجاة أو أي طعام أو مياه.

حاول بعض الركاب إطلاق نداءات استغاثة عبر هواتفهم المحمولة، إلا أنها كانت دون جدوى، ولم يشاهدوا طوال الوقت أي سفينة شحن عابرة تمر من قربهم، كي تنقذهم. وسرعان ما نفذ في اليوم الأول معظم الطعام والمياه، الذي كان يحمله مصادفة بعض المسافرين، الموعودين بالوصول إلى الشاطئ الإيطالي خلال بضع ساعات. وفي اليوم الثاني، أخذت علائم التعب والجوع والعطش تظهر على الجميع، وتشكلت عصابات صغيرة، أخذت تستولي بالقوة على بقايا الطعام والمياه. في اليوم الثالث، استسلم الجميع لقدرهم، وأخذوا ينهارون الواحد تلو الأخر، وأصيب بعضهم بالإغماء نتيجة الإنهاك والجوع والعطش، دون وجود إمكانية لتقديم أي مساعدة لهم.

كانت حنان من بين المسافرين على المركب، واختارت مع رضيعتها شهد، البالغة من العمر تسعة أشهر، مكاناً في قاعه، بالقرب من المحرك، إذ كان منظر البحر، الذي تركبه لأول مرة، يصيبها بالرهبة والدوار، فيما كان زوجها عمر يتحرك بين القاع والسطح، مستطلعاً الأوضاع باستمرار. لكنها أخذت تشعر بحاجة مستمرة للإقياء، بسبب استنشاقها في القاع خليطاً مقززاً عطناً من روائح الديزل والعفونة القديمة والبول، الذي يفرغه جحيم المسافرين المزدحمين حولها، والضاجين بجنون، فيما لم تنفك صغيرتها عن البكاء، وإبداء علائم الاختناق، مما دفع زوجها عمر الفلسطيني إلى إخراجهما إلى سطح المركب، وبصعوبة وجد لهما مكاناً صغيراً هناك. تقول حنان لعمر، وقد تركت صغيرتها تتلقى الهواء الحار، المثقل بالرطوبة الشمس القاسية ودوار البحر هنا أرحم بكثير من الازدحام المجنون، والروائح العطنة في القاع.” يبتسم عمر لها ابتسامة مرة، ويقول اصبري، بضع ساعات فقط، ونصل إلى إيطاليا، وننتهي من هذه المحنة.”

في نهاية اليوم الأول، انتهت الكمية القليلة من الطعام والمياه لدى حنان وعمر، بما فيها المخصصة للرضيعة شهد، إذ لم يتوقعا أن الأمور ستتطور إلى هذه الأحوال من الضياع، وشعرت حنان أن الحليب يجف في صدرها، وبخاصة مع جوعها وعطشها المستمر. في اليوم الثاني، أخذ عمر يستجدي بعض المياه، وأي طعام يمكن هرسه للصغيرة. وبالطبع، لم يكن لأحد أن يستغني عن طعامه ومياهه بسهولة في هذه الظروف، مما اضطره أن يشتري الجرعات وفتات الطعام، باليورو والدولار، فالنقود لم تعد تعني شيئاً أمام المجهول المرعب، المخيم على الأجواء. في اليوم الثالث، انتهى الطعام والمياه لدى جميع المسافرين على ظهر المركب، احتمل الأب والأم التعب والجوع بعض الشيء، لكن الطفلة الرضيعة شهد توقفت عن البكاء، وأخذت تصيبها حالات غشيان، مما اضطر والدتها أن تعطيها جرعات صغيرة من ماء البحر، رغم معرفتها بملوحته القاتلة، وهي تنظر إلى الآفاق المسدودة في كل الاتجاهات، مثل كل المسافرين في المركب، الذي كانت تتقاذفه الأمواج، بعد انتهاء الوقود فيه، على أمل أن تلوح لهم سفينة عابرة تنقذهم.

* 2 *

تحب حنان بيت والدها، الذي ولدت وعاشت فيه، وهو بالأحرى بيت جدها أبو حمود، زوج خالتي، ذلك البيت الريفي القديم الواسع، الواقع في أحد أحياء البلدة القديمة، الذي مازال يقيم فيه عم وعمتان لها، إلى جانب أهلها. وعندما غادرته بسبب زواجها، تأقلمت بصعوبة مع الشقة الحديثة المرفهة، التي انتقلت إليها في مخيم اليرموك، لكن الحنين إلى ذكرياتها القديمة فيه كان يدفعها لزيارة أهلها أسبوعياً.

 كان يتم الوصول إلى بيت الجد عبر حارة واسعة، تتوزع على جوانبها البيوت الريفية القديمة، المبنية من الحجر والطين، ببواباتها الخشبية العالية، ومصاطبها الطينية عند مداخلها لقضاء الأمسيات الصيفية عليها مع الجيران. وكان بيت الجد واحداً من هذه البيوت القديمة، حيث تنتصب عند مدخله بوابة خشبية عالية، مزينة بزخرفات شرقية، وحدوة حصان معلقة عليها، تيمناً بعودة الغياب المسافرين بعيداً، وطبعات أيدي قديمة، ملوثة بذبائح الأضحيات للحفاظ عليه من الأرواح الشريرة. ويتوسط البوابة باب صغير، ينتهي في الأعلى بقوس، عُلقت عليه قبضة معدنية، على شكل يد تقبض على طابة، يقرع بواسطتها الضيف للإعلان عن قدومه، وما أن يأتيه صوت من الداخل مُرحباً شد الحبلة وادخل، حتى يشد المزلاج الداخلي المربوط بحبلة معقودة الطرف في الخارج، ويدلف إلى البيت عبر ممر مسقوف. أما البوابة الكبيرة، فقد كانت تُفتح بالكامل قديماً عند إدخال المحاصيل الزراعية المحملة على الحمير والبغال إلى مستودعاتها في الداخل. ومع أن هذه العادة انتهت بتغير الزمان والأحوال، لكن البوابة الكبيرة بقيت منتصبة ذكرى لتلك الأيام، لا يُستخدم منها إلا الباب الصغير، الذي يتوسطها، من أجل الدخول.

تتوسط بيت الجد أبو حمودفسحة كبيرة واسعة، شبه مستطيلة، هي فناء البيت، تحيط بها الغرف، المتوزعة على جوانبها، بأبوابها، ونوافذها الخشبية، التي يغطيها شبك المناخل الناعم لدرء الحشرات، وبمصاطب صغيرة للجلوس أمامها، تُفرد عليها الحصائر والبسط والمخدات للتمدد عند العصريات. وتنتشر على الجوانب أحواض زهور، ياسمين معرش على الجدران، والجوري والنرجس والأقحوان والزنبق والقرنفل والشكرية والمنثور، تُشعل أجواء البيت بكرنفالات ألوان، تُدهش الأبصار، وبمويجات عبق، تُسكر الأرواح. وفي أحد الأطراف، تنهض شجيرات برتقال، وليمون، ونارنج، وعرائش تمتد أغصانها عالياً فوق صقالة خشبية لتغطي الفناء كله، فتمنحه في الصيف الظلال، وهي تتثاقل بعناقيد العنب الزيني والحلواني. وفي طرف الباحة، تنهض بئر يحميها جدار دائري، يعلوه دولاب بمقابض، يتدلى منه جنزير، كي يرفع دلواً جلدياً أسود من عمقها، عند نضح الماء.

لم يتغير شكل بيت الجد كثيراً بعد وفاته، سوى تحويل الفناء من أرضية متربة إلى باحة إسمنتية، بأحواض ذات أطراف حجرية، واستبدال صقائل العرائش الخشبية بمعدنية، وتم رفع دعامات إسمنتية في أطراف الغرف من أجل التوسع ببناء غرف طابق ثاني، أخذ يستقل بها الأبناء المتزوجون مع عائلاتهم، فتم الاستغناء عن المدحلة الحجرية البيضاء القديمة، التي كان يتم بواسطتها دحل السطح الترابي القديم في أيام المطر، ورُكنت كذكرى في أحد جوانب الفناء، وأُغلق البئر، عندما وصلت التمديدات المائية إلى البيوت. لكن البوابة الكبيرة بقيت شاهداً على صمودها عبر الزمن، كما بقيت المطرقة المعدنية، التي تم الاستغناء عن استخدامها بوجود جرس كهربائي.

ليست فقط حنان هي التي تشعر بحنين إلى بيت الجد أبو حمود، الذي قضت فيه طفولتها ويفاعتها، بل وتتفجر فيه ذكريات طفولتي المبثوثة في جنباته، أنا أيضاً، قبل ولادتها بثلاثين عاماُ من عمرها، تتصاعد منها روائح لفافات الزيت والزعتر بالخبز الرقيق الساخن، الذي كانت تخبزه خالتي أم حمودفي تنور الحارة. وقد شهدتُ فيه أعراس معظم أولاد خالتي، الذين بلغ عددهم ثلاثة عشر ابناً وابنة، عندما كان يحضر الأقارب والجيران إليه دون دعوة، ويرقص الشباب والصبايا معاً حتى مطلع الفجر على إيقاع الدربكة والأغاني الشعبية. وأذكر ذات عرس في ستينيات القرن الماضي، كيف نهض جار من وهو عسكري من الساحل، مستأجر غرفة في الحارة، ورقص ببذلته العسكرية رقصة رجال حلوة مع زوجته الصغيرة الخجولة، وأتبعها برقصة مقلداً فيها النساء، وسط حماس المصفقين، فملأ العرس بالبهجة والحبور. وأتذكر أن ابنة خالتي الكبيرة فاطمة الحلوة، أول معلمة في البلدة، تتخرج من معهد خاص لإعداد المدرسين، استقلت بشخصيتها، وقد أصبح لها راتب شهري من الدولة، فاشترت للبيت واحداً من أوائل أجهزة التلفزيون بالأبيض والأسود، تضعه صيفاً في الفناء، وشتاء في الغرفة الكبيرة، وأخذ عندئذ الأقارب والجيران والمعارف يزحفون إلى بيت خالتي في الأمسيات لمشاهدة مسلسلات المحطة الوحيدة للتلفزيون السوري، وببعض التحايل على اللاقط المرتفع على السطح،  محطة التلفزيون اللبناني.

* 3  *

عندما فك العسكر الحصار عن البلدة، وانسحبت المدرعات منها، سمح الحاجز العسكري للأهالي المنتظرين عند مدخلها الرئيسي بالعبور إليها، وقد هبط المساء. ووصلت حنان إلى حارة أهلها مع والدة زوجها وأخته بواسطة سيارة عابرة، بدا سائقها حزيناً، زائغ النظرات، وبقي صامتاً طوال الطريق، وقد هالها منظر الشوارع شبه الفارغة من الناس، والمحلات التجارية المغلقة، وأكياس النايلون يتلاعب بها الهواء. كان أخوها الكبير مصعب ينتظرها عند مدخل الحارة، فشعرت بالاضطراب لرؤيته ممتقع الوجه، وهو يتناول الطفلة المتعبة منها، وسرعان ما لمحت تصاعد الدخان من الحارة، فسارعت إلى سؤال أخيها بلوعة ماذا حدث؟ هل أهلي جميعهم بخير؟.”

يرد عليها جميعهم بخير، لا تقلقي

عاودت السؤال، وهي تسرع إلى البيت ووالدي ووالدتي وأخي الصغير، وعمي وعماتي؟ بخير؟ لماذا أنت ممتقع الوجه؟.”

قلت لك جميعهم بخير، كانت لدينا حملة مداهمة شديدة اليوم، خربوا بيتنا قليلاً.”

ماذا يعني قليلاً؟ وهذا الدخان، من أين يتصاعد؟.”

من بيت جارنا أبو خيرو، ألقى العسكر متفجرة في البئر، الذي يسقون حديقتهم منه، انفجرت في قعره بصوت عميق مكتوم، لكن الأرض اهتزت حوله كزلزال، وردمه التراب. قالوا إن فيه أنفاقاً تقود إلى خارج البلدة، يتسلل منها الإرهابيونمع أسلحتهم. ثم أحضروا بلدوزراً، وهدموا البيت الجميل، وأشعلوا النيران في أخشابه القديمة الجميلة، أمام أعين الوالد والوالدة والبنات المرعوبين، اللذين كانوا يصرخون باكين، ولم يسمحوا بحضور سيارة إطفاء البلدية. قال الضابط المتغطرس، الذي أعطى الأمر بهدمه وإحراقه، أن أولاد أبو خيرو إرهابيون، يحملون السلاح ضد الدولة. وبعد ذهاب العسكر، قمنا نحن والجيران بإطفاء النيران حتى لا تمتد إلى البيوت المجاورة، وبالكاد استطعنا إنقاذ بعض الأثاث.”

لم أسمع بحياتي بأنفاق في آبار حارتنا، فهي لا تكاد تتسع لنضح المياه بالدلاء، من أين للعسكر هذه المخيلة؟ وأولاد أبو خيرو، أين هم؟.”

التجؤوا إلى الحقول، هرباً من الاعتقال العشوائي، صحيح أنهم كانوا يقودون المظاهرات بالهتافات، إلا أنهم لم يحملوا السلاح أبداً. تعرفينهم كم هم شرسون، هم أبناء الحقول والريح، لا يرضون بأن يهينهم أحد، فكيف بإحراق بيت ذكرياتهم، سيحملون السلاح الآن، بعد أن كانوا يرفضون ذلك، وسيغتالون بالتأكيد المخبرين السريينفي حاراتنا القديمة، هؤلاء الذين جاؤوا بلاء للناس…… وهدم العسكر الكثير من البيوت في الأحياء القديمة حولنا، بدعوى أنها فارغة من أهاليها الإرهابيين، الذين هربوا من المداهمات والاعتقالات، كلها بيوت قديمة جميلة، مثل بيتنا، يا خسارة.”

مرت حنان أمام بيت أبو خيرو، الذي أصر أولاده على الحفاظ على بنائه من الحجر والطين بالترميم المستمر، وبنوا إلى جانبه، في فسحة الحديقة الواسعة، غرفاً إسمنتية، لكنهم لم يستغنوا عن الغرف القديمة. تحسرت حنان، وهي تشاهد البيت القديم الآن دون سقف، وقد تهدمت جدرانه، وسقطت عوارضه الخشبية المحترقة على أثاث الغرف، وانهال معها التراب والحجارة، واتشح كل شيء بسواد الدخان. امتلأ في أحد الزوايا سرير بأكوام من الأنقاض، ظهر من طرفها شرشف أبيض، أصبح الآن مسوداً ومغبراً، وانكشفت رفوف كتبية في جدار لم يسقط بكامله، فيها بقية صحون قديمة مكسرة، ومزهرية، مازالت فيها ورود جوري زهرية اللون، إنما ذابلة، وزحف ناربيج نارجيلة من تحت الركام، فيما تلاعب النسيمات أوراق دفاتر مدرسية، تمزقت الكلمات عليها. وفي غرفة المؤونة، تناثرت الخوابي الفخارية المحطمة، وانساحت محتوياتها من العدس والبرغل والكشك على الأرض، واختلطت بالتراب. وبين الأنقاض، تناثرت هنا وهناك حطام خزانة، فيها بعض ألعاب أطفال، وطاولة طعام عليها كسرات خبز وصحن فارغ وكؤوس شاي مغبرة، وبقايا ملابس محترقة، تم استخدامها لإذكاء النار. وعلى بقايا جدار، مازالت صورة أبو خيرو، وأم خيروبالأسود والأبيض، ذكرى يوم الزفاف، وإلى جانبها صورة البلدة، وفي خلفيتها جبل الشيخمكللاً رأسه بثلج الشتاء.

قالت لها والدتها الحزينة، وهو تعانقها، والدموع تبلل وجهها قلبوا الأثاث رأساً على عقب في بيتنا، وهم يصرخون أين السلاح؟“.

قال أخوها مصعب دخل عسكر إلى غرفة الجلوس، وفتشوا بلامبالاة، فقط لأن شبيحاًكان يرافقهم، وعندما خرجوا منها، ربّت أحدهم بهدوء على كتفي، وهمس متمتماً عليك بالصبر، فعلى الأغلب يعاني أهلي مثلكم في قرانا.”

قالت العمة قلبوا أصص زهور الفناء، التي أعتني بها دائماً.”

يردف الأب المريض بحسرة لكن الشبيحةهم الحقيرون، لم يكونوا يفتشون، بل كانوا يخربون بحقد، وهم يقلبون الأثاث، فيما حمل أحدهم دفتراً، وأخذ يُسجل بدقة عدد الغرف، وعدد المقيمين في البيت، ومن  الغائب منهم، وفعلوا هذا في كل البيوت. غريب، كأنهم سيقتسمون بيوتنا، ونحن مازلنا فيها.”

يتصل عمر بحنان على الهاتف المحمول في هذه اللحظات، قائلاً ” “مخيم اليرموكأصبح مغلقاً بالكامل، لا يمكن الدخول إليه أو الخروج منه، الجيد أنك خرجت مع أهلي. سقطت قذيفة على بنايتنا في المخيم، فاشتعلت النيران في الشقق، ومن بينها شقتنا. هل تستطيع والدتي وأختي البقاء عند أهلك لبضعة أيام؟ لن أغادر الآن المستشفى، لدينا ضغط عمليات جراحية خطيرة، امتلأت الأروقة بمدنيين مصابين بشظايا قذائف هاون، تسقط بجنون على دمشق.”

بعد عدة أيام يتصل عمر بحنان ستقيم والدتي وأختي مع أخي في شقته بـمشروع دمر، الوضع هناك آمن. لم يعد من الممكن الاستمرار في الحياة هنا، بكل هذا الجنون، وأبلغني أصدقاء أنني كفلسطيني مطلوب لخدمة الاحتياط في جيش التحرير الفلسطيني.” لذلك، سنهاجر إلى ألمانيا عبر مصر، فليبيا، ومنها عبر البحر إلى أوروبا. أنا طبيب جراح، وأنت مهندسة معمارية، لم يبق لنا شيء هنا، وسنجد عملاً كريماً وأماناً هناك، جهزي نفسك أنت وشهد، وودعي أهلك.”

في يوم خروج حنان للمرة الأخيرة من بيت جدها، نظرت طويلاً إلى ورود الفناء، والمدحلة الحجرية المركونة جانباً، والبوابة الكبيرة، وحدوة الحصان، وبكت بصمت. تذكرت أنها عندما خرجت من مخيم اليرموك، لم تستطع أن تلقي نظرة أخيرة على شقتها، تركت هناك ذكريات سنتين من زواجها، وتحسرت بتنهيدة طويلة، وتمنت لو استطاعت فقط إنقاذ ألبومات الصور, كي تحمل معها شيئاً مادياً من ذكريات روحها. وفي أثناء مرورها في الحارة، توقفت طويلاً أمام بيت أبو خيروالمهدم، كان الوالدان العجوزان يجلسان على مصطبة البيت، يستمتعان بشمس الصباح، ويشربان الشاي، فهما لن يغادرانه إلى أي مكان.

* 4  *

يمر اليوم الثالث، وسفينة المهاجرين غير الشرعيين مازالت تائهة في البحر، دون بحارة، دون وقود، تتلاعب بها الأمواج، وقد بلغ الجوع والعطش أشدهما لدى ركابها، بعد نفاذ الطعام والمياه لديهم منذ اليوم الثاني، ولم يبق شيء منهما لسرقته من قبل أفراد العصابات المتشكلة على ظهرها، واستسلم الجميع لقدرهم، ناهبون ومنهوبون، في تلك اللحظات الضيقة بين الحياة والموت. وازدادت حالات الإغماء، دون وجود إمكانية لإنقاذ المصابين، سوى غسل وجوههم بمياه البحر المالحة. وفي هذه الأثناء، كانت مياه البحر قد أخذت تتسرب ببطء إلى قاع المركب، من شقوق الأخشاب البالية المهترئة في طرفه الأيمن، ولم يكن بالمستطاع فعل شيء، سوى انتظار الغرق، إلا إذا ظهرت سفينة تنقذ ركابه في اللحظات الأخيرة.

كانت حنان تجلس في ظل صاري السفينة، ورضيعتها شهد في حضنها، تتحايل بظله على الشمس، تعيش هلوسات الجوع والعطش والإنهاك، ولم تعد تدرك شيئاً مما  يحدث حولها، وقد تحجرت الدموع في عينيها. كانت قد تركت أحد ثدييها مرخياً في العراء، قرب وجه شهد، التي لم تعد تلتقطه، في شبه غياب عن الحياة، وقد ازرقت شفتاها الرقيقتان، وتقشرتا، بعد أن سقاها والدها عمر بعضاً من مياه البحر، عله يمد في عمرها قليلاً. أما هو، فقد استسلم للقدر، بعد محاولات شراء فاشلة لقطرات مياه، ولقيمات طعام، بأغلى الأسعار، إذ نفذ كل شيء من على ظهر السفينة، حتى مع مجموعات العصابات. لقد دفع الكثير من المال، كي يؤمن سفراً أمناً ومريحاً لعائلته، هارباً من الموت في البلاد، لكن لم يتوقع بكل خبرته في الحياة أن يقع ضحية مهربين بدرجة عالية من الاحتيال، فيقع من جديد بين براثن الموت.

وفجأة، عند عصر اليوم الثالث، أطلق أحد الركاب بصوت مخنوق كلاماً غير مفهوم عن سفينة تلوح في الأفق، لم يلتف إليه أحد ممن حوله بالعيون نصف المغمضة، المستسلمة لتأرجحات وهدهدات الموت على الأمواج. صرخ أثنان، ثلاثة، إنها سفينة، فحدث هرج ومرج بين شبه الموتى على ظهر المركب، وانتقل بينهم بمويجات همهمات، ونهض أولئك ممن يستطيعون الوقوف، غير مصدقين، وأخذوا يلوحون بالأيدي والملابس. تساءل عمر، هل تم أخيراً التقاط  نداء استغاثة من أحد الهواتف المحمولة للركاب، أم أنها سفينة مارة بالصدفةلا يهم، فهي  قادمة لإنقاذنا، وقد تنجو حنان وشهد، اللتان شارفتا على الهلاك، هذا إذا لم تكن شهد قد لفظت الأنفاس.

كانت سفينة شحن مالطية، تمضي في خط سيرها الاعتيادي، عندما لاحظ بحارتها من بعيد الوضع المتأزم لمركب يتأرجح بين الأمواج. عاين قبطانها الوضع بمنظاره، وشاهد مركباً خشبياً متهالكاً، محشواً بالناس نصف الأموات، وعرف أنه يقل مهاجرين غير شرعيين، مرميين في البحر من قبل عصابات التهريب. توجه بالسفينة نحوهم لإنقاذهم، متوقعاً حدوث كارثة في أي حركة مفاجئة غير طبيعية منهم على ظهر مركبهم، فأمسك مكبر صوت، طالباً منهم باللغة الإنكليزية الهدوء وعدم الحركة، لكن من كان في تلك اللحظات يفهمه، أو حتى يسمعه. وحدث ما توقع القبطان، فما أن عرف الركاب الثلاثمائة أن السفينة المنقذة قادمة إليهم، حتى تدافعوا متجهين بكتلتهم كلها إلى طرف المركب المتهالك المقابل لها، دون أن يدركوا بأنه أخذ يميل شيئاً فشيئاً مع ثقلهم المفاجئ. وسرعان ما انقلب المركب على جانبه في لحظات، وأفرغ بدفعة واحدة معظم حمولته من البشر في مياه البحر، فتبعثروا هنا وهناك بين الأمواج، التي أخذت تصعد بهم وتهبط، وتذهب بهم بعيداً، وهم يخبطون بأيديهم ضربات عشوائية مجنونة يائسة، إذ تبين أن معظمهم لا يعرف السباحة، ولا أحد لديه سترة نجاة. في حين حاول البعض في لحظة الانقلاب التعلق بأي عارضة يتمسك بها، فيتأرجح جسده قليلاً في الهواء، ثم لا يلبث أن تخذله قواه، ويسقط في المياه. واستطاع بعض المتأرجحين تسلق الظهر المنقلب للمركب، لكن ما الفائدة، وقد أخذ يغوص ببطء في المياه.

لم تقوَ حنان، شبه فاقدة الوعي، على الحراك، والناس يتدافعون حولها، ثم مروا من فوقها، غير آبهين بها. وبدلاً من أن تنهض، أو تبحث عن شيء تتمسك به، تشبثت أكثر برضيعتها شهد، تشدها إلى صدرها، وألصقت ظهرها إلى الصاري أكثر حتى لا يأخذها الزحام. ولم تدر إلا والمركب أخذ يميل بها، وإذا بها تتدحرج على سطحه مع كتل من الناس، وتسقط  فجأة لتصطدم بالمياه، التي أعادتها إلى بعض من وعيها، فزادها هذا من تمسكها بطفلتها. حدث هذا في ثوان غريبة سريعة، دون أن تدرك ما حدث لها، فإذا بها في مياه البحر، الذي تخاف حتى من مرآه، فأصابها جنون غريب، وأخذت تنادي زوجها باكية.

أما عمر، الذي استطاع في اللحظة الأخيرة التمسك مصادفة بحلقة حديدية، في لحظة الانقلاب، فقد بقي معلقاً في الهواء، يحاول التسلق إلى طرف المركب، كي يعلوه، ليعي نفسه فجأة، ويدرك أن زوجته وطفلته سقطتا في المياه. بحث عنهما بعينيه بين الجموع المتخبطة اليائسة في المياه، وقد بلغ به الهلع أشده، فلم يستطع أن يشاهدهما، لكنه أحس بمكانهما بقلبه، فقفز إلى المياه وراءهما كالمجنون، وأندفع يسبح نحوهما. كان عمر قد مر بدورة قاسية من التدريب العسكري، في أثناء خدمته الإلزامية في جيش التحرير الفلسطيني، جعلت مهاراته في السباحة تزداد، لكن كان ذلك في حوض سباحة مريح، وأحياناً في بحيرة صغيرة، إنما ليس في بحر متلاطم الأمواج، وفي حالة من الهلع والارتباك. وسرعان ما وجد زوجته في وضع يائس، وهي تصارع الأمواج بيدها اليمنى، فيما تشد باليسرى رضيعتها إلى صدرها. كانت تحاول أن تطفو بصعوبة، إنما كان يعرف أن مهاراتها في العوم لم تكن تتجاوز القفز في مسبح صالة الجلاءفي دمشق، حيث كانت تقضي أيام العطل صيفاً معه، وأنها كانت تفضل البقاء معظم الوقت مسترخية في الظلال، بدلاً من السباحة، إذ لم تتوقع أنها ستواجه البحر ذات اليوم في حياتها الأمنة.

صدمت الكارثة السريعة بحارة السفينة المُنقذة، الذين لم يتوقعوا أنها ستصل إلى هذه الدرجة من السوء، وهم يشاهدون من بعيد المركب المتهالك ينقلب بركابه اليائسين في الماء، دون أن تنفع تنبيهاتهم لهم بالهدوء. وما أن وصلوا إلى مكان الكارثة حتى رموا بكل ما لديهم من سترات نجاة للغارقين، واتبعوها بقوارب إنقاذ مطاطية فارغة، ثم نزل بعضاً منهم في قوارب ذات محرك، وأخذوا يصارعون بكل قواهم لإنقاذ ما يستطيعون من الأحياء، يسابقون الزمن ضد الأمواج، التي كانت تبعثرهم في كل الاتجاهات، ثم ما تلبث أن تبتلعهم، ولم يعودوا يميزون الأحياء من الأموات.

وفيما كان عمر يسبح باتجاه زوجته وطفلته، تعلق به أحد الغرقى اليائسين، الذين لا يعرفون السباحة، وأخذ يعيق حركة يديه وقدميه، ويشده معه نحو الأعماق. وبصعوبة تخلص من الغريق اليائس، وشهد بعينيه كيف ابتلعه البحر أمام عينيه، دون أن يستطيع فعل أي شيء له. اقترب من زوجته، التي تكاد تستسلم للموت، وهي تشد إلى صدرها الطفلة، التي شعر أنها فقدت الحياة، ولاحظ أن وجودها يمنع حنان من السباحة بكلتا يديها، وستغرقها إن لم تفلتها. كان بحاجة، هو وحنان، إلى ما تبقى من طاقتهما المتداعية للصمود في وجه الأمواج، التي أخذت تلقي بهم بعيداً عن القوارب المنقذة.

صرخ عمر بحنان اتركي شهد، دعيها، ذهبت إلى رحمة الله، واسبحي أنت بكلتا يديك“.

لكن حنان ازدادت تشبثاً بشهد، وتمتمت لا ، إنها حية، لن أفلتها.”

يصرخ من جديد يائساً إنها ميتة منذ أن كانت على ظهر المركب، لا فائدة يا حنان، ستغرقين معها.”

لا ترد حنان، تضعف حركة يدها اليمنى، التي تطفو بها، وقد بلغ الإنهاك بها درجة جعلها تفقد قواها بالكامل، وغابت عن الوعي. أقترب عمر من خلفها، أمسك بها بيده اليسرى من سترتها عند رقبتها، وحاول أن يطفو بيده اليمنى. نظر حوله، فشاهد من بعيد قارب بحارة يحاول إنقاذ الأحياء، صرخ منادياً، لم يخرج صوت من فمه. تذكر أنه كان ينبغي شراء سترات نجاة، وصفارة بحر لمثل هذه الحالات، لكن المعلموعده بأن كل احتياجات النجاة موجودة على المركب، وما هي إلا بضع ساعات، ويصل إلى شواطئ إيطاليا. وما أن حاول عمر التلويح بيديه لبحارة القارب حتى أفلتت يده حنان، وأخذت تغوص، فلحق بها من جديد ليمسك بها، وينتشلها، ويحاول أن يطفو بها. وعاد من جديد يلوح بيده إلى القارب، الذي أخذ يبتعد عنهم، فتفلت حنان منه. ومع أنه استنزف آخر قواه بالكامل، إلا أن صوتاً خرج من حلقه يائساً، وأطلق صرخته الأخيرة.

* 5  *

لماذا كل ما حولي أزرق، صاف، جميل، شفاف، أرى عبره كل الأشياء، آه، أنا أغطس في ماء أزرق صاف، غريب، وأتنفسه مثل سمكة، وابنتي شهد الرائعة أيضاً تتنفسه مثل سمكة. تبتسم شهد، وهي تمضي معي في نزهة تحت الماء، مسرورة لأنها أصبحت سمكة، مثل تلك، التي كانت تراقبها في الوعاء الزجاجي على طاولة في غرفتها، وأنا أيضاً أصبحت سمكة. ربما أنا وشهد تحولنا إلى حوريات بحر، ونعيش في عالم بحري، مثل اللواتي كانت تقرأ لي عمتي قصصهن في كتاب أطفال ملون، عندما كنت صغيرة. ستكون الحياة حلوة هنا، في عالم دون حرائق وانفجارات، والركض هرباً منها في الطرقات، الماء يطفئها، الماء حياة. لماذا نسيت أن أحضر معي من شقتي في المخيم ألبوم صور زواجنا، وصور شهد، وهي تطلق أولى الضحكات، وتحبو، وتغمز بعينيها. عندما تكبر هنا في عالم الماء، كيف ستتذكر طفولتها، مع أنه كان هناك متسع للألبومات في صندوق الشاحنة الفارغة، التي أقلتني إلى بيت جدي. ربما أحضرتها، قبل أن تحترق شقتنا، إلى بيت أهلي، وأنقذتها من بين جميع الأشياء، التي ستحترق بقذيفة. آه، تذكرت، أحضرتها إلى بيت جدي، لكني نسيتها في حضن والدتي. كنا نجلس معاً في الفناء، أنا ووالدتي ووالدي وأخواي، تحت ظلال العريشة، يغمرنا أريج الياسمين، المعرش على جدار بيت جدي، وكنا نتفرج على صور الألبومات. وكان هناك ماء أزرق شفاف يغمرنا، ونحن نتفرج عليها، ماء يغمر فناء بيت جدي، ويعلوه بأمتار، يتجاوز أسطح غرف الطابق الثاني، وكنا نحن جميعاً نتنفس الماء، مثل الأسماك، ونبتسم في الماء لشهد، وهي تقلب الألبومات معنا، وهي تتنقل بيننا. منذ متى أصبحت شهد تمشي، يسرقني الزمن، دون أن أدري. شهد تفتح الباب الخارجي في بيت جدي، تشد المزلاج المربوط بحبلة إلى الخارج، متى أعاد أبي تركيبه مع أنه وضع جرساً كهربائياً. شهد تتطاول إلى مطرقة الباب تتلهى بها، وعندما أفتحه لها، تركض ضاحكة أمامي في الحارة. إلى أين تذهبين يا شهد؟ وألحقها، أسمع صوت عرس في الجوار، إيقاع دربكة، وأكفاً تصفق، وأصوت غناء، تصدر جميعها من بيت الجد أبو خيرو“. أقترب من البيت، الشباب أبناؤه يتزوجون اليوم دفعة واحدة، هو عرسهم، ويرقصون فرحين في قلب النار مع عرائسهم الحلوات، لكن بين جدران مهدمة، متشحة بالأحمر، وقد علقوا بنادقهم عليها. غريب من هدم لهم الدار الحلوة، وأحرق خشبها المزين بالزخارف الملونة، النار تحرق الأخشاب الحلوة، كي يرقصوا حولها. لكن لماذا لا تنطفئ النار، والماء يغمر كل البيت، أزرق، صافي، شفاف، ألسنة النيران تتراقص في عالم من الماء، والجد أبو خيرووالجدة أم خيروتركا العرس، وراحا يشربان القهوة على المصطبة الطينية أمام البيت، يشربان قهوة في عالم الماء، وأنا أشم رائحة القهوة. لماذا يا عمر تشدني، أنت عدت متعباً من المشفى، تقول لي إنك تريد شرب القهوة معي، تعال أنت واشربها معي هنا، أنا وشهد مسرورتان في عالم الماء، نحن الآن حوريات بحر، وشجرة ياسمين تعرش حولنا في الماء، وأريجها يفوح في الماء. لماذا تصر أن تشدني لعندك إلى الأعلى؟ دائماً أنت صعب المراس، لا أستطيع أن أقنعك بآرائي إلا بصعوبة، لماذا تشدني يا عمر، أنا مسترخية هنا، وأرغب أن أنام طويلاً، مسرورة هنا، أنا وشهد، وسننام، لماذا توترنا، وتشدنا إلى الأعلى، تشدنا نحو الهواء، أنت تعرف أننا أصبحنا نختنق في الهواء، لا نحب الهواء، نختنق فيه.

أين أنت يا شهد، أين أنت يا عمر، لماذا كل ما حولي أبيض، سرير أبيض، شراشف بيض، غمامات بيضاء في الغرفة، همسات بيض، وأشباح بيض تتحرك حولي، كل شيء أبيض، يغمرني الأبيض، أتنفس الأبيض بدلاً من الماء. لا أفهم ماذا حدث، متى غادرت عالم الماء الأزرق الشفاف، وانتقلت إلى عالم أبيض، أتنفس فيه هواء، هواء أبيض. أين أنت يا شهد، لماذا أنت تبكين يا صغيرتي، أسمع صوتك بوضوح غريب، هناك يدان تقتربان بك مني، يدان بيضاوان، أفتح ذراعي، وأتلقاك على صدري، لماذا تبكين يا شهد، يا حبيبتي، كأنك تبحثين عن ثديي. أنت دافئة شهد، تتنفسين، وتمتصين حلمة ثديي، أنت حية يا شهد، الله يسامحك يا عمر، كيف تقول لي أنها ذهبت إلى رحمة الله، شهد حية يا عمر.

نجوت أنت وابنتك بأعجوبة، وزوجك حي أيضاً، أنتم في مستشفى، في مالطا، أنتم محظوظون، فقد غرق معظم المسافرين في مركبكم، الذي انقلب في البحر، والقليل منهم من نجاتقول ممرضة لحنان بلغة إنكليزية، وبلهجة ودودة.

**نص بُني على شهادات حية حول المآسي التي تعرض لها السوريون الذين حاولوا الهرب في قوارب الموت إلى أوربا، وقد تمت صياغتها أدبياً، وستكون الأساس لرواية جديدة يعمل عليها المؤلف.
سوريا 2017: «تجميد» القتال وتلاشي «داعش» بانتظار الحل الروسي

سوريا 2017: «تجميد» القتال وتلاشي «داعش» بانتظار الحل الروسي

الجنوب السوري

“إذا كانت سنة 2016 انتهت بتوقيع أولي لمذكرة «خفض التصعيد» بين الضامنين الثلاثة، روسيا وتركيا وإيران، ومذكرة أخرى روسية – أميركية – أردنية، فإن 2017 تنتهي بترجمة عملية لذلك بحيث جرى «تجميد» الصراع بين قوات النظام السوري والمعارضة، وتركيز القتال ضد «داعش»، ما أدى إلى دحر التنظيم في معقله بالرقة على أيدي «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية – العربية المدعومة من التحالف الدولي، وفي دير الزور بأيدي قوات النظام وحلفائها بدعم من روسيا. سوريا تقف حالياً على مفترق طرق بين التعايش مع مرض عضال اسمه اللااستقرار، أو تلمس احتمالات تؤسس أركان حل مستدام.

تعتقد واشنطن أنها حققت اختراقاً بموافقة موسكو خلال اتفاق بين الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في هامبورغ في يوليو (تموز) الماضي على «عدم وجود قوات غير سورية» في مناطق «هدنة الجنوب» السوري في درعا والقنيطرة والسويداء، ما يعني إبعاد تنظيمات تدعمها إيران و«حزب الله» عن حدود الأردن وخط فك الاشتباك في الجولان، مقابل قناعة موسكو بأنها جلبت واشنطن إلى التعاون العسكري بين الجيشين، رغم التوتر الكبير بينهما. تضمن اتفاق «هدنة الجنوب» تأسيس مركز رقابة في عمان، واحتفاظ المعارضة بسلاحها الثقيل والخفيف، وتحديد خطوط القتال، وبدء تبادل تجاري مع مناطق النظام، وتشكيل مجلس محلي معارض، واحتمال عودة اللاجئين من الأردن أو نازحين قرب الحدود.

وبعد مرور أشهر، لم تنفذ روسيا بنود الاتفاق. وعلى هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (أبيك) في دانانغ في فيتنام، توصل وزيرا الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون والروسي سيرغي لافروف إلى اتفاق أعلن باسم الرئيسين ترامب وبوتين في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) تضمن عناصر، بينها أهمية «خفض التصعيد» في جنوب سوريا قرب حدود الأردن وإسرائيل باعتباره «خطوة مؤقتة» للحفاظ على وقف النار، وإيصال المساعدات الإنسانية. وإذ استعرض الاتفاق «التقدم» في هدنة جنوب غربي سوريا، بموجب اتفاق الرئيسين في هامبورغ في 8 يوليو، رحّبا بمذكرة تفاهم جديدة أميركية – روسية – أردنية وُقِعت في عمان في 8 من الشهر الحالي لتنفيذ اتفاق تموز.

وكان مخططاً أن تعزز هذه المذكرة نجاح مبادرة وقف النار لتشمل «الخفض والقضاء النهائي على وجود القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب من المنطقة لضمان سلام أكثر استدامة»، في إشارة إلى عناصر الميلشيات الإيرانية و«حزب الله» المنتشرين بين دمشق وحدود الأردن والجولان المحتل. ومن المقرر أن يراقب مركز الرصد في عمان تنفيذ ذلك.

لكن احتمال التصعيد هنا يأتي من أن إسرائيل غير راضية عن نتائج الاتفاق، لأنه قيد حركة طائراتها في قصف أهداف لـ«حزب الله» أو تنظيمات إيرانية قرب الجولان أو جنوب البلاد، وقناعتها أن روسيا لن تستطيع تنفيذ إبعاد مجموعات إيران للانسحاب إلى «مسافة كافية»، ما يعني أنها ستلجأ إلى استئناف ضرباتها الجوية قرب دمشق ومناطق أخرى بين العاصمة السورية والجولان المحتل، ما يهدد بمواجهة لها بعد إقليمي ودولي.

الجيش الإسرائيلي أجرى في الفترة الأخيرة مناورات ضخمة قرب حدود سوريا. وأرسلت رسائل سرية وعلنية إلى موسكو بضرورة إبعاد «حزب الله» وإيران عن الحدود. ونشرت وسائل إعلام تقارير عن إقامة إيران قاعدة بين دمشق والجولان. وبعد الاتفاق الأميركي – الروسي، أعلن الإسرائيليون أنهم يريدون أن تبقى أيديهم حرة لضرب «أهداف إيرانية» في سوريا.

وسيكون هذا أحد عوامل التصعيد في سوريا، خصوصاً وسط تعزيز إيران وجودها والحديث عن إقامة قواعد عسكرية دائمة، ورهان أميركا على روسيا لـ«إضعاف» نفوذ إيران في سوريا، مقابل تلويح إسرائيل بالتصعيد والتعامل مع جنوب سوريا وجنوب لبنان على أنهما «جبهة واحدة». وتكرر القصف الإسرائيلي لمناطق قرب دمشق وسط مخاوف من توفر عوامل إقليمية لمواجهة.

هذا ليس التحدي الوحيد في الجنوب السوري، بل هناك أمران: الأول، اقتتال فصائل و«أمراء الحرب»: هناك حوالي 35 ألف مقاتل معارض كانت تدعمهم «غرفة العمليات العسكرية» بقيادة «وكالة الاستخبارات الأميركية» (سي آي إيه) سيكونون في نهاية العام من دون دعم ورواتب. وفي الوقت نفسه، مطلوب منهم أن يحاربوا تنظيمات موالية لـ«داعش» و«جبهة النصرة» في الجنوب. هذا فصل جديد من الصراع. قتال فصائل متشددة بدل قتال قوات النظام.

مطلوب من فصائل «الجيش الحر»، بموجب اتفاقات «خفض التصعيد»، أن تقاتل «داعش» وفكره عسكرياً وسياسياً، وتطرد «هيئة تحرير الشام» التي تضم «جبهة النصرة» بعد مهلة سماح، ما يعني احتمال حصول «اقتتال الإخوة» بين فصائل كانت تقاتل معاً ضد قوات النظام في مرات سابقة. ولا شك أن سيطرة فصائل على معبر الحدود بين سوريا والأردن وتراجع الدعم الخارجي، قد يؤدي إلى بروز دور «أمراء الحرب» جراء الحصول على ضرائب على خدمات وتجارة. وبرز تزامن بين قتال الفصائل لـ«النصرة» من جهة، وانسحاب تنظيمات محسوبة على إيران من جهة أخرى.

وفي غوطة دمشق المحاصرة، حيث تتفاقم المعاناة الإنسانية لمئات آلاف المدنيين، حيث تسود هدنة برعاية روسية – مصرية، يحصل أمر مشابه: اقتتال فصائل و«أمراء حرب». حصل الاقتتال سابقاً في الغوطة الشرقية لدمشق قبل أن ينضم «جيش الإسلام» إلى الهدنة في دوما ثم «فيلق الرحمن» في جوبر والغوطة الشرقية، لكن «هيئة تحرير الشام» لا تزال خارج الاتفاق. ونص اتفاق خفض التصعيد على «التزم الطرف الأول الجيش الحر منع وجود منتسبي هيئة تحرير الشام، في المناطق الخاضعة لسيطرته بمنطقة خفض التصعيد، ويشدد على موقفه الرافض لتنظيم داعش والنصرة، وفكرهما المتطرف في أي من مناطق سيطرته. في حال استعداد منتسبي جبهة النصرة للمغادرة مع أو من دون أسرهم إلى إدلب يتم توفير ضمانات للعبور الآمن من الطرف الثاني لهذا الاتفاق». وينطبق هذا على هدنة ريف حمص التي وقعت أيضاً برعاية روسية – مصرية.

هناك تحدٍ آخر يتمثل بهجوم قوات النظام، وهي مصممة على استعادة مناطق «خفض التصعيد» عندما تحين الفرصة ويأتي وقت ذلك، الأمر الذي عبر عنه وزير الخارجية وليد المعلم قبل أيام لدى تأكيده أن هذه المناطق «مؤقتة»، إذ لم تتغير خطة دمشق لـ«حل عسكري». هي تنتظر الفرصة المناسبة للانقضاض على مناطق المعارضة لـ«عودة الجميع إلى الدولة»، واعتبار «الهدنة فرصة للمصالحة مع الدولة». كما أن دمشق ترفض وجود مجالس محلية للمعارضة على عكس موقف موسكو ونصوص اتفاقات الهدنة. وظهرت أمس حشود في «مثلث الموت» بين أرياف دمشق ودرعا والقنيطرة، إضافة إلى معارك عنيفة في بيت جن غرب دمشق وقصف ومعارك شرق المدينة.

كانت وزارة الدفاع الروسية نشرت نحو ألف عنصر من الشرطة العسكرية الروسية (الشيشان) في مناطق «خفض التصعيد». انتشر بعضهم في القنيطرة ودرعا وغوطة دمشق وريف حمص. هم يشكلون سداً حالياً أمام طموحات دمشق التي تفتقر إلى الموارد البشرية في القوات النظامية، لكن مع مرور الوقت وزيادة الثقة في دمشق، قد تتحدى هذه القوات خطوط التماس وترضخ روسيا لدمشق لجهة بسط سيطرة «سلطة الدولة» و«الحفاظ على وحدة سوريا بموجب نص القرار 2254».

إدلب بين فكين

في إدلب نحو مليوني مدني وأكثر من خمسين ألف مقاتل من فصائل إسلامية ومتشددة ومعتدلة، بينها أكثر من عشرة آلاف في «هيئة تحرير الشام». تعتقد واشنطن بوجود عشرة آلاف من «القاعدة» باعتبار أن «النصرة» جزء من «القاعدة». لكن أنقرة نجحت بالوصول مع موسكو إلى حلول وسط بضم إدلب الواقعة قرب الحدود التركية إلى اتفاق «خفض التصعيد». وقامت الخطة الروسية – التركية على نشر مراقبين عسكريين أتراك في 12 نقطة في ريفي حلب وإدلب لعزل «النصرة»، والسماح للمجالس المحلية والمدنية والفصائل المعارضة المعتدلة بالبقاء في إدلب.

لكن هناك حرباً أخرى ستظهر مع مرور الوقت. بدأ التوتر بين «هيئة تحرير الشام» وفصائل إسلامية أخرى، بل إن قتالاً دموياً قد يحصل في الفترة المقبلة، وكانت بوادره عندما حصل الصدام بين «حركة نور الدين الزنكي» و«هيئة تحرير الشام» في ريف حلب.

هناك أيضاً، حرب أخرى ممكنة. واضح، أن إيران تدفع قوات النظام وميلشيات مؤيدة له كي تحارب في إدلب. وأعلن علي أكبر ولايتي مستشار مرشد الثورة الإسلامية علي خامنئي لدى زيارته حلب أنه يجب الهجوم على إدلب والرقة. وكانت طهران ودمشق و«حزب الله» وضعوا خطة للهجوم على إدلب. موسكو منعت حصول ذلك، لكن إلى متى سيبقى الفيتو الروسي محترماً من دمشق وطهران؟

الجديد هو أنه بعد طرد «داعش» من دير الزور الشهر الماضي، تحولت قوات النظام بقيادة العميد سهيل الحسن الملقب بـ«النمر» إلى ريف حماة الشرقي للتوغل باتجاه إدلب، بالتزامن مع حشود غرب إدلب ما يضعها بين فكي كماشة.

أيضاً، تركيا أعلنت أن لديها أولوية بعدم قيام ممر بين عفرين مناطق «وحدات حماية الشعب» الكردية، التي تصفنها أنقرة على أنها تنظيم إرهابي، والبحر المتوسط، ومنع قيام إقليم كردي شمال سوريا وجنوب تركيا. لذلك، يتوقع أن تقوم بعض الفصائل السورية بقتال «الوحدات» الكردية في المرحلة المقبلة.

إدلب هي المنطقة الثانية، التي تقيمها تركيا بالتفاهم مع روسيا. كانت الأولى شمال حلب بدعم عملية «درع الفرات» حيث سيطرت فصائل المعارضة على حوالي ألفي كيلومتر مربع. وحالت منطقة «درع الفرات» دون ربط إقليمين أقامهما «الاتحاد الديمقراطي الكردي» الذراع السياسية لـ«وحدات حماية الشعب»، هما الجزيرة وعين العرب (كوباني) وإقليم عفرين شمال حلب.

قلق كردي… وتركي

بعد هزيمة «قوات سوريا الديمقراطية» التي تضم في شكل رئيسي «وحدات حماية الشعب» الكردية شمال شرقي سوريا، لتنظيم داعش في الرقة، وسيطرتها على مناطق شرق نهر الفرات ومناطق عفرين بمساحة تشكل ربع سوريا البالغة 185 ألف كيلومتر مربع، يزداد القلق التركي لثلاثة أسباب: أولاً، بقاء السلاح الأميركي وغطاء التحالف الدولي بقيادة أميركا مع الأكراد. الثاني، اعتبار أكراد سوريا امتداداً لأكراد جنوب تركيا. الثالث، وجود كيان كردي سوري.

أنقرة ترى هذا مهدداً للأمن القومي التركي. هذا دفع إلى بدايات تنسيق بين إيران وتركيا ضد إقليم كردستان العراق، ومنع طموح رئيس الإقليم مسعود بارزاني إلى الاستقلال، وسيدفعهما إلى التنسيق ضد «غرب كردستان» (شمال سوريا) بما يشبه التنسيق الثلاثي الذي ضم أنقرة وطهران مع دمشق نهاية التسعينات ضد أكراد شمال العراق الذين حظوا بمنطقة حظر جوي.

أيضاً، رغم تطمينات واشنطن من أنه لا وعود سياسية لأكراد سوريا، وأن السلاح الأميركي والأوروبي سيُسحب من «وحدات الحماية» بعد القضاء على «داعش»، فإن الجيش التركي قد يجد نفسه مضطراً لتوسيع المواجهة ضد الأكراد والتوغل شمال سوريا، كما حصل قبل عقد في العراق. وتوقيع الرئيس ترمب قراراً تنفيذياً لتسليح «قوات سوريا الديمقراطية» بحوالي 400 مليون دولار، ورفع عددها من 25 إلى 30 ألفاً في منتصف ديسمبر (كانون الأول) زاد قلق أنقرة، خصوصاً أن ذلك جاء بعد وعود ترمب لنظيره التركي رجب طيب إردوغان بعدم تسليح الأكراد.

دمشق كانت غضت الطرف عن إنجازات الأكراد منذ منتصف 2012 لأنهم لم يكونوا أولوية. لكن مع مرور الوقت وزيادة الثقة وتراجع «الجيش الحر» يمكن فتح جبهة جديدة بين دمشق والأكراد، أو أن تغض دمشق الطرف عن ضربات يقوم بها الجيش التركي ضد الأكراد. حصل ذلك سابقاً في العراق قبل سنوات.

كما أن دمشق لم تقمْ بالكثير عندما دعم الجيش التركي فصائل «درع الفرات» لإقامة جيب بين حلب والحدود.

وكان مسؤولون في دمشق تحدثوا عن حرب مقبلة ضد الأكراد، بل إن نائب وزير الخارجية فيصل المقداد شبه «قوات سوريا الديمقراطية» بـ«داعش». وكرر مسؤولون إيرانيون هذا التهديد. واضح، أن العلاقة بين دمشق والأكراد تسير إما باتجاه التفاوض أو الحرب وانتهاء «زواج المصلحة» الذي كان قائماً منذ 2011، إذ إن قوات النظام لم تحارب «الاتحاد الديمقراطي» القريب من «حزب العمال الكردستاني» بزعامة عبد الله أوجلان، بحيث بات لديه نحو 70 ألف مقاتل وسلاح متطور من أميركا وأوروبا، بل إن دمشق ركزت على محاربة «الجيش السوري الحر».

كانت أميركا وروسيا تفاهمتا في مايو (أيار) على مناطق نفوذ، وجرى التأكيد على ذلك في اتفاق ترمب – بوتين في 11 نوفمبر. هناك الخط الساخن بين موسكو وواشنطن لمنع الاحتكاك شرق سوريا بين قوات النظام و«حزب الله» المدعومة من الجيش الروسي التي تقدمت نحو دير الزور من جهة، و«قوات سوريا الديمقراطية» التي يدعمها التحالف الدولي بقيادة أميركا لتحرير الرقة وريفها من جهة أخرى. لكن مع تحرير الرقة ودير الزور يزداد الضغط الروسي لإخراج الأميركيين من الشرق. كما أن إيران التي ترى الوجود الأميركي معرقلاً لطموحاتها ستختبر الأميركيين بوسائل عدة.

يدرك «الاتحاد الديمقراطي الكردي» الجناح السياسي لـ«الوحدات» أن واشنطن خانت أكراد العراق في السبعينات وشيعة العراق في التسعينات والعرب السنة في سوريا في السنوات الأخيرة. لذلك، لا يستبعد قياديون أكراد خيانة أميركية لأكراد سوريا بعد سنوات من القضاء على «داعش». بعض المسؤولين الأكراد يرى مصلحة في التروي في المعارك ضد بقايا «داعش» البالغ عددهم ثلاثة آلاف عنصر، لتكريس الوجود العسكري على الأرض في فيدرالية شمال سوريا، في حين يُهيئ مسؤولون أكراد آخرون أنفسهم لـ«معركة كبرى» أو مواجهة ضد قوات النظام السوري أو العشائر العربية التي يمكن أن تقوم بثورة ضد «قوات سوريا الديمقراطية» التي تهيمن عليها «الوحدات» الكردية شرق نهر الفرات. ويراهن مسؤولون أكراد على تعزيز العلاقة مع روسيا. البداية كانت بلقاءات بين قائد «وحدات حماية الشعب» الكردية سبان حمو ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، ثم تشكيل غرفة عمليات مشتركة في دير الزور.

هناك أيضاً عامل آخر. المواجهة ممكنة، خصوصاً أن إيران تريد اختبار مدى التصميم الأميركي لإدارة ترمب عسكرياً لتقليص النفوذ الإيراني وقطع طريق طهران – بغداد – دمشق – بيروت، سواء بالتمدد شمال قاعدة التنف الأميركية شرق سوريا باتجاه البوكمال، وتشجيع فصائل في «الحشد الشعبي» العراقي للتوغل شرق سوريا، ما يفسح المجال لاحتمال مواجهة مع «قوات سوريا الديمقراطية»، أو تفككها عرباً وأكراداً بعد فترة على استقرار مؤقت في هذه المنطقة المحررة من «داعش». إلى الآن، استوعب الطرفان الواقع وشكلا تنسيقاً بين «الحشد» و«سوريا الديمقراطية».

«سوريا المفيدة» ميليشيات وجيش

في مناطق قوات النظام التي تفتقر إلى الموارد الطبيعية، باعتبار أن الغاز والنفط شرق البلاد تحت سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» وحلفاء أميركا، بات موضوع إعادة الإعمار بمثابة «معركة» بسبب رفض دول غربية دعم ذلك دون حل سياسي مقبول، وغياب القدرة المالية لحلفاء النظام في روسيا وإيران لتعويض كلفة الدمار التي تتجاوز 220 مليار دولار أميركي. وكان لافتاً أن مبعوث الرئيس الروسي ألكسندر لافرينييف قدر كلفة الدمار بـ400 مليار دولار أميركي.

في المقابل، أعلنت 18 دولة في اجتماع بقيادة أميركية عقد في نيويورك في سبتمبر (أيلول) الماضي أنها لن تشارك في إعمار سوريا، ما لم يحصل حل سياسي ذو صدقية بناء على تنفيذ القرار 2254.

هذا سيؤدي إلى مشاكل كبرى في مناطق النظام. هناك أيضاً، بوادر معارك أخرى بين «أمراء الحرب» ورجال الأعمال الجدد الذي برزوا في اقتصاد الحرب، ويتنافسون على حصة في مستقبل البلاد التي زادت فيها معدلات الجريمة والفساد، وتراجعت الكفاية الإدارية وسلسلة ترابط السلطة.

لكن الحروب الأخرى المحتملة، هي بين ميليشيات تابعة لإيران تضم عناصر سوريين وأجانب يدينون بالولاء لطهران، ويقدر عددهم من السوريين والأجانب بنحو 70 ألف عنصر، وبين قوات النظام التي تضم الجيش وقوات تحاول روسيا الحفاظ عليها، عبر تشكيل ميليشيات تابعة لروسيا والقاعدتين الروسيتين في اللاذقية وطرطوس لموازنة النفوذ الإيراني. وكان قرار موسكو تشكيل «الفيلق الخامس» ضمن هذا السياق، خصوصاً أن قرار الرئيس بوتين عدم إرسال قوات برية والاكتفاء بالقوة الجوية ومراقبين من الشيشان، يعني اعتماد موسكو على الميليشيات التابعة لطهران، وزيادة الاحتقان بين الميليشيات الشيعة والغالبية السنية في سوريا، ما لم تؤسس موسكو ميلشياتها الخاصة في سوريا.

ويجب عدم نسيان التوتر الطائفي الموجود خصوصاً في دمشق، وبين العاصمة السورية وحدود لبنان ومناطق «حزب الله» حليف طهران في لبنان، بسبب زيادة وجود ميلشيات تابعة لإيران تتصرف على أساس طائفي وسط مساع إيرانية لإجراءات تغييرات ديموغرافية غير مقبولة من شريحة واسعة من السنة.

المسار السياسي

الاتفاق بين ترمب وبوتين في نوفمبر (تشرين الثاني)، تضمن التعاون بين جيشي البلدين لـ«محاربة الإرهاب» وهزيمة تنظيم داعش والحفاظ على اتفاق «منع الصدام» بين الطرفين، وسحب الميلشيات الإيرانية من الجنوب. كما أن بيان تيلرسون في يوليو كان بمثابة تسليم غرب سوريا إلى روسيا، لكن هذا ليس كافياً لسوريا والسوريين. لا بد من التركيز على البند الثالث في الاتفاق الأميركي – الروسي المتعلق بتنفيذ القرار 2254، إذ تضمن الاتفاق أن ترمب وبوتين «أخذا علماً بالتزام الرئيس الأسد بعملية جنيف والإصلاح الدستوري والانتخابات على النحو المطلوب بموجب قرار مجلس الأمن 2254».

وتابع البيان أن الرئيسين «يعتبران أن هذه الخطوات يجب أن تشمل التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن 2254، بما في ذلك الإصلاح الدستوري والانتخابات الحرة والنزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة، وفقاً لأعلى معايير الشفافية الدوليــــة، بمشاركة جميع السوريين، بمن فيهم أعضــــــاء الشـتات، المؤهلون للمشاركة».

هذا الاتفاق الجديد يتضمن تراجعاً إضافياً في موقف واشنطن من النظام السوري. التنازل الأول، كان بعد إطلاق عملية فيينا وتأسيس «المجموعة الدولية لدعم سوريا» من أكثر من عشرين دولة إقليمية وغربية برئاسة أميركية – روسية، ذلك بعد أسابيع على التدخل العسكري الروسي المباشر في نهاية سبتمبر (أيلول) 2015. وقتذاك، تراجع الاهتمام بـ«بيان جنيف» للعام 2012، ونص على تشكيل «هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة» إلى إقرار القرار 2254، ونص على ثلاثة بنود: تشكيل «حكم تمثيلي وغير طائفي»، وإقرار دستور جديد، وإجراء انتخابات.

الاتفاق الأميركي الجديد يتحدث عن «إصلاح دستوري» أي الإبقاء على الدستور الحالي للعام 2012، وجرى الاستفتاء عليه في ظل الحرب، وبغياب نحو ستة ملايين لاجئ سوري وسبعة ملايين نازح داخل البلاد. كما لم يشر الاتفاق إلى إجراء انتخابات رئاسية، بل كان فيه إقرار لموقف الرئيس الأسد عندما قال بعد لقائه لافرينييف في أكتوبر (تشرين الأول) بالموافقة على «تعديل الدستور وإجراء انتخابات برلمانية».

لكن الأمر المهم في الاتفاق، موافقة واشنطن على دعم عملية جنيف برعاية الأمم المتحدة. إدارة ترمب كانت خارج مسار عملية آستانة لاعتراضها على حضور إيران كـ«ضامن». وشاركت بصفة مراقب، لكن واضحاً أن الإدارة الأميركية باتت أكثر اهتماماً بإطلاق عملية جنيف، خصوصاً مع اقتراب انتهاء «داعش» شرق سوريا. لكن هذا يتطلب سلسلة من الخطوات. لا بد من رعاية أميركية – روسية، وعزم سياسي وراء المفاوضات السياسية، ولا بد من مشاركة الدول الإقليمية الرئيسية بحيث يجري الضغط على النظام والمعارضة للوصول إلى تفاهمات واتفاقات سياسية تتضمن «المشاركة السياسية» ووحدة سوريا.

لا شك أن إطلاق عملية سياسية تجمع بين مقاربتين «من تحت إلى فوق» ومن «فوق إلى تحت» سيكون أمراً مهماً. بمعنى، أن المجالس المحلية التي ظهرت في مناطق «خفض التصعيد» الأربع، وفي المناطق التي حررت من «داعش» يجب أن تكون مشاركة في العملية السياسية. أيضاً، لا بد من مشاركة القوى السياسية المعارضة في مفاوضات مع النظام، للبحث عن حل سياسي وعسكري في دمشق. هنا يبدو نموذج اللامركزية مفيداً لسوريا المستقبل: أقصى حد من السلطات للمجالس المحلية لكن من دون الوصول إلى التقسيم. والمهم، أن تكون المجالس المحلية قائمة على مناطق جغرافية، وليس ديموغرافية، ذلك التزاماً ببنود القرار 2254 الذي يؤكد على وحدة سوريا.

وهنا، باعتبار أن هناك عشرات آلاف المقاتلين في صفوف المعارضة والنظام، لا بد من البحث عن تشكيل مجلس عسكري مشترك يؤدي تدريجياً إلى التنسيق بين المقاتلين، وإصلاح أجهزة الأمن والجيش على أمر بدء برنامج زمني لنزع سلاح الميلشيات وخروج المقاتلين الأجانب من سوريا.

إن إطلاق عملية مضبوطة ومتدرجة تتضمن بعدين سياسي وعسكري، سيؤدي إلى إعادة تجميع مناطق «خفض التصعيد» كي لا تكون «مناطق نفوذ» لدول الخارج، بل أن تكون جزءاً من سوريا. أيضا، هذا يؤدي إلى توفير شروط العمل السياسي والبيئة الحيادية، كي يقرر السوريون مصيرهم، وأن تكون العملية السياسية «بقيادة سوريا وملكية سوريا»، كما نص القرار 2254. لاشك أن حلاً كهذا سيؤدي إلى إقدام دول أوروبية وأميركا ودول الخليج وحلفاء النظام على المشاركة في إعمار سوريا وتوفير الـ220 مليار دولار المطلوبة لإعمار البلاد.

تبدأ سنة 2018، باجتماعين. الأول، مفاوضات جنيف في 21 يناير (كانون الثاني). الثاني، مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي يومي 29 و30 يناير. موسكو تضغط على المعارضة كي تحضر سوتشي بشروط موسكو وقبول الرئيس الأسد واقتصار الحديث عن تشكيل لجنة دستورية كي يشكل هذا نصراً كبيراً لبوتين قبل انتخاباته في 28 مارس (آذار) للبناء على لقـــــاءيه الأسد في سوتشي وحميميم الأسابيع الماضية، ولقــــــائه (بوتين) مع نظيريه التركي والإيراني في نوفمبر. في المقابل، تضــــغط الأمــــم المتحدة لتكامل بين جنيف وسوتشي لإطلاق عملية سياسية بموجب 2254.

ستكون السنة المقبلة مفصلية لتحديد ما إذا كانت سوريا ستمضي باتجاه «الحل الروسي» أو «الحل السوري» لتحديد مستقبل البلاد في العقود المقبلة.”

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»