بواسطة مازن عرفة | فبراير 12, 2018 | Cost of War, Culture, غير مصنف
كيف كتبت الغرانيق، ومرايا الحياة في زمن الصمت، وتشظيات.
أقف على شرفة شقتي في الطابق الثالث، المطلة على الساحة الرئيسية في البلدة، وأنظر إلى الشوارع، وقد فرغت من المارة وأرخت الحوانيت أغلاقها، حتى القطط والكلاب الشاردة اختفت، هي واليمام المعشش بين أخشاب أسطح البيوت القديمة. وساد صمت ثقيل مريب على البلدة “وكأن أناسها قد هجروها، أو أن إلهاً أسطورياً عبثياً خلق البلدة، ونسي في لحظة ثمالة أن يخلق أناسها”، أمسك بقلم وأكتب على ورقة مرمية أمامي على طاولة صغيرة في الشرفة.
حدث هذا في عام ٢٠١١، بعد خروج التظاهرات في بلدتي الواقعة في ريف دمشق الغربي، كما خرجت في المدن والبلدات السورية، تطالب بـ”إسقاط النظام” وبـ”الحرية والكرامة”… وقد جاء اليوم دور اقتحام بلدتي من قبل خليط من “جيش النظام” وأجهزته الأمنية ومجموعات من “الشبيحة”، وإجراء حملة اعتقالات شاملة بين الأهالي لكسر شوكة “الانتفاضة السلمية”.
ومنذ الصباح، ومع توارد الأنباء عن حصار “جيش النظام” للبلدة وتحرك المدرعات نحوها، اختفى نشطاء “الانتفاضة” في الحقول والتلال حولها، والتم الأهالي في بيوتهم قلقاً وترقباً… وأقف أنا على طرف الشرفة مستطلعاً ومترقباَ، وأيضاً بقلق شديد.
دخلت الدبابة الأولى إلى الساحة تستطلع الوضع، وهي تزمجر وجنازيرها تحفر الإسفلت، وتوقفت عند مدخلها. أشاهدها، وأسمع صرير برجها يدور، فإذا بمدفعها يتجه نحو شرفتي. وشعرت أن عيناً معدنية تراقبني من داخل برجها. ينتابني خوف شديد، ويتصبب عرق غزير مني، وأنا كنت أظن نفسي متفرجاً، وإذ بي أصبحت هدفاً… لكنها تتراجع في لحظة أخيرة عن إطلاق قذيفتها، وأكتب على أوراقي بيد مرتجفة مبلولة بالعرق مع التوقيت “اكتشفت الدبابة أنني لست أميراً صحراوياً في إمارة إسلامية، يقود جيوشه المؤمنة من الشرفة، ولا ألوح بسيف، أو بلطة، أو ساطور.”
وسرعان ما تتالى وراء الدبابة الأولى رتل من الدبابات… ثماني، تسع، عشر. وأكتب ملاحظة عنها، ودائماً مع التوقيت، وأنا على الشرفة. تنحرف سبع منها نحو البلدة القديمة… أكتب. ووراء الدبابات، يدخل جنود، أشاهدهم يتمركزون في المواقع المهمة في الساحة، وتليهم فرق المداهمة من “الأمن” و”الشبيحة”، بشاحناتها الصغيرة المحملة بالرشاشات، والسلالم، والحبال… أكتب. تشتعل سيمفونية إطلاق رصاص غزير في الأحياء القديمة، حيث تنطلق التظاهرات عادة، يطلقها الجنود على الغيمات العابرة والظلال… أكتب. تنتشر فرق المداهمة في البلدة، وتأخذ باعتقال شباب ورجال من البيوت وفق دلالات المخبرين الملثمين المرافقين… أكتب. يقف مخبر غير ملثم من شباب “المساكن العسكرية”، المتاخمة للبلدة، متحدياً في الساحة… أكتب. يخرج رجال ونساء موالون لـ”النظام” إلى الشارع، ويتطوعون لكشف منازل “المتظاهرين” وكل من “يعارض النظام من الرجال والنساء والأطفال والقطط والعصافير”، لهجتهم السلطوية تفضحهم… أكتب. تبدو الاعتقالات عشوائية، حسب مزاج “المخبرين” و”الموالين”… أكتب. تصل حافلات النقل المدنية الخضراء فارغة إلا من حراسها، تلك التي استوردتها الدولة من الصين حديثاً لتخفيف أزمة المواصلات في العاصمة، وتتوزع في البلدة… أكتب. ترجع ممتلئة بالمعتقلين، أراهم مقيدين، راكعين على أرضها، وقد شُدت العُصابات على عيونهم، و”الشبيحة” على أبوابها، يطلقون الرصاص في الهواء ابتهاجاً بالتقاط “طرائدهم”… أكتب. تصل فرق المداهمة إلى بنايتي، يحطمون باب شقة فارغة، يتسلقون السطح… أكتب. أشعر بهم أمام باب شقتي… أتوقف عن الكتابة.
وكانت حصيلة الحملة العشوائية الضارية يومها اعتقال حوالي ٧٠٠ شخص من أهالي البلدة، معظمهم من غير المتظاهرين، وهؤلاء كانوا قد اختفوا بغالبيتهم في الحقول والتلال، أو فروا إلى البلدات المجاورة الآمنة .
كانت تلك الحملة الأولى من الاعتقالات في بدايات “الانتفاضة” في بلدتي، وكانت السلطة تظن وقتها أن “حفلة تعذيب” قاسية للمعتقلين ستردعهم عن التظاهر في الشوارع، ومن ثم أفرجت عن معظمهم ـ لكن في حملات الاعتقال التالية لم يعد يرجع أحد من المعتقلين، كان الجميع يُصابون وفق تقرير طبي رسمي بـ”نوبة قلبية” مفاجئة في المعتقل، بمن فيهم المراهقون والشباب الصغار، وتختفي جثثهم برعاية مافيات المتاجرة بالأعضاء البشرية، ويحصل أهاليهم على بقايا مقتنياتهم: الهوية الشخصية وشحاطة بلاستيكية.
أشاهد آثار التعذيب على أجساد العائدين من الاعتقال في الحملة الأولى؛ على الوجوه المتورمة المشوهة، والأضلع المكّسرة، والجروح النازفة الملتهبة، وخاصة عند المعاصم، حيث شُدت القيود البلاستيكية بعنف… أكتب. وأشاهد الكآبة على الوجوه، وامتلاء القلوب بالحقد على الجلاد… أكتب.
قال أحدهم “أنا لم أخرج مع المتظاهرين، فلماذا اعتقلوني وعذبوني”… أكتب.
قال لي ثان “في مركز التجميع الأول، دخل علينا عسكري “بغل” من دير الزور، وأخذ يضربنا بشكل عشوائي بسوط، ويرفسنا ببوطه العسكري. ولما تدخل ضابط برتبة “عقيد” لمنعه من ضربنا، نهره صف ضابط صغير “مساعد” من “الفرقة الرابعة”، مهدداً “لا تتدخل فيما لا يعنيك”… أكتب.
قال لي ثالث “حشرونا عشرين شخصاً في زنزانة تتسع لخمسة”… أكتب.
قال لي رابع “قتلوا أخي تحت التعذيب”… أكتب.
وقال خامس، وسادس… وعاشر… أكتب.
وأكتب أن معظم هؤلاء المعتقلين من أهالي بلدتي شعروا بإهانة كرامتهم على يد “الجلاد الصغير” و”الجلاد الكبير”، وأكتب أنهم حملوا السلاح في أول خطوة من “عسكرة الانتفاضة” في رد فعل على العنف الموجه ضدهم.
ومن هنا بدأت عمليات الاغتيال المتبادلة؛ “المنتفضون” يغتالون “المخبرين”، و”الشبيحة” من “المساكن العسكرية” يردون عليهم باغتيال عشوائي لـ”أعيان البلدة”. وليس بعيداً من بنايتي، حدثت أربع عمليات اغتيال متتالية لـ”مخبرين أمنيين” شرسين، تسببوا باعتقال المئات من شباب البلدة… حدث هذا وأنا على الشرفة… وأكتب.
وفجأة تتشكل الملاحظات التي أكتبها في فصل متكامل، لم يكن ينقصها إلا الصياغة الأدبية مع بعض الخيال الروائي ـ طبعاً إلى جانب الفانتازيا التي أحبها. ومع أن هذا سيكون الفصل ما قبل الأخير في روايتي الجديدة، فقد ولدت به “الغرانيق”، وسيتم نشرها بعد ثلاث سنوات من كتابتها، وسأكون محظوظاً أن ذلك حدث بعد الخروج من البلاد بعد ست سنوات من بدء “الانتفاضة”.
بعد حملة المداهمات الأمنية الأولى، تحولت البناية التي أسكنها إلى موقع عسكري محصن لـ”جيش النظام”، بسبب إطلالتها الإستراتيجية على الساحة التي كان يجتمع فيها المتظاهرون، فملأ العسكر شققها بعد فرار معظم قاطنيها، وتوزعت الرشاشات على سطحها، وتوضعت الدبابات أمامها، وتوزعت كاميرات المراقبة حولها. وتم خطف مالك البناية من قبل “عصابة أمنية”، طلبت فدية عالية مقابل الإفراج عنه، لم تستطع عائلته جمعها، فتم قتله. وهربت زوجتي وطفلاي الاثنان أيضاً من البناية، بعد معركة حامية الوطيس حولها، وقد استقر رشاش فوق سطح شقتي تماماً، تهتز معه، وهو يطلق الرصاص بدون توقف طوال معركة طويلة.
…وأنا بقيت في شقتي. كان لدي فيها مكتبة ضخمة، جمعتها منذ طفولتي، وذكريات العائلة… وكان لدي أمل أن الأمور ستنتهي قريباً.
حدثت المداهمة الأولى لشقتي من قبل حوالي أربعين عسكرياً من عناصر “جيش النظام” المقيمين في البناية، بدعوى أن هناك من يصور انطلاق الدبابات ومجموعات الجنود منها ، ويبث ما يصوره على شبكة النيت كتحذير لـ”المنتفضين”. وكان هناك حقاً شبان صغار شجعان يتسلقون بناية مجاورة مهجورة بقربي، ويقومون بالتصوير بهواتفهم المحمولة من مستوى شقتي. وحتى تم التأكد من أنه ليس لدي جهاز هاتف محمول ولا شبكة نيت، كانت قد تم قلب شقتي رأساً على عقب، وتبعثرت محتوياتها، وأصيب بعض الجنود بخيبة أمل عندما لم يجدوا “ذهباً” في خزانة زوجتي .
وقف ضابط المداهمة برتبة “نقيب” أمام مكتبتي مذهولاً، واختار أكبر مجلدين ضخمين أنيقين ليأخذهما، فقد يجد فيهما قصص مغامرات وجنس يتسلى بهما، وخاصة في الليل، حيث لا يجرؤ هو وجنوده على مغادرة البناية. قرأ العنوان “من الفناء إلى البقاء” للباحث الفلسفي المصري حسن حنفي بجزأين، وسرعان ما رماهما أرضاً كأنه أمسك عقرباً سيلدغه، وصرخ “ماذا تفعل بهذه الكتب المجنونة؟”. تلعثمت وبربربت بشيء غير مفهوم، فأردف “لو جاءت دوريات الأمن بدلاً مني لرمتك أنت وكتبك من الطابق الثالث إلى الشارع مباشرة، قبل أن يبحثوا عن هاتفك المحمول.” وأراد اصطحابي مع عسكره ليتسلى بالتحقيق معي في شقته، حسب ما يفعل مع أهالي الحي… لكن معركة اندلعت مع “منتفضين مسلحين”، ليس بعيداً عن البناية، فتركني عند الدرج، وأنا أكاد أتعثر بشحاطتي.
تحول الطابق الأول غير مكتمل البناء إلى مركز تحقيق أمني أولي، وكانت سيارات الأمن تقود المعتقلين الذين يُسحبون من بيوتهم، أو الذين يُلتقطون على الحواجز الأمنية في الشوارع إليه. يتم إدخالهم إلى البناية وراء بعضهم البعض، مربوطين بحبل طويل أمام أعين المارة، وكنت أرى الذين يُسحبون من بيوتهم حفاة وشبه عراة. وعندما يتم إخراجهم إلى المراكز الأمنية، كانت ثيابهم تبدو ممزقة والدماء تنزف منهم. وكانت الأصوات المجروحة المتألمة في “حفلات التعذيب” تضج في الشوارع والحارات، وتقتحم شقتي عبر منوَّر البناية. وحتى عندما تتوقف، تبقى تضج في رأسي، وهي تجأر “دخيل الله، ليس لي علاقة، ما بعرف.” أما التحقيق العسكري، فكان يجري في شقة من الطابق الثالث، تشترك مع شقتي بجدار مشترك. وأذكر تحقيقاً مع شاب بتهمة “إرهابي” لأنه نافس عسكرياً من البناية على “عشق” فتاة في الحي القريب من البناية.
وذات يوم انتشر خبر “انشقاق” أربعة جنود من البناية، وتمت مداهمة البيوت المجاورة بحثاً عنهم، لكن “المنشقون” كانوا قد أصبحوا خارج البلدة، في مناطق آمنة مع “المنتفضين”.
ونتيجة توتر الأوضاع ليلاً، والخوف من “المنتفضين”، أخذ العسكر يقنصون من يسير في الشوارع ليلاً من الأبنية التي حولوها إلى مواقع عسكرية. وبعد أربع جثث امتنع الأهالي عن مغادرة منازلهم… ليلاً، ومعظم نهارهم.
كان الوضع الذي أعيشه عبثياً كافكاوياً، وعدمياً يذكر بكامو أيضاً، وكل هذا مع مزيج من سخرية كوميديا سوداء في أكثر صورها غرائبية… أن تعيش “حراً” في معتقل، وفي موقع عسكري، فتستطيع الدخول إليه والخروج منه بـ”حرية” نسبية، رغم وجود مناوبات حراسة عسكر ظاهرة، ومخبرين متخفين في المحلات بصفة باعة… وكنت أكتب، لكن بشواش شديد وفوضى غريبة هذه المرة، ملاحظات متناثرة، أسطر غير مكتملة.
في المداهمة الأخيرة لشقتي من قبل العسكر عصر ذات يوم، اقتحمها وسط ذهولي حوالي ثلاثين عسكرياً بخوذهم وأسلحتهم الكاملة، كان أحدهم يحمل رشاشاً بشريط رصاص طويل يلفه على جسده، وبقيادة “عقيد” موتور، استلم حديثاً الموقع العسكري ـ الشقة، والحاجز الأمني أمامها، دخلوا كمن يقتحمون ساحة معركة. ظننت أن ما يحدث أمامي “فيلم رعب أمريكي”، وأنني دخلت مشاهده بالخطأ عن طريق تقنيات “الواقع الافتراضي” الحاسوبي… كان عسكري واحد يكفي ليأخذ مني ما يريد.
وبما أن معظم الجنود المداهمين يعرفونني، يشاهدونني أدخل إلى البناية وأخرج منها يومياً عدة مرات، وهم في نوبات حراستهم على مدخلها، فقد بدوا متوترين، لا يعرفون ماذا يفعلون بي… صرخ بهم العقيد “فرغوا الخزانة… اقلبوا الأرائك… انزعوا الفرش عن الأسرة… ابحثوا في أواني المطبخ… اقلبوا الكتب أرضاً”… كنت أرغب بقلم وورقة لأسجل كيف يبحث الجنود عن أنفاق وممرات ومغائر في شقتي، لكن معركة حامية الوطيس من قلب الأثاث وبعثرته رأساً على عقب كانت دائرة.
وفجأة تحولت الشقة إلى ركام حقيقي، وكأنها تعرضت إلى زلزال مدمر، أو تسونامي بحري، وأنا مذهول مما يحدث. وجد الجنود بين ألعاب أطفالي “مسدساً بلاستيكياً، يرش ماء”… يعلق العقيد “وتقول لي أنك رجل مسالم… وأنت إرهابي.” وجد الجنود كرتونة، فيها ملابس داخلية قديمة لزوجتي… أخرجها العقيد قطعة قطعة بطرف بندقية، يستعرضها أمام العسكر، وهو يصرخ بسخرية “وتقول أنك مثقف، والنساء “الشراميط” تحضر لعندك طوال الوقت.”
لم يكن يريد “العقيد” سوى إهانتي، وربما ودفعي إلى مغادرة الشقة، وكأنه يشعر بالحقد لأنه لم يتم اعتقالي بعد ولا مرة، فلم أكن فقط رجلاً تجاوز الستين من عمره ومسالماً، إذ أنه من المفترض أيضاً أني أعيش بأمان في موقع عسكري، حيث لا يزورني أحد فيه. خرج العسكر من ركام الشقة، أما أنا فجلست بين ركام الزلزال والتسونامي، وقد زارت عيني دمعتان، وأنا أنظر إلى شيء واحد معلق أمامي على الجدار، نسي العسكر نزعه؛ كان برنس ابني الصغير، الذي خرج به من الحمام يوم هروبه، وبقي معلقاً منذ ثلاث سنوات بانتظار عودته… بقيت مذهولاً طوال الليل حتى غفوت فوق كومة ثياب.
في صباح اليوم التالي، ودون أن أرتب شيئاً في الشقة من ركام الزلزال، جلست إلى طاولتي، وبدأت أكتب روايتي التالية “فيلم سوري طويل” أو باسم آخر “مرايا الحياة في زمن الموت”… تفجرت أفكار الكوميديا السوداء الساخرة بطريقة مذهلة، لم أستطع إيقافها وهي تتدافع وأخذت أكتب بجنون شهراً، واثنين، وعشرة، وسنة.
وفي أثناء ذلك، كان “العقيد” الموتور “يعفش” جميع البيوت الفارغة بدعوى أن مالكيها “إرهابيون”، مستغلاً عدم خروج الأهالي ليلاً خوفاً من القنص، ويؤمن الغطاء الأمني لخطف أهالي من البلدة من أجل الحصول على فدية مالية عالية. ويوم ماتت والدتي السبعينية “نبش” الجثة حتى كاد يفك الكفن عنها ـ دون أن أعرف عن ماذا يبحث، وسمح لستة أشخاص منا بدفنها في المقبرة، بعد الحصول على موافقة أمنية، وتحت إشراف حاجز عسكري مجاور لها… ويوم انفجر به لغم ومات، زغردت النساء في بلدتي، فيما لف هو بالعلم الوطني.
أنهيت الرواية منذ عامين، وتنتظر دورها في النشر. أتريث قليلاً حتى تأخذ “الغرانيق” مداها.
سيطر “عسكر النظام” على بلدتي بعد عدة حملات اجتياح واعتقالات وقمع دموي لها، وأصبح الأهالي تحت رحمة “أجهزته الأمنية” و”ميليشياته الانكشارية الطائفية”، إلا أن خط النار مع “المنتفضين” سيستقر لعدة سنوات غير بعيد عنها ببضعة كيلومترات فقط. وفي أثناء ذلك، لم ينقطع الأمل لدى الأهالي من “تحرير” مناطقهم، رغم بدء تكدس “الميليشيات الشيعية الإيرانية” فيها.
كانت “الانتفاضة السورية السلمية” قد تحولت إلى “العسكرة” كرد فعل على العنف الموجه إليها من قبل “النظام العسكري”، ومن ثم إلى “الأسلمة”، بعد أن غدت مطية دول إقليمية تحت يافطة “أصدقاء سوريا”. وكل منها يريد تحقيق مصالحه في البلاد باسم “المعارضة”، ضمن صراعات نفوذ ونزاعات إقليمية ودولية، تشتم منها رائحة “النفط” و”الغاز”، و”الموقع الاستراتيجي للتحالفات العسكرية.
حمل “المنتفضون” في البداية اسم “الجيش الحر”، الذي ما لبث أن حلت مكانه “جماعات إسلامية”، رفعت رايات سوداء وبيضاء، حسب الجهات الخارجية الداعمة. وتحولت إلى التنازع فيما بينها، على “مناطق النفوذ والسيطرة”، إلى جانب الاختلافات الدموية على “حف الشوارب”، و”اللباس الأفغاني”، وإقامة الحدود على “المدخنين”، و”المرتدين”، و”النصيرية”. وما أن تسيطر جماعة منها على “بضعة أمتار” من أرض حتى تعلن عليها “خلافتها الإسلامية”، وتقوم بـ”تطبيق الحدود” على أهاليها، متناسية شعارات “نصرة المستضعفين” والوقوف بوجه “المستبد” التي كانت تدعي أنها سبب إعلانها. كان الأهالي بحاجة إلى “بطولات” تشابه “أحلام اليقظة الجمعية”، ألبسوها لبعض “المغامرين” كمنتفضين، وسيكشفهم المستقبل مشاركين في عمليات خطف لـ”الكفار” مقابل الفدية، لا فرق بينهم وبين العصابات التي ترعاها “الأجهزة الأمنية” سراً لخطف الأهالي مقابل الفدية.
وفيما انضم إلى “الجماعات الإسلامية” مقاتلون أصوليون من بلدان مختلفة، كان نشطاء “الانتفاضة” السلميون ومعظم “المنشقين العسكريين” ينسحبون من المواجهة مع “النظام”، بعد افتقاد الدعم “الغربي الديمقراطي المزعوم”، ويتفرقون مهجرين مشردين في بلدان مختلفة.
وفي لحظة انهيار في صفوفه، استقدم “النظام” ميليشيات شيعية إقليمية بقيادات إيرانية، وتحول إلى أداة إيرانية، تقوم بتدمير منهجي لمناطق “السنّة” بالبراميل المتفجرة، ضمن مشروع “التغيير الديموغرافي الإيراني”، والقائم على تهجير أكبر عدد من سكان هذه المناطق بـ”غطاء دولي” صامت. لم تكن إيران ترغب بانتهاء الحرب وقيام تسوية سياسية ما، إذ كان معنى ذلك خروجها من البلاد خاسرة، لذلك فلتشتعل طويلاً مادام وقودها هم “أهل البلاد” من أجل “هلالها الشيعي”، وطالما منحها “أوباما” فرصة تاريخية لن تتكرر بسهولة مقابل “الاتفاق النووي” معها.
وفي لحظة انهيار ثانية لـ”النظام”، رغم ثقل “الدعم الإيراني”، دخل “الروس” بقوة تدميرية هائلة، مناسبة للصراع مع جيوش غربية قوية، بدعوى القضاء على “الإرهاب”، وأخذوا يستكملون تدمير البلاد. وبالمقابل شارك الأمريكيون بالتدمير في “حصتهم” من الشمال السوري، وفي بقية المناطق لم يكونوا فقط “يتفرجون” على “المجزرة”، وإنما يعملون أيضاً على إذكاء “جذوتها” باستمرار، دون السماح لطرف بالانتصار على الآخر، حتى تتدمر كامل البلاد، وتتحقق أهدافهم بتقسيم المنطقة وإعادة رسم حدودها.
أنتظر أهالي بلدتي طويلاَ، مثل أهالي البلدات الأخرى، قدوم “الإسلاميين” لـ”تحريرهم” من سلطة “عسكر النظام” و”الميليشيات الإيرانية”، بعد أن وعدوهم بـ”النصرة” أو “الشهادة في سبيل الله”، وقد كانوا قريبين منها عدة كيلومترات فقط… وإذ بـ”الإسلاميين” يهاجرون إلى الشمال، تاركين أهالي البلدات الذين انتظروا طويلاً “نصرتهم”، وسلموهم إلى “النظام” و”ميليشياته”، واستغنوا عن “الشهادة في سبيل الله”. حدث هذا باتفاقات إقليمية مريبة، قطرية ـ تركية من جهة، وإيرانية من جهة أخرى، على طريق إقامة كيانات “سنية” و”شيعية” مستقبلية، فيما سلمت تركيا حلب إلى”النظام” و”الميليشيات الشيعية”، فقصمت ظهر “معارضة النظام” نهائياً، مقابل منحها الحرية في منع تشكل “دولة كردية” في مواجهة الضغوط الأمريكية.
وبعد ما تم الاتفاق على تقسيم “الكعكة السورية” بين القوى الإقليمية والدولية، لم يعد هناك مبرر لوجود “داعش”، التي حضرت إلينا كل القوى الإقليمية والدولية بدعوى قتالها، فاستكملوا تدمير البلاد بدلاً من تدميرها… أما “داعش” فقد تلاشت لوحدها بهدوء نسبي، دون أن تترك أثار “أسرى حرب أو محاكمات…، بعد أن أدت دورها في مسلسل أمريكي هوليودي متقن الصنع مخابراتياً.
وفي هذه الأثناء، تحول السوريون بجميع أطرافهم إلى المشاركة في مشاهد مسرح موت عبثي على أراضيهم، يلعبون فيه معاً أدوار “القاتل” و”المقتول”، في صراع بين “مشروع وهابي خليجي” و”مشروع شيعي إيراني”، إلى جانب صراع من أجل “بناء مشروع إخوان مسلمين إقليمي” “بناء هلال شيعي”، لتكتمل حكايات الموت بصراع خفي ضاري بين الروس والأمريكيين على مناطق النفوذ… ثم فقد السوريون الحماس لأدوار “القاتل” و”المقتول” معاً، في لعبة لم يعودوا يدركون أبعادها.
يموت الأهالي في المناطق الواقعة خارج سلطة “النظام” ـ المسماة “محررة” ـ بقصف تدميري لا يرحم، يمارسه “الجميع ضدهم”، في اختبارات لأحدث الأسلحة، بما فيها الصواريخ العابرة للقارات. وبالمقابل لم تسلم مناطق “النظام” من الجنون الذي ينال الجميع، فليس هناك خيار أمام الشباب من كل الأعمار إلا سوقهم إلى “الخدمة الإجبارية” أو “الخدمة الاحتياطية” أغناماً ماضية إلى “الذبح”، في حروب “الآخرين” العبثية… أو التهجير والتشرد في أصقاع الأرض.
تشظت البلاد، وقد اقتسمتها القواعد والجيوش والميليشيات الأجنبية، و”تشظى” الإنسان معها أيضاً، وقد اقتسمته “عسكرة النظام” و”أسلمة ما تبقى من معارضة”، بحدودهما القصوى… و”تشظى” في الوقت نفسه من رُمي خارج البلاد. في الداخل إنسان ممزق بالرعب والموت المجاني، وعليه أن “يصفق” بقوة لآلهة بهيمية متوحشة غامضة، كي يعيش، وفي الخارج ممزق بالضياع والتشرد، و”الحنين” لأشياء مبهمة كانتها البلاد؛ بيته وأصدقائه وذكرياته… وإلى جانب ذلك عدنا نعيش جنون “ما قبل الحداثة”، لا أدري إن كنا قد غادرناها أصلاً؛ جنون “البداوة”، و”الطوائف”، و”عسكرة البوط”، و”عسكرة السيف”، وتحول من يمثل السوريون إلى “دمى في مسرح عرائس.” وأصبحنا نتحدث عن “نصيريين”، بدلاً من علويين، وسنّة، ودروز، وإسماعيليين، وعن “تشييع ولطميات”، و”أمويين وحسينيين”… عن مسلمي و”مسيحيي جزية”… عن عرب، وأكراد، وتركمان، و”فينيقيين” بانتماءات جديدة… عن عبدة “ابن تيمية” و”الإمام علي”، وطقوس وثنية لـ”البوط العسكري” و”بوتين”… عن “كعبة مكة” و”كعبة قم”… وعن “غرانيق” جديدة في الأرض.
… وهكذا ولدت روايتي الأخيرة “تشظيات”؛ تشظيات الإنسان السوري من أي طرف كان، وفي أي مكان كان… أصبحنا في الوقت نفسه “جلادين” و”ضحايا” لأنفسنا…”ساديين” و”مازوشيين”، نغرق في أحلام يقظة يائسة تعبيراً عن فشلنا في مواجهة الذات والواقع. أكتب “تشظيات” بناء على شهادات “ناجين من الاعتقالات”، و”ناجين من الغرق في البحار”، مازالوا يعيشون الجرح اليومي النازف… شهادات “جلادين للنظام” و”أمراء حرب إسلاميين” يفتخرون بساديتهم علناً… هي شهادات الموت والحياة… شهادات أعدت صياغتها أدبياً، ولكثرتها كان عليّ أن أختار منها لضرورات النشر.
لم تحطم “الانتفاضة السورية” تماثيل “الغرانيق” في الساحات فقط، وإنما تماثيل “الغرانيق” في العقول أيضاً؛ أشباه الآلهة تلك التي حاول عسكر “النظام الشمولي” أن يزرعوها في أذهاننا بالرعب والقمع… لكن في الوقت نفسه أتساءل من أين يأتي كل هذا العنف الذي يعيشه السوريون، وبأيديهم؟ هل هو ميراث الستالينية، الذي ورثته “الأحزاب العقائدية” لدينا، التي انكشفت هشاشتها وجذورها العشائرية والطائفية، بغض النظر عن علمانيتها الشكلية، ميراث تشربه العسكر، بعد أن دعموه بمزج عجيب من “فقيه السلطان”… أم هو “طبائع البداوة” و”الاستبداد الشرقي” المتجذر في نفوسنا وثقافتنا اليومية… أم هو تداعيات “تهميش المدن والأرياف” من قبل “استبداد عسكري أمني” خلال زمن طويل لصالح “مافيات إنكشارية طائفية”… أم هو “الترييف العسكري” ـ بمظهره “السلطوي” ـ في مواجهة “ترييف محافظ متعصب”… أم هو “عسكرة الحياة اليومية والمؤسسات والعقول والثقافة” التي مارسها العسكر والأحزاب العقائدية، إلى جانب تاريخ متجذر من “الدعوة اليومية إلى الجهاد على منابر المساجد” يقابله “خوف الأقليات التاريخي العميق”… أم هذا كله مجتمعاً؟
منذ السنوات الأولى لـ”الانتفاضة” ساد نقاش بين الروائيين السوريين عن الكتابة عن “الثورة السورية” أو عن “الحرب” لمن فقدوا الأمل من الثورات بعد أن عاشوا المآلات… هل نكتب في خضم الأحداث، أم عندما تنجلي الأحداث؟
كان رأي الجهة الأولى هي الكتابة في خضم الأحداث، فتأتي الحكايات أكثر حرارة وانفعالية، حيث يمكن نقلها بصورة أكثر واقعية ووثائقية، فالروائي هو ابن الأحداث التي يعيشها، وهو الذي ينفعل بها، وينقلها مباشرة، وهنا بالذات من خلال احتكاكه المباشر مع الموت والخراب والتهجير.
لكن بالمقابل كان رأي الجهة الثانية معاكساً، إذ ينبغي انتظار انجلاء المشهد في خواتمه، حتى يمكن محاكمة الأحداث التاريخية بطريقة أكثر عقلانية، فمن كان يظن أن “الانتفاضة السلمية” ستفرز “إسلامييها المتطرفين”، على سبيل المثال، ومن كان يتوقع هذا الجنون من تدخل القوى الإقليمية والدولية في بلادنا من جرائها؟ وبرأيهم سيكون مثل هذا الحذر ضرورياً كي لا يسقط الروائي في موقف تاريخي لا يحسد عليه.
يبدو أن كلا الطرفين لديه نقاط قوته الإيجابية والسلبية… طبعاً مع الحفاظ على خصوصية كل روائي في مقاربة الأحداث. لكن هل كان من السهل أن تقول لروائي الآن بأن يتوقف عن الكتابة حتى انجلاء الأحداث؟
بالنسبة لي، لم أكن أفكر بأي من الرأيين السابقين، على الأقل بشكل مباشر، فأنا دائماً أعتقد أنني لست روائيا محترفاً، مع أني نشرت روايتي الأولى “وصايا الغبار”، والآن روايتي الثانية “الغرانيق”. لكن الكتابة اليومية ـ وإن بأبسط أشكالها كملاحظات ـ هي بالنسبة لي جزء من نفسيتي، ومن نمط حياتي، وطريقة تفكيري، هي جزء من حياتي اليومية، وأمارسها كما أمارس “أحلام اليقظة”… هي الهواء الذي أتنفسه وأعيش به، والحلم الذي يجعلني أحتمل الحياة القاسية حولي، سواء بوجود “حرب” أو بدونها.
وبالمقابل لدي شعور مبهم دائم أني أطفو في الزمن، مما يجعلني أعيش حياتي كأحداث كرواية، فتتكامل الحياة اليومية مع الكتابة في صياغتها. وبهذا تغدوا الحياة التي أعيشها رواية، والرواية التي أكتبها هي حياتي. ولذلك أكتب دائماً بضمير المتكلم “أنا”، ويسيطر دائماً على رواياتي بطل واحد، لكنه منفصم الشخصيات، أو بالأحرى متشظ إلى عدة شخصيات في آن واحد، هو انعكاس لتشظينا في الحياة؛ في مجتمع قمعي يفرض وجوده على أدق تفاصيل حياتنا، حتى على أحلامنا. ومنذ طفولتنا يحتل “رجل الأمن” و”رجل الدين” ـ عسكرة وأسلمة بتوافق غريب ـ حيزاً كبيراً من حياتنا… ولقد عشت أيام الحرب ـ دون أوهام البطولة ودون أحلام اليقظة الجماعية عنها ـ كشاهد على الموت والخراب والتهجير، أنا وعائلتي وأقارب أصدقاء لي، وهو ما سجلته في كتاباتي.
هل أبدو بهذا ميالاً إلى الرأي الأول عن الكتابة في خضم الأحداث؟ ربما نعم، ولكنني باللاشعور كنت حذراً من الوقوع في التداعيات السلبية التي يعرضها الرأي الثاني… فأنا أكتب دائماً عن إنسان مأزوم، منفصم، متشظ، ولا مكان لدي لتمجيد شخص سيكشفه الزمن “ديكتاتورا عسكرياً”، أو “أمير حرب إسلامياً”، ولا أتحمس لمجموعة سيكشفها الزمن لاحقاً مجموعة إرهابية أو إسلامية متطرفة… أكتب عن المجرم، الذي سيبقى أبد الدهر مجرماً بأفعاله، وأكتب عن الإنسان البسيط المعذب، الذي سيموت بسيطاً ومعذباً… أكتب كي لا تشوه دعاية “المنتصر” حقيقة الموت والخراب الذي نال منا جميعاً… أكتب الحكاية كي لا ننسى، حكايات الشوارع البيوت والحقول، التي دمرتها الحرب، حكايات المصاطب الطينية التي تظللها أشجار الجوز ونشرب عليها الشاي في البلدات، وحكايات الأسواق الشعبية في المدن. حكايات بلا “عسكرة” و”أسلمة”، بلا “بوط عسكري” و”سيف إسلامي”.
كتبت هذه الشهادة بطلب من “صالون سوريا” وستتبعها شهادات أخرى لكتاب وشعراء سوريين يتحدثون عن تجربتهم الشخصية في الكتابة في سياق التجربة السورية في السنوات الأخيرة.
بواسطة Syria in a Week Editors | فبراير 12, 2018 | Media Roundups, Syria in a Week, غير مصنف
مصيدة الطائرات
5-11 شباط/ فبراير 2018
ليس سراً أن سوريا تحولت إلى ساحة صراع دولي وإقليمي. وفي هذا الأسبوع أسقطت أربع طائرات غير سورية وجرت خمسة صراعات خارجية في سوريا. أسقط معارضون قاذفة روسية في ريف إدلب، وقصفت قاذفات أميركية موالين للقوات الحكومية السورية شرق نهر الفرات، وأسقط مقاتلون أكراد مروحية تركية قرب عفرين شمال حلب. واعلنت اسرائيل اسقاط طائرة “درون” ايرانية فوق الجولان، ودمرت مضادات سورية طائرة “إف – 16” إسرائيلية.
تجاوز “الخطوط الحمراء” في سوريا
10 شباط (فبراير)
أسقطت الدفاعات الجوية السورية “سام 5” طائرة إسرائيلية من طراز”إف-16″، أثناء عودتها من غارة على القاعدة الجوية “تي-“4 في وسط سوريا. وتمكن الطياران من القفز من الطائرة وأصيبا بجروح أحدهما في حالة خطيرة. وآعلنت إسرائيل شن ضربات “واسعة النطاق” استهدفت مواقع “إيرانية” في عمق الأراضي السورية، بعد إسقاط الـ “إف 16”.
وتضمن التصعيد تجاوزا للخطوط الحمراء في سوريا التي كان يعتقد أنها خاضعة لقواعد اشتباك محددة فرضها الوجود العسكري المباشر لروسيا منذ نهاية 2015.
وأكد مسؤولون أن مضادات جوية تابعة لدمشق أسقطت الـ “إف 16″، وذلك في أول حادثة من نوعها منذ نحو 30 سنة، فيما أشار الجيش الإسرائيلي للمرة الأولى صراحة إلى ضرب أهداف إيرانية في سوريا، موضحاً أن التصعيد بدأ مع دخول طائرة “درون” إيرانية الأجواء الإسرائيلية من الأراضي السورية .
وأفيد بأن الغارات الإسرائيلية استهدفت مواقع شرق حمص فيها قوات إيرانية وعناصر من “حزب الله” اللبناني. وشنت المقاتلات الإسرائيلية موجة ثانية من الغارات على “12 هدفاً إيرانياً وسورياً بينها 3 بطاريات صواريخ مضادة للطائرات، و4 أهداف إيرانية غير محددة”، بينها قاعدة “تيفور” في وسط البلاد، حيث يقيم خبراء روس وإيرانيون.
واذ قال “حزب الله” ان التصعيد الاخير “تحول” في الصراع، احتفل سوريون في دمشق بإسقاط الطائرة الاسرائيلية.
وأعلنت واشنطن دعمها لـ”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، مؤكدة أنها تسعى إلى جهد دولي أكبر “للتصدي لأنشطة إيران الخبيثة”، فيما دعت موسكو “جميع الأطراف إلى ضبط النفس.”
تحليل:
تردد في أوساط دبلوماسية حصول اطلاق دولية للوصول بهدوء وتدرج إلى “قواعد اشتباك” جديدة جنوب سوريا تتعلق بانتشار “حزب الله” وفصائل تدعمها إيران وسلاحها للدفع بانسحاب المقاتلين الأجانب وتنفيذ “هدنة الجنوب”، إضافة إلى بحث مصير اتفاق “فك الاشتباك” في الجولان وعمق انتشار “القوات الدولية لفك الاشتباك” (إندوف) ومهماتها وسلاحها بين الجولان ودمشق.
نزيف الغوطة الشرقية…المستمر
8-9-10 شباط (فبراير)
شهدت الغوطة الشرقية الواقعة تحت سيطرة المعارضة سقوط أكبر عدد من القتلى في أسبوع واحد منذ عام 2015 جراء قصف تشنه القوات الحكومية ما أدى إلى مقتل 250 شخصاً في الأيام الخمسة الماضية بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”.
وكان المفوض السامي لحقوق الإنسان صرح السبت أن الضربات الجوية السورية والروسية على مناطق خاضعة لسيطرة المعارضة أسفرت عن مقتل 230 مدنياً خلال الأسبوع الماضي في أحداث تعد من أسوأ أعمال العنف في الصراع السوري وقد تصل إلى حد جرائم الحرب، وتابع “بعد سبعة أعوام من الشلل في مجلس الأمن، يصرخ الوضع في سوريا لإحالة الأمر للمحكمة الدولية ولبذل جهد على نحو منسق.”
تقوم فصائل المعارضة بإطلاق قذائف هاون على العاصمة الجنائية السورية والتي أدت إلى سقوط 5 قتلى وعدد من جرحى بين المدنيين، بحسب وكالة سانا السورية الرسمية.
وتعيش الغوطة الشرقية في حصار محكم منذ وفي ظل الحصار المحكم على المنطقة منذ 2013 وتعاني من ارتفاع اعداد الضحايا، عجز الأطباء والمسعفين عن القيام بمهامهم جراء النقص في الادوية والمستلزمات الطبية.
أخفق مجلس الأمن الدولي في اجتماع عقده الخميس في التوصل الى نتيجة ملموسة حول قضية إعلان هدنة إنسانية في سوريا، بناء على طلب السويد والكويت حيث يزداد الوضع خطورة في مناطق عدة أبرزها الغوطة الشرقية قرب دمشق.
ويدرس مجلس الأمن الدولي المطالبة بوقف إطلاق النار لمدة 30 يوماً للسماح بأرسال المساعدات الإنسانية وإجلاء المرضى والمصابين. ويدعو مشروع القرار “كل الأطراف إلى رفع الحصار فوراً عن المناطق السكنية بما في ذلك الغوطة الشرقية واليرموك والفوعة وكفريا.”
وتؤيد الولايات المتحدة وفرنسا مشروع القرار وتركز على احتمالات استخدام النظام السوري للكلور في هجماته على المعارضة بالإضافة إلى تصعيد القصف وزيادة الضحايا من المدنيين.
وكان خبراء جرائم الحرب في الأمم المتحدة قد ذكروا يوم الثلاثاء إنهم يحققون في عدة تقارير بشأن استخدام قنابل تحوي غاز الكلور المحظور ضد المدنيين في بلدتي سراقب في إدلب ودوما في الغوطة الشرقية بسوريا.
استنزاف تركيا
7-10 شباط فبراير
قُتل 11 جنديًا تركيًا السبت بحوادث عدة، وهي أكبر حصيلة قتلى بصفوف الجيش التركي منذ بداية هجومه على عفرين بشمال سوريا في 20 كانون الثاني/يناير. وقد أعلن رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم مقتل عسكريَّين تركيَّين اثنين عندما تم إسقاط مروحية عسكرية تركية.
وفي وقت لاحق أعلن الجيش التركي أن تسعة عسكريين قُتلوا بحوادث عدّة، من دون أن يوفّر مزيدًا من التفاصيل. كما أشار إلى أن 11 جنديا تركيا اخرين قد أصيبوا بجراح. وأعلن الرئيس التركي رجب طيب أروغان من جهته انه تم شل حركة 1141 “ارهابيا” خلال العملية في شمال سوريا، ويشمل هذا العدد القتلى والجرحى والمعتقلين.
ويستمر التصعيد في جبهة عفرين وسط اتهامات تركيا للولايات المتحدة بدعم الفصائل الكردية، وقال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يوم الثلاثاء إن الولايات المتحدة تعمل ضد مصالح تركيا وإيران وربما روسيا في سوريا حيث ترسل إمدادات عسكرية لمنطقة تحت سيطرة قوات يهيمن عليها الأكراد. وأضاف “يعني هذا أن لديكم حسابات ضد تركيا وإيران وربما روسيا” وكرر دعوته لسحب القوات الأمريكية من مدينة منبج بسوريا. (رويترز) واستنكر الاتحاد الأوربي الهجوم التركي على عفرين واعتبره “وسيلة غير فعالة” لتعزيز الأمن التركي. (عنب بلدي)
ومن جهة روسيا فقد نقلت وكالة الإعلام الروسية عن نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف قوله يوم السبت إن تشكيل منطقة لخفض التصعيد في عفرين بسوريا سيكون موضع بحث في محادثات آستانة للسلام. كما التقى وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو بالرئيس الإيراني حسن روحاني في طهران الأربعاء وسط تصاعد التوتر بشأن سوريا، حيث تطالب طهران تركيا بوقف عملية “غصن الزيتون”.
وفي تطور مواز قال قائد في التحالف العسكري الداعم للنظام السوري يوم الاثنين إن الجيش السوري ينشر دفاعات جوية جديدة وصواريخ مضادة للطائرات على الجبهات في منطقتي حلب وإدلب. وقال القائد العسكري “الجيش السوري يستقدم دفاعات جوية جديدة وصواريخ مضادة للطائرات إلى مناطق التماس مع المسلحين في ريفي حلب وإدلب بحيث تغطي المجال الجوي للشمال السوري.” وهو ما ينذر باحتمالات تصعيد على جبهتي ريف حلب وإدلب.
تثبيت اميركي لـ “الخط الأحمر”
8 شباط/ فبراير
قال التلفزيون الرسمي السوري يوم الخميس إن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لقتال تنظيم “داعش” قصف قوات موالية للحكومة شرقي نهر الفرات في محافظة دير الزور بشرق البلاد ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى. ووصفت بيانات أذاعتها محطات التلفزيون القصف بأنه “عدوان جديد” و”محاولة لدعم الإرهاب.”
وقال دبلوماسيون ان هذا استهدف تثبيت “الخط الأحمر” لمنع موالين دمشق عبور نهر الفرات الى مناطق تحت سيطرة قوى تدعمها اميركا.
وكان مسؤول أميركي صرح أن أكثر من 100 مقاتل من المتحالفين مع الرئيس السوري بشار الأسد قُتلوا بعد أن أحبط التحالف بقيادة الولايات المتحدة وقوات محلية مدعومة منه هجوما كبيراً ومنسقاً.
ونقلت وكالة إنترفاكس الروسية للأنباء عن وزارة الدفاع قولها يوم الخميس إن الهدف النهائي للولايات المتحدة في سوريا ليس محاربة تنظيم “داعش”، لكن الاستيلاء على أصول اقتصادية. وأضافت أن المقاتلين السوريين الذين استهدفهم التحالف بقيادة واشنطن لم ينسقوا أنشطة استطلاعهم بشكل مسبق مع روسيا.
قالت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) إن الولايات المتحدة لا تسعى لصراع مع قوات الحكومة السورية لكن من حقها الدفاع عن النفس. كما وصف وزير الدفاع الأميركي جيم ماتيس محاولة هجوم على قوات أمريكية وقوات تدعمها واشنطن في سوريا بأنه “مربك” قائلا إنه لا يعرف ما الذي يدفع قوات موالية للحكومة السورية لمحاولة تنفيذ الهجوم المنسق.
“داعش” نحو إدلب
10 شباط
سيطر الجيش النظامي السوري على الجيب الذي يحاصر فيه عناصر من “داعش” بعد أن نقل تركيز المعارك من جبهة سراقب نحو المنطقة المحاصرة بين أرياف حماة وحلب وإدلب. وأعلن سيطرته على كامل الجيب المحاصر. وذكر “المرصد السوري لحقوق الإنسان” أن الجيش ترك ممراً لعناصر داعش للعبور إلا إدلب حيث اشتبك عناصر داعش مع مقاتلين في المعارضة في محافظة إدلب.
وقامت تركيا خلال الأسبوع السابق بإقامة موقع عسكري في شرق إدلب في مواجهة قوات النظام تطبيقاً لاتفاق خفض التصعيد. وقد قتل أحد الجنود الأتراك في هجوم بالصواريخ وقذائف المورتر في شمال غرب سوريا خلال إقامة هذا الموقع العسكري. وهو ثاني هجوم في غضون أسبوع يتعرض له جنود أتراك يحاولون إقامة موقع قرب خط المواجهة.
وكان الأسبوع الماضي شهد تطوراً خطيراً من خلال إسقاط طائرة حربية وروسية من قبل فصائل المعارضة باستخدام صواريخ مضادة للطيران تحمل على الكتف، وعلى إثر ذلك قامت روسيا بشن غارات انتقامية في إدلب. حيث ذكرت مصادر بالدفاع المدني إن الغارات الجوية قصفت بلدتي كفر نبل ومعصران بالإضافة إلى مدن سراقب ومعرة النعمان وإدلب وإنه تم الإبلاغ عن سقوط العديد من القتلى وعشرات من الجرحى مع رفع رجال الإنقاذ الأنقاض.
بواسطة Ibrahim Hamidi | فبراير 10, 2018 | News, غير مصنف
يبحث الرئيس الأميركي دونالد ترمب قائمة من المرشحين لاختيار مبعوث رئاسي إلى سوريا، ضمن سلسلة من التغييرات في الإدارة الأميركية ترمي إلى الاستجابة للاستراتيجية الجديدة القائمة على «البقاء العسكري المفتوح» شرق نهر الفرات لاستعمال ذلك لتقليص النفوذ الإيراني في المنطقة والتفاوض مع موسكو على حل وانتقال سياسي في دمشق.
بحسب المعلومات المتوفرة لـ«الشرق الأوسط»، فإن تغييرات عدة حصلت بمواقع مسؤولين عن الشرق الأوسط وسوريا، كان بينهم تعيين ديفيد شنكر من «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» خلفاً لديفيد ساترفيلد مساعد وزير الخارجية، إضافة إلى البحث في تعيين خليفة لمساعده مايكل راتني المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا وتغييرات إضافية في مكتب الشرق الأوسط في مكتب الأمن القومي. لكن التغيير الأبرز سيكون تعيين الرئيس مبعوثا رئاسيا إلى سوريا يكون المسؤول الرئيسي عن هذا الملف بما في ذلك التفاوض مع حلفاء إقليميين وروسيا إزاء الموضوع السوري بعد القبض على ورقة تفاوضية رئيسية تتعلق بالسيطرة على شرق سوريا.
وكانت روسيا وأميركا اتفقتا في مايو (أيار) الماضي على اعتبار نهر الفرات خط الفصل بين جيشيهما وحلفائهما على الأرض وتشغيل خط «منع الصدام» بين طائرات الجانبين خلال العمليات التي خاضها حلفاؤهما في دحر «داعش» من هذه المنطقة. بموجب ذلك، باتت منطقة شرق نهر الفرات شرق النهر ومعسكر التنف في زاوية الحدود السورية – العراقية – الأردنية وسد الطبقة ومدينة منبج غرب النهر تحت سيطرة حلفاء واشنطن، مقابل ترك باقي المناطق غرب الفرات إلى حلفاء موسكو.
وبعد نقاش طويل داخل الإدارة، تقرر بقاء القوات الأميركية وحلفائها في التحالف الدولي ضد «داعش» في المناطق التي سيطرت عليها. ويعتقد مسؤولون غربيون أن واشنطن تريد من ذلك تحقيق ثلاثة أهداف: تقليص النفوذ الإيراني وعرقلة طريق الإمداد البري من إيران إلى العراق وسوريا والضغط على موسكو ودمشق للوصول إلى حل سياسي وتنفيذ القرار 2254، إضافة إلى منع ظهور «داعش». وبدأت مؤسسات أميركية، بحسب دبلوماسيين، ترجمة الاستراتيجية الأميركية الجديدة إلى عناصر ملموسة تشمل:
– تعزيز «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية – العربية وتشكيل قوات بموجب المهمات الجديدة التي تشمل الدفاع عن المناطق التي سيطرت عليها ورفع عدد عناصر الشرطة لتكون أشبه بـ«حرس حدود»، حيث جرى الحديث عن 25 – 30 ألفاً.
– توسيع وتطوير مطارات وقواعد عسكرية البالغ عددها خمسة إلى الآن، وخصوصاً قاعدة كوباني – عين العرب.
– تسريع إجراءات نزع الألغام وعودة النازحين إلى المناطق التي تحررت من «داعش» مثل الرقة وقرى ومدن أخرى شرق البلاد.
– الدفاع عسكرياً عن المناطق الخاضعة لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» وخطوط التماس المتفق عليها مع موسكو، كما حصل قبل يومين لدى قصف موالين لقوات النظام شنوا هجوما شرق الفرات.
– دعم المجالس المحلية التي تدير المناطق المحررة وتقديم موازنات مالية ومساعدات فنية وإدارية.
– نشر دبلوماسيين ومدنيين أميركيين في هذه المناطق. وبالفعل وصل دبلوماسيون أميركيون وفرنسيون إلى مدينة الرقة.
– تعزيز القدرات الاقتصادية وبحث وسائل الإفادة من مصادر النفط والغاز والمياه والزراعة، خصوصاً أن حلفاء واشنطن يسيطرون بالفعل على معظم آبار ومصانع الغاز والنفط الموجودة شرق البلاد مع احتمال استثناء هذه المناطق من الحظر المفروض على النفط السوري الذي كان إنتاجه يصل إلى 280 ألف برميل يومياً قبل 2011 وانخفض حالياً إلى نحو 50 ألفا، تكرر بوسائل قديمة، أو بنقله إلى مصفاة حمص في مناطق قوات الحكومة السورية.
– فتح معابر حدودية مع العراق. وبالفعل أقنعت واشنطن حكومة حيدر العبادي بفتح معبر اليعربية لإيصال مساعدات وإغاثات إلى شرق الفرات للضغط على موسكو ودمشق اللتين تتحكمان بإيصال المساعدات إلى مطار القامشلي شرق الفرات.
– إجراء تغييرات في الهيكلية السياسية لهذه المناطق. ويجري تداول تأسيس حزب سياسي جديد باسم «سوريا المستقبل» ليضم قوى عربية وعشائرية في هذه المناطق، بحيث يكون «الاتحاد الديمقراطي الكردي» الذراع السياسية لـ«وحدات حماية الشعب» الكردي المكون الرئيسي في «قوات سوريا الديمقراطية»، أحد الأحزاب السياسية شرق الفرات وليس المكون الرئيسي.
– إطلاق حملة لجمع أموال لإعادة أعمار المدن المدمرة شرق سوريا وخصوصاً الرقة باعتبارها رمزا سابقاً لـ«داعش»، بحيث تصبح رمزا للمشروع الجديد و«سوريا المستقبل».
– السماح بوجود شخصيات سورية معارضة بارزة شرق الفرات لتعزيز صورة «الهوية السورية» لهذه المناطق وإبعاد انطباعات تتعلق بالتقسيم والانفصال.
ويتوقع أن تكون هذه العناصر ضمن الأمور التي يطرحها وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون خلال جولته في الشرق الأوسط، إذ إن دعم الاستقرار وتمويل مشروعات الأعمار في المناطق المحررة من «داعش» سيكون رئيسياً خلال مشاركته في المؤتمر الوزاري للتحالف الدولي ضد «داعش» في الكويت الاثنين والثلاثاء. كما أنه سيبحث مستقبل شرق الفرات والوجود الأميركي في منبج خلال زيارته أنقرة بعد محادثاته في لبنان الثلاثاء الخميس المقبل.
وكان وفد من التحالف الدولي ضم لأول مرة قادة الصف الأول من التحالف وهم: الجنرال بول فونك، وهو القائد العام للفرقة الثالثة المدرعة وكولونيل ريان ديلون المتحدث باسم لتحالف، والجنرال جيمي جارورد، زار منبج لتأكيد الوجود الأميركي فيها وسط تلويح تركي بمد عملية «غصن الزيتون» إلى منبج. لكن هناك أنباء عن إمكانية مرونة أميركية للبحث في بعض مشاغل أنقرة المتعلق بدور الأكراد شمال سوريا وتأمين شريط أمني على طول الحدود السورية.
ويتوقع أن يبحث تيلرسون في عمان الأربعاء دعم الأردن، إضافة إلى مستقبل منطقة «خفض التصعيد» جنوب غربي سوريا التي أنشئت بموجب اتفاق أميركي – روسي – أردني، بهدف تعزيز عودة اللاجئين إلى ريف درعا وتعزيز المجالس المحلية.
وعليه، فإن المبعوث الرئاسي الأميركي الذي يتوقع أن يعينه ترمب، سيكون مسؤولاً عن إدارة الملف السوري والتفاوض بناء على «ورقتي» شرق الفرات وجنوب غربي سوريا مع موسكو للوصول إلى تسوية سياسية وتنفيذ القرار 2254 عبر مفاوضات جنيف أو إبقاء الوضع الراهن وتقاسم مناطق النفوذ، بحيث تشجع واشنطن حلفاءها لإعمار وتطوير شرق سوريا مقابل تعزيز إجراءات العقوبات على دمشق وضغط واشنطن على مناطق سيطرة النظام وروسيا وإيران لفرض شرط بأنه «لا مساهمة بالإعمار قبل الانتقال السياسي».
تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»
بواسطة Malik Maatouq | فبراير 9, 2018 | Cost of War, غير مصنف
المَكان: الأرضً التي غَدا أطفالًها وجبةً يوميةُ شهيةً للموتِ والاغتصاب.
الزَمان: زمنُ النار وزمنُ القتلى وزمنُ الأهوال، زمنُ العار.
الحَدَث: نظرةٌ حزينةٌ منكسرةٌ لطفلٍ امتلأ قلبُه رُعباً بعدَ أن تعرضَت طفولَتَهُ للاغتصاب.
مشهدُ الإذلالِ الأبشع منَ الموت
في ذلك الصباح الحزين المُخَضبِ بالدمعِ وبحيراتِ الحُزن ما كانَ عقلي يعمل، ساعةُ القلبِ وحدَها كانت تدُقُ بِخَفقاتٍ مجروحةٍ تكاُد الروحُ تخرجُ فيها من بين دَفتي الصدر, وأنا أرى هذا الطفلَ الذي تعرضَ للاغتِصاب. في هذا الزمن السوري المستباح في هذا الزمن السوري المُفتت كالغُبار يُغتَصبُ الأطفال السوريون ويُرمَونَ في الشوارعِ لا شيءَ يَحميهم أو يُغطيهم سوى الغطاء الجوي للكرة الأرضية.
الأطفالُ السوريون اليوم تحتَ النار طفولَتُهم تترنحُ ودَمُهُم ينهمرُ في ظلِ انحطاطٍ سياسيٍ وانحطاطٍ اجتماعيٍ وانحطاطٍ اقتصادي وحربٍ أهليةٍ وقمعٍ وإرهابٍ وقتل وسجونٍ ومُعتقلاتٍ وتصفياتٍ سريةٍ وطوائفَ وعشائرَ وجنرالاتٍ يتحكَمونَ بِرقابِ البشرِ القطعان, كُلُّ شيءٍ في سورية مُباح لِأنَ القانون مُستَباح, الإنسانُ في سورية خانعٌ ومهزوم ومُستَلب ومُزَعزع الروح، فالليلة وكُل ليله وفي جميعِ الأوقات دماءُ السوريين مَهدورة لا يعرفون متى وبأيِ أرضٍ يموتون لكنًهم يعرفون أنَّ الموتَ ينتظرُهُم هُناك.
مُحَمَد هذا الطفل، نموذجٌ لِأطفالِ سورية المُطوقين في جَفن الردى الذي ينهشُهُم حتى لَتبدو حياتُهم ضرباً مِنَ الحُلُم يُستَعادُ كًشريطٍ سينمائيٍ جميل مُفعمٍ بالأسى وفُقدانٍ الذاكرة فيصيرُ الموت هوَ الحقيقة وليسَ الحياة، هَكذا يزحفُ الموتُ نحوَ الأبرياء نحوَ الأطفال بلا عقلانية وعشوائية ومجانية.
كُلُّ طفلٍ في سورية قًدّ يكونُ مُحَمَد
أطفالُ سوريةَ اليوم تحتَ السكين تتلوى أجسادُهُم الرقيقة من الجوعِ والقَتلِ والإرهابِ والاغتصاب، أجسادُهُم وهي تَتَمزقُ وتُغتَصب وحدَها تصرُخُ في زحمةِ الموت هل تُرى لا يستَحقُ أطفالُ سوريةَ غيرَ الموتِ في هذا الزمَن الأَعمى؟ في زمنِ “العار”، هل هُناك من أملٍ لِأطفالٍ يحيون في قلبِ هذا الجحيم ؟ وهل ينبَغي إن كُنا صادقين أن نَشعُرَ بِنَبضةِ تفاؤُل تحتَ غمرةِ هذا الاجتياح البربري للموت اللاعقلاني المُنفَلِت من عِقالِه على سطحِ الأرضِ السورية ؟
مُحَمَد مَلأت الجراحاتُ وَجهَهَ وجَسدَه وكأنَ سادياً هوَ مَن انتزَعَ مِنهُ براءتَهُ، كانَت ترتَمي مِن عَينيه الرائِعَتين ظلالُ الحُزنِ العَميق تُحِيطُهُما أشعةُ الخوفِ فتُعطي لِنَظرتِهِ عُمقاً، كانَت عيناهُ تقولان كَم هوَ مُخجِلٌ ومُحزِنٌ أنَّ كثيرينَ مِنَ السوريينَ اليوم يَحسُدونَ الكِلاب.
حِزبُ الصَمت
قيلَ يوماً لا تخشَ أصدقاءك فأقصى ما بِإمكَانِهم خيانتُك ولا تخشَ أعداءكَ فأقصى ما يستطيعون اغتيالَك بل اخشَ اللامُبالين مَن يقولون امشِ الحَيط الحَيط وقُل يا ربِ السَتر، مَن يقولون مَن يأخُذ أُمنا نُسميهِ عَمنا، مَن يقولون العَين لا تُقاوِمُ المِخرَز، مَن يقولون “الإيد اللي ما فيك تَعضها بوسها وادعي عليها بالكسِر”، فَصمتُهُم يُجيزُ الخيانَة ويُبررُ القَتل.
وقفتُ قليلاً لِأرى ما سَيفعَلُهُ السوريون لِهذا الصَغير، مُحَمَد المُغتَصَب، بعضُهم مَرَّ قائِلاً إِنّا لله وإِنّا إليهِ لَراجِعون ولا حَولَ ولا قوةَ إلا بالله ناسياً صوتَ الأجدادِ الصارخِ بالخليفةِ والله لو وَجدنا فيكَ اعوجاجاً لَقومناهُ بِحَدِ السُيوف وبعضُهُم مَرَّ دونَ فِعلٍ أو حتى ردِّ فِعل وكأنَّ مُحَمَداً كانَ يَعتَمِرُ قُبَعَةَ الإِخفاء وكَأنَّ الذَبحَ والقتلَ والاغتصاب صارَ أمراً عادياً لا تَستوقِفُنا بشاعتُهُ وأفضَلُهُم أحضرَ شَرشَفاً وغطى بِهِ بَراءَةَ مُحَمَد مُغطياً بِذلِكَ عارَنا.
الوَطنُ يَتمَزقُ أشلاءً، وأطفالُ سوريةَ يُحرَمونَ مِن بَراءَتِهِم ومَعَ ذلِك فالمواطِنُ السوري المُحايِد لا يَصرُخ، بل يصمت، يَبيعُ ويَشتري ويَهرُبُ بَعيداً عَن النارِ اللافِحةِ يقولُ “ما دَخَلني فَخار يكسِر بَعضو.”
أَيُها الموت تَوقَف عَن التَحديقِ في أطفالِنا وارحَل بعيداً
مُحَمَد طِفلٌ في عُمرِ الفاجِعَة، مُتعَبُ المَلامِح، مَذعُورٌ كذئِبٍ جَريح، بِوَجهِهِ المُحترِق مِن وَهجِ الشَمس، تَعَرَضَ كَما كَثيرونَ غيرُهُ مِن أطفالِ سوريةَ لِلإذلالِ الأبشَعِ مِنَ الموت “الاغتِصاب”، عَورَةُ مُحَمَد المَكشوفَة كَشَفَت عوراتِنا، عَرَتنا، كَسَرَت كِبرياءَنا، تَصرُخُ بي عَيناه أَن “لا يُلامُ الذِئبُ في عُدوانِهِ… إِن يَكُ الراعي عدوَّ الغَنَمِ.”
عصيرُ الحياةِ المُر وعجينَةُ الموتِ اليومي تَقذِفُ حِمَمَها إلى كُلِّ الجِهات، والموتُ يَفعَلُ في أطفالِ سوريةَ فِعلَ المُتوالية الحِسابية فَهوَ ما إِن بَدأَ لَم يترُك لِطُفولَتِهِم فُسحَةً لِالتِقاطِ الأنفاس فَصارَت حُدودُهُم كَما يَقولُ الماغوط مِنَ الشِمالِ الرُعب ومِنَ الجنوبِ الحُزن ومِنَ الشَرقِ الغُبار ومِنَ الغَربِ الأطلال والغِربان بَعدَ أَن غَدَت طُفولَتُهُم وَجبَةً يَومِيَةً لِلموتِ والاغتِصاب.
في أعماقِ مَن تَبقى على هذهِ الأرضِ السوريةِ المُستباحةِ مِن أطفال صَرخَةٌ تَنشُدُ الحَدَ الأدنى مِن حياةِ الحُريَةِ والكرامَةِ والمُستَقبَل فَذاكِرةُ الأطفالِ حَيَةٌ لا تنسى الإرهابَ والخوفَ والتجويع.
وَرَقَةُ التوتِ الأَخيرة
أيُها الصامِتونَ في كُلِّ مَكان على أرضِ سوريةَ قِفوا وألقوا نَظرةً خاطِفَةً على ما كُنتُم عليه وما أنتُم عَليه الآن مِن نِعَمٍ ومباهِجَ ومَسرات، أينَ كُنتُم تَسكُنون وتُقيمون وأينَ صِرتُم تَسكُنون وتُقيمون، ماذا كُنتُم تأكُلون وماذا صِرتُم تأكُلون، كُلُّ هذا لم يأتِ مِن فَراغ بَل هوَ نِتاجُ رَبيعِ الدَّمِ الذي أغرَقَ السوريينَ في الفَقرِ والجَهلِ والمَرَضِ والجوعِ والتَخَلُف.
أيُها المُسَلَحونَ الأكارِم، أياً كانَتِ انتماءاتُكُم وطوائِفَكُم وأهدافَكُم وأنواعُ أسلِحَتِكُم، تابعوا أعمالَكُم ولا تُبقوا على شيءٍ في سورية… دَمِروا مَصانِعَها، اهدِموا مساكِنَها لا تَترُكوا في سوريةَ إلا الدُخان والخَرائِب… ولَكِن فَقَط تَرَفقوا بِالأطفال، فما جَريمَتُهم إن وُلِدوا في سوريةَ وفي هذهِ المَرحَلة؟
في عَصرِ الموتِ السوري يُولَدُ أطفالُ سوريةَ في زَحمَةِ الموتِ مَذعورين ويَرحلونَ في زَحمَةِ الموتِ مَذعورين. مسكينٌ يا مُحمَد، مِسكينُ أيُها الطِفلُ السوريُ الجَريحُ المُتعَب كَم مِنَ التزويرِ والتشويهِ يُرتَكبانِ بِحَقِ طفولَتِكَ بينما نَحنُ مُنشَغِلونَ بِآخِرِ وَرَقَةِ تُوتٍ تُغَطِّي عَوراتِنا.
بواسطة Paula El Khoury | فبراير 8, 2018 | Reports, غير مصنف
رومان فوا جغرافي خبير بدراسات المياه، أنجز رسالته الجامعية عن “منشأة الأسد” أو مشروع الفرات كما عرف في سوريا، وما رافقه من تشييد لقرى نموذجية، وجر لمياه الفرات لتأمين حاجات السكن والزراعة، وذلك بإدارة مركزية ممسكة بإحكام من قبل نظام البعث في السلطة. امتدت دراسة الجغرافي فوا على مدى سنتين، بين عامي 2008 و 2010. قابلناه في باريس فشرح لنا أهم ما توصل إليه في هذه الدراسة. كما أتاحت لنا المقابلة الإطلالة على الوضع في سوريا عشية بدء الأحداث، من موقع متميز لمراقب خارجي أقام طوال تلك الفترة في شرق البلاد.
بولا الخوري :ما الذي أثار اهتمامك بدراسة مزارع الدولة في سوريا؟
رومان فوا: كنت أعمل على مشاريع المياه في مالي بأفريقيا، فطرح علي المشروع في العام 2007 أثناء إعدادي لرسالة الدكتوراه في الجغرافية البيئية في السوربون بباريس. الاقتراح أتى من باحث سوري في الاقتصاد الزراعي في جامعة حلب سليم بدليسي، وهو حائز على دكتوراه من السوربون أيضاً. وكانت الفكرة تحقيق مشروع بحث مشترك مع جامعة حلب حول إيجابيات وسلبيات منشأة الأسد كنموذج للتنمية في منطقة شبه قاحلة. وإن كانت مساهمتي في المشروع تتعلق بالمرحلة الراهنة أي بعد نهاية تجربة مزارع الدولة، فسرعان ما اكتشفت أنه لفهم هذه المرحلة علي العودة إلى البداية. وهكذا قررت دراسة المزارع منذ نشأتها في الستينات، لا بل عدت مئة عام إلى الوراء، إلى بداية التحديث في سوريا في ظل عبد الحميد الثاني.
أي أنك لم تكن تعرف سوريا يوماً، لم تزرها من قبل؟
لم أكن أعرف سوريا أبداً ولهذا قررت البدء بدراسة اللغة العربية في باريس قبل ذهابي بشهرين، لأنني كنت مقتنعاً أن دراسة أي منطقة بدون معرفة لغتها أمر غير سليم لي وللدراسة وللناس الذين سأدرس تجربتهم. ومع ذلك كان من المتوقع أن يحصل أحد الشبان السوريين على منحة من أجل مساعدتي بالتواصل مع السكان، لكنه لم يحصل عليها، فاضطررت آنذاك للذهاب وحيداً. كان لا بد أن أسرع في تعلمي اللغة خاصة أنني لم أكتسب الكثير منها في فرنسا، فكنت أصرف ساعتين كل يوم قبل النوم في حفظ ٥٠ كلمة على مدى أيام الأسبوع ودون انقطاع، على أن أعيد تردادها في الصباح كاملة. لم أنجح دائماً في حفظها كلها لكن ذلك ساعدني كثيراً خاصة أنني كنت مضطراً لاستخدام العربية مع الذين لا يتقنون غيرها. وفيما ما بعد علمني السكان اللغة وخاصة المحكية.
صحيح لديك لهجة سورية عندما تتكلم بالعربية، هل تتقنها فعلاً؟
حتى أنني أستطيع الآن أن أقرأ وأفهم ما أقرأه وبإمكاني أن أكتب قليلأ. أنا مولود لأب كاثوليكي وأم يهودية عائلتها عربية “سافارديم”. حين التقيت جدتي والدة أمي بعد عودتي من سوريا فوجئت بأنها بعد خمسين عاماً من إقامتها في فرنسا ما زالت تتكلم العربية بطلاقة ورحنا نتكلمها سوية. كنا سعيدين جداً بذلك! وما زلت أتكلم العربية مع سوريين أتوا الى فرنسا بعد الحرب، وأنا أساهم في تسهيل أمورهم هنا، لأسباب لا تتعلق بابحاثي فقط بل من خلال الجمعيات التي تساعد من يأتون من هناك. هؤلاء الناس كانوا مضيافين معي. ومع العلم أنه كان لدي مسكن في جامعة حلب فإنهم رفضوا إلاّ استضافتي في منازلهم.
في دراستك تستشهد بتجارب قديمة في المنطقة وصولاً إلى مصر الفرعونية، هل تعتبر أن نظام البعث انطلق من حاجات ترشيد استثمار المياه وإلى مركزة المشاريع وإمساكها من خلال فهم تلك التجارب القديمة؟
يبرر النظام سلطته بخطاب عقلاني على الدوام، فحتى في مصر الفرعونية في ظل الإدارة المركزية لتوزيع المياه لم يكن الأمر نابعاً من الحاجة لترشيد المياه أو حسن استثمارها وتوزيعها، بل اندرج في سياق تبريرات لتأمين استمرارية السلطة، بحيث يجبر المواطن اقتصادياً وسياسياً على الامتثال لها. ففضلاً عن القمع السياسي يشكل هذا التبرير قاعدة أساسية لأي لسلطة. مع ذلك فإن مشروع مزارع الفرات في شرق سوريا، أي المنطقة الواقعة شرق حلب، يحتمل تبريرات ترشيدية كالتي قدمها النظام آنذاك: فإذا رسمنا خطاً وهمياً من الشام حتى حلب فإن كل ما يقع شرق هذا الخط، وهو يتضمن فيما يتضمن الرقة، دير الزور وتدمر كان نوعاً من المساحات الصحراوية التي لا يقطنها إلا البدو.
إذا كانت هذه المناطق قاحلة، ألم يكن المشروع مشابها لمشروع القذافي التبذيري لري الصحراء إذن؟
أولاً ليست المنطقة صحراوية قاحلة كلياً ، فكما في كل صحراء هناك واحات. مع ذلك هناك شيء مما تقولين. وهذا ما ينطبق على كل مشاريع التحديث في المنطقة. فأي سلطة جديدة تقضي على كل ما تحقق قبلها وتعلن أنها بصدد بناء “الإنسان الجديد” في محيط جديد، لتثبت بأنها أفضل من سابقاتها. وهذا ما عبر عنه خطاب السلطة البعثية آنذاك، تحت شعارات من نوع: “إنسان جديد فوق أرض جديدة” . وهو شبيه بالخطاب التحديثي الغربي بشكل عام. فالمشروع الأمثل للبعثيين في سوريا كما في مصر الناصرية وكذلك في إسرائيل هو تحقيق مزارع بإشراف الدولة، ففي إسرائيل مثلاً تم إنشاء الـ”كيبوتز”. ورغم ادعاء إسرائيل أنها تتميز عن الحكومات القومية العربية، فإن كل هذه التجارب ترتكز على أيديولوجية قومية اشتراكية، تتطور فيما بعد إلى ليبرالية، فتعزز حركة التمدين التي تبعدها عن الأرياف، مما يقضي على مشروعها التحضيري الأصلي ويزعزع سلطتها.
ولماذا كان عليك العودة مئة عام الى الوراء إذن؟
لم تكن هذه أول مرة تحاول فيها السلطة السياسية انجاز مشروع تحضيري في هذه المنطقة في العصر الحديث. ففي بدء حقبة التحديث العثمانية، مع بداية أفول الإمبراطورية وفي ظل حكم عبد الحميد الثاني بدءاً من 1880 كان يجب تحويل السكان من بدو إلى حضر، ولما كانت إحدى الغايات الأساسية لأي سياسة تحديث مركزية هي جبي الضرائب فكان على السلطة أن تحصي السكان وتعين أماكن سكنهم. هذا ما باشره عبد الحميد وكان ذلك بدايات مشاريع التحديث في سوريا، التي توجت في ظل الانتداب الفرنسي بإجراء أول مسح شامل للأراضي.
وهل كان السكان متحمسين منذ البدء لإنشاء هذه المزارع؟
في الغالب يقول الأشخاص الذين قابلتهم “لم يكن لدينا الخيار”. لم يكن ذلك إجبارياً وحسب بل عنيفاً وقد قال لي أحدهم: “كانت هذه الأرض لي وبين ليلة وضحاها اصبحت أرضاً للدولة”. تم إبلاغهم بالإخلاء عبر رسائل ودون أي إمهال أو مجال للاعتراض. ومع ذلك فقد كان موقفهم ملتبساً إذ أنهم يعبرون في الوقت نفسه عن تمتعهم بمنافع التنمية التي حملها المشروع، وقد قال لدي أحدهم: “في السابق كانت كل هذه الأرض عبارة عن صحراء، إنها جنة الآن، جنةّ!”
في أي عام حصل ذلك؟
بدأ ذلك عام 1966، والحقيقة أن بداية التفكير في المشروع تعود إلى عام 1960 في بدايات البعث، من ثم عاد حافظ الأسد وتبناه. المشروع ضخم وهو عبارة عن استصلاح مائي-زراعي لمئات آلاف الهكتارات التي جرى استغلالها من قبل القطاع العام فيما موّل كل ذلك الاتحاد السوفياتي. وقد شكل المشروع واجهة لتفاخر نظام البعث بسياسته التنموية بدءاً من الستينات في القرن الماضي.
إذن كانت أراضي المشروع شاسعة؟
عشرون الف هكتار وذلك فقط في مزرعة الدولة الذي قمت بدراستها. كان هدف المشروع في البدء استثمار 640000 هكتار، لكنه لم يتحقق في النهاية، فمجمل الأراضي التي تم ريّها من نهر الفرات بلغت 200000 الى 300000 هكتار. وهذه مساحات ضخمة. لم تستخدم كل الأراضي في المنطقة ضمن مزارع الدولة، لكن جرى بناء وحدات سكنية مع أراض زراعية على مساحات تتراوح بين 8 و 16 هكتار وزعت كل منها على قاعدة كل وحدة لعائلة واحدة. من ثم في العام 2000 تم نزع التأميم عن هذه المزارع وجرى توزيعها على العائلات الصغرى أو النواتية من خلال وحدات تمتد كل منها على ثلاثة هكتارات.
هل بإمكاننا القول بأنه أحد أهم مشاريع الدولة البعثية آنذاك؟
نظام البعث لدى وصوله إلى السلطة أمم جميع مرافق الاقتصاد، أي أن الإقتصاد كان مداراَ كلياً من قبل الدولة، وكان مشروع الفرات يمثل 20 بالمئة من استثمارات الدولة بين السبعينيات والثمانينيات، أي أنه مشروع ضخم بلا شك. شخصياً أعتبره من أكبر مشاريع الدولة السورية في ذلك الحين، ومن قابلتهم كما أصدقائي السوريين يؤكدون ذلك ويخبرونني أن مشروع الفرات كان مدرجاً في برامج التدريس.
أي أنه كان مشروعاً ذات وظيفة ايديولوجية رئيسية للنظام؟
بالتأكيد، ولأيديولوجية التحديث على وجه الخصوص. وكما ذكرت لك في ما سبق هذا ينطبق على مصر وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية واستراليا وفرنسا، ألخ.. هناك دراسات علمية عن تخضير الصحراء في استراليا، وهناك مشروع في أريزونا، وفي أسبانيا حصل ذلك خلال حقبة فرانكو لكن قبل ذلك أيضاً. ولماذا؟ أعتقد أن فكرة الحداثة مرتبطة بالتقنية، ومن هم أرباب التقنية؟ المهندسون، وعلى ما يعمل المهندسين؟ على الرياضيات. وأفضل مجال لتطوير الرياضيات هو الحسابات المتعلقة بالمياه وهي نوع من الألعاب الفكرية الأكثر إثارة للتسلية لدى خبراء الرياضيات.
إذا نظرنا الى سياسات المياه نفهم الكثير عن سياسات التنمية في هذه الدول. ويقول محمـد فايز الباحث العربي المتخصص بالدراسات المائية في العالم العربي، والذي يعود بدراسته الى مرحلة حمورابي، إنه في الحقبة العباسية كان هناك مهندسون يعملون على شيء من دراسات التمدين ولكن بشكل رئيسي على الدراسات المائية والزراعية. إذن هذا تقليد لدى العرب منذ القدم. أما الصلة ما بين الهندسة والحداثة فهي بنظري أمر لا جدال فيه، فالتكنوقراطية هي أسلوب فرض السلطة السياسية عبر التقنيات.
صحيح فإن الدولة الحديثة تحيط نفسها بمهندسين، وكأنها بذلك توظف “جيوشها الفكرية”. في فرنسا مثلاً يلفت نظري استخدام تعبير المهندسين في جميع قطاعات الدولة المعرفية والعلمية، كالعاملين في المركز الوطني للبحوث العلمية، ما رأيك بذلك ؟
بالتأكيد حتى في الجامعة، فالمعهد الوطني للإدارة يخرج كبار موظفي الدولة، أي الخبراء الذين يهندسون الدولة ومنهم رؤساء الدولة. لكن عالمي الاجتماع العربيين ساري حنفي الذي أجرى دراسة عن المهندسين في سوريا واليزابيت لونغنيس الفرنسية المستعربة يقيمان تمييزاً بين الهندسة في فرنسا ومثيلتها في سوريا أو في ما يسمى ببلدان الجنوب بشكل عام. وتعتبر لونغنيس مثلاً أنه في فرنسا لا تعلو السياسة على التقنية أو التكنولوجيا، من هنا نجد نوعاً من العقلانية لدى السلطة في التعامل مع المعرفة التي ينتجها أرباب التكنولوجيا، مع العلم أن السياسة تخضع في الحالتين لموازين القوى. لكن في بلدان الجنوب سرعان ما يسيطر السياسي على التقني، الذي يصبح مادة لتبرير خطاب الدولة، وتستقيم الدولة كحكم بين مراكز القوى والمصالح المختلفة في الاقتصاد والمجتمع، فتتعطل بذلك عملية إنتاج المعرفة التقنية.
ألم يواجه هذا المشروع التحديثي الذي أحدث انقلاباً كاملاً في بنية المجتمع أي مقاومة من السكان الذين ينتمون إلى علاقات عائلية وقبلية تقليدية مثلاً؟
حظي حزب البعث السوري في بدايته على تأييد واسع من السكان، حتى من فئات الشباب البورجوازية التي وجدت فيه مشروعاً لتغيير المجتمع بناء لعلاقات اجتماعية حديثة، أما البعد الاجتماعي للحزب الذي عمل على توزيع عادل لخيرات البلاد أو نادى بذلك على الأقل فأمن له تأييداً لدى الفئات الشعبية.
من ناحية ثانية إذا نظرنا إلى انتماءات سكان هذه المنطقة فإنهم في غالبيتهم من القبائل أو العشائر، وهكذا حتى لو قيل إن حزب البعث السوري هو حزب طائفي ذو قاعدة علوية فهذا غير صحيح إلّا نسبياً، فهناك شبكة علاقات مبنية على قاعدة طائفية، لكن هذه المنطقة ذات الغالبية السنية كانت منطقة ذات حظوة خاصة لدى السلطة، لأنها اغتنت بفعل استثمارات الفرات الكبرى وباتت تشكل قاعدة زبائنية هامة لها. مثلاً أحد نواب هذه المنطقة، وهو النائب الذي كان صاحب أطول ولاية برلمانية في العالم، دياب الماشي، هو من هذه المنطقة وكان دائم التباهي بتأييده لعائلة الأسد وحافظ الأسد بوجه خاص. كانت هذه القبائل موالية لنظام الأسد بسبب المنافع التي كانت تحصلها وبفعل تنامي العلاقات الزبائنية في الاقتصاد والسياسة.
هل لأن النظام أو حزب البعث كان يمر عبر هذه القبائل لفرض سلطته على السكان وبالتالي كان عليه الحفاظ على سلطتها؟
صحيح. على سبيل المثال، هناك أحد مشايخ القبائل الذي قابلت، كان متزوجاً ومطلقاً ومتعدد الزوجات لخمس عشرة مرة، مما يعبر عن امتلاكه لثروة كبيرة. كان ابنه مهندساً وأحد كوادر مشروع الفرات فضلاً عن كونه نائباً، فيما تمتلك عائلته غالبية المحال التجارية في المدينة، أي كل الصيدليات والمطاعم وأغلب المساكن المعروضة للإيجار.
أميز في دراستي بين ثلاثة مصادر للسلطة حول مشروع الفرات متمايزة ومتراصفة في آن: المصدر القبلي للسلطة من خلال السلالة العائلية، مصدر سلطة الدولة من خلال الموقع الاجتماعي والعلمي، مهندسون وإداريون، والمصدر الأخير هو رأس المال من خلال الملكية، وهذا المصدر تعزز بوجه خاص بعد عام 2000 إثر تصفية مزارع الدولة وتخصيص الأراضي والعديد من النشاطات الاقتصادية. منهم من يمتلك مصدراً واحداً كمحام ومهندس فيما آخر يراكم المصادر الثلاثة للسلطة. أما الأجور فقد لعبت أيضاً دوراً في التمايزات الاجتماعية وفي علاقات البنية الاجتماعية بالسلطة. حددت الأجور حسب التراتبية في إدارة المنشأة ومن الأعلى الى الأسفل: المدير وسبعة أقسام لكل مشروع: قسم الري، قسم الآلات، قسم آلة الضخ، وقسم التخطيط، وغيرها، وتقسيم مناطقي، مدير المزرعة ومسؤولو القطاعات والموظفون والعمال. وبذلك تشبه منشأة الأسد أي مؤسسة رأسمالية حديثة.
هل كان مشروعاً عقلانياً للدولة لاستيعاب اليد العاملة المتعلمة ومكافحة البطالة المحتملة؟
بالتأكيد، وذلك من داخل المنطقة ومن خارجها، فهناك أشخاص أتوا من إدلب وهي منطقة جبلية تنقسم بين أراض قاحلة من جهة ومستنقعات من جهة أخرى وحيث أغلب السكان بلا عمل. في نهاية المشروع وتوقف الدولة عن تمويله، عاد الأشخاص الكبار في السن إلى إدلب، أما أولادهم الذين ولدوا هناك فلم يريدوا مغادرة المزارع، فإدلب لا تعني لهم شيئاً.
جرى جمع السكان من المناطق المجاورة لملء القرى النموذجية بالسكان إذن؟
الكثير ممن تم إسكناهم في المزارع هم أشخاص هامشيون. منهم من أتى من إدلب مثلاً التي كان الخارجون على القانون يلجأون إليها في السابق لوعورتها. ومن هناك أتى الكثيرون للعمل في المشروع وللإقامة فيما بعد. لقد أتى سكان المناطق المجاورة من تلقاء أنفسهم. لكي أن تتخيلي أن هؤلاء الناس الفقراء والعاطلين عن العمل يجري في صبيحة أحد الأيام توزيع مناشير عليهم تدعوهم للمشاركة في مشروع تنموي وإنتاجي في الجوار. ولإعطائك فكرة عن سرعة تطور المشروع وديناميته: كان عدد السكان ستة الآف عام 1970 فبلغ ستين ألفاً عام 2004، ففضلاً عن التكاثر السكاني الطبيعي هناك غالبية سكانية قدمت من الخارج وبينهم عدد من الأكراد أيضاً.
كيف يمكننا النظر في هذه الإشكالية من ناحية التحولات الاجتماعية والجيلية على امتداد المرحلة الطويلة من مشروع الفرات؟
لقد تم الانتقال من مجتمع قبلي قائم على السلالة إلى مجتمع حديث قائم على الموقع الاجتماعي- المهني: المهندس، المدير التقني، العامل المتخصص، العامل غير المتخصص، وهؤلاء الأخيرون كثرت بينهم نسبة النساء. كان هناك تمييز جنسي فعلي حتى أنه لم توجد مهندسات في المشروع. هذا الأمر لا ينطبق على عموم سوريا بل خاص بهذه المنطقة. لكن لا شك أن مزارع الفرات غيًرت المجتمع بشكل جذري أيضاً، فالنساء الآن يعملن كمعلمات ومحاسبات وموظفات دولة، والفتيات يذهبن إلى المدارس وإلى الجامعة في حلب التي تبعد مسافة ثمانين كيلومتراً، وهذا ما يعبّر عن مسار طويل بالتأكيد. وأحد مؤشرات التغيير الهامة هو نسبة محو الأمية في سوريا التي باتت الأعلى بين البلدان العربية على امتداد هذه المرحلة.
ومع ذلك لم تستفد النساء بشكل جذري من هذه التحولات؟
بقي هناك نوع من التقسيم الجنسي للعمل، ومواقع النساء المهنية بقيت بين الأقل أجراً. الرجل يقود آلات الحراثة ويقوم بأعمال النقل والري، أما المرأة فتقوم بالقطاف والتنظيف والتوضيب. أي أن هناك تمييزاً بين العمل وقوفاً أو انحناءً وهذا الأخير أجره أقل، وهذا التمييز ليس من عندي بل يستخدمه الأشخاص الذين قابلتهم. لكن من المهم الإشارة إلى أنه بالرغم من كل من قيل وكتب دولياً بأن هذه المنطقة المحيطة بحلب تؤيد تنظيم الدولة الاسلامية وأنهم اصوليون لأن أكثرية السكان من السنة، فهذا غير صحيح. وشخصياً يحزنني هذا الكلام. في إحدى المرات كنت مع بعض الشبان في ساحة القرية، فمرت سيدة محجبة من أعلى الرأس حتى أخمص القدمين، فوجئوا بها وقالوا هذه السيدة ليست من هنا، وأنا أيضاً فوجئت لأنني لم أر يوماً نساء يرتدين الحجاب الكامل هناك. دخلت بيوتاً فيها نساء وإن كنت أنا محترماً لتقاليدهم، فهم أصلاً لم يحملوا أي أفكار مسبقة عني كرجل غريب وكانوا سعيدين بوجودي.أثناء إقامتي كانت النساء ترتدي الحجاب بحرية واجمالاً للحشمة أو لحاجات العمل، ولدى العائلة التي استضافتني كانت بعض النساء تخلع أحياناً حجابها لكي أخذ لهن صوراً مع العلم أنهن كن يطلبن مني حفظها لديهن، ولم يثر ذلك يوماً حفيظة الرجال.
وهل أنشئت مدارس تعليم تقني وإعداد مهني احترافي لمواكبة حاجات المشروع من اليد العاملة المتخصصة على جميع المستويات؟
أنشئ معهد للزراعة مع برامج دراسية متخصصة، ومع ذلك كان السيرورة تدريجية فأوائل المهندسين قدموا من المناطق الأخرى كالشام وحلب، أي من الفئات الطبقية العليا في المجتمع التي كانت متحمسة للمشروع كما أشرت أعلاه. وقد تحمس هؤلاء جداً لمشروع الفرات وتبنوه على عكس سكان المنطقة الذين رفضوه في البداية لا بل تخوفوا منه، والحال أنه تمت مصادرة أراضيهم وأتى من يقول لهم من الخارج إن نمط حياتكم متخلف ويجب أن تتغيروا على هذه الشاكلة أو تلك، وكان ذلك عنيفاً بالفعل. فالدستور السوري في ظل البعث الموجود في السلطة منذ عام 1963 يقوم على اعتبار البنى القبلية كنوع من الإقطاعية التي يجب استئصالها من أجل ان يسود بين الشعب الشعور بالاتنماء إلى القومية العربية لا غير. لقد لقي هذا الخطاب بالمقابل تأييداً من الشباب البرجوازي المؤيد للحداثة.
لكن حصلت مع ذلك مساومات مع وجهاء القبائل؟
في البداية لم يتم ذلك في مزارع الدولة، لكن شيئاً فشيئاً وبسبب المنطق الجامد لمقاربة المشروع، أي العمل على تطبيق المشروع بحرفية ما خطط له، وبمقاربة عقلانية جامدة يستحيل تطبيقها في الواقع، بدأت المساومات. هذا ما فهمته من بعض الذين قابلتهم، والذين أقروا بأنه تم توظيفهم لأنهم ينتمون لقبيلة أو أخرى.
وماذا عن التحولات الاجتماعية الأخرى التي لاحظتها؟
هناك تحولات ثقافية اجتماعية مهمة، فالسكان ينظرون عموماً إلى حياتهم بأنها أفضل بكثير من السابق، على الأقل بسبب التسهيلات الحياتية اليومية كإقتنائهم للتكنولوجيا المنزلية. لقد أجريت مئة مقابلة مع السكان، بينهم الكبار في السن الذين كانوا بين الخامسة عشرة والعشرين من عمرهم في بداية المشروع، كلهم يتفقون على الترحيب بهذه التحولات. والأصغر سناً قالوا لي: “قبل الري لم يكن هناك شيء هنا، كانت المنطقة عبارة عن صحراء”، حتى أن أحد الشباب قال لي مرة إنه قبل المشروع لم يكن أحد يسكن هنا، وتطلب مني الأمر وقتاً لإقناعه بأنه كان يوجد سكان في هذه المنطقة من قبل، فمزرعة مسكنة التي عملت عليها مثلاً أنشئت على أنقاض قرية. أي أنهم استبطنوا فكرة الحداثة إلى حد الاقتناع بأن كل شيء هناك قام من عدم.
وهل أدى توزيع المساكن على قاعدة لكل عائلة مسكن مستقل إلى تغيرات أجتماعية؛ ربما على تعزيز نمط العائلة النواتية داخل البنية القبلية التي تعتمد العائلة الممتدة؟
في الواقع يتعايش النمطان حتى يومنا هذا، ففي القرى القديمة التي تم إدراجها في المزارع يبقى نمط العائلة الممتدة قائماً أي سكن الأجداد والأبوان والأحفاد في منزل واحد. أما في المساكن المستحدثة أو القرى النموذجية كما جرت تسميتها، فنجد عائلات نواتية صغرى ومختلطة الأصول أي أن العديد منها أتى من قرى مجاورة مختلفة. وهنا تبدو مظاهر التحول الثقافي الذي أتحدث عنه، فأكثر هؤلاء قالوا لي “أفضل العيش هنا وليس في قريتي الأصلية حيث لي أقارب، لأنني حر أو حرة هنا”. فهم ليسوا ملزمين بالواجبات الاجتماعية والزيارات العائلية، كما أن لا أحد يراقب أو ينتقد سلوكهم ونمط حياتهم. إذن هناك رغبة بإقامة مجتمع جديد والانتماء اليه، وهذا أحد الطموحات الأساسية للمشروع التي نجحت جزئياً.
وبرغم ذلك وصل مشروع التحديث البعثي بأكمله الى مأزق، كيف تفسر ذلك؟
في أي مشروع تحديثي يجري استثمار الكثير من الموارد المالية والايدلوجية والطبيعية ضمن سياسة لإضفاء الشرعية على الدولة، وشيئاً فشيئاً تنضب الموارد وتنمو ظواهر الزبائنية، اي أن هناك من يستفيدون من إنجازات المشروع الحداثي على حساب الآخرين ويعتاشون على الموارد المحققة. يضاف إلى ذلك نهاية الاتحاد السوفياتي الذي موّل هذه المشاريع في سوريا. ومن ثم هناك تراجع للزراعة بشكل جذري، وإذ كان الرئيس حافظ الأسد يقوم بكل زيارته الرسمية الخارجية في الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي برفقة وزير الزراعة، فقد توقف عن اصطحابه بعد هذا التاريخ كدليل على هذا التحول. في هذا النمط من الاقتصاد يجري تنظيم القلة لصالح بعض النافذين في السلطة وعبر ذلك ينمو الفساد كالسرطان فيقتل الاقتصاد.
فكان لا بد ان تحدث الانتفاضات في سوريا إذن عام 2011؟
استطيع التحدث فقط عن المنطقة التي أعرفها، ففي حين امتدت حركة احتجاجات واسعة على نطاق واسع من سوريا بدءاً من آذار/ مارس 2011 فإن الاحتجاجات في المناطق الواقعة في نطاق منشأة الأسد كانت قليلة، وربما أمكن تفسير ذلك ولو بصورة جزئية بالسياسات الزراعية خلال الأربعين سنة الماضية. وقد بلغت الاستثمارات أحجاماً خيالية في هذه المنطقة مما جعلها أقل فقراً من المناطق الأخرى وساهم في عدم عدائها الشديد للنظام.
بالاعتماد على مركز الخرائط السوري الذي نشاً أثناء الحرب، الذي يضم إحصائيين واختصاصيين في أنظمة المعلوماتية الجغرافية ويقدم نفسه على أنه مستقل عن أي طرف سياسي، استطعت وضع خرائط للتحركات المناهضة للنظام في السنوات الأولى للانتفاضة السورية بالتقاطع مع الانتماء الجغرافي، وبخاصة في مناطق مزارع الدولة فتبين لي أن سكان هذه المناطق، وهم من الطائفة السنية، كانوا حياديين ما لم يكونوا متعاطفين علناً مع النظام، فضلاً عن شهادات حصلت عليها من سوريين لجأوا إلى فرنسا وأكدوا لي أن هؤلاء السكان كانوا أيضاً شديدي العداء لتنظيم الدولة الاسلامية.
أنا أعتبر أنه إذا لم ينجح طموح التحديث التحريري والعقلاني في ظل البعث بخلق أفراد خاضعين كلياً للدولة، فإنه بالمقابل لم يولّد مواطنين في قطيعة تامة مع النظام على مستوى البلد ككل. لكنني أعتبر أيضاً أنه لو اندلعت التحركات بعد خمس سنوات من تاريخ وقوعها لكان هؤلاء السكان قد شاركوا بها أيضاً، لأن كل المنافع التي حققوها من النظام تكون قد استنفدت آنذاك. وهنا يكمن مأزق هذه السياسات وانسداد أفقها التاريخي.
باريس، كانون الأول/ديسمبر 2017
ملاحظة: أجريت بولا الخوري المقابلة مع الجغرافي فوا بالفرنسية وترجمتها إلى العربية.
للمزيد حول الدراسة والخرائط، بإمكانكم زيارة الموقعين التاليين، بالفرنسية والإنكليزية:
http://bit.ly/2CUeOf6
http://bit.ly/2BooSIG
نشر هذا المقال بنائا على شراكة مع جدلية.
بواسطة Jaber Abu Zeid | فبراير 7, 2018 | Cost of War, Reports, غير مصنف
يفرض الوجود السوري في السودان الكثير من الأسئلة، ليس أوّلها تاريخ العلاقة بين البلدين وآفاقها أو بتعبير آخر القواسم المشتركة، عندها يقفز الكثير من السياسي ليحتلّ المشهد، أو العناوين والمنشيتات العريضة، في حين يُكشَف عن واقع آخر يقاسيه السوريون في هجرتهم إلى السودان. حيث لا تبقى تلك النظرة المطمئنّة إلى التاريخ والآفاق على حالها على الرغم من كثرة القواسم، بل وزيادتها عن حدّها أحياناً، إذ لابدّ من وضع الهجرة اليوم في سياق مسبباتها الأولى، أي الحرب السورية المستمرّة منذ سبعة أعوام.
تعددت محطات الهجرة السورية، بل والتهجير أيضاً، دولُ الجوار كانت الأقرب لكنها لم تكن الأرحم ولا الأفضل، قضى لاجئون سوريون حاولوا العبور إلى تركيا، واقتحم الجيش اللبناني مخيمات للاجئين سوريين، وتحوّل مخيم الزعتري في الأردن لأكبر كارثة لجوء في المنطقة، في حين أغلقت دول الخليج حدودها ولم تستقبل لاجئاً واحداً، ولم تسقط شرط التأشيرة عن السوريين حتى في هذا الظرف الاستثنائي! عند هذا الشرط الأخير، أي التأشيرة، يبرز السبب البيروقراطي الذي يشرح لماذا توجّه السوريون إلى السودان؟ فهو البلد العربي الوحيد، بالإضافة لعدّة بلدان قليلة غير عربية، لم يشترط على السوريين التأشيرة حتى يدخلوا أراضيه. إذن تضافرت العوامل في الأعوام السابقة، بين الحرب والسياسة من جهة، وبين العبور المحفوف بالموت إلى أوربا وتحوّل المتوسط إلى كابوس ثقيل ينضاف إلى كوابيس الحرب السورية، وبين السفر الآمن إلى بلد آمن (السودان)، وعدم قطع الصلة نهائياً مع إمكانية العودة إلى سوريا. كلّ ما سبق يُساعد في وضع اليد على واقع حال أكثر من مئتي ألف سوري، (في إحصاء تقديري غير رسمي)، موجودين حالياً في السودان.
الأشقياء، الحظّ عدوّنا
محمد، مازن، وعمار، (أسماء مستعارة) ثلاثة طلاب سوريين أنهَوا دراستهم الجامعية في جامعة دمشق، كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية (الهمك) عام 2015، يقول محمد: “الطلاب في دول برا تحتفل بالتخرّج الجامعي ثم تبدأ مباشرة بتأسيس حياتها العملية والأسريّة، أمّا نحن فشوفة عينك، ادخرنا كل ما نملك ودفعناه ثمن تيكت طيارة، وها نحن نحتفل هنا بهذا الطقس اللطيف” في إشارة منه للحرارة الشديدة في مدينة الخرطوم التي تبلغ أكثر من 40 درجة مئوية. المجموعة التي بدأها محمد وصديقاه لم تمرّ عليها سنتان من الزمن حتى توسّعت، فبلغت أكثر من ثلاثين شابّاً تتشارك كلّ مجموعة منهم بيتاً أو شقة، يراوح عدد المجموعة الواحدة بين الستة أو العشرة أشخاص، لكن تبقى مجموعة الواتساب التي أسسها محمد، وأطلق عليها اسم الأشقياء أو (يلي مالو حظ لا يتعب ولا يشقى) هي الرابط الأساس بينهم، يتقاسمون من خلالها أخبار “الوفود“ حسب تعبير محمد، ويقصد بهم الشباب الجامعيين الذين لفظتهم البلاد بعد أنِ استنفذوا كلّ وسائل التأجيل عن الخدمة الإلزامية في الجيش السوري.
يحقّ للطلاب الجامعيين في سوريا، التأجيل السنوي عن الخدمة الإلزامية سنتين عن كلّ سنة جامعية، وفي ظلّ واقع الحرب المدمّرة تحوّلت مواسم أو فترات السَّوْق كما يتمّ تسميتها في شُعَب التجنيد إلى أشباح وكوابيس ثقيلة تطارد الفئة الشابّة، التي ما إن تُنهِ الدراسة الجامعية (أي مبررات التأجيل) حتى تبدأ مباشرة بالبحث عن وسيلة للسفر خارج سوريا، ومن هنا لم يكن أثر الحرب بشعاً وتنكيلياً بالمناطق التي قصفتها الطائرات وحرثتها البراميل، أو المناطق التي احتلّتها قوى إسلامية متشددة فقط، فالبلاد كلّ البلاد صارت مرهونة بمظاهر العسكرة التي اجتاحت المجتمع، بالبدلات المموهة وبنادق الكلاشنكوف الملقّمة برصاص غير طائش أبداً، وأخيراً موضوع حديثنا هنا: الشباب المرهون بوقته وجسده لصالح شعبة التجنيد!
في تتبّع سيرة الأشقياء، لا نقف على محمد ومجموعته فقط، فبين صالونات الحلاقة السورية التي باتت تنتشر في أحياء العاصمة السودانية الخرطوم، وبين مطاعم المأكولات الشامية والحلبية، ستظلّ تجدُ شباباً سوريين تدور على ألسنتهم أحاديث الهمّ الثقيل وأسئلة عن الوقت الذي قضيته هنا؟ ومع من تسكن؟ ومن أين أنت في سوريا؟ (على ما يحمل السؤال الأخير في طيّاته الكثير من ردّات الفعل تبدو أحياناً على الوجوه وأحياناً أخرى على الألسن) الذي يدلّ على أنّ السوريين لم يحملوا أمتعتهم فقط في هجرتهم، بل تعدّوها إلى انتماءاتهم السياسية، ومواقفهم من النظام والمعارضة، والحرب المشتعلة بينهما أيضاً. في حين يبقى المتداول الأكثر شيوعاً على ألسنة هذه الفئة، هو تلك العلامة الكلامية، وكأنها مواساتهم الكبرى التي تقرّب بينهم مهما كان اللقاء قصيراً أو عابراً: “جيش ما؟ أليس كذلك”.
من جهتها تعلن السفارة السورية في الخرطوم، عن مواعيد سنوية معيّنة لما يُعرَف بسندات الإقامة، الأمر الذي يُمكّن جلّ فئة الشباب هذه من استصدار سند إقامة يسمح لهم من خلاله بالعودة إلى سوريا لمدّة ثلاثة أشهر فقط دون أن يتم سوقهم للجيش، (يستنكف بعض الشباب المُعارِض هذه الممارسة، ويعتبرونها رضوخاً لسياسات نظامٍ يعارضونه!) بمعنى آخر سند الإقامة هو تأجيل محدود للمغتربين، لكنّ أهمية السندات الأساسية بالنسبة للحكومة لا تتشكل من كونها فرصة لعودة بعض الشباب إلى سوريا، بل من اعتبارها شرطاً أساسيّاً من أجل دفع البدل النقدي لإسقاط الخدمة الإلزامية عن المغتربين، ومقداره 8 آلاف دولار. هذا الروتين كان يسمُ حياة الشابّ السوري من قبل الحرب، كيف يسافر؟ وإلى أين؟ والمدّة المشروطة التي سيقضيها (أي أربع سنوات) حتى يتمكّن بعدها من دفع البدل، إذ لا يُقبل دفع البدل النقدي من غير قضاء هذه المدّة، ولا مؤشرات على إقرار مشروع البدل الداخلي إلى الآن. هذا الهمّ قديم عند الشباب السوري، لكنّه لم يكن ليظهر إلا بشكل محدود، فلا أحد كان يفكّر مجرّد التفكير بأنه لن يلتحق بجيش بلاده يوماً ما.
من هنا يتّضحُ أنّ أبرز سمة للوجود السوري في الخرطوم، هي غلبة الطابع الشبابي، بل الذكوري، التي تشكّل النسبة الأغلب، ليس همُّ العمل هو ما يجتذبهم، بقدر همّ الحرب والموت هو ما يدفعهم ويلفظهم خارجاً؛ إذ ليست فرص العمل في السودان بالتنوّع أو بالسهولة المتوقّعة، بالعكس تماماً إنّ معدّلات البطالة مرتفعة حتى بين الشباب السوداني أصلاً، وبالتالي فرص العمل محصورة في إطار المهن التي يخلقها السوريون بأنفسهم، والتي تنتمي إلى كل ما هو يدوي أو حرفي كالمطاعم أو الحلاقة أو نجارة الألمنيوم، هذه المهن وإن كان يقوم عليها أربابها، إلا أنّها تستقطب الشباب العاطل عن العمل بالضرورة كونها هي المتاح الوحيد لهم حتى لو كانوا خرّيجي جامعات، من غير أن توفّر لهم مرتّبات قد لا تتعدى شهرياً أكثر من ٨٠ إلى ١٠٠ دولار، ما يجعل حلم البدل النقدي بعيداً وغير مطروح أساساً، وهنا كما يقال يكتفون من الغنيمة بالإياب، فبعد معاينة سوق العمل في السودان على حقيقته وقسوته، يحاول الكثيرون قتل الوقت فقط، أو المسارعة لاستصدار سند الإقامة، (حتى المعارض منهم أحياناً) فإمّا أن يعودوا إلى سوريا ليتخّلفوا هناك عن الخدمة الإلزامية، أي في مناطق لا تسيطر عليها القوات الحكومية تمام السيطرة، ولا تخضع لقرارات شعبة التجنيد، أو يعودوا أدراجهم نحو دول الجوار لبنان بشكلٍ أساسي إن تعذّر دخولهم إلى سوريا، في الحالتين هم أشقياء… وأعداءٌ للحظّ.
لجوء أم مواطنة
لم تتوقّف التسهيلات البيروقراطية والسياسية التي قدّمها السودان للسوريين على إسقاط شرط التأشيرة أوّلاً، بل إنّ عاملاً أبرز بات يجتذب السوريين للقدوم إلى الخرطوم، وهو الحصول على الجنسية السودانية واستصدار جواز سفر سوداني، الأمر الذي عاد ببعض الأريحية ليس فقط على شريحة واسعة من فئة الشباب المذكورة أعلاه، بل تعدّاهم إلى فئة العائلات السورية. هنا يجب أن نحدد طبيعة الوجود السوري من ناحية قانونية، وكيف يمكنُ تعريفها وماذا تبقّى من لجوئهم أو تعريفهم كلاجئين طالما بإمكانهم أن يكونوا مواطنين في هذا البلد الذي “لجأوا” إليه؟ لكن قبل التدقيق في المصطلحات حقوقياً وقانونياً، تساعدنا طريقة وصول السوريين إلى السودان ومقارنتها بوصول آخرين إلى أوربا أو نزوحهم إلى مخيمات اللجوء في الداخل والجوار، تساعدنا في فهم الإطار العام لهذا الوجود، حيث يكفي السوري أن يقطع تذكرة بما يقارب ٢٠٠ دولاراً، حتى يستقلّ طائرة من الخطوط الجوية السورية، تنقلُه من دمشق إلى الخرطوم، أو في حالات أخرى من بيروت إلى الخرطوم، وبالتالي نحن هنا أمام عملية دخول إلى الأراضي السودانية نظامية وقانونية لا يترتّب عليها أي مخالفة، وهي حركة أيسر بما لا يقارن مع تبعات الموت في المتوسط وقطع الحدود بين تركيا والاتحاد الأوربي.
من جهة ثانية فإن الخطاب الرسمي للحكومة السودانيّة يركّز على مقولة ضيوف لا لاجئين، وبغض النظر عن الإشكاليات السياسية والاجتماعية (السودانية ــ السودانية) المترتّبة على هذا المفهوم، لكن علينا أوّلاً ألا نقفز من فوق ظواهر الأشياء، فلا السوريين حُجزت حريّتهم في مخيّمات مُهينة للكرامة الإنسانية، ولا مُنعوا من حقّ العمل أو التعليم، ولا حوصرت حركتهم بمواقيت معينة أو حظر تجوّل، بالرغم من بعض الدعوات السودانية التي تعاني من جهل قانوني مدقع تطالب الحكومة بحجز السوريين في مخيّمات! وهذه دعوة لا تملك أي مسوّغ قانوني لها ولا بأيّ شكل، بالرغم ممّا يعانيه السودان من حروب داخله أو في جواره (كالحرب المشتعلة في دولة جنوب السودان)، ونزوح الكثير إلى الشمال حيث المخيّمات بالفعل. القياس الشكلي هنا بين الوجود السوري والجنوب سوداني يفتقر للكثير من المقوّمات التي تمكننا من اعتباره مقارنة أساساً.
سهيل، مهندس من دمشق وربّ أسرة، عَمل في الإمارات لأكثر من 15 عاماً، عندما عاد إلى سوريا كانت “الأحداث” كما يسميها في بدايتها، “عالخليج ما فينا نرجع حملت حالي أنا وزوجتي والولاد وجينا على السودان، أنا طلّعت جنسية من سنتين وصار فيني أرد أرجع عالخليج، وروح وأجي، والولاد كفوا تعليمهم هون.” استطاع سهيل وهو رجل خمسيني من تأسيس مصدر دخل ثابت له بعد أن ربط بين عمله بالعقارات في الخليج مع عمله بالسودان، توسّعت أشغاله بعد أن أصبح مواطناً سودانياً وصارت حركته أسهل بين أكثر من دولة خليجية، بالرغم من أنّ الجواز السوداني الذي حصّله ليس أفضل حالاً من السوري في حقيقة ترتيبه، لكنّ الحرب السورية وتأثيرها الإقليمي، وخاصّة مع دخول دول خليجية على خط الصراع المسلّح، وقرار الجامعة العربية القديم بخصوص تعليق عضوية سوريا، كان وبالاً على كل السوريين دون استثناء، حيث يحلم الكثير من الشباب السوري في الخرطوم باستصدار جواز سفر سوداني لا لشيء إلا للتوجه فوراً نحو إحدى الدول الخليجية. استقرار سهيل في السودان لأكثر من خمسة أعوام مكّنه بسهولة من استصدار الجنسية، التي يُشترط للحصول عليها إقامة لستة أشهر فقط، ولم تكلّفه “المعاملة” كما يقول أكثر من ٥٠٠ دولار.
على العكس من سهيل، يعيش عبدالله واقعاً مزرياً ومختلفاً، فهو الآخر متزوج وعنده زوجة وأربعة أولاد يعيشون معه في الخرطوم لكنّه صُدم بواقع سوق العمل فيها يقول: “ما قدرت أصمّد أكثر من شهرين بعدين بديت المصايب وصفينا بالشارع كلنا، أنا والمرا والولاد.“ بصعوبة ومن بين المتسولين والمتسوّلات، رضي عبدالله بالحديث عن رحلته التي بدأت مع اجتياح داعش للحجر الأسود، حيث كان يقطن، وتحوّلها لمعقل أساسي للتنظيم الإسلامي المتشدد، نزح بداية إلى إحدى المدارس داخل مدينة دمشق، ثمّ سمع من مُقرّبين عن أنّ السفر إلى السودان غير مكلف وأنّ فرص العمل متوافرة، بيد أنّه لم يعد قادراً على تدبّر أمره عندما اكتشف أنّ أجرة منزل في الخرطوم ليست أقل من ٢٠٠ دولار، في حين أنّ سقف الأجور لعامل مثله لا يتجاوز ١٠٠ دولار، عندها لم يجد بُدّاً من النزول إلى الشارع ليتسوّل هو وجميع أفراد عائلته، في ظلّ غياب كامل لأي منظّمة أممية تُعنى بشؤون السوريين في الخرطوم، وهنا نجد أنفسنا أمام معضلة كبيرة في أنّ عدم تحديد وضع السوريين كلاجئين والاعتماد فقط على الآلية النظامية التي وصلوا بها إلى السودان تعفي الحكومة السودانية من تحمّل مسؤولياتها الحقيقية بالتنسيق مع المنظمات الدولية لوضع حدّ لهذه الظاهرة الخطيرة التي باتت تتوسّع وتنتشر بين هذه الفئة تحديداً، دون أيّ حلول جدّية! بالمقابل تحرص الشريحة العظمى من السوريين في السودان على عدم تصنيفهم كلاجئين من قبل المنظمات الأممية، لأنّ هذا لن ينعكس إيجاباً عليهم على الإطلاق بالعكس سيتم سحب جوازات سفرهم منهم، ويعطون بطاقات لجوء لن يتمكنوا بعدها من العمل أو السفر، وتحدّ من حركتهم، وأقصى ما يمكن أن يتلقوه من مساعدات هي مرتّب ٢٠٠ دولار شهرياً فقط، ويعتبرون أنّ بعض المتسوّلين لا يشكلون ظاهرة ولا فئة إنما مجرّد أشخاص امتهنوا هذه المهنة ولا يرغبون الإقلاع عنها!
لا حلول أهليّة لمشاكل بيروقراطية
يتميّز اللاجئون السوريون في الدول العربية عن نظرائهم الذين وصلوا أوربا بأنهم لا يثيرون شهيّة الاستقصاء الصحفي، ولا أسئلة الاندماج والهويّات، في إعلام يتصدّره خطاب الخصوصية الثقافية ومراكز أبحاث مهووسة بتنميط الناس حسب أديانهم وثقافاتهم، مع ذلك فإنّ المشكلات الاجتماعية أو السلوكية الناجمة أو المترتبة على هذا الشتات قلّما تجد (في الحالتين) من يقرأها إلا ضمن هذا الإطار، أمّا على سويّة شعبية فيتراوح التعاطي بين قيم التغني بالكرم ومحاباة الضيوف من جهة، أو بين العداء والتشكك بهؤلاء الغرباء من جهة أخرى.
تبقى المشكلة الأكبر في هذه الأنماط الإعلامية والنخبوية التي تعزل المهاجرين عن واقعهم، من منطلق (هكذا تتطلّب المهنة)، في حين يغرق السوري ويتخبّط بمشاكل يوميّة قد يكون حلّها يسيراً ولا تُكلّف أكثر من معاملة حكومية، بيد أنّ البيروقراطية التي يخضع لها المهاجرون السوريون، ليست هي بيروقراطية المعاملات الرسمية والروتينية في الدولة، بقدر ما تحمل معها بُعداً سياسياً خطيراً، وهنا تجد أنّ الواقع السوري في السودان هو الأقل معاناة من حيث حرية الحركة وقيود العمل (فرض لبنان نظام الكفالة على دخول السوريين إليه، وهذا أيضاً نشّط الهجرة نحو السودان ولو مؤقّتاً).
بالمقابل صار الوجود السوري أكثر ارتباطاً وتأثُّراً أيضاً بالظرف الاقتصادي المفروض على الدولة ذاتها، أي السودان. فالبلد يعاني حصاراً اقتصادياً وعقوبات منذ قرابة العشرين عاماً، ولو سبرنا آراء السوريين عن رفع العقوبات مؤخراً، فالكل سيبادر بالحديث إيجاباً ويأمل أن رفعها سيحسن من ظروف العمل ويقوّي الاقتصاد؛ فالعقوبات شيء مجحف وسيّئ بالضرورة، لكن بعد أن رُفعت العقوبات شهد الجنيه السوداني انهياراً سريعاً من ١٨ جنيه للدولار الواحد، إلى الثلاثين، وهذا سرعان ما أثّر على أسعار العقارات المستأجرة، والمواد الغذائية، في حين يتمّ النظر إلى السوريين أنّهم أحد عوامل هذا الغلاء دون أن يتأثروا به كونهم يمتلكون سلفاً العملة الصعبة، ويدخلونها إلى البلد، ولا يسكنون إلا الأحياء الراقية في العاصمة!.
أخيراً، وبالرغم من تراكم المشاكل في واقع السوريين الذين فُرضت عليهم الهجرة، والتي تبدو أنها مشاكل مصاغة ضمن بنود قانونية داخل بلدهم أولاً، ثم في البلدان التي هاجروا إليها، فإنّ الحلول بالمقابل تعاني من الارتجال والفرز الذي يُركّز على شرائح منهم، ومشكلات مثيرة إعلامياً كالاندماج في أوروبا وخلافه. وكما تُرك الداخل السوري لحلّ مشكلاته في إطارها الأهلي بعيداً عن القانون وسيادة الدولة يسير الخارج السوري في ذات الطريق، مع غياب المشاريع الجديّة والحلول التي يجب أن تقوم عليها دول ومنظمات أممية، ولو أنّ شيئاً من هذا لا يلوح في الأفق القريب.