بواسطة لامار اركندي | مارس 27, 2018 | Cost of War, Reports, غير مصنف
“ماتزال صورة والدي المختطف على يد تنظيم داعش متمترسة بجدار ذاكرتي، أحاول مراراً وتكراراً أن أرسمه في لوحاتي، وأتخيل أنه عاد مع شقيقتي وأشقائي وأولادهم وزوجاتهم إلى البيت.” بصدى أنة مقهورة تدخل “سهيلة دخيل تعلو” الناجية الإيزيدية في تفاصيل أسرها مع عائلتها من قبل مقاتلي تنظيم داعش في الثالث من شهر آب/أغسطس 2014، حيث مايزال بعضهم مجهولي المصير.
سكبت “سهيلة” في لوحاتها ألوان عذاباتها، وترجمت بريشتها رحلة ألم عاشتها خلال فترة اختطافها لسنتين من قبل التنظيم بعد سيطرة مقاتليه على بلدتها شنكال (120 كم غرب الموصل) في العراق قبل نحو أربع سنوات.

صورة رقم 1: تظهر “سهيلة” في مرسمها
لحظات موجعة لم تبرح مخيلة الشابة الصغيرة بعد تحريرها من الأسر، وعودتها لأحضان من تبقى من عائلتها، لتعيش في مخيم “شاريا” بدهوك في كردستان العراق مع أخيها “ساهر” وشقيتيها “سهار” و”شيماء” الناجية مع والدتها “عمشي” من براثن داعش.
نمّت سهيلة موهبتها في الرسم بعد عودتها لعائلتها والتحقت بدورة لتعلّم فنون إتقان الرسم على يد الرسام الكردي الشهير “بيار محمد عمر” من مدينة دهوك مع مجموعة مؤلفة من “12” ناجية إيزيدية تحررن وعشن في المخيم.
عرضت مؤخراً الرسامة الناجية لوحاتها في أول معرض للرسم في مجمع “شاريا” للنازحين الإيزيديين والذي لاقى حضوراً كبيراً فعشقها لفن الرسم كان اللبنة الأولى في طريق تغلبها على محنتها.
15 رهينة من العائلة
سُبيت “سهيلة” في عامها الثالث عشر مع 14 فرداً من عائلتها، الأب “دخيل”، والشقيقتين “ألماسة” و”شيماء” والأشقاء “سعد” و”آزاد” و”خلف” وزوجاتهم وأطفالهم مع العمة “ليلى” وطفليها.
واجهت “تعلو” كغيرها من المختطفين والمختطفات الإيزيديات حقبة سوداوية مقيتة عاشتها بعد نقلها مع المئات ممن أسرهم داعش في حافلات إلى دائرة نفوس “شنكال”، ومنها لقضاء “بعاج”، فسجن “بادوش” قرب مدينة الموصل، ومنها إلى قضاء “تل عفر” حيث فصلت عن عائلتها وانتهى بها المطاف في قاعة “كالاكسي” في الموصل برفقة شقيقتيها “ألماسة” و”شيماء”.
عدة مرات تعرضت الشقيقات الثلاث للاغتصاب اليومي، ولأشد أنواع التعذيب النفسي والجسدي والبيع والجوع والضرب المبرح.
وقد تمّ فصل الأخوات عن بعضهن فـ”شيماء” الصغرى نُقلت إلى سورية، وبقيت “سهيلة” في الموصل، أما “ألماسة” فلم يتسن للعائلة الحصول على معلومات عنها حتى اليوم.
بُيعت “سهيلة” الشابة الصغيرة أكثر من ثماني مرات، ناهيك عن تبادلها من قبل عناصر داعش بين بعضهم كسلعة تباع وتشترى.
أخذت عملية تحرير “تعلو” وقتاً طويلاً، فقد استغرقت أكثر من سنة كما حدثنا عمها الكاتب الإيزيدي “خالد تعلو”. حيث قال: “تتبعنا أخبار سهيلة عن طريق بعض الناجيات اللواتي استطعن الهرب من سجون داعش، وعلمنا أنها أقدمت على الانتحار قبل أن يغتصبها جنود الدولة الإسلامية، غير أن محاولتها في قطع شريانها باءت بالفشل، وبعدها تمكنا من شرائها عن طريق وسطاء بيننا وبين داعش بمبلغ 6800دولار.”

صورة رقم 2: “سهيلة” بالزي الايزيدي الشعبي
فوجئنا أننا عبيد!
سُيقت الشابة الإيزيدية “سهيلة” إلى أسواق الرق بين تلعفر والقيارة والبعاج وحمام العليل والحويجة والموصل لأكثر من ثماني مرات وتذكر “سهيلة”: ” فوجئنا أننا أصبحنا عبيداً، نُباع ونُشترى كسلع رخيصة لا حول لنا ولا قوة، ناهيك عن أن عناصر التنظيم كانوا يتبادلوننا فيما بينهم، بعد إجبارنا على اعتناق الإسلام وتهديدنا بالضرب والحرق والتشويه.” وتضيف: “بعد فصلنا عن عوائلنا كنا نتعرض للاغتصاب الجماعي أنا والعشرات من الفتيات مع شقيقتي “ألماسة” التي لا نعرف عنها حتى الآن شيئاً هي ووالدي وأشقائي الثلاثة مع زوجات وأولاد اثنين منهم. تم تحرري في الموصل وأما شقيقتي شيماء فقد تحررت في مدينة الرقة السورية قبل حوالي سبعة أشهر، فشيماء التي تم بيعها لأكثر من 10مرات وهي لم تبلغ الثماني سنوات حين أختطفت وبيعت لأحد أمراء التنظيم في الرقة وكان سعودي الجنسية واغتصبت بشكل يومي بعد ربطها بالسرير.”

صورة رقم 3: “شيماء” مع أسرتها بعد عملية التحرير
تحرير الرهائن مغامرة:
تحرير الناجيات عملية معقدة جداً، حيث تتم حسبما يتحدث “خالد تعلو” بعيداً عن أنظار داعش وبسرية تامة جداً، ويضيف: “يتم عرض صور المختطفات الإيزيديات والأطفال على موقع النخاسة الإلكتروني الذي يديره داعش.” موضحاً: “بعض الوسطاء يدخلون المزاد في هيئة موالين لتنظيم داعش ويشترون بناتنا بعد اتفاقهم مع أهالي الأسيرات على قيمة المبلغ الباهظ، ويجب على أهالي المخطوفين تأمين المبلغ المحدد قبل تحريرهم.” ويتابع: “صفقات التحرير مغامرة تواجهها صعوبات جمة، أهمها أن العديد من أهالي الضحايا يعجزون عن تأمين المبلغ المطلوب في التوقيت المحدد فتفشل عملية التحرير.”
شراء الرهائن بمبالغ خيالية
يشتري الإيزيديون أسراهم لقاء مبالغ مالية كبيرة، تُنهك قدرة عوائلهم، فيدفعهم ذلك إلى بيع ممتلكاتهم والاستدانة لشراء حرية أحبتهم.
أكد “شُكُرْ شَنكالي” مسؤول المجلس الإيزيدي في “شنكال” أنه لم يحرر أسير واحد دون مقابل مادي إلا مرة واحدة قبل حوالي عامين، حيث حرر53 إيزيدياً في عملية مقايضة مع امرأة داعشية كانت من مدينة “حلب السورية” تدعى “عزيزة” والتي تزوجت من أربعة أمراء للتنظيم واعتقلت من قبل وحدات حماية “شنكال” صيف 2016 في طريق عودتها إلى الموصل مع مجموعة من عناصر التنظيم”.
تحدث “خالد تعلو” عن تحرير “عمشي” والدة سهيلة من مدينة الرقة في الرابع من نيسان 2017 بمبلغ 11500دولار، وزوجة ابنها تحررت مع بناتها الثلاث في 24نيسان 2016 من مدينة طبقة السورية بميلغ 29ألف دولار.
ويضيف تعلو: “اشترينا حرية شقيقتي ليلى وطفلتيها ’سالار وسارة‘ بمبلغ 27ألف دولار من مدينة الرقة في نيسان2017.

صورة رقم 4:”سهيلة” مع عمها الكاتب “خالد تعلو”
ناجيات ورهائن
كشفت مديرية الشؤون الإيزيدية في إقليم كردستان الشهر الماضي عن آخر إحصائية لأعداد الفتيات والنساء والأطفال الرهائن لدى تنظيم داعش، فضلاً عن الناجين من سجونه.
ونقلت وسائل إعلامية في تصريح صحفي لمدير مديرية الشؤون الإيزيدية في دهوك، “عيدان الشيخ كالو” (في4 شباط 2018) قوله أن: “العدد الكلي للناجيات والناجين الإيزيديين الذين اقتادهم تنظيم داعش في مطلع آب 2014، بلغ (3259) شخصاً.” وأضاف: “وأما عدد الرهائن لدى التنظيم كان قد بلغ (6417) شخصاً، وهناك أكثر من 3158 مايزال أسيراً لدى داعش في الأراضي السورية والتركية، بينهم 1472 من الإناث.”
ووفقاً لإحصائيات غير رسمية، يقدرعدد الإيزيديين بنحو 600 ألف نسمة في العراق، يقطن غالبيتهم في محافظتي نينوى ودهوك، فضلاً عن وجود أعداد غير معروفة في سورية وتركيا وجورجيا وأرمينيا، وأعداد أخرى من المغتربين في دول أوربية أبرزها ألمانيا والسويد.
وتعرض الإيزيدون إلى 74 مجزرة وكان آخرها في 3 آب/ أغسطس 2014 في “شنكال” موطنهم الأصلي في العراق بعد اجتياح مقاتلي داعش، وسيطرتهم على محافظة نينوى شمال العراق، وقتلهم لمئات الإيزيديين في قضاء “شنكال” وقرى غرب الموصل وسبيهم آلاف النساء والأطفال، وارتكابهم أبشع جرائم ضد الإنسانية جمعاء.
بواسطة Syria in a Week Editors | مارس 27, 2018 | Media Roundups, Syria in a Week, غير مصنف
عفرين في قبضة تركيا
18 آذار/مارس
تمكنت القوات التركية وكتائب المعارضة السورية المسلحة المتحالفة معها من دخول مدينة عفرين بعد حملة أطلق عليها “عملية غصن الزيتون” التي استمرت ثمانية أسابيع وأسفرت عن انسحاب “وحدات حماية الشعب” الكردية وتهجير ما لا يقل عن ثلثي سكان المدينة.
وقال المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية يانز لاركي للصحافيين في جنيف إن “التقديرات تشير حالياً إلى أنّ 167 ألف شخص نزحوا جراء الأعمال العدائية في منطقة عفرين.” وبحسب لاركي، يقدر أنه لا يزال هناك بين 50 و70 ألف مدني داخل المدينة حيث الوضع الصحي صعب كذلك، وفق منظمة الصحة العالمية التي أشارت إلى أن مستشفى واحدا من أصل أربعة يعمل فيها.
وقدّر المرصد السوري لحقوق الإنسان عدد النازحين من عفرين بنحو 250 الفاً فيما أفاد أنّ عن مقتل ما لا يقل عن 289 مدنيا بينهم 43 طفلاً إضافة إلى نحو 1500 مقاتل كردي. كما قتل ما لا يقل عن 496 من عناصر القوات التركية والفصائل المقاتلة والإسلامية بينهم 78 جندياً تركيا.
كما أظهرت تقارير وصور من المدينة والقرى الكردية تعرض عددٍ كبير من الأملاك العامة والخاصة لعمليات نهب ممنهجة من قبل كتائب “الجيش السوري الحر” المشاركة في العملية شملت آلياتٍ ومنازل وأدوات زراعية ومحلات تجارية. كما كشفت عدة فيديوهات مسربة عن وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان وعمليات إعدام ميدانية لمدنيين وأسرى حرب أكراد وإذلال للمواطنين وإهانة لمعتقداتهم، كتحطيم تمثال كاوا الحداد الذي يرمز لمقاومة الظلم والطغيان الذي تعرّض له الأكراد على يد أحد الملوك الفرس بحسب الأسطورة ويرتبط بعيد النوروز، رأس السنة الكردية التي يحتفل بها سنوياً في 21 آذار (مارس). ودان معارضون سلوك هذه الفصائل. ونشر الجيش التركي شرطة عسكرية في عفرين.
وشكل ملف مدنيي عفرين أزمة بين أنقرة من جهة وباريس وبرلين من جهة ثانية بعد انتقاداتٍ حادة وجهها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الالمانية أنغيلا ميركل. من جهته، قال صالح مسلم، الرئيس المشترك السابق لحزب الاتحاد الديموقراطي، والذي يُعتبر الحركة الكردية السورية السياسية الأساسية، أن تركيا ما كان يمكن ان تنجح في عمليتها بدون دعم روسي. وأضاف مسلم في مؤتمرٍ صحفيٍ عقده في ستوكهولم أنّ “الروس خيبوا أملنا لأن هناك بعض الواجبات التي ترتبت عليهم عند مجيئهم الى سوريا…لقد وعدوا بأنهم سيقومون بحماية الاراضي السورية”. وأضاف “روسيا لم تقم بشيء (حول التوغل التركي) أعطوا الضوء الاخضر لتركيا، والكل متأكد أنه لو لم تحصل تركيا على الضوء الأخضر من روسيا ما كانت لتقوم بذلك.”
مجازر متنقلة
20 آذار/مارس
أسفر سقوط قذيفة صاروخية أطلقتها فصائل المعارضة على سوق شعبي مكتظّ بحي الكشكول الواقع بين الدويلعة وجرمانا بأطراف العاصمة دمشق يوم الثلاثاء ( 20 آذار / مارس) عن مقتل ما لا يقل عن 35 شخصاً غالبيتهم مدنيون، ومن المرجح ارتفاع عدد الضحايا لوجود عشرات الجرحى بحالة حرجة. وأفاد سكان من الحي أن القذيفة أصابت شارعاً معروفاً بأسعاره الرخيصة التي وفرت للسكان فرصة للتسوق لشراء الهدايا عشية عيد الأم في سوريا. وبحسب المرصد السوري فقد ارتفع عدد الضحايا من المدنيين جراء سقوط قذائف الهاون إلى 179 بينهم 25 طفلاً و24 مواطنة، كما وثق المرصد السوري إصابة أكثر من 815 شخصاً جرّاء الاستهدافات اليومية خلال أكثر من 4 أشهر متتالية.
كما أدى القصف المكثف الذي تقوم به قوات النظام السوري بدعم جوي روسي على الغوطة الشرقية إلى مقتل ما لا يقل عن 29 مدنياً في دوما، لترتفع بذلك حصيلة ضحايا القصف منذ بدء العمليات العسكرية على منطقة الغوطة إلى 1517 مدنياً بينهم 311 طفلا. وكانت طائراتٌ حربية، يُرجح أنّها سورية قد استهدفت ملجأً أسفل مدرسة في مدينة عربين في الغوطة الشرقية الأمر الذي أسفر عن مجزرة راح ضحيتها 15 طفلاً ومواطنتان، بالإضافة إلى إصابة ما لا يقل عن 52 مدنياً بجراحٍ. وتواصلت عملية إجلاء حالات طبية مع أفراد من عائلاتهم من مدينة دوما بموجب اتفاق بين “جيش الإسلام” وروسيا. وبحسب مصدر طبي لوكالة الأنباء الفرنسية فقد تم “إجلاء نحو 1800 شخص بينهم 375 مريضا” خلال أسبوع.
وفي 21 اذار، قتل 16 طفلاً في غارة نفذتها طائرات لم يعرف ما إذا كانت سورية أم روسية قرب مدرسة في قرية في محافظة إدلب، وفق ما أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان. وقال: إن “القصف الجوي على قرية كفر بطيخ في ريف إدلب الشرقي وقع قرب مدرسة أثناء خروج التلاميذ منها”، مشيراً إلى أن الأطفال القتلى لا تتجاوز أعمارهم 11 عاماً. وقتل جراء القصف أيضاً أربعة مدنيين آخرين، وفق “المرصد” الذي أشار إلى أن “ضمن القتلى 15 فرداً من عائلة واحدة.”
“نصر” الغوطة؟
20 آذار/مارس
مع بدء هجوم قوات الحكومة السورية على الغوطة الشرقية في 18 شباط (فبراير) الماضي، ظهر تنافس بين دمشق وموسكو حول تبني «انتصار» الغوطة المتوقع. وإذ سرّبت مصادر موالية لدمشق قائمة تضم أسماء نحو 545 عسكريا تابعاً للقوات الحكومية، بينهم أسماء 35 عسكرياً روسياً قتلوا في المعارك، أفادت صفحة القاعدة الروسية في حميميم على “فيسبوك” أنّ “القوات الروسية وفرت دعما جوياً وبرياً خلال المعارك التي تم تحقيق النصر فيها خلال فترة وجيزة وقدم العسكريون أرواحهم.”
وبحسب الصفحة فإنّ الرئيس بشار الأسد تحدث خلال زيارته الغوطة إلى عناصر في “الحرس الجمهوري” ولم يلتق قوات العميد سهيل الحسن الملقب بـ”النمر” الذي يحظى بدعم روسي خاص. وأفادت “حميميم”: “في هذه الحرب أسماء سيخلدها التاريخ وقد أكد ذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائه الحسن.” كما أشارت إلى أن بوتين طلب توفير “حماية خاصة” من الوحدات الروسية لـ”النمر”. وتردّدت معلومات بأن بوتين يجهز “مفاجأة سارة” لـ “النمر”. وكان الأسد قد جال في غوطة دمشق. وأشار معارضون الى صور الدمار وغياب المدنيين في البلدات والمدن في الغوطة.
تل رفعت قبل منبج!
21 آذار/مارس
قال وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو الأربعاء إنّ تركيا والولايات المتحدة توصلتا إلى تفاهم وليس لاتفاقٍ كامل بشأن تحقيق الاستقرار في مدينة منبج ومناطق أخرى في شمال سوريا الخاضع لسيطرة الأكراد. وهدّدت تركيا مراراً بمدّ عملياتها أبعد نحو الشرق إلى مدينة منبج حيث تتمركز قوات أميركية. ويهدد توسيع عملية الجيش التركي إلى مناطق أكبر بكثير في الشرق خاضعة لسيطرة الأكراد بوقوع مواجهة بين البلدين العضوين في حلف شمال الأطلسي (ناتو). ونفى تشاووش أوغلو أن أنقرة وواشنطن توصلتا لاتفاق بشأن مصير منبج الواقعة على بعد 100 كيلومتر شرقي عفرين. وأضاف “قلنا إننا توصلنا إلى تفاهم يتعلق بالأساس بتحقيق الاستقرار في منبج بسوريا وفي الشرق من نهر الفرات. قلنا إننا توصلنا إلى تفاهم وليس لاتفاق.”
وتابع قائلاً إنّ أنقرة سعت للاتفاق مع واشنطن بشأن من سيؤمن منبج بعد انسحاب وحدات حماية الشعب الكردية السورية، التي تعتبرها تركيا “منظمة إرهابية”، من المنطقة، مؤكداً أنّ الانسحاب من منبج فقط لن يكون كافياً، وأضاف “أولاً ستغادر وحدات حماية الشعب الكردية منبج وسيديرها أهلها. سيتم ضمان أمن المنطقة. سنطبق نموذج منبج على مناطق أخرى خاضعة أيضاً للوحدات.” وتسبب ذلك في أزمة بين البلدين. واضطلع وزير الخارجية الأميركي المقال ريكس تيلرسون بدورٍ قيادي خلال الأسابيع القليلة الماضية لحلّ الخلاف، متعهداً خلال زيارة لتركيا الشهر الماضي بإيجاد حلٍ فيما يتعلق بمنبج. جاء كلام تشاووش اوغلو بعد اجتماع مسؤولين كبار من البلدين في 21 آذار لمتابعة ملف منبج.
وقالت تركيا أنّ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب إقالة تيلرسون قد يؤخر الاتفاق المحتمل بين البلدين. وفي اليوم التالي، زار وفدٌ عسكري وسياسي أميركي، ضمّ اللواء جيمي جيرارد والسفير الأميركي ويليام روباك، مدينة منبج لطمأنة حلفاء واشنطن من الأكراد والعرب، في خطوةٍ تشكل تحدياً لموقف أنقرة التي لوّحت بعملية عسكرية في منبج إذا لم ينسحب المقاتلون الأكراد. وأعلنت تركيا لاحقا انها لن تدخل منبج بانتظار ان تطبق اميركا التزاماتها، لكن انقرة ركزت جهودها على تل رفعت للسيطرة عليها بتفاهم مع روسيا.
تسويات، نزوح، وهتاف للأسد
24 آذار / مارس
غادر مقاتلو “احرار الشام” وعائلاتهم حرستا في الغوطة الى إدلب، ثم غادر مقاتلو “فليق الرحمن” جوبر وعين ترما وعربين وزملكا ايضاً، بالتزامن مع مفاوضات بين “جيش الإسلام” والجيش الروسي لإقرار “وضع خاص” لمدينة دوما. كان لافتاً أنّ الاتفاق الذي أبرم بين الكسندر زوين ممثل وزير الدفاع الروسي و”فيلق الرحمن”، نص على انتشار الجيش الروسي في المناطق التي يخرج منها معارضون ومعالجة الجرحى في مستشفيات روسية في سوريا، ما عزز دور موسكو في الاتفاق بدلا من طهران والنظام.
كما تواصلت منذ أيام عدة حركة نزوح جماعي من مدينة دوما عبر معبر الوافدين شمالاً، أحد المعابر الثلاثة التي حددتها القوات الحكومية للراغبين بالخروج من مناطق سيطرة المعارضة.
ودفع القصف والمعارك أكثر من 87 ألف مدني للنزوح منذ 15 آذار/مارس باتجاه مناطق سيطرة قوات النظام، وبقي أكثر من 30 ألفا في منازلهم في بلدات في جنوب الغوطة سيطر عليها الجيش، وفق المرصد السوري. وقتل خلال شهر من الهجوم أكثر من 1630 مدنياً بينهم نحو 330 طفلاً/ة. وخرجت الخميس دفعة أولى تضم 1580 شخصاً بينهم 413 مقاتلاً من مدينة حرستا، ووصلت بعد رحلة استغرقت ساعات طويلة إلى محافظة إدلب. وقد وافق مقاتلو المعارضة على تسليم المدينة مقابل فتح ممر ٍآمن للخروج وعفوٍ عن المدنيين الذين قرروا البقاء هناك فيما تستعيد الحكومة السيطرة عليها.
وفي سياقٍ ٍمتصل، تداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي تسجيلاً مصوراً نشره موقع “عنب بلدي” ويظهر فيه عضو مجلس الشعب (البرلمان) السوري والمنتج السوري، محمد قبنض وهو يطلب من نازحي الغوطة الشرقية الهتاف للرئيس بشار الأسد مقابل حصولهم على الماء. وكرّر عضو المجلس مطالبته للنازحين بـ “تمجيد الأسد وقيادته الحكيمة والهتاف بحياته”، إضافةً إلى شتم السعودية وأمريكا، اللتين يفترض أنهما من داعمي المعارضة. الأمر الذي أثار استهجان العديد من السوريين.
خلال سنوات النزاع، شهدت مناطق سورية عدة، بينها مدن وبلدات قرب دمشق، عمليات إجلاء آلاف المقاتلين المعارضين والمدنيين بموجب اتفاقات مع القوات الحكومية إثر حصار وهجوم عنيف، أبرزها الأحياء الشرقية في مدينة حلب في نهاية عام 2016.
بواسطة Jamal Saeed | مارس 26, 2018 | Roundtables, غير مصنف
لست حيادياً حيال مسألة الهوية. أرى باختصار أننا نحتاج في سورية إلى هوية وطنية جامعة مثل عصا موسى تبتلع كل الهويات الفرعية لا لتقتلها بل لتكون جزءاً من نسيجها. ولا أعتقد أن موسى سيزور سورية، ولكني أرى أن هذه الهوية ممكنة، في حال قيام دولة مدنية ديمقراطية، تعتمد قوانين عصرية ، يتساوى مواطنوها الأفراد والأحرار في الحقوق، بصرف النظر عن الدين أو العرق أو اللون أو الجنس.
مضى على تشكل سورية بصفتها كياناً سياسياً نحو قرن من الزمان، وبفعل السياق التاريخي لقيام سورية التي نعرفها، انطوت “الهوية السورية” على التنوع العرقي والقومي والديني، شأنها في ذلك شأن العديد من الهويات الوطنية التي تعرفها بلدان عديدة. هذا التنوع يمكن أن يكون عامل ثراء يتيح لسورية أن تكون حديقة حية للغاتٍ وأديان ومذاهب وأعراق وأقوام وثقافات، وهذه العوامل نفسها يمكن أن تشكل متكأ أو مظلة أو سبباً لحروب ونزاعات وتشظيات ومظلوميات وانتقامات، في أتون الصراع على السلطة، وفي سياق التغيير، والانتقال من طور إلى طور. ونشهد حالياً صراعاً هو الأشد عنفاً منذ نشوء سورية بعد الحرب العالمية الأولى إلى يومنا هذا، ومع تداخل عوامل عديدة تجعل الحرب الدائرة متعددة الأطراف نلحظ بعداً طائفياً أو قومياً طاغياً يظهر صراحة في الخطاب التحريضي الذي تتبناه قوى سورية مشاركة في هذه الحرب، أو يتم إخفاؤه بطريقة تجعله أكثر بروزاً.
وليس صعباً أن يلاحظ أي متابع أن التنوع الذي انطوى عليه تاريخ سورية، قبل وبعد تكونها، بصفتها كياناً سياسياً مستقلاً، يعد جزءاً من هويتها. هذا التنوع كان موضع حوارات وصراعات نعيش حالياً أشدها دموية وضراوة . لم يولد الوجه الطائفي أو القومي للصراع فجأة، بل نمت مقوماته في رحم مجتمع، يسود فيه الاستبداد السياسي والديني. وتعددت النبوءات بقيام ما نشهده اليوم والدعوات إلى نزع فتيل الحرب قبل وقوعها بسنوات. 1
يتحدر قاطنو سورية من أقوام عديدة (عرب، كرد، تركمان، شركس، أرمن، آشوريون/ سريان ، ويونانيون وألبان وغجر وغيرهم ). وبالإضافة إلى لغات هذه الأقوام، لا تزال الآرامية حية في بعض قرى القلمون. ويعيش في سورية طوائف ومذاهب عديدة؛ حيث يقطن سورية مسلمون ومسيحيون ويهود، سنة وشيعة وعلويون ودروز وإسماعيليون، بالإضافة إلى أغلب المذاهب المسيحية الشرقية والغربية. وقد عرفت البلاد أحزاباً وتيارات سياسية مختلفة كان بعضها عابراً للطوائف والمذاهب والأقوام، في حين اقتصرت أحزاب وتيارات أخرى على التوجه إلى أقوام بعينها أو مذاهب دينية بعينها!
وتنتشر في جنبات سورية أوابد وآثار خلفتها إمبراطوريات ودول ودويلات مختلفة على مر آلاف السنين، وتراث شفاهي ومكتوب، غني بالمتناقضات، فهو يحفل بالمظلوميات والعنف والانتقامات والتحريض من جهة، والشهامة والرفعة والتسامح من جهة أخرى.
تعيش سورية حالياً حالة صراع على السلطة وهو في جانب منه صراع على تحديد الهوية الوطنية وفي جانب آخر صراع هويات أو طريقة عنفية لفرض هويات ما قبل وطنية، أو هويات عابرة للهوية الوطنية، في سياق الصراع على السلطة. ويتداخل هذا الصراع مع ضرورة تجاوز الحقبة الدكتاتورية لإقامة دولة مدنية ديمقراطية. وعلى حساب النضال لإقامة دولة مدنية وطنية ديمقراطية علمانية، تحمي الرابط والتواثق الوطني ، برز محورا الصراع الديني والقومي بامتدادهما الإقليمي والدولي. ويمثل الصراع الحي الذي تشهده سوريا، حال الافتقار إلى وجود رابط قوي بين السوريين.
لم يكن صراع الهويات الطائفية أو القومية (وخصوصاً السني -العلوي والعربي -الكردي) أمراً مفاجئاً، بل ظهر كنتاج لعوامل عديدة من بينها ماضي سورية، القريب خصوصاً، والمستجدات الإقليمية والدولية.
ويمكن أن نشير إلى عوامل مهمة ، لعبت دوراً في صياغة طابع الحياة السياسية في بلدان عديدة من بينها سورية: قيام دولة إسلامية في إيران، تتبنى مبدأ الحاكمية الإلهية بصيغتها الشيعية، انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية، حروب العراق التي لم تنته بعد، تنامي دور القوى الدينية في إطار الصراع العربي الاسرائيلي، قيام منظمات إسلامية تتبنى العنف في أنحاء العالم، وانتصار التيار الديني في انتخابات تركيا وفي الاستفتاء على تعديل الدستور التركي، وارتفاع أسهم التيارات الشعبوية في الغرب.
***
لقد عايشتُ بعض التحولات التي عاشتها سورية بين ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وأذكر في هذا السياق أنني زرت كلية الآداب في جامعة دمشق لأول مرة في عام 1977. أتاح لي الوقوف في زاوية المدرج الرابع في كلية الآداب رؤية جميع الطلاب الذين توافدوا لحضور محاضرة الدكتور ياسر داغستاني حول دور الحبكة في بناء الرواية، ارتدت أغلب الطالبات بنطال جنز، أو “شارلستون” وقميصاَ ضيقاً ولم تكن موضة بنطال “الشارلستون” الواسع عند القدمين قد طويت تماماً بعد. عدد قليل من الطالبات بدون شديدات الاهتمام بأناقتهن وبآخر صرعات “الموضة” إلى حد أن المرء يخال أنهن تسوقن من “مونتكارلو” ليلة البارحة. وثمة عدد قليل من الطالبات يرتدين “المانطو” والحجاب الذي يغطي الرأس. كانت المعاطف و”الإشاربات” متعددة الألوان، ولم يكن غريباً أن تجد بين المحجبات آنئذ من تبالغ قليلاً في “مكياجها”، لم أر يومها منقبة واحدة في المدرج الرابع أو في ردهات الجامعة أو في المقصف.
في المقصف كانت النقاشات والاصطفافات والشعارات وبعض الصور الملصقة على الحقائب، أو المعلقات الناعمة في سلاسل تتدلى حول الأعناق، تدل على حضور قوي لتيارات أيديولوجية ينتمي إليها الطلبة بعد التعرف على ألف باء تلك الأيديولوجيات والانبهار ببعض الأدبيات أو العبارات (أو حتى قبل ذلك تأثراً بصديق أو بفيلم أو كتاب أو أغنية!). كان الحضور الأقوى، في كلية الآداب، للتيارين الماركسي والقومي، مع وجود بعض الإسلاميين وبعض الوجوديين. كان جهاز المخبرين يتنامى ويتم ترتيب الاتحاد الوطني لطلبة سورية، أكثر فأكثر، ليكون من إكسسوارات النظام الذي حول النقابات والمجلس النيابي والأحزاب المتحالفة معه إلى مجرد قطع إكسسوار .
عدت بعد 14 عاماً لأقف في المدرج نفسه وفي الزاوية نفسها : كانت النسبة الأكبر من الطالبات هذه المرة يرتدين معطفاً كحلياً وإشارباً سكرياً يليها الطالبات اللواتي يرتدين الجينز والقميص أو “التي شيرت”، أما عدد المتأنقات المونتكارلويات فكان أقل بكثير هذه المرة!
وظهرت بوضوح الرموز التي تدل على الانتماء الطائفي على شكل أساور من خيوط مجدولة تلتف حول رسوغ الشباب والصبايا، سوداء أو بيضاء أو خضراء، وعلقت في الأعناق رموز مصنعة من المعادن المختلفة تدل على الانتماء عينه مثل: كلمة الله ، مجسم صغير للكعبة، سيف كتب عليه لا فتى إلا علي، نجمة خماسية ملونة بالأحمر والأخضر والأصفر والأزرق والأبيض، وصليب بأشكال وأحجام متعددة. دون أن تختفي عن الجدران، أو في الخطابات الحماسية عبارات تتحدث عن اللحمة الوطنية بصفتها صخرة تتحطم عليها المؤامرات، وبصفتها من إنجازات “قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد” الذي تحول بعد موته في منظومة الديماغوجيا نفسها إلى “القائد الخالد”.
***
ما الذي دفع العديد من طلاب كلية الآداب (وغيرهم بطبيعة الحال) إلى إشهار رموز تدل على هوية قبل وطنية؟ تغيرت بلا شك ملامح وطرق التعبيرعن الانتماء في سورية بعد الصراع العنفي الذي بدأ في أواخر سبعينيات القرن المنصرم وانتهى في ثمانينياته، والذي شهدت فيه سورية أحداثاً مروعة.
تطور الصراع الذي بدأ بعد استيلاء البعث على السلطة بين أنصار الأمة الإسلامية، وأنصار العروبة. ثم خبا ليعاود الظهور بعد انقلاب حافظ الأسد، الذي حمل اسم الحركة التصحيحية، لدى طرح دستور 1973 للاستفتاء العام 2، والذي أثاره موضوع “دين رئيس الدولة”. و بقيادة رفعت الأسد، تشكلت في أواسط السبعينيات قوة عسكرية لها امتيازاتها المختلفة عن الجيش، عرفت باسم سرايا الدفاع، وكانت الغالبية الساحقة من عناصرها من العلويين ومهمتها الرئيسة حماية “الثورة” التي كانت حتى ذلك الحين اسماً رسمياً للنظام. لقب عناصر السرايا بالفرسان، الذين دعتهم قيادتهم للتصرف كأبطال فقاموا ببعض الارتكابات البشعة في مدينة دمشق، وعرفت دمشق آنئذ جرائمهم ووزنهم “البطولي” . وفي 16 حزيران 1979 ارتكبت مجموعة مسلحة مرتبطة بالأخوان المسلمين مجزرة مروعة في مدرسة المدفعية في مدينة حلب، راح ضحيتها نحو ثمانين طالباً من طلاب الضباط، لأنهم يتحدرون من الطائفة العلوية، وقد قاد المجزرة ضابط أمن مدرسة المدفعية، النقيب ابراهيم اليوسف 3. وارتكب النظام لاحقاً مجازر مروعة لعل أكثرها فظاعة المجزرة التي شهدتها مدينة حماه السورية والتي استمرت قرابة شهر بدءاً من 2 شباط 1982، وكان ضحاياها بالآلاف. وأخطرها دلالة مجزرة سجن تدمر العسكري حيث فتحت النيران على السجناء العزل. لقد لعبت المظلة الطائفية للصراع على السلطة في سورية دوراً كبيراً في النكوصات التي جعلت الانتماء للطائفة يتنامى على حساب الانتماء للوطن أو للأمة مع أن كلمة أمة ارتبطت في أذهان الكثير من السوريين بالعروبة (الأمة العربية) أوالإسلام (الأمة الإسلامية). وقد ازداد الاصطفاف الطائفي عمقاً وحدة. وتعيش سوريا اليوم حالاً مزرية من التشظي الطائفي تحت عناوين مختلفة، وبالاعتماد على الكثير من التفاصيل المرتبطة بوقائع وبسرديات لها علاقة بالمظلوميات والانتقام. ومن الواضح أن أشد الجبهات الطائفية احتداماً هي الجبهة العلوية – السنية، والتي زاد من تكريسها وجود الميليشيات الطائفية، الموالية للنظام أو المعارضة له؛
1-الميليشيات المقاتلة مع النظام: سرعان ما تشكلت ميليشيات موالية للنظام، بعد اندلاع المظاهرات في آذار 2011 ، مثل الشبيحة الذين رعتهم جمعية البستان في دمشق، وتحولوا إلى قوة تحت اسم اللجان الشعبية ومن ثم جيش الدفاع الوطني. يتحدر أغلب مقاتلي هذه الميليشيا من الطائفة العلوية، وقد تم تطعيمها لاحقاً في دمشق ببعض السنة كالشركس الذين جندهم أتباع النظام من الشراكس، وبعض المرتزقة الذين رأوا في الانضمام إلى الشبيحة فرصة للمشاركة في نهب البيوت وممارسة التسلط. تشكلت لاحقاً ميليشيا علوية داعمة تحت اسم صقور الصحراء يقودها ويمولها رجل أعمال معروف. وفي سياق التحريض الطائفي تم تجاهل الميليشيات السنية التي تدعم النظام مثل ميليشيا آل بري أو الشوايا. وتمت مشاركة ميليشيا شيعية مدعومة إيرانياً في الحرب الدائرة تحت شعارات طائفية مثل المطالبة بثارات الحسين في أحياء دمشق وريف دمشق! قدمت هذه الميليشيات من بلدان مختلفة : (لبنان، العراق، باكستان، أفغانستان وأسماء أغلبها تحمل دلالة طائفية مثل: الزينبيون، الفاطميون، كتائب أبو الفضل العباس) بالإضافة إلى ميليشيا حزب الله. إن استقدام النظام لهذه الميليشيات الشيعية، وقبوله بأن تشارك في الحرب يعني فيما يعنيه أن النظام غير معني بالهوية الوطنية، بل ولا بالدم السوري ولا بكرامة السوريين التي ينتهكها مسلحو تلك الميليشيات. وأنه يساهم في تشظي الهوية الوطنية بل وفي تدمير الوطن نفسه بالمعنى الفيزيائي للكلمة حيث يقصف ويقتل ويحاصر ويجوع ويعتقل ويدمر بيوتاً ويحرق أشجاراً إلخ…من أجل الانتصار (الذي يعني الاستمرار في الحكم بالقوة )
2-ميليشيات المعارضة: لم يكن موقف المجلس الوطني ومن بعده الإئتلاف أكثر حرصاً على الهوية الوطنية من النظام، حيث تم استمراء تكوين ميليشيات سنية بل واستقدامها من خارج البلاد، ووصل التنسيق مع الدول الإقليمية إلى حد أن العديد من أعضاء الإئتلاف صاروا محسوبين على تركيا أو قطر أو السعودية، التي مولت وتحكمت بمواقفهم إلى حد برزت فيه الصراعات فيما بينهم باعتبارها صراعات بين تلك الدول! وانطوت مواقف المعارضة السياسية التي دعت إلى التدخل الخارجي وخوض الحرب التي دعا إليها أول خطاب لرأس النظام،على شيزوفرينيا، حيث تباكت المعارضة على الهوية الوطنية وساهمت بتدميرها سواء بالخضوع إلى قوى إقليمية ودولية، أو باستقدام ميليشيات طائفية وفاشية ، وبالدعوة الصريحة إلى أي تدخل خارجي، وكأن قوات التدخل الخارجي ستكون بإمرة قادة الإئتلاف أو سواهم من أطراف المعارضة!! ناهيك عن الارتكابات الطائفية المشينة، التي قام بها مسلحو المعارضة تحت اسم”التحرير”، كارتكاب مجازر واختطاف اطفال ونساء فقط لأنهم يتحدرون من الطائفة العلوية، أو الأقليات الأخرى وبعض رجال الدين المسيحي. إضافة إلى اختطاف بعض الناشطين الحقوقيين والسياسيين المعارضين (رزان زيتونة، سميرة خليل وائل حمادة، ناظم حمادي).
تكونت في أتون الصراع الدموي، ثقافة وأخلاق التوحش والهمجية، لدى العديد من السوريين، وقد عبرت عن نفسها بوضوح على الجدران وخصوصاً كولبات حواجز التفتيش، ووسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصاً الفيسبوك الذي استخدمه السوريون أكثر من غيره. وأظهرت هذه الثقافة انحطاطاً أخلاقياً، وسياسياً ومواقف إقصائية عنصرية حادة. حيث أعلن أنصار النظام “الأسد أو لا أحد” (رأيت هذا الشعار قرب باب مركز انتخابي، في أول مرة يتحول فيها الاستفتاء الشكلي إلى انتخابات رئاسية شكلية). بل تجاوزوه إلى :”الأسد أو نحرق البلد” . وكلمة البلد عندنا قوية الصلة بما نسميه الوطن والهوية الوطنية! ودعا بعض المعارضين إلى إبادة العلويين، وقال صحفي سوري معارض :” لا أريد أن أرى علوياً واحداً في دمشق!!” ولم تحرجه دمامة الموقف الطائفي ولم يخجل من التحدث بعنجهية بعض ضباط مخابرات النظام! ودعا صحفي من الموالين إلى عدم التوقف عن قصف الغوطة حتى تطهيرها! و “التحرير” و”التطهير” تعبيران لوصف عمليات عسكرية يتناقضان مع الهوية الوطنية، التي لا وزن لها لدى هؤلاء وأولئك 4.
أظهرت (وربما أنشأت) الحرب، لدى أنصار نشوبها واستمرارها، أو عدد غير قليل منهم على الأقل، ثقافة أو أخلاقاً لم يعهدها السوريون من قبل، بما في ذلك ما فبركته وتمخضت عنه الخيالات. فالمحاربون و/أو أنصارهم من السوريين يتباهون بنشر صورهم بجانب الجثث مبتسمين. ويكتفون أحياناً بنشر صورة جثة الخصم، ويصفونه بالفطيسة أو الخنزير ويضيف المعلقون العديد من الشتائم، والعبارات التي تعبر عن الابتهاج بالقتل.
لقد عبرت التمترسات الطائفية عن نفسها على أنقاض هوية وطنية أصبح المدافعون عنها موضع تندر واستخفاف، واستهجن الطائفيون الأكثر تشدداً على طرفي هذه الجبهة الطائفية، أي حديث عن “الشراكة في الوطن”بصفتها شراكة مع مجرمين أو تكفيريين، يستقوون على ابن البلد بالغريب، (تم تبادل هذه التهمة بين متحاربين يقومون بالفعل نفسه) أو يرتكبون جرائم شنيعة كالاغتصاب والتمثيل بالجثث. وباتت غالبية السوريين في المناطق الساخنة (والتي أضحت أهدافاً لقناصة وطائرات ومحاربين إقليميين وعالميين) مشغولة في البحث عن ملاذ خارج سورية، فإن لم يتوفر فملاذ أقل توتراً داخل سورية. هذه الأغلبية انشغلت إلى حد كبير بتدبير شؤونها وكانت أبعد من النخب السياسية عن الاستثمار في الحقل الطائفي. حيث اتهمت تلك النخب هؤلاء بأنهم رماديون، لا يقفون معنا ولا ضدنا سواء دلت هذه ال”نا” على مسلحي النظام أو مسلحي المعارضة! وساد لفترة طويلة المنطق القسري الذي سبق أن استخدمه بن لادن وجورج بوش وحافظ الأسد والذي يقسم العالم إلى فسطاطين، (إذ لا بد أن يكون ضدنا من لا يصطف معنا!). وأضحى الحديث عن ارتكابات النظام “خيانة للوطن” على حد تعبير الموالين، والحديث عن ارتكابات النصرة وأخواتها “خيانة للثورة”، على لسان بعض المعارضين.
تجاهل المحرضون المتحمسون من العلويين والسنة، أن الكثيرين من السنة موالون للنظام، أو معارضون على أسس وطنية ومدنية وعلمانية، وأن حسابات الأقلية والأكثرية على أساس طائفي هي حسابات القوى الطائفية وخصوصاً الأخوان المسلمين الذين يعتبرون أنفسهم ناطقين باسم “الأكثرية” وأن النظام استطاع تجنيد العديد من البدو والشوايا وعصابات التهريب في حلب ودير الزور وحمص، وأن السنة رغم الحرب المديدة لم يشكلوا كتلة واحدة ، وأن العلويين بدورهم ليسوا كتلة واحدة، بل تشكى بعض العلويين من أنهم يفتقرون إلى وجود مؤسسة دينية تعد بمثابة مرجع لهم، وتشكى آخرون من احتكار النظام لهذا الدور بما يخدم استمراره في تجييش الطائفة لخدمته. يبقى أن نشير إلى أن العديد من السوريين أشاروا إلى أنهم سوريون قبل أي اعتبار، ويتحدر هؤلاء من مختلف الطوائف والأقوام في سورية ولكن صوتهم بصرف النظر عن عددهم ضاع في ضجيج السلاح والتحريض الطائفي والقومي.
أعتقد أن فرصة قيام ثورة سياسية تحول سوريا إلى دولة مدنية ديمقراطية كانت قائمة، وأضعفها وشتتها التواطؤ مع الطابع الطائفي أو القومي للحرب، والسعي لإشراك الأكثرية فيها، وتقبلها بصفتها حلاً يتيماً، وساد لدى المعارضة مفهوم جديد للأكثرية يولف بين الدين والقومية ، متجاهلاً أسس أو قيم المواطنة إذ أضحت الأكثرية تعني في الخطاب السياسي السائد:”العرب السنة” في حين تعني كلمة أقليات، الأقليات الدينية والقومية وعلى نحو خاص: الأكراد والعلويين! بل تشاركت الميليشيات المتحاربة في العداء الصريح والواضح للديمقراطية والحرية، حيث سخر الشبيحة من الحرية بصفتها فساداً وانحلالاَ، أو بصفتها “وخماً غربياً”، في حين ارتفعت لدى مقاتلي المعارضة أسهم الشرع باعتباره بديلاً للنظام الديمقراطي ودعا قادة مشايخ الجهاد إلى تجنب المنكر الديمقراطي، بل أوضح بعضهم أننا لانحتاج إلى أي دستور يضعه البشر لأننا نملك دستوراً إلهياً لا يمكن أن ترقى إليه كل الدساتير التي يضعها البشر!
لم تتوزع ويلات الحرب بالتساوي بين السوريين، حيث خضع تقاسم الويلات إلى عوامل عديدة منها إشراك الجيش في المعركة، ومدى تأهل القوى المشاركة لخوض المعارك، ووجود أو الافتقار إلى الإمداد والتموين، وطبيعة القوى التي استولت على هذه المنطقة أو تلك، والقوانين والتشريعات التي فرضتها، ومدى امتلاك القوى للسلاح الثقيل وتفرد النظام بامتلاك قوة جوية ، ودور القوى الداعمة أو الحليفة، التي أضحى نفوذها أقوى من نفوذ السوريين أنفسهم، ولم يكن يكن العامل الوطني أو الأخلاقي من بين العوامل التي خففت الويلات هنا أو زادتها هناك! 5
***
محور الصراع المهم الثاني ، هو الصراع القومي، وخصوصاً: العربي – الكردي، والذي عبر عن نفسه بأشكال مختلفة ، وهذا الصراع قائم على مظلومية قومية عاناها الأكراد في العراق وسورية وتركيا وإيران، ففي سوريا تروى نكتة شهيرة عن وزير بعثي ألقى خطاباً في حقول النفط في الرميلان كرر فيه بحماس الشعار البعثي الشهير:”بترول العرب للعرب” فقاطعه أحد الحضور من الأكراد سائلاً :” الأكراد ما إلهم شي؟” وتعكس هذه النكتة التي تداولها السوريون جانباً مهماً من الإقصاء الذي عاناه الأكراد. روى لي أحد أصدقائي الأكراد، أنه يعتبر أجنبياً في السجلات السورية مع أنه ولد في سورية وكذلك أبوه وجده، وقال :” هذه هي حال الكثيرين، آمنا وصدقنا ، أما أن لا تعترف سجلات الدولة بأني متزوج ، مع أن أولادي الأربعة مسجلين في تلك السجلات فهذه عصية على فهمي!! طيب أولاد مين هدول؟”. وكان الكثير من الأكراد يتندرون: “الأجانب يأتون من بلد ما، ونحن أجانب في بيوتنا!!” . يجسد حال الأكراد مدى ابتعاد سلطة البعث عن مفهوم المواطنة، وقد برر القوميون ذلك في حديثهم عن ضرورة انصهار الجميع (جميع القوميات والأعراق) في بوتقة القومية العربية، الأمر الذي يتنافى مع احترام التعددية القومية في بلد تحفل بالتنوع القومي. ولهذا منع الأكراد من الدراسة بلغتهم، وعانوا من التضييق الثقافي والسياسي بطبيعة الحال. لم يفلح النظام في استمالة الأكراد ولم تفلح المعارضة الدينية أيضاً التي حاولت السيطرة على أحيائهم ، لقد اختطت القوى الفاعلة الكردية التي امتلكت الدعم والسلاح طريقاً واضحاً وحطت نصب عينها حكماً ذاتياً ضمن دولة فيدرالية على طريق الاستقلال التام لكردستان. والحق هو أن الأحزاب الكردية ليست متوافقة بهذا الشأن حيث يرى البعض أن الأكراد السوريين جزء من الشعب السوري وهم يناضلون مع باقي السوريين من أجل دولة المواطنة التي يتساوى الجميع فيها بالحقوق بصرف النظر عن العرق أو الدين.
عبر الشرخ القائم بين العرب والأكراد عن نفسه مراراً، من بينها مباراة كرة القدم الشهيرة التي استضاف فيها فريق الجهاد الكردي فريق الفتوة العربي الديري، والتي قتل نتيجة المشادات بين جمهوري الفريقين أربعة من الأكراد ، الأمر الذي تطور بحيث طالت الاحتجاجات دمشق وحلب ناهيك عن القامشلي وعامودا وغيرهما من بلدات الأغلبية الكردية. وفي عامودا أسقط تمثال الرئيس السابق (الأسد الأب) أرضاً.
ومن اللافت في سوريا أن حزب العمال الكردي الذي حظي برعاية النظام لزمن طويل، والذي بات قوة كردية فاعلة، هو الأكثر تشبثاً بالهوية الكردية والأكثر بعداً عن الهوية الوطنية السورية بالمقارنة مع بقية الأحزاب.
حاولت بعض الأقليات أن تشارك في تكريس النضال الديمقراطي كالمشاركة بالاعتصامات وغيرها من أشكال النضال السلمي، من بين هؤلاء أعضاء المنظمة الأثورية الديمقراطية التي تأسست منذ عام 1957، وتسعى المنظمة كما يقول أنطوان دنخا الصنا: (.. لنيل شعبنا في سوريا كافة حقوقه القومية والوطنية والإنسانية المشروعة والمرتبطة بحلّ وطني ديمقراطي شامل ينطلق من مفهوم الشراكة الوطنية الحقة والكاملة ويستند لقيم ومفاهيم العيش المشترك رغم كل التعقيدات والتحديات وبالتعاون والتنسيق مع كافة القوى القومية والوطنية والديمقراطية في سوريا مع تأكيدنا على الإقرار الدستوري لحالة التنوع القومي في البلاد والاعتراف بالوجود والهوية القومية والثقافية لشعبنا الكلداني السرياني الآشوري باعتباره شعبا أصليا وضمان كافة حقوقه القومية والسياسية والتاريخية واعتبار لغته وثقافته السريانية لغة وثقافة وطنية وذلك ضمن إطار وحدة البلاد أرضا وشعبا). وقد حاولت الأقليات القومية المشاركة في بعض الفعاليات الثقافية السورية ، ولكن تلك المشاركات قبلت حيناً ورفضت في أحيان أخرى من جهة مؤسسات النظام، الأمر الذي جعل أبناء تلك القوميات يشعرون بانتقاص مواطنتهم. 6
كان من أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور اللبوس الديني والقومي للصراع في سوريا، الدكتاتورية العسكرية التي خلقت مقومات الصراع وتعامت عن النخر الطائفي والمذهبي والقومي الذي ساهمت بخلقه وغطته بشعارت كانت موضع سخرية ومقت أغلب السوريين بصرف النظر عن صحتها أو خطأها. وبعد أن انفجرت براميل البارود التي ينام عليها المجتمع تدخل النظام بصفته طرفاً في الصراع وأفقد الدولة دورها الوظيفي في أن تكون حكماً. أما الكوميديا السوداء فتتجسد في أن النظام نفسه أضحى أمير حرب تديره قوى خارجية شأنه شأن أي مجموعة من الزعران امتلكت سلطة على أحد الأزقة ومولتها إحدى الدول ووجهت نشاطها على الأرض!
لا يمكن كما أرى أن تتحقق الهوية الوطنية الكاملة وغير المنقوصة أو القابلة للتشظي إلا بانتصار ثورة بالمعنى البرنامجي، وبالتالي القانوني والدستوري والمدني. وبصرف النظر عن ميزان القوى الراهن، لا يمكن للهوية الوطنية أن تتحقق دون فصل الدين عن الدولة. بلغة أخرى لا بد من التغيير السياسي كخطوة نحو تجاوز التطابق القسري بين الوطن والدولة والدكتاتور، هذا التطابق القسري الذي يفرض بالقوة تحت راية العروبة أو تحت راية الإسلام. لا بد من راية سورية لا تخضع لأي من مقومات ومكونات الهوية السورية بل تحترمها جميعاً، وتتعامل معها على قدم المساواة من زاوية الحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية . ولا يمكن أن يقوم هذا التغيير إلا باعتماد دستور وقوانين عصرية تضمن للسوريين حقوقاً متساوية، لا بد من تكرار “بصرف النظر عن الدين أو العرق أو الجنس”، ومن نافل القول أن حرية التعبير وتشكيل الأحزاب السياسية والصراع السياسي تحت قبة البرلمان أو في الصحافة الحرة سيتيح إعادة تكوين الأقليات والأكثريات على أساس المواقف السياسية وعلى أساس تصورات السوريين عن كيفية بناء المستقبل، وليس اعتماداً على المنبت الطائفي أو القومي. نحتاج فيما أرى إلى أن نتجاوز العيش في الماضي (سواء بصفته مجيداً أو منبع مظلوميات)، ونحتاج إلى كبح محاولات تحطيم مستقبلنا بإخضاعه لهويات تجاوزها الدهر . ولكن قد لا يكون كل ما قلته ويقوله غيري في الوقت الراهن والمدى المنظور أكثر من محاولة تشبه العديد من المفاهيم والمشاريع الموؤودة.
هوامش:
1- أذكّر، على سبيل المثال بمقال عبد الله الأحمد، أحد قياديي حزب البعث بنسخته الأسدية،: “الأسد الخامس، مسيرة وتطلعات” والذي نشر في السفير البيروتية عام 1999، وقد جاء في المقال: “ تمنيت على رئيسه الأسد الرابع (المقصود حافظ الأسد في ولايته الرابعة) أن يختط منهاجا يجنبنا فيه طريق تيتو العظيم واقترحت أن يكون منهاجا يتابع خطى فرانكو وما هذا إلا مثال لما نحب وما نكره. ونشر عبد الله الأحمد مقالا واسعا في صحيفة “النهار” البيروتية في 3 حزيران/يونيو عام 2000، تحت عنوان: “ليلة القبض على محمود الزعبي” تداوله الناس على نطاق واسع في دمشق جمع فيه ما بين البيان السياسي، والرسالة المطولة والمقال الصحفي متوجها الى: (الرفاق أعضاء المؤتمر القطري التاسع) ، دعا الأحمد إلى تبني (الشرعية الدستورية) بدلا من (الشرعية الثورية). واشتهرت رسالة أنطون مقدسي إلى الرئيس بشار الأسد بعيد الاستفتاء الذي جرى كامتداد للاستفتاءات السابقة لاستمرار والده في منصب الرئاسة، والتي تطالب بتحول السوريين من رعايا إلى مواطنين، وفي عام 2006 أصدر محمد كامل الخطيب كتاباً بعنوان:”وردة أم قنبلة- إعادة تكوين سورية” خلاصته كما يقول الخطيب أن سورية مقبلة على إعادة تكوين فإما أن تكون دولة مدنية ديمقراطية علمانية لجميع مواطنيها، وإما أن تكون قنبلة موقوتة” ويضيف الخطيب في مقدمة كتابه: “مائة عام من العذاب” الذي صدر عام 2011: “آمل أن يعتبر هذا الكتاب تتمة للكتاب السابق، مع ملاحظة أن القنبلة انفجرت أو بدأت الانفجار (…) وهو ما كنت أخافه، وربما ما يخافه أكثرنا على ما آمل، إلا أولئك الذين يريدون تحويل الوردة إلى قنبلة …”
يعتبر دين رئيس الدولة ومصدر القوانين من بين نقاط الخلاف بين السوريين في صياغة الدستور السوري، ويرد ذلك في العديد من الكتابات، منها على سبيل المثال، مذكرات أكرم الحوراني التي جاء فيها:” وقد نشرت بعض الصحف، يوم 10 شباط بیانا طويلا للشیخ مصطفى السباعي، زعیم الاخوان المسلمین عرض فیه دواعي وضع مادة “دين الدولة الاسلام” في الدستور، وكان أبرز ما في ھذا البیان قوله “إننا لا نريد انقلابا في قوانینا الحالیة، وإنما نريد التقريب
2-بینھا في التشريعات المدنیة وبین نظريات الاسلام الموافقة لروح ھذا العصر ولأصدق النظريات الحقوقیة السائدة فیه، فإذا اتفق التشريع الاسلامي مع النظريات الحديثة فھل تجدون حرجا في الأخذ به تراثا قومیا عربیا تعتزون به وتفاخرون؟”. فعلق نجیب الريس صاحب جريدة “القبس” على ذلك قائلا: “ھذا ما قاله الشیخ مصطفى في بیانه ويتضح منه صراحة بأنه ھو ومن يقول بقوله لا يريدون سوى مجرد النص على دين الدولة فقط من غیر تطبیق ما يوجبه الاسلام من أحكام وشرائع وإقامة حدود”.. ثم وجه السؤال التالي للشیخ مصطفى : “ما دمتم لا تنوون تطبیق أحكام الدين الاسلا مي، فلماذا تصرون على وضع مادة في صلب الدستور تظل معطلة؟ ولماذا تثیرون البلاد وتوجھونھا بالوفود والمضابط؟ ألمجرد وضع نص فقط لا غیر”. (مذكرات أكرم الحوراني، الطبعة الأولى- دار مدبولي ، القاهرة، الطبعة الأولى،،2000 الصفحتان 1141-1142
3- بعد مقتل ابراهيم اليوسف، بزمن طويل أطلقت المعارضة المسلحة إسم: “غزوة ابراهيم اليوسف” على واحدة من أكبر معارك حلب. واختلفت تيارات المعارضة على إطلاق اسم اليوسف على المعركة، حيث رأى البعض أن اليوسف مجرم ارتكب مجزرة في حين رأى آخرون أنه “من رموز الجهاد السوري”.
4- عانى السوريون الأمرّين من التحرير الذي يعني سيطرة مسلحي المعارضة على منطقة ما، والتطهير الذي يعني عودة سيطرة النظام على تلك المنطقة. ناهيك عما تسبب به التحرير من دمار ونهب حتى على أيدي المحررين أنفسهم الذين اتهموا بتفكيك مصانع وبيعها للأتراك، أما “المطهرون” من أنصار النظام فلم يكتفوا بنهب البيوت والمحال التجارية في المناطق المطهرة (أطلق على هذه العمليات إسم تعفيش) بل قاموا بإحراق العديد من البيوت والمحال ، دون أي اعتبار لكون ما يحرق هو سوري في نهاية المطاف.
5- لم تنج الطوائف والمذاهب الأخرى (الاسماعيليون، الدروز، المسيحيون) التي تنوعت مواقف المتحدرين منها، بين مؤيد ومعارض للنظام. فقد كابد معارضو النظام الإهانات و(التعفيس والتعفيش) والاعتقالات بل والتعذيب حتى الموت من قبل شبيحة النظام أو مخابراته، وعانى العديد وبصرف النظر عن موقفهم من النظام أو المعارضة، بسبب تحدرهم من عائلات درزية أو اسماعيلية أو علوية من القذائف والاختطافات والقتل من قبل مسلحي المعارضة، فقد سقطت قذائف عديدة على بلدة سلمية حيث تقطن أغلبية اسماعيلية، وعلى السويدا حيث يقيم الدروز، أما المسيحيون فقد هوجمت بعض كنائسهم وقراهم من قبل داعش أو النصرة، وتمت دعوتهم للدخول في دين “الإسلام” أو دفع الجزية .
6- لقد استبشرنا خيراً في السنوات الأخيرة، حينما أدرجت الأغنية الأرمنية والآشورية(السريانية) في مهرجان مسابقة الأغنية السورية الذي يقام سنوياً في -حلب، وكان المنتظر توسيع هذه المشاركة وتطويرها وإدراج الأغنية الكردية والشركسية في هذا المهرجان، لكن بالرغم من تواضع هذه الخطوة في مسيرة الانفتاح على الثقافات المحلية والتراث السوري المتنوع، كانت المفاجأة حرمان الأغنية(الأرمنية والسريانية) من الاشتراك في المهرجان الثامن والتاسع لعام 2002 و2003. من محاضرة ألقاها سليمان يوسف يوسف بعنوان:(سوريا وإشكالية الهوية الوطنية) في مدينة القامشلي، 8/1/2004.
بواسطة Bassam Haddad | مارس 26, 2018 | Cost of War, غير مصنف
مع دخول الانتفاضة السورية في هذا الشهر عامها الثامن قُتل أكثر من أربعمائة ألف سوري ودُمِّر أكثر من ثلث البنية التحتية للبلاد، وهُجِّر نصف السكان من منازلهم وعانت بلدان أخرى من الضغط الناجم عن لجوء ملايين السوريين الهاربين من القتال إليها كما يقول بسام حداد، مضيفاً أن ما بدأ كتمرد ضد الدكتاتورية في٢٠١١ صار مرجلاً للتدخل الإقليمي والدولي. فإلى جانب الولايات المتحدة، انخرطت روسيا وإيران والعراق وتركيا وقطر والمملكة العربية السعودية وحزب الله في دعم طرف أو آخر. وسيطر تنظيم الدولة الإسلامية على أكثر من ٤٠٪ من مساحة البلاد. وقد طُرِدَ تنظيم الدولة أخيراً من معظم معاقله على يد تحالفات عسكرية مختلفة بعد معارك شرسة في خريف ٢٠١٧.
وفي العام الثامن من الصراع على سوريا، والذي يذكّر بأهداف مشابهة قبل عقود، ما تزال البلاد تعاني من الاضطراب السياسي الداخلي والتدخلات الخارجية والمعارك بين تركيا والأكراد وتقع على عاتقها مهمة هائلة لإعادة بناء ما دمرته الحرب.
أما الهجوم القائم والمتواصل على الغوطة، الذي يشنه النظام وروسيا، فينذر بمزيد من الأهوال القادمة على صعيد خطط النظام السوري حيال الأجزاء الأخرى من البلاد التي ليست تحت سيطرته.
يتحدث بسام حداد ل”سبيكترم” عن كلّ هذه المسائل، ويضع الصراع في سياقه التاريخي منذ بداية الانتفاضات، ويناقش التحديات الحالية التي تواجه سوريا والسوريين.
بسام حداد باحث وأستاذ جامعي ومؤلف ومخرج أفلام وثائقية. ويحمل كتابه الثاني العنوان المؤقت “فهم المأساة السورية: النظام، المعارضة واللاعبون الخارجيون”، والذي سيصدر عن مطبعة جامعة ستانفورد. كما كان بسام منتجاً مشتركاً ومخرجاً للفيلم الوثائقي الحاصل علي جوائز ويحمل عنوان “عن بغداد”، كما أخرج الفيلم المعروف والمشاد به، “العرب والإرهاب.”
توم هودسون: أهلاً بك في سبيكترم. تبث سبيكترم محادثات مع مجموعة مختارة من الأشخاص، بعضهم مشهور وبعضهم الآخر غير مشهور. واليوم نتحدث مع بسام حداد، مدير برنامج الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية في جامعة جورج ميسون. وهو عضو أساسي في الهيئة التدريسية في هذه الجامعة في الفلسفة والسياسة والاقتصاد. ويعمل على كتابه الثاني عن سوريا وصراعاتها الداخلية.
يحدثنا الدكتور حداد عن الصراعات المسلحة في سوريا وخاصة منذ هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية والصراعات المتواصلة في البلاد التي مزقتها الحرب.
نص الحوار
توم هدسون: هل يمكن أن تشرح لنا لماذا الوضع في سوريا غامض ومحيّر لأي شخص من الخارج؟
بسام حداد: أولاً، شكراً لكم لاستضافتي. ويسرّني أن أتحدث عن هذا الموضوع، وأود أن أجيب عم سألتني عنه من خلال قول شيء مختلف قليلاً وهو أنه إذا كنت تتابع الأخبار عن سوريا، أو كلما تابعتها في الحقيقة، أَصْبَحْتَ أكثر تشوشاً. وهكذا إذا كنتَ مُشوَّشاً فلربما كان السبب هو أنك تتابع الأخبار. أما الذين لا يتابعون الأخبار فيمتلكون على الأرجح وجهة نظر كلاسيكية عن الوضع، أي أنهم يفهمون أن هناك انتفاضة في سوريا ضد الدكتاتورية، وهذا صحيحٌ من زاوية السرد الأساسي. لكن الأمر تجاوز هذا في الحقيقة. ويمكن أن يتفاجأ الناس من أن مسار الانتفاضة السورية هو في الواقع أحد المسارات الأكثر تعقيداً بين الانتفاضات والثورات. لا أعني هنا أن الانتفاضة تفتقر للشرعية، فقد كانت شرعية بشكل كامل ومتأخرة نوعاً ما نظراً للأربعين عاماً أو أكثر من الدكتاتورية، لكنني أقول هذا بسبب ما حدث للانتفاضة نتيجة تدخل لاعبين إقليميين ودوليين مختلفين على الجانبين، وقد نجحت هذه التدخلات في خطف الانتفاضة وتحويلها إلى حرب بالوكالة تخدم مصالح جهات فاعلة حكومية وغير حكومية تدعم أحد الطرفين، أي النظام من ناحية والمعارضة أو المعارضات من ناحية أخرى. وبالطبع هناك اللاعب الثالث في حلبة الملاكمة، والذي جعل الأمور أكثر تعقيداً، وأعني تنظيم الدولة الإسلامية، وهو تنظيم لم تكن تهمه ثورة ضد الدكتاتورية أو أهداف الديمقراطية بل كسب الأراضي والتوسع الإقليمي في كلٍّ من العراق وسوريا كي يشيد نسخته من دولة الخلافة أو الدولة الإسلامية.
توم هودسون: إذاً دخل تنظيم الدولة في حوالى ٢٠١٣، هل كان هذا هو التاريخ؟
بسام حداد: كان للتنظيم حضور في العراق بشكل أساسي، وحدثت عدة تطورات أيضاً، فقد سمحت الحدود السورية (التي يسهل اختراقها) بدخول ما يُدعى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق إلى سوريا، والذي عقد تحالفاً في البداية مع جبهة النصرة، والتي هي فرع للقاعدة في سوريا. لكن الأمر لم يسر جيداً. ثم نشأ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام ضمن هذا السياق بين ٢٠١٣ و٢٠١٤.
توم هدسون: كان هدف تنظيم الدولة في سوريا إذاً هو الاستيلاء على الأراضي والتوسع الإقليمي، أي لم يكن فقط حركة إيديولوجية، بل حركة تهدف للاستيلاء على الأراضي.
بسام حداد: تماماً، وهذا ما ميز تنظيم الدولة الإسلامية عن القاعدة. كان هدف تنظيم الدولة بالفعل هو التوسع الإقليمي، وقد أراد أن يؤسس دولة من نوع ما بجماعات وتحتوي على متكآت الدولة من قضاء وبيروقراطية وجيش وهلمجرا. وهدفَ التنظيم إلى تأسيس دولته في كلّ من سوريا والعراق، والواقع أنه سيطر في نقطة ما على ٣٠٪ من العراق وعلى ما يقارب ٤٥٪ من مساحة سوريا. ونتحدث هنا بشكل رئيسي عن المدن غير الحضرية لأن تنظيم الدولة الإسلامية كان مجهزاً بشكل أفضل كي يستولي ويسيطر على المدن غير الحضرية نظراً أيضاً لوجود جيوش أكثر تجهيزاً في المدن الحضرية لكن البنية الاجتماعية في المناطق الأكثر ريفية كانت ملائمة أكثر كي تسيطر عليها مجموعة كتنظيم الدولة بإيديولوجيتها ونزعتها المحافظة اجتماعياً وغير ذلك.
توم هدسون: وصارت الموصل محوراً، بؤرة لتنظيم الدولة، أليس كذلك؟
بسام حداد: في الحقيقة كانت الموصل المدينة الحضرية الوحيدة في كلا البلدين التي تمكّن تنظيم الدولة الإسلامية من السيطرة عليها. وقد سيطر عليها بطريقة مريبة، لأنه لم تحدث معركة في الموصل، بل دخل إليها عناصر التنظيم فحسب، وكان السبب هو السخط الشعبي في الموصل من الحكومة من ناحية والافتقار للجاهزية لدى القوات الحكومية أو للوجود الرسمي للحكومة العراقية في الموصل من ناحية أخرى. حدث هذا في ٢٠١٤، وكان هذا هو التوسع الإقليمي (كسب الأراضي) الأكثر أهمية لتنظيم الدولة في المناطق الحضرية، أضف إلى ذلك ولايتها أو دويلتها في الرقة في شمال سوريا الريفي.
توم هدسون: لنلخّص الأمور حتى هذه النقطة التي وصلنا إليها، ثم يمكنك أن تواصل. لدينا نظام الأسد الذي يحاول البقاء في السلطة ضد مجموعات مختلفة من المتمردين الذين لم يندمجوا في قوة واحدة. ثم لدينا دخول تنظيم الدولة الإسلامية، الذي قاطع المعركة بين الطرفين، ودخل طرف ثالث في هذا الصراع. والآن يُقال إن تنظيم الدولة طُردَ. هل أخرجه نوع من الهدنة …أو كيف تم طرد تنظيم الدولة والطرفان الآخران ما يزالان يتقاتلان؟
بسام حداد: اسمح لي أن أعود إلى البداية، حين يتحدث المرء عن سوريا يواجه كثيراً من التفاصيل الغنية والمثيرة ثم بعد ذلك عليه أن يعود إلى البداية. إن السرد عن سوريا مثير للجدل دوماً، ولا يوجد سرديات عن سوريا لم تُجادَل. ما أريد قوله لك هو بعض السرديات الأساسية التي يصعب جداً مجادلتها، حتى من قِبل آراء مختلفة، لكنها ستبقى قيد الجدل إلى حد ما. أعتقد أن الأمر الأكثر أهمية الذي يجب أن نعرفه عن الوضع السوري هو أن سوريا حكمتها دكتاتورية منذ ١٩٧٠ أو ١٩٦٣ بحسب التاريخ الذي تريده، لكننا نستطيع القول من أربعة إلى خمسة عقود. لا يعني هذا أن الفترة السابقة للدكتاتورية كانت وردية، إنما يعني أنه كان لدينا فقط نوع خاص من الدكتاتورية في ظل حزب معين حكم منذ ١٩٦٣ ثم واصل حكمه في ١٩٧٠ حين استولى الأسد الأب على السلطة. إن هذه الخلفية من وجهة نظري هي السياق الذي يحدث فيه كل شيء. فبعد ٤٠ سنة من الدكتاتورية لا نستطيع توقع انتفاضة تقوم بها الملائكة، كما لا نستطيع توقع وقوف حلفاء الدكتاتورية مكتوفي الأيدي. ولا نستطيع توقع أن معارضة هذه الدكتاتورية ستدعمها جهات فاعلة حكومية أو غير حكومية ملائكية. وهكذا رُتِّب الموقف منذ البداية لجذب حلفاء وداعمين إشكاليين ومقاتلين أجانب كما هو الحال لدى تنظيم الدولة ومجموعات أخرى. وهكذا لدينا موقف حدثت فيه انتفاضة شرعية في سوريا في ٢٠١١، أثارتها الانتفاضات الأخرى وإلى حد ما النتائج السريعة في تونس ومصر، وكانت هذه الانتفاضة مدنية الطابع وسلمية، لكن تطورات مختلفة عرقلتْها. وكان التطور الأول الذي عرقل هذه الانتفاضة ضد الدكتاتورية، والتي تحولت كما قلتُ إلى حرب بالوكالة، هو تسليحها وعسْكرتها. وهذا غيَّر طبيعة الموقف وقدّم للنظام المتوحش الذي سحق حتى أصوات الاحتجاج المدني الذريعة كي يصبح أكثر تعمداً في فعله لهذا وصعّد من عنفه بحجة أن الانتفاضة ليست متمدنة أو مدنية، وبدأ هذا يغيّر طبيعة الانتفاضة وحوّل الصراع من انتفاضة ضد الدكتاتورية إلى نوع من الحرب، وقام عدد كبير من الأشخاص الداعمين للانتفاضة بتشكيل مجموعات مختلفة دُعمت بسرعة لا عسكرياً فحسب بل سياسياً أيضاً من الخارج. وأنشأ هذا موقفاً كالحرب منح ضوءاً أخضر، من منظور النظام، للهجوم بشكل أكثر وحشية على المحتجين وكذلك على جيوش المتمردين. وأدى هذا إلى تغيير السياق من انتفاضة ضد الدكتاتورية إلى حرب بالوكالة حاولتْ فيها مجموعات مختلفة تقوم بدعم الطرفين استخدام سياق الانتفاضة لتحويل المنطقة أو لإعادة رسم خريطتها بشكل يتناسب مع مصالحها، وافترض كلُّ طرف أنه سيكون المنتصر.
إن مأساة الوضع السوري هي أنه لا يوجد منتصرون ولعدة سنوات الآن. هناك ضحايا فقط، والمحزن أن الضحايا هم أغلبية السكان السوريين الذين استنفدهم كل ما يجري. وهم لا يدعمون بالضروروة المنطقة أو القيادة التي يعيشون في كنفها لأنهم على مستوى الأرض مُحْتَجزون في منطقة معينة. وأنتَ سترضخ للمكان الذي أنت فيه في معظم الأحيان إلا إذا كنت قادراً على الهرب، أو أصبحت لاجئاً كغالبية السوريين. وما أريد قوله هنا هو أن إعياء غالبية السوريين جعلهم ينسحبون من الصراع، لكن ليس بطريقة حيادية. وأعتقد أن غالبية السوريين، الغالبية الساحقة منهم، يريدون تغييراً في سوريا، ويريدون زوال هذا النظام. وما صار أكثر تعقيداً (وهذا ما لا يفهمه كثيرون) هو أن الرغبة بالبدائل ضعفت. ولا يعني هذا أن النظام صار أكثر جاذبية، بل أن البدائل، نظراً لما يحدث على الأرض، ولطبيعة قوة التمرد، تغيرت من قوة عسكرية مدنية أرادت بديلاً أكثر تقدمية إلى قوة تمردية تستند إلى صيغ لا تلبي بالضرورة تطلعات الثوريين، وأعني هنا الثوريين الأصليين في سوريا. وفي هذا السياق، حاولت جهات فاعلة مختلفة حكومية وغير حكومية ومحلية وإقليمية ودولية الاستفادة من هذا الخلل كي تصفّي حسابات وتخدم مصالحها الخاصة، سواء كانت هذه الجهات المعسكر المؤيد للمعارضة متمثلاً بدول كالسعودية وقطر وتركيا والولايات المتحدة، أو المعسكر المؤيد للنظام متمثلاً بإيران وروسيا وحزب الله، والصين حين يتعلق الأمر بالعلاقات الدبلوماسية. وهذا أدى في نهاية المطاف إلى تحرر من الوهم لدى معظم السوريين حيال من يدعمون، وأكرر أن هذا ليس بسبب الافتقار لإيمانهم بضرورة رحيل النظام، لكن بسبب افتقارهم لليقين بأن البديل الموجود على الأرض هو الأمثل.
توم هدسون: صارت الانتفاضة المدنية صراعاً دولياً، وجعل هذا التدخل العالمي الناس يتسآلون: أية مصالح ستسود وأية بلدان ستتدخل، صحيح؟
بسام حداد: صحيح، وهذه هي المأساة التي نصادفها بالفعل سنة بعد أخرى واليوم. وهكذا إذا كنت تريد النظر إلى السياق الأكبر، إذا أردت بناء نظرة شاملة ستجد أن الانتفاضة السورية التي بدأت في آذار ٢٠١١ مرت في طورين ينطوي كلٌّ منهما على مراحل مختلفة. كانت المرحلة الأولى، كما قلتُ، هي انتفاضة مدنية تحولت إلى انتفاضة عسكرية ثم إلى حرب بالوكالة. وهكذا فإنها مثلت مراحل داخل الطور الأول انتهت في كانون الأول\ديسمبر حين تمكّن النظام من إعادة السيطرة على مدينة حلب كلها مما أدّى إلى استيلاء النظام على كل المدن الحضرية أو إعادة الاستيلاء عليها، وهنا لا تهم اللغة التي يستخدمها المرء، لأن النظام سيطر عليها في الحقيقة سلفاً. والنقطة هنا هي أن هذا أنهى الحرب في سوريا من وجهة نظري. بتعبير آخر، إن الذين أرادوا إسقاط النظام، سواء كانت نواياهم جيدة أو سيئة، وسواء كانوا يكترثون بالشعب السوري أم لا، أو كانوا يريدون الإطاحة بالنظام لسبب أو آخر، فإن هذا الهدف انتهى، لأن النظام نجح في السيطرة على معظم ما يُدْعى بسوريا المفيدة في كانون الأول\ديسمبر ٢٠١٦. أما الطور الثاني فهو ما بدأ بعد هذه السيرورة، وأعني الانتقال من حرب على سوريا إلى عدد من الحروب الصغيرة داخل سوريا جسّدت على الأقل هدفين: إما تحقيق أهداف بلدان معينة كتركيا في حربها ضد الكرد، أو الاستيلاء على ما تبقى من سوريا من قبل النظام، وهاتان هما الديناميتان الرئيسيتان في سوريا اليوم، بصرف النظر عن ديناميات أخرى تعمل. وما جعل هاتين الديناميتين مهيمنتين خاصة اليوم في ٢٠١٨هو التراجع الدرامي لتنظيم الدولة الإسلامية في العام الماضي، والذي أعتق معظم اللاعبين الذين تعاونوا بالفعل معاً، بالرغم من أنهم كانوا يعارضون بعضهم في كل شيء آخر لكنهم في الحقيقة عملوا معاً وربما يحب ألا أقول إنهم عملوا معاً بل كان لهم هدف مشترك هو إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية.
توم هدسون: كان هذا هو العدو المشترك.
بسام حداد: كان تنظيم الدولة الإسلامية عدواً مشتركاً وكانت له معارضة متشابهة سواء أكانت الولايات المتحدة، النظام السوري، الإيرانيون والروس أو المعارضة، وعلى الأقل في بعض الحالات، هناك نوع من الفائدة في إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة لكن دون القضاء عليه نهائياً لأن هذا يمكن أن يُسْتخدم كورقة في مواقف مختلفة في المستقبل. وهذا نوع من التخمين لكن هناك ما يكفي من الأسباب للاعتقاد أنه لا توجد نية للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية بشكل كامل في الأجزاء الصغيرة المتبقية في سوريا. وهنا ندخل في الطور الثاني من الانتفاضة السورية، حيث لم يعد لدينا حرب للاستيلاء على الحكومة المركزية في سوريا، على الأقل لا يوجد شيء من هذا القبيل، وصار لدينا حروب أكثر صغراً وتبعثراً تمثل مصالح بلدان مختلفة تستخدم سوريا لتصفية حسابات أو لمنع تطور صراع أو تهديد كما في حالة تركيا والأكراد.
إن الغزو التركي داخل سوريا، والذي يحدث اليوم في مدينة عفرين السورية، يهدف إلى هزيمة وتفكيك وحدات حماية الشعب، وهي تنظيم كردي متهم بامتلاك صلات مع حزب العمال الكردستاني، الحزب الانفصالي الذي حاربه الأتراك لسنوات. وتتهم تركيا الحزبين بأنهما إرهابيان. وتحاول تركيا القيام بهذا لأنها تريد تأمين حدودها الجنوبية وهي في صراع الآن مع مجموعات وجهات فاعلة أخرى تنظر إلى هذا كانتهاك للسيادة، بما فيه النظام السوري، الذي تشارك ميلشياته، أو الميلشيات المؤيدة له، في القتال. وهكذا لدينا موقف معقد جداً في هذا الخصوص، وتتكشف الأحداث في الحقيقة عن خسائر كبيرة جداً مني بها الأكراد في عفرين، ومني بها الأتراك أيضاً الذين لم يتمكنوا من التقدم بسرعة كما أرادوا. ومن ناحية أخرى يحاول النظام إعادة السيطرة على أجزاء مختلفة من سوريا استولى عليها المتمردون في السنوات السبع الماضية. ونرى المأساة تتكشّف اليوم في شرق دمشق، في منطقة الغوطة، حيث يهاجم النظام والروس منطقة فيها ٣٨٠٠٠٠ نسمة حُوصروا لسنوات بذريعة مهاجمة دمشق بالصواريخ ومزاعم انتشار الجماعات الإرهابية في الداخل. وبالطبع تُسمى كل الجماعات إرهابية لأنها عدو، أو يصبح العدو إرهابياً بصرف النظر عن دقة التسمية. وهذه المحاولة الأولى الآن بعد حلب لاستعادة إحدى المناطق الاستراتيجية الرئيسية. وقُتل في الغوطة حتى الآن من ٦٠٠–٧٠٠ مدني، رغم أن النظام يزعم أن معظمهم عسكريون أو مقاتلو ميليشيات، ويبدو أن الخطوة التالية في هذه الحملة ستكون مرتع المعارضة المتمردة الذي تسيطر عليه هيئة تحرير الشام في الشمال، وأعني محافظة إدلب. ويُشاع أن الغوطة هي إما أرض التدريب أو الخطوة الأولى للدخول إلى تلك المنطقة، ولأن هذا هو المعقل الرئيسي الوحيد للمعارضة المجهزة جيداً بالمعنى العسكري. وبالطبع يضع النظام نصب عينيه أجزاء أخرى من البلاد بما فيه الجنوب، والذي هو مستقر كثيراً بسبب عدم وجود سلطة عسكرية واحدة تسيطر على ذلك الإقليم، رغم أنه تحالف محصور أو مقيد باتفاقيات عديدة وقعتها سوريا والأردن وإسرائيل ويحدد هذا أي نوع من التحركات التي يمكن أن تحدث هناك. وبالطبع لدينا مسألة مهمة وهي الصراع السياسي الكامن المحتمل بين النظام السوري والأكراد، وقد تدرجت علاقة الطرفين بين الصداقة والعداوة. كان الطرفان صديقين في نقطة معينة وقاتلا نفس الأعداء رغم أنهما في الحقيقة متعارضان بنيوياً وإيديولوجياً. لكن الطرفين لم يدخلا في حرب كاملة. وأحد الأسباب يتعلق بالاقتصاديات، بما أن الأكراد يسيطرون على أكثر من ٦٠٪ من حقول النفط في سوريا.
توم هدسون: ما قلته يساعدنا في فهم ما يجري في المنطقة هناك والديناميات التاريخية. لكن يبدو لشخص من الخارج أن السياسة الأميركية الخارجية إزاء سوريا كانت في حال تغير دائم، ومشوشة وغير متناسقة. هل هذا تشخيص صحيح؟
بسام حداد: من وجهة نظر أشخاص يعيشون في الولايات المتحدة مثلك ومثلي، يمكن أن يبدو كأن هناك تردداً. وقد يبدو أن هناك نوعاً من التشوش فيما يتعلق بما يمكن أن يُفْعل في سوريا. لكن في الحقيقة، ليس التشوش كبيراً. إن مظهر التشوش واضح وملموس لكن الولايات المتحدة شهدت في ظل إدارة أوباما، وعلى نحو مثير للفضول في ظل إدارة ترمب، تغيراً درامياً في السياسة إزاء سوريا. وسُمع كلام عن خلاف لكن في الحقيقة إن الولايات المتحدة تعمل على أساس مصالحها القومية عادة، التي هي بالأحرى مستقرة. وكانت النقطة الوحيدة الأكثر أهمية للإدارة الأميركية دوماً هي أن الجائزة في سوريا ليست عالية. بالتالي نحن لسنا أمام صراعٍ عائداتُه وجوائزه واضحةٌ ويمكن الحدّ من تكاليفه. وكان هذا عنصراً محورياً في الموقف الأميركي حيال سوريا. ويتعلق العنصر الآخر بمدى رغبة الجمهور الأميركي والجيش الأميركي والحكومة الأميركية بالدخول في حرب شاملة في سوريا بشكل عام. وهذا يرشح بالطبع بالمشكلات التي حدثت في العراق. وحين نتحدث عن مشكلاتنا لا نعترف بالكارثة التي حلت بالعراقيين، لكن ما مرّت به الولايات المتحدة في العراق خفّف من رغبتنا بالحرب، سواء في سوريا في ٢٠٠٥ حين كان البعض يدعون لضربها أو الرغبة القائمة للحرب مع إيران حيث يوجد وسيكون هنا دوماً دعوات، لكن أنت تعرف الإدارة، حتى هذه الإدارة رغم لغتها المتشددة فإنها تقارب مسألة الحرب بحذر شديد. وهكذا فإن الرغبة بالحرب في المنطقة أو الحرب الشاملة ليست مرتفعة. إن العامل الثالث الذي يسمح لنا بفهم السياسة الخارجية الأميركية بعيداً عن الحركة اللولبية أو البلاغة هو المزج بين الاثنتين لمعرفة السياق في سوريا. إن أحد أسباب عدم نجاح الانتفاضة، هو أن جميع الداعمين للانتفاضة السورية، انتفاضة الديمقراطية، إن لم يكن معظمهم، ليسوا داعمين حقيقيين لانتفاضة من أجل الديمقراطية، وإنما كانوا يراهنون على إسقاط النظام من أجل مآرب تخدم مصالحهم. وأنشأ تزامن الرغبة بالإطاحة بالدكتاتورية مع تطلعات الغالبية الساحقة للسوريين تحالفاً كان هشاً جداً بين الانتفاضة، إن شئت، والقوى الخارجية. وعلى أي حال، ما عرفته الإدارة الأميركية السابقة هو أن هذا القتال، أو الصراع، بالنسبة للنظام وحلفائه، هو صراع وجود، بينما هو بالنسبة لداعمي المعارضة صراع استراتيجي يستطيعون الانسحاب منه في أية لحظة حين يصبح التهديد أو الخطر أعلى من عتبة معينة، وهذا ما حدث في حالة قطر والسعودية اللتين كانتا مؤخراً تتجادلان بين بعضهما حول من أخطأ في التعامل مع سوريا والمتمردين السوريين ومن سلّح أية جماعات ورَدْكل الوضع في سوريا أو الانتفاضة.
توم هدسون: صارت هذه نقطة خلاف بين الطرفين.
بسام حداد: صحيح. وسحب البلدان الدعم الوفير إلى حد كبير لكن ليس بشكل كامل. ولم تعد تركيا ترغب بجعل حدودها مفتوحة وسهلة الاختراق للمقاتلين والمتسللين بعد أن دخل عبرها آلاف المقاتلين كي يخوضوا “حرب الخير”، وتورطت في مشاكل مع الإسلاميين أو تنظيم الدولة الإسلامية الذين بدأوا بالتفجيرات في تركيا. وبالتالي ضغطت تركيا على المكابح في لغتها ضد النظام السوري وتسهيلاتها لقوى مختلفة تقاتل النظام وللجهات الحكومية واللاحكومية الفاعلة وكذلك للمقاتلين الأفراد الأجانب. وصارت تركيا أكثر انخراطاً في المسألة الكردية. أما الولايات المتحدة فلا مصلحة لها بالمقارنة مع إيران وحزب الله والروس الذين دخلوا بقوتهم الكاملة وفعلوا ما لم تكن الولايات المتحدة بالضرورة راغبة بفعله وأعني وضع كل طاقتها ضد تنظيم الدولة الإسلامية، بالرغم من أن الروس فعلوا هذا أيضاً كغطاء لمساعدة النظام في استئصال المتمردين المتبقين باسم محاربة الإرهابيين دون التمييز بين المجموعات الإرهابية المعارضة للنظام والمجموعات التي لا تحب تنظيم الدولة الإسلامية.
توم هدسون: سواء كنت من تنظيم الدولة أو متمرداً فأنت عدو للدولة وهكذا لا فرق بينكما–
بسام حداد: وحدث نوع من التلاعب من قبل الروس بحيث أنهم صنّفوا هذه الحركات في خانة واحدة مثل جبهة النصرة والتي هي في معظمها سورية وتقاتل النظام، بخلاف تنظيم الدولة الإسلامية والذي هو غير سوري وغير مهتم بالثورة في سوريا، بل أكثر اهتماماً بالتوسع الإقليمي وكسب الأراضي في العراق وسوريا وإنشاء دولة خاصة به تعارض كل ما يريده المتمردون، بما فيه الذين يقاتلون. وبطريقة ما، كان استعداد الولايات المتحدة للقيام بفعل ما كإنشاء منطقة حظر طيران والالتزام بإرسال قوات برية (هناك بعض القوات على الأرض) منخفضاً جداً لدى إدارة أوباما، لتلك الأسباب الثلاثة التي ذكرتها وواصلت انخفاضها في إدارة ترامب باستثناء واحد وهو: هل سيحدث حدث يدفع الأمور للخروج من السيطرة في سوريا؟من المرجح أكثر أن ترد إدارة ترامب بطرق لن ترد بها إدارة أوباما.
توم هدسون: إذا نظرنا إلى البلاد، على الأقل في الصور التي ترافق نشرات الأخبار سنرى أن سوريا مدمرة، فقد دُمرت البنى التحتية والأبنية والخراب واسع الانتشار، على الأقل في بعض المدن والمناطق التي يقاتلون فيها. كيف سيُبْنى هذا؟ ومن سيساعد في دفع فاتورة إعادة الإعمار؟
بسام حداد: ألقيتُ مؤخراً محاضرة في جامعة كاليفورينا بلوس أنجلوس وفي جامعة جورج تاون تناولت هذا الموضوع بالتحديد، وأعني مسألة إعادة الإعمار والمصالحة واحتمال السلام. إن الحقيقة المؤسفة والمخيفة هي أن المشكلة في سوريا، على عكس ما يظنه كثيرون، خاصة في المجموعة الدولية التي تبحث عن نقاط دخول مربحة إلى سوريا، هي أن المشكلة في سوريا ليست مشكلة الدمار. بالطبع الدمار عنصر في المشكلة، لكن الأمور مغلفة بخصومات سياسية عميقة وعقود من القمع وعوامل أخرى متعددة بالتالي فإن الحل ليس مجرد إعادة بناء.
إن الدمار جلي، وفضلاً عن الأربعمائة ألف سوري الذين قُتلوا، لدينا بالطبع مليون شخص أصيبوا بإصابات خطيرة، ولدينا مئات الآلاف من العاجزين، ودُمر على الأقل ثلث البنية التحتية، ودُمرت المدارس المختلفة، والمراكز صحية والمستشفيات، وذلك بسبب القصف الذي قام به النظام والروس إلى حد كبير وفي مناطق المتمردين. وهُجِّر أكثر من نصف السكان السوريين الذين يبلغ عددهم ٢٤ مليوناً. وهُجِّر حوالى النصف أو أقل من النصف بقليل من سوريا إلى بلدان أخرى كلبنان وتركيا والأردن وبلدان مختلفة كمصر وأوربا، وهلمجرا. ثم هُجِّر البقية في الداخل. ولدينا أيضاً كمية معتبرة من الأذى الذي ليس مرئياً، والذي يتحدث كثير من الناس عنه، وهذا تطور خطير جداً في سوريا، وأعني المسائل السيكولوجية، وكما تعرف نحن نتحدث هنا عن مآسينا الخاصة، مآسينا الصغيرة كمثل إطلاق النار في المدارس. ويمكن أن تتخيل الصدمة التي تصيب بعض الأشخاص الذين لم يشهدوا مباشرة ما حدث. لكننا نقلق عليهم ونضع صورهم على شاشة السي إن إن، ونتحدث مع الأشخاص الذين صُدموا لمجرد وجودهم على أرض المدرسة حين حدثت الجريمة. وهكذا تستطيع أن تتخيل بعد سبع سنوات من الموت والدمار مدى الصدمة في سوريا. ثم هناك عواقب تنموية. لم يحصل الناس طيلة سبع سنوات على التعليم الملائم في بلاد معتادة على وجود تعليم كامل. وهكذا لدينا سبع سنوات معتمة في حياة كثير من الناس، ليس الكل، لأن التعليم تواصل في أمكنة متفرقة. أما بالنسبة للقوة العاملة فقد فقدت سوريا قوة عمل هائلة تمتع بمهارات وتقوم بأعمال جيدة الآن في ألمانيا وأمكنة أخرى بما أنها قادرة على استخدام مهاراتها. وقد جُردت سوريا من جميع أنواع الكرامة والموارد. وحصل أذى عميق.
إن إعادة الإعمار لا يمكن أن تتواصل أو أن تبدأ بشكل ملائم دون صيغة ما لتحقيق لا السلام فحسب، بل وحدة الأراضي. فهناك على الأقل أربعة أقسام رئيسية مستقلة أو شبه مستقلة في سوريا: النظام الذي يملك القسم الأكبر الآن، والأكراد الذين يملكون ثاني أكبر قسم في معظم شمال وشمال شرق سوريا، ثم بالطبع المعارضة التي تمتلك بعض المعاقل في الشمال في إدلب وحول دمشق وبعضها في الجنوب، وتنظيم الدولة الإسلامية الذي يتركز في شرق سوريا في بقع أصغر من الأرض ويحاول الآن إنهاء أعماله وتهريب الأسلحة والأشخاص والنقود. إن إعادة البناء دون وحدة أراضي ستكون إعادة بناء مبعثرة ولن تخدم الإنسان السوري العادي. وقد بدأت إعادة البناء في الحقيقة في سوريا، في المناطق التي يسيطر عليها النظام، حيث باشروا بالفعل في إعادة بناء معتبرة. لكن إعادة البناء هذه لا تهدف كما يرى أفضل المحللين والباحثين الميدانيين إلى خدمة السوريين الذين فقدا حيواتهم ومنازلهم، بل تهدف أكثر إلى تدعيم الدولة وتقدم السكن للناس الذين يستطيعون الدفع مقابله. وإنه لمأساوي أن معظم الناس الذين فقدوا منازلهم وهُجروا داخل وخارج سوريا لن يكونوا قادرين على العودة إلى تلك المناطق. وإذا كانت هناك خطة لإعادة بناء سوريا، سواء بدعم من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي أو من الصينيين أو الإيرانيين أو الروس أو الولايات المتحدة أو المؤسسات الدولية المختلفة كمثل الأمم المتحدة أو برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وهلمجرا، فإن السؤال هو: مع من سيعقدون هذه الصفقات؟ إذا كانوا سيعقدونها مع النظام فإن إعادة البناء ستحدث إذاً بحسب مصلحة النظام وشركائه المباشرين، وليس لمصلحة معظم السوريين الذين فقدوا حيواتهم ومنازلهم. وإذا كانوا سيعقدونها مع آخرين فإن المرء لا يعرف كم سيبقى هؤلاء في مواقعهم. إن متمردين مثل هيئة تحرير الشام في شمال سوريا، التنظيم الذي لا يحبه معظم السوريين غير قابلين للدعم. أما الأكراد فمستقبلهم متزعزع، وبالطبع تنظيم الدولة الإسلامية ليس منافساً، وهكذا فإن أفضل سيناريو هو: يقدم النظام نتائج غير مرغوبة وتنطلق من هنا.
توم هدسون:سيصدر لك كتاب جديد قريباً، الكتاب الثاني عن هذه المنطقة.
بسام حداد: لا أستطيع القول إنني أنهيتُ الكتاب، كلما حاولتُ أن أنهي جزءاً تطورت الأمور وحدثت أشياء ليست قليلة أيضاً. وحين حاولت في ٢٠١٣ أن أنهيه بزغ تنظيم الدولة الإسلامية. وقد كنتُ مشغولاً بما يكفي ومحظوظاً بما يكفي أنني لم أنهه. والآن أنا أعمل عليه. كان كتابي الأول حول التواطؤ بين النظام وأقطاب الأعمال الكبار في سوريا، هذا التواطؤ الذي قاد بالفعل إلى تدهور الاقتصاد السوري وإلى الاستقطاب الاجتماعي الدرامي في سوريا والذي شكل خلفية الانتفاضة. يواصل كتابي الثاني القصة التي بدأت في الأعوام العشرة الأولى من حكم بشار الأسد الذي بدأ في عام ٢٠٠٠ ويبين إلى أي مدى فاقمَ حكمهُ السخط الشعبي ونصب خشبة المسرح لانتفاضة تأخرت كثيراً. ويعالج الكتاب ديناميات الانتفاضة السورية من خلال دراسة تعقيدها الشديد، ولماذا هي أكثر تعقيداً من الانتفاضات الأخرى في المنطقة نفسها، في مصر وتونس وليبيا واليمن والبحرين. ويدرس الكتاب الدور الإقليمي المحوري لسوريا وكيف هو في محور صراعات مختلفة متزامنة: محلية وإقليمية ودولية. ثم يعالج تحول الانتفاضة إلى شيء لم يعد يشبه العواطف الأصلية للانتفاضة و محاولات تطويل الانتفاضة بما فيه ما دُعي ب“الحرب الاقتصادية” التي استفاد منها جميع المتمردين والمقاتلين والدول. ويفسر الكتاب نوعاً ما وإلى حد ما لماذا هناك اهتمام قليل إقليمياً ودولياً بإنهاء الحرب، لأن هذا الاقتصاد أفاد لاعبين مختلفين غير مهتمين في الحقيقة بالثورة من كل الأطراف. ويعالج الكتاب ديناميات الانتفاضة بمعنى أنه يساعدنا في فهم تشكل وإعادة تشكل وتقوّض تحالفات ومجموعات مختلفة في المعارضة. وبدلاً من فعل ما تفعله الكثير من أبحاث مؤسسات الأبحاث أو التحليل أحياناً أو الأنباء التي تتبع هذه المجموعة أو تلك وكيف بزغت وكيف تحالفت وكيف تقوضت، حاولتُ أن أضع إطاراً لفهم ما يحكم هذه السيرورات، بحيث نستطيع أن نربط سوريا ما قبل ٢٠١١ مع ديناميات الانتفاضة محلياً، لمصلحة لاعبين إقليميين ودوليين عملوا معاً وقدموا البنية التحفيزية لتقوض هذه المجموعات المتحالفة المختلفة بعد تشكلها. ثم أختتم الكتاب بمناقشة إعادة الإعمار التي أعتبرها مهزلة. وفي الوقت نفسه لا تستطيع ألا تعيد الإعمار، أليس كذلك؟ وهكذا أنا لا أنقد إعادة البناء الهادفة إلى إعادة إعمار مستشفيات ومدارس ومنازل. ما أريد قوله هو أن هذا صار فرصة لكسب رأس المال، فرصة لزيادة أرباح فاعلين مختلفين ولإغناء خزائن الدولة بطرق ما ودعم حلفاء وأعداء دوليين مختلفين من خلال تقديم قطعة من الكعكة لهم.
توم هدسون: وأعتقد أن الغش والفساد متفشيان.
بسام حداد: هذا متواصل لسوء الحظ. والمحصلة النهائية هي أنه بعد هذه المأساة التي تواصلت أكثر من سبع سنوات لن تحدث الأمور من أجل خدمة الشعب السوري، بعد كل هذا الخراب. إن إعادة البناء يمكن ألا تخدم غالبية السوريين، بل ستطيل حياة وأمن المنتصرين المفترضين.
توم هدسون: شكراً لك على مساعدتنا في فهم هذه المنطقة المعقدة جداً من العالم.
بسام حداد: شكراً لك لاستضافتي وتقديري لكم ولأسئلتكم.
مقابلة أجرتها شركة WOUB Public Media التابعة لـ NPR، وترجمها إلى العربية أسامة إسبر.
بواسطة سلوى زكزك | مارس 26, 2018 | Cost of War, غير مصنف
خلال الأزمات الكبرى تبدو التغيرات الطارئة على سوق العمل معياراً حقيقياً وذات مغزى وتترافق مع مؤشراتٍ دلالية تُحوّل التغيرات من مجرد حالات طارئة إلى تاريخ للعمل والعمال والإنتاج والسوق والميزان الاقتصادي لتبلغ درجة التأريخ لدورة اقتصادية مؤثرة تبدأ بالسبب أو الفعل وتنتهي برد الفعل وهو جملة المتغيرات الظاهرة والخفية، ومن يرسم ملامح الدورة الاقتصادية ويؤرخ لآلية عجلة الإنتاج إنما يؤرخ أحوال المجتمع وحيويته الفعلية ،المعطّل منها والفعّال.
في حي المزة العريق والمزدحم بسكانه وبالوافدين الجدد الطارئين على المكان نزوحاً من مناطق أصبحت خارج دائرة الحياة، يُرتب أبو أحمد مستحضرات التجميل والأمشاط والعطور وملاقط الشعر وعدة الحلاقة وإزالة الشعر بعناية بالغة. يحمل بيده اليمنى نفاضة غبارٍ من الريش الأسود ليحافظ على لمعان بضاعته، وعيناه تراقبان السيدات خوفا من السرقة أو من أن تجرّب سيدة قلم حمرة شفاه وتعيده فتعطّل بهذه الحركة بيعه بعد أن تركت شفاهها علامةً بارزة عليه.
بعد خروج المنطقة التي كان يسكنها أبو أحمد من دائرة الحياة والتي فقد على إثرها منزله ودكانه الصغير المحتوي على بضاعة بالملايين، لم يعد له القدرة على استئجار دكان ٍبديل بعد أن أصبح بدل الإيجار الشهري يفوق قدرة الأغلبية على دفعه، حيث تتراوح الأجرة (حسب المساحة والموقع) الشهرية وسطياً بين ١٠٠-٢٠٠ ألف ليرة سورية، مع دفعة لمدة ستة أشهر سلفاً.
باع أبو أحمد حلي زوجته حتى خاتم الزواج واشترى شاحنة صغيرة من نوع السوزوكي وجعل لها باباً حديدياً وجدراناً مغلقة، يفتحها خلال النهار ويغلقها ليلاً ويبقى هو في الشارع ملاصقاً لرزقه في حرّ الصيف وبرودة الشتاء، يردّد أبو أحمد عبارة “الحمد لله مستورة” لكنه يئنّ من وجع قدميه ومن غلاء أجار بيته ومن صعوبة الحياة القاهرة المستجدة.
***
كان أبو أيمن مالكا لأحد مخازن الخشب الكبيرة في ريف دمشق. خرج من بلدته وخسر المخزن والخشب وغلّة عمره وسنين شقائه، واضطر لأن يعمل كنادلٍ في أحد المقاهي الشعبية وتراه يحدث نفسه كمن فقد عقله. فالخشب يحتاج لمبالغ طائلة لتعويضه ولا يمكن تخزينه في شاحنة سوزوكي صغيرة، وتبديل التجارة صعب لأن المهنة تصير وطناً خاصاً لصيقاً بالروح والجسد.
***
في الحافلة المهترئة أحاول إيقاظ سيدة غافية تبدو على أصابعها بقايا حروق صغيرة بندبات حمراء اللون. تستفيق بصعوبة، أسألها عن سرّ غفوتها وعن أصابعها. تقول “التعب”، حيث تعمل بالشمع الساخن الحارق لإزالة الشعر الزائد، وتزور البيوت وهي التي لم تعتد قطع كل هذه المسافات لتصل إلى زبوناتها اللواتي كنّ يتسابقن لحجز مواعيدهن لزيارتها في محلها المشهور بالقرب من دمشق.
***
أما نظيرة فقد وزعت أيام الأسبوع ما بين صاحبات بيوتٍ يرغبن بتحضير الكبّة أو لف ورق العنب وغيرها من الوجبات المتعبة. لا تملك نظيرة ترف يوم العطلة ولا تحديداً لساعات العمل، أجرها حسب كيلو البرغل أو الرز وعدد الساعات الضائعة في وسائط النقل وشروط الانتقال الصعبة غير مدرج في قوائم الحساب، وقد تعمل في بيتين في ذات اليوم كي لا تخسر زبائنها علّها تستطيع دفع بدل الإيجار وإعاشة وإطعام أحفادها وأمهاتهم بعد غياب الرجال كلٌ في متاهة موته أو تغييبه أو هجرته.
كانت نظيرة تملك ورشة خياطة مميزة ومشهورة وخاصة خياطة فساتين السهرة وشك الفساتين بالخرز والسيلان، لكن ثمة عملٍ لا يعوّض. لا تكفي قوة العمل والرغبة بإنجازه لتحقيقه، فمهنة كهذه تحتاج لماكيناتٍ ضخمة ودقيقة وباهظة الثمن ولتوافر مكانٍ واسع وعاملاتٍ متميزاتٍ وخبيراتٍ تتفاوت أجورهن حسب الخبرة.
يبدو التساؤل الأهم هنا هو الفارق ما بين امتلاك عملٍ خاصٍ بكافة تفاصيله وما بين العمل في البيوت. كافة أشكال العمل في البيوت حتى وإن كان عالي الجودة والمستوى والاختصاص هو عمل خدمي دوني يطيح بالهرم الاجتماعي من أعاليه وحتى أدنى درجة فيه، ويتحول المنخرط فيه من صاحب عملٍ ومالكٍ إلى عامل خدمة يحدد الزبون وقت حاجته له، أجره، والحيز الجغرافي الذي سيشغله، وقد تتشعب طلبات الخدمة المطلوبة لتصل إلى حدّ الإرهاق أو الإذلال.
***
سياراتٌ معطلةٌ على الأرصفة، في أزقة فرعية، أو في ساحاتٍ باتت مواقف للسيارات المعطلة وورشاتٍ متنقلةٍ للصيانة بعدما تبخرت محال التصليح ومعداتها كالبخار إثر تضررها بفعل القذائف أو احترقها أو تهدمها، أو بعدما صارت بعيدة مع أنها مرأية، بعيدة وهي ملاصقة للروح والجسد وغير بعيدة بالجغرافيا لكنها موصدة الأبواب وعصية على الوصول إليها.
في الحرب تنكسر النفوس وتضيق رحابة المساحات الممنوحة للكرامة كي تختار بين ذل الفقر وجدلية البقاء، يقول أبو سامر: “أنا مستعد أن أعمل في تعزيل المجارير لتأمين ربطة الخبز لأبنائي. أمسى أبو سامر رقماً إضافياً في قائمة الواقفين في طوابير عمال الفاعل المياومين، الذين تآخوا مع حجارة الرصيف الذي يجلسون عليه بانتظار الفرج. تهرب منهم الأحلام وتجفّ الابتسامات والقلق هو سيد الزمان والمكان، تتبدل قيمهم وأخلاقهم، يتخاطفون أي زبون عمل، يقبلون بأي نوع من الأعمال، يكسرون سعر الخدمة المتفق على تسعيرها، يتشاجرون ويتشاتمون، يسخرون من بعض والكدمات والجروح الظاهرة على الجسد تقهرهم أكثر. يجلسون بعيداً عن بعضهم بعد أن يفقدوا جميعا فرصة العمل المؤقت لأنّ الزبون يريد منحهم الأقل دوماً. تخيّل أن تتشاجر مع أخيك من أجل ليرات ولقيمات ثم يدير الزبون لك ظهره ليأكلك الندم والحزن وشبح الجوع وخسارة الأخ والصديق والشريك.
في المقلب الآخر دكاكين ضخمة تفتح أبوابها، فروع تصل للرقم تسعة أو عشرة لمحلٍ مختص ببيع الفروج مثلاً، وهيصة وعراضة وورود ووموالد وأغاني ودبكة. مكتبة لبيع القرطاسية تحوّلت لمركز فخم لبيع التنباك والمعسل، الأراجيل تستهلك الأرصفة وباتت خدمة أركيلتك واصلة عالباب تصنف كخدمة جليلة وعظيمة يُدفع لقائها بسخاءٍ مريب. سيارات فخمة تنقل ركاباً غرباء أو مقربين تنكروا بزي رجال الأعمال وأصحاب البيزنس وباتوا أشخاصاً مفتاحيين يحلون العقد ويعرفون آلية الوصول لكل المفاصل الصلدة والمغلقة بشيفرات الوساطة والرشوة.
نساءٌ يبعن أجسادهنّ بخفة القبلة الأولى، أو يقمن بشطف الأدراج في الأبنية العالية، يأخذن كل شيء قابل للتدوير، زوج جوارب، خبز يابس، خضار زائدة وذابلة، طبخة على وشك التلف مغمورة بالحموضة والجفاف، وشبابٌ يبيعون الممنوعات أو يهددوا الصيادلة بالمديات للحصول على حبوب وعقاقير مهدئة إدمانية التأثير.
أطفال تركوا مقاعد الدراسة لتوصيل طلبات البقاليات إلى البيوت، أو للعمل عتالين على عربات معدنية برائحة كريهة نفاذة، محنيي الظهور، بعيون ميتة وبطون جائعة. وباعة المسروقات يتاجرون بكل شيئ، بأطباقٍ مازالت حبة الأرز الأخيرة يابسة في منتصفها، عربة طفل صار في حكم الغياب، فنجان قهوة بكامل بهاء بقايا الرشفة الأخيرة لامرأةٍ كانت تتبادل الحياة والقهوة مع زوجها على شرفة بيتهما الموغل في الغياب والفقدان.
مولات ضخمة ومطاعم بديكورات حديثة وملاهي عامرة بالشابات الفتيات المهدورات في قاعاتٍ مسمومة وأثرياء جدد بلا عمل وبلا شهادة علمية أو خبرة وبلا اسم، لهم لقب واحد واسم واحد حيتان الزمن الصعب، الزمن الضائع، “تجار الحرب” وأصحاب الخطوات الواثقة الجديدة.
في الحرب تتوه التعاريف وتهرم اللغة والتوصيفات، ثمة موتٌ معلن لا من راد له، من يتكيف قد ينجو للحظات ومن يسعفه الحظ ليستبدل تعباً بآخر ووجعاً بآخر قد يشبع لمدة أطول. في الحرب يتغير كل شيء وصاحب العمل يصير عاملاً أو بلا عمل، العاطل عن العمل قد يصير رجل أعمالٍ فاقع الثراء.
في الحرب أي عملٍ مهما كان شائناً هو عملٌ ويكتسب قيمته العليا من كمية المورد المادي وليس من نوع العمل ولا من جهد العامل وتميزه.
قالوا الحرب مضيعة الأصايل، وأقول الحرب مرآة لانقلاباتٍ عميقة لا تبقي ولا تذر، تعمم فرضية أن البقاء للأقوى وفي صراع الأقوياء نتلاشى حتى حدود العدم.
تنقلب البنى وتتصارع، والتكيّف مجرّد وهم ٍأو حيلةٍ للبقاء، وأي بقاء؟
هنا دمشق. ونحن مازلنا هنا.
بواسطة Ghaida Al Oudat | مارس 25, 2018 | غير مصنف
في ظاهرة اللجوء الصعبة وتشرد السوريين وانتشارهم حول العالم بحثاً عن الأمان، يَعلق السوريون بين مجتمعين، فلا هم في المجتمع الأم الذي تعودوا عليه ورضخوا لشروطه وقوانينه، ولا هم قادرون على الخطو نحو المجتمع الجديد والتأقلم معه والتعوّد عليه ومعرفة قوانينه. تقل معرفة الدول الغربية بكيفية دفع الأسر القادمة للتأقلم مع المجتمع الجديد، خاصة فيما يتعلق بشؤون الأسرة وعلى رأسها النساء. فمثلاَ الكثير من السوريات لا يعرفن واجباتهن وحقوقهن الجديدة التي لم يتمتعن بها في بلدهن الأم، فالكثيرات تحملن إرثاً طويلاً من القهر لا يستطعن التخلص منه بسهولة. هناك حاجة لإعادة تأهيل الكثير من السوريين ليتمكنوا من قبول قوانين بلدان اللجوء الجديدة والاعتياد على أعراف المجتمعات المستضيفة بما يمكنهم من تجنب التقوقع في تجمعات منغلقة على نفسها.
من الضروري للدول المضيفة أن تحيط علماً بالسياق الاجتماعي والقانوني لحياة النساء السوريات في سورية قبل رحلة اللجوء. فقد تضافرت جهود المجتمع السوري مع الدولة السورية عبر سنوات طوال لانتهاك حقوقهن ووضعهن في مرتبة مواطنة متأخرة. فمثلاً الدولة السورية حرست لعقود قانون أحوال شخصية يمعن في انتهاك حقوق النساء وتهميشهن. لعل المعرفة تمكن تلك الدول من اتخاذ إجراءات مناسبة لتمكين المرأة اللاجئة من حقوقها، وردع الرجال عن انتهاك تلك الحقوق. هذا سيسهم في تجنب مخاطر عديدة كتعرّض الأطفال اللاجئين لمضار شديدة نفسية وجسدية وحياتية تكرّس جدار موجود أصلاً بين المجتمعين.
لعل أهم ما يمكن ان تقوم به الدول المضيفة لتستبق الكثير من الكوارث هو تنظيم دورات إلزامية يرضخ لها الأزواج والزوجات لمحاولة إعادة بناء الأسرة بشكل قويم، ومعرفة العلل والعيوب، والتعريف بالحقوق والواجبات في العلاقة الزوجية وفي علاقة الأبوين بالأبناء، ومعالجة المشاكل بكل الوسائل الممكنة. ويمكن أيضاً ترتيب جلسات رعاية نفسية وإعادة تأهيل للأزواج والزوجات سعياً لتكون الأسرة متماسكة وعلاقة الشراكة متساوية.
أمّا في حال فشل الإجراءات المقترحة أعلاه من الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار بعض النقاط التي تساهم في تحسين أداء النساء اللاجئات أسرياً ومجتمعياً، تلك التي تؤثر بطريقة مباشرة على آلية تفكيرهن لتمكينهن من وعي امكانية تغيير أوضاعهن وتدارك سوء حالتهن النفسية ويأسهن من التغيير. حملت السوريات معهن مفاهيم للعلاقة الزوجية وأعرافاً وتقاليد من وطنهن الأم تُعد مستهجنة في الكثير من المجتمعات الغربية، لكنهن تابعن مسيرهن وفق العادات والتقاليد والقوانين السورية. سوريات كثيرات هن منهكات مما حملنه من وطنهن في مجتمع غريب عنهن يضع نصب عينيه الحرص على حقوق النساء وتطبيق المساواة الكاملة بين الجنسين.
من أهم ما يجب إدراكه أن كثيرات من اللاجئات تزوجن زواج قاصرات، وأن زواجهن تم تحت نظرالمشرّع السوري وبموافقته، منهن من تزوجن بسن الـ17 سنة وهو السن المسموح فيه الزواج قانونياً بسوريا، ومنهن تزوجن بسن الـ 13 فما فوق شرعياً ثم تولى أولياء أمورهن تقديم طلب للقاضي ليأذن بزواج الطفلات بحجتي صدق الدعوى واحتمال الجسد متجاهلين أهم معايير الزواج كامتلاك العقل الراشد لتدبير أمور الزواج وشؤون الأسرة والقدرة على تربية الأطفال. تجاهلت ترتيبات زواج قاصرات في سوريا المعايير الصحية للنساء، حيث يعرض الزواج المبكر الطفلات لمخاطر انهيار صحتهن نتيجة حملهن وإنجابهن وهن قاصرات.
لنا أن نتخيل إذاً كيف سيكون وضع الطفلة كزوجة وكيف يتم انتزاعها من طفولتها وهي بعد بلا إرادة ولا عقل تستطيع بهما أن تدير شؤون حياتها، وبلا قدرة على حماية نفسها لتصبح ملكاً للزوج. زواج القاصرات هو أشبه بعملية انتقال صك ملكية من الذكر الأب إلى الذكر الزوج. هذه الحالات ستنتج غالباً أسراً مفككة،غير قائمة على الوعي والتفاهم والاحترام والثقة، وتكون النساء فيها قاصرات عن امتلاك زمام أمورهن ولا يستطعن تربية أطفالهن بطريقة سليمة. فتتحول الأسرة كلها إلى ملكية خاصة للزوج ابتداءً من الزوجة المطيعة وانتهاء بالأبناء، وتجهل معظم تلك النسوة أنهن يستطعن التخلص من تلك التبعية في دول اللجوء الجديدة وتحت القوانين الجديدة التي تحميهن وتدعمهن.
تحتل حضانة الأطفال حيزاً خاصاُ في مواضيع الزواج والطلاق؛ فالنساء غالباً ما يرضخن لسوء المعيشة والمعاملة حرصاً منهن على حضانة أبنائهن. وهذا الخوف من خسارة الأبناء كرسه المشرّع السوري بتحديد سن الحضانة ومجرد أن يعرفن أن الحضانة في الدول المضيفة منوطة بقدرة الحاضن على التربية والرعاية، وأنها ليست محصورة بسن أو جنس، ستتمكنّ نساء كثيرات من التفكير جدياً باتخاذ قرار في حال كان وضع الأسرة سيئاً دون الخوف من خسارة الأطفال. إن جهل النساء بقوانين الحضانة في الدول المضيفة يجعل من القانون الجديد وحشاً مرعباً ويتخيلن أنه يهدف فقط إلى انتزاع أبنائهن، هذا الخوف يدفع العديدات للرضوخ لكل الشروط الحياتية السيئة والصمت عن انتهاكات الزوج بحقها وحق أطفالها ويحولها لشريكة تتستر على سوء المعاملة مقابل الحفاظ على الأطفال.
ولا نستطيع تجاهل الوضع الاقتصادي وسلطة المال، فلم تكن الدولة السورية تكفل حياة الأطفال والأم الراعية لهم، وهذا كان يشكل خطراً على مستقبل الأطفال والأم الذي يصبح مرهوناً حسب هوى القاضي وما يحدد لهم من نفقات. ويدّعي الرجل غالباً ضعف موارده ومحدوديتها ليتهرب من أعباء النفقة، وبحال عدم عمل الأم تصبح رهينة لإرادة الزوج أو أهله الذين يتحكمون بقرارها ويفرضون عليها شروطهم كحرمانها من حضانة أطفالها بحجة عدم قدرتهم على استقبالهم. لهذا على الدول المضيفة أن تُعلم النساء أنهن قادرات على الاحتفاظ بأطفالهن إن لم يكن هناك سبب صحي أو استثنائي، وأن الدولة مسؤولة عن تأمين متطلباتهم بشكل يُمكن الأم من إدارة شؤون أسرتها دون خوف على نفسها وعلى الأطفال. هذا من جانب ومن الجانب الآخر فإن الكثير من الرجال وفي حالات الوفاق يتعاملون مع المساعدة الشهرية المقدمة للنساء اللاجئات وكأنها ملك خاص بهم، يتم تسليمها للرجل دون وعي لطريقة تعامله مع تلك الأموال وكأنها ملكه، رغم أنه من المفروض أن يتم تسليمها للنساء فهذا سيُكون نوعاً من الاستقلال الاقتصادي لهن بشكل يمنع تحكم الزوج بشؤونهن الخاصة ويمنحهن الشعور بالقوة والاستقلالية.
أما بالنسبة للطلاق فقد سن المشرع السوري شروطاً قاسية له في حال طلبته المرأة. أيضاً هناك نظرة مجتمعية سيئة للطلاق خاصة حين تطلبه المرأة وكأنه جرم ترتكبة النساء. ففي حال تجرأت المرأة على طلب الطلاق كانت تحتاج وقتاً طويلاً جداً حتى يتم البت به، وتتكبد تكاليف مالية باهظة لا تستطيع في أحيان كثيرة تأمينها. وتختلف قوانين الطلاق في دول اللجوء عما كان عليه الحال في سوريا وتخلو من التحيّز. وفي حال عرفت النساء شروطه وإمكانية حدوثه بناء على الأسباب الموجبة، وعلمن الجهات التي يمكنهن عبرها طلب المساعدة والدعم سيتمكن من اتخاذ القرار المناسب للأسرة وفق القوانين الجديدة في دول اللجوء، دون الأخذ بعين الاعتبار الصعوبات التي كن يواجهنها في الوطن الأم والتي كانت تدفعهن للخشية من القيام بهذه الخطوة.
نأتي إلى أهم ما يواجهنا الساعة من جرائم تحدث بحق نساء لاجئات في دول اللجوء وهي الجرائم التي يسميها القانون السوري “جرائم الاعتداء على العرض” ويسميها المجتمع السوري “جرائم الشرف.” هذا النوع من الجرائم يسهل به اتهام النساء بأخلاقهن، ووسمهن بالزنا والخيانة لتبرير قتلهن ومن ثم النجاة من العقوبة. وهذا أمر معتاد في سوريا كون النساء ضعيفات بدون حماية القانون، وقضية الشرف قضية حساسة في المجتمع السوري ، فهي جريمة يتم استثمار أسبابها المخففة للعقوبات لتكثر الجرائم المرتكبة باسمها حتى عندما لا تكون نابعة من حجج مثل “الزنا” أو “الخيانة.” مثلاً تحت حجة “الشرف” يتم قتل الفتيات اللواتي تسوّل لهن أنفسهن الزواج من طائفة مختلفة، أو دين مختلف، أو عندما يحدث الزواج بدون موافقة الأهل ومباركتهم، أو لأن الفتاة قد أقامت علاقة جنسية مع حبيبها “القتل للدفاع عن الشرف.” تكون الحجة دائماً “غسل العار” الذي لحق بأسرة الفتاة، ومجرد اتخاذ الفتاة قرار مستقل بالزواج أو إقامة علاقة، تصبح هدفاً محتملاً للقتل وتغدو بنظر المجتمع السوري “عاراً” يلتصق بالأسرة حد توريثه. وحسب إحصائيات تقارير ومنظمات حقوقية فإن من 200 إلى 300 “جريمة شرف” تحصل سنوياً في سوريا تحت ذريعة رد فعل الرجل على المساس بمحرماته وغسل عاره. وربما يستغل البعض القانون ليقتل الرجل من يريد قتلها والتخلص منها (أم أو أخت أو ابنة أو قريبة) لأسباب مختلفة بعيدة عما يسموه “عاراً”، وكم ارتكبت تلك الجرائم بمباركة المجتمع ورعاية القانون الذي يفتح نوافذ الهرب من تبعاتها ويخفف بثغراته الحكم على الجاني تحت تلك الذرائع.
يحفل تاريخنا الماضي والحاضر بهذا النوع من الجرائم التي وضعت النساء في خانة اتهام وجرم مطلق بدعم من المجتمع والقانون حتى دون التوثق والتأكد من تلك التهم. والمؤلم في الأمر أنها دوماً موجهة ضد النساء دون أن ينال الطرف الذكر في العلاقة أي عواقب أو اتهامات. يتكرر حدوث “جريمة الشرف” في دول اللجوء كردة فعل ناتجة عن ضيق بعض الرجال من بدء الكثير من النساء وعي حقوقهن وإدراكهن امكانية المطالبة بها بجرأة في البلدان الجديدة. وبناءاً على تراث عرفي وقانوني حمله معه هؤلاء الرجال فإنه لا يمكن التصريح بحقيقة الخلاف، بل يتم اتهام الزوجة بشرفها وأخلاقها كتهم الزنا والخيانة ليكسب الرجال دعم الناس له كما اعتادوا ونشأوا في الوطن الأم.
يحتاج الكثير من الرجال السوريين اللاجئين أن يتعلموا القانون في البلاد الجديدة، ويعلموا علم اليقين أن قوانينها لا تشابه القوانين السورية من حيث التحيّز لجندر معين ولا تأخذ بعين الاعتبار ما كان يأخذه القانون السوري من أسباب مخففه لـ”جرائم الشرف.” فهذه الجرائم تُعد جرائم قتل كاملة الأركان دون أي تخفيف أو تلطيف لها. لعل الوعي بهذا الوضع القانوني الجديد من شأنه أن يقلل من ارتكاب “جرائم الشرف” في المجتمعات اللاجئة.
قد يبدو للكثيرين أن كل ما سبق ليس واجباً على دول اللجوء إدراكه ووعيه، وقد يتساءل البعض عن أهميته وجدواه، وربما يقول قائل إنها شؤون تعني السوريين ولا تعني غيرهم، لكننا بالمنطق سنجد أن المجتمعات المضيفة أكبر المتضررين من هذا الواقع إن لم تستدرك الوضع وتعمل على تغييره. فالأطفال السوريون الذين ينشؤون في أسر لاجئة هشة، غير سوية، وعنفية سيحملون معهم أمراضها للمجتمع الذي يعيشون به (المدرسة، الشارع، العمل..). ولهذا فمعالجة الداء مبكراً ومسبقاً أفضل للشفاء منه، والمصلحة بيننا مشتركة، فنحن أيضاً كسوريين وسوريات نريد أن تكون أسرنا سليمة وأن نتشارك احترام متبادل مع المجتمعات المضيفة كي ينشأ أطفالنا نشأة صحيحة ويكونوا خيراً للمجتمعات التي تحضنهم ولمجتمعنا السوري.