البدل ليس ضائعاً…الهوية السورية في استراحة مقاتل

البدل ليس ضائعاً…الهوية السورية في استراحة مقاتل

الشارع السوري المتآكل تُغرقه ثلاثة قلوب!

تصدعت الرؤوس من كلمة فسيفساء سورية  واللحمة الوطنية الممتدة على أراضيها لآلاف السنين وما شهد السوري ذاته من هذا ولا ذاك أي إثبات لما سمعه وردده ولربما آمن به، فانقضت الأعوام الثمانية الهرمة باستحقاق طرف على حساب الآخر و كينونته التس سيفردها عرض الطريق وطوله، وما تحمله من الأحقيّة (العمياء) التي تفضي بابتلاع الضفّة الأخرى بمن فيها بالحديد والنار أم بالرايات السوداء والصفراء لا فرق أبداً فغايتهم جميعاً ذاتها
(نحن أو لا أحد).

زاوية الاختلاف كانت تحمل في أضلعها المنكسرة بداية الحرب مؤيداً ومعارضاً فقط  إلى أن التصقت بكلا الصفتين اصطلاحات تخوينية، تشبيحية، اندساسية وغيرها، لمس المواطن من خلالها تبعات مؤلمة للغاية لازالت تلذعه حتى اللحظة، رغم كل ذلك كان الأمر غاية في البساطة وقابلاً للفرز برفة عين وتحليل سياسي لشخصية اعتبارية في بداية النشرة المسائية التي تتناول الملف السوري مع إرفاق كلمة (خلصت) بينما يضغط المشاهد على زر جهاز التحكم الأحمر!

ليتضح فيما بعد أن سورية كالأخطبوط تماماً تضخّ النار على نفسها بأمرة من القلوب الثلاثة (الطائفية، الديموغرافية، العلاقات الدولية) المتناحرة كل على حدة فتتحول أذرعه الدفاعية  إلى مجسات ناريّة تجتذب كل الخراب إلى محيطها إلى حضن الوطن الذي بات لا يتسع إلا للمغلوب على أملهم وأغنياء الحرب، البعض هاجر إلى الله (سكارسا) بقوارب الموت و البعض الآخر استطاع أن ينجو من رحلة الفناء مرتين على الأقل ليرسو أخيراً في إحدى الدول الأوروبية حطاماً هيّنا ترمّم شيئاً فشيئاً في بلاد تحترم الإنسان بما يحمله من فكر أو معتقد  دونما أن يلتفت من حوله خشية الإفصاح عنها باللغة العربية أو الأجنبية فله الحق والحرية بما يحلو له تحت سقف الإنسانية، وقد حظي البعض بامتيازات إضافية في الخارج كالسريان في السويد، الأرمن في بلدهم الأم، حتى العائلات ذات الأصول التركية صبّت جهودها كاملة للحصول على الجنسية التركية وإن كلفها الأمر العودة لأصول الجد الثالث لأسرتها علّها تجد أخيراً هويتها المفقودة في البلاد التي لطالما اعتبرتها إرثها الحقيقي أما المهجّرون داخلياً فحكاياتهم لم تنته.

نازحون بأمتعة الذعر!

بدأت حركة النزوح الداخلية من المناطق الملتهبة إلى المدن والبلدات (الأكثر أمناً) خلال الحرب فضمّ الساحل السوري على امتداده أعداداً كبيرة من هؤلاء المهجرين ليصل إلى مليون ونصف نازح  أي بزيادة 50 % على التعداد السكاني للساحل السوري على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية والبيئة المحيطة بهم التي جبلتهم من أول صرخة لهم حتى ثالث أو رابع قذيفة سقطت في حيّهم الذي أصبح حجارة مدماة وركاماً سحق الزواريب المندّاة ومحال الخضرة بمن فيها والكثير من  شتلات الحبق على شرفاتهم المتهاوية، هذه العائلات رغم مصابها الكبير تخطط وهي في طريق النزوح أي حارة ستتخذ فيها مسكنها الجديد؟ هل ستسد المعونات الإنسانية أفواه أولادها الذين اعتادوا أكل المشاوي كل ليلة جمعة؟ الجيرة في الأحياء الملغومة سينفجرون بنظرات هجينة لمن سيشاركهم الجدران أم سنصبح من “أهل البيت”؟ الأسئلة تطول وفجوة الغربة الداخلية تكبر…

أهالي منطقة الجميلية في حلب على سبيل المثال لا الحصر يبحثون عن أقرانهم في مدينة اللاذقية إبّان الأهوال التي شهدتها المدينة فتلقائيا تموضعت نسبة كبيرة منهم في أحياء الطابيات الصليبة والشيخ ضاهر ومن المعروف أنه يوجد في هذه الأحياء أشهر المساجد في المدينة وأقدمها وهذا يشكّل لهم ارتياحاً نفسياً لامتناهياً كون سكّان تلك المناطق يؤدون الواجبات الدينية على نهجهم ذاته وكأن جميع الأهالي هناك يندرجون تحت رتبة الأنبياء بقليل!

في المشهد المقابل لنازحي الفوعة من إدلب تراهم اتخذوا من حييّ الزراعة وسقوبين خانتهم الجديدة كلّ حسب يسره المادي، المهم في الأمر الهيمنة السلطوية التي جمعّت أطراف متعادية مذهبياً لقرون ولّت، لتأتي المصالح السياسة وتجمعهم على حين غرّة من جديد.

هذه الشرذمات طالت حتى الطفل الذي ولد في وطيس الاقتتال ولم يتسن له نور السلام بعد. ابراهيم، بائع البسكويت على قارعة أحد شوارع اللاذقية (حارة العامود)التي تلفّها قوات حفظ النظام بالحواجز الطيارة في أي لحظة، دنوت منه وسألته عن اسمه ومدينته وبعض الأسئلة الحشرية التي يطرحها الصحفي كعادته دون أن أشعره بذلك، حقيقة لم أستطع أن أحدد لون عينيه وبصعوبة شديدة سمعته يرد قائلاً “أنا من إدليب وصرلنا سنتين هون” لم يجب إن كان طالباً للعلم أم لا ، لربّما أخذ ركناً من الطريق واستحضر به غرفته الدافئة ولا زال يتخصص بفن المبيعات على طاولته المزفّتة  (بالفراطة وقشر البسكويت).

وبالعودة للوراء قليلاً، شهدت بعض العائلات الساحليّة الأصل نزوحاً معاكساً بعد أن اختير عديد منها للانتقال إلى مناطق أخرى بما فيها الشمال الشرقي، حلب، دمشق، وذلك لأسباب مهنية، كوّنوا أسراً متّزنة مثقّفة وأنجبوا أبناء لأمهات وآباء مختلفي الطوائف الأمر الجميل والمبشر بارتفاع معدل هرمونات المحبة السورية بين بعضها إلى أن بدأت الأحداث في 2011  تركت هذه الأسر كل شيء خلفها وباعت عقاراتها وأصولها وحولت أموالها إلى الساحل وهرعت إليه دون أي تأن أو وعي لما تفعله وكل ذلك قبل أن تتحول الأزمة إلى صراع مسلح ولا زالوا حتى اليوم يطلّون على الكورنيش البحري بعين السائح من خلف شرفاتهم المظللّة!

وجعلناكم شعوباً وقبائل لتناحروا!

شرائح قليلة جداً لعشرات الهويات السورية المتعاركة التي فرقت ما بينهم المرجعيات والألوية الدينية التي جمعت ثلل منهم تحتها (فعلاً تحتها)! فقد شُرّعت لها الأبواب على اتساع أرض -الفينيق- لتتمكن من عواطف السوريين المنحازة للانتماء الديني ومن لفّ لفيفهم من أولئك الذين ينادون بنصرة دين أو مذهب لا يفقهون عنه شيئا، كل هذه الضعضعة السورية السورية مهدت طريق الإرهاب للمقاتلين من العراق، لبنان، أفغانستان، إيران، السعودية، روسيا (الشقيقة) وغيرهم.

التعصب المقيت هذا ليس بحصاد عام أو اثنين، هو ذرائع انتمائية مخزية لا تمت للهوية السورية المعتّقة بالتمدن الصافي بصلة، هو وباء تطرفي محدث جعل من قلوب السوريين عفناً لا موسم له على أيدي السلطة قبل الحرب، هذه حقيقة تعايشنا معها ولكن لم نستطع أن نعيش بها على الاتساق ذاته بعد الآن ولعلّ أهل الساحل أكثر من مرّوا بذلك، فمن توقف تعيينه الوظيفي بسبب اسم أبيه المستفز طائفياً لرب العمل أو للجهات الحكومية المسؤولة عن ذلك الأمر سوف يحمل الحقد الطائفي ويعمل به بل وسيورثه أيضاً لا محالة، ومن توقف تخرجها من الطالبات لأنها لم تأخذ العلامات الإضافية المساعدة عند التخرج والتي تعتبر من أبسط الحقوق الدراسية وذلك بسبب عدم انتسابها للحزب اليتيم في سوريا من المؤكد أنها إما ستنجر في موكب الفاسدين لاحقاً أو سترضع أبناءها التطرف الذي لبسها عنوةً بعد الموقف ذاك، من المفترض عليها أنها انتسبت إليه مسبقاً وبشكل أوتوماتيكي كحال أهلها وجيرانها، كيف تجرأت على الدولة ولم تنتسب أساساً!

النسيج السوري المهترئ

هذه النماذج البسيطة وغيرها تكررت آلاف المرات يومياً ما قبل الحرب أما اليوم فأصبحت أكثر فجوراً ووحشية حتى الضّمنيّة منها، فأحداث الغوطة الأخيرة التي راح ضحيتها الكثير من الأطفال والنسوة اللواتي لا حول لهن ولا قوة بسبب الحصار المطبق عليهم وحملات التطهير التي لم تفرق بين مدني وإرهابي , يكافئهم

نسيج “أ”  بمنطقة x السورية  بكلمة أبيدوهم هؤلاء هم الخونة ونسلهم العاهر عار علينا! هكذا ملء أفواههم القذرة ولم تتوقف القذارة على هؤلاء أبداً بل باقية وتتمد لتصل إلى النسيج “ب” الذي يشرعن قتل الكرد في عفرين واتهامهم بالتواطؤ الإرهابي مثلاً، أو مصرع الطلاب العزّل وضح النهار بحجة حق الرد، هؤلاء تلقائياً عادوا إلى عصور الجاهلية وحقبة الأخذ بالثارات.

وإن كلّاً من “أ” و”ب”  يهللّون بالانتصارات على جثث بعضهم البعض وقلوبهم الملطّخة بالوحشية مدانة…مدانة!

أما نسيج “ج” وهو الأقل غلظة بينهم يشير للإجرام بعين الحق متجرداً بذلك من أي عباءة شيطانية، يحلل بحكمة كل خطط التنمية والسلم بين شظايا القذائف والجثث وهم في الغالب فنانون، كتّاب وشعراء  هذه الفئة الغير قادرة على حمل السلاح وإن كان دفاعاً عن النفس.

“د” ذاك النسيج القطني الذي يتمدد ويتقلص حسب درجات التأذي وتبعات الخراب والذي ضم أعداداً كبيرة وانحاز للسلطة بشكل مستميت لفترة ليست بقليلة إلى أن خسر ثلثي أبناء قراه متسائلاً لأجل ماذا ضحينا بأبنائنا مصفقين؟ وبالمقابل حظيت الجهات المؤيدة للتغير انقلاباً على مواقفها المعارضة بعدما فقدت أقرانها دون أي سبب أو لأسباب محتمة في حالة الحرب التي وقعت نتائجها الكارثية على كاهلهم الاقتصادية منها والاجتماعية والأمنية قبل أي شيء، والآن ماذا حققنا من المطالبة بالتغيير؟ هكذا يقولون…

ولعل الأربعة وعشرين حرفا المتبقين لن يكفوا لتصنيف الأنسجة السورية وهوياتها التي قد تجزئ مفهوم الإنسانية حسب ميولها السياسية.

مجتمع مدني في أخطر بقعة في العالم!

مصيبة الخلط العجيبة بين حقوق وواجبات السوري بشكل عام والمدلل نسبياً في المناطق الآمنة بشكل خاص، تخوّله أن يتمتع ويمارس المواطنة بشكلها السليم والبعيد كل البعد عن أي انتماء ديني أو سياسي إلا أن هذه الشعارات الرنانة لا تليق بالسوري في الأحوال الطبيعة فكيف لمساعي الفاعلين في تفعيل المواطنة أن تنجح على أرض صنّفت أنها الأخطر في العالم؟ فعلى مدار السنين تأطرت مخرجاتها الأساسية النبيلة تحت قبّة سلطوية واحدة لا ثانية لها  حدّت ما تهدف له، وما حصده السوري (كسوري) مجتمعيّاً حفنة ضئيلة في كل هذه المعمعة.

“الكشاف” على سبيل المثال أحد المعالم المنعشة لجميع المناسبات والأعياد والتي تهدف إلى (مساعدة الغير في كل حين) بالمرتبة الأولى وبالفعل هناك من يعمل بإخلاص و تفان بها، أنت كسوري تتشجع  للالتحاق بهذه الحركة العالمية والتي تعمل وفق معايير سامية ومحددة، تقدّم طلب الانضمام لأحد أفواجها وإذ تكتشف أن هنالك فوجاً كشفياً كاملاً لطائفة معينة دون سواها ومن غير المنطقي أن تكون الوحيد من الزمرة y!

الجمعيات كأسماء ومواقع وكهوية بصرية حتى دائماً ما توحي بالجهة التي تدعمها وتتخيل تلقائياً طبيعة الأشخاص الذين يديرونها، هذه المحاولات التجميلية بما فيها من جمعيات ومنظمات لا تأتي بحجم حجر في بركة تعجُّ بالجوامع والمزارات الدينية التي لا حسيب عليها ولا رقيب والمنتشرة بطريقة غير مقبولة، أكثر ما في الأمر استفزازاً أن الأهالي تسعد كثيراً لتزايدها وإن لم تطأ أقدامهم أي وجهة دينية منها أو من غيرها، ربما يستمدون قوتهم الواهية من كثرتها ؟ ما السبب الجوهري الذي يستدعي بناء 12 جامعاً في مدينة صغيرة كجبلة؟

ستنتهي الحرب السورية عام …20!

مرحلة إعادة الإعمار في سوريا لن نستطع تنشّق رائحة بيتونها طالما الأقطاب السورية والدولية متبدلة ومتشابكة بهذا الشكل والملفات الفاعلة لإخماد هذه الحرب الشنعاء توقّع وتمضي وتتلف تحت الطاولة وإنه لمن الأنجع لتشييد سوريا من جديد  بناء الإنسان على أراضيها فوق جروحه الملتهبة وآلامه التي فاقت طاقة تحمّله النفسية لينال شرف حصوله على الهوية السورية الحقيقيةً بشموخها وحرّيتها أخيراً علّها تستفيق من هذا الوهم الأحمر الذي استنزف 22 مليون (سوري ).

درس العراق” يبقي اميركا في سوريا”

درس العراق” يبقي اميركا في سوريا”

أعطى الرئيس الأميركي دونالد ترمب مهلة ستة أشهر قبل الانتخابات النصفية في الكونغرس لتحقيق «الانتصار الكامل» على تنظيم داعش شرق سوريا، وبدء الانسحاب التدرجي القوات الأميركية، في وقت يسعى جميع قادة المؤسسات الأميركية وحلفاء واشنطن في أوروبا والشرق الأوسط لتوفير حوافز للرئيس ترمب كي يعود إلى استراتيجية وزير الخارجية ريكس تيلرسون للبقاء «إلى أجل غير مسمي» لتحقيق جملة أهداف، بينها «عدم تسليم سوريا الى روسيا وايران» وعدم «سيناريو العراق» 2011.

وأكد مسؤولون غربيون لـ«الشرق الأوسط»، أمس، أن إرسال وزارة الدفاع (بنتاغون) قوات أميركية جديدة إلى شرق الفرات كان بموجب قرار من ترمب صدر نهاية العام، وضمن عمليات التبديل الدوري بين القوات التي يبلغ عددها نحو ألفين جندي ضمن التحالف الدولي لمحاربة «داعش»، مشيرين إلى أن وصول مئات الجنود من التحالف إلى منبج لم يكن ضمن إرسال قوات جديدة، بل انتقال الجنود من شرق الفرات إلى شمال شرقي حلب لـ«تأكيد الرغبة بحماية الحلفاء وإرسال إشارة إلى أنقرة» التي تريد إرسال قواتها بعد عفرين وتل رفعت إلى منبج والضغط للوصول إلى اتفاق مع واشنطن يتضمن إخراج «وحدات حماية الشعب» الكردية من منبج إلى شرق الفرات.

وبحسب هؤلاء المسؤولين الغربيين الذين اطلعوا على نتائج اجتماع مجلس الأمن القومي الأميركي برئاسة ترمب الثلاثاء، فإن الرئيس الأميركي كرر أكثر من مرة رغبته في بدء سحب القوات الأميركية «في أسرع وقت ممكن» باعتبار أن مهمة القضاء على «داعش» شارفت على الانتهاء. وأكد المسؤولون ما نُشر في صحيفة «واشنطن بوست» ووسائل إعلام أميركية، من أن ترمب كرر مرات عدة أن أميركا دفعت سبعة تريليونات دولار أميركي خلال 17 سنة في الشرق الأوسط من دون عائدات، وأن الوقت حان كي يساهم الحلفاء الغربيون وفي المنطقة في تحمل كلفة الجهود العسكرية الأميركية والقيام بواجباتهم لـ«ملء الفراغ» بعد الانسحاب الأميركي.

كما أشار ترمب، في الاجتماع، إلى أنه يريد الالتزام بوعوده الانتخابية بالتركيز على مصالح أميركية وسحب قواته من الشرق الأوسط. وبدا أن ترمب يريد حصول ذلك قبل الانتخابات النصفية في الكونغرس في بداية نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، حيث تتم إعادة انتخاب أعضاء مجلس النواب (يضم 435 مقعداً)، وثلث أعضاء مجلس الشيوخ (يضم 100 مقعد).

وقال مسؤول غربي لـ«الشرق الأوسط»، إن قادة وزارتي الدفاع والخارجية و«وكالة الاستخبارات المركزية» (سي آي إيه) ومستشار مجلس القومي «شنوا هجوماً مضاداً». كما ذكّر حاضرون في الاجتماع الرئيس ترمب بـ«احتمال» تكرار الخطأ ذاته الذي قام به الرئيس السابق باراك أوباما في 2011 عندما قرر سحب عشرة آلاف جندي أميركي من غرب العراق؛ ما أدى إلى عودة تنظيم «القاعدة» بثوب جديد عبر «داعش». وعلى عكس قول ترمب، أن «(داعش) شارف على الهزيمة»، أشار مسؤولون أميركيون إلى أن «داعش» لا يزال يسيطر على جيبين شرق سوريا بنحو ثلاثة آلاف عنصر: الأول، وادي الفرات. الآخر، قرب حدود العراق.

وفي الاجتماع شرح مسؤولون «الأبعاد الاستراتيجية للقرار الأميركي»، لافتين إلى أنه جرى التذكير أيضا بالاستراتيجية التي أعلنها وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون في بداية العام الحالي «التي أقرت بعد أشهر من المشاورات داخل المؤسسات الأميركية قبل أن يقرها ترمب نفسه». وإذ بدا أن ترمب «لم يعد معجباً» باستراتيجية تيلرسون الذي سيحل محله مدير «سي آي إيه» مايك بومبيو بعد موافقة الكونغرس، جرت الإشارة في اللقاء إلى أن «أهداف الاستراتيجية لا تزال صالحة» وتشمل خمسة أهداف: منع عودة «داعش»، تقليص نفوذ إيران بالسيطرة على منطقة على الطريق البري بين إيران والعراق وسوريا و«حزب الله»، الضغط مع روسيا لتحقيق انتقال سياسي، عودة اللاجئين من دول الجوار الحليفة لأميركا، منع استخدام السلاح الكيماوي.

وقيل في الاجتماع، إن الانسحاب الأميركي «يعني تسليم سوريا إلى روسيا، وفقدان أي ورقة ضغط، والتسليم بالوجود الإيراني في سوريا والعراق»، إضافة إلى قيام التحالف الثلاثي الروسي – التركي – الإيراني بـ«إقرار ترتيبات لملء الفراغ» وانعكاس ذلك على وجود القوات الأميركية في العراق.
عليه، قال المسؤول الغربي، أمس، إن الموقف الأميركي بعد اجتماع الثلاثاء يقع حالياً بين احتمالين: الأول، تمسك ترمب بموقفه بدفع الجيش الأميركي والتحالف لتحقيق هزيمة «داعش» في شكل كامل في آخر جيبين له ثم إعلان بدء الانسحاب عشية الانتخابات النصفية بداية نوفمبر المقبل مع إعطاء مهلة ستة أشهر للانسحاب التدرجي. الآخر، نجاح المسؤولين الكبار في الإدارة الأميركية، خصوصاً بعد تسلم جون بولتون منصبه مستشاراً للأمن القومي خلفاً لهاربرت ماكماستر في 9 الشهر الحالي، وتسلم بومبيو وزارة الخارجية، بإقناع ترمب بالبقاء شرق سوريا والتواصل مع الحلفاء في أوروبا والمنطقة لتوفير الدعم العسكري والمالي للمهمة الأميركية. وقال دبلوماسي غربي: «هناك احتمال أن تزيد أميركا جهودها، خصوصاً أن مسؤولين أميركيين يعتقدون أن تحقيق الأهداف الاستراتيجية الخمسة المعلنة يتطلب أضعاف عدد الجنود الأميركيين ومن الحلفاء»؛ الأمر الذي أعاد إلى طاولة البحث زيادة دعم فصائل عربية واحتمال إرسال قوات من الدول الغربية والعربية المنضوية في التحالف ضد «داعش» إلى شرق الفرات.

هنا، أثار خبير مقرب من واشنطن فكرة ربط أميركا والتحالف بين ثلاثة جيوب في ثلاث زوايا تقع تحت النفوذ الأميركي: شرق نهر الفرات، حيث تقع قواعد عسكرية أميركية و«قوات سوريا الديمقراطية» في زاوية الحدود السورية – العراقية – التركية، معسكر التنف في زاوية الحدود السورية – العراقية – الأردنية، هدنة الجنوب في زاوية الحدود السورية – الأردنية – الإسرائيلية.

في موازاة ذلك، بدأت ملامح اتصالات للحصول على دعم مالي ولوجيستي لتقوية الإدارات المحلية وعوامل الاستقرار وإعادة البناء شرق سوريا، إضافة إلى البحث عن وسائل لاستثمار الغاز والنفط من شرق الفرات، خصوصاً أن خبراء يعتقدون أن مناطق حلفاء واشنطن تضم 90 في المائة من النفط السوري البالغ 360 ألف برميل يومياً و45 في المائة من الغاز ومحاصيل زراعية وسدود مائية وكهرباء؛ ما يعني احتمال «توفير إمكانية لاعتمادها اقتصادياً على مصادرها الخاصة».

ويتوقع، بحسب المسؤولين، أن تشهد المرحلة المقبلة اتصالات داخل الإدارة الأميركية من جهة وبين واشنطن وحلفائها الغربيين وفي المنطقة من جهة أخرى؛ لمعرفة اتجاه الوجود الأميركي في سوريا بين «بدء الانسحاب بعد ستة أشهر» و«البقاء واحتمال تعزيز الوجود».

عفرين: الأهداف التركية والدور الروسي والمقاومة المحليّة

عفرين: الأهداف التركية والدور الروسي والمقاومة المحليّة

(تحاول هذه الورقة تحليل العوامل السياسية والجيوسياسية التي أحاطت بمعركة عفرين والأهداف التركية وراء العملية والدور الروسي الكبير فيها، ورهانات القوى الكردية أثناء مواجهة الهجوم التركي انتهاءً بوقوع المنطقة تحت الاحتلال التركي المباشر. كما تقدم الورقة من خلال موضوعها مثالاً متجدداً عن تعقيدات الصراع السوري وحجم التداخل والتضارب بين الأطراف الداخلية والخارجية بما فيها الأطراف التي تبدو في جبهة واحدة، إذ تبدو متحالفةً تارةً ومتنافسةً تارةً أخرى. تستند هذه الورقة إلى متابعة الكاتب المفصّلة والحثيثة للحدث، وإن كانت من الخارج، ولا تزعم بالطبع صحة التقديرات الواردة مع صعوبة التحقق الميداني في ظروف الحرب)

عملية “غصن الزيتون”

تحت هذا المسمّى المناقض تماماً لدلالة غصن الزيتون في التراث والثقافة كرمز للسلام والأمان، شنّ الجيش التركي ومعه 25 ألفاً من مقاتلي المعارضة السورية المسلحة المدعومة من أنقرة حملةً عسكرية ضخمة ضد منطقة عفرين الكردية السورية شمال غرب حلب، في العشرين من شهر كانون الثاني 2018، في خرقٍ للقانون الدولي بالهجوم على أراضي دولة أخرى، دون تفويض من السلطات الرسمية، تحت مزاعم تهديد أمنها القومي من القوات الكردية المتواجدة في عفرين. لم تقدّم الحكومة التركية أي أدلة وقرائن ملموسة حول حقيقة وجود أي تهديدات، فقد التزمت وحدات الحماية الشعبية YPG بعدم تشكيل تهديد مباشر أو غير مباشر للأراضي التركية المجاورة طيلة السنوات الماضية بقرارٍ مركزيٍ من قيادة الوحدات. وأظهرت ضبطاً للنفس رغم الاستفزازات التركية المتكررة للوحدات كي ترد عليها، بما فيها تسهيل مرور أو التغاضي عن آلاف الجهاديين إلى سوريا الذين عبروا حدودها، والذين شكلوا أكبر تهديد أمني للسكان في مناطق شمال سوريا، كما حملت على كاهلها مسؤولية الحفاظ على أمن المنطقة وسط الفوضى السورية وتهديدات الجماعات المسلحة التي يغلب عليها الطابع الجهادي الإخواني والمدعومة بمعظمها من قبل تركيا.  فكانت بذلك منطقة آمنة ومستقرة لجأ عليها عشرات الآلاف الهاربين من جحيم العنف في ريف حلب وإدلب وتقول التقديرات أن عدد النازحين إليها ما يقارب 400 ألف نازح.

الدوافع التركية

تطمح الحكومة التركية ومن منطلقٍ توسعيٍ في المنطقة يستند إلى مخيلة تاريخية فضفاضة وذرائع أمنية إلى السيطرة على مناطق واسعة من شمال سوريا والعراق، وخصوصاً الكردية منها، لمحاربة النهوض الكردي في الداخل التركي أو خارجه بحسب زعمهم. تكتسب منطقة عفرين أهميةً خاصةً لدى تركيا وذلك لقربها من لواء إسكندرون (يحدّ عفرين من الغرب سهل العمق التابع للواء) ذي الأهمية البالغة والذي احتلته تركيا عام 1939 إبان الانتداب الفرنسي على سوريا وبالتواطؤ مع السلطات الفرنسية. يُشكّل المكوّن الكردي غالبيةً مطلقة في المنطقة بنسبة أكثر من 95% حسب تقديرات الكثيرين من سكان المنطقة والباحثين.1  وكانت تسمى في العهد العثماني بـ”كرداغ” (جبل الأكراد باللغة التركية) وبقيت هذه التسمية إلى بدايات العهد الوطني في سوريا ثم استبدلت بتسمية قضاء جبل الأكراد. وتتميز المنطقة بتضاريسها الجبلية الصعبة التي ضاعفت من الفوبيا التركية إزاء وضع هذه المنطقة.

نشر الإعلام التركي مواداً كثيرة حول هذه الجزئية وجرى تضخيمها بناءاً على تصوراتٍ تزعم أنّ هناك دولة كردية تتشكل وسيكون لها منفذٌ بحري على المتوسط عبر الساحل السوري، أو عبر ميناء إسكندرون “التركي” على البحر المتوسط وتطمح لبيع النفط مباشرة عبر هذا الميناء.2  ففي 8  تشرين الأول/ أكتوبر 2017 صرّح الرئيس التركي أردوغان بوضوح: ”لن نسمح أبدا بممر إرهابي يبدأ في عفرين ويمتد حتى البحر المتوسط.“ (علماً أنّ هناك مسافة حوالي 150 كيلومتر تفصل عفرين عن الساحل السوري، تتوسطها محافظة إدلب وريف اللاذقية الشمالي التي تخلو من سكانٍ أكراد).

وباعتقادي أنّ حجة ارتباط مقاتلي وحدات الحماية الكردية بحزب العمال الكردستاني ورفع صور زعيمه المعتقل في تركيا “عبدالله أوجلان،” أو سيطرة وحدات الحماية الكردية على مناطق ذات غالبية عربية ومختلطة في شمال سوريا بعد تحريرها من “الدولة الإسلامية- داعش” والانتهاكات التي ارتكبتها، ليست إلا دافعاً ثانوياً بعكس ما تروّج الحكومة التركية. فلو كانت المنطقة تحت إدارة أية قوة كردية أخرى وبصبغة كردية لاتبعت تركيا نفس السياسة كي لا تصبح الإدارة الذاتية في شمال سوريا أمراً واقعاً ومعترفاً به في التسوية السياسية القادمة في سوريا، كما في حالة فيدرالية كردستان العراق التي ترسّخت دون إرادة تركيا، واضطرت للتعامل معها تالياً وفق هذه الحقيقة السياسية والدستورية في العراق.

إنّ حلم الهيمنة على شمال سوريا ليس ردّة فعل على الأحداث التي شهدها الشمال السوري. (إقامة إدارة ذاتية كردية، أو الارتباط المفترض لوحدات الحماية الكردية بحزب العمال الكردستاني) وحسب، بل كان في صلب السياسة التركية منذ الأيام الأولى للأزمة في سوريا وعلى نحو استباقي.  ففي كتابه «قطار الرافدين السريع» المنشور عام 2012 (ترجمة الراحل عبد القادر عبد اللي) وكذلك في مقابلة له مع قناة «بي بي سي» بتاريخ 19 أبريل (نيسان) 2017،  يروي جنكيز تشاندر الصحافي التركي المخضرم وأحد أقرب مستشاري الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال، أنه قبل مرور أسبوعين من انطلاق أحداث درعا في سورية كان ضمن وفد إعلامي في الطائرة الخاصة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في 27 آذار (مارس) 2011 بعد زيارة للعراق (بغداد وأربيل). بادر تشاندر إلى سؤال أردوغان عن الوضع في سورية. طلب أردوغان من الصحفيين أن يضعوا أقلامهم في جيوبهم ويغلقوا المسجّلات الصوتية ولا يدونوا حديثه. وبعد كلام عن عمق صداقته الشخصية والعائلية مع الرئيس السوري بشار الأسد وعائلته، قال أردوغان أن “سورية ليست سوريةً فقط… بالنسبة إلي تعني حلب، وحلب تعني هاتاي (أنطاكية) وعنتاب، المدينتان التركيتان على الحدود السورية، وسورية تعني القامشلي أيضاً، ولا ضرورة للقول ماذا تعني القامشلي. والقامشلي ليست القامشلي لوحدها… بل هي أشياء كثيرة أخرى. (كان يشير للقضية الكردية وآثارها على الداخل التركي). وأضاف أنه لا يمكن السماح بموجة هجرة من سورية الى تركيا كما حصل في شمال العراق بعد 1991. ويجب أن نؤسس خطوط دفاعنا الأولى خارج أراضينا وليس داخل أراضينا، ملمّحاً إلى فرض منطقة عازلة داخل الأراضي السورية.” يضيف تشاندر في مقابلته، وهو العارف بدهاليز السياسة التركية ومن المفترض ألا يُصدَم، أن حديث أردوغان في ذلك الوقت المبكر من أحداث سورية، أي بعد مرور أثني عشر يوماً فقط من شرارة درعا، كان بمثابة قنبلة له!

يُضاف لهذا البعد الكردي الذي شكل ذريعة أساسية للهجوم التركي أهدافٌ وغاياتٌ تتعلق بالأزمة السورية عامةً وحجز نفوذٍ تركي قويٍ في سوريا الجريحة خاصةً في المناطق الشمالية ومنطقة حلب وجوارها، عبر تعزيز نفوذ الجماعات الإسلامية المسلّحة، سيما تلك التابعة لشبكة جماعة الإخوان المسلمين التي تتخفّى وراء تسمياتٍ عديدة ضمن الأطر السياسية والفصائل المسلحة وحتى بعض الهيئات والمنظمات الحقوقية والإغاثية في سوريا التي تحظى بدعم تركيّ- قَطَريٍ غير محدود. يضاف إلى ما سبق سعي الحكومة التركية لتحقيق أهدافٍ تتعلق بالشأن الداخلي لسنا بصدد التطرق إليها الآن.    

خريطة رقم ١: مناطق السيطرة في سوريا حتى تاريخ ٢١ آذار (مارس) ٢٠١٨، تُشير الأسهم إلى جبهات التقدم [المصدر مركز كارتر]

صفقة روسية – تركية وتنافس أمريكيّ -روسيّ على كسب تركيا

تتحمّل حكومة روسيا الاتحادية، ذات النفوذ في منطقة حلب وريفها، قسطاً كبيراً من مسؤولية احتلال تركيا لمنطقة عفرين لأنها أفسحت المجال الجويّ السوري الخاضع لها للدولة التركية كي تشنّ حملتها العسكرية جواً وبراً. بل ومنعت الحكومة السورية من تقديم أية مساعدة جديّة للقوات المقاومة في عفرين بعد أن تخلّت عن ممارسة حقها وواجبها في الحفاظ على سيادتها وحدودها ضد العدوان الخارجي وفق القانون الدولي. كما التزمت الولايات المتحدة ذات النفوذ في مناطق سورية أخرى (منبج وشرق الفرات) الصمت تجاه العدوان التركي بحكم علاقاتها مع الدولة التركيا في إطار حلف الناتو. كما لم يتبلور تنديد الاتحاد الأوربي من العدوان التركي إلى أي موقف سياسي فاعل، سوى الموقف الفرنسي الخجول وهو في الأساس لا يملك أوراق قوة في سوريا. أما عربياً فلم تبدي سوى جمهورية مصر العربية تنديداً واضحاً بالعدوان التركي على منطقة عفرين تطور لاحقاً إلى موقفٍ إعلاميٍ عام للجامعة العربية، تحفظت عليه دولة قطر الحليفة لتركيا والداعمة لشبكات الإسلام السياسي في المنطقة كلها والتي وقفت في صف العدوان منذ اليوم الأول وسخّرت إمبراطوريتها الإعلامية (شبكة الجزيرة الإعلامية) للترويج ومساندة العدوان وتضليل الرأي العام العربي والإسلامي.

وكان من الملاحظ أيضاً أنّ “إسرائيل” لم تدلي بأي تصريحٍ رسمي حول العمليات العسكرية التركية في عفرين، وهي لا تكاد تفوت مناسبة لتظهر صورتها كدولة “إنسانية” و”ديمقراطية”  تستفظع ممارسات الأنظمة العربية وقتلها لشعوبها، رغم كونها دولة احتلال قائمة على التطهير العرقي وتهجير أهل فلسطين. ويعود سبب الموقف الإسرائيلي إلى موقف حليفتيها روسيا والولايات المتحدة من جهة، وإلى تحسن العلاقات التركية الاسرائيلية بعد المصالحة التي تمت عام 2016 بعد سلسلةٍ من الأحداث التي أدت إلى توتر العلاقات بين الدولتين خاصة بعد حادثة سفينة “مافي مرمرة” في أيار 2010، وكذلك التعاون العسكري والأمني بين تركيا وإسرائيل (تتضمن الترسانة العسكرية التركية أسلحةً إسرائيلية خصوصاً في مجال الطائرات دون طيار) .وكان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قد التقى خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في أيلول (سبتمبر) 2017، بممثلي الجمعيات اليهودية وطلب، كما يُفهَم من خطاب له تطرّق فيه لمضمون اللقاء، دعمهم لتركيا ضد استفتاء كردستان العراق وضد التجربة الكردية في سوريا، وإقناع حكومة إسرائيل بذلك.

لم تُعر الحكومة التركية أي اهتمام لأية انتقاداتٍ دولية تعارض سياساتها ولا لهيئات الأمم المتحدة بما فيها مجلس الأمن الدولي الذي أقرّ وقف إطلاق النار على جميع الأراضي السورية، بقراره رقم (رقم 2401) الصادر بتاريخ  24/2/2018، والذي لم يلتزم به أي طرف بما فيه الحكومة التركية.

ثمة لومٌ من جانب بعض الأوساط الكرديّة وكذلك أوساط النظام ومواليه، مفادهُ أنه كان على الإدارة الذاتية في عفرين تسليمها للجيش النظامي السوري قبل بدء العدوان، الأمر الذي كان سيجنّب المنطقة الاحتلال والكارثة الإنسانية التي نجمت عنه. في الواقع لم تنقطع المفاوضات بين الإدارة الذاتية والنظام قبل وأثناء الحملة، غير أن الروس منعوا أي تفاهم بين الطرفين، بحسب قيادات سياسية وعسكرية كردية، أكدّ ذلك أيضاً تقرير مطلع لجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 11 آذار (مارس) يقول فيه: “وكانت دمشق تريد العودة إلى عفرين سواء فعلياً أو رمزياً، لكن موسكو رفضت، لأن التفاهمات مع أنقرة أكبر بكثير من عفرين”، بحسب قول مسؤول روسي. بعدها، أرسلت دمشق «قوات شعبية» إلى عفرين وريفها، قوبلت بقصف تركي أوقع عشرات القتلى. وكان هذا تطبيقاً لما أبلغه قائد المركز الروسي إلى حمو وعليا في اجتماع حلب، منه أن موسكو “لن تدعم الاتفاق بين الوحدات والجيش، بل إن تنفيذ هذا الاتفاق خطوة خطرة جداً.” كما أنه تطبيق فعلي لما سمعه حمو من رئيس الأركان الروسي في موسكو عشية بدء عملية «غضن الزيتون» من أن لتركيا “الحق في الدفاع عن أمنها القومي”، وأن الجيش الروسي “لن يعرقل استخدام الطائرات التركية في الهجوم على عفرين.”

وهذا لا يعني أن النظام كان راغباً أو متحمساً أو لديه القدرة العسكرية للدخول إلى عفرين ووضعها تحت سيطرته الكلية وحمايتها بالتالي من العدوان التركي والدخول في مواجهة خطيرة مع الجيش التركي، على افتراض أن تركيا كانت ستحجم عن غزو المنطقة لو كانت تحت سيطرة الحكومة السورية المركزية. صحيح أن النظام أيضاً يريد (تأديب) الأكراد إلا أنه بنفس الوقت يُقدّر خطورة تقدم مسلحي المعارضة مجدداً نحو مدينة حلب بعد أن كاد يخسر مدينة حلب بالكامل بكل مكانتها وثقلها بالإضافة لريفها الشمالي ولم يتمكن من استعادتها إلا بمساعدة الطيران الروسي جواً والمشاركة الإيرانية براً. وكان بالإمكان أن يُقدّم الجيش النظامي السوري مساهمةً عسكريةً متطورةً من حيث العتاد ويبقى المقاتلون الأكراد هم القوة الأساسية في الميدان، بيدَ أن الأمر لم يكن بهذه البساطة. فقد أسرّ لي مصدرٌ موثوق شارك في المفاوضات مع الروس قُبيل بدء العدوان على عفرين، أنّ الجانب الروسيّ كان واضحاً في مطالبه التعجيزية للإدارة الذاتية، التي تمثلت برفض مناقشة الوضع في عفرين بمعزل عن جميع مناطق الإدارة الذاتية في شمال سوريا، كما طلبوا منهم فكّ الارتباط كلياً مع قوات الولايات المتحدة المتواجدة في شرق الفرات، والاندراج في الأجندة الروسية المناهضة للنفوذ الأمريكي في سوريا، وأن يكون بترول المنطقة الشرقية من حصة الروس، وبعد تلبية هذه الشروط يمكن مناقشة وضع عفرين!

بالطبع لم يكن ممكناً للجانب الكردي تلبية هذه المطالب والاشتراطات الروسية حتى لو أراد. وبالفعل أوضح سير المفاوضات بعد بدء العدوان على عفرين حقيقة الموقف الروسي هذا، فتلك المطالب لم تكن سوى محاولةٍ من الروس لوضع اللوم على الإدارة الذاتية فيما كانت الصفقة الروسية التركية حول عفرين قد أبرمت وتنتظر التنفيذ على الأرض. وباءت كافة محاولات إدارة كانتون عفرين مع النظام والجيش النظامي بالفشل نتيجة صلابة الموقف الروسي. وأثناء الحملة أخبر الضباط الروس المتواجدون في سوريا قيادات الوحدات الكردية أن قضية عفرين بيد الرئيس الروسي بوتين حصراً، وليس قاعدة “حميميم” العسكرية الروسية في سوريا.  وكلّما توصلت الإدارة الذاتية إلى اتفاقٍ مع الجيش النظامي، تدخل الروس لإجهاض الاتفاق. في المحصلة، وبعد مرور أكثر من شهر على العدوان التركي، تمكنت دمشق من الإفلات من الموقف الروسي الصارم بإرسال “وحداتٍ شعبيةٍ ” رديفة للجيش النظامي بدلاً من الوحدات النظامية، لكنها كانت قليلة العدد والعتاد ومن دون مضاداتٍ للطيران التركيّ. وحتى حينما تعرّض هؤلاء لغارةٍ جويةٍ تركيةٍ في معسكر “كفر جنة”  على مشارف عفرين في منطقةٍ خاضعة للنفوذ الحكومي والروسي ويرتفع فوقها العلم السوري الرسمي وقتل منها ما لا يقل عن 36 مقاتلاً دفعة واحدة،  لم تستطع دمشق إعلاء صوتها وتقديم بيان احتجاجٍ رسميٍ على القصف التركي. ولا يستبعد أن يكون قصف الموقع قد تمّ بعلم الروس. وفي دلالةٍ على أنّ تركيا مصمّمة على احتلال جميع الأراضي التابعة لمنطقة عفرين بغضّ النظر عما إذا كانت تحت سيطرة الوحدات الكردية أو الجيش النظامي السوري، كان هناك عشرات القرى الكردية التابعة جنوب منطقة عفرين قد سُلّمت للجيش النظامي ورفع فوقها العلم السوري وذات تواجد روسي بعد انسحابٍ كاملٍ للوحدات من منطقة عفرين، ورغم ذلك قصفت تركيا المواقع العسكرية هناك وأجبرت وحدات الجيش السوري على الانسحاب منها، لتحتل أراضي منطقة عفرين بالكامل بقراها ومركزها. وتتبع الحكومة التركية حالياً  نفس السياسة الآن مع مدينة “تل رفعت” العربية المجاورة، رغم أنّها واقعة رسمياً تحت سيطرة الجيش النظامي السوري بعد انسحاب وحدات الحماية وجيش الثوار(المتحالفين في إطار “قوات سورية الديمقراطية”) منها.

ومن المرجح أنّ هناك اتفاقاً روسياً-تركياً بخصوص هذه المدينة أيضاً، لذا من غير المستغرب أن تتنازل روسيا عن هذه المدينة أيضاً لتركيا. وهناك ممانعة إيرانية سورية قوية حتى الآن لهذا الاتفاق التركي الروسي بخصوص ” تل رفعت”. والمفارقة هنا أنّ من طرد قوات المعارضة السورية المسلحة من “تل رفعت” وجوارها وهجّر أهلها وسمح لفصيل” جيش الثوار” المتحالف مع الوحدات الكردية في إطار (قسد) بالسيطرة عليها، لم يكن سوى الطيران الروسي نفسه في شباط 2016، والآن تسمح روسيا  لنفس الفصائل بالعودة والتمدد واحتلال منطقة عفرين، كمرافقين للجيش التركي.

أرادت روسيا بفسحها المجال الجوي لتركيا الانتقام من تحالف الوحدات الكردية مع الولايات المتحدة شرق الفرات، رغم أن الوحدات الكردية تعاونت مع روسيا أيضاً في حلب وريفها وهناك نقاط عسكرية روسية في مناطق سيطرة الوحدات في حلب. وقبل بدء الحملة العسكرية التركية التي أطلق عليها عملية “غصن الزيتون”، كان هناك نقطة عسكرية روسية في مدخل عفرين أخلاها العسكريون الروس قبيل الهجوم التركي.

اللاعبَان الأساسيان في سوريا إذاً الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية يتصارعان على كسب تركيا. فالولايات المتحدة في طور تحسين علاقتها مع تركيا، الحليف التاريخي والقوي في حلف الأطلسي (الناتو)، بعد تدهورها إثر اتهامات لغولن المقيم في الولايات المتحدة بالتخطيط للانقلاب. كما تعمل روسيا على كسب تركيا في صراعها مع الغرب والناتو ومن أجل أجندتها في سوريا (إدلب والغوطة للنظام وروسيا مقابل عفرين لتركيا)، ولأجل مصالح اقتصادية خارج سوريا (في مجال الطاقة خصوصاً) وصفقات تسليح بينهما (صفقة بيع المنظومة الدفاعية الصاروخية الروسيةS400   لتركيا).

أما الإيرانيون، اللاعب الثاني النافذ في سوريا والداعم للنظام السوري، فله تفاهماته العديدة مع تركيا حول الملف الكردي تحديداً وقد تجلى ذلك بوضوح في مواجهة استفتاء كردستان العراق العام الفائت. وبالنسبة لللاعب الإيراني، فلا يشكل الشمال السوري أولوية له ومنهمك بمناطق أخرى. ورغم ذلك ونظراً لحساسية موقع عفرين وقربها من حلب وتحديداً بلدتي النبل والزهراء، اللتان ينحدر سكانهما من الطائفة الشيعيّة، ومخاوف الإيرانيين من تهديدات مسلّحي المعارضة السورية المدعومة من أنقرة، فإنه من المحتمل بأنّ الوحدات الشعبية الرديفة للجيش النظامي، وهم في غالبيتهم من أبناء البلدتين المذكورتين أعلاه، قد شاركت في مقاومة عفرين بموافقة من الضباط الإيرانيين في سوريا. هذا وقد سبق أن خضعت البلدتان لحصارٍ من قبل المعارضة وقامت الوحدات الكردية في عفرين بالتخفيف منه، ونالت بسبب ذلك غضباً إضافياً من فصائل المعارضة المسلّحة.

لكنّ صرامة الموقف التركي حيال أي دعمٍ للمقاتلين الأكراد في عفرين، والتفاهمات المسبقة بين تركيا وإيران، أجبرت مقاتلي الوحدات الشعبية الرديفة إلى الانسحاب سريعاً من عفرين والعودة لمحيط بلدتي نبل والزهراء. ومن المرجّح أن تركيا قد تعهدت لإيران وروسيا بعدم اقتراب مسلحي المعارضة السورية من البلدتين.

هكذا أساءت الإدارة الذاتية تقدير الموقف وتعقيداته باعتتقادها أنه بوسعها التنسيق مع أطرافٍ مختلفةٍ ومتنافسةٍ ولاعبين كبار في سوريا (أمريكا في منبج وشرق الفرات، وروسيا في حلب وعفرين)، فأصبحت ضحية صراعات الطرفين من جهة، ومصالح كل لاعبٍ مع تركيا من جهةٍ أخرى. كما أثّر التوتر الأمريكي-الروسي بحدّةٍ على الموقف إزاء الحملة التركية على عفرين، فعدا الأسباب الخاصة بكلا الدولتين، حصلت مواجهة كبيرة بين الطرفين أثناء الحملة التركية الأمر الذي منع أي تفاهم بينهما في سوريا يمكن أن يحدّ من الهجوم التركي على طرفٍ يمكن أن يُعتبر حليفاً للإثنين، أو يوقفه عند حد معين .نعني هنا حادثة يوم 7 شباط/ فبراير 2018 في ديرالزور حين قتلت القوات الأمريكية المئات من جنود روس من شركة أمنية خاصة تُعرف بـ “فاغنر” وهي مقربة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين،  وكانوا بمهمة مساندة للجيش السوري هناك، الأمر الذي اعتبر بمثابة أول مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا بهذا الحجم ينجم عنها قتلى، ولم يحصل لها مثيل في أوج الحرب الباردة.

بعيداً عن البروباغندا الروسية التي ردّدت مراراً شعار “حماية الدولة السورية” من التفتت والتقسيم كأحد أبرز أهداف تدخلها العسكري المباشر في سوريا في 2015، فها هي تُسلّم مناطق سورية عديدة في شمال سوريا لتركيا، كما تفسح المجال لإسرائيل لتضرب مواقع حكومية سورية أو مواقع إيرانية/حزب الله ضمن الأراضي السورية، وهذا موضوع آخر خارج إطار البحث. وكما تنازلت روسيا عن مناطق جرابلس وإعزاز والباب في شمال سوريا لتركيا، تنازلت أيضاً عن منطقة “عفرين”. ويمكن مقارنة السلوك الروسي، الذي  تدخل في الصراع بناءاً على تفويضٍ رسمي من حكومة الدولة السورية ليقيم قاعدةً على أراضيها بموجب اتفاقٍ عسكريٍ أشبه بانتداب ٍغير مقونن، بسلوك فرنسا إبان انتدابها على سوريا حين أعطت لواء اسكندرون لتركيا في ثلاثينات القرن الماضي. لكن بعد تملّص الانتداب الفرنسي من “التزاماته” كانت هناك نقاشاتٌ وجلساتٌ مطولة في عصبة الأمم، وكانت بعض القيادات السورية تناقش وتطالب بحقوقِ سورية الوطنية مستندةً إلى ما ورد في صك الانتداب لجهة عدم جواز التخلي عن أراضي الدولة المنتدبة من قبل الانتداب لأي دولة أخرى. أما الآن فإن روسيا وإيران تقرران نيابة عن الحكومة في دمشق الكثير من القرارات السيادية والمصيرية. ولا نقاشات في الأمم المتحدة وهيئاتها عن هذا الانتهاك الصارخ لسيادة الدولة السورية المنتهكة من عدة دول (أمريكا، روسيا، تركيا، إيران، إسرائيل) ولا صكوك انتداب!

على ماذا كانت تراهن المقاومة في عفرين إذاً؟

كانت  المقاومة تراهن  بقوّة على تحصيناتها القوية في محيط منطقة عفرين، تلك التحصينات التي تمكنت بفضلها الوحدات الكردية من صدّ المحاولات المتكررة لاقتحام عفرين من قبل الفصائل الإسلامية وحلفائها المدعومة من أنقرة في محيط عفرين، وأنّ المقاومة على الأرض ستغيّر المواقف الدولية بالتدريج ، وأنّ المخطط التركي قد يتوقف بعد تحقيق تركيا لحزامٍ أمنيٍ على امتداد حدودها دون التوغّل في العمق، وكانت بعض التصريحات التركية نفسها تلمح إلى ذلك، وأنّ الولايات المتحدة بوصفها حليفةً للقوات الكردية في شرق الفرات خلال المعارك ضد تنظيم داعش (الدولة الإسلامية) لن تقف متفرجة على سحق تركيا لحلفائها في عفرين، وأنها ستمارس ضغوطاً من نوع ما لوقف العدوان. كما كانت هناك مراهنة على أنّ النظام في دمشق قد يتخذ موقفاً عملياً داعماً بالتدريج، أو أنّ المجتمع الدولي سيتخذ موقفاً يُجبر تركيا على التراجع أو وقف التوغل، أو أنّ الداخل التركي-الكردي نفسه قد يتحرك (عبر تنظيم مظاهراتٍ شعبيةٍ، أو عملياتٍ نوعيةٍ لحزب العمال الكردستاني) لنصرة عفرين ليجبر الحكومة التركية على التراجع. لا تتوافر معلومات فيما إذا كان هناك مراهناتٌ على وعودٍ من أطرافٍ ودولٍ بتزويد المقاومة سرّاً بأسلحةٍ متطورةٍ (صواريخ مضادة للطيران مثلاً).

المقاومة أو الترحيب بالغزو؟

كان من البديهي ألّا يحظى هذا الهجوم بأي ترحيٍب من قبل السكان والقوى السياسية والفعاليات الاجتماعية في المنطقة، وكان من المشروع تماماً أن يبادر شباب وبنات عفرين إلى الدفاع عن أرضهم وأهلهم في وجه عدوانٍ خارجيٍ وغزوٍ يستهدفهم ولا يخفي غاياته في ضرب استقرار وأمن منطقة عفرين وسكّانها، ويضمر تهديداً لوجود الأكراد وحقوقهم المشروعة في سوريا والمنطقة.  

كان أمام القيادات الكردية في عفرين خياران لا غير بعد تصميم الحكومة التركية على عدوانها وانسداد جميع الحلول السياسية والدبلوماسية مع الجانب الروسي وتلكؤ الجانب الحكومي السوري وتردّده. الأول هو الترحيب بالجيش التركي، الذي لا يُخفي أهدافه العدوانية والعنصرية، واستقباله بالورود، وهذه كانت ستسجل كواقعةٍ سوداء في تاريخ القوى السياسية والاجتماعية في عفرين. ولم يكن ممكناً لأي جهة كردية أن ترضى بهذا الموقف الذي لا يُغفَر تاريخياً، سيما وأنّ وحدات الحماية الشعبية كانت قد حصّنت منطقة عفرين عسكرياً بشكل جيد تحسّباً لهذا اليوم المتوقع وكانت القيادات الكردية تدرك أن المخطط التركي واسع جداً ويتجاوز عفرين، والمعركة تستحق أن تُخاض بكل الإمكانات لوقف المخطط في عفرين.  فكان الخيار الثاني وهو ممارسة حقّ الدفاع المشروع عن النفس ضد غزوٍ خارجي غير مشروع. بهذا لم يمارس أهل عفرين سوى حقهم المشروع والمبدئيّ في ردّ العدوان الخارجي وغير المشروع بكافة المعايير الحقوقية والإنسانية، وليسوا السبب في إطلاق العدوان وشنّ الحرب، بل كانوا هدفاً وضحايا لحرب ظالمة عدوانية من خارج الحدود.

في الواقع كانت التحصينات العسكرية في محيط منطقة عفرين على التلال والمرتفعات (أنفاق طويلة مفتوحة على بعضها في مناطق جبلية صعبة ووعرة، وخنادق عسكرية) مُحكمةً للغاية، وقد جرى التحضير جيداً في السنوات السابقة لهذا الهجوم المتوقع. وقد تكرّر على لسان القوات التركية والجماعات السورية المهاجمة أنها تحصينات هندسية عسكرية متطورة جداً لا يمكن أن تقوم بها إلا دول وليس ميليشيات وأحزاب. بالمقارنة مع أنفاق غزة مثلاً يقول تقرير: ” وبينما يجري الحديث عن أنفاق في غزة بطول كيلومترات عدة وبعمق يتراوح بين 10 إلى 30 متراً تحت الأرض، تتحدث المصادر التركية عن أنفاق موصولة بعمق وصل إلى 150 متراً وبطول وصل إلى عشرات الكيلومترات، غطيت جميعها بالإسمنت المسلح، يتسع عرض بعضها لدخول شاحنة كاملة في داخلها، لتكون بذلك أشبه بمدينة كبيرة أخرى بنيت أسفل عفرين.”

لكن الطيران الحربي التركي وطائرات المراقبة التي لم تفارق سماء المنطقة والتقنية العالية الحديثة للقوات التركية لم تترك مجالاً فعلياً لأية مواجهات بريّة مباشرة. وسلاح الجو التركي يعدّ الأكثر تطوراً في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة الأمريكية. أعلن وزير الدفاع التركي والصحافة التركية عن أسلحة حديثة في معركة عفرين تستخدم لأول مرة من قبل الجيش التركي، منها طائرة تجسس بدون طيار (درون) صغيرة للغاية بحجم أكبر قليلاً من “النحلة” (تسمى بطائرة النحلة) تستطيع كشف المخابئ والكهوف في التلال والجبال ولا تصدر أصواتاً وغير قابلة للكشف، كما تستطيع التحليق والتصوير لعدة أيام. وهذه الطائرات الحديثة أمريكية في الأصل، تعتمد تقنية النانو، وتٌغير مسارها دون أن ترتطم بأي عائق.

أما الوحدات الكردية فاعتمدت على تكتيك الانسحاب والكمائن والتفخيخ ومضادات الدروع. وقد قالت لي مصادر في الوحدات الكردية أنه لشدة القصف الجوي والمراقبة الجوية لم تتمكن المقاومة من استخدام ما لديها من أسلحة خفيفة ومتوسطة، ففي معظم الأحيان ما إن يُوضع صاروخ على منصةٍ أو عربة إطلاقٍ أو يتحرك مقاتلون من الكهوف تسبقهم ضربة جوية بفعل المراقبة الجوية الحثيثة. وكانت خسائر القوات المدافعة في غالبيتها العظمى عن طريق القصف الجوي والمدفعي من بعيد وليست الاشتباكات المباشرة. ورغم غياب التوازن العسكري لصالح الجيش التركي، فقد وقعت خسائر غير قليلة في صفوف القوات المهاجمة، بينهم عشرات الجنود والضباط من القوات الخاصة التركية عبر كمائن، وأعلنت تركيا عن إسقاط مروحية هجومية تركية في عفرين ومقتل طاقمها.

حظيت مقاومة وحدات حماية الشعب YPG ووحدات حماية المرأة  YPJوحلفائها من قوات سورية الديمقراطية ( قسد) بالتفافٍ شعبيّ منقطع النظير وبمساندة أبناء عفرين الذين تطوعوا في صفوف المقاومة أو قدّموا المساعدة في الخطوط الخلفية وأعمال الإغاثة والدعم الطبي والإعلامي. وعلى مدار 58 يوماً تكبّدت القوات المهاجمة خسائر كبيرة قياساً لفارق التقنية والتسليح. وقد عبّرت المقاومة الميدانية والاحتضان الشعبي عن رفضٍ للعدوان وعن وحدة حال بين أهل عفرين بجميع توجهاتهم وتضامناً بين الأكراد ورافضي العدوان والغزو من المواطنين العرب والسريان من منطقة “منبج” وحتى منطقة “ديرك” في أقصى الشمال الشرقي السوري، وكذلك الجاليات الكردية في الخارج والمهجر، وأكراد تركيا والعراق وإيران.

بعد انهيار الدفاعات الأمامية للمقاومة بعد أكثر من شهر تقريباً من الهجوم، تقدّمت القوات التركية وحلفائها من كتائب المعارضة المسلحة السورية بشكلٍ متسارع ٍ وباشرت حصارها لمركز مدينة عفرين وقطعت المياه بعد استهداف سد بحيرة “ميدانكي.” كما اشتدّ القصف المُركز على المدنيين فيها الأمر الذي أسفر عن وقوع الكثير من الضحايا في يومي 16-17/3/2018 واستهدافٍ للمشافي والمرافق المدنية والخدميّة الأمر الذي اضطر المقاومة لاتخاذ قرارٍ مؤلمٍ، لا يقل شجاعة عن قرار الدفاع، وهو الانسحاب من المدينة لتجنيب المدينة المكتظة بما يزيد عن نصف مليون إنسان مصيراً مأساوياً، سيما وأنّ الميزان العسكري كان لصالح الجيش التركي بفارق ٍلا يقارن، وكان هناك صمتٌ دوليٌ كامل أعطى مزيداً من التشجيع لتركيا للمضي بمشروعها الاحتلالي.

ما اعتمده الجانب الكردي في عفرين منذ لحظة بدء العدوان حتى احتلال مركز المدينة كان حصيلة الموازنة بين ممارسة حقٍ مشروعٍ بالدفاع عن النفس والممكنات والحسابات المتأتية من استمرار المقاومة في معركة مدينة عفرين-المركز في ظل موازين القوى العسكرية والسياسية وتصاعد وحشية القصف التركي على المراكز المدنية. ورغم ذلك فقد سيطر الارتباك والتشوش على موقف وحدات الحماية وإدارة كانتون عفرين في الأيام الأخيرة للمقاومة، الأمر نجم عنه تخبط في إدارة الأزمة وعدم مصارحة الأهالي بقرار الانسحاب الذي اتخذ شكل الانهيار وليس الانسحاب المدروس، مما أدى الى حالة سخط بين الأهالي بسبب تلك الطريقة الغامضة، والتي بدت وكأنّ مسؤولي الإدارة في عفرين تركوا الأهالي لمصيرهم لا يعرفون ماذا يفعلون، خاصةّ وأنّ الحواجز الأمنية للإدارة كانت تمنع خروج السكان من المدينة في الأيام السابقة، بحسب بعض التقارير والمصادر.

خريطة رقم ٢: تُظهر الوضع في شمال غرب سوريا حتى تاريخ ٢١ آذار (مارس) ٢٠١٨ [المصدر مركز كارتر]

المأساة الإنسانيّة في عفرين تتحملها دولة الاحتلال التركي

سقط نتيجة هذا العدوان مئات الضحايا بين المدنيين بين شهداء وجرحى بينهم أطفال ونساء وشيوخ وكذلك بين صفوف المقاومين. وبحسب المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية يانز لاركي فقد نزح ما لا يقل عن  167 ألف شخص جراء الأعمال العدائية باتجاه أطراف منطقة عفرين المتاخمة لمدينتي نبل والزهراء وتل رفعت في ريف حلب  الشمالي وفي ظروف صعبة وقاسية للغاية. حيث منعتهم مثلاً حواجز النظام من التوجه إلى مدينة حلب حيث يملك الكثير منهم منازل هناك، إلا بدفع رشوة تبلغ حوالي ألف دولار للشخص الواحد ولا يملك هذا المبلغ الضخم إلا عددٌ محدود جداً من النازحين.

وقعت مدينة عفرين ونواحيها وقراها (نحو 400 قرية) تحت الاحتلال التركي المباشر ورُفعت فيها الأعلام التركية والأناشيد القومية التركية. أما الجهاديون السوريون (وهم مكون أساسي بين الكتائب المسلحة السورية المرافقة للجيش التركي تحت ستار اسمٍ جديد “الجيش الوطني السوري”) فيواصلون التعامل مع سكان عفرين المتنوعين عقائدياً والمتعايشين بسلام وهدوء ودون تمييز  كـ” ملاحدة وكفار،” ويعبثون بالرموز الدينية العائدة للكرد الإيزديين ويستهترون بهم وعقيدتهم، ويختبرون إيمان الناس علناً في الشوارع بالسؤال عن عدد الركعات في كل صلاة، لمعرفة فيما إذا كان الشخص ملتزماً دينياً أم لا ، كما ظهر في فيديوات بثها مقاتلو المعارضة أنفسهم على وسائل التواصل الاجتماعي. وهذه ظاهرة شاذة عند أهل المنطقة وتشكل تهديداً مباشراً للنسيج الاجتماعي المتآلف والمتعايش في منطقة عفرين الذي تميّز بغياب التوترات الإثنية والدينية والطائفية ونمطٍ متسامحٍ إزاء التعبيرات الدينية المختلفة. ومن المرجح بأن يؤثر نمط السلطة الجديد على هذا النموذج الاجتماعي المنفتح والمندمج على المدى البعيد.

سبقت الحملة العسكرية على عفرين حملة مكثفة موازية بين أوساط المعارضة السورية في إعلامها تتهم وحدات الحماية وحزب الاتحاد الديمقراطي بالعلمانية الحاقدة أو إلالحاد والكفر…والشيوعية!3  وتبرعت أوساط كرديّة وعلمانيّة باتهام قياداتها بأنها “عَلويّة “! كما روجت بعض وسائل الإعلام المعارضة أنّ إدارة “صالح مسلم الذاتي” تغازل الأسد وتفتتح مركزاً للعلويين في عفرين كما ورد في أحد تقارير الأورينت المعارضة.

كما أصبحت مدينة عفرين منذ اللحظة الأولى لاحتلالها ( 18/3/2018) مدينةً مفتوحةً لنهبٍ منظّمٍ ومقصودٍ من قبل المئات من مقاتلي المعارضة الذين ارتضوا العمل تحت راية العلم التركي بحيث لم يتركوا منزلاً أو محلاً تجارياً أو مسجداً إلاّ ونهبوه تماماً.4

في الواقع فإنّ كافة الفصائل المسلحة في سوريا دون استثناء مارست النهب والسرقة عند سيطرتها على أي منطقة، لكنها فاقت جميع التصورات في حالة عفرين بسبب التحشيد الديني ضد المنطقة من قبل الجهات السورية المدعومة من أنقرة بإطلاق أوصاف تكفيرية على أهل عفرين واستباحة دمائهم وممتلكاتهم بموجب فتاوى معلنة وأخرى غير معلنة. فمثلاً أصدر “المجلس الإسلامي السوري” المعارض ومقره اسطنبول، فتوىً مؤيدة للعمليات العسكرية التركي بتاريخ 26  شباط /فبراير2018 واصفاً قتال “قوات سورية الديمقراطية” بالجهاد في سبيل الله، وتضمنت الفتوى حديثاً عن “الغنائم.”  

وفي أعقاب احتلال مركز مدينة عفرين هُدم نصب تذكاري للشخصية الأسطورية ” كاوا الحداد” القائم في مدخل المدينة في مشهد احتفالي كبير، وهو رمز للشعوب المحتفلة بالنوروز ومنهم الكرد، الذين يشغل عندهم شخصية كاوا معنى نضاليّاً ضد الطغيان ورمزاً للحرية. كما تم حرق جميع الرموز والأعلام الكردية والدوس عليها بصرف النظر لأي حزب أو جهة تعود. و يبدو جلياً سلوك الانتقام من خصوصية المنطقة الإثنية في ممارسات الجيش التركي والفصائل السورية التي تقاتل معه في عفرين.

منذ 18  آذار 2018، أصبحت منطقة عفرين تحت الاحتلال التركي المباشر الذي خرق الحدود الدولية مع  سوريا، وخرق القانون الدولي، وهجّر أهل عفرين من قراهم ومدنهم الآمنة التي كانت تحتضن عشرات الآلاف من النازحين (العرب) من ريف حلب وإدلب، و أشعل فتنة بين الكرد والعرب المتآخين في مناطق شمال سوريا، هذا بالإضافة لجرائم واسعة ارتكبت بحق المدنيين من أهالي منطقة عفرين منذ بدء العدوان، وتخريب وتدمير للبنية التحتية، سيما في بلدتي جنديرس وراجو، ومنشآتٍ خدميةٍ كثيرة ومواقع أثرية عديدة كمعبد عين دارة الشهير وموقع براد الأثري (الذي يضم ضريح مار مارون) والمسجل على لائحة مواقع التراث العالمي (اليونيسكو) منذ عام 2011.

يتعيّن على كرد سوريا وجميع السوريين المعارضين للاحتلال التركي وأنصار السلم والديمقراطية ومناهضي الفاشية حول العالم، العمل المكثّف مع هيئات الأمم المتحدة والدول ذات النفوذ في الأزمة السورية لإعادة النازحين والمهجرين من مناطق عفرين وضمان عودة آمنة وسريعة وكريمة إلى قراهم وبلداتهم وتقديم مساعدات إغاثية وطبية عاجلة لجميع الأهالي، ومنع أي تغييرٍ ديمغرافي أو إخلالٍ بالتركيبة السكانية قد تمارسه تركيا أو الجماعات السورية المؤتمرة بأمرها تحت أي حجج. ما هو مؤكد على المدى القريب، أنّ العودة إلى عفرين غير ممكنة حالياً بالنسبة للعديد من السكان الذين شاركوا في الإدارة السابقة في كافة قطاعاتها العسكرية والأمنية والخدمية والصحية والإعلامية والتعليمية، وعوائل شهداء المقاومة ومناصري حزب الاتحاد الديمقراطي وقيادات القوى السياسية والاجتماعية التي تعاونت مع الإدارة السابقة وعارضت الاحتلال أو آزرت المقاومة بأي شكل من الأشكال. نتحدث إذاً عن مئات العوائل العفرينية الممنوعة من العودة.

وبالتوازي مع هذا المحور الإنساني الملح والعاجل ينبغي العمل على المسار القانوني بالعمل على تثبيت صفة الاحتلال على الوجود التركي في عفرين والتصرّف بموجب ذلك، أي الدعوة للخروج الفوري للقوات الأجنبية ومن رافقها إلى خارج الحدود الدولية السابقة للعدوان، وتحميل الدولة التركية مسؤولية المنطقة دون أن تكتسب صفة السيادة على هذا الجزء المقتطع من أراضي الدولة السورية، لأنها أصبحت فعلياً تحت سيطرة الجيش التركي ورفع العلم التركي في كثير من المقرات والمباني الإدارية. وبالتالي تتحمل حكومة أنقرة كامل المسؤولية وفق القانون الإنساني الدولي.  وحتى جلاء هذه القوات عن أرض عفرين وعودتها إلى أهلها تحت السيادة السورية، فإنّ تركيا مسؤولة عن كافة الجرائم والانتهاكات والأضرار التي وقعت منذ بدء حملتها العسكرية في 20 كانون الثاني الماضي. وواجبات سلطة الاحتلال محددة بشكل واضح في لائحة لاهاي لعام 1907 واتفاقية جنيف الرابعة بالإضافة إلى بعض أحكام البروتوكول الإضافي الأول والقانون الدولي الإنساني العرفي، وسوى ذلك من مواثيق وقوانين دولية ذات صلة.

الهوامش:
1- بحسب الباحث محمد عبدو علي ” يشكل الأكراد غالبية السكان في منطقة عفرين، وهم يقطنونها منذ القدم، ولم يشاركهم أحد في استيطانهم لها على مدى قرون عديدة وحتى القرن التاسع عش، وهي تتوزع على سبع نواح، يشكل الأكراد في خمس منها نسبة تقارب 100 %، وهي نواحي: شيخ الحديد، راجو، بلبل، شران، معبطلي. أما العرب والفئات الأخرى القاطنة في المنطقة فينحصر وجودهم في ناحيتي “جنديرس والمركز – عفرين.” (جبل الكرد (عفرين): دراسة تاريخية اجتماعية توثيقية. المديرية العامة للصحافة والطبع والنشر. السليمانية. العراق. 2009، ص 161)
2تكررت مثل هذه المزاعم مراراً في جريدة “يني شفق” المقربة من حزب العدالة والتنمية الحاكم وكتابات رئيس تحريرها إبراهيم قره غول خصوصاً. ففي مقابلة مع موقع تركيا الآن، صرّح قره غول “أنّ تركيا بقيامها بعملية تحرير “عفرين” قد أغلقت الطريق أمام ممرّ البحر الأبيض المتوسط، الذي يهدف الإرهابيّون إقامته” . وفي تسجيلٍ مصور أدلى نائب رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم  Hamza Dağ بتصريحاتٍ مشابهة أن عملية عفرين اقتصادية أيضاً، وقطعت محاولات مد انبوب بترول بديل من اقليم كردستان عبر المناطق الكردية في سوريا إلى البحر المتوسط بدل المرور بتركيا.
3-هناك فتاوى عديدة لـ “المجلس الإسلامي السوري” المعارض بهذا الخصوص. انظر مثلاً الفتوى المعنونة بـ “حكم الإقامة في مناطق تحت حكم ميليشيات PYD” (10 حزيران /يونيو، 2016) حيث تصف القوات الكردية بالـ “ميليشيات PYD العلمانية الحاقدة.”  كذلك الفتوى الصادرة بتاريخ 31 أيار/مايو، 2016، بعنوان “حكم القتال بين تنظيم الدولة والميلشيات الكردية” والتي جاء فيها يرد فيها (بالنسبة للسؤال عن موقف المسلم من القتال الواقع بين تنظيم الدولة في الرقة والميليشيات الكردية العلمانية التي تتخذ من اسم قوات سورية الديمقراطية ستاراً لها، فإننا نرى أن كلا الفصيلين فاسد ومنحرف).
4-صرّح Bulent Kilic  وهو مصور تركي كان يغطي الوضع في عفرين لوكالة فرانس برس، التي نشرت صور السرقة والنهب في عفرين لشبكة سي إن إن CNN:
” عمليات النهب كانت واسعة النطاق ومنظّمة. المئات من مقاتلي المعارضة كانوا يركزون على النهب أكثر من الاحتفال بانتصارهم…كانوا ينهبون كل شيء؛ سلع وحيوانات وماعز وحتى طيور الحمام”.  وتابع قائلاً “كنت في مناطق حروب لسنوات عديدة. يحدث أن اثنان أو ثلاثة أشخاص ينهبون…لم ألاحظ الكثير بداية. ولكن بعد ذلك رأيت أنهم على عجلة من أمرهم لأخذ كل شيء من هذه المدينة “. وقال “إن بعض الكتائب صبغت أسماءها على متاجر معينة كأسلوب لحجز النهب في المستقبل. “…”سكان عفرين غاضبون من نطاق السطو ويحاول كثيرون العودة لحماية منازلهم ومتاجرهم.”
تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية
أنا سوري! آه يا ويحَ قلبي

أنا سوري! آه يا ويحَ قلبي

“أنا سوري” ربما باتت هذه الكلمة هي الوحيدة التي تجمع بين السوريين، في وقتٍ اختلفت فيه المواقف والآرء، وكثرت فيه المصطلحات والانتماءات الطائفية والدينية والعرقية.

إذن في زحمة كل التعصبات والتحزبات التي طفت على السطح بعد الثورة السورية، لازال الذي بقي في البلد أو ذلك المُهجّر قسراً أو المدني أو المقاتل ، يجيب -وبشكل فطري-بـ “أنا سوري” عندما يسألونه من أين أنت.

انتظر… فقد تستمر الحالة اللاشعورية لثوان معدودة، ولكن لا بد للنزعة المناطقية أن تخرج هنا، وهذه المرة بالحالة الشعورية ومع سبق الإصرار والتصميم، ليعود السوري ويقول لك إنه “شامي”… أو حمصي أو حلبي أو درعاوي أو جزراوي مثلاً.

وهنا تبدأ دوامة أخرى من التفاصيل التي لاتنتهي، ومحاولة إثبات حسن الحسب والنسب والتفوق على أبناء المناطق الأخرى، وهذه الحالة قديمة صراحة نستطيع اختصارها، بمصطلح “برا السور وجوا السور”  المقصود هنا سور دمشق القديمة، هذا إن كان المدعو من دمشق تحديداً، أو ابن الريف والمدينة في الحالات المتبقية.

عندما يُعرّف السوري بنفسه، فإنه لايحكي عن طبيعة موقفه السياسي إلا إذا سُئل عن ذلك، وما أكثر من خاب ظنهم بما تبقى اليوم من سلطة ومعارضة، فالسوريون وجدوا أنفسهم لوحدهم، ولم يكن معهم في معاناتهم اليومية داخل البلاد وخارجها، فمن الغلاء إلى التهجير، إلى القتل والحصار والتجويع، والذل على أبواب السفارات والقنصليات.

لم ننته بعد… فها أنت وحيد إلا من منفاك، ها أنت وحيد إلا من عذابك، تحمل ذكرياتك عبر زمان لن يعود يوماً، تستذكر في الأزقة الأوروبية ملامح حارتك القديمة، تغمض عينيك للحظة، فلا تجدها، يا للغربة المفتوحة.

متى سنعود، وإلى أين سنعود، يطرق هذا السؤال بال معظم السوريين، دون وجود إجابة واضحة، ربما كان السوريون في السنوات الأولى من الثورة يعوّلون على المؤتمرات الدولية وقدرتها على الوصول إلى حل ينهي المأساة، ولكنها ذهبت كما أتت، فلا الأسد غادر السلطة، ولا المعارضة أثبتت فاعليتها على الأرض، فيما يزداد عدد العناصر والميليشيات والدخلاء في المناطق السورية يوماً بعد يوم.

في سبيل الحرية… هذا ما خرجت لأجله الثورة السورية عام 2011، وهذا ما صرخت به الحناجر آملةً في نيل المنشود، ولكن في دولة البعث كان المنشود غير موجود، والأكثر من ذلك أن مؤيدي النظام السوري أصبحوا على عداء تام مع كلمة حرية، حتى أنها لا تدور في أحاديثهم اليومية، ولايسمحون لأنفسهم باستخدامها أبداً، وصارت تعني لهم بشكل أو بآخر قوى المعارضة، مقابل تمسّك الأخيرة بالكلمة رغم دخول الثورة عامها الثامن.

مصطلح الثورة، بات أيضاً تهمة تُجرّم من يقولها في ظل حكم نظام الأسد، كذلك حمل مؤيدو الأخير عداء كبيراً تجاه المصطلح، وبات يعني لهم الخراب والتدمير.

بالمقابل شكّلت كلمة “إلى الأبد” عقدة مزمنة لدى المعارضة بقدر ما تحمله الكلمة من زمن غير منته، فأبرز شعارات حزب البعث قامت على هذا المصطلح، في إطار ترسيخ فكرة بقاء آل الأسد في السلطة إلى ما لانهاية، ولكن المعارضة قامت بنسف المفهوم تماماً وأطلقت شعاراً مضاداً لطالما استُخدم في المظاهرات، وهو “ما في للأبد… ما في للأبد… عاشت سوريا ويسقط الأسد.”

الصراع في سوريا، لم يُبنَ فقط على اختلاف الموقف السياسي فحسب، وإنما لعب الاختلاف الديني دوراً كبيراً في إذكاء نار الصراع، ولكن إلى حد الآن لا يُعرّف السوري نفسه بناء على طائفته، إلا في حال سُئلَ عن ذلك بشكل مباشر، وهنا لابد من القول إن الانتماءات الطائفية بلغت أوجها بعد عام 2011، حتى أن الانتماء السياسي بات يُحسب في بعض الأحيان على أساس الطائفة، فمثلاً وحسب النظرة الشعبية، ابن الطائفة العلوية مؤيد بالضرورة لنظام الأسد، والكردي شخص انفصالي لامحالة، وابن الطائفة السنية هو معارض، وبأحوال أخرى “داعشي… إسلامي…”

وبحسب نفس النظرية الجديدة بات ابن الطائفة المسيحية مؤيداً بالغالب، أو غير منتمِ بأحوال أخرى، فيما عزز سفر قسم كبير من أبناء الطائفة المسيحية خارج البلاد مع بداية الأحداث هذه النظرية.

التشرذم الكبير في الحالة السورية، تعمّق أكثر مع موجات اللجوء المليونية خارج حدود الوطن، التي أدت إلى اختلافات جذرية في الشخصيات والنفسيات تبعها بالضرورة تغييرات في طريقة التعبير عن الآخر وعن النفس وعن المجريات المحيطة، فبينما استكشف السوريون الذين غادروا البلاد أن الحيطان ليس لها آذان، لازال سوريو الداخل “يمشون الحيط الحيط … ويارب السترة”، بمعنى أن الخوف من الحديث في المواضيع السياسية بدأ يختفي تدريجياً من حياة غالبية سوريي المهجر، بينما بقي مسيطراً على قلوب وعقول أهل الداخل.

تغير مفهوم الوطن اليوم بعد العذابات والقهر والكبت الذي ذاقه السوريون داخله، فأصبح الوطن هو جواز السفر الأوروبي، أو الفيزا، أو المكان الذي يمنح السوري الأمان، ويحفظ كرامته ويصون حريته.

الكل بات يقاتل اليوم من أجل البقاء، نعم هكذا باتت تُحسب الأمور، أما النظام فلا يهمه من بقي ولا من ذهب، فالدولة هي دولة العسكر، دولة السوط والحذاء والبندقية، فرغم كل ما حصل لم يغير النظام أسلوبه في التعامل مع المواطنين، لابل أن الظلم والفساد يزداد تشعباً،  في الوقت الذي يزداد فيه المشهد الدولي قتامة وضبابية، إزاء ما يحدث في سوريا.

ما يريده السوريون صعب جداً ويختلف من فرد إلى آخر، ولكن مهما اختلفت الآراء والتوجهات، فهم يحنّون أبداً للعودة إلى لمة الأسرة السورية البسيطة في منزل الجدة الحنون، التي جسّدها مسلسل “الفصول الأربعة”، أفضل تجسيد عندما عُرضَ بجزئه الأول عام 1999، في وقت كان راتب موظف الدولة فيه لايزيد عن خمسة آلاف ليرة سورية، في وقت كانت فيه رفاهية المواطن أن يجد مقعداً فارغاً في ميكرو “دوار شمال”، أو “مزة جبل-اوتستراد.”

“أنا سوري… آه يانيالي…” أغنية لطالما رددناها بالصغر، أما اليوم انقلبت المعادلات والموازين وبتنا نقول “أنا سوري… آه يا ويح قلبي!”

يوميات سورية: الأطفال والتسول

يوميات سورية: الأطفال والتسول

في كل البلاد جياعٌ ومتسولون، المشكلة تبدأ عندما يربط الجمهور مشكلة الجوع بتقصير الأفراد عن تأمين الحد الأدنى من مقومات العيش فتتحول المسؤولية المباشرة من الجهات المسؤولة إلى من يحتاج الدعم، وتصير الفئات الأكثر ضعفاً مدانةً ومتهمةً فيزيد الحيف وتهرب الحلول.

عندما يتعامل الجميع مع الجوع والتسول وكأنهما متلازمتان قطعيتان يتداخل السبب والنتيجة في عمقٍ إقصائيٍ يُبرّر الهروب من مسؤولية التصدي للمشكلة بشكلٍ عميقٍ ومتوازن وليس من مجرد باب الإحصاء والأرقام والسخرية، بل إن دراساتٍ كثيرة يوافق عليها أغلب الجمهور تجعل من هؤلاء المستضعفين سبباً بارزاً للتخلف وتراجع جدوى الخطط الوطنية للنهوض بأحوال الأفراد .

على زاوية حديقة العدوي تقف طفلة متسولة، آثار خرمشةٍ قاطعةٍ ونازفةٍ على رقبتها، بشعرٍ صبيانيٍ وعيونٍ شبه ميتة وبنطالٍ مهترئٍ وجاكيت رياضية تشد على تفاصيل جسدها الأنثوي. أسألها عن اسمها؟ فتقول “أحمد” وتشد سترتها الضيقة لتخفي ظلال برعمين يتفتحان على صدرها، هكذا طلب منها والدها: “أن تقدّم نفسها كصبيٍ درءاً للتحرش”! من قال أن التحرّش بالصبية نادر، فهو متفشٍ وبغزارة دنيئة لا تفرّق بين جسدٍ وآخر إلا بغريزة الفريسة والمفترس.

***

على باب أحد المولات الكبيرة في حيٍ غني وآمنٍ تمنح إحدى السيدات سُكرةً طريةً لطفلةٍ بعمر السنتين بحضن أمها المتسولة وبجانبها أختها ذات الأعوام الأربعة. السكرة كبيرة الحجم على الفم الطفولي، تسقط منه مبللةً بلعابٍ مشتاقٍ لنكهة السكر، فتغتنم الطفلة الأكبر فرصة السقوط وتلتقطها معفرة بالتراب وتدسها في فمٍ يتسع لها ويستطعم بنكهتها. تبكي الأصغر، تضرب الأم الابنة الكبرى ضربة قوية على ظهرها، تخرج السكرة من فمها. تبكي البنت وتقول: “والله كنت عم غسلها ياها من التراب!”

أجل ثمة اختناقٌ يحرمُ الفم الطفولي من التنعّم بقطعة حلوى، صراعُ حقوقٍ هنا، والكل خاسر، والأم غير عابئة بحزن الطفلتين ولا ببكائهما، تتركهما وتغيّر مكانها إلى الزاوية الأخرى فغلة اليوم خاوية حتى الآن.

***

يتلبس التسول ألف وجهٍ، باعة ُمحارمٍ عند إشارات المرور، ماسحو زجاج السيارات، باعة علكٍة وحمالون بأجسادٍ ضئيلة وظهور منحنية، تتفاوت الشفقة ما بين مانحٍ أو شاتمٍ للأهل أو للحرب والفقر معاً. وأكثر المظاهر تناقضا كشكلٍ احتياليٍ على التسول هو بيع الآيات القرآنية على إشارات المرور وعلى أبواب الحدائق والمولات الكبيرة. ذات مرة رفض متسولٌ صغير أجبروه على تلبّس حالة الإيمان خمسمائة ليرة دفعة كاملة من قبل سيدة فقط لأنها قالت “يا لطيف على هذا الاحتيال!” لابل لاحقها بشتائمه وقال لها “لا أريد نقوداً من كافرةٍ مثلك.”

في حيّ قريبٍ جداً اسمه “الرز”، يتجمع عددٌ كبيرٌ من المتسولين الأطفال لينطلقوا إلى عملهم اليومي، تقودهم تراتبية عالية الاحتراف. الزعيمة بحدود الخامسة عشرة أو أكثر بقليل من عمرها بكحلٍ أسودٍ في عينيها وبأساورٍ وخواتم معدنية في أصابعها ويديها، هي الصندوق  أو الخزنة بالمعنى الفعلي، تجلس جانبا تراقب الجميع وتحمل حقيبةً جلديةً تعلّقها على صدرها بشكل متصالبٍ كي تأمن من النشالين. تتلهى “الزعيمة” بدعوة بعض النساء المغمورات بالخيبة أو الهجران لقراءة الطالع والتحايل على أحزانهن ببعض الوعود الكاذبة لتحتفظ بغلّة التنجيم لها شخصيا بعيدا عن عيون الأكبر سناً والمراقبين والمحصلين ضمن البنية التراتبية ذاتها. بين المتسولين طفلة بجاكيتٍ جميلٍ، لكنها وحين تصل إلى ساحة العمل للبدء بالتسول، ترميه جانباً كما تخلع جوربيها وجزمتها لترتدي شحاطة بلاستيكية عتيقة توحي بالبرد وتثير الشفقة وتستدر العطاء من الجيوب.

***

يُحكى أنّ طفلتين متسولتين قد عبرتا بأسمالهما البالية وجسديهما النحيلين مكاناً أهله أغنياء، فنادتهما امرأة من شرفتها واعدةً إياهما بفطورٍ صباحيٍ غنيٍ ومشبعٍ وشهيٍ. صعدتا إلى الطابق الثامن في بناءٍ برجيٍ سيراً على الأقدام لأنهما تخشيان استعمال المصعد كما أنهما وحينما حاولتا استخدامه ذات مرة صفعهما ناطور البناء لأنهما غير جديرتين باستخدامه أصلاً. المهم وصلت الطفلتان إلى عتبة منزل السيدة المضيفة التي وقفت بانتظارهما مع ابنتها، لتقول لابنتها: “شفتي هيك يللي ما بياكول موز وما بيشرب حليب بيصير نحيف ووسخ وشحاد!”

***

على أبواب المشافي ثمة أطفال يحملون بأيديهم المرتجفة وصفاتٍ طبيةٍ وقد تكون محمولة بالمقلوب لجهلهم بالكتابة أصلاً. يثبتون الوصفة في  وجه العابرين مكررين ديباجة فارغة وكاذبة: “هادا الدوا لأمي، هي جوا بالمشفى وما معنا حق الدوا”. لا تحاول التدقيق في أسماء الأدوية فهي حكما ليست للحالة المذكورة، ولا تحاول تكذيب الرواية أو الاكتفاء بعبارة “الله يشفيها،” لأنك حينها ستتلقى صفعةً كلاميةً على شاكلة: “الله لا يعافيك، أو انشا الله بتمرض وما بتلاقي حق حبة دوا بجيبتك.” وقد تكون الرواية صحيحةً وحقيقيةً لكن فرص التأكد واهيةٌ جداً وما عليك سوى الدفع كي لا تقع في شراك الندم.

***

بالقرب من إحدى إشارات المرور وعند زاوية الرصيف طفلةٌ يافعةٌ وفي حضنها رضيعٌ يبكي، تسعى جاهدةً لإسكاته بدسّ اللهاية أو رضاعة الحليب في فمه لكنه لا يتوقف عن البكاء. تمطر فجأة، يشتد المشهد حلكة، لا الطفلة اليافعة مدربة بخبرة الأم للهرب أو النجاة ولا الجو الماطر يحتمل البقاء، تمنحها إحدى السيدات العابرات ألف ليرةٍ كاملة وتقول لها باكية: “هذه غلّة اليوم!خذي أخاكِ وانصرفي!” وتعقب “لم تعد قلوبنا تحتمل كل هذا الظلم،” لكنّ مرافقة السيدة تعترض بشدة على تصرفها وتحاججها بأنها بذلك تكرّس عملية استغلال الرضع لجني المال. أتركهما غارقتين في نقاشٍ بلا أدنى توافق، فكل التحليلات صحيحة لكنها دون جدوى، والحل لا يكمن في آلاف الليرات ولا في توفر التعاطف أو غيابه، القصة أكبر من مسألةٍ قابلةٍ للتحليل والتوصيف وحسب، هي نتاجٌ منسجمٌ ومتوافقٌ مع غياب كافة آليات الحماية للطفلات والأمهات والرجال من التسول. فآليات الحماية يجب أن تكون مجتمعية التوجه ومجتمعية المحصلة النهائية للحلول أو غيابها.

إنّ التعوّد البصري على الأعداد الكبيرة من المتسولين هي قضيةٌ مؤسفةٌ وتُعمّق جذور المشكلة، فالاعتياد بداية التجاهل، وبداية التجاهل هي بداية لوم الآخر (الأضعف)، وبداية لومه هي إعفاء للجميع من المسؤولية أفراداً ومؤسساتٍ وحكوماتٍ.

جرّبتُ ذات يوم ٍأن أكون حكماً بين طفلين متسولين يتشاجران على أحقيتهما بسيارة سباقٍ معدنيةٍ صغيرةٍ سوداء اللون، لكن عبثاً. بل نابني بعض الشتائم وركلة ودعوات للانصراف من قبل الحاضرين حفاظاً على سلامتي الشخصية واصفين عملي بالحالم والأحمق.

***

تتعرّف إلى المتسول الجائع فوراً من طريقة تعامله مع السندويشة أو الفطيرة التي تمنحها له، لكن ماذا أنت بفاعل إن قال  لك: “بدّي كمان لأختي! أو لأمي.”ّ

موجودون بكثرة، ينامون من شدة التعب والجوع، يتشاجرون، ينشلون ويسرقون، ويتلقون الصفعات والشتائم كما الليرات وسقط الطعام أو المتاع.

المتسولون الأطفال أكبر من مشكلة وأقل من خطة للمعالجة أو التجاوز نحو الخطوة التالية ،لا خطواتٌ  تلوح في الأفق، لا خطط ولا إحصاءات، مجرد ترحيل للأزمة كما كل التدابير، والكلام أقل من أن يكون ذا معنى، هذا عن الكلام أما الأفعال فغائبة تماما كما كل الآمال.

تفاهمات كبرى ومقايضات تحدد خرائط النفوذ في سوريا

تفاهمات كبرى ومقايضات تحدد خرائط النفوذ في سوريا

ترأس الرئيس الأميركي دونالد ترمب، اجتماعاً لمجلس الأمن القومي، أمس، لاتخاذ قرار نهائي بشأن الوجود العسكري الأميركي شرق سوريا. ويلتقي رؤساء روسيا فلاديمير بوتين، وتركيا رجب طيب إردوغان، وإيران حسن روحاني، في أنقرة، اليوم، لبحث ترتيبات عسكرية – سياسية لسوريا بينها مستقبل العملية العسكرية التركية في تل رفعت بعد سيطرة أنقرة وحلفائها على عفرين شمال حلب، إضافة إلى مستقبل التسوية السياسية.

يأتي ذلك بعد سيطرة قوات الحكومة السورية على غوطة دمشق، والوصول إلى اتفاقات لإجلاء نحو 100 ألف مقاتل وعائلاتهم، بينهم 60 ألفاً وعائلاتهم يُتوقع أن يشملهم اتفاق دوما، من شرق العاصمة إلى شمال سوريا وشمالها الغربي. وبات السؤال المطروح بعد الغوطة: هل تذهب قوات الحكومة إلى الجنوب أم إلى ريف حمص؟ لكن يبدو أن خطوط مناطق النفوذ ترتسم رويداً رويداً وسط مخاوف من تحول هذه المناطق تقسيماً للبلاد كأمر واقع.

«إقليم» شرق نهر الفرات

تسيطر «قوات سوريا الديمقراطية» التي تضم «وحدات حماية الشعب» الكردية وفصائل عربية، على مناطق شرق نهر الفرات التي تشكل نحو ثلث مساحة الأراضي السورية، لكن الأهم أنها تضم 90% من إنتاج النفط السوري، إضافة إلى 45% من إنتاج الغاز السوري، حسب تقدير خبراء.

وبلغ الإنتاج السوري من النفط قبل 2011 نحو 380 ألف برميل يومياً. وانخفض إلى 20 ألفاً ثم ارتفع إلى حدود 60 ألفاً، من آبار تنتشر في مناطق تحت سيطرة حلفاء واشنطن تُباع في معظمها لمناطق حلفاء موسكو!

وتغيّرت السيطرة على المصادر الطبيعية في السنوات السبع الماضية. إذ كانت فصائل إسلامية ومعارضة تسيطر على معظم آبار النفط والغاز ومحطات الكهرباء، لكن وقوع معظمها تحت سيطرة «داعش» أدى إلى تقاسم السيطرة بين «قوات سوريا الديمقراطية» من جهة وقوات النظام من جهة أخرى.

ويُنتج في سوريا حالياً نحو 60 ألف برميل، إذ يكلّف إنتاج البرميل 8 دولارات أميركية، يضاف دولاران لنقل كل برميل، و8 دولارات لمعالجة برميل النفط في مصفاة حمص الخاضعة لسيطرة القوات الحكومية وسط البلاد، ثم يباع بأكثر من ضعف المبلغ في الأسواق. وأشار إلى أن تجارة النفط باتت تشكل مصدراً رئيسياً لاقتصاد الحرب في البلاد، وأنها توفّر مليون دولار يومياً.

وكان التحالف الدولي ضد «داعش» بقيادة أميركا قد دعم «قوات سوريا الديمقراطية» لتحرير شرق البلاد من التنظيم الإرهابي، حيث تمت السيطرة على الرقة والحسكة وزاوية الحدود «السورية – التركية – العراقية». وجرى في مايو (أيار) الماضي التوصل إلى اتفاق أميركي – روسي تضمّن عدم عبور حلفاء موسكو إلى الضفة الشرقية للفرات باستثناء الذهاب إلى البوكمال والميادين، مقابل موافقة الجانب الروسي على العبور إلى الضفة الغربية، للسيطرة على مدينة الطبقة، خصوصاً سدها الاستراتيجي ومطارها العسكري، إضافة إلى السيطرة على منبج شمال شرقي حلب.

وأقام الجيش الأميركي، الذي يضم ألفَي عنصر ومئات من المقاتلين البريطانيين والفرنسيين والنرويجيين (سابقاً) عدداً من القواعد العسكرية، خصوصاً في عين العرب (كوباني). وبات حلفاء واشنطن يسيطرون عملياً على «سوريا المفيدة» اقتصادياً، حيث تقع ثروات النفط والغاز والزراعة والمياه والسدود. وبقي «مربعان أمنيان» للحكومة في القامشلي والحسكة، إضافة إلى تسيير رحلات للطيران المدني بين القامشلي ودمشق.

عليه، استمرت روسيا وحلفاؤها في اختبار أميركا التي وفّرت الدعم لـ«قوات سوريا الديمقراطية» للسيطرة على منشأة غاز بدأت شركة «كونوكو» الأميركية تشغيلها قبل 15 سنة، وتشمل خطين لإنتاج الغاز الحر والمرافق للاستخدام المنزلي، إضافة إلى توفير 145 مليون قدم يومياً لمحطة جندر للكهرباء قرب حمص لإنتاج 400 ميغاواط من الكهرباء، أي 40% من الكهرباء المنتجة من الشبكة السورية.

وكانت موسكو تريد السيطرة على المنشأة، وقصف الطيران الروسي مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» قرب كونوكو، تعبيراً عن الانزعاج. وفي بداية فبراير (شباط) هاجمت مجموعة من «المرتزقة» الروس يعملون ضمن «مجموعة فاغنر» المرتبطة برجل الأعمال يفغيني بريغوجين المقرب من الرئيس فلاديمير بوتين ويُعرف بأنه «طباخ بوتين»، موقعاً لحلفاء واشنطن للضغط باتجاه أكبر حقل نفطي. لكن الرد الأميركي كان حاسماً، إذ إن الجيش الأميركي قصف القافلة وقتل عشرات يعتقد أنه بينهم 195 من «المرتزقة» الروس.

وكانت تلك إشارة من واشنطن للدفاع عن شرق نهر الفرات في ضوء الاستراتيجية التي أعلنها وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون بـ«البقاء إلى أجل غير مسمى» شرق الفرات لتحقيق أهداف للمصالح الأميركية بينها: منع ظهور «داعش»، وتقليص النفوذ الإيراني، ومنع التواصل بين إيران و«حزب الله» عبر الحدود السورية – العراقية، والضغط على موسكو ودمشق وطهران لتحقيق انتقال سياسي في سوريا، وعودة اللاجئين والنازحين، ومنع استخدام السلاح الكيماوي.

وكررت واشنطن التزامها مع حلفائها لدى إرسالها قبل أسبوعين مسؤولين كباراً إلى منبج شمال شرقي حلب، كي تقول للجيش التركي إن التقدم إلى هناك أيضاً ممنوع حالياً، وسط استمرار المفاوضات بين أنقرة وواشنطن للوصول إلى ترتيبات حول منبج التي تضم دوريات عسكرية أميركية تفصل المقاتلين الأكراد عن حلفاء تركيا، كما تضم مركزاً عسكرياً روسياً في ريفها يفصل الأكراد عن قوات الحكومة السورية.

كان الجيش الأميركي قد قصف في مايو العام الماضي مرات عدة، مقاتلين موالين لدمشق، وأُسقطت طائرة سورية في إطار الدفاع عن قاعدة أقامها التحالف الدولي في معسكر التنف في زاوية الحدود «السورية – الأردنية – العراقية»، وحدد دائرة بقُطر 55 كيلومتراً لحمايتها من أي هجوم. وضمت فصائل معارضة لقتال «داعش» خضعوا لتدريبات على أيدي وحدات خاصة أميركية وبريطانية ونرويجية. لكن يبدو أن الاختبارات الروسية – الإيرانية لمدى التزام روسيا ستبقى قائمة، مع العلم أن «الحشد الشعبي» العراقي سيطر على الجبهة المقابلة من حدود سوريا.

جنوب هش… و«نصيحة» أميركية

إذا كانت واشنطن قد دافعت بوضوح عن التنف وشرق نهر الفرات وأرسلت إشارات لحماية منبج، فإن منطقة النفوذ الأميركية الرابعة جنوب سوريا تخضع لاعتبارات أخرى. إذ إنه في يوليو (تموز) الماضي، توصل الرئيسان دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في هامبورغ إلى اتفاق على «عدم وجود قوات غير سورية» في مناطق «هدنة الجنوب» في درعا والقنيطرة والسويداء، ما يعني إبعاد تنظيمات تدعمها إيران و«حزب الله» عن حدود الأردن وخط فك الاشتباك في الجولان المحتل.

وبعد مرور أشهر من اتفاق هامبورغ، وعلى هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (أبيك) في دانانغ في فيتنام، توصل وزيرا الخارجية الأميركي –حينها- ريكس تيلرسون، والروسي سيرغي لافروف إلى اتفاق، أُعلن باسم الرئيسين ترمب وبوتين في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) تضمّن عناصر، بينها أهمية «خفض التصعيد» في الجنوب باعتباره «خطوة مؤقتة» للحفاظ على وقف النار، وإيصال المساعدات الإنسانية.

وكانت قد وُقعت في عمان، في 8 نوفمبر، مذكرة تفاهم لتنفيذ اتفاق تموز، وتضمنت تأسيس مركز رقابة في عمان لتنفيذ الاتفاق «الروسي – الأميركي – الأردني» لاحتفاظ المعارضة بسلاحها الثقيل والخفيف، وتحديد خطوط القتال، وبدء تبادل تجاري مع مناطق النظام، وتشكيل مجلس محلي معارض، واحتمال عودة اللاجئين من الأردن أو نازحين قرب الحدود.

الخطة بالنسبة إلى أميركا، ترمي إلى «الخفض والقضاء النهائي على وجود القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب من المنطقة لضمان سلام أكثر استدامة»، في إشارة إلى عناصر الميليشيات الإيرانية و«حزب الله» المنتشرين. أما بالنسبة إلى موسكو، فالخطة تعني القضاء نهائياً على «جبهة النصرة» و«جيش خالد» التابع لـ«داعش» جنوب سوريا. ورفضت إسرائيل أن يقيِّد الاتفاق حركة طائراتها في قصف أهداف لـ«حزب الله» أو تنظيمات إيرانية قرب الجولان أو جنوب البلاد.

التزام الجانب الأميركي نهاية العام أوقف الدعم العسكري والمالي لـ35 ألف مقاتل معارض كانت تدعمهم «غرفة العمليات العسكرية» بقيادة «وكالة الاستخبارات الأميركية» (سي آي إيه). وطرحت أفكاراً بدعمهم لمحاربة «داعش» و«جبهة النصرة» في الجنوب.

ومع قرب انتهاء العمليات العسكرية في الغوطة، توجهت تعزيزات إلى ريف درعا وشنت غارات على مناطق مختلفة. وحسب مسؤول غربي، استعجلت واشنطن الدعوة إلى اجتماع في عمان لعقد محادثات روسية – أميركية، حيث تبادل الطرفان الاتهامات؛ واشنطن تقول: إن موسكو لم تلتزم إبعاد «القوات غير السورية» بين 5 و15 كيلومتراً في المرحلة الأولى، و20 كيلومتراً بالمرحلة الثانية. وموسكو تقول: إن واشنطن لم تلتزم محاربة «النصرة» و«جيش خالد».

وتشير مؤشرات إلى احتمال حصول ترتيبات جديدة في الجنوب السوري تشمل فتح الطريق التجارية والمعبر الحدودي مع الأردن، وعودة «رموز الدولة ومؤسساتها»، وسط حملة يشنها الجيش الروسي وأنصار دمشق للوصول إلى «تسويات ومصالحات».

لكن النصيحة الأميركية للمعارضة، كانت بعدم استفزاز قوات الحكومة وروسيا كي لا تتعرض لقصف وهجوم بري بدأت مؤشراته تظهر على الأرض. وهناك من يتحدث عن مقايضة جديدة تتضمن تثبيت أميركا شرق الفرات مقابل تخليها عن جنوب سوريا.

«سوريا مفيدة» عسكرياً

بالسيطرة على الغوطة، تكون قوات الحكومة سيطرت على نصف مساحة سوريا وأكثر من 65% من السوريين الباقين في البلاد (هناك 5 ملايين لاجئ في الدول المجاورة وأكثر من 6 ملايين نازح داخلي) وشرايين الطرق الرئيسية والمدن الكبرى بعد استعادة شرق حلب نهاية 2016، ووسط حمص في 2014، إضافة إلى مدينتَي حماة وتدمر وسط البلاد، ودير الزور على نهر الفرات، لكن الأهم هو تأسيس قاعدتين عسكريتين إحداهما على البحر المتوسط، ونشر منظومة صواريخ «إس – 400»، وتجريب نحو 200 سلاح جديد.

وفي الوسط السوري، بقي «جيب» ريف حمص تحت سيطرة فصائل معارضة، ويخضع لاتفاق خفض التصعيد برعاية روسية، وسط أسئلة عن مستقبله مقابل وجود تصميم روسي على السيطرة على شرايين الطرق الرئيسية.

وباعتبار أن مناطق قوات النظام تفتقر إلى الموارد الطبيعية، وأن الغاز والنفط شرق البلاد تحت سيطرة حلفاء أميركا، طُرحت تساؤلات عن إعادة الإعمار بسبب غياب القدرة المالية لحلفاء النظام في روسيا وإيران لتعويض كلفة الدمار التي تتجاوز 220 مليار دولار أميركي، علماً بأن موسكو قدرت كلفة الدمار بـ400 مليار دولار.

في المقابل، أعلنت 18 دولة في اجتماع بقيادة أميركية، عُقد في نيويورك في سبتمبر (أيلول) الماضي، أنها لن تشارك في إعمار سوريا ما لم يحصل حل سياسي ذو صدقية بناءً على تنفيذ القرار 2254.

عليه، بدأت بوادر معارك بين «أمراء الحرب» ورجال الأعمال الجدد الذي برزوا في اقتصاد الحرب، ويتنافسون على حصة في مستقبل البلاد، خصوصاً بضعة رجال برزوا من تجارة النفط من شرق البلاد إلى غربها. كما ظهر تنافس روسي – إيراني على ثروات غرب نهر الفرات.

وكان لافتاً أنه بعد توقيع طهران ودمشق اتفاقاً لاستثمار الفوسفات السوري قرب تدمر بداية العام الماضي، وقّعت وزارة النفط السورية عقداً مع شركة «ستروي ترانس غاز» الروسية لاستخراج الفوسفات في مدينة تدمر في ريف حمص الشرقي.

ونص الاتفاق على أن يتم تقاسم الإنتاج بين الطرفين لنصف قرن، بحيث تكون حصة دمشق 30% من كمية الإنتاج البالغ سنوياً 2.2 مليون طن من موقع يبلغ احتياطيه الجيولوجي 105 ملايين طن.

وحسب معلومات، تجري مفاوضات لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاق لتشغيل شركة ثالثة للهاتف النقال من قبل شركة إيرانية تابعة لـ«الحرس الثوري» الإيراني، واستثمار أراضٍ زراعية، وتأسيس ميناء نفطي صغير على البحر المتوسط، إضافة إلى أنباء عن قواعد عسكرية إيرانية قرب دمشق ووجود تنظيمات تضم عشرات آلاف العناصر التابعين لطهران.

إدلب… ملجأ المهجَّرين

في إدلب بين 2.5 و3 ملايين مدني وأكثر من 50 ألف مقاتل من فصائل إسلامية ومتشددة ومعتدلة، بينها أكثر من 10 آلاف في «هيئة تحرير الشام». وتضم إدلب أيضاً عشرات الآلاف من المقاتلين الذين تم إجلاؤهم على مراحل من مناطق مختلفة بموجب اتفاقات مع دمشق، آخرها من الغوطة الشرقية بإشراف روسي مباشر. لكن أنقرة نجحت سبتمبر الماضي في الوصول مع موسكو إلى حلولٍ وسط بضم إدلب الواقعة قرب الحدود التركية إلى اتفاق «خفض التصعيد». وتطبيقاً للاتفاق، انتشرت قوات تركية في 12 – 13 نقطة مراقبة داخل الحدود الإدارية لإدلب منذ مطلع العام. ويرى الباحث في مجموعة الأزمات الدولية سام هيلر، حسب وكالة الصحافة الفرنسية، أن هذا الانتشار منع «قوات دمشق من التوغل في إدلب».

وخسرت قوات النظام السوري محافظة إدلب (شمال غرب) منذ صيف عام 2015، إثر سيطرة تحالف فصائل متطرفة وإسلامية عليها، لكنه سرعان ما تفكك إثر جولات اقتتال داخلي تطورت إلى صراع على تقاسم النفوذ بين «الفصائل الإخوة».

وتسيطر «هيئة تحرير الشام» (النصرة سابقاً) حالياً على نحو 60% من إدلب، بينما تنتشر فصائل أخرى إسلامية منافسة لها في مناطق أخرى. وربط تقرير لمجموعة الأزمات الدولية، في فبراير الماضي، تماسك مكونات «الهيئة»، باعتبارها «اللاعب الأقوى في إدلب بالإضافة إلى كونها مصدراً مهماً للدخل والتوظيف». وتمكنت قوات الحكومة السورية مؤخراً من استعادة السيطرة على مطار أبو الضهور العسكري وعشرات القرى والبلدات في ريف إدلب الجنوبي الغربي شمال حماة.

ويرتبط مصير إدلب بقدرة أنقرة على توسيع سيطرتها شمال غربي سوريا وتقليص نفوذ «هيئة تحرير الشام»، اللاعب الأقوى ميدانياً. ويُجمع محللون على أن تركيا التي تشكل إعادة مئات آلاف اللاجئين السوريين الموجودين لديها إلى سوريا أحد أكبر هواجسها، والتي لطالما أيّدت وجود منطقة عازلة قرب أراضيها، غير مستعدة لاستقبال موجات جديدة من النازحين قد يتسبب بها أي هجوم محتمل للنظام السوري على إدلب المكتظة سكانياً. لكن تركيا التي تدعم الفصائل الإسلامية الموجودة في إدلب لا تتمتع بالنفوذ نفسه على «هيئة تحرير الشام».

وتُبقي «هيئة تحرير الشام»، حسب هيلر، «سيطرتها على مفاصل المنطقة الأكثر حيوية. وهي تمسك بالشريط الحدودي ومعبر باب الهوى، بالإضافة إلى مدينة إدلب، مركز المحافظة»، وتتحكم في الحواجز الحدودية مع تركيا التي تتدفق البضائع والسلع عبرها من وإلى إدلب، وتؤمِّن تمويلها من خلالها. وقالت الصحافة الفرنسية إن حكومة الإنقاذ الوطني التي شكلتها المعارضة قبل أشهر في إدلب، وتعد بمثابة الذراع المدنية لـ«الهيئة»، تحاول فرض سيطرتها على المجالس المحلية والمنشآت المدنية، وتتحكم في مصادر الدخل الرئيسية كالمعابر والمحروقات وتفرض الضرائب تباعاً على الأسواق والمحال التجارية.

وقبل أسابيع، انضوت حركة «أحرار الشام الإسلامية»، حليفة «هيئة تحرير الشام» سابقاً، مع «حركة نور الدين زنكي»، فصيل إسلامي معارض، تحت مسمى «جبهة تحرير سوريا»، وشن هذا التحالف المدعوم من تركيا قبل بضعة أسابيع، هجوماً على مواقع لـ«هيئة تحرير الشام» وتمكّن من طردها من عدد من المناطق أبرزها مدينتا أريحا ومعرة النعمان. لكن يبدو إلحاق الهزيمة بـ«هيئة تحرير الشام» من دون مشاركة تركية مباشرة إلى جانب الفصائل المعارضة في إدلب أمراً صعباً. وبالتالي، فإن حسم مصير إدلب قد يمر بقتال داخلي جديد، حسب «الصحافة الفرنسية». ولا تزال مؤشرات ذلك مستمرة بين اقتتال وهدنات بين الكتلتين.

«غضن زيتون» وبندقية تركية

بعد فشل محاولة الانقلاب في تركيا بدأ منعطف العلاقات بين أنقرة وموسكو. تطور تدريجياً. في نهاية 2016، أعطى الجيش الروسي الضوء الأخضر لنظيره التركي للقيام بعملية «درع الفرات» لانتزاع منطقة بين حلب وجرابلس بالتزامن مع دخول قوات الحكومة السورية إلى شرق حلب.

طموح تركيا كان تأسيس جيب يمنع التوصل بين إقليمين كرديين شرق نهر الفرات وإقليم عفرين. وكان طموحها السيطرة على 5 آلاف كيلومتر مربع، أي نصف مساحة لبنان، لكن موسكو لم تسمح إلا بنحو 2100 كيلومتر مربع.

وفي بداية العام الجاري، أعطت موسكو ضوءاً أخضر ثانياً لأنقرة بشن عملية «غضن الزيتون» للوصول إلى مدينة عفرين. كان طموح تركيا منع وصول الأكراد إلى البحر المتوسط. سيطر الجيش التركي على عفرين بالتزامن مع دخول قوات الحكومة السورية إلى جنوب غوطة دمشق.

عين الجيش التركي حالياً على تل رفعت المحاطة بالجيش الروسي وقوات دمشق، وتجري مفاوضات للاتفاق على ترتيبات الانتشار التركي بالتزامن مع قيام دورية تركية باستطلاع شمال حماة وجنوب إدلب بعمق 200 كيلومتر من حدود تركيا.

وستكون هذه التفاصيل على جدول القمة الثلاثية «الروسية – التركية – الإيرانية» في أنقرة، غداً. ويلمّح كثيرون، حسب الصحافة الفرنسية، إلى أن تدخل تركيا الذي أدى إلى انتزاع عفرين أخيراً من أيدي الأكراد يدخل ضمن إطار التفاهمات الروسية – التركية. ويندرج في إطار هدف آخر للمنطقة العازلة المطلوبة تركياً، وهو إبعاد الأكراد عن الحدود التركية.

ولوحظ قيام تركيا، التي تستضيف نحو 2.5 مليون لاجئ سوري، بربط مناطق تحت سيطرتها بالنظام الاقتصادي والإداري والخدمي التركي، بما فيها تدريب الشرطة وتوفير خدمات البريد والمجالس المحلية والكهرباء والإنترنت وتعليم التاريخ التركي. وأُعلن عن اتفاق بين وزارة الجمارك وولاية هاتاي على افتتاح معبر يربط عفرين بتركيا في قرية حمام التابعة لناحية جنديرس. وأُرسلت فرق لترميم سدود ومدارس وتوفير خدمات. كما شجعت أنقرة مجلساً محلياً في عفرين.

وحدة سوريا في تقسيمها

بالتوازي مع التفاهمات بين اللاعبين الخارجيين والمقايضات بين الأراضي السورية، هناك في الخطاب الرسمي لدمشق وموسكو وأنقرة وطهران وواشنطن، إجماع على الرغبة في «وحدة سوريا» و«السيادة السورية». أيضاً، هناك عبارة أخرى تتكرر أن «القرار سوري والعملية (السياسية) بقيادة سوريا» بالتزامن مع فرض الخارج تفاهماته على السوريين، حكومةً ومعارضةً.

دمشق تعلن رغبتها في خوض «معركة تحرير» وهي تعد الوجود الأميركي والتركي «غير شرعي»، الأمر الذي توافق عليه موسكو التي تطالب أنقرة وواشنطن بـ«التنسيق مع الحكومة الشرعية». وسيكون هذا جزءاً أساسياً من الخطاب السياسي المصادر من دمشق.

لكن عملياً، يبدو أن مناطق النفوذ الجغرافي باتت تُرسم بالدم والسلاح بتفاهمات الدول الخارجية، وتشمل سيطرة الحكومة على نصف مساحة البلاد وحلفاء أميركا على ثلثها وتقاسم المعارضة وتركيا الـ20% المتبقية. صحيح، أن اتفاق آستانة تحدث أن مناطق «خفص التصعيد» هي «مرحلية لستة أشهر»، لكن القلق مشروع من أن يتحول المؤقت إلى دائم بفعل الأمر الواقع وتراجع القدرة العسكرية والاقتصادية للسيطرة على كامل الأراضي السورية البالغة 185 ألف كيلومتر مربع، من دون دعم كامل لتنظيمات إيرانية أو تدخل بري روسي قوامه 100 ألف جندي.

عليه، يكتسب تحذير المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا من «كارثة التقسيم» الكثير من الشرعية، وأن تبقى سوريا «الرجل المريض» موحّدة في خرائط الجدران والمكاتب والمؤسسات الدولية. إذ قال في معهد الدراسات العليا في جنيف الأسبوع الماضي: «الحقيقة هي أن التقسيم الهادئ وطويل المدى لسوريا، الذي نشهده في اللحظة الراهنة في مناطق سيطرة مختلفة، سيكون كارثة ليس فقط على سوريا بل على المنطقة بأكملها». وأضاف: «من دون حل سياسي لا يُقصي أحداً، بما يشمل مَن تم استبعادهم، وتحديداً الأغلبية السنة، سيعود (داعش)».

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»