لغز  تلاشي عناصر ‘داعش’ و ‘خفافيش الليل’ تلاحقهم

لغز تلاشي عناصر ‘داعش’ و ‘خفافيش الليل’ تلاحقهم

دمشق

حلق عناصر “داعش” ذقونهم وحمل بعضهم بطاقات شخصية مزورة وغادروا مناطق سيطرة التنظيم في اتجاهات متعددة بعد تقدم قوات الحكومة السورية و”قوات سورية الديمقراطية” الكردية – العربية وسط وشمال شرقي سورية واختفى الاف منهم واصبح السؤال: اين اختفى عناصر “داعش؟”

تغيب الارقام الحقيقة حول اعداد عناصر التنظيم ومناصريهم، وهناك تقديرات بان عددهم يصل الى عشرات الاف  ما مكنهم من بسط سيطرتهم على اكثر من نصف سورية منتصف عام 2015 .

ونقل موقع أميركي عن وثيقة صادرة عن أحد أكبر اجهزة المخابرات في الشرق الاوسط في شهر شباط (فبراير) عام ٢٠١٥  أن تنظيم “داعش” يمتلك “جيشا يقدر عدده بنحو ١٨٠ ألف مقاتل، كما أنهم يعملون بقوة على تأسيس تحالف مستدام من المسلحين المتطرفين.” وبحسب الوثيقة، فإن “تعداد الجيش الداعشي يقدر بـ٦ أضعاف توقعات وكالة المخابرات المركزية الأميركية ( سي آي إيه ) والتي توقعت أن جيش داعش يتكون من 20 ألف مقاتل.”

أمير “داعشي” من ابناء محافظة الرقة شمال شرقي سورية، التي أعلنت عاصمة التنظيم، قدر اعداد عناصرهم في “ولاية الرقة” المتداخلة مع ريف حلب الشرقي وريفي دير الزور والحسكة بأكثر من ٢٠ الف عنصر ينتشرون في محافظة الرقة. وينقل احد ابناء محافظة الرقة عن علي موسى الشواخ “ابو لقمان” وهو “والي الرقة”، أن “اعداد عناصر التنظيم في محافظة الرقة تتراوح بين ١٥و٢٥ الف، لكن هذه الارقام متغيرة باعتبار ان التنظيم خاض حروبا في عدة جبهات في ريف حلب وحماة وحمص مع قوات الحكومة السورية وفصائل المعارضة وتعد الرقة منطقة عبور لعناصر التنظيم.”

ويضيف ابن مدينة الرقة الذي طلب عدم الكشف عن اسمه نقلاً عن “ابو لقمان”: “لدينا عدة معسكرات للتدريب وتخرج منها الاف وهؤلاء فقط من الانصار (السوريين) ناهيك عن المهاجرين (الاجانب) الذين لا اعلم كم هو عددهم.”

ويقدر ابن مدينة الرقة الذي غادرها منتصف شهر نيسان (ابريل) الماضي بعد تقدم “قوات سورية الديمقراطية” وسيطرتها على اغلب اراضي المحافظة “عدد مقاتلي داعش داخل الرقة بانه لا يتجاوز ١٥٠٠ مقاتل وتم نقل اغلب قادة التنظيم وعائلاتهم الى محافظة دير الزور.” ويؤكد ابن مدينة الرقة الذي امضى حوالي ستة اشهر يعيش في ريف الرقة الشمالي ان “الكثير من عناصر التنظيم بل حتى قياديين منهم شاهدتهم يتنقلون ويعيشون في ريف الرقة الشمالي، بعد تسوية اوضاعهم مع قوات سورية الديمقراطية.”

وأصبحت مناطق سيطرة “قوات سورية الديمقراطية” شمال شرقي سورية هي المساحة الاوسع التي اختفى وسطها عناصر تنظيم “داعش” ممن غادروا مناطق التنظيم في محافظتي الرقة ودير الزور والحسكة وريفي حلب وحمص، واصبح الشمال السوري مقراً او جسر عبور الى ريف حلب الشمالي ومنه الى تركيا للانتقال اوروبا وغيرها.

ونفى قيادي في “قوات سورية الديمقراطية” وجود اتفاق مع عناصر تنظيم “داعش” عند بدء العمليات العسكرية لتحرير محافظتي الرقة ودير الزور. واعلنت “قوات سورية الديمقراطية” انها ستنظر بوضع كل من يسلم نفسه لقواتها و “بالفعل هناك المئات من عناصر التنظيم ممن سلموا انفسهم وتم التحقيق معهم ومن لم يثبت عليه انه ارتكب جرائم اخلي سبيله بعد فترة التحقيق.” وأوضح القيادي ان “بعض عناصر داعش لم يتم التحقيق معهم بل اطلق سراحهم فوراً وذلك لتعاونهم مع قواتنا اثناء وجودهم مع داعش من خلال تقديم المعلومات لنا.”

ويضيف القيادي الذي طلب عدم ذكر اسمه: ” قبل اعلان السيطرة على مدينة الرقة في شهر تشرين أول (اكتوبر) الماضي تدخل شيوخ ووجهاء من محافظة الرقة لخروج مسلحي التنظيم والعفو عنهم، لكن البعض لا يزال يتم التحقيق معهم في المقرات الامنية في مدينة الطبقة وسيطلق سراحهم لاحقاً وكذلك من تم اعتقالهم من قبلنا خلال المعارك او بعدها.”

يؤكد عبد اللطيف الحمد، الصحافي في شبكة “فرات بوست” المتخصصة في نقل أخبار المناطق الشرقية من سورية أن “عملية تهريب وهروب عناصر داعش من المناطق التي يسيطرون عليها خلال الأشهر القليلة الماضية، بدأت عندما فتحت قوات سوريا الديمقراطية طريق تهريب عناصر التنظيم وأسرهم إلى مناطقها عبر بادية أبو خشب (٧٠ كلم شمال غربي مدينة دير الزور)، والتي تبعد نحو ١٧ كلم عن نهر الفرات  وعمدت هذه القوات إلى تنسيب بعض مقاتلي التنظيم من الجنسية السورية، بهدف سد النقص العددي الذي تعانيه، إضافة إلى زيادة عدد المكون العربي داخلها، والذي يخضع لقيادتها العسكرية الكردية، بل وعمدت إلى منح بعضهم نفوذاً على المقاتلين العرب داخل “قوات سورية الديمقراطية” ومن بينهم القيادي المعروف باسم أبو خولة والذي عين رئيس مجلس دير الزور العسكري التابع لقوات سورية الديمقراطية.”

اما من طلب مغادرة الشمال السوري، فكانت وجهتم داخل الاراضي السورية او الى تركيا: “بقية المقاتلين المحليين الذين وصلوا إلى أراضي سيطرة قوات سورية الديمقراطية، فقد خرج أغلبهم مع المقاتلين الأجانب من التنظيم إلى تركيا عبر أراضي خاضعة لسيطرة المعارضة السورية في الشمال السوري، ومنهم من توجه إلى مناطق سيطرة داعش أو فصائل مؤيدة له في ريف حماة أو الجنوب السوري مرورا بمناطق سيطرة قوات النظام.”

وحول مصير المقاتلين الاجانب، يقول الحمد: “الطريق الذين اتبعوه للعودة إلى دولهم كان عبر دفع مبالغ مالية كبيرة تصل الى ١٠٠ الف دولار اميركي للعنصر الداعشي ويتم ذلك عبر المتعاملين مع قوات سورية الديمقراطية الذي بدوره يضمن وصوله إلى أشخاص آخرين في الشمال السوري الخاضع لسيطرة فصائل درع الفرات المدعومة من تركيا، ومنها إلى تركيا، ومن ثم يتم سفرهم بجوازات سفر مزورة أعدت لهم مسبقاً إلى الدولة التي ينتمي إليها كل واحد.”

ويكشف الصحافي في “فرات بوست”: “ان بعض عناصر وقادة التنظيم، اختاروا طريق الوصول إلى كردستان العراق منفذاً للوصول إلى مناطق أخرى من العالم، ولعل من أبرزهم غسان الرحال، المعروف باسم عبد الرحمن التونسي الذي اعلن التنظيم جائزة مالية كبيرة على من يدل مكانه، وسط معلومات تفيد بأنه عميل استخبارات خارجية  وبين الاسماء التي اختفت في شمال سورية القيادي في تنظيم داعش اسامة بن عثمان الملقب أبو زينب التونسي والذي ارتكب جرائم حرب ضد المدنيين في الرقة دير الزور وقبل خروجه وعناصر داعش من مدينة الرقة في صفقة نقل مقاتلي داعش من مدينة الرقة الى دير الزور ثم انتقل الى الشمال السوري واحتفى برفقة زوجته السورية وابنته زينب ويحمل بطاقة شخصية لشقيق زوجته.”

بعض قادة تنظيم الدولة تمكنوا من الخروج من مناطق سيطرته من خلال استعادتهم وسحبهم بواسطة طائرات التحالف التي نفذت اكثر من ٢٠ عملية انزال في مناطق التنظيم في شرق سورية وتحديداً في ريف دير الزور بحسب مصادر، في وقت نفاه هذه المعلومات مسؤولون غربيون. أما من تبقى منهم داخل مناطق خاضعة لـ “داعش”، فقد “اختاروا البادية، والمناطق غير المأهولة بالسكان مركزاً لاختبائهم، وخاصة على الحدود السورية – العراقية الممتدة على مسافات شاسعة، وتشمل ضمنها أراض تتبع إدارياً لمحافظتي دير الزور والحسكة واراضي في بادية الميادين في ريف دير الزور الشرقي .”

الصحافي صهيب الجابر من محافظة دير الزور يقول: “الجميع يسأل إلى أين توجه مقاتلو تنظيم داعش الإرهابي؟ بعدما تقلص نفوذهم في المنطقة الشرقية من سورية وخسروا غالبية مناطق نفوذهم.” ويؤكد جابر أن “قوات سورية الديمقراطية صدّرت أكثر من ٤٠٠٠ مقاتل من داعش من جنسيات متعددة باتجاه الشمال السوري ليتوافد خلال تلك الفترة العديد من نواب رؤساء الدول والقادة العسكريين والامنيين الأجانب الموجودين في سورية لاسترداد هؤلاء المقاتلين وعوائلهم إلى بلدانهم الأوروبية، بينهم نائب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الروسي زياد سبسبي الذي اعاد عائلات مقاتلين روس من وحدات حماية الشعب الكردي عبر مطار القامشلي” شمال شرقي سورية.

ويضيف الجابر: “ما لا يعرفه كثيرين أيضاً، أن هؤلاء المقاتلين من داعش عرضوا على قوات التحالف وقوات سورية الديمقراطية الخروج من مدينة الرقة من دون قتال. وكان هذا قبل بداية المعركة التي استمرت أكثر من أربعة أشهر ودمرت خلالها أكثر من ٨٠ في المئة من المدينة وقتل من مدنيوها أكثر من١٨٠٠ شخص، إلا أن قوات التحالف رفضت خروجهم حينها تحت ذريعة القضاء على التنظيم الإرهابي.”

علاوة على الأسماء العديدة لمقاتلي وقادة داعش ممكن التحقوا بصفوف “قوات سورية الديمقراطية” خلال الشهرين الماضيين وعلى امتداد فترة النزاع، ومنهم أحمد الخبيل “ابو خولة” الذي يشغل منصب قائد “المجلس العسكري لدير الزور” والأخوين أحمد ومحمد عبيد العمر اللذان ارتكبا العديد من المجازر عندما كانا بصفوف “داعش” ومنها مجزرة الشعيطات، علاوة على العديد من القادة الذين سهلت “قوات سورية الديمقراطية” مرورهم باتجاه الشمال السوري بعد دفع مبالغ طائلة، ومنهم يوسف المرهون أمير منطقة القائم العراقية والكثيرين غيره.

خفافيش الليل

مسؤول في المكتب الامني لمدينة جرابلس التابع للمعارضة السورية، أكد القاء القبض على العشرات من عناصر تنظيم “داعش” خلال محاولتهم المرور الى ريف حلب الشرقي. ويضيف المسؤول الامني: “لدينا بعض الاسماء والمعلومات من كتائب الجيش الحر في محافظة دير الزور تضم اسماء القياديين في تنظيم داعش ولدى مرور هؤلاء في حواجز مناطق درع الفرات يتم الغاء القبض عليهم ويتواجد عناصر من كتائب المنطقة الشرقية في بعض حواجز جرابلس للتعرف على عناصر داعش الذين يصل بعضهم بوثائق مزورة او بدون وثائق وقد تم القاء القبض على العشرات منهم واعترف البعض منهم بدفع مبالغ مالية كبيرة لعناصر قوات سورية الديمقراطية  لتأمين وصولهم وعائلاتهم الى مناطق درع الفرات للتوجه منها الى تركيا.”

وفي شهر كانون اول (ديسمبر) الماضي اعدمت مجموعة تطلق على نفسها اسم “خفافيش الليل” في مدينتي جرابلس والباب بريف حلب الشرقي عدداً من عناصر تنظيم “داعش”، متورطين بقتل مدنيين في المدينتين خلال فترة سيطرة التنظيم على المنطقة اعوام ٢٠١٤-٢٠١٦. ومجموعة “خفافيش الليل” أعلنت في منشورات وزعت في مدينتي جرابلس والباب انهما يتبعون لـ “الجيش السوري الحر سيصفون أي عنصر من تنظيم الدولة متورط بدماء المدنيين، أو من اعتدى على الجيش الحر.”

ولم تكتفي ملاحقة عناصر “داعش” داخل الاراضي السورية بل تم ملاحقتهم في تركيا من قبل مجموعة من عناصر “الجيش الحر.” ويقول مصدر موثق مقرب من المجموعة: “جميع عناصر المجموعة هم من كتائب الجيش الحر في محافظات الرقة ودير الزور وريف حلب يقوم هؤلاء بملاحقة والبحث عن عناصر داعش الذين وصلوا الى تركيا ويعرف هؤلاء بـقناص داعش  وتم القاء القبض على عشرات من عناصر التنظيم في مدن جنوب تركيا ومنها شانلي اورفا وغازي عنتاب وحتى في ريف تركيا الجنوبي  بينهم قياديون كبار سوريون وعراقيون واجانب .”

عن الخسران

عن الخسران

تعرّفتُ على (غيرهارد) فوراً من مجموعة الصور، تقول (جادڤيكا) وهي تدلي بشهادتها أمام الرائد (آرثر كيث مانت). “هو الرقم 3. رأيته في الردهة قبل أن أُجبَرَ على الدخول إلى غرفة العمليات، و رأيته بعدها مرتين مع الأطباء عند تغيير ضماد رجلي اليمنى.” تكمل قائلة: “ذلك الصباح، كانوا قد أخذونا إلى مكان العمليات ولم نكن نعرف السبب. كان السؤال الوحيد الذي يدور في أذهاننا هو: ما الذي سيحصل لنا الآن؟ جعلونا نستحم و نبدل ثيابنا إلى ثياب مستشفى. حاولتُ أن أقاوم، أن أركل، و لكن ممرضتين قامتا بتقييدي أرضاً. لا أذكر ما الذي جرى بعدها، و لكن سرعان ما أصابتني الحمى في الأيام الثلاثة التالية. كانوا قد أجروا عملا جراحيا على رجلي اليمنى. كنت مضمدة من القدم إلى الركبة اليمنى. لم تكن تلك المرة الوحيدة التي يقومون فيها بِبَضْعِ رجلي اليمنى. قاموا بعملية ثانية بعد عدة أسابيع“.

في شهادة رسمية بتاريخ 12 آب عام 1946 تحدثت (جادڤيكا كامينسكا) عن تفاصيل العمليات الجراحية التي أُجبرت عليها من قبل النازيين، هي ومجموعة من المعتقلات الشابات في رافنسبروك. قصة جادڤيكا تبدأ باعتقالها في 24 سبتمبر 1941، حتى وصولها إلى رافنسبروك حيث بقيت خمس سنوات قبل خروجها من المعسكر في نيسان 1946.  في الشهادة  تفاصيل مرعبة عن عمليات استئصال تجريبية لعضلات وعظام وأنسجة عصبية من المعتقلات الإناث السليمات جسدياً. في الشهادة لطخات دم من جرح بطول 10 سنتيمتر وعرض 5 سنتيمتر تمَّ بأمر من الغستابو. من يقرأ الشهادة لن يعرف الكثير من التفاصيل. و لكن صورة الانتهاك وتفاصيله جليّة بشكل يصبح أمامها السؤال عن التفاصيل الجانبية أمرا غير ذي أهمية. فمن هو (غيرهارد) مثلاً، غير شخصية ربما شاركت في انتهاك الكثيرات و قسرهنّ. شبح لشخص يختصر منظومة أخلاقية محددة.

التهتُّك

بقلم حبر عريض علّم الجرّاح مكان انتهاكه على الجلد. وعندما لامس المبضع سطح الجلد المتألق الرطب انساب عبر الأنسجة، طبقة طبقة وابتعدت نقاط الحبر المرسومة على الجلد عن بعضها البعض. انكمشت أطراف الجرح وابتعدت. تقطبت الدماء في جهتين كانتا من قبل على خط التحام. انتزاع اللحم وسّع المسافة بين هذه الأقطاب. مثل جسد جادڤيكا، شقّت الحرب العالمية الثانية أنسجة المجتمعات. تجمّعت عناصر الطيف المتجاورة سابقا، في معسكرين. صار الاستئصالالفكري والجسدي عادة. ولكن كيف يمكن لأي مجتمع أن يتبنّى فكرة ضدالمجتمع كهذه، أي فكرة أن يصير المجتمع متجانساً؟

إنّ التجانسالقسري حاضر ضمن الجماعات السورية اليوم، وهو يعكس غياب هوية تمتد تفرّدها من الطيف المركّب، المعقد، والمتنوع تشريحياً. السنوات السبع الماضية وما حملته من تغيير في الهوية السورية، أرخت، ولا شك، بظلالها على مفهوم الأنا ومفهوم الوطن عند السوري وتأثيرها سيستمر لعقود. لدى مراجعة ما كتبه (آرثر كلاينمان) و دعاه بـ المعاناة الجمعّيةخاصة في ما يتعلّق باستجابة المجتمعات للفظائع والكوارث والحروب، تُرهِقُني كمية الشغل الذي نحتاجه لنحلل معاناتنا الجمعيةهذه، ونؤسس لمقاربتها. وحتى لو تراجع تواتر العنف الجسدي مستقبلاً، فهذا لن يعني بالضرورة أن مظاهر العنف أو الإنشقاق أو الصراع على القوة، المتبدّي على شكل صراع بين منظومتين من القيم الأخلاقية (أو أكثر)، سيكون في تراجع.

بالعودة إلى (جادڤيكا)، قد يتساءل البعض عن  فائدة استعراضنا لقصص مماثلة؟ فما علاقة معاناة عمرها عقود مع عالمنا اليوم؟ وما جدوى إسقاطتها على سوريتنا؟ الجواب بسيط: ربما لا شيء، وربما كل شيء. لعلّ ما سيسمح لنا اليوم ومستقبلاً بالتفكُّر في حالتنا هو تلك المسافة الفاصلة بين ذاك الذي يمسّنا مباشرةوذاك الذي لا يمسّنا.” ما أقصده هنا هو الهامش السرّي الموجود في المخيلة والذي تفتحُ له قصة (جادڤيكا) أو قصص  وشهادات مماثلة. فالانتهاك هو نفسه. والقهر هو نفسه. الخراب هو ذاته، برتابته، ويوميّته. بعناده و قسوته. لم يتغيّر شيء اليوم إلا نحن، البشر.

الخسارة

تختم (جادڤيكا) شهادتها القانونية المسجّلة في أرشيف جامعة هارڤارد بالقول:” رجلي الآن شفيت، ولكنها سريعاً ما تصاب بالضعف. في الأشهر الثلاثة الماضية انتابني الكثير من نوبات الحمى التي يعتقد أنها ناتجة عن تكرر الإنتانات.” بعيدا عن الجسدي إلى النفسي، لم أجد شهادات ومتابعات لحالة (جادڤيكا) خاصة، ولم أعثر على ما يدل على نوع الحياة التي عاشتها بعد خروجها من معسكر الاعتقال النازي. كيف تعايشت مع خساراتها؟ كيف كان شكل حياتها، عائلتها، ما شكل غرفة معيشتها، ومن تجمّع حول سرير موتها؟  

في الحديث عن الخسارة، لا يسعني إلا أن أسترسل في أفكاري من (جادڤيكا) إلى شكسبير و تاجره، الذي طالب برطل من لحم (أنتونيو) –كفيل بطل المسرحيّةشرطاً جزائياً في حال عدم رد القرض المالي الذي استلفه (باسانيو) منه، و لم يستطع أن يَرُدَّهُ في الوقت المناسب. ينتهي المطاف بالغريمين في المحكمة حيث تُدحَضُ القضية بحجة داهية؛ حيث أنه من غير الممكن  اقتطاع رطل من اللحم من دون خرق واضح للعقد. ذلك لاستحالة اقتطاع اللحم من دون إراقة قطرة واحدة من الدم، و من دون انتهاكهذا الإنسان. رطل اللحم ذاك يضفر ويفك  التخوم بين اللغة والمنطق. فالخسارة لم تكن يوماً مجردرطل من اللحم. الخسارة هنا تتجاوز معناها المادي. أي أنّها ليست مجرد أعداد قتلى، ونازحين أو لاجئين، أو أطنان اسمنت مكدّس، أو تشريح لشظايا في الأطراف. خسارة (أنتونيو) –الموشكةفي تاجر البندقية، كخسارة (جادڤيكا)، و إذا سمحتم لي، كخسارة السوري اليوم، تتجاوز حدود الجسدي إلى ما هو أكثر ضبابية و أقل تحديداً. إلى بعد ميتافزيقي آخر. إذاّ، ما الذي ينتهك بشريتنا، وما الذي يترتب على خسارة النفس، أو المعنى؟ ما الذي يخصص لقيمة الإنسان؟ هو ربما نفسه الذي تكتب عنه (سيلفيا بلاث) ، وهي تتأمّل معصمها وشرايينها غير المنتهكة بعد، و سكينها في اليد، وتفكّر في ماهو أبعد من شرايينها ودمها، في ما يتجاوز جسدها الفيزيائي إلى جوهرها الإنساني، في ما هو أعمق، أكثر سريّة، و عصيّ على الوصول.”

بين الصوت و الصمت

إن  الكلام عن حلّللنفس السورية غير مفيد و يؤدي إلى تشتيت الانتباه عن ما هو مهم اليوم أكثر من أي وقت مضى. الكلام عن حلول؛ يقضي بوجودها، و يحفز عملية البحث عنها، و صرف الطاقة في تحرّيها وتجريبها، والانتكاس عند فشلها. هل حقاً ثمّة حلول للخسران؟ ما حلّ (جادڤيكا) لخسرانها طبقات اللحم والعضل؟ ما حلها لفقدانها إنسانيتها؟ بعد سنوات من الفقد لا مكان لحلّ إلا محاولة إعطاء الوقت لفهم ما حصل ويحصل. السوري اليوم ثكلان ووحيد بالمعنى المعنوي. فقد ما هو أكثر من لحم. تعرّض لزلزال بالمعنى الرمزي–  انهارت تحت وطأته الحدود بين الفردي والمجتعي. حيث لا يجدي أن نضع خسارتنا (كسوريين) في أخبية معدّة مسبقة. هذا خباء المادي، وهذا خباء المعنوي. هذا للمجتمعي، وذاك للفكري، إلخ. تضرب الخسارة هنا عبر كل هذه الأبعاد وتتجاوزها في تجربة البشر. ربما من المفيد أن نستوعب هذه الخسارة أولاً، أن نحللها، و أن نأخذ وقتنا في الحزن قبل أن نعيد التفكير بما يترتب علينا في المستقبل. عملية التعافي من خسارة كهذه ستكلّفنا الكثير من الوقت و الجهد. و لكنّنا محكومون بها. في عملية التعافي هذه يمكن لنا ككتّاب وشعراء وروائيين أن نساعد من خلال الانفتاح على مأزق الناس و جرحهم، والنزول عن منصة النخبوية المتوارثة. يمكننا التفكير بالأدب و الفن كوسيلة ( والاعتراف بعدم وحدانيتها) لتسيير وتنشيط التعافي. يمكن النظر إلى تأثير الشعراء، والكتاب، والفلاسفة في المجتمعات الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، أو في المجتمعات الإفريقية والآسيوية واللاتينية بعد تجربة الاستعمار، كنموذج، فكتابتنا لن تكون وحيدة في مكتبة الشقاء. كَتَبَ والتر سلاتوف: “ربما من غير المبالغ فيه القول أنّ أكثر موضوعات الفنّ شيوعاً هو المعاناة والألم، بشكل أو بآخر.” التحدّي الكامن أمامنا هو كيفية التعامل مع أشكال التعبير المختلفة. فهل ينبغيعلينا الكتابة؟ هل نجبر الضحيّة على الكلام؟ هل نفرض الصوتكحل وحيد، أوحد، متوحد في ذاته؟ أليس هناك حدود للصوت؟ أليس هناك بدائل؟

عادة ما نفهم الصوتوخصائصه عندما نضعه جنبا إلى جنب مع الصمت“. ديفيد موريس كَتَبَ عن تجاوز المعاناة لحدود اللغة. فاللغة عاطلة، وخاصة عندما يقف الأمر على إيصال تجربة المعاناة. غالباً ما يكون الصمت أبلغ تعبير عن قسوة الحياة. “المعاناة بكماء بالمعنى الرمزييقول ديفيد موريس أي يصبحُ الصمتُ رمزاً لشيء غير قابل للكشف. الصمتُ يكشف عن تجربة، أكثر من مجرد مزعجة أو مقيتة، بل عصيّة على الفهم“. و أنا أتساءل إذا ما كانت المعاناة لا تسكن بالضرورة في الصوت أو الصمت فحسب، و إنما في المسافة الفاصلة بينهما. بين المكتوب و المخفي، بين المحكي و المسكوت عنه. هناك، في هذا الحيّز يمكن للصمت أن يفعل مثل المحكيّ فيما يتعلّق بالتعافي. لعلّ الوقت هو الذي عجّل شفاء (جادڤيكا) الروحي. الوقت و وجود من استمع إليها تروي قصّتها، حتى ولو خلف الجدران المصمتة لمكتب وحدة التحقيقات عن جرائم الحرب. بلا أضواء الفلاشات و لا ميكروفونات الصحف. ربما هذا ما يحتاجه السوري اليوم. من يستمع له وهو يروي قصته، أو يترك له المسافة وهو يصمت عنها.

هوامش

الباب تنفض الغبار بعد طرد «داعش»… وتتعافى من جراح الحرب

الباب تنفض الغبار بعد طرد «داعش»… وتتعافى من جراح الحرب

الباب (ريف حلب): محمد الخطيب

 

عادت الحياة لتنبض من جديد في مدينة الباب، شمال شرقي حلب بعد أشهر من القصف والمعارك بين «الجيش السوري الحر» وتنظيم داعش. إذ يجتمع عشرات في طوابير أمام محلات بيع المعجنات وبائعي التمر الهندي في شهر رمضان المبارك، بعدما عادت المحلات لتفتح أبوابها وتنفض الغبار عنها.

في أطراف الباب، يعمل محمد الشيخ (30 سنة) على ترميم منزله. وقال: «لم نتلقَ أي مساعدات، أو دعم، لترميم منازلنا، وكل تكاليف الإصلاح أو إعادة الإعمار تقع على عاتق الأهالي».

وخلال ثلاثة أشهر من المعارك تعرضت الباب لقصف جوي عنيف، ألحق في المدينة دماراً هائلاً، إلى أن انسحب «داعش» من المدينة في 23 من فبراير (شباط) الماضي. وقال الشيخ إن «كثيراً من الأهالي لا تتوفر لديهم الأموال الكافية، لإعادة الإعمار. رغم أن منزلي لم يتعرض لقصف مباشر، فإني أنفقت حتى الآن نحو 3 آلاف دولار أميركي ولم أنتهِ من إصلاح الأضرار بعد».

وتعكس حركة إعادة الإعمار وعودة التجار والصناعيين لمزاولة عملهم من جديد شعوراً لدى الأهالي بنوع من الأمان، ذلك رغم أن المدينة تشكل خط تماس مع قوات النظام السوري، التي تتمركز في بلدة تادف المجاورة. وغالبا ما تعكر ألغام وضعها «داعش» هدوء المدينة.

ولا يتوقع أحمد عثمان، وهو صاحب محل تجاري أن تكون لقوات النظام مطامع في الهجوم على مدينة الباب. وقال: «إن التفاهمات (الروسية – التركية) حول المنطقة، تجعل مدينة الباب ومنطقة درع الفرات (اسم العملية التي شنتها المعارضة بدعم الجيش التركي) عموماً من حصة قوات المعارضة».

ودفع عثمان ما يقارب 12 ألف دولار لإعادة ترميم متجره، وملئه بمختلف أصناف البضائع. وهو يشعر بنوع من الأمان، بما يشجعه لينفق على متجره بسخاء من دون خوف من الخسارة، أو أن يضطر لإخلاء متجره لاحقاً بسبب تردي الأوضاع الأمنية.

لكن في مقابل ذلك، فإن أصحاب المشاريع الضخمة لم يعودوا بعد إلى مدينة الباب لأن غالبيتهم شقوا حياتهم في تركيا، خلال سنوات سيطرة التنظيم على مدينة الباب، وربما لا يشعر هؤلاء بأمان كافٍ، يحمسهم لإعادة فتح مشاريعهم الضخمة. وليس ببعيد عن متجر عثمان، تعمل ورشات تابعة للمجلس المحلي التابعة للمعارضة، على ترحيل أنقاض المباني المدمرة. وانتهت هذه الورشات من ترحيل النسبة الأكبر من الأنقاض في المدينة.

ويتولى المجلس المحلي لمدينة الباب، الإشراف على المرافق الخدمية في المدينة وتقديم الخدمات للسكان، بالتعاون مع الحكومة التركية وبعض المنظمات الدولية.

وتنتشر بشكل ملحوظ دوريات تابعة لجهاز الأمن العام والشرطة الوطنية في شوارع ومداخل مدينة الباب. ويبدي الأهالي ارتياحاً من وجود الشرطة، التي باشرت مهامها خلال الأسابيع الماضية، فهم يرون فيها أملاً بإنهاء فوضى السلاح، وضبط الأمن في المدينة. وتدعم الحكومة التركية جهاز الشرطة، وهي تشرف على تدريبه في معسكرات تقام على الأراضي التركية. كما تدعم الكثير من المشاريع في مدينة الباب، فهي قد قامت بتأهيل غالبية المدارس وإصلاحها، وكما تعمل على إنشاء مشفى بالقرب من المدينة.

لكن سكان الباب يعانون من مشكلة عدم توفر المياه، ذلك أن سيطرة قوات النظام على محطة الخفسة في ريف حلب الشرقي، حرمت المدينة من المياه، التي يجري استجرارها عبر القنوات من نهر الفرات.

لذلك تنشط حركة صهاريج المياه، التي تنقل المياه من الآبار المنتشرة في المدينة وأطرافها إلى السكان، غير أن الطلب الشديد عليها، وارتفاع درجات الحرارة، رفع سعر الصهريج إلى ثلاثة آلاف ليرة سورية. (الدولار يساوي 500 ليرة).

وتضاف هذه المصاريف التي تحتاجها العائلة المتوسطة كل أسبوع تقريباً، إلى اشتراك يدفعه الأهالي لأصحاب المولدات الكهربائية، حيث تدفع كل عائلة أسبوعياً نحو أربعة آلاف ليرة سورية، للحصول على خط كهرباء يعمل نحو 8 ساعات يومياً.

واللافت أن الباب يسكنها آلاف من مهجري مدينة حمص الذين قدموا من حي الوعر، بعد تهجيرهم، ويقدر عدد سكان مدينة الباب حالياً بنحو 100 ألف شخص.

ولم يعد من السهل العثور على منزل فارغ للإيجار في المدينة حيث يتراوح الإيجار الشهري بين 50 إلى 75 دولارا في حين أن الكلفة في مدينتي أعزاز وجرابلس تصل إلى 300 دولار. وتنافس الباب لأن تكون المركز البشري والعاصمة الاقتصادية لمنطقة «درع الفرات» بسبب موقعها المتوسط في المنطقة والامتداد العمراني الواسع لها، ووقوعها على الطريق بين معبر الراعي على الحدود مع تركيا، والذي من المنتظر فتحه للحركة التجارية.

نشر هذا المقال في الشرق الاوسط  

[This article was originally published on Aawsat.]