سيرة ذاتية لبلاد تموت

سيرة ذاتية لبلاد تموت

 حوار مع الروائي السوري مازن عرفة حول روايته الجديدة “الغرانيق” الصادرة في بيروت عن دار هاشيت أنطوان ـ مؤسسة نوفل في بيروت.

يبدأ مازن عرفة روايته الثانية “الغرانيق” بفصل عنوانه “البلدة” وهو يرسم بتؤدة معالم بلدته التي عاش فيها جلّ عمره، يرسم معالم بلدته بسردية كلاسيكية وهو يقول:

“أنا مواطن صغير، أعيش في بلدة متواضعة، تترامى بيوتها الكئيبة على امتداد سهل أجرد، تظلّلها الجبال الجرداء من الغرب …

ما زال بعض المسنين يتحدثون عن نهر غزير كان يسقي حقولاً خضراء واسعة وممتدة حتى المدى … اختفى فجأة، وكأنّ الأرض ابتلعته …”ص9

ومن يعرف الكاتب وبلدته “قطنا” في ريف دمشق، يستطيع أن يقرأ الكثير من التفاصيل التي تحيلنا إلى هذه البلدة، ابتداءً بالنهر الذي اختفى، أو “معسكرات جنود الثورة” في الجهة الغربية للبلدة، وصولاً إلى الكثير من التفاصيل المتعلقة بالأمكنة والأشخاص والحوادث، إلاّ أنّه لم يمنح هذه “البلدة” أيّ اسم، مكتفيا بأل التعريف فقط.

س1 – كيف اتّسعت هذه البلدة لمساحة البلد ككل “سوريا”، وكيف انفتحت الأحداث من خلالها لتشمل كل ما يجري أيضاً، وكأنك تكتب سيرة ذاتيه لبلاد تموت؟

ج1 – الكتابة بالنسبة لي هي استمرار للحياة، إذ كنت أشعر بأنّي أعيش سرديّة حكاية كبرى في بلد كان يعيش مخاضات التفجّر، وصولاً إلى انفجار “الانتفاضة السورية” التي وصفتها في “الغرانيق”، وما تلاها من أحداث كنت شاهداً مباشراً عليها في روايات قادمة… فأنا لم أغادر البلاد إلاّ في عام 2017، وأخلص بذلك للقول: “إنّ الرواية حياة، والحياة هي رواية”.

وبناءً على هذا، فليس المكان والزمان هما فقط المرتبطان بطريقة أو بأخرى بحياتي كرواية، بل والأحداث أيضاً، طبعاً بعد تحويرهم بما تتطلب تقنيات العمل الروائي كالفانتازيا والتداعيات والمونولوجات الداخلية وأحلام اليقظة، وهو جزء أساسي من تقنيّة السرد لدي، لذلك استخدمت ضمير المتكلم مع جميع أبطال روايتي، كأنّها سلسلة انفصامات لشخصيات متعددة تنطلق من جوهر واحد، هو هذا الإنسان الممزق في عالم يسوده الاستبداد العسكري والديني إلى درجة تهميشه وشعوره بفقدان أي معنى لحياته، فيتشظى إلى مئات الشخصيات.

وبلدتي الصغيرة هي نموذج لكل البلدات السورية التي “انتفضت” ضدّ الظلم والفساد، وبشكل خاص نموذج للبلدات التي تحيط بالعاصمة دمشق، إذ تتخذ أهميّة خاصة بسبب قربها من الجولان، ممّا جعلها منطقة شبه عسكرية منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث أخذت تتحول من بلدة ريفية صغيرة خضراء وادعة، فيها تنوّع سكاني ديني متسامح، إلى منطقة مواقع عسكرية، لم تلبث أن زحفت على أراضي الفلاحين وأخذت تلتهمها بدون حق، فكان يكفي حفر بضع حفر لدبابات وهميّة ويتم الاستيلاء على الأرض، وسرعان ما قامت المافيات العسكرية والمدنية السلطوية بسرقة الأراضي المستولى عليها باحتيالات على القانون، وتحوّلت إلى مزارع استجمام لكبار الضباط والمسؤولين، ممّا ولدّ نقمة داخلية لدى أصحابها.

المكان في “الغرانيق” هو بلدتي كنموذج للبلدات السورية، التي تحاصرها الجبال الجرداء من الغرب، التي دمّر أشجارها الكثيفة الفلتان من القوانين، وصحراء جرداء ممتدة إلى الشرق، ومواقع عسكرية ، أصبحت الآن مواقع للميليشيات الإيرانية والروسية، وما اختفاء النهر حقيقة إلاّ هو واقعة رمزية للحالة الجرداء التي وصلتها البلاد والأرواح.

الشرفة التي يقف عليها “البطل المثقف” هي شرفتي، والساحة أمامها هي التي كان يجتمع بها متظاهرو الانتفاضة أمامي، والبساتين ببيوتها الريفية القديمة هي التي كان يجتمع بها المنتفضون، والشارع الرئيسي في البلدة هو الذي أحرقه “الشبيحة” القادمين من إحدى “المساكن العسكرية” حولها، “أهالي البلدة” هم شخصيات شبه حقيقية تناولتها ببعض التحوير حسب متطلبات العمل الروائي فقط.

لذلك أقول: إنّ المكان ترك بصمته في الذاكرة والحكاية، و”الغرانيق” ذاكرة وحكاية بعد أن عملت السلطة على تدمير البيوت الريفية، وقلع أشجار الحقول من جذورها، وهي التي تعيش فيها من مئات الأعوام… “المرتزق الشبيح” لم يزرع لأشجار ولم يروها بدمه طوال أجيال، فماذا يهمه إن أضحت الحقول جرداء… والبلاد والأرواح جرداء تذهب إلى الموت.

س2 –  جاءت روايتك الأولى “وصايا الغبار” لترصد انكسار المشاريع الثورية من خلال الفساد السياسي الذي طال كلّ مكونات المجتمع والحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية قبل الانفجار، لكنك في “الغرانيق” تسعى إلى رصد انتقام تلك الديكتاتورية المعنّدة، وفق المصطلح الطبي، والتي قامرت على احراق البلد دون التخلّي عن السلطة، وساهمت بانتقال الثورة مع العسكرة والأسلمة والتطرّف إلى حرب أهليّة بظلال طائفية، تبدو آثارها المستمرة لأكثر من سبع سنوات خلت أبعد من حدود المُتخيّل والجنون.

فكيف لنص أدبي أن يرصد كل ذلك؟ ومن أين نبعت جذور هذا العنف؟ وما هي آلياته؟

ج2 – هذا العنف السادي الوحشي الحاقد الذي تتبادله مختلف الأطراف السورية فيما بينها، وبتنوعاتها الدينية والطائفيّة والإثنيّة والمناطقيّة، بلغ ذروته إثر المواجهة العنفية للنظام “العسكري الاستبدادي” ضدّ “الانتفاضة السورية”، التي بدأت “سلمية”، إلاّ أنّها سرعان ما “تعسكرت” كردة فعل على عنف النظام، ثم ذهبت إلى موتها مع “أسلمتها العنفية”… وكأنّ هذا العنف كان مختزناً في اللاوعي الفردي والجمعي، يتراكم بكثافة، وينتظر شرارة صغيرة ليتفجّر، ويُدمّر كل ما حوله، وقد تحوّلت البلاد إلى حرب أهليّة وحشيّة، سرعان ما أصبح أفرادها أدوات في صراعات إقليمية ودولية، وقودها الدم السوري على الأرض السورية.

هل كان هذا العنف نتاجاً تاريخياً لـ”العقلية الستالينية”، التي انتهجتها الأحزاب العقائدية، لبناء “نظام شمولي” يقوم على عسكرة المجتمع تمهيداً لعبادة الفرد “الزعيم الجنرال”؟

عاش أطفال سوريا تجربة العسكرة منذ نعومة أظفارهم، بدءاً بالتربية العقائدية في منظمة “طلائع البعث”، ومروراً بنظام “الفتوة العسكري” في المدارس الإعدادية والثانوية، إلى جانب منظمة “اتحاد شبيبة الثورة”، التي منحت علامات تفوق دراسي مؤهلة لدخول فروع مميزة في الجامعة بمجرد إجراء دورات عسكرية عقائدية، وصولاً إلى نظام “التدريب العسكري الجامعي”… دون الحديث عن عسكرة مظاهر الحياة المؤسساتيّة الإداريّة والثقافية في المجتمع السوري، وتحكم العسكر في مفاصل هذا المجتمع.

ألم يكن العنف نتيجة منطقية لسلطة العسكر التي استثارت ضدّها عنفاً إسلامياً مضاداً، محافظاً شرساً كامناً تحت الرماد، حيث أخذت الحرب الأهليّة الحالية في أحد مظاهرها شكل صراع طائفي ظهرت إلى السطح كوامنه من اللاوعي؟ صراع بين جيوش النظام الإنكشارية الخاصة، وبين الجماعات الجهادية العنفية باسم الإسلام، وإن كان بعضها بإشراف النظام ولمصلحته؟

أم كان هذا العنف نتيجة عقلية “الاستبداد الشرقي البطريركي” الموروث تاريخياً في اللاوعي الجمعي لأفراد المجتمع، بمفاهيم “البداوة” و”الغزو” و”السبي” و”النهب”، الذي يتمظهر حالياً باسم “التعفيش”؟

كل هؤلاء الأفراد المستبدون يشكلون تمظهرات للآلهة “الغرانيق”، الجميع مسكونون بالرعب، بدءاً من “الإله القائد”، مروراً بزعيم “القبيلة” أو “الطائفة” أو “العائلة”، وصولاً إلى رب الأسرة في المنزل… وكأن العنف يسري في الدماء.

أم يكون هذا العنف نتيجة “عسكرة إسلامية لا واعية”، واظب خطباء المساجد يومياً بالدعوة إليها باسم “الجهاد”، دعوة لجهاد عنفي بحد السيف، تتكرّر بلا نهاية على منابر المساجد وعبر وسائل الإعلام، في المناسبات الدينية أو بدونها. وهو جهاد عنفي غير موجّه ضدّ الخارج، بقدر ما هو موجّه ضدّ “الكفار في “ديار الإسلام”، أبناء الطوائف الأخرى، الذين لا تقبل منهم حتى “الجزية” مقابل حرية العبادة، كما تقبل من المسيحيين واليهود! هذه الدعوات “الجهادية” ترعرعت وتمأسست بحرية في ظل نظام يدعي “العلمانية”، وكان يستغلها لأهدافه الدعائيّة في الصراع مع “أعدائه الوهميين”. لكن السحر انقلب على الساحر بعد أن استشرى العنف في نفوس الجميع.

عندما أطرح هذه التوجهات الأربعة لأصول العنف المستشري في البلاد، والذي أوصلها إلى هذا الكم النوعي من الخراب والدمار، أجدها متضافرة معاً بطريقة أو بأخرى في بنائه، وهو ما كنت أفكر به لا شعورياً طوال الوقت في أثناء كتابة “الغرانيق”، وبالأحرى  ما كنت أفكر به بقدر ما كنت أعيشه في أثناء كتابتها، وأنا أقطن في بناء في بلدتي القريبة من العاصمة، وقد تحوّل هذا البناء إلى موقع عسكري محصن، والطابق الأوّل تحوّل إلى مكان اعتقال أوّلي ومركز تعذيب، فيما استقرّ في النهاية خط النار بين “النظام” و”المنتفضين” على بعد عدة كيلومترات.

هل يبرّر أو يفسر ذلك جرعة العنف الكثيفة في الرواية؟ وهل تكون مجرّد انعكاس لأجواء العنف المعمم من حولي؟

بدءاً من القسم الأول الذي يمثل زمناً مطلقاً لديكتاتورية عسكرية تنطبق على جميع الأمكنة بذروة رعبها “الكافكاوي” الذي تفرضه على مجتمعها، ومروراً في القسم الثاني بتاريخ سوريا المليء بانقلاباته العسكرية والتصحيحية والتطهيريّة والاستئصاليّة، العُنفيّة جميعها، والتي واجهها الناس بداية في لاوعيهم بمسحة من سخرية “الواقعية السحرية” و”أحلام اليقظة الجمعية”، حتى لحظة الوصول إلى درجة الانفجار الذي أضحى واقعاً، وصولاً إلى القسم الثالث المُتمثّل بأحداث “الانتفاضة السورية”، سواء بالعنف السلطوي الذي تمّت مواجهتها به، أو بعنف “أسلمتها” الذي تسلّل إليها وطغى عليها، وهو ما ترك البلاد في النهاية ممزقة، خراباً ويباباً، ومرتعاً لجيوش وميليشيات الغرباء.

س3 ـ نجح النظام بدعم الظاهرة الجهادية في سوريا والتي قضت على الثورة بسرعة حين قادتها إلى الأسلمة والعسكرة معا، وهو ما خطط له النظام، وكانت الأدوات الإسلاميّة جاهزة للعب هذا الدور، مع إعلان “الجهاديين باسم الإسلام” سعيهم لاستعادة خلافة رشيدة عبر قتل الناس.

أليس في ذلك مُخاتلة للماضي؟

ج3 – إذا أردنا الحديث عن الإسلام الآن، فعن أيّ إسلام نتحدث، إسلام “داعش والقاعدة” الدموي، أم “إسلام فتاوى الأصولياّت” التي تعيش في غربة عن عالمنا، أم “إسلام المشاريع الوهابية الصحراوية”، أم “إسلام المشاريع الشيعية” المريضة بهواجس تاريخ عابر، أم إسلام “الإخوان المسلمين” المرائين لأيّ نظام خارجي يدعمهم، أم “إسلام الصوفيين” المهادن لأي سلطة، أم “إسلام فقيه السلطان في الممالك والجمهوريات” المهادن للسلطات، أم “إسلام الطقوس” الممتزجة بالعادات الاستهلاكية المعولمة، أيّ إسلام نريد؟

هذه الإسلاميات تنتمي جميعها إلى الماضي، وتُقاد من قبل رجال دين مسكونون بأوهام الماضي حدّ المرض النفسي، لذلك هم موتورون، ويعيشون خارج التاريخ، وغالبا ما يدعمون الاستبداد وأنظمة الفساد التي تشبههم، والتي يعيشون في ظلها، ويتكاملون مع بعضهم في تخريب المجتمع، وذلك ما يشجّع تلك الأنظمة على دعمهم، والسماح لتنظيماتهم ومؤسساتهم بالانتشار، طالما كانوا في خدمتها، دون أن تسمح للتيارات الديمقراطية بالنمو، لأنها تشكل تهديداً لوجودها القمعي.

الإشكاليّة أنّ هذه الأنظمة تتوهّم القدرة على إبقاء القوى الإسلاميّة تحت سيطرتها، وأنّ المريدين سيأتمرون بأوامرها، لذلك انتعشت التيارات الدينية في ظلّ أنظمة تدّعي أنّها علمانيّة، بل كانت الدولة تشرف على تشكيل التنظيمات الجهاديّة خدمة لأهدافها، كما حدث مع إشراف النظام السوري على تجنيد الجهاديين، وإرسالهم إلى لبنان أولاً، ثمّ إلى العراق في زمن الاحتلال الأمريكي له.

التصفية الجسدية مع “الانتفاضة السورية” كانت بحق الناشطين المدنيين، حتى أنّ جثثهم لم تعد تسلم إلى أهاليهم، ومثال ذلك ناشطو داريا الذين كانوا يوزعون الورود وزجاجات المياه على رجال الأمن في أثناء التظاهرات، بالمقابل جرى الإفراج عن الإسلاميين، وبخاصّة المتطرّفين منهم، حتى يشكلوا تنظيماتهم الإرهابيّة، بعملية مقصودة ومُخطّط لها، والأسماء التي أفرج عنها من سجن “صيدنايا”، هي التي شكلت لاحقا “النصرة” و”جيش الإسلام” و”صقور الشام” على سبيل المثال، وهي معروفة بالوثائق والصور. هؤلاء الإسلاميون المتطرفون هم الذين قضوا على الانتفاضة السورية السلمية، بالتعاون مع السلطة العسكرية، والمستقبل سيكشف الكثير من الخفايا.

لذلك انتهت “الغرانيق” برؤية تَنبؤية عن تبادل الأدوار بين “الزعيم الجنرال” و”الأمير الإسلامي”، كوجهي عملة واحدة، وأعتقد أنّ رمزيّة “الغرانيق” تتجاوز الزمان والمكان المحدد، إلى زمان ومكان مطلق مفتوح في مجتمعاتنا العربية.

س4 – كيف تماهت شخصية “المواطن الصغير” بشخصية “المثقف” ومن ثم “الزعيم الجنرال” الساعي لتأبيد سلطته عبر ألف ليلة وليلة من القتل، وكيف نجحت الديكتاتورية كأي سلطة بتعميم ثقافتها ونموذجها في دواخلنا؟

ج4 – أشرت في البداية إلى تشظّي الإنسان المُهمّش والمُمزّق بين الاستبدادين العسكري والديني، هذا الإنسان تحوّل في سياق النص الروائيّ من شخصية عادية إلى نموذج معياريّ، يُمثل بمجموعه فئات مُحدّدة من المجتمع، فالمثقف الذي يقف على  شرفة “المسكن الذي كنت أسكنه في الواقع” ويراقب التظاهرات منها، فيه بعض مني، والشاب “الثوري العنيف” ذو الأصول الريفية الذي كان يقود التظاهرات، فيه بعض من شبابي في البلدة، ببساتينها وحقولها، و”الزعيم الجنرال” هو جزء من حلم يقظة مارسته وإن بشكله البدائي، ومارسه كثيرون مثلي، في مرحلة الانفجارات الثورية منتصف القرن الماضي. أمّا الشخصيات الأخرى فأنا أعرفها جيداً وعشت معها، ابتداءً من “فتاة الحلم التي تخترق الأزمنة”، مروراً بالفلاحين البسطاء الذين سرقت المافيات العسكرية أراضيهم، وصولاً إلى “شبيحة النظام”، و”الجهاديين الإسلاميين” الذين أعرفهم عن قرب واحتككت بهم أيضاً.

تلعب التداعيات النفسيّة والمونولوجات الداخلية وأحلام اليقظة، الفردية والجمعيّة، دوراً أساسياً في تقنية كتابة الرواية لدي ـ منذ روايتي الأولى، ومن ثمّ “الغرانيق”، إذ أنّه في ظلّ عنفٍ مُستمر وحشيّ من قبل نظام عسكري شرس ضدّ أفراد المجتمع، يحاصر عوالمهم الخارجية، فإنّهم يلجؤون كحل أوّليّ إلى عوالمهم الداخلية، إلى لحظة هروب من الواقع القاسي لصعوبة مواجهته مباشرة، ومن ثمّ الانتصار عليه عبر “أحلام اليقظة”، فيمارس كل واحد منهم “عنفه الحلمي” الهوليودي ضدّ العسكر، وأجهزة الأمن، ويزيحهم من الوجود التوهمي.

يقول بطل الرواية عن رجال الأمن: “كنت أتحين الفرصة في عتمة الليل، وأنا مختبئ في فراشي تحت اللحاف، كي أقنصهم أو أفجّر مراكزهم، بل وأعذبهم، كما يفعلون هم مع معتقليهم”.

“حلم اليقظة” هو تعبير هروبي عن عجز للإنسان، وتمزّقه في ظلّ رعب كافكاوي، يحاول أن يقاومه به، هو سمة إنسان العصر الحديث الهارب من ضغوط الحياة المعقدة، فكيف إذا تمثلت بقمع نظام عسكري مُستبد، يستمد جذور عنفه الوحشي من كل المصادر المتخلفة التي أشرنا إليها. والأقسى هنا، أنّ حلم الإنسان المقموع، قد يُخفّف توتره النفسي مؤقتاً، لكنه يقوده إلى موقف غرائبي، قريب من اللامبالاة وعدميّة “ألبير كامو”، فيتساءل البطل عن مواجهته الحُلمية مع رجال الأمن: “والمشكلة التي كانت تواجهني هي أنني إن قتلت واحداً منهم في الخيال، ازدادوا عشرة في الواقع”.

في القسم الثالث من الرواية، كان اندلاع “الانتفاضة السورية” تعبيراً عن مواجهة الواقع القاسي مباشرة، عبر الانتقال من “حلم اليقظة” الهروبي، لدى فئات واسعة ومختلفة من المجتمع، إلى الفعل الإيجابي عبر التظاهرات السلمية والاعتصامات في الساحات والدعوة إلى إسقاط النظام. ومن هنا كان أحد مظاهر أهميّة “الانتفاضة” هو في تعبيرها عن الخلاص من كوابيس الرعب لدى أفراد المجتمع بشكل واسع، والتي حاولت أنظمة القمع زرعها في النفوس لخمسين سنة خلت، والانتقال إلى الفعل الإيجابي.

ففي “ثورات الربيع العربي” لم يكن المهم فقط هو ذلك الفعل المادي بتحطيم تماثيل “غرانيق العسكر” في الساحات والشوارع، وإنمّا تحطيم تماثيلها المعبودة في العقول، وهو ما حاولت الأنظمة العسكرية زرعه خلال خمسين عاماً، ومعها انتهى الوهم المرتبط بالرعب الكافكاوي والإحساس بعدميّة التمرّد والثورة. هذا الخروج وهذا التحطيم كان التعبير الأهم عن “ثورات الربيع العربي”.

لكن العنف يستمر قضية مركزيّة في الرواية، فالصراع كان شديداً داخل “الانتفاضة”، بعد مرور عدة أشهر من انفجارها، بين الاتجاه السلمي الذي كان يدعو إلى التظاهرات السلمية والاعتصامات، ممثلاً بشخصية “الأستاذ فارس”، وهو نتاج الطبقة الوسطى المتعلمة، والمُتضرّرة من  تدميرها على يد النظام العسكري، من جهة أولى، فيما تمثل الاتجاه العنفي بشخصية “البطل” مجهول الاسم والهوية، كمُمثل لفئات واسعة من ذوي الأصول الريفية المتضررة من سرقة العسكر لأراضيهم، غير أنّ الرد العنيف لعسكر النظام و”شبيحته” باستعمال السلاح ضدّ المتظاهرين، أفسح مجالاً أوسع لبروز البطل العنيف، في محاولة يائسة للدفاع عن النفس، وتمثل ذلك برمزيّة إخراج خنجره القديم ومسدسه العتيق من محفوظات ذاكرته، وهذا ما حدث في الواقع.

سارت الأحداث في الرواية عن طريق الفانتازيا إلى نوع من التماهي الخفيّ بين شخصية “الزعيم الجنرال” العنيف، و”البطل من ذوي الأصول الريفية” العنيف أيضاً، بغض النظر عن النوايا الثوريّة لديه، في لعبة أقرب للواقعيّة السحرية، والتداعي النفسي، وسلسلة من الانفصامات الشخصية المرضيّة، بحيث بدت الشخصيتان وكأنّهما وجها عملة معدنية واحدة، بالتوازي مع انفصاميّة شخصية ثالثة، مثلت “المثقف الانتهازي” الذي يختبئ وراءهما، ويميل مع المُسيطِر منهما، فتحوّلت الرواية من مظهر بطل أحادي يتحدّث بضمير المتكلم، إلى سلسلة من الشخصيات المنفصمة، تتحدّث جميعها بضمير المتكلم نفسه، في تبادل للأدوار التي تتكامل وتتشابك، وهذا ما جعل الرواية تنفتح إلى احتمالات مُتعدّدة من النهايات بقدر تشعبات مظاهر العنف ومصادره.

س5 – كيف تنتقل الساديّة السياسية إلى ساديّة جنسية؟

ج5 – خَصَصْتُ في الرواية فصلين مهمين عن حكاية البطل الشخصية، المختلطة بتاريخ سوريا الخاص منذ خمسينيات القرن الماضي، سميت أحدهما “سادية سياسية” والثاني “سادية جنسية”، ومع أنّ الفصلين مكتوبين بنوع من الفانتازيا السحرية، ممّا يتطلب عملاً روائياً يسعى إلى متعة القراءة، والكتابة الساخرة من موضوعها، إلاّ أنّ خلف كتابتها كان يؤرقني سؤال عن البُنية النفسيّة والاجتماعية لواقعنا ومجتمعنا. كنت أفكر دائماً بالعلاقة بين الجلاد والضحيّة بشكل عام، وفي المعتقلات بشكل خاص، وأتساءل: مادامت الضحية تعترف للجلاد بما يرغب من أسرار، فلماذا يستمر بتعذيبها حتى الموت؟

ليس المهم من هو الجلاد، سواء كان من عسكر النظام أو من الجماعات الإسلامية، فالجلاد هو جلاد في النهاية، يتلذذ بالتعذيب بمتعة ساديّة غامضة، غير أنّ ساديّة التعذيب حتى الموت، كذبح الضحية بالسكين أو فرمها بجنازير دبابة أو صعقها بالتيار الكهربائي، أو تذويبها بالأسيد، أو تجويعها حدّ الموت وما شابه ذلك من عمليات، حيث يُصر الجلاد على التعذيب بعملية حاقدة، تطال الطرف الآخر وما يُمثله بآن معاً. إذ يعتقد انّه بهذا الفعل ينتقم من الفئة التي تنتمي إليها الضحية “الدين، الطائفة، العشيرة، الإثنيّة، الانتماء المناطقي…الخ”.

يتحوّل العنف الذي يندمج مع المتعة الجنسيّة إلى ساديّة مطلقة، وهذا ليس بغريب عن مجتمع العنف البدوي البطريركي المزروع في لاوعينا؛ مجتمع الغزو والسبي، فالعربي لا يقبل إلاّ أنّ يقتحم غشاء البكارة في ليلة عرسه إثباتاً لرجولته المفقودة،  ويفتخر علناً بـ”غزواته الجنسية”، والحوريات في الجنة الإسلامية هنّ أبكار، يتجدد غشاء بكارتهن بعد كل ممارسة جنسية، بينما المرأة العربية تفقد قيمتها الإنسانيّة بفقدان بكارتها، حتى بعد الزواج، كما أنّها محرومة من الاستمتاع في الجنة مع الحوريين، لأنّ العقل البطريركي لا يرضى أن تنام الزوجة مع حورييّ الجنة، فالإله يختار لها زوجاً واحداً.

هكذا تبدو حياتنا الشرقية مشبعة بالعنف والكبت الجنسي الذي يتفجر على سبيل المثال باغتصاب السجينات في معتقلات النظام، والسبايا في غزوات الإسلاميين، ويصل ذلك إلى اغتصاب الرجال وحتى الأطفال، إمّا لفظياً أو فعلياً، لينتهي هذا بموت الضحية، وهكذا تصبح متعة التعذيب بدون هدف سوى التعذيب متعة جنسية سادية.

تصوّر ذروة الساديّة في الرواية، بمشهد اغتصاب “الزعيم الجنرال” لضحيته وهي تنازع الموت، وينتهي فيها بلحظة موتها، في حين تبدو المتعة السادية لدى السجانين في دفن الجثث الجماعي، دون الاهتمام بوجود أحياء بينهم.

س6 – تنتقل بنا من متاهة “الزعيم الجنرال” إلى عوالم “دون كيشوت” الهزليّة، لنكتشف لاحقا طعم “المذاق المُرّ” الذي تحدّث عنه “نيتشه” لعمل كان هزلياً في زمنه، وأعتقد أنّ أيّ قارئ لهلوسات وكوابيس “الغرانيق” سيحس طعم المرار الذي تحدث عنه “نيتشه”!

ج6 – هي الفانتازيا السحرية، خيال مريض يُعشعش في دواخلنا، خيال مليء بالخرافة والأوهام، خرافة تغزو كل معتقداتنا وتصوراتنا، وتشكل حياتنا اليومية، تحيلنا إلى أشخاص مهووسين بالجنس، ومقموعين بالاستبدادين الديني والأمني، فنهرب من كلّ ذلك إلى أحلام اليقظة والأوهام، نعيش انفصامات مرضيّة غير متناهية، تشوّه الشخصيات والأحداث أيضا بشكل كاريكاتيري بالتأكيد، غير أنّ هذه الكوميديا التي تكبر داخل مساحة تراجيديا الموت، وفي أحلام اليقظة والهلوسات القاتلة للزعيم الجنرال، لن تفلح بكل ما فيها من الكاريكاتير بحجب طعم المرار الذي تحدث عنه “نيتشه”.

مازن عرفة ـ روائي وباحث سوري مواليد عام 1955 حائز على إجازة في الآداب، قسم اللغة الفرنسية من جامعة دمشق، ودكتوراه في العلوم الإنسانية ـ قسم المكتبات من جامعة ماري كوري (لوبلين، بولونيا). مؤلفاته “سحر الكتاب وفتنة الصورة” و”تراجيديا الثقافة العربية”، إضافة على رواية “وصايا الغبار”. رواية الغرانيق هي روايته الثانية الصادرة عن دار هاشيت أنطوان ـ مؤسسة نوفل في بيروت في نهاية عام 2017.

مقاهي دمشق تعود تدريجياً والقراءة على ضوء الشموع

مقاهي دمشق تعود تدريجياً والقراءة على ضوء الشموع

همّشتْ الحرب الدائرة المثقفين السوريين وأنواع الفنون الثقافية، وحُرم الكتاب والمثقفون المقيمون في الداخل، رغم ظروف الحرب، من المشاركة في المهرجانات والمعارض  والأنشطة الثقافية العربية. كانت القطيعة داخلية وخارجية، وقد أدت إلى حرمان الجمهور من الاطلاع على كافة الإصدارات الجديدة من كتب ومجلات كانت تأتي إلى العاصمة السورية بشكل دوري قبل الحرب. واليوم نجد أنفسنا أسرى العالم الإلكتروني – في الأوقات التي تأتي فيها الكهرباء – باحثين عن كتاب أو مجلة أو صحيفة لنطلع من خلالها على ما يدور من أحداث ونتاج ثقافي لم يعد يصل إلينا كمنشورات ورقية.

المقاهي تعود جزئياً

عاد لبعض المقاهي الدمشقية ألقها وتحولت إلى مواقع للتواصل الاجتماعي بعد أن هجرها الكثير من المثقفين صوب العالم الافتراضي. تجد غالبية المهتمين من روائيين وكتاب يحرصون على تواجدهم في المقاهي الشعبية للمشاركة بحوارات وندوات ارتجالية للبحث في ظاهرة أو النقاش حول إصدار جديد رغم أن أبرز ما يسيطر على الجلسات هو الوضع الأمني والتطورات السياسية، لكن أغلب المثقفين يغيبون عن فعاليات ثقافية منظمة تطلقها المؤسسات الرسمية، وهي لم تخرج عن شكل الصالونات الثقافية التي كانت منتشرة في سورية قبل عقود، لكن من دون أن يكون هناك أي اتفاق مسبق على المواضيع التي ستطرح أو تناقش أثناء هذه الجلسات الودية والتي نادرا ما تصل إلى سبعة أفراد.

إعادة تدوير

المطالعة على ضوء الشموع في ساعات الليل هي ما يميز ليالي المثقفين السوريين، كثير منهم عاد لقراءة كتب كان قد قرأها سابقاً، أو قراءة كتب مركونة في مكتبته المنزلية ولم يسمح له الوقت للاطلاع عليها في زمن الكهرباء والتواصل الاجتماعي، حتى زمن الكتابة على الورق عاد وفرض نفسه بقوة. ولم يعد البعض يرزح تحت رحمة التيار الكهربائي، المهم أن لا يتوقف عن الفعل.

هناك قسم كبير من المثقفين بدأ يرتاد مكتبات الرصيف للبحث عن كتب قديمة أو كتب ترفض المكتبات وضعها على رفوفها ليطفئ عطشه الثقافي، إعادة تدوير ثقافية لصحف ومجلات صادرة في عشرينات وثلاثينيات القرن المنصرم.

ورغم الكثير من العراقيل هناك من يصر على إنشاء حركة ثقافية ولو على الصعيد المحلي، القاص خضر الماغوط قال: “ما زلنا نتابع الحياة الثقافية والأدبية، عن طريق الندوات والمحاضرات والملتقيات الخاصة التي أحدثتها الحرب في العديد من المناطق السورية، غير خاضعين للظروف القاهرة والصعبة التي تصادفنا،” مؤكدا على “أن المقاطعة الدولية والعربية المفروضة على سورية لم تكن مقاطعة اقتصادية فقط، بل هي مقاطعة لكل نواحي الحياة بما فيها الثقافية، فلم يعد يصل من دور النشر الخارجية إلى سورية كتب، مجلات، صحف، دوريات أو حتى تبادل للوفود الثقافية بين سوريا والعالم الخارجي. تُوجه إلينا دعوات لمهرجانات الرواية والقصة من قبل المنظمين في الدول العربية، لكن السياسة تحرمنا من المشاركة ولا تمنحنا سمة دخول.”

يضيف أن المكتبات وأكشاك بيع الصحف أصبحت خاوية تماماً من كل ما هو جديد. وبالطبع افتقدنا جميعاً إلى الكثير من الصحف والمجلات التي كنا نتابعها وفقدناها فجأة، وكان من الممكن أن يحدث تصحر ثقافي بالكامل لولا وجود الكتب والجرائد والمجلات الورقية بما يعادلها من النسخ الإلكترونية عبر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت في متناول الأغلبية من المهتمين رغم بعض الصعوبات أحياناً.

هناك دوريات ليس لها مواقع على الشبكة العنكبوتية، وأخرى لا تزود مواقعها إلا بعناوين الموضوعات،  إضافة إلى قلة عدد الصحف والمجلات السورية، حتى الصحف التي تصدر غاب عنها زوايا الثقافة والفكر والأدب والإبداع لسببين، أولهما أن الجريدة الرسمية تخصص أغلب صفحاتها لمواضيع تخص الحرب والصراع في المنطقة، وغابت عنها الصفحات الثقافية، إلا في ما ندر، أما الصحف والمجلات الخاصة فنجدها جنحت إلى الاهتمام بالدعاية والإعلان التجاري، أضف إلى ذلك الشللية والعلاقات الخاصة، فلا يجد الكاتب مكاناً له طالما هو بعيد عن الشلل واللوبيات الثقافية، هذا ما يحدث أيضا في الجرائد والمجلات الحكومية، التصحر موجود في العلاقات بين المثقف والصحف المحلية، أكثر مما هو ناتج عن غياب الصحف والمجلات الخارجية، لكن رغم الإمكانيات البسيطة والثقافة والوعي، استطعنا  تجاوز المعوقات التي تسعى إلى توقف حياتنا الاجتماعية والفنية والثقافية وما زال هناك وسائل لاستمرار الحياة الثقافية، رغم قساوة الظروف التي خلقتها الحرب وتخلقها في كل لحظة.

الشاعرة عبير سليمان تؤكد على استمرار علاقتها مع الكتاب رغم أنها فوضوية نوعا ما: “قبل الحرب كنت أحرص على اقتناء الإصدارات الجديدة وأثابر على القراءة، أثناء الحرب أقرأ مجموعة من الكتب وبشكل عشوائي من غير أن أنتهي من قراءتها أنهيت بعضها فقط، الكتب التي أحرص على قراءتها وأنتهي منها في يوم واحد كتب الشعر ربما لأنها الأقرب وجدانيا.”

أما فيما يخص دور النشر الخارجية لم يعد يصلنا الجديد، أحيانا نستطيع الاطلاع على النسخ الإلكترونية للأصدقاء خارج سورية، أما الكتب الأخرى فنعرف عنها من خلال ما تكتب عنه الصحافة. في سورية دور النشر مستمرة وثمة أزمة إعلانية، لا أحد يلقي الضوء على الأسماء والإصدارات الجديدة، ودور وزارة الثقافة خجول بالنسبة للكتاب كما النشاطات الأدبية شبه المعدومة، ولولا التواصل الافتراضي بين الكتاب والشعراء لاعتقدنا أن أنواع الأدب أصابتها قذيفة ولفظت أنفاسها الأخيرة.

الكاتب والفنان التشكيلي أيمن الدقر قال: “لا أعتقد أن التصحر الثقافي بسبب الحرب، التصحر قائم أصلا عند معظم الناس. لا أعتقد أن هناك عائلة سورية لا تمتلك مكتبة منزلية، وهناك مكتبات تزخر بكتب مهمة وعشرات الكتب التي تحمل توقيع مؤلفها وأجزم أن أحدا منهم لم يقرأ إلا صفحة الإهداء.” لكن بشكل خاص وإن كنا نريد الحديث عن النخبة أو القارئ الحقيقي، أعتقد أن أغلب ما كان يرد من مجلات لا يستحق القراءة أما الكتب فهناك ما يستحق المطالعة والاقتناء، غير أن غالبية الدوريات التي كانت تصل ورقية كالصحف حجزت لها مكانا على صفحات الانترنت، ومن يريد فعلا أن يقرأ ويتطلع إليها يستطيع ذلك بسهولة باستثناء القليل ممن لم يتصالحوا مع التطور التكنولوجي وما يزالون يستخدمون القرطاس والقلم جازماً أن أسباب التصحر الحقيقية بدأت قبل الحرب. يسأل: “أين كتب الطفل ومجلات الأطفال واليافعين؟.” الطفل استبدل الكتاب بجهاز خليوي وألعاب إلكترونية، مع تطور عالم الميديا والقنوات الفضائية التي تعمل على خلق ثقافة جديدة أرهقت الإنسان العربي وجعلته غير قادر على تنمية ميوله الثقافية وتركته رهينة القلق والخوف من المستقبل.

من جسر فكتوريا إلى جسر جورج واشنطن

عمار شاهين صاحب بسطة لبيع الكتب، قال لنا: “بالطبع هناك مشكلة بالنسبة للإصدارات الجديدة التي لم يعد يصل أغلبها، لكن ذلك لم يؤثر بشكل كبير، هناك آلاف الكتب المهمة التي تستحق القراءة ولم تطلع عليها الأجيال الجديدة، وهي موجودة لدينا بأسعار زهيدة مقارنة بأسعار الكتب الجديدة التي تصدر وغير مهمة.” ويرى شاهين أن الكتب القديمة والمجلات مضامينها أهم بكثير مما فقدناه من الكتب والمجلات الحديثة التي لم تعد تصل أثناء الحرب، مضيفا: “هل يمكن مقارنة مجلة شعر أو الآداب بالمجلات الثقافية التي كانت تأتي من الخليج وكتب التنفيعات. كنا دائما نرفض شراءها ووضعها ضمن مجموعتنا، حتى الإصدارات القديمة من المجلات السورية – مجلة المعرفة – أهم بكثير من الأعداد الجديدة التي تصدر اليوم من المجلة ذاتها، لدينا الكثير الكثير من أمهات الكتب القيمة التي لا يمكنك أن تجدها أصلا في أشهر المكتبات السورية، لكن ما زال البعض يتعامل مع مكتبة الرصيف بتعالٍ خاصة، ولم تهتم الحكومات بمكتبات الرصيف وتمنحها أكشاكاً خاصة بها كما منحت بعض المهن اليدوية وبائعي السجائر.

عادل صاحب بسطة صغيرة في مدخل بناء يؤكد أنه كان يعيش وعائلته من مهنة بيع الكتب والمجلات، لكنه اليوم يضع كتباً قديمة ومجلات قديمة نادرا ما يجد راغبا لها. يقول: “اليوم يعرض علينا كتب ومجموعات أكثر مما يطلب منا، أكثر من شخص طلب مني أن أبيع له مجموعات أدبية، وموسوعات كان اقتناها في زمن الرخاء، اليوم رغم ارتفاع سعر الورق والتجليد الفني سعر تلك المجموعات أقل لكن لا أحد يقبل أن يقتنيها، المهتمون بالكتاب والثقافة لا يملكون المال، وأصحاب الأموال لا يعنيهم إلا المجلات الفنية وأخبار الموضة،” نعم هناك جفاف وتصحر و”تقحل” حسب تعبيره.

أبو مهيار الميداني لديه عروض للكتب المستعملة، لكن الكتب القيمة مغلفة يضعها جانبا في صناديق كرتونية، مجلات مسرحية وسينمائية تعود إلى أيام الوحدة بين سورية ومصر، مجلدات ضخمة، أعداد قديمة جدا لمجلات مصرية ولبنانية، جهة مخصصة للكتب الصادرة عن دور نشر عراقية، للوهلة الأولى تعتقد أنه مجرد بائع “كومسيون” يشتري ويبيع الكتب المستعملة، لكن ما إن تبدأ الحديث معه حتى تجده يكبر ويكبر حتى يملأ الفراغ تحت جسر فكتوريا. يكاد رأسه يوازي الجسر، تكتشف أنه ليس مجرد بائع أو مطلع يرشدك إلى الكتب المهمة، يقدم شرحا وافياً عن كل كتاب، حتى الكتب غير الموجودة لديه يقدم لمحة عن المؤلف وأهم ما صدر له بما فيها الكتب المترجمة، تكتشف لا حقا أنه خريج كلية الآداب قسم اللغة العربية. يقول: “ما تشاهده عندي مجرد جزء مما كنت أملكه من الكتب، المكتبة التي فقدتها مع منزلي وابني المخطوف في حي “عين ترما” كانت تضم خمسة عشرة ألف كتاب وكلها كتب مهمة، سأبيع ما بقي لدي من كتب وأهاجر إلى أمريكا، لدي موافقة من قبل الحرب لكن لم أسافر، اليوم لم أعد أملك إلا القليل من الكتب.

دور النشر والمكتبات

بعض الدور لا تصدر عنواناً واحداً في العام، وبعضها تعيد طباعة ما نشرته سابقاً. الدور العلمانية وبعض الدور الدينية ما زالت تحافظ على نشر كتب جديدة، الكل يحاول الحفاظ على وجوده رغم المتغيرات السياسية، وكثيرة هي العناوين التي يعاد نشرها، أو تقوم بعض الدور بطباعتها على نفقتها الخاصة إكمالا لمشروعها  غير المعلن. بالمقابل هناك الكثير من دور النشر توقفت عن العمل بسبب الظروف الاقتصادية التي فرضتها الحرب، ودور عمرها بعمر الحرب لم تطبع كتابا واحدا، وأخرى قديمة تعيد طباعة عنوان واحد فقط. كلفة طباعة الكتاب الواحد اليوم توازي طباعة ستة كتب في العام الأول من الحرب وذلك بسبب غلاء الورق والأحبار والمواد التي تخضع لانخفاض سعر الليرة، وهذا برأي الكثيرين سبب إحجام البعض عن اقتناء الكتاب اليوم، والذي لا يتناسب سعره مع دخل الفرد. كما يلجأ بعض الكتاب لطباعة مؤلفه على نفقة المؤسسات الرسمية من غير أن يدفع ليرة واحدة لكنه يقع في مشكلة الحذف والرقابة التي ترفض غالبا ما لا يتوافق مع مزاج الرقيب.

العناوين الجديدة

العناوين الجديدة قليلة نسبياً في أي مكتبة مختصة. يتصدر الواجهة كتب الصراعات السياسية والحروب، وكتب تروي سيرة بعض الحكام الذين أثروا في العالم أثناء فترة حكمهم. الرواية تحتل المكتبات لكن أغلبها إصدارات قديمة ومحلية، الكتب والروايات التي تطبع في دول مجاورة لكتاب سوريين من غير الممكن أن تجدها على رفوف مكتبة بسبب غلاء ثمنها والاحتكار الذي تمارسه الدور الخارجية على المؤلف حين تكون الطباعة على كلفتها.

يرجع صاحب مكتبة نوبل المشكلة إلى غياب الكثير من العناوين الجديدة بسبب فرق الأسعار ودخل الفرد يقول: “إن دخل الفرد في الحرب لم يعد يسمح له باقتناء كتابين، جميع أنواع الكتب السورية تضاعفت أسعارها ثلاث أو أربعة أضعاف بما فيها الكتب القديمة كونه لم تعد تتكرر طباعتها، غير أننا لم نعد نستطيع تلبية رغبة القارئ بأنواع الكتب التي تصدر في دور نشر خارج سورية لعدة أسباب أولها فرق السعر وانخفاض سعر الصرف، وأجور الشحن الغالية نسبياً، الأمر الذي يضاعف سعر أي كتاب إلى عشرة أضعاف سعره في السابق، حتى أننا لم نعد قادرين على شراء عناوين جديدة لوضعها في الواجهة ولا أحد يسأل عنها، الكثير من المهتمين يسألون عن أسماء وعناوين لكنهم يحجمون عن شرائها، وللأسف لم يعد يوجد نهم للقراءة بسبب ظروف الحرب، للأسف الثقافة لم تعد أولوية عند المواطن السوري. وبعد بدء الحرب الكثير من المكتبات أغلقت أبوابها ومنها ما تحول إلى مطاعم للوجبات السريعة ولبيع إكسسوارات الهاتف الخليوي.”

لم تتوقف الجهات المعنية بالثقافة والكتاب عن العمل طيلة فترة الحرب سواء في طباعة المؤلفات السورية، أو ترجمة المؤلفات من لغات أخرى، محاولة أن يكون سعر الكتاب متماشياً مع دخل الفرد رغم الزيادة التي طرأت عليه خلال الخمس سنوات الماضية، حتى أنه بإمكان المهتم ترقب المعارض الصغيرة الدائمة والتي تقدم حسومات للقارئ تصل إلى خمسين بالمائة أحيانا، لكن أغلب الإصدارات تتعلق بالحرب وآثارها وأسبابها وتداعياتها وثقافة المقاومة، العروبة وأسئلة النهضة، الأزمة السورية وثقافة التكفير الإرهابي، الحرب القذرة …الخ. أما الكتب الثقافية فنجدها مكررة كأن تصدر المجموعة الكاملة لشاعر أو قاص، أو دراسات نقدية عن الشاعر وشعره وغالبا ما تكون بتكليف من الشاعر ذاته لبعض أصدقائه، أو تكون من أجل المال فنجدها خالية من النقد الحقيقي وتتجه نحو الإطناب والتصفيق والتأليه الأدبي، وللأسف أغلب الإصدارات الثقافية ضعيفة من حيث المضمون والكتب التي تحمل قيمة قليلة نسبيا بالنسبة لما يتم طباعته ونشره كل عام. وهو أحد أسباب عزوف ونفور الفرد عن قراءتها والاطلاع على محتوياتها.

دمرت الحرب الكتاب كما دمرت رموزاً من التراث الإنساني، وهو ليس مجرد كلام استهلاكي فهناك الكثير من الجرائم الفنية ارتكبت بحق المكتبات الخاصة، ومستودعات كثيرة للكتب خاصة وعامة لا  أحد يعرف شيئاً عن مصيرها، وثمة كتب نُهبت وكتب أُحرقت وكتب كان مصيرها حاويات القمامة، مكتبات شخصية تركها أصحابها وأغلب تجار الكتب المستعملة فقدوا مستودعات مليئة بكتب قديمة، وكل هذا انعكس على الجو العام وعلى حياة الفرد والمثقف فلم تنج الثقافة هي الأخرى من اللصوص والحدث اليومي والقذائف والحرب.

جدل التعليم في زمن الحرب السورية

جدل التعليم في زمن الحرب السورية

يُعدّ التعليم بكمّه ونوعه عموماً أداةً أساسيةً للدول لإنتاج هويةٍ وطنيةٍ ورفد الأجيال الناشئة بالإمكانات المعرفية والخبرات العملية الضرورية لبناء مستقبلها ومستقبل بلادها. من هنا فإنّ ما يواجهه النظام التعليمي والتربوي عموماً من تحدياتٍ لا يعد بالأمر السهل وخصوصاً في عصر انتشار المعرفة والتكنولوجيا وثورة الاتصالات والتواصل الاجتماعي المفتوح والتعدد في مصادر المعرفة وتنوعها، لذا كان لا بد من تطوير مناهج تعليمية متطورة تواكب هذه التغيّرات الجذرية المتسارعة. يُضاف إلى التحدّيات النظرية السابقة المهمة الأصعب التي تواجه أي لجنة تطوير للمناهج ألا وهي إعداد مناهج تعليمية في بلادٍ تعاني من تراجعٍ في معدلات التنمية وشرخ بين المعرفة والعمل.

أما في الحالة السورية، فإنّ تراجع النظم التعليمية وإهمال القطاع التعليمي وانعدام الاستثمار في ميادين المعرفة والبحث وهيمنة الأجهزة الأمنية والذي يعود إلى فترات ما قبل الحرب بوقتٍ طويل قد تلاه حرب أهلية مدمرّة وانقسامات حادة ضمن البيت الواحد، أمور جعلت صياغة مفاهيم متداولة كبديهيات كالوطن والهوية والجغرافية مسائل بالغة التعقيد والتشابك مع الظرف الراهن.

يُعتبر بناء المناهج وتطويرها مشروعاً تربوياً وسياسياً مقصوداً ومنظماً، ومعنى ذلك أنَ الأهداف المرجوة واضحة ومُحدّدة وكذلك الخطط والأنشطة والوسائل المناسبة لتحقيق تلك الغايات. إنّ وضع أي منهاج تعليمي يمر بمراحل متسلسلة، بحيث يبدأ من وضع الأهداف والغايات البعيدة والتي تحتاج لزمن طويل نسبياً لتحقيقها وهي مستمدة من السياسة العامة للدولة ومن فلسفة وقيم المجتمع إلى جانب القيم الأخلاقية والإنسانية العامة.

في ضوء ذلك يتم تحديد أهداف جزئية ومرحلية متفرعة عن الأهداف العامة حتى يصل الأمر إلى الهدف الذي يجب أن يتحقق من حصة دراسية واحدة. من هنا يتم بعدها اختيار محتوى المناهج والطرق والوسائل المناسبة، كما يتم وضع برنامج تقييمي ومراجعة دورية على مستوى المحلي (المنطقة، والمحافظة) والوطني (على مستوى البلد) لمعرفة مدى تحقق تلك الأهداف.

السؤال الإشكالي والمهم هنا: ما هي هذه الأهداف؟ وما هو المجتمع الذي تسعى المناهج التعليمية للوصول إليه؟ وفي سياقات طارئة، كالحرب مثلاً، هل يمكن فصل العملية التعليمية أو المناهج عن باقي مناحي الحياة أو عن مشاكل المجتمع وحاجاته؟ هل يمكن فصل العملية التعليمية عن الصدمات النفسية التي يعانيها الأطفال، أو عن الأرقام المقلقة حول نسبة الأطفال المتسربين من المدارس [1]، أو حتى مناهج تعليمية أخرى أو مُعدّلة [2] تمّ فرضها في مناطق خارج السيطرة الحكومية؟ هل يوجد إرادة حقيقية للتغيير؟ وكيف ستتم؟ وهل تعتبر المقارنات مع تجارب دول أخرى مشروعة وممكنة؟ ما جدوى الجدل القائم في سورية اليوم حول المناهج في ظل واقع سياسي واجتماعي واقتصادي منهار؟ ألا يقتصر تغيير المناهج على الشكليات فقط دون المساس بالجوهر والمضامين، لاسيما مع كثرة الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها؟ وهل من الممكن إلغاء مادة التربية الدينية والوطنية من المناهج وخصوصاً في المراحل الأولى؟ أسئلة كثيرة يمكن طرحها هنا ولكن في ظل الواقع السوري الراهن ما هو المستحيل وما هو الممكن؟

هنا، نحاول رصد الجدل الذي دار حول المناهج الدراسية الجديدة وتداعياته وردود الأفعال في سورية والإعلام.

وسائل التواصل الاجتماعية والتخبطات الوزارية

الجدل الحاصل في سورية اليوم حول المناهج الجديدة والانتقادات التي وجهت إليها كانت بتأثير ما نشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي من صورٍ لبعض الدروس والفقرات الإشكالية والتي اتضح أن الكثير منها كان مزوراً أو غير موجود في المناهج المفترضة. وبدلاً من قراءة المناهج  الجديدة (52  كتاباً)، والتي لم تشمل جميع المناهج التعليمية، ونقدها على أساس علمي ومنهجي والتركيز على صحة المعلومات وقيمتها [3]، تحوّلت المنشورات على  موقع “فايسبوك” إلى مقالاتٍ وأداةٍ صراعٍ جديدة حول جزئياتٍ عكست الاستقطابات الايديولوجية التي باتت متوقعة مسبقاً بين السوريين. فمثلاً اعترض مؤيدون للنظام للسوري على نشر قصيدة للشاعر ياسر الأطرش فتمّ إلغاء القصيدة واستبدالها بقصيدة أخرى بناءً على قرار وزاريٍ. يبدو الأمر للوهلة الأولى خبراً عادياً، لكن سبب الإلغاء يطرح علامات استفهام حول بديهيات كتعريف من هو السوري المنشود إعادة بنائه، فالقصيدة لم تُلغ بسبب عدم ملاءمتها لسنّ الأطفال أو نتيجةً لأخطاءٍ مطبعية بل بسبب ضغط شعبي من قبل مؤيدين للنظام السوري ممن رفضوا تدريس قصيدة لشاعر محسوب على المعارضة! الوزارة لم تبرّر سبب إلغاء القصيدة في القرار ولم تُشر حتى إلى اسم الشاعر أو إلى عنوان القصيدة وانما اكتفت بالإشارة إلى ورودها في الصفحة رقم (6) من كتاب التربية الموسيقية في الصف الأول، لكن القرار نفسه أورد القصيدة البديلة “وطني” بالكامل مع اسم الشاعر سائر علي إبراهيم. (الصورة رقم 1) [4].

الصورة رقم 1 : قرار وزاري ينص على إلغاء قصيدة لشاعر معارض

كما أصدرت الوزارة قراراً آخر قضى بإعادة لواء إسكندرون والجولان إلى خريطة سورية بعد اعتراضات على ورود خريطة في الصفحتين /169-204/ في كتاب مادة علم الأحياء والبيئة (كتاب الطالب والأنشطة والتدريبات) للصف الأول الثانوي لاتضمّ المنطقتين (الصورة رقم 2).

الصورة رقم 2 : قرار وزاري ينص على استبدال خريطة الجمهورية العربية السورية بالخارطة المرفقة بالقرار

في مقابلة مع التلفزيون الرسمي السوري أقرّ دارم طباع، مدير المركز الوطني لتطوير المناهج التربوية، بوجود أخطاء في بعض الكتب الجديدة ونوه بدور وسائل التواصل في تسليط الضوء عليها مبكراً، لكن أكدّ في الوقت نفسه أن الخرائط كلها صحيحة. وفي إجابةٍ غامضة، أوضح طباع أنّ الخريطة التي أثارت الرأي العام كانت “تمريناً للطلاب ]حيث[ وُضعت الحدود فقط بدون الجوانب الأخرى، فكانت هي مأخوذ منها جزء كأن لواء إسكندرون غير موجود فيها. أعيد ترتيبها، أي يعني عبارة عن خط، أما الخرائط الأخرى بنفس الكتاب فكلها كاملة وفيها لواء اسكندرون ولا يُمكن لأحد أن يُقيمها  [المقصود أن يُلغيها].” [5] وفي لقاءٍ آخر مع البرنامج الأسبوعي “من الآخر” الذي يعدّه ويُقدّمه الإعلامي جعفر أحمد ويُبث على الفضائية الرسمية السورية و”سوريانا اف ام”، استهل مُقدّم البرنامج حلقته بقراءة عريضة من عشرة بنود باسم “الشعب السوري” وتُطالب، ضمن ما تطالب به، بمحاكمة مطوّري المناهج قبل أن يسأل، بنبرة أقرب لأسلوب المحقق، عن “الكوارث” التي حدثت. ومن جملة الأسئلة يتطرق أحمد مباشرة للشاعر المعارض مشككاً “هل وجود قصائد لياسر الأطرش تعزيز للانتماء الوطني؟” فيجيب طبّاع:

“هذه للأسف لم ينتبه إليها أحد، وكلهم ظنوه من أسرة الأطرش الكريمة [ملمحاً إلى  عائلة سلطان باشا الاطرش قائد الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي، من محافظة السويداء في حين أنّ الشاعر ياسر الأطرش من محافظة إدلب].”[6]

وبين  الاعتراضات التي أثيرت من مؤيدين ومعارضين على السواء بعض أغلفة الكتب المتداولة التي وُصفت بـ”المفزعة”[7]، فمثلاً كان هناك استهجان لوجود صورة على غلاف كتاب التاريخ لتمثال فسّره علمانيون بأنه مفزع وذو مضامين دينية واضحة من ذقنٍ طويلة وشاربين حليقين، في حين فسرّه إسلاميون متشددون بأنه “استعادة للوثنية” (صورة رقم 3)، وصورة لامرأة محجبة على غلاف كتاب اللغة العربية [8]، ليتضح الأمر بأنّ التمثال لحاكم مملكة ماري إيكو شاماغان (2453 قبل الميلاد)، وصورة المرأة هي لوحة للفنان السوري أدهم اسماعيل (صورة رقم 4 ).

[9] صورة رقم 3 : صورة أغلفة كتب التاريخ الجديدة، ويبدو الغلاف المثير للجدل في الوسط

 ووصلت تأويلات بعض المعارضين إلى حدّ اعتبار المناهج الجديدة استهدافاً لـ “الهوية العربية والإسلامية”. ففي لقاءٍ مع برنامج “هنا سوريا” الذي تبثه قناة “أورينت” المعارضة، وصف ضيف الحلقة مازن رشيد وهو مدرس لغة عربية مقيم في إسطنبول صور أغلفة المناهج الجديدة بأنها: “مشينة، وإنما هي إخفاء للحضارة العربية الإسلامية. إنما هي تواصل أو بالأحرى اتصال بالوثنية…هي رسالة واضحة للتخلص من المظلة العربية، هي رسالة واضحة للتخلص من المظلة الإسلامية، هي رسالة واضحة أيضاً للعمل لصالح الأجندة الشيعية والاشتراكية.“[10]

لكن من غير الواضح ما الذي لفت انتباه رشيد في هذه الأغلفة على أنه دليل واضح على تنفيذ أجندة “شيعية واشتراكية” وما الذي يجمع “الشيعية بالاشتراكية؟”

[11] صورة رقم 4 : صورة أغلفة كتب اللغة العربية وآدابها

تفاقمت ردود الأفعال حول الموضوع الى حدّ عقد جلسة مُساءلة لوزير التربية أمام مجلس الشعب (البرلمان) [12]، كما عُقدت حواراتٌ وندواتٌ تلفزيونية وإذاعية حول الموضوع عدا عن كمّ التعليقات والمقالات والعرائض والانتقادات التي انتشرت كالنار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي.

إنّ اعتبار التصريحات الرسمية بأنّ ما يجري من نقاشاتٍ وحواراتٍ أمر جيد ويُعزّز لغة الحوار هو أمرٌ مُستغرب تماماً. إذ من ناحية بُنيت العديد من المشاحنات على أسس مغلوطة أساساً كمشاركة صور لآيات تكفيرية من مناهج “داعش” أو مناهج من دول أخرى على أساس أنها صور من المناهج الجديدة، ومن ناحية أخرى يُعتبر إعداد مناهج التعليم من تخصص مؤسسات ولجان أكاديمية ومهنية تحتكر كافة الصلاحيات دون تدخل من أي جهة وأقصى ما يمكن الأخذ به هو مجموعة المقترحات التي يمكن أن تقدم من المُدرسين والموجهين.

أمّا محتوى المناهج وما تقدمه حتى وإن كانت بالغة الأهمية لا يمكن تقييمه إلا في سياق النظام التعليمي ككل، فالمدارس التي تُشبه الثكنات العسكرية إلى حدّ كبير والغرف الصفية المزدحمة التي قد تصل الى 50 طالباً، وخاصة بعد تهدم معظم المدراس جرّاء القصف والاشتباكات وحركات النزوح الداخلية، وقلة الوسائل التعليمية واستخدام طرق وأساليب تدريس غير ملائمة وقديمة تعتمد على التلقين المباشر والتحفيظ الحرفي، عدا عن واقع الطلاب والمدرسين النفسي والاقتصادي والرواتب القليلة، كل ذلك له انعكاساته المباشرة على نتائج التعليم. وبالتالي فإنّ أي محاولة جدية للنهوض بالتعليم والتربية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار كل تلك الأسباب والعوامل، بمعنى آخر يجب أن تطبق نظرية النُظم في التعليم باعتبار أنّ العملية التعليمية نظام متكامل له مُدخلات وعمليات ومخرجات وتقويم، وأنّ أي خلل في جزء من النظام سينعكس سلباً عليه ككل.

مناهج التعليم وصناعة الهوية

يُميز الفيلسوف الماركسي الفرنسي لوي ألتوسير (1918-1990) بين “جهاز الدولة القمعي” و”أجهزة الدولة الإيديولوجية،” التي تضم مجموعة من الأجهزة منها جهاز الدولة الإيديولوجي التعليمي الممثل بالمدارس [13]. لذا تحتكر الدول عملية إعداد المناهج الدراسية لتكوين هوية أفرادها القومية واتجاهاتهم السياسية، حيث يتم وضع المناهج بحيث تتوافق مع سياسة الدولة، أو بالأحرى النخب الحاكمة، حول القضايا الخارجية والداخلية وضمن رؤية تهدف إلى إعادة إنتاج علاقات الإنتاج.

من هنا تأتي إلزامية التعليم كجزءٍ من أدوات الدولة التي تُعلن سيطرتها على حدودها المُعلنة وتحتكر صياغتها لتحديد المسموح به من حيث اللغة الأم والتاريخ والجغرافية وهوية الدولة والمجتمع القوميتين (والدينية كما في معظم مناهج العالم العربي). كما تلعب التربية ومناهج التعليم دوراً كبيراً في إعادة إنتاج الأدوار الجندرية وتكريس الثقافة المهيمنة [14].

خلال فترة حكم الرئيس السوري (الراحل) حافظ الأسد (1970-2000)، كان يتم التركيز في مواد التاريخ والجغرافية واللغة العربية على المجتمع ككل ضمن إطار رؤية مُوحدة تعتبر المجتمع السوري مجتمعاً عربياً أولاً وجزءاً لا يتجزأ من وطنٍ عربي تعرّض لتجزئة استعمارية ومؤامراتٍ مستمرة أطاحت بمعظم المشاريع الوحدوية. كان على السوريين آنذاك مواجهة تناقضاتٍ وجودية، لكن بصمتٍ أو في سهرات البيوت الخاصة، جراء حفظ دروسٍ تتعلق بممارسة الديمقراطية الشعبية وحكم الشعب وحكم القانون وحياتهم الفعلية وسط ثقافة الخوف اليومية من سطوة الأمن والفساد وقصص المعتقلين والمختفين قسرياً. واختزلت مشاكل المجتمع على ضرورة مواجهة التحديات الخارجية “الراهنة” والظروف “الاستثنائية” التي تعيشها الأمة. كما مثّل فرض اللباس العسكري الموّحد والمنظمات المؤدلِجة كطلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة كإطارٍ أوحد لتنظيم نشاطات الطلاب حتى على مستوى الفن والشعر والموسيقا، بالإضافة إلى معسكرات الصاعقة والمعسكرات الإنتاجية خلال المرحلة الثانوية وفرض معسكرات التدريب الجامعي على طلاب الجامعة (الذكور) جزءاً من عملية عسكرة المجتمع ككل وفرض هيمنة الدولة الشمولية على مستوى المؤسسات والأفراد على حساب تطور الطفل والمراهق نفسياً وفكرياُ، وقد شملت هذه السياسة “التربوية” أجيالاً بكاملها. كما مثّلت مادة التربية القومية الإشتراكية (الصورة رقم 5) الدليل الإيديولوجي المؤطّر لأي رؤية سياسية منشودة من قبل دولة الحزب الواحد، على الأقل على المستوى النظري والرسمي، أما على مستوى الممارسة الفعلية فلم تكن بالنسبة لمعظم الطلاب أكثر من مادة للنجاح أو مجرّد كتاب حزبي. ورغم التوجه العلماني الشكلي، بحكم سيطرة حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم المطلقة على كافة قطاعات ومؤسسات الدولة، بقي تدريس التربية الدينية الإسلامية والمسيحية جزءاً أساسياً مفروضاً، وليس اختيارياً، على الطلاب.

الصورة رقم 5 : صفحة من فهرس كتاب “التربية القومية الاشتراكية” للصف الثالث الثانوي العام والفني والمهني والشرعي. من إصدارات المؤسسة العامة للمطبوعات والكتب المدرسية للعام الدراسي 1996-1997 أرشيف خاص

كان الهدف من المناهج التي سادت خلال تلك المرحلة إعادة تشكيل مجتمعٍ من لونٍ واحد وتأطيره بمفاهيم موحدة تتماشى مع الإيديولوجيا السياسية المهيمنة وطبيعة نظام الحكم الموجود بغض النظر عن التعقيدات الطبقية والمجتمعية التي تتفاوت من محافظة إلى أخرى بما فيه التنوع الاثني والطائفي. وتعتبر القضية الكردية أحد أهم الأمثلة على ذلك. إذ رغم وجود إرثٍ ثقافي ولغوي مختلف فإن المناهج الموضوعة لم تراع ذلك فكانت اللغة العربية هي لغة التعليم ومُنعت اللغة الكردية من المدارس بشكل كامل مما عرّضهم لتهميشٍ وتغريبٍ مضاعف. فمن ناحية، كان العديد منهم أبناءً أو أقارب أو جيراناً للأكراد المجرّدين من جنسيتهم بسبب إحصاء عام 1962، الذي تمّ في عهد حكومة الانفصال، ومن ناحية ثانية، فُرض عليهم تبني هوية ولغة واحدة بدلاً من الاعتراف بهويتهم كجزءٍ أساسي من الهوية السورية. ولكن مع تبدّل الأوضاع السياسية اليوم نرى أن أول ما فعلته الإدارة الذاتية الكردية [15] هو فرض مناهج تعليم خاصة على الصفوف الثلاثة الأولى الابتدائية (خلال العام الدراسي 2015-2016) تعتمد اللغة الكردية لأول مرة في سورية، وتم تبرير هذه  الخطوة بأنها ضرورية وأساسية لـ “استعادة الهوية الكردية.” [16] وقد شهدت هذه الخطوة اعتراضاتٍ ورفضاً من قبل بعض الأهالي مما أدى إلى إغلاق بعض المدارس كما في حي غويران في الحسكة [17]. كما أدت التجاذبات والخلافات المستمرة بين مديرية التربية، بوصفها مؤسسة حكومية رسمية، وهيئة التربية التابعة للإدارة الذاتية [18] إلى تأرجح مستقبل طلاب تلك المناطق بين كفة التوافق السياسية بين كافة الأطراف من ناحية، وبين خطر عدم الاعتراف بشهاداتهم في حال انهياره مما يُهدّد الآفاق المستقبلية للطلاب الراغبين باستكمال دراساتهم الجامعية على المدى البعيد. لذا مازالت مناهج التعليم التي تُقرّها وزارة التربية معتمدة إلى حدٍّ كبير، مع بعض التعديلات، حتى في المناطق خارج السيطرة الحكومية. فمثلاً قامت “هيئة الشام الإسلامية” التي تأسست في تشرين الأول (أكتوبر) 2011 باعتماد المنهاج السوري الرسمي وإعادة طباعته، بعد حذف مادة التربية القومية الاشتراكية، التي بات اسمها “التربية الوطنية،” وكل ما يتعلق بحزب البعث الحاكم في سورية وعائلة الأسد، وقامت بتوزيعه على بعض المخيمات في الداخل وحلب (قبل أن تفقد المعارضة سيطرتها على المدينة) وبعض المدارس في المدن التركية  [19].

يُضاف إلى جميع التحديات السابقة هوية الأفراد، كسوريين، في فترة ما بعد الحرب حيث يعيشون ويعشن خضمّ مرحلةٍ من الهويات المتصارعة في مرحلة تعتبر أساسية لتكوين شخصيتهم/ن وتوجهاتهم/ن وأفكارهم/ ن.

المناهج الجديدة: صعوبات الحياة والبحث

في زيارة قمتُ [20] بها لإحدى المدارس في مدينة السويداء في 28 أيلول (سبتمبر) 2017، توجهتُ للإدارة لأسأل عن إمكانية اطلاعي على بعض المقررات القديمة في أرشيف المدرسة لتصويرها بغية إجراء مقارناتٍ مع زميلي في البحث، لكنّ المديرة أخبرتني بوجود تعليمات تقتضي بإتلاف الكتب كل خمس سنوات  لكنها اقترحت عليّ بأن أسأل عامل النظافة في المدرسة لأنه يجمع الكتب المعدة للإتلاف ليستخدمها للتدفئة. وعندما سألت أقاربي وأصدقائي عن كتبهم المدرسية (قبل عام 2000) تراوحت إجاباتهم بين تصريف هذه الكتب قبل سنواتٍ طويلة، أو منحها لآخرين عندما كانت معتمدة من قبل الوزارة، أو أنهم استخدموها مع دفاترهم القديمة للتدفئة خلال الشتاء القاسي الذي شهدته المنطقة في السنوات الماضية [21]. وعندما سألتها عن رأيها في المناهج الجديدة أجابت:” بصراحة لم أجد اختلافاً كبيراً بين المناهج القديمة والجديدة باستثناء كتاب الموسيقا للصف الأول الذي كنا نحلم بوجوده في أيامنا وبعض الأساليب الجديدة في تدريس المواد.”

وقد طلبت مني المديرة أن أتوجه بسؤالي للمعلمات في المدرسة. ذهبت إلى غرفة الإدارة حيث وجدت معلمتين تتبادلان أحاديث جانبية، وبعد أن بادرتهنّ بالتحية توجهت بالسؤال لإحداهنّ فعدّلت من جلستها ومن نبرة صوتها وأجابت بعباراتٍ جاهزةٍ كما لو أنها كانت تخاطب موجهاً موفداً من التربية: “المناهج جيدة وغنية، وقد قمنا باتباع دورةٍ لاستخدام أساليب التدريس الجديدة كالتعلم باللعب والنشاط والتعلم الذاتي وإثراء ذكاء ومعارف الطفل ومهاراته.”

وعندما طلبت منها أن توضح لي الأمر بالأمثلة وحول الآلية التي سيتم أو تتم عبرها تطبيق هذه الأساليب في المدرسة، حاولت التهرّب من الإجابة عبر سرد مشاكل التدريس وضعف الإمكانيات المتاحة. حاولت استقصاء آراء مدرسين آخرين وكانت إجاباتهم/ن متفاوتة بين التعاطي الجدي والنقدي وبين الاكتراث وفقدان الأمل في أي مستقبل مع تردي الأوضاع الاقتصادية وحالة الحرب والتمزق الاجتماعي. فبحسب تامر (اسم مستعار، 34 عاماً، مدرس مادة التاريخ لمرحلة التعليم الأساسي) المشكلة ليست بالمناهج ولا بالمدرسين وإنما في “جيل الطلاب الذي لا يريد أن يتعلم ولا يعرف قيمة العلم” معقباً بنبرة متحسرة “في أيامنا كنا نحلم بربع المتوفر لدى هؤلاء الطلاب، ورغم ذلك كنا ندرس وننجح رغم كل الصعوبات. حالياً يوجد مشاكل كثيرة ضمن الأسرة وبين الأهالي مما ينعكس مباشرةً على المدرسة، ماذا بوسع المدرس أن يُصلح لُيصلح؟”

الأمر الذي أثار دهشتي هو عدم إشارة تامر الى ظروف الحرب، فرغم كل الصعوبات التي عايشناها لا يُمكن مقارنتها بالأوضاع الكارثية الحالية.

كما التقيت بربيع (اسم مستعار، 45 عاماً، موظف، سائق في مديرية الزراعة) وسألته عن المناهج الجديدة باعتبار أن أولاده مازالوا طلاباً في المدارس الحكومية، فأجابني بصراحة: “تباً لهذا البلد وللمدراس ولمن فيها، لولا إلزامية التعليم لكنت أخرجت أولادي منها وعلمتهم إتقان مصلحة حرفية يعيشون منها. يكفي أنهم يعرفون القراءة والكتابة، ما الذي سيجنونه من العِلم؟ في هذه البلاد العلم لايُطعم خبزاً، وحتى لو درسوا وتخرجوا من الجامعات ماهي فرص العمل المتوافرة؟ إما أنهم سيُعلّقون هذه الشهادات على الجدران ويجلسون دون عمل، أو سيعملون بأعمال البناء، وبأحسن الأحوال قد يعملون في وظيفة حكومية وبراتب شهري لايُعادل حالياً ما قد يجنيه أحدهم في يوم إذا أتقن مصلحة!”

في إجابة تتوافق مع هموم ربيع اليومية، استغرب حسن (اسم مستعار،31 عاماً، مدرس مادة اللغة عربية لمرحلة التعليم الأساسي) سؤالي قائلاً: “بصراحة لا يهمّني الموضوع، هل أنت جاد بسؤالك؟  سيبقى الوضع أعوجاً ولن يتصلّح مهما حاولنا. أنا أعطي الدروس المُكلّف بها وأعمل ما بوسعي، ولكن الأهم هو هذا الراتب في نهاية الشهر. وكما تعلم فأنا أعمل سائقاً لسيارة أجرة كل مساء لأؤمّن مصاريفي ورغم أنّ الراتب لايساوي هراءً إلا أنه يبقى مصدراً ثابتاً ومضموناً كل شهر.” أما منال (اسم مستعار، 31 عاماً، صحفية مستقلة) فقد استنكرت هدر الأموال العامة على تطوير المناهج على حساب الاستثمار فيما قد ينفع الناس الذين يرزحون تحت ضغوط اقتصادية بالغة الصعوبة.

الإشكاليات المثارة حول المناهج السورية القديمة منها والجديدة كثيرة، ولكن حسب رأي رامي (اسم مستعار، 36عاماً، معلم موسيقا لمرحلة التعليم الأساسي) هناك مفاصل حساسة ومهمة تتلخص بأمرين: الأول يتعلق بتعليم الدين في المدارس، والثاني يتعلق بتنمية القدرات الإبداعية والفنية والنقدية للطلاب. وشرح رامي ما يقصده بالتأكيد ضرورة الربط بين منطقية العملية التعليمية والمعلومات التي يكتسبها الطالب بما يحترم عقله وتفكيره بالدرجة الأولى “فكيف لطالب أن يخرج من درس العلوم مثلا وقد تعلم نظرية دارون عن أصل الأنواع والتطور وفي نفس الوقت تُعلمه دروس الدين نقيض ذلك وتقول له بأن آدم وحواء هم أصل البشرية. أو كيف له أن يدرس في الجغرافية والفيزياء حركة الكواكب وكروية الأرض ونشوء الكون وطبيعة المادة والعناصر، ليصطدم بمن ينفي كل ذلك. فالتناقضات العقلية والمعرفية وحتى النفسية عند الطفل ستكون كارثية.” ويضيف قائلاً: “لا يمكن أن نكون حالمين بإمكانية إلغاء الدين من المدارس أو علمنة المناهج ولكننا نستطيع أن نُعلّم قيماً أخلاقيةً تتضمنها الأديان بدلاً من التركيز على تعاليم الدين نفسه وبخاصة في المراحل الدراسية الأولى.”

ويذكر كاتبا هذه السطور خلال دراستهما الثانوية في السويداء، كيف أن أستاذ التربية الإسلامية كان يُدرّس مادة الرسم في الوقت نفسه ويمنع أي تصويراتٍ لكائناتٍ حية باعتبار أنها تضاهي ” خلق الله.” [22]

أما فيما يتعلق بتنمية الابداع والفن، استنكر رامي التقليل من أهمية دروس الرسم والموسيقا باعتبارها مواد ثانوية بالمقارنة مع المواد الأساسية وإهمال دورها الهام جداً في بناء وتوازن شخصية المُتعلّم وتشكيل وعيه. عدا عن ذلك “ماتزال الطرق المتبعة في التدريس بدائية لا تُنمّي مهارات التفكير الحر والحوار ولا تحفز على الإبداع.”

في المحصلة، يعكس الجدل الدائر حول المناهج التعليمية عدة نقاط لا يمكن عزلها عن سياق الصراع نفسه. أولاً، ينبغي في البداية الإقرار بأنّ أي تغيير طرأ أو يطرأ على مناهج التعليم يمسّ مباشرةً السوريين الذين مازالوا مقيمين في الداخل، سواء في مناطق السيطرة الحكومية أو في مناطق سيطرة المعارضة، وبدرجة أقل بكثير السوريين المقيمين في الخارج أو اللاجئين. لانقصد هنا إعادة إنتاج الفرز السائد، والإيديولوجي أساساً، بين “جماعة الداخل” و”جماعة الخارج”، وإنما الدفع نحو شيء من الانعكاسية في التقييم، فالملايين التي نزحت عن بلادها إما أنها قد سجلت أولادها في مدارس في مواطن اللجوء (خاصة في الدول الأوروبية وأمريكا) أو أنها تعاني انقطاعاً في سبل مواصلة التعليم (خاصة في المناطق العربية المجاورة). وبالتالي فإنّ تداعيات الجدل حول المناهج أكثر مصيرية على السوريين في الداخل، على الأقل على المدى القصير، وعلى الجميع على المدى المتوسط والبعيد.

ثانياً، مما لاشكّ فيه أنّ مناهج التعليم ليست فقط وسيلة تعليمية ولكنها أيضاً وسيلة سياسية وإيديولوجية بامتياز لذا تحتكرها الدول، أو تسعى لاحتكارها، وتفرض إلزاميتها لما لها من دورٍ جوهري في تكوين هويات متخيلة تنسجم مع رؤية وتطلعات النخب الحاكمة وتوجهات الدولة. [23] الأمر الذي يطرح تساؤلاً حول فعالية المناهج وأهدافها المنشودة على المدى البعيد في ضوء الحرب المستمرة ووسط نزوح وتشريد أكثر من نصف السكان. خلال الحرب الحالية ازدادت نسب التسرب المدرسي وخضع الأطفال في مناطق مختلفة، من ضمنها مخيمات اللجوء، إلى مناهج متعددة أو معدّلة أو مناقضة لما يحياه الطفل. فالتناقضات التي تزرعها هذه المناهج في أجيال الحرب تتفاقم مع التجربة الحياتية للأطفال أنفسهم، فلا يكاد يخلو بيت لم يفقد ضحية على يد أحد أطراف الحرب، ولا يقل الأثر النفسي لهذا الفقدان ولوم “الآخر” عن أثر العملية التعليمية نفسها. أخيراً، كما أشارت بعض آراء المدرّسين، لا يمكن اعتبار تطوير المناهج عملاً جذرياً مالم يتم توجيه النقد لجذور العملية التعليمية والتربوية، وإلا فإنه لن يقود إلا إلى حلقة مفرغة مفضياً إلى النتائج نفسها مهما كانت المناهج الجديدة غنيةٍ بالمعلومات والأساليب الجديدة.

هوامش:

1 من بين كل ثلاثة أطفال سوريين يوجد طفل غير ملتحق بالمدارس، وحوالي 1.4 مليون آخرين مهددين بالانقطاع عن الدراسة. يُضاف إلى ذلك تعرض مدرسة من بين كل أربع مدارس لأضرار، أو دمار، أو احتلال، أو إغلاق، أو إعادة الاستخدام كمأوى، أنظر:

UN Office for the Coordination of Humanitarian Affairs (OCHA). 2017 Humanitarian Needs Overview: Syrian Arab Republic. December. 2016. p.11.

2 مازال المنهاج السوري الرسمي معتمداً في معظم المناطق التي تسيطر عليها المعارضة مع بعض التعديلات في بعض المناطق تناولت حذف الإشارات لإنجازات حزب البعث ومنجزات الأسدين.  للمزيد يمكن الاطلاع على: درويش، صبر: العملية التعليمية في مناطق سيطرة المعارضة المعتدلة. سوريا حكاية ما انحكت. 21 حزيران، 2015.

3 كان المؤرخ السوري سامي مبيض قد انتقد سابقاً كتاب “تاريخ الوطن العربي الحديث والمعاصر” المقرر في منهاج البكالوريا الأدبي والصادر خلال العام الدراسي 2014-2015 لما احتواه الكتاب من أخطاء تاريخية فادحة عدّد منها اثنتين وعشرين نقطة. انظر مبيض، سامي: تزوير كتب التاريخ المدرسية نتيجة خطأ أم جهل؟! … المؤرخون والمفكرون والسياسيون السوريون يغيبون عن المشهد التعليمي! صحيفة الوطن. 2  شباط، 2017.

كما حلّل الصحفي السوري سابقاً كتب مرحلة التعليم الأساسي (الصف الأول وحتى الصف التاسع) للعام الدراسي 2014-2015، انظر: درويش، صبر: العملية التعليمية في سوريا بين الحاضر وبين المستقبل المأمول. سوريا حكاية ما انحكت. 19 أيار، 2015.

4 وزارة التربية، الجمهورية العربية السورية: تشكيل لجنة خاصة لدراسة الملاحظات والمقترحات الواردة إلى الوزارة حول المناهج المطورة، 16 أيلول، 2017.

5 برنامج صباحنا غير: د. دارم طباع مدير المركز الوطني لتطوير المناهج التربوية. قناة Saba7na Gheer على اليوتيوب .18 أيلول، 2017. الدقيقة 2:10-2:30.

6برنامج من الآخر: آزمة المناهج هل خطأ في الاختيار أم خلل في التفكير. الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون- سورية. 18  أيلول، 2017.  1:06:50-1:07:25

7 فاضل، عهد: ليس فيلم رعب.. بل أغلفة كتب تلاميذ سوريا!. العربية. 9 أيلول، 2017.  

8 عنجريني، صهيب: «داعش» والمناهج الجديدة: السوريون «يقصفون» عشوائيّاً. الأخبار. العدد 3274 الخميس 14 أيلول، 2017.

9 المصدر: الموقع الرسمي للمركز الوطني لتطوير المناهج التربوية.

10 برنامج هنا سوريا: “تثير الرعب” الصور الكاملة لمنهاج النظام الجديد!. أورينت نت. 11 أيلول، 2017.  الدقيقة 3:42-4:17.

11 المصدر السابق: الموقع الرسمي للمركز الوطني لتطوير المناهج التربوية

12 ديب، يسرى: «ضجّة» المناهج بين أسئلة مجلس الشعب وأجوبة وزير التربية. جريدة تشرين. 21 أيلول، 2017.

13 Althusser, Louis. On the Reproduction of Capitalism: Ideology and Ideological State Apparatuses, trans. and ed. G.M. Goshgarian (Verso, 2014).

14الجباعي، جاد الكريم: نحو مدخل اجتماعي للتربية والتعليم. جيرون. 12 آب، 2012.

15 خليل، إبراهيم: مناهج التعليم الكردية في الإدارة الذاتية. مدارات كُرد. 8 كانون الأول، 2015.

16 عثمان، أحمد: افتتاح المدارس في مدينة قامشلو مع المنهاج الكردي الجديد. نبض الشمال. 28 أيلول، 2015.

17 الأحمد، سامر: الحسكة: مناهج تربوية مسيسة تهدد مستقبل جيل بأكمله. المدن. 23 نيسان، 2017.

18 ملا رشيد، بدر: الواقع التعليمي في مناطق “الإدارة الذاتية”. مركز عمران للدراسات الاستراتيجية. 15 تشرين الثاني، 2016.

19توزيع عشرة ملايين كتاب مدرسي في المناطق المحررة. عنب بلدي. العدد 217. 17 نيسان، 2017.

20 المقصود هنا الكاتب معتز الحناوي المقيم في السويداء (سوريا)، في حين يقيم الكاتب باسيليوس زينو في الولايات المتحدة.

21 الحناوي، معتز: سنديان السويداء ولعنة الحرب السورية. جدلية. 23  حزيران، 2017.

22 خلال أحد الدروس طلب الأستاذ نفسه أن نرسم رسماً حُراً أو أن ندرس لصفٍ آخر، فقمت برسم شخوصٍ كاريكاتورية بشرية على دفتر الرسم وعندما شاهدها خلال جولته بين الصفوف قام بتشطيب رسمي مما أثار دهشتي وغضبي. وعندما سألته عن السبب قال إنّ رسم الكائنات الحية حرام وأنّ المُصوّر يرتكب إثماً بمحاكاة الخالق في خلقه. كان تفسيره غريباً عليً ولم أستطع كبت ضحكةٍ لا إرادية مما استدعى طردي من الحصة (باسيليوس زينو، جرت الحادثة سنة 1998)

23 لانقصد القول هنا أن ميدان التعليم يقتصر على ما تفرضه الدولة ضمن مدراسها. ففي العديد من دول أمريكا اللاتينية، كالبرازيل، تمكن العديد من مجتمعات السكان الأصليين والمحرومين من الأراضي (التي سيطرت عليها الدولة بالقوة) من فرض نظام تعليمي تحرري يؤكد هويتها الثقافية في مواجهة فرض القيم النيوليبرالية على مجتمعاتهم، مؤكدين على أهمية التعليم “في الحراك” كجزءٍ أساسي من حركات اجتماعية مستمرة. للمزيد انظر:

Zibechi, Raúl. 2012. Territories of Resistance: A Cartography of Latin American Social Movements. Oakland, CA: AK Press. pp. 21-33.

معتز الحناوي وباسيليوس زينو