السلل الغذائيّة’… إذلال للمستحقين ومورد لغيرهم’

السلل الغذائيّة’… إذلال للمستحقين ومورد لغيرهم’

دمشق

في ساعات الصباح الأولى، كان العشرات متجمهرين أمام إحدى الجمعيات الخيرية في مناطق سيطرة الحكومة بريف العاصمة دمشق، ينتظرون على أحر من الجمر تسلم «السلة الغذائيّة» (الإعانة). لكن نبأ إطالة فترة تسليمها لشهر إضافي وقع كالصاعقة على الكثير منهم، لأن ذلك سيزيد من طين معاناتهم المعيشية “بلة” في ظل الفقر المدقع الذي باتت أغلب الأسر تعاني منه بسبب الحرب المستمرة في البلاد. ردود فعل المتجمعين على ما أفادهم به أحد موظفي الجمعية، بأن تسليم “السلة الغذائية” بات مرة واحدة كل ثلاثة أشهر بسبب العجز المالي لدى “برنامج الغذاء العالمي”، تنوعت وعسكت مدى التأثيرات السلبية التي ستترتب على كل عائلة من جراء ذلك القرار.

عوز ولطم

امراة بدت في العقد الخامس من العمر وترتدي ثوباً رثاً وحذاء ممزقاً، وبينما لم يكد الموظف إنهاء كلامه، لطمت بكفيها على خديها، وصاحت بصوت عال  مع محاولات لحبس دموعها: “منين بدنا نوكل (نأكل)”، على حين بادرت أخرى تقف إلى جانبها للتخفيف عنها، وأوضحت أنها “نازحة من جنوب البلاد ولديها خمسة أطفال ولا معيل لهم بعد أن قضى زوجها خلال الحرب.”

أكثر تماسكا، كان عجوز يجلس على الرصيف بمحاذاة باب الجميعة بسبب عدم قدرته على الوقوف واكتفى بالتعليق على الأمر بترديد عبارة: “حسبي الله ونعم الوكيل… إلنا الله” لعدة مرات.

ومنذ بدء الحرب في البلاد قبل نحو سبع سنوات شهدت أسعار المواد الغذائية والخضروات ومختلف الحاجات المنزلية في عموم البلاد، ارتفاعاً تدريجيا ، ووصلت الى حد غير مسبوق، بسبب انخفاض مستوى سعر صرف الليرة أمام العملات الأجنبية (الدولار الأميركي يساوي حاليا نحو ٤٥٠ ليرة)، وتضاعفت غالبية الأسعار عشر مرات عما كانت عليه قبل الحرب عندما كان سعر صرف الدولار لا يتجاوز ٥٠ ليرة.

وانعكس ذلك سلباً على الحالة المعيشية للمواطنين، مع بقاء سقف المعاشات الشهرية للموظفين على ما هو عليه، فالموظف الذي كان مرتبه ٣٠ ألف ليرة قبل الأزمة، أي ما يعادل ٦٠٠ دولار، أصبح مرتبه اليوم يساوي أقل من ٧٥ دولاراً، على حين يقدر اقتصاديون حاجة الأسرة المؤلفة من خمسة أفراد حاليا إلى 800 دولار شهريا لتستطيع مواصلة حياتها بشكل وسطي.

وكشفت دراسة أعدها في مايو (أيار) ٢٠١٦ “مركز الرأي السوري للاستطلاع والدراسات”، وهو مركز موال للحكومة، أن نسبة السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر تصل إلى ٨٧.٤ في المئة، وفقا لمعيار البنك الدولي.

ووفق مكتب التنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشوا)، في سورية ٧.٥ مليون شخص نزحوا من مناطق إقامتهم إلى مناطق افترضوها أكثر أمناً، إضافة الى أكثر من خمسة ملايين لاجئ خارج البلاد.

من جانبه، أكد “برنامج الغذاء العالمي” مؤخرا، أن ١٣.١ مليون سوري في حاجة للمساعدات الإنسانية، وأن  ٦.٥ مليون يعانون من انعدام الأمن الغذائي وتوقع ارتفاع هذا الرقم مع استمرار الصراع لـ١٠ ملايين شخص وهو تقريباً ضعف عدد الأشخاص المحتاجين للغذاء في العام الماضي.

ومع تردي الوضع المعيشي للسوريين، أطلقت جمعيات خيرية في السنة الثانية للحرب مشروعاً لتوزيع “سلل غذائية”، وغالباً يكون مصدر تلك السلل”برنامج الأغذية العالمي” التابع للأمم المتحدة، والمنظمة الدولية للصليب الأحمر، وجمعيات خيرية. كما تقوم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) التابعة أيضاً للأمم المتحدة، بتوزيع سلل غذائية على اللاجئين الفلسطينيين.

وبعد أن كان يتم توزيع السلال الغذائية مرة واحدة كل شهرين على كل عائلة،  بات توزيعها منذ مطلع العام الجاري مرة واحدة كل ثلاثة أشهر.

وتحتوي السلة الواحدة على مواد أساسية قابلة للتخزين ولا تحتاج إلى التبريد لضمان إمكان حفظها لأطول فترة ممكنة. وفي كل سلة، فول (٦ – ١٢ علبة) وعدس حب (٣ – ٥ كلغ) وبرغل (٢ – ٤ كلغ) وأرز (١٠ كلغ) ومعكرونة (١ – ٥ كلغ) وزيت نباتي (٥ – ٦ ليتر) وسكر (٢ – ٥ كلغ) وملح (١ كلغ) وحمص حب (٢ – ٤ كلغ) وطحين ( ٥/٧ كلغ). كما يتم أحياناً، توزيع أدوات مطبخ ومنظفات وفرش وأغطية إضافة الى السلة الغذائية.

مصدر رئيسي للعيش

في ظل تراجع الوضع المعيشي  بشكل عام، باتت أغلب الأسر السورية في داخل البلاد وخصوصا النازحة تعتمد بشكل رئيس على محتويات السلة الغذائية، التي “تكاد لا تكفي لسد رمق أفردها”، بحسب ما يقول أب لأربعة أطفال، ويوضح أن مرتبه يكفي فقط لدفع بدل إيجار الشقة الشهري وثمن الخبر، ويعتبر أن إطالة فترة تسليم هذه السلة سيتسبب بمشكلة له في كيفية “تأمين معيشة” أفراد عائلته و”لو على الكفاف” في الشهر الإضافي.

وأعلنت الأمم المتحدة في ابريل (نيسان) الجاري، أنه وبحلول يناير (كانون الثاني) الماضي، بلغ عدد من يتلقون مساعدات “برنامج الأغذية العالمي” ثلاثة ملايين سوري، بعد أن كان أربعة ملايين في أغسطس (أب) الماضي، وذلك بسبب نقص التمويل، من دون أن توضح إن كان هذا الرقم يشمل اللاجئين السوريين في دول الجوار أم لا.

وبحسب المنظمة يحتاج البرنامج إلى ١٥٩ مليون دولار للحفاظ على تشغيل عملياته، حتى بنسب منخفضة، إلى شهر يوليه (تموز) المقبل.

محسوبيات

تشترط الحكومة السورية على المنظمات الدولية، أن تتم عملية الإغاثة بالتنسيق معها، وتمنع أي منظمة دولية تُعنى بالإغاثة من العمل على الأراضي السورية من دون موافقتها. كما تحصر عملية تمويل المساعدات وتسليمها في جمعيات خيرية سورية مرخصة بقائمة أشرفت على وضعها وزارة الخارجية. كما تشترط أن تتم عملية توزيع المساعدات من المنظمات الدولية بالتنسيق معها، عبر “منظمة الهلال الأحمر العربي السوري.”

ويتم تسجيل أسماء العائلات المحتاجة لدى مخاتير الأحياء أو مراكز التوزيع، التي غالباً ما تقوم عليها شخصيات من الأحياء ذاتها بموجب البطاقات العائلية.

وبحسب النشرات المرفقة مع “السلة الغذائية” والإعلانات الملصقة في مراكز التوزيع، فإن من يحق لهم التسجيل للحصول على “السلة الغذائية” هم العائلات النازحة، والعائلات الفقيرة جدا، والعائلات التي فقدت المعيل على أن تقدم تلك العائلات أوراق تثبت ذلك.

وتقول ربة منزل، وهي أم لثلاث فتيات، ونزحت من منزلها في ريف دمشق إلى إحدى ضواحي دمشق الآمنة: أنه “رغم أن شروط الاستحقاق تنطبق على عائلتي، فإنني لم أتمكن من التسجيل، إلا بشق النفس، بسبب المماطلة وحجج القائمين على مراكز التوزي”، في حين يؤكد أب لطفلين وعاطل عن العمل بسبب قلة فرص العمل في البلاد، أنه “لم يتمكن حتى الآن من التسجيل بسبب المحسوبيات المتبعة من المسؤولين” في المراكز ويضيف: “العملية إذلال بإذلال.”

مكافأة للموالين

والمفارقة بحسب تأكيد العديد من الأهالي، أن من يأخذون “المعونة” معظهم من أهالي الأحياء الأصليين على رغم أنهم يسكنون في بيوتهم، كما يحصل في أحياء  معينة في العاصمة.

كما تشاهد سيارات فارهة أمام مراكز التوزيع يترجل منها أصحابها ويستلمون سلالاً غذائية من دون أدنى وجل أو حياء، لا بل تبدو عليهم ملامح الابتهاج بعد عملية الاستلام، على حين يمنع النظام المواد الإغاثية في شكل كامل أو جزئي عن مناطق سيطرة المعارضة.

ووفق الكثير من الأهالي، فإن مرد ذلك إلى عمليات تلاعب تحصل في عمليات التسجيل، والتي غالبا  ما تجري بالتواطؤ مع المخاتير والقائمين على مراكز التوزيع، عبر تقديم الكثير من الأسر أوراقاً تثبت أن لها بيتاً في إحدى المناطق المتوتّرة وبيتاً آخر في الحي الآمن الذي تعيش فيه.

ويلاحظ أن كثيراً ممن يقفون أمام المراكز للاستلام هم من عناصر جيش النظام والأمن ومليشيا “قوات الدفاع الوطني” الموالية له رغم أنهم قاطنون في بيوتهم، وغالبا ما يعمد هؤلاء إلى عدم الوقوف على الدور لاستلام “السلة الغذائية” بل يتجاوزونه، وعلى رغم ذلك يلقون كل الترحيب من القائمين على عملية التوزيع، بينما عندما يأتي دور شخص محتاج ملتزم بدوره يتأففون ويمنون عليه وكأنهم يعطونه من مالهم الخاص.

 تجارة وإقرار

وبينما تشهد مراكز التوزيع خلال أيام العمل، تجمهر العديد من التجار لشراء “السلة الغذائية” أو جزء مما تحتويه ممن يرغب، باتت شوارع الأحياء الرئيسية في العاصمة تشهد الكثير من البسطات التي تتضمن محتويات السلة الغذائية لبيعها.

وبينما يقوم الكثير من المستلمين ببيعها فورا للتجار في مؤشر على أنهم غير محتاجين، يعمد بعض المحتاجين إلى بيع جزء منها لا يرغبون به، ويشترون بثمنه مواد يرغبون بها، بينما تقوم بعض الأسر الفقيرة النازحة ممن يعمل أرباب أسرها ببيعها كاملة لتأمين بدل إيجار المنازل.    

وغالباً ما تباع محتويات السلة الغذائية بأسعار أقل مما هي عليه المادة في الأسواق والمحلات التجارية. وبينما يباع سعر الليتر من الزيت النباتي الموجود ضمن السلة على بسطات الرصيف بـ٦٥٠ ليرة سورية، يباع في المحلات بـ٨٠٠ على رغم أن الاثنين من النوعية ذاتها.

وفيما يباع كيلوغرام البرغل الموجود في السلة على البسطات بمئة ليرة، يباع النوع ذاته في الأسواق بـ ٢٠٠ ليرة. ويصل سعر مجمل ما تحتويه السلة الغذائية الى ما بين ١٢ الى ١٥ آلاف ليرة سورية.

وبات الغالبية العظمى من سكان مناطق سيطرة الحكومة بدمشق يقرون باستلامهم سللاً غذائية ومواد تنظيف وأدوات مطبخ وفرشات وبطانيات، ويبررون ذلك بأن “الغالبية العظمى من السوريين باتت في حاجة إلى المساعدات في ظل الارتفاع الكبير للأسعار لعموم المواد الغذائية والخضار والفاكهة والأدوات المنزلية.”

!صورة حلوة.. وواقعٌ مريرْ

!صورة حلوة.. وواقعٌ مريرْ

أوراقٌ بيضاءُ وألوانٌ موزّعةٌ بالتّساوي هنا وهناك، سلّةٌ مليئةٌ بالكرات الملوّنة ذاتِ الوجوه الضّاحِكة، وقطعُ بازل إسفنجيّة بأحجامٍ مختلفة، بالوناتٌ تتهيّأُ للطّيران، ورسوماتٌ متنوّعةٌ تستلقي على الجدرانِ بانتظارِ من يوقظها.. ثلاثةُ شبّانٍ وأربع شابّات يتوزّعونَ بترتيبٍ مدروسٍ بستراتهم الموحّدة التي يتربّع عليها اسمُ الجمعيّةِ التي يعملون فيها والمنظّمةِ التي تموّلها. الهدوءُ يعمُّ المكان، دقيقة.. دقيقتان.. خمسُ دقائق.. وها هي ذي الموجةٌ القويّةٌ المنتظَرة من الصّياحِ والهتافِ والرّكضِ والضّحكِ تندفعُ نحوَ بوّابةِ المركز، مبدّدةً الهدوء، ومحرِّكةً كعصاً سحريّةأجسادَ المتطوّعينَ الثّابتة ووجوههم ذات الابتساماتِ المرسومةِ بخطٍّ رفيع، والّتي ستعملُ فيما بعد ممحاةُ التمويلِ وقلّة الخبرة على محوِها أو على الأقلّ تغيير اتجاه انحنائها؛ بدأ العمَل.. كانت مدّةُ النّشاط ساعتينِ ونصف، تعارف الأطفال فيها، غنّوا، رسموا، لعبوا وطيّروا البالونات، ثمّ عادوا، محمّلينَ بالفرح، إلى بيوتهم. بيوتِهم التّي على عتباتِها، سيمسحونَ ما علقَ على أحذيتهِم ووجوههم من ضحكاتٍ وأمل، ليدخلوا كما خرجوا، أطفالَ واقعٍ مريرٍ يرميهِم بيدِه الخشنةِ يميناً وشمالاً.. شرقاً وغرباً.. وفي كلِّ اتجاهاتِ الألمِ والفقر والتّعاسة.

القفزُ على سلّمِ الاحتياجات

عام 2008 بدأتُ العملَ في تنمية وثقافة الطّفل، مع إحدى مؤسسات البلد التي كانت تكبرُ وتكبرُ شيئاً فشيئاً، محقّقةً للوهلةِ الأولى آمالاً ورغبةً ملحّةً لديّ بأن أساهمَ في مساعدةِ جيلٍ كاملٍ من أطفالِ سوريا في النّمو النّفسيّ الفكريّ والمعرفي، بأن أكونَ جزءاً من مجتمعٍ واعٍ لأهمية هذه الشريحة العمريّة، أهمّيةِ النّهوضِ بها، شحذِ شخصيّتها، وتزويدها بالمهاراتِ والأدواتِ اللازمةِ لتكونَ عنصراً فاعلاً متفاعلاً بنّاءً وخلّاقاً في المجتمع. كانت أدواتُنا المسرح والسّرد القصصيّ، والحوار. وكنتُ مؤمنةً إيماناً كاملاً بسموّ الهدف وإمكانيّة تحقيقه.

كان فريقُنا جوّالاً يقيمُ فعاليّاته في كلّ أنحاءِ سوريا، تماماً وبكلّ معنى الكلمة، كلّ المدن والأرياف القريبة والبعيدة، من جرابلس والبوكمال وحتّى أبعدِ نقطةٍ في درعا، في البداية لم أصدّق عينيّ وأنا أرى الصروح والمراكز الثّقافيّة التي تنتصبُ برُخامها اللامع ولافتاتها الكبيرة في بقاعٍ لم أكن أظّنها موجودةً على الخارطةِ أصلاً. تخيّلوا معي المنظر، بيوتٌ طينيّةٌ لا ترتفعُ عن الأرض أكثرَ من ثلاثةِ أمتارٍ، وشوارعُ غير مزفّتة، يعلو وسطها بناءٌ جميلٌ من رخامٍ لامع، فرشٌ من الجلدِ الأنيق، ومسرحٌ تكادُ خشبتهُ وكراسيه ترقصُ من شدّة النّظافة وكأنَّ أحداً لم يمسسها أو يستخدمها، وهذا ما كان بالفعل، لم يدخل أحدٌ من سكّان هذه البلدةِ سابقاً إلى المركز باستثناء مديره وموظّفيه، بل ولولا وجودنا وفعاليتنا لما عرفَ أحد أنَّ اسمَ هذا البناء مركز ثقافيّ“. وأظنّه عادَ إلى سباتِه وسكونه مذ أنهينا عملنا فيه.

حتّى عام 2011، كانت هذه المؤسسة هي الجهة الوحيدة تقريباً، مع استثناءاتٍ قليلة، التي تقيم نشاطاتٍ للأطفالِ في أنحاء البلد، نشاطاتٍ كان واضعو خططها ومحتوياتها أشخاصٌ من أرستقراطي البلد الذين ربّما لا يعرفون أنّ ثمّة أطفالٌ، في تلك البلدةِ وغيرها، حفاةٌ حتى تلك اللحظة، لم تدخل حتّى الأحذيةُ إلى ثقافتهم.

عندما قرعت الحربُ طبولها وقرّعت رؤوس وصدور مواطني هذا البلد الذي لا يعرفُ ابنَ ساحلِه أبناءَ جبله، ولا يعرفُ ابنَ جنوبِه أبناءَ شماله. بدأت حُمّى الجمعيات والفرق الإغاثيّة بالانتشار والتّكاثر بسرعةٍ مفاجئةٍ غريبة، ينابيعُ من الأموالِ شقّت الأرضَ بغتةً وبدأت تفيضُ لتعِّبئَ الصّناديق بالأغذيةِ والمستلزمات الصحية والإسعافيّة، وتعبّئ جيوبَ وحساباتِ مدراءِ ومؤسسي هذه الجمعيات بالكثيرِ الكثيرِ من الأموال. في فترةٍ لاحقةٍ انحسرت الحاجةُ إلى الإغاثة، وكي لا يقعدَ هؤلاء بلا عمل، غيّر أغلبهم لافتاتِ مؤسساته وجمعياته من الإغاثة إلى الدعم النفسي الاجتماعي.”

عدوى الدّعم النفسي الاجتماعي

الدعم النفسي الاجتماعيمصطلحٌ لم يعرفه السّوريّون، عدا فئة قليلة من المختصين والمهتمّين، قبل2013 أو فلأقُل قبلَ انهمار الأسلحةِ بأنواعها والموتِ بأشكاله على البيوتِ وأهلها، وقبلَ بدء حملات التّهجير والتّدمير للبشر قبل أيّ شيءٍ آخر، حين بدأت منظمات الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدوليّة العالميّة بضخّ الأموالِ إلى الجمعيات والمؤسسات التي راحت تفقسُ في كلِّ مكان، تحت مبرِّر الحاجةِ والاحتياج“. لا شكَّ أنَّ الحرب أنجبت وتنجبُ من الكوارث والأضرارِ النفسيّة ما يكفي لقتلِ أيّ أملٍ في التّعافي، ولا شكَّ أنَّ أعداداً هائلةً من السوريين، أعداداً أكبر بكثير مما صرّحت به منظمة الصحة العالميّة وغيرها من الجهات المعنيّة بالأمر، قد وقعت طريحةَ الحرب والأمراضِ النفسيّة، ما يجعلُ العلاجَ النفسيّ والدعم النفسي الاجتماعي ضرورةً قُصوى وحاجة ملحّة لا غنى عنها أبداً؛ صحيحٌ أنَّ الصّحة النّفسيّة لكثيرٍ جدّاً من السوريين لم تكن في أوجها قبل الحرب، بل لم تكن حتّى ضمن تصنيفِ (مقبول)، وصحيحٌ أنَّ الأمر لم يقلِق أيّاً من الجهاتِ المحليّة أو العالميّة سابقاً، ولم يدفع أحداً للتحرّك نحو العمل، أو فلأقل نحو الواجب الإنسانيّ، لكنّني لستُ الآن بصددِ الحديثِ عن المرحلةِ السّابقة.

تاريخيّاً، تُشنُّ الحروبُ في بلدٍ ما لتفتح الطّريقَ أمامَ السّوق، سوق الأسلحة مثلاً.. لكن هل من الممكن أن يكون للخدمات المجتمعيّة والنفسية سوقٌ ينشطُ أيضاً في أوقاتِ الحرب؟! سؤالٌ استفزّني كثيراً طوال هذه السّنين الخمس، وكثيراً ما رميته جانباً لأتمكّن من المضيّ في عملي مع الأطفال واليافعين والمتضررين من الحرب في برامج الدعم النفسي الاجتماعيالّتي تنقّلتُ معها من منظمةٍ إلى أخرى ومن جمعيّةٍ إلى أخرى.

في البدء كان الكثيرُ من هذه الأنشطةِ والبرامجِ يعبّر عنّي ويحفزني على الالتحاق بها هنا وهناك، لأكتشفَ بعدَ وقتٍ ليسَ بطويل، أنَّ ما آمنتُ به، أو من آمنتُ بهم، ليسوا سوى مدّعين، ومسيِّري أعمال، ربّما كنتُ أنظرُ بعَينَي رغبتي وإيماني، اللتين كلما خابَتا أيقظتُهما واستنهضتهما.

الواقعُ مرير، الحربُ طاحِنة متوحِّشة، والنّاسُ في أسوأ حالاتهم، ولا بدّ لي من تأدية واجبي الإنسانيّ، أحملُ حقيبةَ معرفتي وخبراتي وأنطلق، أعملُ وأعمل، بل وأناضلُ للحفاظِ على مفهومي لِـ الدعم النفسي الاجتماعيعن مفهومي لحماية الطفل، والدعم النفسي، والتوعية و و و.” أشاركُ في حملاتٍ ضد العنف الأسريّ والمجتمعيّ، ضد التحرّش، وضدّ سَوقِ الأطفالِ إلى معتقلاتِ الزواج المبكّر، ضدّ عمالة الأطفال، وضدّ الكثيرِ جدّاً من الممارساتِ اللاإنسانيّة المتجذّرة أساساً في مجتمعنا الهشّ المريضِ هذا، والمتفاقمةِ اليوم، أشاركُ في نشاطاتٍ، ورشاتِ عملٍ، مبادراتٍ ومشاريع لتخفيفِ الأضرار النفسيّة على النّاس. أعملُ بطاقتي كاملةً بل إنني كثيراً ما استعرتُ طاقةً من الكون، كي أستمرّ، وأثناءَ عملي مع هذه الجهةِ او تلك، كانت الحقيقةُ البشعةُ تتجسّد أمامي شيئاً فشيئاً بكلّ عوراتها رغم كلّ محاولاتي لغضّ الطّرف، والنّضال للحفاظِ على مهنيّتي، وضميري في العمل، على الأقلّ في الجزءِ الخاصِّ بي متعكّزةً بمقولة لا تلعن الظلام.. بل أشعِل شمعة، لأنهزمَ أخيراً، وأعترف بفشلي بصوتٍ عالٍ ومدوٍّ، فأنسحبُ جارّةً خيبتي كذيلٍ فولاذيٍّ لعينْ. لا تقلقوا عليّ.. فأنا سريعةُ النّهوض. نعَم، اكتشفتُ خلال هذه السنوات أنّ مخزون الطّاقة لديّ لا ينفد، أو إنّه سرعانَ ما يعودُ للامتلاء. وبذلك، أنتقلُ لمتابعةِ عملي بإصرارٍ أشدّ، وطاقةٍ أكبر، وبعدَ البحثِ والتّمحيص، ألتحقُ بالجهةِ أو الفريق الذي، يبدو لي للوهلةِ الأولى أنّه يعملُ لأجل الإنسان، الإنسانِ فقط، ويعودُ الدولابُ النّاريُّ للدّوران، الدّوران فوقَ جسدي المتمدّد تحته كخرقةٍ بالية، حقيقةٌ تتكشّف، وهمٌ يزول، ورحلةُ بحثٍ جديدة.

العصا في يد، والوردةُ في الأخرى

اعتزلت العمل مع المنظمات والجمعيات مدّة سنةٍ ونيّف، ولست الوحيدة في ذلك، كثيرٌ من المختصّين والخبيرين بالعمل في الدعم النفسي الاجتماعي عن طريق الفن وغيره، والذين كانوا يعملون باحترافيّة وضمير، اختاروا الانسحاب مقابل العملِ كيفما اتّفق، بعضهم سافر، وبعضهم كوّنَ فرقَاً تطوعيّة، والبعض الآخر أكمل المسيرةَ وحدَه كجهدٍ فرديّ، وآخرونَ اعتزلوا الأمر تماماً. وأغلب مَن بقيَ يعمل مع هذه الجهات أشخاصٌ غيرُ كفؤين إمّا يبحثونَ عن نشاطٍ يملؤون به فراغهم، أو يحصّلون عن طريقه دخلاً آخر، أو.. أو….

سيأتي البعضُ ليقولَ لي إنّ هذه الجهات لا تبخل في تدريب الكوادر وتطوير مهاراتهاوأقول، هذا صحيحٌ تماماً، ولكن، هل تصنعُ بضعُ ورشاتٍ ودوراتٍ من شخصٍ ما مدرّباً أو أخصائياً اجتماعيّاً، أو..، ولنفترض أنها تفعل، فهل يسعى مدراء البرامج ومنسّقوها إلى متابعة وتقييم الأشخاص بناءً على مهاراتهم في العمل؟!، أم بناءً على مهاراتهم في كسبِ ودّ هذا المدير أو ذاك، ومهاراتهم في تشكيل صورة جيّدة يلتقطها موظّف الميديا وتنبهرُ بها الجهةُ المانحةُ فتقدّم على إثرها المزيدَ والمزيدَ من المال؟

إذاً فإنَّ التّأثير المطلوب لهذه الأنشطة لم يعد موجّهاً نحو النّاس، إنّما نحو المانحين (الدّونرز). وعلى هذا، فإنّك إن قلّبت المواقعَ الإلكترونيّة وصفحات التواصل الاجتماعيّ الخاصّة بهذه الجمعية أو تلك، فإنك ستُدهَشُ حقّاً، وتقول مازال البلدُ بخيرأو ربّما تشطح أكثر وتفكّر على هذه الحال لن يطول الأمر، سنةٌ أو أكثر بقليل ويتعافى المجتمع، لا عنف.. لا كراهية.. لا اكتئاب.. لا تحرّش.. لا تمييز.. لا.. لاهه إنّهُ حلمٌ بعيدُ المنال يا صديقي، ولستُ أتكلّم هنا بتشاؤميّة إنّما بواقعيّة، فلو استطعتَ الخروج من أمامِ شاشتك الصّغيرة، والولوجَ إلى قلبِ نشاطٍ ما، سترى الحقيقةَ بأمّ عينيك، فنسبةٌ كبيرةٌ من هؤلاء الشّباب الذين يحتضنون الأطفالَ في الصّورة ويبتسمون، يحملونَ في يدٍ وردة، وفي الأخرى المختبئة خارج الكادر يحملونَ عصاً، عصاً من عنفٍ لفظيّ، وأحياناً كثيرة من عنفٍ جسديّ. وأخيراً السؤال الذي يطرحُ نفسه.. من المسؤول؟! هل المسؤول عن هذه الانتهاكات هو المتطوّع؟! أم المصوِّر؟! مدير الفريق؟! مدير البرنامج أم مدير الجمعيّة؟!  الجهة المانحة.. أم أصحاب الشأن في الدولة.. أم أنا.. أم.. أَم