بائعات الخبز في دمشق

بائعات الخبز في دمشق

لا يمكن الادعاء أنّ البحث عن الفتيات، صغيرات أو كبيرات، بائعات الخبز بالأمر الصعب والمعقد. الأمر لا يتطلب إلّا جولة في السيارة على أفران العاصمة السورية دمشق، أو ببساطة يمكن تحديد خط سير الباحث عن الفتيات وقصصهنّ بالمرور على فرن باب توما، ثم “أفران ابن العميد” في برزة، فـ “فرن الشيخ السعد”، وثم إلى “الأفران الاحتياطية” في نهاية أوتوستراد المزة. وهذه الأفران ليست إلّا عينة يتطابق معها حال عشرات الأفران في العاصمة وريفها.
في النهار أو الليل، المشهد هو ذاته. لا تتغير مواعيد تواجد الباعة الغلابة، إلا بحسب الوقت الذي سيخبز فيه الفرن الخبز، وبمطلق الأحوال هذا لا يعني أنّ هذه المهنة المستجدة هي حكر على الأطفال والنساء. فالرجال، وهم كثر، ينتشرون مع النساء والأطفال على الأرصفة، في الشوارع، ونواصي الطرق، وجميعهم لا يخبئون أنفسهم، فعملهم يقتضي وقوفهم في أمكنة مكشوفة، لعرض بضاعتهم، وبضاعتهم تلك، قوت السوريين وموضع رفاهيتهم الذي لم يحرموا منه، حتى الآن، على الأقل.

مريم الخائفة
تقف مريم، وهو اسم مستعار لفتاة ستصل عامها الثامن عشر في منتصف العام الجاري بحسب ما قالته لـ “صالون سوريا” إثر محادثة قصيرة نسبية، قضتها الفتاة تتلفت حولها خائفةً. نسألها عن السبب، وتجيب باختصار يحمل ما يحمله من الخوف: “ولاد الحرام كتار!”. يبدو الجواب معقداً على بساطته، ترفض أن تشرح، تقول فقط إنّها غير مرتاحة ولا سعيدة، “ألف نعمة البيع بالنهار، بالليل بتشوف العجب، بتشوف ناس ع حقيقتن”، تستخدم مريم ذات الأجوبة المختصرة، وترفض بعد كل جواب أن توضح ما قصدته، تباغتنا بسؤال: “بدك تشتري ولا تتسلى؟”.
شرحت لها أسباب أسئلته، لم تعر أي انتباه للحديث، تبدو كمن لم يفهم الغاية من أساسها، “شوف لقلك، من كم يوم، إجا شب بالليل بسيارتو، ضل ياخد ويعطي معي ربع ساعة وما اشترى مني، بتعرف شو بدو، قلي: تروحي معي تعمليلي عشا بالبيت وبعطيك 10 آلاف، أي أنا فقيرة، وعم اشتغل غصب عني، بس أنا ماني بنت وسخة، مو يعني إذا عم بيع خبز بالشوارع إني بنت مو منيحة، لأ، أنا كلني شرف وبوزعو ع كل الدنيا، هاد واحد من كتار بيجو ليتسلوا ويقلولي روحي معنا، أي شفت قدام عيني بنات طلعوا بسيارات، شفت بنت عمرا ما وصل 15 سنة عم تبيع بالشيخ سعد طلعت مع سيارة وقفت حدها لتشتري خبز، الله أعلم وين راحت معو وشو صار بعدها، أنا أصلا ما بعرفها لأسأل عنها، وما كان فيي امنعها، أنا شو دخلني؟، أنا بدي مين يحميني”، تختم مريم حديثها: “مرة تانية بسألك بدك تشتري ولا تتركني أعرف بيع؟”.
لا يمكن تصوير ما يحصل من انتشار هؤلاء الباعة إلا بالسر، هذا بديهي، هم مضطرون وغير راضين عما يفعلونه، ولكنّها الحاجة، هذا ما أجمع عليه كثر من الباعة الذين حادثهم “صالون سوريا”، لذا كان لا بد في مكان من اللجوء للطريقة التقليدية في تصوير الأفلام التوثيقية الشائكة، مع الأخذ بعين الاعتبار الأخلاقيات المهنية التي تحتم تغطية أوجه الأشخاص الظاهرين، فالمهم هو توثيق الحالة، لا فضح احتياجات الناس، وهذا متفق عليه في الحد الأدنى من العمل في التحقيقات الصحفية، وعلى خلاف هذا العرف يمضي البعض غير آبهٍ بعرض الوجوه، مستغلاً حاجة هؤلاء الغلابة الذين لا يملكون تلفازاً ولا يتابعون باهتمام مواقع وصفحات الأخبار على شاشة هاتفهم الصغير، هذا إن امتلكوه أصلا، وفي الإطار وبرغم أنّه من البديهي ف”صالون سوريا” متمسكٌ باحترام خصوصية هؤلاء الناس.

سوريا المظلمة
في تمام الثانية ليلاً كانت تقف علا ذات الثلاثة عشر عاماً في “حي الشيخ سعد” الدمشقي قرب فرن الحي. تحمل بيديها أربع ربطات خبز، تعرضهنّ للبيع دفعةً واحدة، صمت مطبق في الشارع، صمتٌ يخرقه أحياناً مرور سيارات عابرة في تلك الساعة المتأخرة من ليل العاصمة التي باتت تغفو باكراً على أوجاع سكانها الذين صاروا في عام الحرب هذا ينامون جياعاً، الأمر لا يندرج في إطار المبالغة الكلامية، فأولئك الذي يلتحفون السماء ويفترشون الأرصفة، صاروا كثراً، أيضاً لحظهم لن يتطلب الكثير من البحث، الشوارع فيها ما فيها من فقر وبرد ومرض وتعب، أهل يصدق عاقل أنّ هذي البلاد ستصل يوماً تمتلئ مجامع القمامة فيها بأشخاص باحثين عن لقمة عيش؟، وبالنباشين أيضا؟ً، أولئك الذين يتسيدون جانباً خاصاً من سوريا المظلمة.
أما عن علا ذات الربطات الأربع، فلا تبدو عليها ملامح “التعتير”، تبدو الفتاة أنّها بمكان ما تنحدر من طبقة عادية الفقر، وهذا أمر آخر، فالفقر صار درجات، منه المدقع ومنه الذي لا زال يناضل أناسه لئلا يطحنهم.
صغيرةٌ علا على هذه المهمة الشاقة، هذا أول ما يتبادر للذهن، تقول ل “صالون سوريا”: “أنا عم اشتغل ببيع الخبز لأسند عيلتي، صرلي أكتر من سنة بهالشغلة، أبي عاجز، وأمي بتشتغل بشطف الدراج، وأمورنا الحمد لله أحسن من غيرنا”.
ليكسب “صالون سوريا” أطول وقت من الحوار معها، اشترى منها الخبز، رفضت أن تبيع ربطة واحدة، تصرّ أنّ البيع كل ربطتين معاً وفي كيس واحد، وبفضول البحث عن القصة خلف كل هذا، تبين أنّ الكيس فيه اثني عشر رغيفاً فقط، فيما يفترض أن يكون فيه أربعة عشر رغيفاً، وحين سؤالها، ضحكت: “كيف بدها توفي لكن إذا بدي بيعك نظامي؟”، علماً أنّ الصغيرة تقاضت مبلغ ألفي ليرة مقابل الربطتين الناقصتين، أي بربح إجمالي يساوي ألفاً وخمسمئة ليرة سورية، لذا تبدو هذه التجارة مربحة، وهذا يدلل على استمرار هؤلاء الباعة بعملهم.

التحرش المرّكب
اتفق “صالون سوريا” مع أحد الأشخاص الثقة أن يأخذ دور الشخص الذي سيعرض مشواراً على إحدى هاته الفتيات، بعد أن اجتمعت العديد من الخيوط والمؤشرات حول أنّ هذا الأمر ذاته، صار مثار سمسرة وخبرة لفتيات عدة، وفعلاً نجحت القصة من أول محاولة، توقف الشخص الذي سنسميه سامر بسيارته قرب فتاة لا تبدو عليها علامات البلوغ، تبين لاحقاً أنّ عمرها خمسة عشر عاماً.
إذن، توقف السائق قربها، حادثها من نافذة السيارة: “مرحبا، قديه عم تبيعي الخبز؟”، بهذه الطريقة بدأ الحوار ثم طال وامتد لقرابة خمس دقائق، واختصاراً للقصة، طلبت الفتاة فوق ثمن الخبز خمسة آلاف ليرة سورية لتذهب معه مشواراً في السيارة فقط، أعطاها سامر المبلغ المطلوب، لتقول له: “انطرني دقيقة وبرجع بس لخبر رفيقتي”، ورحلت الصغيرة بعكس اتجاه السيارة، ولم تعد، كان هذا متوقعاً، ف “صالون سوريا”، استمع للعديد من الروايات التي تتطابق مع ما حصل، أنّ فتيات كثر صاروا يطلبون مبالغ مقابل الذهاب مع سائق السيارة، بعد تقاضيهم المال سلفاً، منهنّ من تهرب، وأخريات يصعدن فعلاً، وغيرهنّ يزجرن المفاوض وقد يصرخن عليه.

ليسوا شحاذين
على المقلب الآخر ثمة من يبيع الخبز بثمن أكثر رحمة، وبمصداقية ونزاهة أعلى، فتيات دون السن القانوني، وأطفال صغار دون العاشرة، يمكن لحظهمّ أكثرّ من الفتيات، الطفل علي ذو الثمانية أعوام يبيع كل ربطتين ب1400 ليرة، وحين يحاول أحد الزبائن أن يترك له مبلغاً إضافياً يرفض بشدة، لوهلة يبدو هذا الطفل رجلاً كبيراً، ومثله حالات كثيرة، يكتفون بالبيع لجني لقمة عيشهم لا أكثر ولا أقل، بيد أنّ ما بين الحالتين ما بينهما، هي ظاهرة غامضة ومكشوفة في آن، بين لقمة شريفة وبين تجارة رابحة، تنقسم نفوس وأخلاق هؤلاء الباعة، إلّا أنّه بالمحصلة ثمة شيء أكبر بكثير من كل هذا، الأكبر هو الضحية، والضحية سوري، اعتاد يوماً أن يعيش عزيزا، أما اليوم فالسبل قد ضاقت، يكفي أن نقول أنّ صناعياً من حلب وتاجراً من حمص افتتحوا بسطات على الأرصفة بعد أن كانوا أصحاب معامل قبل عام 2011.
.

رغيف الخبز يحرك السويداء

رغيف الخبز يحرك السويداء

اتسعت الاحتجاجات في محافظة السويداء على قرار دمشق رفع الدعم عن مواد تموينية ومحروقات، وتم قطع طرق بينها خط دمشق – السويداء في جنوب سوريا.
وشهدت عدة قرى وبلدات من المحافظة خروج الأهالي بوقفات احتجاجية، شملت قرى وبلدات في الريف الشمالي والجنوبي من المحافظة، كما تجمع محتجون في ساحة السير في مركز مدينة السويداء، وسط نداءات وشعارات مناهضة لدمشق، مع انتشار أمني عند المراكز الحكومية وتحركات لقوات حفظ النظام في المنطقة، باعتبارها مركز المحافظة وتضم العديد من المراكز الحكومية الخدمية والأفرع الأمنية وقريبة من بناء المحافظة وقيادة الشرطة. كما قطع محتجون عدداً من الطرق والساحات الرئيسية وسط مدينة السويداء على خلفية قرار دمشق الأخير برفع الدعم عن آلاف العائلات السورية.
وأكد مدير تحرير «شبكة السويداء 24» ريان معروف لـ«الشرق الأوسط» أن أعداداً كبيرة من الأهالي في السويداء خرجوا صباح يوم الأحد بوقفة احتجاجية تطالب بـ “العيش الكريم، وقطع المحتجون عدداً من الطرق الرئيسية والفرعية، وفق نظام التحكيم المروري منها أوتوستراد دمشق – السويداء، وطريق نمرة – شهبا، وطريق شقا، ومجادل، والطريق الواصل من بلدة القريّا إلى مدينة السويداء. كما تجمع محتجون أمام مقام عين الزمان، وسط مدينة السويداء، ورفعوا لافتات وشعارات منها «من أهدر المال العام هم الفاسدون ليس المواطنين»… «لا شرقية ولا غربية بدنا سوريا من دون تبعية»… «كرامة مساواة عدالة»، وسط محاولات من بعض الوجهاء ورجال الدين في الطائفة للتفاوض مع المحتجين وفتح الطريق أمام حركة المارة.


وأضاف معروف أن الحركة الاحتجاجية في السويداء «انتقلت إلى ساحة السرايا الحكومي وارتفع سقف الشعارات ليشمل رموز السلطة، وقد حافظت على سلميتها وطابعها الأهلي». وبدأت مطالب المحتجين بالمعاناة من القرارات الجائرة الأخيرة التي فجرت غضب الشارع، مشيراً إلى أن «دعم المواطن بالمواد الغذائية والمحروقات من الأساسيات وليست إنجازات، وتعكس التحركات الاحتجاجية التي شهدتها السويداء حالة الاستياء الشعبي والغضب العارم من القرارات الحكومية المتتالية، وآخرها رفع الدعم عن فئات محددة. ولم تأخذ الاحتجاجات طابع التنظيم، بل كانت في معظمها ردود فعل عشوائية من الأهالي الفقراء للتعبير عن رفضهم لقرار رفع الدعم، وخصوصاً عن مادة الخبز واستمرار تدهور الأحوال الاقتصادية والأمنية في البلاد، وانهيار العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، والغلاء الفاحش الذي تشهده الأسواق بكافة مجالات الحياة».
وقالت «حركة رجال الكرامة» المعارضة، ان «إصرار صناع القرار في سوريا على سن قرارات منفصلة عن الواقع تهدف لتهجير الشعب السوري أو إماتته جوعاً، وأن صناع القرار مارسوا خرقاً واضحاً لمواد الدستور وأبسط مبادئ العقل وقوانين العدالة بعد القرارات الأخيرة التي تمس أساسيات المعيشة اليومية لمعظم فئات الشعب السوري المنهك». وأضاف: «إن لمثل هذه القرارات آثاراً سلبية خطيرة تثير الريبة من خلال دأب الحكومات المتعاقبة على إصدارها منذ اندلاع الحرب في سوريا بحجة رفد الخزينة العامة للدولة بأموال أبناء الشعب من خلال رفع قيمة الضرائب والرسوم الجمركية الخيالية ورفع أسعار المحروقات بشكل متتالي وجنوني مع تردٍ كبير في كافة القطاعات الخدمية وتغاضٍ مقصود وتستر واضح على الفساد المستشري والمتعاظم في كافة مؤسسات الدولة. وأن حالة الاحتقان التي تمر بها البلاد تُنذر بتفجّر الأوضاع كنتيجة حتمية للسياسات التي تعمل ضد مصالح الشعب السوري».
بحسب ناشطين من السويداء، لم تتدخل قوة أمنية حتى الآن في الاحتجاجات الأخيرة، وتراقب الوضع عن كثب فقط، وتدخل ضابط من النظام السوري والتقى محتجين عند وصولهم قرب قيادة الشرطة في السويداء، وسأل المحتجين عن مطالبهم، ونادى المحتجون خلال وجود الضابط أن الاحتجاجات ليست ضدهم وأنهم لا يريدون الصدام العسكري مع النظام، وأن مطالب المحتجين معيشية.

وتلقت بعض الزعامات والشخصيات الدينية اتصالات من الحكومة في دمشق والسويداء، ووعود بترتيب وتحسين الأوضاع في السويداء، وعُقد خلال الأيام الماضية منذ بدء الاحتجاجات يوم الخميس الماضي اجتماع في بناء محافظة السويداء، قال خلاله المحافظ إن مطالب السويداء قد وصلت لدمشق، وتعهد “ألا يشمل قرار رفع الدعم مادة الخبز”. وأكد على دعم مواقف أهلي السويداء ورفعها لدمشق المسؤولة عن القرارات، موضحاً أن الاحتجاجات تؤكد للحكومة واللجنة الاقتصادية المعنية أن القرار ليس في مكانه وسيؤدي لاضطرابات في الشارع.
وتوعد المحتجون في السويداء استمرار تحركهم خلال الأيام القادمة حتى تراجع الحكومة عن قرارها الأخير. واعتبر ناشطون من السويداء أن الحكومة السورية قد تنجح باحتواء الموقف في السويداء، من خلال إعادة الدعم مؤقتاً لمادة الخبز، ولكن الشارع يدرك أن الحكومة لم يعد لديها إمكانيات لتقديمه للسكان، وكلها حلول مؤقتة.
وكانت قد شهدت محافظة السويداء جنوب سوريا يوم الخميس الماضي 3 فبراير (شباط) 2022 احتجاجات بعد قرار الحكومة الأخيرة، استبعدت فيه العديد من الفئات في المجتمع من الدعم الحكومي، للمواد التموينية والمحروقات، وبعد تدخل وجهاء وشخصيات دينية وسياسية في المحافظة انفضت هذه الاحتجاجات، معلنين استئنافها يوم الأحد، إن لم تتراجع الحكومة عن قراراتها الأخيرة. رغم أن الحكومة بررت قرارها بأنه بهدف وصولها إلى الشرائح الأكثر حاجة في المجتمع وتوفيرها بشكل أكثر للمستحقين الفعليين.
وأغلق حينها محتجون في بلدة القريّا والغرية بريف السويداء الغربي منافذ بيع الخبز في الأفران. كما صادروا في بعض القرى من الأفران أجهزة حساب المستحقات بحسب نظام البطاقة الذكية، وطالبوا من القائمين على الأفران بتوزيع الخبز بالسعر والطريقة القديمة. كما أقدم مجهولون على اللقاء قنابل يدوية على مراكز خدمة المواطن المسؤولة عن إصدار بطاقات الدعم الحكومي «البطاقة الذكية» للمواطنين، في بلدية شقا، وعلى مركز خدمة المواطن في مدينة شهبا، وعلى الفرن الآلي في مدينة السويداء، واقتصرت الأضرار على الماديات

نقلا عن “الشرق الأوسط”

«الاستبعاد» زمن الاستعباد

«الاستبعاد» زمن الاستعباد

تعاقبت ردود الفعل الشعبية على قرار رفع الدعم عن المحروقات والمواد التموينية، وتصاعدت الى ان وصلت لمرحلة قطع الطرق وإشعال الإطارات، كما حصل في السويداء وخاصة عند مفرق مدينة شهبا.
تبدو كلمات المحروقات والمواد التموينية، عبارات تشمل ضمنا كل أنواع المحروقات والمواد التموينية، لكن الحقيقة أن المازوت مثلا لا يتجاوز عتبة الخمسين ليتر سنويا، واسطوانة الغاز الواحدة كل ثلاثة أشهر. هذا كله في ظل أزمة انقطاع كهرباء غير مسبوقة، لدرجة أن مناطق بكاملها قد لا ترى الكهرباء لأيام عديدة أو قد تزورها لدقائق قليلة في اليوم.
اما البنزين، فالحصة مئة ليتر شهريا وفق اسعار متصاعدة، وغالبا ما يضيع 25 ليترا لأسباب معلومة ولكن غير معلنة تحت ذرائع مختلفة، كغياب الشبكة أو عدم وصول البواخر الحاملة النفط أو خروج إحدى المصافي ن الخدمة. أما المواد الغذائية المدعومة، فهي سكر وارز بمعدل كيلو واحد شهريا للشخص وعبوة ليتر زيت نباتي. ومن الضروري الإشارة إلى سوء المواد الموزعة وعدم كفايتها، لكن السوريين كرسوا حياتهم على قاعدة الكحل أحسن من العمى.

فور انتشار خبر رفع الدعم، اكتسحت مواقع التواصل حملات واسعة من الاعتراضات ممزوجة بالتهكم والسخرية، وعلى المواقع الخاصة على “فيسبوك” عرض السوريون حالتهم بعبارة “محروم” و “مستبعد، أو “معاقب”.
أمثلة:
ـ يا ابني لا تمشي مع فراس! ليش؟ لأنو أخو مستبعدة
ـ إنه ينتمي إلى أسرة مدعومة وهي تنتمي إلى أسرة مستبعدة، ففسخته.
ـ استبعدوا جوزي، قال عندو امرأة بتتقل بالدهب.
ـ روح انشالله بيصير عندك بيت وسيارة وبيشيلو عنك الدعم.
ـ رفع الدعم عن كل عائلة فيها امرأة او صبية قياس صدرها اكتر من 90 لأنها علامة عز.
ـ اطلع برا البلد وحن أحسن ما تبقى جواها وتجن.
وفي ظل غياب أي معنى لنقاش منطقي أو عقلاني، وفي ظل عدم جدوى أي مقاربة اقتصادية أو تحليل للجدوى الاقتصادية والاجتماعية لهذا القرار الذي تحضر السوريون نفسيا لصدوره، كان الأمل المراوغ بأن يكون مجرد إشاعة غير قابلة للتحقق، غدر بالسوريين أيضا وأدخلهم في جوف مأساة جديده وبليغة ومؤذية.
لذلك فإن نقل قصص الناس وخاصة المستبعدة من عملية الدعم والذين بلغ عددهم ما يقارب ستمائة ألف عائلة، وبمعدل وسطي خمس أشخاص لكل عائلة، فإن مجموع المستبعدين يساوي ثلاثة ملايين فرد تقريبا، هو الخيار الوحيد المتاح أمام العاصفة العاتية الحالية.
ولكن رفع الدعم الذي اكتسى وجها كارثيا كان متعلقا برغيف الخبز الي قفز سعره ما بين سعر مدعوم وسعر بلا دعم من 29 ليرة للرغيف الى 185 ليرة للرغيف الواحد ولو افترضنا ان العائلة تستهلك وسطيا ربطتين يوميا لكان الفارق الشهري في سعر الخبز فقط يساوي ستة وستون ألف ليرة أي أن مصروف الخبز للعائلة أصبح 2600 ليرة يوميا بدلا من 400 بفارق 2200 ليرة يوميا. وعن هذا كتبت إحدى السيدات على صفحتها ما يلي: “اليوم بدي آكل من ربطة الخبز غير المدعومة وخايفة غص باللقمة انشالله 1300 غصة بقلوبن”.
الكارثي في عملية حجب الدعم هو التوقيت في ظرف اقتصادي عام مشلول وخانق وبات أكثر من 80بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، فكيف تتجرأ الحكومة على رفع الدعم عن اللقمة الأساسية للبشر؟


لعل المشكلة الأكثر ظلما هي حجب الدعم عن عدد كبير من السوريين بسبب امتلاك سجل تجاري لدكان بسيط أو بقالية أو مكتبة صغيرة، لا تدر دخلا يشبع أصحابها إن لم تكن مغلقة أو خارج الفعالية الاقتصادية حاليا، لكن ومع هذا فقد طال حجب الدعم أصحابها جميعا على الرغم من أن غالبية السجلات التجارية غير ممددة لسنوات طويلة بمعنى أنها خارج الفعالية، كما أن كثيرين قد اصدروا سجلات تجارية على منشآت صغيرة جدا أو وهمية كي يتمكنوا من السفر إلى لبنان لزيارة أبنائهم أو عوائلهم بعد التعقيدات الحدودية التي تقيد دخول السوريين إلى لبنان إلا لأسباب محددة جدا والسجل التجاري هو أحدها، وربما من المفيد الإشارة إلى أن البعض قد اصدر سجلا تجاريا باسمه لغيره ، كشقيق لا يملك دكانا مرخصا، وربما يكون الأخ قد توفي أو قد أوقف العمل في فعاليته الاقتصادية ، لكن الأخ المسجل السجل باسمه هو من خرج من مظلة الدعم، مع أن التعليمات الناظمة لقرار حجب الدعم ذكرت أصحاب السجل التجاري الممتاز، أي تجار ومصدرين ومستوردين وليس صاحب دكان يبيع بالمفرق وقد لا يملك بدل إيجار منشأته في ظل هذا العجز الاقتصادي التام.
اتصلت سمر بقريبها المحامي: “استبعدوني!! أنا موظفة متقاعدة وعمري سبعون سنة، راتبي لا يكفي لشراء أدويتي الشهرية”. وما السبب؟: “رب الأسرة خارج القطر! ابي ميت منذ عشرين عاما، وأنا أعيش هنا وكنت موظفة”. لا جواب، اعترضي، اعترضت، انتظري، سأنتظر، لكن دوري بأسطوانة الغاز بات قريبا، سأخسرها، تبكي وقريبها المحامي يغلق سماعة الهاتف عاجزا عن فعل أي شيء!!
فجأة اكتشفت الزوجات أن أزواجهن الميتين يعيشون خارج البلد، فجأت اكتشفت بعض البنات أن آباءهن موتى وهنّ غير جديرات بالدعم، وفجأة اكتشفت ميساء أن أخاها المسافر في الإمارات هو رب العائلة، مع أن بطاقتها باسمها ولشخص واحد وبأن أخاها غير مشمول أصلا بالبطاقة المدعومة.
لحد الآن وحجب الدعم في ايامه الاولى والصدمة سيدة الموقف، الفوارق كبيرة جدا بين الأسعار، الجج والأسباب غير عادلة، والأوضاع الاقتصادية لا تقوى على تأمين المتطلبات الأساسية للجميع، كثيرون لا يعرفون أوضاع بطاقاتهم لأن البطاقة تحتاج تفعيلا والشبكة ضعيفة والبرنامج لا يستجيب.
يتراجع الوزير عن رفع الدعم عن الموظفين او المتقاعدين المستبعدين فقط بسبب امتلاكهم لسيارة خاصة تاريخ صنعها بعد الـ 2008 أو أن سعتها تتجاوز الـ 15 حصان، يدب الانقسام بين المستبعدين الموظفين وغير الموظفين، بات الوظيفة العامة شحيحة الأجر والتقاعد المجحف نعمة تعيد الدعم! أي جو مشحون ومتوتر وقاهر يعيشه السوريون، ترقب، خوف، شعور بالعدمية والعجز، والبطاقة الذكية عنوان المرحلة وتوصيف صادم وفج لها، وتقلباتها وألاعيبها تعصف بالأمن الغذائي والمعيشي الضعيف أصلا.


وصلت رسالة الإشعار بتعبئة لبنزين إلى “السيد ج”، وعندما ذهب إلى المحطة لاستلام مخصصاته الأسبوعية، فوجئ بأنه مستبعد من الدعم وعليه الدفع بالسعر الحر، أي 2500 ليرة ثمنا لليتر الواحد بدلا من 1100 ليرة، المفجع هنا، انه لا يحمل نقودا تكفي لذلك، وقريته تبعد عن محطة البنزين 11 كلم، اكتفى بشراء عشر ليترات فقط، والسؤال الذي طرحه “السيد ج” على عامل المحطة: “هل يمكنني العودة غدا لتعبئة ما تبقى لي من المخصصات؟” فكان الجواب: “لا، عليك الانتظار للأسبوع القادم عند ورود الرسالة”.
ماذا حل إذن بالليترات الخمسة عشرة المتبقية والتي سجلت وخصمت من بطاقة “السيد ج”؟ لا أحد يمتلك الجواب، وهنا صرخ غاضبا: ” طالما انني خارج حلقة الدعم، اعتقوني من قبضة تلك البطاقة الملعونة، واتركوني أملأ خزان سيارتي حسب إمكاناتي”، وأضاف: “حاكمك وربك”، بمعنى أنه يحق لنا طردك من دائرة الدعم لكن لا يحق لك شراء أي مادة مدعومة حسب حاجتك أو على طلبك.
إنه الاستعباد في زمن الاستبعاد اللا متناهي من طرف واحد دائم التحكم والمبررات مجرد كلام بلا معنى.

أزمة رغيف على تخوم حقول الجزيرة

أزمة رغيف على تخوم حقول الجزيرة

أعلنت الرئاسة التنفيذية للإدارة الذاتية بشمال شرقي سوريا تشكيل خلية أزمة بهدف وضع خطة لحل الأزمات التي تعصف بالمنطقة وعلى رأسها تأمين رغيف الخبز، وعقدت الشهر الماضي سلسلة اجتماعات مع هيئات ورؤساء التموين والمطاحن وشركات التطوير الزراعي؛ وأعلنت عن خطة لشراء 100 ألف طن من القمح من خارج مناطق نفوذها في سابقة هي الأولى منذ سنوات، في وقت عادت أزمة السكر لتطل برأسها من جديد وسط تذبذب توفر المادة واسعارها في أسواق مناطق الإدارة شمال شرقي سوريا.
وهذه الأزمات دفعت رواد مواقع التواصل الاجتماعي للتفاعل معها بعد قرار هيئة الاقتصاد بإنتاج الخبز ممزوجاً بـ 20% من دقيق الذرة أزمة حادة، ونشروا صوراً تظهر رداءة رغيف الخبز الجديد والتي أشعلت منصات “سوشيال ميديا”، التي تشير الى أن الكميات أكبر من تلك المعلنة؛ تزامنت مع مرور المنطقة بسنة ثانية من الجفاف عصفت بعاصمة سوريا الغذائية، ورفعت أسعار رغيف الخبز الواحد إلى 3 أضعاف وشهدت المخابز العامة والخاصة والحجرية وقوف طوابير طويلة للحصول على قوتهم اليومي.

يقول نقل عبد حامد المهباش رئيس المجلس التنفيذي للإدارة الذاتية، إن “الادارة”، شكلت خلية أزمة لمعالجة القضايا الخدمية والمعيشية في المنطقة. وقال لـ “صالون سوريا”، أن قرار تشكيل اللجنة الفنية “يهدف لمراقبة عمل الأفران والمطاحن وكانت هذه أهم مخرجات الاجتماعات الطارئة للإدارة الخاصة بالجوانب الخدمية المتعلقة بحياة الناس”، وأقرت الإدارة بتراجع جودة الخبز ومدى توفر المادة في مراكز التوزيع والمخابز العامة والخاصة ولفت المهباش أن: “أعضاء الخلية سيعملون على مراقبة جودة الخبز وتلافي حدوث أزمات معيشية مستقبلاً”.
وبات مشهد وقوف طوابير من السكان أمام أبواب الأفران العامة والخاصة والحجرية مألوفاً في منطقة تحتوي على 80 بالمائة من المخزون الاستراتيجي لمحصول القمح، وتضاعفت سعر ربطة الخبز المكونة من 700 غرام من 700 ليرة سورية الى ألفي ليرة (تعادل 6 سنت أمريكي)، أما رغيف الخبز الحجري يباع حجم المتوسط بـ 500 ليرة اما الكبير يتراوح سعره بين 700 وألف ليرة.
وسوريا التي كانت تنتج قبل عام 2011 نحو 4 ملايين طن قمح تكفي الاحتياجات الذاتية غير أن هذه الأرقام تراجعت بعد سنوات الحرب وبلغ إنتاجها في موسم العام الفائت أقل من مليون طن، وتقدر احتياجات البلاد بنحو 2.5 مليون طن ولسد العجز الحاصل في مناطق نفوذها، قررت الإدارة الذاتية خلط 20 بالمائة من دقيق الذرة مع عجينة القمح لإنتاج رغيف الخبز، وأوضحت أمل خزيم الرئيسة المشاركة بهيئة الاقتصاد لـ “صالون سوريا”، أَن جودة الخبر تراجعت بعد إضافة دقيق الذرة الصفراء إلى طحين القمح وتعزو السبب الى نقص كميات القمح بسبب موجة الجفاف للسنة الثانية على التوالي. وتابعت: “احتياجات سكان مناطق شمال وشرق البلاد تقدَّر بـ 700 مائة ألف طن من القمح، والهيئة اشترت نحو مائتي ألف طن وكان هناك مخزون احتياطي يبلغ 200 ألف طن”، الأمر الذي دفع القائمين على الهيئة الايعاز الى المطاحن بخلط الطحين بدقيق الذرة بنسبة لا تتجاوز 20 بالمائة ولفتت قائلة: “لتفادي العجز ووقوع نقص في توفير الخبز للأهالي، لذلك قمنا بخلط 20 بالمائة من دقيق الذرة الى طحين القمح لإنتاج الخبز”.
وبحسب مسؤولي الإدارة، يقدر العجز في دقيق القمح بنحو 300 إلى 400 ألف طن لوجود أكثر من 4 ملايين نسمة في مناطق نفوذها شرقي الفرات، وانتشار مخيمات في معظم مناطقها أكبرها مخيمي الهول ورأس العين بالحسكة، وأوضحت خزيم بأن الإدارة تخسر 90 بالمائة عن كل 1 طن من القمح، “إذ يبلغ السعر الوسطي لطن القمح 350 دولارا أميركيا، يُستخرج 750 كلغ طحين و230 كلغ نخالة و20كلغ نواتج غربلة ويباع الكيلو غرام الواحد من الطحين المدعوم للأفران بستين ليرة سورية”، وأكدت أن الهيئة شكلت لجنة تفتيش من أصحاب الخبرات للإشراف بشكل مباشر على رقابة معايير مطاحن الذرة الصفراء والتأكد من نظافتها ونسبة الخلط مع الطحين، لتزيد: “وضعنا خطة إسعافيه لشراء كميات من القمح بموجب عقد مبرم بين الإدارة وجهات أخرى وقدرها مائة ألف طن، للاستغناء عن خلط الذرة بالقمح مما يساعد في تحسين جودة الخبز المدعوم”.

وللتعبير عن رفضهم لتدهور الأوضاع المعيشية والأزمات الأمنية بعد أحداث سجن غويران جنوبي مدينة الحسكة نهاية الشهر الماضي، تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير مع الأحوال السيئة التي تؤول إليها مناطق نفوذ الإدارة والتي لم يسلم منها حتى رغيف الخبز، حيث جاءت أغلب التعليقات والصور المنشورة “معارضة” لقرار الهيئة خلط دقيق الذرة بطحين القمح.
ونشر الناشط جابر جندو المتحدر المنحدر من بلدة عامودا شمالي محافظة الحسكة على صفحته بموقع “فيسبوك”: “الناس قبل 2010 كانت تقول كل خيرات الجزيرة تذهب للداخل وعدم التساوي بين المحافظات في توزيع الخيرات، لكن الإدارة عاجزة اعطاء تفسير لجودة الخبز وانقطاعه”، ونشر صوراً للخبز الجديد وأضاف قائلاً: “قلنا راح نقبل بالذرة تخلط مع الخبز بس الشباب استعجلوا وحطو محارم كمان بخبز القامشلي”.
وكانت محافظات الحسكة والرقة ودير الزور تؤمن احتياجات البلاد من طحين القمح والبذار بنسبة 90 بالمائة، وتعتبر سابقة خلال سنوات حكم سلطات الإدارة على هذه المناطق الغنية بالنفط والطاقة والغاز بعد لجؤها الى شراء القمح وتلقي المساعدات من الولايات المتحدة الأمريكية في تأمين البذار لسد احتياجات سكانها، وبحسب أرقام هيئة الاقتصاد والزراعة لدى الإدارة لموسم القمح الفائت قامت بشراء نحو نصف مليون طن من القمح من المزارعين لتأمين احتياجات أبناء المنطقة، وبحسب مصادر وتقارير أخباريه فقد باعت الإدارة جزءاً من إنتاجها وقدرت الكميات بنحو 300 ألف إلى شخصيات وشركات تجارية على صلة بالحكومة السورية.
أما الإعلامي والمصور إيفان حسيب المتحدر من مدينة الحسكة، نشر صوراً لرغيف خبز على صفحته في “فايسبوك”، تظهر رداءة رغيف الخبز وبداخلها كتل من العجين وعلق عليها: “المسؤولين ما ينفوا صحة رداءة نوعية الخبز وكم منافق وانتهازي مستعد يكذب كل الشعب كرمال يثبت لأسياده بأنه ملتزم بخط سير القطيع”.

ورغم أن مناطق الإدارة تعد عاصمة سوريا الغذائية غير أن انعدام الهطولات المطرية للعام الثاني على التوالي والجفاف تسبب بتفاقم شحّ مادة الطحين المدعوم لدى مطاحنها العامة والخاصة، ودعا الخبير الاقتصادي الدكتور شوقي محمد سلطات الإدارة الذاتية إلى الامتناع عن استيراد الطحين التركي والإيراني بغية ضبط السوق وأسعار الطحين، “فالمطلوب إعداد حسابات تكلفة حقيقية لمادة الطحين وفقاً لأسعار القمح والمازوت بالمنطقة”، لافتاً الى إنه ليس من المهم توفر الموارد الاقتصادية، “بل الأهم هو إدارة هذه الموارد وفق أسس علمية صحيحة ومنظومة قوانين اقتصادية متكاملة”.
فيما سخر الناشط عكيد جولي على صفحته الزرقاء أن مكونات الخبز الجديدة بعد قرار هيئة الاقتصاد خلط الذرة بطحين القمح تكون كالتالي: “5 بالمائة طحين، و40 بالمائة ذرة صفراء، و40 بالمائة نخالة، و15 بالمائة شوائب وماء وملح، قد يتم استعاضة الطحين بالشعير في قادم الأيام”، واتفق معه الناشط زبير الشواخ من أبناء مدينة الرقة ونشر صورة للخبز الجديد على صفحته بموقع الفيسبوك وكتب تحتها: “اكتشاف لقى أثرية ولوحات موزاييك في شمال وشرق سوريا تعود لعصور مختلفة، ملاحظة 1 الصورة لبعض القطع الأثرية المستكشفة بالرقة، ملاحظة 2 هذا ليس خبزاً وشكراً”.
غير أن الصحفي جمعة عكاش المتحدر من بلدة المالكية أو (ديريك) بحسب تسميتها الكردية ويعمل مراسلاً لقناة “العربية”؛ قال على صفحته أن أغلب صور الخبز التي نشرت خلال الأيام الماضية غير صحيحة، “بعض الصفحات والاشخاص ارادت الاساءة للإدارة الذاتية، ووقع الكثيرون في فخ النشر دون التوثيق والتأكد لكن هذا ليس كل شيئ”، وأكد في منشوره أن الخبز الذي تنتجه أفران الادارة سيئ ورديء في نوعيته لدى أغلب الأفران والبلدات، ليضيف: “الادارة تخسر حوالي ألف ليرة بكل ربطة خبز تنتجه هذه الافران، لأن اغلب كميات الخبز تستخدم كعلف للمواشي والدواجن خاصة في القرى”، لحيث تباع ربطة الخبز (300 ليرة) وهي أرخص بكثير من سعر كيلو العلف الذي يبلغ 1600 ليرة.
وذكر بأن الادارة تستنزف احتياطي القمح وتخسر سمعتها لدى الناس وهي غير قادرة على تحسين نوعية الخبز رغم المحاولات لسنوات، وطرح بعض الحلول من بينها: “تزويد الافران السياحية بكميات القمح التي تخصصها للأفران العادية مقابل تخفيض ربطة الخبز السياحي لـ 500 ليرة”، حتى يصبح هذا الخبز المنافس متاحا للجميع وانتهاء عصر الخبز المشؤوم على حد تعبيره، “أو تخصيص الافران الحكومية وتسليمها للقطاع الخاص بحيث يستطيع ان يديرها ويستثمر فيها ويجددها بشروط”.

*صور كمال شيخو

“غشاء البكارة” ومعيار القتل

“غشاء البكارة” ومعيار القتل

“هزّت المجتمع السوري، جريمة قتل طفلة على يد أهلها، بعد علمهم باغتصابها وهي بعمر خمس سنوات”، هكذا يقول الخبر. ما لفت نظري ليس الجريمة البشعة بل أنها “هزّت المجتمع السوري”.
مجتمع تحكمه قوانين عشائرية عفا عنها الزمن. لا تزال راسخةً ضمن نصوصه القانونية الوضعية وليست فقط الشرعية، لن “تهزّه” هكذا جريمة. مجتمع اعتاد على قتل نساء لمجرّد الشبهة بالحب معتمداً على نصوص القانون والإجتهادات التي تحمي القتله، بل تدفع بهم لارتكاب هذه الجرائم، لن يتوانى عن قتل الإناث ولو كان عمرهن يوماً واحداً فقط لغسل العار.
وأي عار هذا الملحق بالإناث فقط، الإناث اللواتي يُقتلن بعد خروجهنّ من المعتقلات أو من أماكن اختطافن خوفاً من شبهة العار، والإناث اللواتي يتم تزويجهن من مغتصبهنّ وبرعاية القانون (حتى بعد تعديله عام 2008)، والإناث اللواتي يتم تصفيتهنّ بعد تزويجهن زواجاً عشائرياً من قبل الأهل بعد انتهاء مهمتهن بالمصالحة بين العشائر،والإناث اللواتي يستخدمن لإذلال عائلاتهن ومجتمهنّ لأنهن رمز الشرف. وكل هذا يتكريس من القانون والإجتهادات التشريعية.

الجسد
هتك العرض، العورة، الشرف، العفة، تدنيس السمعة، غشاء البكارة ودوره في المهر والنفقة وفداحة الجرم وتوصيفه. هي وغيرها من المفاهيم يحفل بها قانون العقوبات السوري والإجتهادات القضائية تساعد القضاة والمحامين/ات في توصيف الجرم وتكييفه ما بين الجنحة والجناية والتخفيف من العقوبة وسابقاً في الحلّ منها نهائياً.
من الأمثلة التي تطلقها الإجتهادات القضائية الشارحة لقانون العقوبات السوري والمكرّسة لتشيء جسد الإناث:
1- “إن الكشف عن مواطن العفة من المرأة ولمسها إنما يعتبر هتكًا للعرض على اعتبار أن ذلك يؤذيها في عفتها ويلحق بها العار ويدنس لها سمعتها” .
2- “إن الفخذ من المرأة عورة فلمسه وقرصه على سبيل المغازلة يعد هتك عرض” .
“مواطن العفّة” و “هتك العرض” و “يلحق بها العار” و “يدنّس لها سمعتها”، عبارات تمرّ بسلاسة وبشكل طبيعي مع أنها تحمل من التمييز ضد النساء ما تحمله، فلا تدنّس سمعة الرجال بالقانون إلا من خلال جسد المرأة ، ولا يوجد مواطن للعفّة إلا عند المرأة، ولا يلحق العار إلا بالمرأة (وهي تنقل هذا العار لذكور القبيلة) ، كل تلك التعابير الفضفاضة تتعلّق بالنساء فما هي السمعة الحسنة والسمعة السيئة، وما هي العفة؟ وما هو العار؟ كلها مصطلحات لا يوجد لها تعريف محدد.

البكارة
ويعتبر الإجتهاد والقانون السوري “غشاءَ البكارة”، مقياسًا لمدى خطورة الفعل، بين احمراره أو انتزاعه أو وجوده بالأصل أو عدم وجوده. هذا الإعتبار لـ “الغشاء”، تكريسٌ للفكر الذكوري الذي يضع “غشاء البكارة (وجسد المرأة) معيارًا، ويقوّي العرف والذهنية العاميّة في مفهوم الشرف ودلالة غشاء البكارة عليه.
يوجد لهذا مقابل في قوانين الأحوال الشخصية الشرعية التي تميّز بين “المرأة البكر” و “المرأة الثيب”، وبين الدخول بالمرأة وعدم الدخول بها، في مسائل عديدة منها المهر، ومقدرتها على تزويج نفسها أم لا، فهو مقياس للطهارة والعذرية والبتولية وشرف العائلة، وله دور في قيمة المهر، ولذكور العائلة الحق في الحفاظ عليه، مثلا:
1-التعويض من جرم فض البكارة يكون للولي كونه هو الذي تمّ إيذائه بشرفه. “والد المجني عليها في جرم فض البكارة بوعد الزواج وهو الولي الشرعي، بموجب أحكام المادة 20 و21 من قانون الأحوال الشخصية، وبهذا الوصف فهو متضرر أدبيًا مما أصاب ابنته، ويحق له إقامة الدعوى بطلب التعويض، ويؤيد ذلك أن المادة 475 عقوبات المعدلة علّقت الملاحقة في دعوى زنا المرأة غير المتزوجة على شكوى وليها”. الأب أوأي ولي شرعي هو المتضرر أدبياً، كم تحمل هذه العبارة من تحييد لإنسانية الأنثى (الطفلة، الفتاة، المرأة).
2- غشاء البكارة يغيّر وصف الجرم. “اذا لم يقتصر الفعل على ملامسة العورة بالآلة التناسلية، وإنما تعدى ذلك إلى الإيلاج حتى لامس غشاء البكارة وأحدث به احمرارًا، والمجنى عليها لم تتم الثانية عشر من عمرها، يكون فعل الجماع قد اكتمل ويعاقَب الفعل بموجب أحكام المادة 491 من قانون العقوبات السوري” . و”توجد عقوبة خاصة تتعلق بفض البكارة بالرضى على أساس الوعد بالزواج لكن لو لم تقع بالرضا أي بالإكراه لتمت عليها عقوبة الاغتصاب” ، وهنا تفريق بين الزنى والاغتصاب في القانون، يميزهما عن بعضهما الرضى.
وما يهمّنا هنا مدى اهتمام القانون بـ “العورة” و “الإيلاج”. و “الإيلاج” في القانون لا يحدث إلا من الرجل على المرأة في مكان التناسل وبعضوه فقط، أي “غشاء البكارة” و “فضّ البكارة”.
النصوص القانونية التي يجب أن ترفع معاني العنف ضد المرأة لتواكب الإعلان العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة العالمية الذي يقول: “يُفهم من العنف ضد المرأة أنه يشمل ما يلي: العنف الجسدي والجنسي والنفسي الذي يحدث في الأسرة بما في ذلك الاعتداء الجنسي على الأطفال الإناث في الأسرة والعنف المرتبط بالمهر والاغتصاب الزوجي وتشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية وغيرها من الممارسات التقليدية الضارة بالمرأة والعنف غير الزوجي والعنف المرتبط بالاستغلال”.
نجدها لاتزال ضمن مفردات قانونيّة تمييزية داعمة لقتل النساء كونها تعتبرهم مقياس للشرف والحياء العام والعرض والسمعة. بغض النظر عن الإعتداءات عليهنّ كإنسان وليس شيء تابع للذكور.
لذلك لن يهتز مجتمعنا لقتل طفلة مغتصبة بل سيقولون في سرّهم : “ارتاحوا من عارها. وارتاحت من وصمة العار”.