by مروى ملحم | Dec 3, 2021 | العربية, Uncategorized
تأثير سنوات الحرب الطويلة طال أدق تفاصيل الحياة اليومية والمظاهر الاجتماعية والإنسانية. كانت السنوات العشر كفيلة بقلب كل المعايير والموازين داخل المجتمع السوري وخارجه. أصلاً لم يعد معروفاً ما هو المجتمع السوري وما هو داخله وما هو خارجه. مجتمعات بأكملها انزاحت جغرافياً في حين تشكّلت مجتمعات جديدة في أماكن مختلفة بينما تحلّلت مجتمعات أخرى بالكامل أو تشكّلت من جديد بعيداً في الشتات.
أفكر كثيراً بتاء التأنيث في (سوريا) أو (سورية). التاء التي وإن بدت بديهية وغير ملحوظة من فرط تكرارها في العبارات المعلوكة مثل (عاشت سوريا) و(ماتت سورية) و(دخلت سوريا عامها التاسع من أعوام الحرب)، لكنها ما تزال تحمل بعض الكبرياء والغرور وإن كان يعلو حوافه بعض الصدأ. كبرياء استمدّ من التاريخ السوري الذي تباهى بملكاته وسرد مراراً وتكراراً مناقبهن وحكاياتهن وسير السطوة التي حكمن بها أجزاء واسعة من العالم. لكن لمن كانت تحكى الحكاية؟ هل كانت التركة الأنثوية كافية لتتقاسمها السوريات فيعبرن بها حرباً أو أكثر؟ هل كان لدى هؤلاء النسوة كما يظهر في أغلب المسلسلات علبة خشبية يخبّئن فيها قطعة ثمينة من الذهب تخرج للضوء عند اشتداد الأزمات؟
ربما نعم، الأمر ليس سراً ولا علبة مخبأة في صندوق العرس، وليس استعارة أدبية درامية تحاول توصيف الحالة النسوية السورية على أنها جبروت جاء من العدم. هناك تحوّل حصل على مراحل في البيئة الاجتماعية السورية، لكن المراحل لم تكن بطيئة، كانت انكسارات دراماتيكية ضخمة، شروخ على امتداد المحددات الأفقية للمجتمع، ولا يمكن الجزم إن كانت طبيعة المرأة بشكل عام أو العوامل الأخرى المحيطة بها هي ما جعلها أكثر مرونة في التجاوب مع التغيرات المتسارعة. فخلال أشهر قليلة فقط تقدمت المرأة إلى الصفوف الامامية فيما يتعلق بإدارة المتطلبات الحياتية الأساسية، لأن عدداً كبيراً من الرجال تغيب عن الساحة، وهذا العدد استمر في الازدياد وبالتالي تزايد عدد النساء اللواتي بدأن يتولين مهمات جديدة.
لم نسمع أحاديث كثيرة حول هذا الأمر. لم تحدث جلبة حول وقوف النساء الطويل في طوابير الخبز وكيف يجدن طريقهن إلى مراكز دفع الفواتير ويقمن بتركيب جرات الغاز. كان انتقالاً سلساً وصامتاً في البداية، لكن كثيرات من بينهن فقدن أزواجهن وإخوتهن وآبائهن وأدركن أن هذا الحال ليس مؤقتاً. ثم دون كثير من التفكير ودون وضع تسمية خاصة بكل مرحلة، انتقلن إلى طوابير البحث عن العمل، وتفكيك حيثيات معيشية مثل العيش وحيدات مع أبنائهن أو العودة إلى جناح الأسرة الأكبر، وهذا ما كان ليكون مفروضاً ومسلّماً به لولا أن مخيم العائلة أيضاً كان يعاني من تشققات خطيرة ومخيفة في سقوفه، فترك في أحيان كثيرة للنساء أن يتدبرن أمرهن، على طريقة “مجبر أخاك لا بطل”.
هناك قصص كثيرة يمكن للمرء أن يرويها في هذا الصدد. قصص نساء عشن في قرى بعيدة كل البعد عن مراكز المدن وعن صخب الحياة فيها. منهن من توقّفت في تعليمها عند المرحلة الابتدائية، وبعد وفاة زوحها، حصلت على وظيفة لم يكن يخطر لها الخوض فيها لولا هذه الظروف.
سمعت عن سيدة في حمص لا تملك سوى شهادة الصف السادس (هذا إن صحت تسميتها شهادة)، توفي زوجها وحصلت على وظيفة في مركز المدينة. انتقلت واستأجرت منزلاً وسجّلت ولديها في مدرسة جديدة، ثم تدرجت في السلم الوظيفي صعوداً ووصلت إلى مناصب ذات تأثير مباشر على قيادات سياسية وعسكرية! دخلت الشأن العام من أوسع أبوابه وجعلته بابها الخاص، وصار يطرق هذا الباب مسؤولون ورجال أعمال وقادة مجموعات وغيرهم، طلباً للـ”خدمات” التي يمكن لها تأمينها من خلال “المنصب”.
في مناطق أخرى، كان التغيير الديموغرافي وموجات النزوح الداخلي هو الأثر الأكبر على النساء، الوافدون مثلاً من ريف حلب وإدلب إلى سواحل طرطوس واللاذقية، الوافدون من ريف دمشق إلى قلب العاصمة، حيث تلكأ كل مجتمع في حمل أدبياته إلى بيئته الجديدة، ومنهم من تخفف منها كلياً. انفتحت عيون نساء كثيرات على عوالم جديدة تنقلن فيها بين مراكز الإيواء وبين البيوت المستأجرة بمبالغ كبيرة وبين صالونات التدريب على المهن اليدوية وحياكة الصوف والكروشيه التي انتشرت مثل الوباء عند بداية ظهور المنظمات الدولية في سوريا. انخرطت النساء في مشاغل الحياة التي انقلبت رأساً على عقب وعملن بسرعة على الإحاطة بالواقع الجديد بما أمكن من أسيجة الأمان، وعلى تخفيف وطأة الانتقال. الرجال هم أكثر من عانى من تلك الوطأة ومن أحداث كانت لتحتاج سنيناً وسنين كي تجري لولا تكات ساعة الحرب المتسارعة. بل بالعكس، عانى الرجال من بطء في الحركة على الصعيد الشخصي أمام التضييقات الكثيرة والعوائق التي وضعت أمامهم، منها الخدمة العسكرية ومنها أعباء المواقف السياسية ولقمة العيش وغيرها.
تروي سيدات وافدات من ريف حلب ويعشن حالياً في طرطوس، كيف أنهن لم يحلمن ولا مرة بأن يأتي اليوم الذي تتمكّن فيه من الحديث إلى الرجال بشكل مباشر. وأنهن الآن قادرات على القيام بما كان يبدو مستحيلاً في زمن يبدو غابراً، كالأكل في الشارع مثلاً! وليس من تحت النقاب! كالركوب في الحافلات إلى جانب الرجال! المصافحة باليد! هذه التفاصيل التي ما هي إلا انعكاسات لتغيرات أكبر فرضت واقعاً جديداً مكّن البنات من دخول المدارس وأخّر سن الزواج وقلّل من عدد الزوجات للرجل الواحد. ولحقت بذلك أيضاً تغيرات في شكل اللباس والحركة وأدخلت مفردات جديدة إلى القواميس النسائية كما وضعت في أيديهن أدوات جديدة وامتلكن صوتاً أعلى من الماضي.
يبدو هذا جيداً من بعض النواحي، وأشبه بدفعة إلى الأمام حصلت عليها المراة السورية دون أن تخرج في اعتصامات وتشكل تنظيمات نسوية ومكاتب تنسيق. لكن في العمق، هل حقاً حصلت نهضة في واقع المرأة؟ هل حقاً يمكن تسمية ما تعيشه الآن بمكتسبات الحرب؟ برغم ما يبدو براقاً امام الناشطات النسويات وما يبدو أنها خطوات واسعة على طريق تحرر المرأة فإن الواقع أكثر ظلاماً. إذ لم تنتقل كل الشرائح المجتمعية بذات السرعة وذات الانسيابية، بل شهدت بعض المجتمعات مزيداً من التصلّب كردة فعل على ما تحاول الحرب إجبارهم عليه. بالنسبة للبعض ما يزال خروج الزوجة أو الإبنة إلى العمل هو أصعب ما يمكن تخيّله. ولمواجهة هذا الاحتمال ضاعف البعض عنفه على النساء، وفي حالات الفقر الشديد كان تزويج الفتيات هو الملجأ للتخفف من أعباء الحياة. هناك شريحة واسعة اليوم من زوجات – أو أرامل – الشباب المقاتلين في الجيوش المتعددة. هناك أيضاً شريحة الزوجات المنتظرات لمّ الشمل، وشريحة المتزوجات عبر الحدود. فلا يمكن للمسافر من سورية إلى لبنان مثلاً إلا أن يلاحظ عدد النساء برفقة أطفالهن –غالباً طفلين وأكثر- والواضح أنهن من طبقة فقيرة يحاولن العبور إلى أزواجهن، وغالباً أيضاً ما يتم إرجاعهن خائبات من المعبر الحدودي لنقص في الأوراق أو لعدم اقتناع الضابط المناوب بمنطقية الحجز الفندقي المؤمن على عجل من السماسرة، وبالتالي يلجأن إلى طرق أخرى يهربن عبرها إلى حيث يعمل رجالهن أعمالاً شاقة أصعبها حمل صفة (اللاجئ) التي تزن آلاف الأطنان.
من هنا أعود إلى السؤال الأساسي الذي بنيت عليه فكرة هذا المقال: كيف تبدّلت الهوية النسوية السورية خلال الحرب؟ في الواقع، الإجابة عنه قد تحتاج إلى صفحات وكتب. وكان علينا طرحه قبل وقت طويل. السؤال الأصعب في الأساس هوعن الهوية السورية عموماً ونحن اليوم في سعي حثيث للتنظير لهوية واحدة يمكننا تبنّيها بعد انتهاء الحرب. فهل كان للسوريين عموماً هوية واحدة؟ ولو وجدت، هل تبدّلت ضمن مسار واحد وباطراد زمني معيّن؟ ربما لا. وكذلك الحال بالنسبة للمرأة السورية إذ هل يصحّ القياس عندما يكون المقياس مشوّهاً؟ وهل تستوي معايرة المجتمع السوري اليوم بمنظار واحد؟ التقيت بنساء في قلب دمشق يتذمرن مما آل إليه الحال، ولا يجدن في انخراط المرأة في التعليم أو العمل حالة إيجابية. قد لا يمرّ أسبوع دون أن تجلس بجانبي في الباص امرأة خمسينية أو أكبر، تحدثني عن معاناتها هي التي لم تعتد يوماً على ركوب وسائل النقل العامة، ولم تعتد على حمل أكياس الخضار. تحكي كيف عاشت حياتها “معززة مكرمة” و”كل شي بيوصل لعندها”، ولم تتخيل أن يأتي اليوم الذي يتوزع فيه أبناؤها في شتات الأرض، لتبقى وحيدة مع زوج كهل ومحبط يترك لها أن تتحمّل مسؤوليات كثيرة. يكاد لا يمر يوم دون أن تشتكي لي زميلتي في العمل، المسؤولة عن تنظيف المكتب وإعداد القهوة والشاي من تدهور حياتها والكوارث التي انهالت عليها منذ اعتقال زوجها واختفائه، بدءاً من هرعها بين سجن وآخر بحثاً عنه، وصولاً إلى يأسها وانشغالها بتربية الأطفال الأربعة ثم البحث عن عمل واضطرارها لإخفاء طبيعة العمل عن أهلها وأهل زوجها كي لا “تنكسر عينها أمامهم”.
تتشكل الهوية بناء على المساحة التي يتحرك ضمنها الفرد. تتسع أو تضيق، تتسطح أو تتعمق، وقد لا يتطلب تشكل الهوية وعياً بذاته، لكن تبدّلها أو تسيير هذا التبدل باتجاه معين يتطلب وعياً كبيراً وإدراكاً. هذا ما يبدو أن المنظمات والجمعيات النسوية والناشطات والباحثات وكل المهتمين بشؤون المرأة في سوريا يسعون لتحقيقه. تثبيت المكتسبات التي حصلت عليها النساء وتوعيتهن بالجانب المشرق لها، تدريبهن على تقبل الواقع الجديد وإدارته لصالحهن. صار مقبولاً في سوريا اليوم أن تقول: “بفضل الحرب حصل كذا وكذا…”، نعم بفضل الحرب صارت النساء تعمل وتتعلم وتتكلم وتسكن وحدها غير تابعة لأي سلطة ذكورية. لم يعد ممكناً الرجوع إلى الوراء، لكن بالإمكان السير إلى الأمام.
في منطقة الدويلعة صادفت شابة تعمل في محل خردوات، قالت إنها مشغوفة بعملها وسعيدة به، وإن أحداً لا يستنكر مهنتها الغريبة عادة عن النساء. الجميع يدرك أن المهم في الأمر هو العمل وتأمين لقمة العيش فقط. إحدى السيدات اللواتي نزحن من إدلب وقابلتها في جلسة حوارية أقامتها إحدى الجمعيات قالت لي: “والله عايشة حياة ما كنت أحلم فيها، إذا بيفكر زوجي يرجعني متل ما كنت قسماً بالله إلا أبلغ عليه!”، لا أعرف إن كانت تمزح أو تتكلم بجدية ولا أعرف ما إذا كانت ستبلّغ عنه بالفعل أو لمن ستشتكيه؟ ولم أسألها. اكتفيت بالإصغاء إلى ضحكات النساء حولها يوافقنها بشدّة.
بين هذه السيدة وسيدة أخرى صادفتها تصرخ في وجه الرجال أمام السرفيس لأنهم يسابقون النساء إلى المقاعد وتتحسر على أيام زمان حين كان يقال “السيدات أولاً”، يبدو أن هناك مدى واسع جداً واختلافا بنيويا عميقا، لكن الحقيقة أن السيّدتين تنتميان إلى البيئة ذاتها وتمتلكان نفس المقومات، إلا أن كلاً منهما هضمت التغيير بطريقتها وعبّرت عنه بمفرداتها. تعاطفت مع السيدة الأولى بينما نظرت بشفقة إلى رجل تنازل أمام صراخ السيدة الثانية وابتعد قائلاً: “شو عم تحكي هي؟ هلأ بقي مرا ورجال؟ المهم نركب مو شايفة كيف الدنيا تغيرت؟”.
بالفعل لقد تغيرت الدنيا.
*اللوحة: جورج مكتبي georgemaktabi@
by حمد المحاميد | Dec 2, 2021 | العربية, Articles - EN
على استحياء، تمد امرأة ثلاثينية يدها وفيها قطعتان من البسكويت من نوافذ السيارات المتوقفة في ساعة متأخرة من الليل على أحد شاخصات المرور وسط دمشق، وتقول لكل سائق بلهجة مسكورة القلب والخاطر: “جابرني الله يجبرك. جابرني الله يجبر خاطرك. جابرني الله يخلي أولادك”.
المرأة التي تظهر عليها معالم الفقر الذي تعشيه من جسدها النحيل، وشحوب وجهها، وثيابها البالية. وبعد ترديدها لعباراتها السابقة لكل سائق، تمعن النظر بوجهه وملامحه وكلماته، ترقبا لردة فعله. فبعض السائقين ومن دون نبسهم ببنت شفة، يأخذون قطعة من البسكويت ويدفعون ثمنها المحدد من قبل المرأة بـ500 ليرة سورية، وآخرون يأخذوا قطعتين أو ثلاث ويدفعوا ثمنها مع ابتسامة خفيفة، بينما يدفع سائقون ثمن القطعة ضعف، وبعضهم يشتري عدد أكبر من القطع، وهو ما يدخل السرور على قلب المرأة وتظهر علاماته على وجهها، مع ترديدها عبارات الدعاء لهم من قبيل: “الله يجبرك. الله يوفقك. الله يخلي ولادك. الله يحفظك من كل شر”.
بالمقابل، يحجم سائقون عن الشراء، ويوحون بذلك إما برفع الحاجبين، أو رفع كف اليد، أو الرأس، في حين يعبر البعض عن رفضه بترديد عبارة: “الله يبعتلك”. مرة أو أكثر. اخرون يردون بإغلاق نوافذ السيارة والامتناع عن النظر إلى المرأة التي تقابل ذلك بصدر رحب وعدم الإلحاح عليهم والانصراف من أمام سيارتهم.
عزة نفس
وفي دلالة على عزة نفس كبيرة لدى المرأة، رصد “صالون سوريا” امتناعها عن أخذ مبلغ مالي من أحد أصحاب السيارات الفارهة من دون أن يأخذ مقابله البسكويت، ودخولها في جدل معه بسبب إصراره عليها لكي تأخذ المبلغ على حين تشترط هي عليه أخذ البسكويت لكي تأخذ المبلغ، وقولها له مع سيطرة حالة من التوتر عليها “أنا لست شحّاده. أنا قوية. أنا اعمل لأعيش. بتحب تشتري أهلا وسهلا، ما بتحب براحتك”، الأمر الذي رد عليه السائق بشراء علبة بسكويت كاملة منها تحتوي نحو 40 قطعة ودفعه ثمنها رزمة من الأوراق المالية تقدر ما بين 20 – 50 ألفا، والقول لها “الله يقويك اكتر، روحي نامي”.
خلال دردشة قصيرة مع “صالون سوريا” أثناء توقفها على نافذة السيارة وشراء عدد من قطع البسكويت منها، أوضحت المرأة أن الحرب أفقدتها “عمود بيت العيلة” (زوجها)، ودمرت “بيتنا يلي كان ساترنا” بريف دمشق، فوجدت نفسها “مجبرة على العمل لنقضّي بقية هالعيشة المرة أنا والأولاد”. وبعدما توضح أنها تسكن في بيت إيجار في محيط العاصمة، تشير إلى أن عملها في كل يوم يمتد من الساعة السادسة مساء وحتى 12 ليلا، وأنها تختار هذه الفترة كون “الناس بتكون رايقة شوي، على حين في فترة النهار بصير عجقة كتير وكلو بيكون معصّب، وما حدا فاضي لحدا، وما حدا برد على حدا”.
وتذكر المرأة أنها أرباحها في الأيام العادية، تصل “ما بين 5 – 7 آلاف” ليرة في اليوم “عم نستر حالنا فيهون”، في حين يؤكد خبراء اقتصاديين أن الأسرة المؤلفة من ثلاثة أشخاص تحتاج حاليا نحو مليون ليرة سورية في الشهر لتعيش في مستوى متوسط، والمؤلفة من خمسة أشخاص تحتاج نحو مليون ونصف المليون، بينما لا يتجاوز المرتب الشهري للموظف الحكومي 80 ألف ليرة، ووسط استمرار فقدان مداخيل العائلات الشهرية جزءاً كبيراً من قيمتها بسبب الانهيار القياسي لسعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي الذي يساوي نحو 3500 ليرة، بعدما كان قبل سنوات الحرب ما بين 45 – 50 ليرة.
ازمة خانقة
ورغم أن ظاهرة التسول موجودة في سوريا منذ القديم، فإنها ازدادت منذ اندلاع الحرب فيها قبل أكثر من 10 أعوام وما خلفته من أزمة معيشية خانقة يعاني منها أغلبية السوريين وغلاء فاحش وفقر مدقع وجوع ومآس ودمار ونزوح، وتكاثرت الظاهرة جداً مؤخراً وبنسبة أكبر حالياً مع تواصل تردي الأوضاع المعيشية للأغلبية العظمى من الأسر إلى مستويات تفوق قدرتهم على التحمّل (منظمات دولية وتقارير أعلنت أن نسبة من يعيشون تحت خط الفقر في سورية وصلت الى 94 في المئة)، إذ تعج أي سوق من أسواق دمشق وحدائقها وشوارعها بعشرات المتسولين (أطفال، ونساء، ورجال).
وبخلاف عزة النفس الموجودة لدى المرأة بائعة البسكويت، يقوم كثير من المتسولين بالإلحاح بشدة على الناس لكي يعطوهم مالا، ويبادر البعض منهم إلى البكاء من أجل الحصول عليه، بينما بات آخرون يدقون أبواب المنازل ويطلبون “شوية أكل على حب الله” أو “كم رغيف خبر مشان الله” لـ”سد جوعهم”.
ومع تزايد تفاقم مسألة الجوع في دمشق، شهد “صالون سوريا” أكثر من مرة، قيام متسولين في ساعات الصباح الأولى قبل أن تدب الحركة في الطرقات، بالبحث عن بقايا طعام في أكياس القمامة الموضوعة إلى جانب أبواب المنازل، في حين لا يجد بعضهم حرجا بالبحث في ساعات وضح النهار في حاويات القمامة المنتشرة على جوانب الطرق الرئيسية عن بقايا طعام.
وبات مألوفا مشهد افتراش كثير من المتسولين وبعضهم مع أطفالهم لأرصفة شوارع رئيسية في دمشق وأرصفة ساحاتها، ويسألون المارة بصوت عال وبعبارات تثير العواطف، إعطاءهم من «مال الله»، أو مما يوجد في أكياس يحملون (خضار، فاكهة، خبز، مواد غذائية).
والبعض لا يكتفي بافتراش الأرصفة للتسول، وإنما يتخذ منها أيضا مكانا للنوم كما هو الحال على رصيف ساحة تبعد عشرات الأمتار عن الشاخصة المرورية التي تقف عندها بائعة البسكويت، إذ يشاهد بشكل يومي في ساعات المساء والليل منذ فترة طويلة رجل طاعن في السن يرتدي ثيابا ممزقة ومتسخة، إما جالسا أو ممددا على رصيف الساحة وتحت قطعة من حرام قديم جدا، بينما أمامه عدد من أطباق الطعام بعضها مغلق وأخرى مفتوحة وفيها بقايا مأكولات، قد يكون بعض مرتادي محال المأكولات المحيطة بالساحة أو المارة تصدقوا بها عليه.
وعلى حين يبادر بعض المارة، كل حسب إمكانياته، إلى إعطاء متسولين ما تيسر من مال أو مما يحملونه، بعد التدقيق بهم وتولد شعور لديهم بأنهم لا يمتهنون التسول للإثراء وأنهم فعلا محتاجين، يحجم آخرون عن إعطائهم، في حين لا يكتفي مارة بالإحجام عن إعطائهم، بل يتلفظون بعبارات تحمل في طياتها “الشَّمَاتَة” بهم من قبيل “بتستاهلوا.. الله لا يقيمكون” و”بدكون ثورة وحرية.. هي الثورة وهي الحرية انبسطوا وكيفوا”.
ونشرت صحيفة “تشرين” الرسمية في بداية العام الجاري إحصائية من الدراسات الاجتماعية وتقدر عدد المتسولين في سوريا بشكل تقريبي بحوالي 250 ألف متسول في مختلف المحافظات 51،1 منهن إناث و48،9 ذكور، 64،4 منهم يمارسون التسول بشكل احترافي، ويشكل الأطفال 10في المئة أي حوالي25الف طفل، لكن خبراء يقدرون أن الأرقام أكثر من ذلك بكثير مع استمرار تردي الأوضاع المعيشية للأغلبية العظمى من الأسر.
by ابراهيم حميدي | Dec 1, 2021 | العربية, News Bulletin
تشجيع الحوار بين دمشق والقامشلي، نقطة ثانية يتوافق عليها الأميركيون والروس، إضافة إلى بند إيصال المساعدات الإنسانية إلى جميع السوريين، ما يرجح عقد جولة تفاوضية جديدة بين الأكراد والحكومة السورية، بعد زيارة وفد من «مجلس سوريا الديمقراطية» الكردي – العربي برئاسة إلهام أحمد إلى واشنطن وموسكو، وبعد لقاء مبعوثي الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين في جنيف في 10 من الشهر الجاري.
هذه الجولة، التي تجري بـ«غطاء» أميركي و«رعاية» روسية وسط توقعات مختلفة من دمشق والقامشلي وموسكو إزاء مستقبل الوجود العسكري الأميركي، يتوقع أن تتناول قضايا كبرى مثل مستقبل «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) و«الإدارة الذاتية»، وأخرى عملياتية تخص المساعدات والخدمات، والانتشار العسكري لـ«ردع» بشأن توغل تركي جديد.
خلفية المفاوضات
جرت جولات تفاوضية عدة بين مدير مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك ووفود كردية، بينها وفد سياسي برئاسة إلهام أحمد وعضوية سيهانوك ديبو، ووفد عسكري ضم قائد «قوات سوريا الديمقراطية» مظلوم عبدي، أو قائد «وحدات حماية الشعب» سيبان حمو، في نهاية 2016 و2017، وفي 26 يوليو (تموز) 2018 و8 أغسطس (آب) 2018، وأكتوبر (تشرين الأول) 2019.
وبعد قرار الرئيس دونالد ترمب سحب قواته من قسم شرق الفرات، وتوغل تركيا بين رأس العين وتل أبيض، زار حمو القاعدة الروسية في حميميم، ثم دمشق، والتقى بحضور قادة في الجيش الروسي مدير مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك ووزير الدفاع العماد علي أيوب ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية. كما زار حمو العاصمة الروسية في 29 ديسمبر (كانون الأول) 2019، والتقى وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف ورئيس غرفة العمليات في هيئة الأركان سيرغي رودسكوي.
وسلم الوفد الكردي الجانب الروسي مبادرة تضمنت 11 بنداً، 6 منها تلبي مطالب دمشق، وهي أن «سوريا دولة موحدة، والاعتراف بحدودها الدولية وأنها دولة مركزية وعاصمتها دمشق»، وأن «الرئيس المنتخب، أي الرئيس بشار الأسد، هو رئيس كل السوريين»، وأن «الثروات الطبيعية هي ثروة وطنية لكل السوريين». وتناول البند الرابع الاعتراف بـ«السياسة العامة للبلاد المسجلة في الدستور»، والخامس الاعتراف بـ«علم واحد» للبلاد، وهو العلم الرسمي للجمهورية العربية السورية بموجب الأمم المتحدة، إضافة إلى بند سادس يقر بـوجود «جيش واحد» للدولة.
كما تضمنت المبادرة 5 بنود «تلبي مطالب الجانب الكردي»، أولها إلغاء «قانون الطوارئ» بموجب تعديل الدستور، وإصلاح دستوري يؤدي إلى دستور توافقي، وقانون أحزاب وقضاء نزيه ومستقل، و«الاعتراف بالإدارة الذاتية» شمال شرقي البلاد، و«إلغاء جميع إجراءات التمييز تجاه الشعب الكردي»، وتجاوز «الإجراءات الظالمة»، وبينها الإحصاء الاستثنائي للعام 1962 وحرمان آلاف من الجنسية، إضافة إلى إلغاء «الضغط الأمني» ضد الأكراد. وتضمن البند الرابع «اعتراف الدولة المركزية بالأكراد مكوناً رئيسياً من مكونات الشعب السوري» مثل باقي المكونات، إضافة إلى بند خامس نص على «تحديد المالية – الموازنة لكل المناطق، بما فيها المناطق الكردية».
واستند الموقف الكردي إلى «أدوات ضغط»، بينها وجود الجيش الأميركي، وسيطرة حوالي مائة ألف مقاتل من «قوات سوريا الديقراطية» على ثلث البلاد (المساحة الإجمالية 185 ألف كلم مربع) ومعظم الثروات الاستراتيجية من نفط وغاز ومياه وزراعة شرق الفرات، إضافة إلى دعم روسي ظهرت معالمه في تسليم وزارة الدفاع مسودة دستور للأطراف السورية في 2017، نصت على «جمعية مناطق» إلى جانب البرلمان، فيما اعتبر قبولاً للإدارة الذاتية واللامركزية في سوريا.
يضاف إلى ذلك أنه بعد قرار ترمب في نهاية 2019، وقع عبدي وسبان ومملوك مذكرة تفاهم تضمنت نشر قوات من الجيش وحرس الحدود في مناطق عدة على الحدود وشرق الفرات، وهي المنطقة التي تقلصت حصة الأكراد وأميركا فيها لصالح توسع حصص دمشق وأنقرة وموسكو.
فجوة عميقة
أظهرت المفاوضات الكردية – السورية عمق الفجوة بين الطرفين. ذلك أن دمشق ترفض ضم «قوات سوريا الديمقراطية» ككتلة عسكرية في الجيش، وتقترح حلها وذوبانها في الجيش، كما أنها تتمسك برفع العلم الرسمي في كل أنحاء البلاد، وبأن الأسد هو الرئيس السوري، إضافة إلى رفض «تقديم تنازلات دستورية» للأكراد أو الاعتراف بـ«الإدارة الذاتية»، مع استعداد لقبول مبدأ الإدارات المحلية بموجب القانون 107 وتخصيص حصص مدرسية للغة الكردية.
أما بالنسبة إلى الثروات الاستراتيجية الموجودة شرق الفرات، فإن دمشق تريد أن يكون قرارها مركزياً، مع إعطاء حصة أكبر من عائداتها للمنطقة. يضاف ضمناً إلى ذلك أن دمشق تريد أن يكون الحوار مع الجانب الكردي باعتباره طرفاً وليس الطرف الوحيد الذي يمثل الأكراد.
وإزاء التشدد السياسي الاستراتيجي، هناك مرونة في دمشق في الوصول إلى صفقات عملياتية، إذ لم تمنع التوصل إلى اتفاقات وصفقات مثل تمرير نفط خام إلى مصفاة حمص أو بانياس لتكريره وإعادة جزء منه، أو تشغيل سدود للطاقة وللمياه، واتفاقات اقتصادية تخص المحاصيل الرئيسية.
من جهتها، بقيت «الإدارة الذاتية» تراهن على الجانب الروسي. وفي صيف العام الماضي، جرى توقيع مذكرة تفاهم بين «مجلس سوريا الديمقراطية»، برئاسة إلهام أحمد و«حزب الإرادة الشعبية»، بقيادة قدري جميل. وفسر مراقبون أكراد المذكرة بأنها تضمنت الاعتراف بـ«وحدة سوريا أرضاً وشعباً»، وأن «الإدارة الذاتية جزء من النظام الإداري»، وأن «قوات سوريا الديمقراطية» جزء من جيش سوريا الوطني.
وخلال زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى دمشق في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، أبدى «استعداد بلاده لمواصلة العمل من أجل تهيئة ظروف ملائمة للتعايش المنسجم والتقدم لكل المكونات الدينية والعرقية في المجتمع السوري». كما أكد أن «الوثيقة» التي لم تكن روسيا «طرفاً فيها»، ووقعت في موسكو «أكدت الالتزام بمبدأ وحدة وسيادة الأراضي السورية». لكن وزير الخارجية السوري وليد المعلم رفضها، وقال رداً على هذه المذكرة إن «أي اتفاق يتعارض مع الدستور السوري لا ندعمه». وكانت دمشق رفضت «مسودة روسية» للدستور تضمنت تأسيس «جمعية مناطق» يشارك فيها الأكراد.
جولة جديدة
منذ لقاء القمة بين بوتين وبايدن في جنيف منتصف يونيو (حزيران) الماضي، عقدت ثلاث جولات غير علنية بين مبعوثي الرئيسين في سويسرا. وتمثل الهدف الرئيسي في الاتفاق على تمديد قرار دولي للمساعدات الإنسانية «عبر الحدود» و«عبر الخطوط» في بداية يوليو الماضي. لكن، في هذه المنصة ومنصات أخرى، كان بينها زيارات بواسطة إلهام أحمد إلى واشنطن وموسكو، تجددت الدعوات إلى استئناف الحوار بين دمشق والقامشلي. وأظهرت هذه المناقشات أن هناك رغبة روسية – أميركية باستئناف الحوار السوري – الكردي، بحيث تشجع واشنطن الأكراد على ذلك بـ«رعاية» روسية. وهناك قناعة واسعة بأن مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي بريت ماكغورك من أكثر المتحمسين لذلك.
وهناك مستويان للجولة الجديدة من المفاوضات بين دمشق والقامشلي:
– مستوى عملياتي، مثل تشغيل معبر اليعربية على حدود العراق، بإدارة سورية – كردية، لإيصال المساعدات الإنسانية، وتنسيق ميداني عسكري بما يحول دون توغل تركي إضافي، باعتبار أن عدم حصول ذلك هو نقطة تفاهم أميركية – روسية حالياً، إضافة إلى صفقات خدمية واقتصادية لصالح الطرفين.
– مستوى سياسي، يخص نقاطاً رئيسية تتعلق بمستقبل «الإدارة الذاتية» وعلاقتها مع الدولة المركزية، و«قوات سوريا الديمقراطية» ودورها في الجيش، والقومية الكردية حيث لاتزال الفجوة كبيرة حولها، مع جسر الفجوة إزاء قضايا أخرى مثل وجود العلم السوري والرئيس السوري والموقف من الأكراد عموماً.
ولا شك أن النظرة إلى مستقبل الوجود العسكري الأميركي من جهة والتفاهمات الأميركية – الروسية من جهة ثانية والتفاهمات التركية – الروسية – الأميركية، تخيم على الموقف التفاوضي لكل من دمشق والقامشلي.
by حمد المحاميد | Nov 30, 2021 | العربية
شكل ما حدث في “مخيم اليرموك” جنوب دمشق والمعروف بـ“عاصمة الشتات الفلسطيني”، خلال سنوات الحرب، من سيطرة فصائل المعارضة المسلحة عليه أواخر العام 2012، ومن ثم “هيئة تحرير الشام” و“داعش”، ووصولا إلى العملية العسكرية التي شنتها دمشق وأفضت إلى استعادة السيطرة عليه ودمار جزء كبير من أبنيته وبناه التحتية وأسواقه التجارية وبنيته الديموغرافية، نكبة وفاجعة مؤلمة لنازحيه ما تزال ماثلة حتى الآن.
أسئلة كثيرة يطرحها أغلبية النازحين من “مخيم اليرموك” حاليا، منها: هل ستحقق عودتهم إلى منازلهم وجاداتهم؟، وهل سيعود المخيم منطقة حيوية وقلب دمشق التجاري كما كان؟، وهل فعلا سيعود المخيم “عاصمة الشتات الفلسطينيين” ورمز لحق العودة إلى فلسطين؟
ويعتبر “مخيم اليرموك” من أبرز مناطق جنوب العاصمة، ويتبع إدارياً محافظة دمشق، ويشكل بوابتها من الجهة الجنوبية، ويقع على بعد أكثر من سبعة كيلومترات جنوب دمشق، وتصل مساحته إلى نحو كيلومترين مربعين. ويحده من الجهة الجنوبية “الحجر الأسود”، ومن الجهة الغربية حي “القدم” ومن الشرق حي “لتضامن” ومن الشمال منطقة “الزاهرة”.
النشأة
وتم انشأ “مخيم اليرموك” عام 1957 على بقعة زراعية صغيرة، ومع مرور الزمن تحول إلى أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين في سوريا ودول الجوار، وراح اللاجئون يحسّنون مساكنهم ويشيدون الأبنية الطابقية لتتسع للعائلات الكبيرة والمتنامية، وبات كمنطقة حيوية تستقطب السوريين من الريف للعيش فيها، لقربها من دمشق، ووصل عدد اللاجئين الفلسطينيين فيه قبل الحرب المستمرة منذ عقد من الزمن إلى أكثر من 200 ألف لاجئ من أصل نحو 450 ألف لاجئ في عموم سورية، حتى لُقّب ب”عاصمة الشتات الفلسطيني”، علما بأنه يوجد في سوريا وحدها خمسة عشر مخيما تتوزع على ست مدن. وإلى جانب اللاجئين الفلسطينيين كان يعيش في “مخيم اليرموك” نحو 400 ألف سوري من محافظات عدة، وكان منذ ستينات القرن الماضي يتمتع بخصوصية إدارية مُنِحت له بقرار رسمي بأن تديره “لجنة محلية” بشكل مستقل.
وتسارع التطور العمراني في المخيم في بدايات القرن العشرين وتحسنت الخدمات بشكل ملحوظ فيه، وتم افتتاح العديد من المراكز والمؤسسات الحكومية والأسواق التجارية لدرجة بات منطقة حيوية جدا أكثر من أحياء وسط العاصمة التي استقطب تجارها لفتح فروع لمحالهم التجارية فيه للاستفادة من الكثافة السكانية وجني أكبر قدر ممكن من الأرباح في أسواق باتت الأكبر والأكثر حيوية في العاصمة السورية.
وبعد التوسع الكبير الذي طاله، بات “مخيم اليرموك” يقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول هو “مخيم اليرموك”، ويمتد بين شارعي اليرموك الرئيسي غرباً وفلسطين شرقاً، ومن مدخل المخيم شمالاً وحتى شارع المدارس جنوباً منتصف المخيم، والثاني منطقة “غرب اليرموك” وتمتد من شارع اليرموك الرئيسي شرقاً وحتى شارع الثلاثين غرباً، ومن مدخل المخيم شمالاً وحتى سوق السيارات جنوباً، وأما القسم الثالث فيسمى منطقة “التقدم» وتمتد من سوق السيارات شمالاً وحتى مقبرة الشهداء جنوباً، ومن منطقة دوار فلسطين شرقاً وحتى حدود المخيم المحاذية للحجر الأسود غرباً.
وكان سوق شارع اليرموك الرئيسي للألبسة والأحذية والصاغة والمفروشات والمأكولات الجاهزة من أهم أسواق المخيم، حيث كانت العديد من محاله تفتح على مدار اليوم، بينما يعتبر سوقا شارع لوبية وصفد من أهم أسواق الألبسة الجاهزة، على حين كان سوق الخضار في شارع فلسطين من أكبر أسواق العاصمة ويؤمه الدمشقيون من معظم أحياء العاصمة.
وبمجرد الوصول إلى “مخيم اليرموك”، والدخول في شارع اليرموك الرئيسي من مدخله الشمالي، كان المرء يواجه سيلاً بشرياً تتزاحم أقدامه على الأرصفة لإيجاد مكان لها وتتقدم ببطئ كالسلحفاة، في وقت لا يختلف المشهد في سوقي لوبية وصفد، حيث يبدو الشارعان والمحلات أكثر اكتظاظا، لدرجة أن الكثيرين كانوا يصفون المشهد هناك بـ”يوم الحشر”.
وإن كان سر الإقبال على أسواق “مخيم اليرموك” من قبل الباعة، هو استثمار الاكتظاظ السكاني الكبير فيها، بطرح البضائع بأسعار أقل مما هي عليه في أسواق أخرى وفق أسلوب “ربح أقل وبيع أكثر”، فإن إقبال المواطنين عليها من كل حدب وصوب كان سببه تنوع المعروضات وأناقة المحال والعاملين فيها والأهم من كل ذلك تدني الأسعار عما هي عليه في أسواق وسط العاصمة.
النكبة.
حراك… وحرب
بعد اندلاع الحراك السلمي في عدد من المدن والمناطق السورية منتصف مارس (اذار) 2011 وتحوله إلى حرب طاحنة بعد عدة أشهر، تشكلت في “مخيم اليرموك” الذي يحمل رمزية لحق عودة الفلسطينيين إلى أراضيهم التي هجروا منها عام 1948، مجموعات شبابية ضمت مواطنين سوريين ولاجئين فلسطينيين انحازات إلى الحراك الشعبي، وسط تحذيرات وتهديدات متواصلة أطلقها حينها مسؤولون للأهالي والفصائل الفلسطينية الموالية له من مغبة التعاطف مع ما يسميه “الإرهابيين” في المناطق المجاورة للمخيم وجعله حاضنة لهم، إذ كانت فصائل “الجيش الحر” في ذلك الوقت تسيطر على مناطق محيطة به منها “الحجر الأسود” وبلدتي “يلدا” و“بييلا” القريبة منه من الجهة الجنوبية الشرقية.
وفي منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2012 تمكنت فصائل “الجيش الحر” من السيطرة على المخيم، لتحل في اليوم التالي نكبة بسكانه تجاوزت في مآسيها نكبة عام 1948 ونكسة 1967، عندما أطلقت طائرات النظام ثلاثة صواريخ عليه أصابت إحدها مسجد عبد القادر الحسيني في “المخيم القديم”، حيث قتل وأصيب عشرات المدنيين، ونزح أكثر من 90 في المائة من سكانه.
ومع بقاء الوضع على هو عليه في داخل المخيم من سيطرة لـ“الجيش الحر”، وتمركز عناصر من الجيش النظامي والفصائل الفلسطينية على مدخله الشمالي لمنع تقدم الأول نحو قلب العاصمة وحصول اشتباكات بين الجانبين بين الحين والآخر، ظهرت في الداخل “جبهة النصرة“ التي تحولت فيما بعد إلى “هيئة تحرير الشام”، كما تشكلت فيه فصائل معارضة مسلحة أخرى منها فلسطينية وأخرى سورية – فلسطينية، أبرزها “كتائب أكناف بيت المقدس” و“أحرار جيش التحرير” الذي ضم عناصر منشقين من “جيش التحرير الفلسطيني”.
مفاوضات
لم يبق الوضع على ما هو عليه في “مخيم اليرموك” لفترة طويلة مع تردد أنباء عن مفاوضات تحصل بين بعض الفصائل ودمشق لاستعادة الأخيرة السيطرة عليه، إذ ظهرت صراعات داخلية على النفوذ بين الفصائل المتواجدة فيه، إلى أن هاجم المخيم في ابريل (نيسان) 2015 تنظيم “داعش” الذي كان يسيطر على “الحجر الأسود” وعدد مسلحيه في مناطق سيطرته بجنوب دمشق يصل حينها إلى نحو 2000 مسلح، وتمكن من إقصاء “كتائب أكناف بيت المقدس“ و“أحرار جيش التحرير“ وبقية الفصائل والسيطرة على أغلب مناطق المخيم وحصار “جبهة النصرة” في مربع “المحكمة” غرب اليرموك.
وبعد سيطرة داعش لم يحصل تطورات لافتة على مدخل المخيم الشمالي، حيث ظلت عناصر الجيش النظامي والفصائل الفلسطينية متمركز في مواقعها لمنع تقدم الأول نحو قلب العاصمة، مع حصول اشتباكات بين الجانبين كل فترة، حتى منتصف 2016 حين ابرمت دمشق اتفاقا مع “النصرة” للخروج من مربعها غرب اليرموك إلى إدلب، بينما بقي تنظيم داعش في داخل المخيم.
وفي مايو (أيار) 2018، ترددت بقوة أنباء عن توصل دمشق وداعش إلى اتفاق يقضي بخروج الأخير إلى البادية شرق سوريا، وفعلا حضرت عشرات الحافلات الكبيرة إلى مدخل المخيم لنقل مسلحي التنظيم من دون السماح للمدنيين أو الصحافيين التواجد في مدخل المخيم لتصوير عملية الخروج على غرار ما حصل أثناء خروج “جهة النصرة”.
لكن الأهالي والمتابعين لتطورات الأوضاع في المخيم، تفاجئوا في مساء اليوم نفسه الذي حضرت فيه الحافلات لنقل مسلحي “داعش”، بشن الجيش الحكومي وفصائل فلسطينية موالية له عملية عسكرية جوية وبرية عنيفة في المخيم “لتحريره” بعد فشل تنفيذ الاتفاق، وذلك بحسب ما ذكرت وسائل إعلام محلية وفصائل فلسطينية موالية لدمشق.
وقد أنهت العملية سيطرة “داعش” على المنطقة، وتسببت بحجم دمار في المخيم يتجاوز نسبة 60 في المائة من الأبنية والمؤسسات والأسواق والبنى التحتية، بينما النسبة المتبقية تحتاج إلى ترميم كبير يكلف مبالغ مالية باهظة للغاية. وتحدثت لـ“صالون سوريا” مصادر أهلية ممن فضلت البقاء في داخل المخيم أثناء سيطرة فصائل المعارضة المسلحة وتنظيمي “هيئة تحرير الشام” و“داعش” (تُعدّ على أصابع اليد) لتدفع عن نفسها مأساة التشرد والنزوح والغلاء، وحضرت العملية العسكرية للجيش النظامي وحلفائه، أن “معظم الدمار الذي حصل في المخيم حدث أثناء العملية العسكرية الأخيرة”.
مخطط
مفاجأة
ومع بقاء “مخيم اليرموك” لعدة أشهر بعد استعادة دمشق السيطرة عليه غارقاً في الدمار، وعدم ظهور مؤشرات على إعادة إعماره وعودة سكانه، كان مفاجئا إصدار مجلس الوزراء السوري في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 قرارا يقضي بأن تحل محافظة دمشق محل “اللجنة المحلية” لمخيم اليرموك بما لها من حقوق وعليها من واجبات، وأن يوضع العاملون في اللجنة القائمون على رأس عملهم تحت تصرّف المحافظة، الأمر الذي أثار مخاوف لدى النازحين من نيات مبيتة حول مصير المنطقة.
وتعززت مخاوف النازحين مع كشف محافظة دمشق في مارس ( اذار) 2020 عن مخطط تنظيمي جديد لـ“مخيم اليرموك” من شأنه تغيير الواقع العمراني والديموغرافي للمخيم بعدما دمرت الحرب أجزاء واسعة منه وشردت سكانه بين نازحين في الداخل السوري ولاجئين في دول الجوار وبلدان غربية، وذلك رغم أن هناك مخطط تنظمي خاص به تم وضعه منذ العام 2004.
وحينها بات نازحو المخيم القاطنين في مناطق محيطة بدمشق ينعون في جلساتهم الخاصة المخيم الذي بنوه حجراً على حجر، خلال عقود من الزمن، في حال تنفيذ المخطط الجديد، بينما شن نشطاء منه هجوما عنيفا على محافظة دمشق، واعتبروا أن ما يجري بالنسبة للمخيم ليس مجرد عملية تنظيم، أو إعادة إعمار ما تدمر بقدر ما هو مرتبط بالوضع السياسي العام في المنطقة والعالم، في إشارة إلى التناحر الدولي الكبير الحاصل في سوريا، وحذروا من أنه قد لا يعود كأكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين في سوريا، ورمز لـحق العودة إلى أراضيهم في فلسطين.
وعود
وعلى إثر ذلك تراجعت محافظة دمشق عن المخطط التنظيمي الجديد بعد رفضه من أغلبية كبيرة من النازحين، وأعلنت في بداية أكتوبر (تشرين الأول) 2020 عن قرار بإعادة أهالٍ إلى منازلهم، ووضعت 3 شروط لعودتهم؛ هي: “أن يكون البناء سليماً»، و“إثبات المالك ملكية المنزل العائد إليه”، و“حصول المالكين على الموافقات اللازمة للعودة إلى منازلهم”.
وبدأت المحافظة بعد ذلك في الشهر نفسه، تسجيل أسماء الراغبين بالعودة إلى المخيم، وتم منح بضعة مئات “موافقات أمنية” للعودة من أصل عدة آلاف تقدموا بطلبات، علما أن هناك 200 – 300 عائلة فقط تعيش في داخله، ومعظمها عائلات عناصر فصائل فلسطينية، وذلك وسط انعدام مطلق للخدمات والبنى التحتية. وخلال زيارات عديدة قام بها مسؤولون من المحافظة للمنطقة أكدوا أنها ستقوم بإزالة الأنقاض والركام وتأمين البنى التحتية وإعادة الخدمات للمنطقة.
وفي حين تم فتح الطرقات الرئيسية (شارع اليرموك، شارع فلسطين، شارع الثلاثين) على نفقة منظمة التحرير الفلسطينية، تفاجئ نازحو المخيم، بأن عملية إزالة الأنقاض والركام التي تقوم بها المحافظة من الطرقات الفرعية والجادات تقوم بها آلية أو آليتان، وفي أحسن الأحوال ثلاثة، بينما لم يتم البدء بإعادة الخدمات الأساسية، ووصفوا حينها عمل المحافظة بـ“المخزي”، والذي ترافق مع عمليات نهب وتعفيش كثيفة ومتواصلة، ومشاهدة شاحنات كبيرة تخرج وبشكل شبه يومي من مدخل المخيم الشمالي وهي محملة بالمواد المسروقة من حديد البناء المستعمل، وواجهات المحلات التجارية، وكذلك بقايا ما تبقى في المنازل من سيراميك وبلاط ورخام وأبواب خشب وحديد وأثاث منزلي، وسط حالة من التحسر تبدو على النازحين الذين يعانون الأمرين من ارتفاع إيجارات المنازل والأسعار وصعوبة الحياة المعيشية.
مطالب… وركام
ووسط تصاعد مطالبات الأهالي للحكومة بالإسراع في إزالة الأنقاض والركام وفتح الطرق وإعادة الخدمات، التقى وفد من “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة”، برئاسة أمينها العام طلال ناجي الرئيس السوري بشار الأسد في بداية سبتمبر (أيلول) الماضي، وكشف الأول عن قرار للثاني بتسهيل عودة الأهالي إلى “مخيم اليرموك” بدءا من يوم 10 الشهر نفسه “دون قيد أو شرط”.
وذكر ناجي، أن القرار وجه الجهات المختصة السورية وبالتعاون مع الأهالي لإزالة الركام والردم من البيوت، تمهيداً لدخول آليات محافظة دمشق لإزالة الركام وتنظيف الشوارع الفرعية والحارات الداخلية، واستكمال مد شبكات المياه والكهرباء والهاتف، استعداداً لعودة الأهالي واستقرارهم في المخيم. وأشار إلى أن إزالة الركام ستتم بالتنسيق بين محافظة مدينة دمشق والفصائل الفلسطينية وسفارة دولة فلسطين، فيما تم تحديد الفترة الممتدة من 10 سبتمبر (أيلول) الماضي وحتى الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لإزالة الأنقاض من المنازل.
وأوضح، أن الأسد وجه الأمانة العامة السورية للتنمية بتوفير البيئة المناسبة لفتح بعض المحلات التجارية (سمانة، بيع الخضراوات والفواكه… إلخ)، ومساعدة أصحاب المحلات مادياً للقيام بتخديم المخيم.
وبينما تجري حاليا بوتيرة عالية عملية إزالة الأنقاض الردم وفتح الطرقات على نفقة “منظمة التحرير الفلسطينية”، بحسب مصادر عليمة تحدثت لـ”صالون سوريا”، وتشاهد بشكل يومي عشرات الشاحنات الكبيرة المحملة بالأنقاض والردم وهي تخرج من المخيم، تظهر على وجوه بعض المتوافدين إليه من النازحين ملامح الفرح، إلا أنهم يشكون من عدم تسهيل عودتهم إلى منازلهم، رغم صدور قرار رئاسي بتسهيلها “دون قيد أو شرط“، في إشارة إلى التدقيق الكبير في البطاقات الشخصية للراغبين بالدخول من قبل الحاجز الأمني في المدخل الشمالي، وعدم إلغاء شرط “الموافقة الأمنية“ للعودة، وأن الموافقات التي يحصلون عليها حاليا وبشق النفس هي “فقط لإزالة الركام من المنازل، ومن يدخل في الصباح يجب عليه الخروج مساء“.
عجوز في العقد السابع من العمر وهو يسير بخطى متثاقلة في شارع اليرموك الرئيسي باتجاه منزله لتفقده، رد بلهجة شعبية فلسطينية على سؤال لـ“صالون سوريا“، إن كان عاد إلى منزله، بالمثل العامي الشهير “لا تقول فول ليصير بالعدول“، في إشارة إلى استمرار المماطلة في إعادة الناس وعرقلتها، ويضيف: “شبعنا وعود وما رجعنا، وبعدنا عايشين على أمل الرجعة”.
وبكلمات عامية تحمل الكثير من المعاني السياسية يختم العجوز الذي يبدو من كلماته أنه مثقف وواعي لما يحصل حديثه بالقول: “خيا، يمكن أنا وأمثالي نرجع، بس الأكيد رح نموت وما ترجع أهالي اليرموك تلتم متل أول. رح نموت وتموت اجيال ورانا وما يرجع المخيم متل ما كان. وسلامة فهمك. نقطة انتهى”.
by الحسناء عدرا | Nov 29, 2021 | العربية
فنجان مقلوب رأساً على عقب، متكىء على صحن دائري صغير بانتظار أن يجف، في جوفه رسومات وأشكال مبهمة، وأخرى مكونة من رموز وحيوانات جميعها قد تشكلت من بقايا البن المحمص، لكن لا يمكن أبداً الاستهانة بآثار البن المترسبة في قاع الفنجان لأنها قد تكشف عن خبايا المستقبل، ودليل مرشد في خطوات الكثير من المهوسين بقراءة الفنجان وفتح الطالع والحظوظ ومعرفة النصيب.
تمتهن “لودي” (اسم مستعار) قراءة الفنجان منذ حوالي ثلاث سنوات، ذلك بفضل موهبتها التي اكتشفتها مبكراً، حين كانت طفلة صغيرة تلهو في الشارع مع أبناء الحي. تقول لـ “صالون سوريا”: “لكل منا موهبته الخاصة خصصها له الله. هناك من يمنحهم الصوت الجميل أو الرسم، أما أنا فأعطاني القدرة على قراءة أفكار الآخرين، وخصني بحدس قوي بما يشبه الرؤية وذلك كله بإذنه ومشيئته”.
بدأت ملامح موهبة “لودي” تتجلى حين كانت ترى أحداثاً معينة في منامها لتفاجأ أنها تتحقق بعد أيام معدودة، إلى أن بدأت بمراقبة الأحداث من حولها واكتشاف قدرتها على تفسير الرسومات التي تظهر على جدار الفنجان المقلوب على هيئة طائر أو أفعى، توضح: “كنت أمعن النظر جيداً في قعر الفنجان وأركز فيه بقوة لأفسر الأشكال التي كنت أراها، فرؤية الأفعى تدل على امرأة خبيثة تحوم حول الشخص ومقربة منه، بينما رأس الطائر فيدل على وجود رزق ومال سيحصل عليه صاحب الفنجان، كما استعنت بكتب تعليم قراءة الفنجان والتنجيم لتنمية قدراتي وأدواتي”.
بعد ذلك قررت “لودي” (40 عاماً) تطويع ملكتها في تأمين لقمة العيش، لاسيما بعد أن أقفلت أبواب العمل في وجهها. وبالرغم من شهادتها الدراسية في النقد، لكنها لم تجد لغاية الآن فرصة عمل، لتتخذ من قراءة الفنجان مصدر دخل لها، تعقب “اضطررت لاستثمار موهبتي مالياً، لقد تعرضت لضائقة مالية، لا أطلب من الزبائن مبلغ معين، أتركهم لسماحة أنفسهم، ولا مشكلة لدي إذا لم يدفع الزبون، فهناك الكثير يرغبون بمعرفة حظهم لكنهم غير ميسوري الحال كطالبات الجامعة التي تكفيهم مصاريفهم الجامعية”.
ممثلون وأطباء
تتنوع شريحة الزبائن التي تقصد “لودي” بدءاً من أقلهم مالاً وصولاً إلى أكثرهم نفوذاً وسلطة، تقول لـ “صالون سوريا”: ” يأتوني أشكال وألوان، كالموظفين والأطباء والصيادلة والمهندسين والممثلين”. تشير السيدة إلى أن رجال السلطة ممن يتبوأون مناصب حساسة في الدولة هم الأكثر تعطشاً لمعرفة خفايا مستقبلهم والاطلاع على الأحداث القادمة خوفاً من خسارتهم الكرسي وخشية من وقوع وشايات غير محسوبة، إذ يطلبون مني الأسماء ومواصفات الأشخاص بدقة متناهية ويحفظونها عن ظهر قلب تحسباً لأي طارئ”، مضيفة: “يكون أصحاب النفوذ كالمسؤولين والضباط ذو المراتب العليا على أحر من الجمر لسماع ما سأقوله بانتظار أخبار ترقيات أو سفر يخصهم، خاصة في الفترات الحرجة التي تتحدث عن حصول تغيير مرتقب”. كذلك الحال بالنسبة لأصحاب الأموال”.
تتابع حديثها “فقد تملكهم الخوف والتوجس من خسارة مشاريعهم واستثمارها في المكان الخاطئ، خاصة بسبب ظروف الحرب وتدهور الاقتصاد، لدرجة أنهم أصبحوا مدمنين على قراءة الفنجان، فيطلبون مني فعل ذلك كل ثلاث أيام، ولا يتجرأون على اتخاذ قرار سواء بشراء و بيع عقار أو الدخول بمشروع ضخم قبل فتح الفنجان، أنهم يتبعون حذافير كلام الفنجان على نحو يفوق إرادتهم”.
زوجات غيورات
قررت ديالا، وهي زوجة أحد المسؤولين المهمين في البلاد، رصد تحركات زوجها وكشف “خياناته” العاطفية عبر قراءة الفنجان وتتبع مواصفات عشيقاته السريات، وذلك بعد أن باءت جميع محاولاتها بضبطه بجرم “الخيانة” بالفشل. توضح لـ “صالون سوريا”: “أنا على يقين تام بخيانة زوجي لي، لكن لا أملك الدليل القاطع لإدانته وإدانة النساء الأخريات، لذلك أقوم بإرسال فنجانه بعد احتسائه معا وخروجه إلى العمل، وأطلب مواصفات كل امرأة تظهر في ظهر الفنجان مع ذكر الأسماء بدقة وماذا يعملن بالضبط، وبعدها أبدأ بتحرياتي الخاصة لضبطهما فأحصر دائرة المتهمات”، تتابع “قد يبدو الأمر مثيراً للسخرية والعجب، لكني مقتنعة بذلك وهذا يكفي”
كمين… ونجاة
تروي “لودي”، أن أحد زبائنها كان من الجنود الذين يخدمون في أحد “المناطق الساخنة”. إذ كانت تمده بأحداث معينة ستحصل معه حول توقيت غارات عسكرية مرتقبة أو كمين أو وشايات من رفاق السلاح، تقول:” كنت أحذره من أسماء أشخاص ضمن مجموعته القتالية وأنها مقبلة على خيانته والطعن به، وفي أحد المرات أخبرته أنهم سيتعرضون لغارات جوية من إحدى الجهات ونصحته بأخذ الحيطة وأنه لن ينجو منها إلا القليل وهو من ضمنهم، لكنه سيصاب، وبالفعل حصل ذلك”.
خلفت الحرب السورية ورائها آلاف المفقودين الذين دخلوا في غياهب النسيان، ليختفوا كلياً دون أي خبر عن مصيرهم أو أية إشارة تدل على أنهم أحياء أم أموات، تعقب “لودي” :” كان يتردد إلى منزلي الكثير من الأمهات والآباء والأخوة للاطمئنان على أحبائهم ممن فقدوا في الحرب وانقطعت أخبارهم نهائياً، كانوا يسألون إذا ما زالوا على قيد الحياة وعن عودة قريبة لهم، كنت اتجنب إخبارهم بأنهم ماتوا كي لا أقطع أملهم وأحاول الهرب من الإجابة بأي وسيلة كانت، فالغريق يتعلق بقشة”، مضيفة :كان قلبي يؤلمني لفقدهم، لطالما حرصت على إخبارهم بالأمور الإيجابية فقط إذا ما رأيت عودة أو إطلاق سراح لأحد المخطوفين كي أمنحهم جرعات التفاؤل”.
أحمي نفسي من طوفان
تلجأ سونيا بين الفينة والأخرى إلى قراءة الفنجان لتلقي جرعات من الأمل تساعدها على تجاوز الضغوط النفسية المحاطة بها في بلد يعاني من تداعيات ما بعد الحرب وينسيها غلاء المعيشة وانعدام مقومات الحياة. تقول لـ “صالون سوريا”: ” نحن محاطون بطوق لا ينتهي من الشحنات السلبية، يبدأ نهارنا اليومي باللهاث وراء مقعد في سرفيس، مروراً بمشقة الحصول على رغيف خبز و حمل جرة غاز تدفء أجسادنا المنهكة من الانتظار، نحن بحاجة لرشفة أمل نتجرعها من فنجان قهوة ولو كان كذب، إذ يمدني بالأمل والبدء من جديد بعد كل خيبة أمل تصفعنا بها هذه البلاد”