روسيا تفتح شرايين “سوريا المفيدة” ونوافذها

روسيا تفتح شرايين “سوريا المفيدة” ونوافذها

في منتصف عام 2015، كانت الحكومة السورية تسيطر فقط على نحو 15 في المائة من مساحة البلاد، وعلى البوابات الحدودية مع لبنان، مقابل سيطرة «داعش» وفصائل المعارضة وقوات كردية على باقي البلاد، ومعظم بوابات الحدود الـ19 مع العراق وتركيا والأردن، وخط الفصل مع إسرائيل.

التدخل العسكري الروسي المباشر، في سبتمبر (أيلول) 2015، قلب ميزان السيطرة؛ باتت قوات الحكومة حالياً تسيطر على نحو 65 في المائة من مساحة البلاد، البالغة 185 ألف كيلومتر مربع، فيما تتقاسم «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية – العربية، بدعم أميركي، من جهة، وفصائل عربية تدعمها أنقرة، السيطرة على باقي الأرض.

وإذا كانت لاستعادة السيطرة على درعا (مهد الثورة في عام 2011) أهمية رمزية، فإن لفتح معبر نصيب أهميته الاستراتيجية أيضاً، إذ تجري حالياً محادثات بين عمان ودمشق لإعادة فتح هذا المعبر بين سوريا والأردن، بعدما سيطرت قوات الحكومة على الجنوب، وعلى الجانب السوري من نصيب، بعد نحو 3 سنوات من خسارته في أبريل (نيسان) 2015.

وفي حال جرى فتح نصيب أمام البضائع في العاشر من الشهر المقبل، سيتزامن ذلك مع بدء تنفيذ الاتفاق الروسي – التركي الخاص بإدلب، وإزالة السلاح الثقيل من «المنطقة العازلة» في الشمال، قبل «التخلص من المتطرفين» في 15 الشهر، و«استعادة» الطريق الرئيسية بين حمص وحلب، ليحل بدل «طريق الموت» الخفي عبر خناصر – أثريا، إضافة إلى السيطرة على طريق حلب – اللاذقية قبل نهاية العام، بموجب الاتفاق الروسي – التركي الخاص بإدلب.

والواضح لمتابع سير المعارك أن لروسيا أولوية بفتح شرايين «سوريا المفيدة»، وربط بواباتها الحدودية بالعالم، لفك العزلة الغربية عن دمشق:

المعابر الحدودية

بين المعابر الـ19، تسيطر دمشق على 5 مع لبنان، ومعبر مع الأردن، وآخر مع العراق، ومعبرين مع تركيا التي أقفلتهما. وبحسب تقرير سابق لوكالة الصحافة الفرنسية، ومعلومات من المعارضة ودبلوماسيين، هنا توزيع السيطرة:

– نصيب، يقع بين دمشق – درعا: سيطرت الفصائل المعارضة عليه في أبريل 2015، لكن قوات الحكومة استعادته في يوليو (تموز) الماضي.

– الرمثا الأردني: استعادته دمشق قبل أسابيع، بعدما فقدت السيطرة عليه منذ عام 2013.

– كسب، في ريف اللاذقية: مقفل من الجانب التركي بعد معارك في 2014، وإن كان لا يزال تحت سيطرة دمشق.

– باب الهوى، شمال إدلب: وهو تحت سيطرة إدارة مدنية تابعة لفصائل معارضة.

– باب السلامة، في منطقة أعزاز بمحافظة حلب (شمال): تحت سيطرة فصائل سورية معارضة موالية لتركيا.

– جرابلس، في حلب (شمال): تحت سيطرة فصائل «درع الفرات» المدعومة من الجيش التركي.

– تل أبيض، في الرقة (شمال شرقي البلاد): تحت سيطرة «وحدات حماية الشعب» الكردية، ضمن «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة أميركياً، بعد طرد «داعش» في 2015، لكنه لا يزال مغلقاً، وتشترط أنقرة إبعاد «الوحدات» عنه.

– عين العرب (كوباني)، شمال حلب: تحت سيطرة «وحدات حماية الشعب» الكردية، وهو مغلق رسمياً، وتريد أنقرة إبعاد الأكراد عنه، وتقع قربه قاعدة عسكرية أميركية.

– رأس العين، في الحسكة: شهد معارك عنيفة، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية، في صيف عام 2013، بين «داعش» والمقاتلين الأكراد الذين تمكنوا من طرده من المعبر، ومن مدينة رأس العين.

– القامشلي – نصيبين: هو المعبر الوحيد في محافظة الحسكة الذي لا يزال تحت سيطرة قوات الحكومة، لكنه مقفل من السلطات التركية.

– عين ديوار، في الحسكة: وهو تحت سيطرة المقاتلين الأكراد، ويتم الإفادة من معبر زاخو للعبور من الخابور بين شمال شرقي سوريا وكردستان العراق.

– اليعربية – الربيعة: يقع في محافظة الحسكة، ويربطها مع العراق، وهو تحت سيطرة المقاتلين الأكراد.

– البوكمال – القائم، بين ريف دير الزور والعراق، وهو تحت سيطرة قوات الحكومة والميليشيات الإيرانية، وقد أرسلت دمشق رسائل إلى بغداد لإعادة فتحه، بديلاً عن معبر التنف.

– التنف، أو الوليد من الجهة العراقية: يقع جنوب دير الزور، وتسيطر عليه قوات التحالف الدولي، بقيادة أميركية، مع فصائل معارضة تدعمها، منذ طرد تنظيم داعش منه. وتقع قربه قاعدة التنف، وتقول أميركا إنها لن تنسحب منه أو من مناطق شرق سوريا، ما بقيت ميليشيات إيران وقواتها في سوريا.

– المعابر الحدودية بين لبنان وسوريا، وهي خمسة: جديدة يابوس والمصنع من الجانب اللبناني، والدبوسية والعبودية من الجانب اللبناني، وجوسية والقاع من الجانب اللبناني، وتلكلخ (البقيعة من جانب لبنان)، وطرطوس (العريضة من الجانب اللبناني). وتوجد على طول الحدود معابر كثيرة غير شرعية، معظمها في مناطق جبلية وعرة، بحسب الوكالة الفرنسية.

إسرائيل وسوريا في حالة حرب رسمية، ولا توجد معابر بين البلدين، لكن فصائل كانت تسيطر على القنيطرة، غير أن قوات الحكومة عادت إليها بدعم روسي. وأعاد الجيش الروسي العمل باتفاق فك الاشتباك في الجولان، ونشرت الشرطة الروسية «القوات الدولية لفك الاشتباك» (أندوف). وزير الدفاع الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، قال أول من أمس إنه يدعم فتح معبر القنيطرة أمام تنقل أهالي الجولان المحتل، ونقل البضائع، خصوصاً بيع التفاح «الجولاني» في سوريا، كما كان الأمر قبل 2011.

الجزء المتبقي من الحدود مفتوح على البحر المتوسط، والمرافئ البحرية كلها تحت سيطرة الحكومة، وتقيم روسيا قاعدة بحرية في ميناء طرطوس، وقاعدة جوية في قاعدة حميميم في ريف اللاذقية. وتسيطر الحكومة على مطارات دمشق وحلب واللاذقية، إضافة إلى مطار القامشلي في مناطق الأكراد، لكن عدداً من الشركات الدولية لا تزال تقاطع السفر إلى المطارات السورية.

الطرق الرئيسية

الطريق بين نصيب على حدود الأردن وباب الهوى على حدود تركيا يعرف بـ«إم – 5» أو «شريان الحياة» للاقتصاد السوري، ويمتد نحو 450 كيلومتراً، ويربط أوروبا عبر تركيا بالخليج عبر الأردن. وإذا ضم إليه طريق اللاذقية – حلب، المعروف بـ«إم – 4»، وتم ربطه بطريق ممتد من حلب إلى دير الزور والعراق، وإذا تم تشغيل طريق بيروت أو طرابلس بنصيب، يكون الربط بين المتوسط والعراق والخليج قد تم عبر البوابة السورية.

ولم يكن «شريان الحياة» بشكل كامل تحت سيطرة دمشق خلال السنوات السبع الماضية، إذ بدأ التحول في نهاية 2016، عندما سيطرت قوات الحكومة على شرق حلب.

وبعد التدخل العسكري الروسي، بات واضحاً إعطاء موسكو أولوية لاستعادة الطرق الرئيسية، لتنشيط الاقتصاد واستعادة السيادة.

وكانت الفصائل المعارضة قد ركزت منذ عام 2011 على قطع أجزاء من الطريق في محافظتي دمشق وحمص، قبل أن تسيطر على أجزاء رئيسية منه في العام التالي. ويمر نحو 30 كيلومتراً من هذا الطريق في مناطق في الغوطة الشرقية وجنوب دمشق، وقسم مشابه في ريف حمص.

وتمكنت قوات الحكومة في الأشهر الثلاثة الأخيرة، بدعم روسي، من استعادة كل الأحياء الخارجة عن سيطرتها في جنوب العاصمة، وطرد الفصائل المعارضة من الغوطة الشرقية، قرب دمشق، ومن مدن عدة في محافظة حمص (وسط)، تقع جميعها على الطريق الرئيسي بين نصيب والشمال والشمال الغربي.

وتم الاحتفال رسمياً في مايو (أيار) بتشغيل القسم الواقع في ريف حمص، ثم ترميم القسم الآخر في حرستا، شرق دمشق.

وتأمل دمشق وموسكو، مع استعادة السيطرة على نصيب، في إعادة تفعيل هذا الممر الاستراتيجي، وإعادة تنشيط الحركة التجارية مع الأردن ودول أخرى، ومع لبنان، إضافة إلى إعادة تشغيل الطريق بين تركيا والجنوب السوري، وبين الساحل وشرق البلاد، وتحريك التجارة، وفك العزلة السياسية، إضافة إلى فتح شقوق في موقف الدول الأخرى التي تضع شروطاً للمساهمة في إعمار سوريا، التي تقدر كلفة الحرب فيها بـ400 مليار دولار أميركي.

بهرجة معرض دمشق الدولي على أنقاض كارثة اقتصادية

بهرجة معرض دمشق الدولي على أنقاض كارثة اقتصادية

بعد سبع سنوات من الحرب، تضع الحكومة السورية جلّ جهدها لتدفع بالحياة الاقتصادية قدماً والتسويق لفكرة أن “الحرب على الإرهاب” قد شارفت على الانتهاء، وبأن عجلة إعادة الإعمار انطلقت، وذلك من خلال الترويج لمعرض دمشق الدولي بدورته الستين، حيث يتم تصويره على أنه فرصة ذهبية واعدة للشركات الأجنبية والعربية التي تسعى لتثبيت موطئ قدم لها في سوريا مستقبلاً.

العام الماضي أيضاً، اجتهدت الحكومة لإعادة إحياء المعرض الدولي  بدورته الـ ٥٩، وقد حقق -من الناحية الإعلامية والإعلانية -جزءاً من رسالته، حيث شهد حضوراً واسعاً على مستوى الزوار المحليين، أما على صعيد المشاركة الدولية، فكان الحضور ضعيفاً على صعيد عدد الشركات الأجنبية والعربية، وطغى حضور الشركات الروسية والإيرانية على حساب الدول الأخرى، نتيجة عدم استقرار الوضع التجاري والاقتصادي في سوريا.

ساهم بذلك أيضاً، تربصّ  دول عدّة بالشركات الأجنبية التي تسعى للاستثمار في سوريا والمشاركة بإعادة إعمارها، لفرض عقوبات دولية عليها، وهذا سبب إضافي يفسر ضعف مشاركة بعض الدول العربية والأجنبية.

رغم هذا، لا يمكن نكران أهمية تظاهرة معرض دمشق الدولي على الصعيد الاقتصادي في بلد أنهكته الحرب، واستخدام مسمى “تظاهرة” يرمز لكون الفعالية أشبه بفقاعة لا نتائج حقيقية لها، وبالتالي لايمكن الاكتفاء بإظهاره إعلامياً والابتعاد عن الواقع الاقتصادي المتردي الذي فرضته الحرب، فنتائج الدورة السابقة للمعرض لم تؤت ثمارها بعد.

روجت  وسائل الإعلام أن المعرض شهد توقيع عقود واتفاقيات تجارية بمبالغ كبيرة، ولكن حقيقة الأمر تقول بأن الجناح الذي حقق نتيجة اقتصادية من المعرض بنسبة ضئيلة هو جناح تصدير المنتجات الزراعية السورية.

رغم هذا فإن قضية تصدير المنتجات الزراعية السورية تواجه العديد من التحديات، فقد سبق لروسيا أن رفضت سابقاً استقبال شحنات من الخضار والفواكه السورية لعدم مطابقتها للمواصفات القياسية، إضافة لمشكلة تأمين وسيلة نقل وممرات شحن دائمة قادرة على إيصال البضائع السورية للأسواق المُستهدفة.

إن الترويج الوهمي للتوقيع على اتفاقيات تجارية، لا يمكن أن يؤتي بنتائج سليمة وإيجابية، خاصة في حال غياب انعكاس هذه الاتفاقات على الاقتصاد المحلي، وسهولة اكتشاف حقيقية الأمر من خلال تتبع مؤشرات التصدير والاستيراد، الذي ينعكس أيضاً على سعر صرف العملة السورية والتي تبلغ اليوم قرابة ٤٦٠ ليرة مقابل الدولار في السوق السوداء، أما سعر الصرف الرسمي فمازال ٤٣٠ ليرة وفق نشرة البنك المركزي السوري.

اقتصادياً يمكن إجراء مقارنة بين الأرقام التي تصرح بها الحكومة السورية وبين الأخرى الحقيقية  مع الأخذ بالعلم أن لا بيانات اقتصادية متوافرة بشكل دقيق خلال الحرب.

يحتاج المستثمر الأجنبي للاستقرار الاقتصادي ولقوانين وتشريعات استثمارية تحاكي المرحلة الحالية، لكن تأخر إصدار التشريعات -خاصة قانون الاستثمار الجديد- يؤكد أن الرؤية الاقتصادية لسورية يشوبها الغموض، في حين يصر القائمون على الاقتصاد على طرح أفكار ومشاريع اقتصادية تكشف حجم الانفصام عن الواقع المعيشي والمالي لسورية.

وفي ظل الحديث عن ضرورة التوصل لعملية انتقال سياسي متفق عليها من قبل جميع الأطراف الدولية، يصبح الحديث عن تعافي الاقتصاد السوري وانطلاق عملية إعادة الإعمار هو ضرب من الخيال، فالحرب لم تنته بعد ومازال الشمال الشرقي لسورية في حال صراع بين المكونات السورية والكردية وقوات التحالف الموجودة، عدا عن ملف محافظة إدلب التي مازال مصيرها مجهولاً.

تحديات صفقة ادلب

تحديات صفقة ادلب

خاص صالون سوريا

تضمن الاتفاق الروسي – التركي حول إدلب مقايضة موافقة موسكو على “إبقاء الوضع القائم” مقابل موافقة أنقرة على “التخلص من المتطرفين” في المنطقة الآمنة شمال سوريا، لكن لا تزال هناك تحديات وعقد أمام تنفيذ هذا الاتفاق؛ وإن كانت فيه إيجابيات، ما يدفع إلى القلق من ان اتفاق سوتشي لن يسهم سوى في استقرار الوضع في إدلب لبضعة أشهر لأنه لا يعدو تأجيلاً للمعركة وليس وأدها.

الاتفاق الذي أعلن بعد لقاء الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان في سوتشي في 17 سبتمبر (أيلول) الحالي، تضمن 10 نقاط بينها: إبقاء منطقة خفض التصعيد بموجب اتفاق آستانة في مايو (أيار) الماضي، وتحصين نقاط المراقبة التركية الـ12، ومنطقة منزوعة السلاح بعمق 15 – 20 كيلومتراً، والتخلص من جميع الجماعات الإرهابية في هذه المنطقة في 15 من الشهر المقبل بعد سحب السلاح الثقيل من هذه المنطقة قبل 10 من الشهر المقبل.

كما نص على قيام الجيشين الروسي والتركي بتسيير دوريات مشتركة في المنطقة الآمنة، إضافة إلى “ضمان حرية حركة السكان المحليين والبضائع، واستعادة الصلات التجارية والاقتصادية”، وفتح طريقي حلب – اللاذقية وحلب – حماة قبل نهاية العام.

في الايجابيات يمكن الحديث عن ستة

١- أدى اتفاق الحل الوسط الروسي – التركي إلى تجميد خطط دمشق لشن هجوم عسكري والبناء على الدينامية بعد السيطرة على غوطة دمشق والجنوب السوري وسط أنباء عن حشد ٢٢ تنظيما مواليا لإيران عناصرهم حول ادلب.

٢- الإبقاء على “الوضع القائم” بما في ذلك المجالس المحلية والوضع الخاص لإدلب التي تضم نحو ٣ ملايين شخص. ولا شك في أن هذه التسوية أنقذت أرواح كثير من المدنيين وجنبت آلافا احتمال النزوح والهجرة والدمار.

٣- كان يمكن لروسيا مواصلة دعمها للهجمات العسكرية السورية على المنطقة لكنها فضلت تجنب مواجهة نقاط المراقبة التركية التي عززتها أنقرة. ونظرا لخطورة الضربات العرَضية ضد القوات التركية وما يترتب عليه من ضرر للعلاقات مع تركيا، سعت موسكو إلى حل وسط مع أنقرة.

٤- بتحاشي القيام بعمليات عسكرية، قلصت موسكو من فرص شن اعتداءات بالأسلحة الكيماوية في إدلب وتجنب الضربات الخطرة التي يمكن أن تنفذها الولايات المتحدة أو حلفاؤها، خصوصاً أن واشنطن رسمت “خطا أحمر” بأن الرد سيكون “أقوى وأعنف” مما حدث في أبريل (نيسان) ٢٠١٧ و٢٠١٨.

٥- أنقذ الاتفاق عملية السلام التي يقودها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا عبر تشكيل لجنة دستورية من الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني. ويتوقع أن يستعجل دي ميستورا تشكيل اللجنة بعد عودة المسار السياسي إلى الحياة.

٦- منع أو تأجيل “الانتصار الكامل” الذي تسعى دمشق إلى تحقيقه وفرملة الماكينة العسكرية، قد يعزز موقف الراغبين بالتسوية السياسية في دمشق وغيرها، وإن كانت من مدخل الدستور وأن “لا حل عسكريا للأزمة السورية.”

في المقابل تضمن الاتفاق كثيرا من النقاط الغامضة ما لم تكن هناك ملاحق سرية بين موسكو وأنقرة، لذلك فإن هناك اعتقادا بأن “الشيطان لا يزال في تفاصيل” هذا الاتفاق:

١- كيفية “التخلص” من المتطرفين من المنطقة الآمنة، خصوصاً أن هذا يجب أن يتم خلال أسبوعين أو ثلاثة أسابيع. هل هذا سيتم بـ”الفصل” أم بـ”التهجير” أم بـ”العمل العسكري” ومن سيقوم به؟

٢- صعوبة الفصل بين “هيئة تحرير الشام” التي تضم “فتح الشام” (النصرة سابقا) التي تضم نحو ١٠ آلاف عنصر و”الجبهة الوطنية للتحرير” التي تضم ٣٠ ألفا، إضافة إلى أن “هيئة التحرير” رفضت الاتفاق وانتقدت تركيا وشبهت موقف أنقرة في إدلب بموقف الأمم المتحدة في سريبرينيتشا التي تعرضت لمجزرة في التسعينات. وهناك صعوبة في الفصل بين المقاتلين الأجانب المحسوبين على “القاعدة” الذين يزيد عددهم على ألفين، وباقي المقاتلين السوريين.

٣- إحدى الأفكار المطروحة نقل رافضي التسوية من “المنطقة الآمنة” إلى مناطق النفوذ التركي شمال سوريا واحتمال نقل آخرين إلى مناطق كانت ذات أغلبية كردية، لكن كيف سيتم تنفيذ هذا عمليا خلال فترة قصيرة؟

٤- تضمنت الخطة فتح الطريقين الرئيسيين بين حلب وحماة وبين حلب واللاذقية. من سيحمي الطريقين؟ من سينشر نقاط التفتيش؟ ينطبق هذا على نقاط “التجارة” بين مناطق المعارضة في إدلب ومناطق الحكومة.

٥- ستعود السيادة السورية رمزيا إلى الشمال بما في ذلك العلم وبعض المؤسسات، لكن ماذا عن الوجود العسكري لدمشق؟

٦- يعتقد باحتمال شن الجيشين التركي والروسي ودول أخرى معارك ضد المتطرفين في حال رفضوا التسوية، خصوصاً أن موسكو لديها خطة للقضاء على ألفي مقاتل أجنبي، كيف سينعكس ذلك على وضع باقي الفصائل المعارضة؟ ما رد الفصائل الإسلامية؟

بعد توقيع الاتفاق عكف مسؤولو الاستخبارات في روسيا وتركيا على تبادل المعلومات ورسم حدود المنطقة العازلة بالتزامن مع بدء فصائل الشمال اعلان موقفها بين مؤيد بحذر وداعم بتحفظ ورافض في شكل كامل.

لا شك في أن تنفيذ الاتفاق يتضمن تحديات يومية ويشكل اختبارا دائما بين موسكو وأنقرة، لكن في الوقت نفسه فإن دمشق وطهران تراهنان على فشل خيار التسوية للعودة إلى الحل العسكري وجر موسكو إلى الحسم العسكري كما حدث في تجارب سابقة… والعودة إلى معركة إدلب المؤجلة.

مايعزز هذه الشكوك رفض المتطرفين للاتفاق وترقب دمشق واعلان قاعدة حميميم ان الاتفاق يعطي صلاحية للطائرات الروسية بـ “قصف الارهابيين” بضربات جراحية. عليه، يمكن فهم قول يان إيغلاند، رئيس بعثة الأمم المتحدة للعمل الإنساني:”هذا ليس اتفاق سلام. إنها صفقة تبعد حرباً شاملة. أرى احتمالاً كبيراً لاندلاع كثير من المعارك. نشعر بالقلق حيال المدنيين في هذه المناطق، لذا، فإن الأمر لم ينته بعد.”

١٠ خطوات مهدت لصفقة إدلب وضربة اللاذقية

١٠ خطوات مهدت لصفقة إدلب وضربة اللاذقية

الطريق إلى «خريطة الطريق» بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان حول مستقبل إدلب، تضمن الكثير من تبادل الحشد العسكري والتهديدات الدبلوماسية والحملات الإعلامية بين موسكو وحلفائها من جهة وواشنطن وحلفائها من جهة ثانية. لذلك، لم يكن مفاجئاً أن تعقب الصفقة خطوات عسكرية تصعيدية: ضربات إسرائيلية على مواقع إيرانية قرب قاعدة روسية ردت عليها مضادات سورية وأصابت طائرة روسية.
هنا أهم عشر خطوات سبقت الوصول إلى صفقة سوتشي وضربة اللاذقية:

1 – في 12 الشهر الجاري، جمدت القوات الروسية غاراتها على ريف إدلب وأمرت قوات الحكومة السورية بتجميد خطة التقدم البري لتنفيذ المرحلة الأولى من الخطة التي كانت تتضمن السيطرة على مناطق شمال حماة وغرب حلب وجسر الشغور شرق اللاذقية. في المقابل، اتجه تركيز دمشق وموسكو إلى محاربة «داعش» شرق السويداء وقرب قاعدة التنف الأميركية في زاوية الحدود السورية – العراقية – الأردنية.

2 – جاء هذا بعد فشل القمة الروسية – التركية – الإيرانية في طهران في 7 من الشهر الحالي في التوصل إلى خطة لحل معضلة إدلب بين اقتراح أنقرة خيار التسوية و«الفصل» بين المتطرفين والمعتدلين ورغبة موسكو باعتماد الخيار العسكري ورفض اقتراح أنقرة لوقف النار في شمال سوريا.

3 – أبلغ البيت الأبيض الكرملين بأن إدارة الرئيس دونالد ترمب مستعدة لـ«المحاسبة» على أي عمل عسكري تقوم به دمشق في إدلب وليس فقط ردا على استخدام الكيماوي. كما أبلغ المبعوث الأميركي الجديد جيمس جيفري خلال جولته في المنطقة بين 1 و4 الشهر الجاري الجانب التركي بأن واشنطن تدعم أنقرة بالوصول إلى حل وترتيبات في شمال سوريا وعدم اعتماد الحل العسكري ومنع حصول «كارثة إنسانية» هناك بسبب وجود حوالي ثلاثة ملايين شخص نصفهم من النازحين. وتضمن الموقف الأميركي تحميل موسكو مسؤولية حصول «الكارثة» المحتملة الناجمة عن العمل العسكري.

4. بالتوازي مع إرسال دمشق تعزيزات عسكرية إلى ريف إدلب، ضاعف إردوغان عدد الجنود الأتراك ونوعية السلاح الثقيل في الشمال السوري. وجرى الحديث عن وجود 23 ألف جندي. وهناك من تحدث عن 30 ألفا من فصائل المعارضة والوحدات التركية الخاصة. كما أفيد بتسليم أنقرة السلاح النوعي بينه مضادات جوية وعربات إلى فصائل المعارضة التي تشكلت في نهاية يوليو (تموز) الماضي. وأعلن مسؤولون أتراك أن إدلب «جزء من الأمن القومي التركي».

5 – تحركات مدنية وسياسية في إدلب تضمنت مظاهرات بأكثر من 100 نقطة، فيها لافتات وشعارات رافضة لعودة النظام إلى الشمال ورافضة لـ«جبهة النصرة»، إضافة إلى إرسال جمعيات مدنية رسائل إلى الأمم المتحدة تركز على الجانب المدني في الشمال.

6 – توتر عسكري أميركي – روسي، إذ إن الناطق باسم القيادة المركزية الأميركية إيرل براون قال في 9 سبتمبر (أيلول) إن الروس أبلغوا الأميركيين في مذكرة خطية عبر قناة «منع الصدام» عزمهم الدخول إلى قاعدة التنف، لكنه قال إن واشنطن لا تريد التصعيد مع موسكو أو دمشق لكنها «لن تتردد في استخدام القوة الضرورية والمتناسبة للدفاع عن القوات الأميركية أو قوات التحالف وفصائل حليفة، كما أثبتنا بوضوح في الحالات السابقة»، في إشارة إلى قصف واشنطن عناصر موالية لدمشق.

7 – تزامن هذا التصريح مع تسريب القيادة المركزية فيديو عن تدريبات لقوات التحالف وأميركا في التنف. كما أفيد بوصول معدات عسكرية إلى القوات الأميركية و«قوات سوريا الديمقراطية» الكردية – العربية الحليفة لواشنطن. وجرى بين موسكو وواشنطن تبادل الاتهامات حول «سيناريو كيماوي» في إدلب يمهد لضربات لمواقع الحكومة من البحر المتوسط.

8 – أطلع رئيس هيئة الأركان الأميركية جوزيف دانفورد الرئيس دونالد ترمب على خطط العمليات في سوريا. وقال في طريقه إلى الهند في 8 سبتمبر: «ينبغي ألا ينظروا إلى التنف كهدف سهل». ردت موسكو على ذلك في اليوم التالي، عندما قال الجنرال فلاديمير سافتشينكو من المركز الروسي للمصالحة في 9 سبتمبر إن طائرتين أميركيتين من طراز «F – 15» استخدمتا الفوسفور في قصف دير الزور، الأمر الذي نفته واشنطن.

9 – حشدت واشنطن بالتواصل مع لندن وباريس وبرلين للاستعداد عسكريا للرد على استعمال الكيماوي في إدلب. كما تم حشد قطع بحرية أميركية وبريطانية وفرنسية في البحر المتوسط مقابل السواحل السورية. وقيل أن الضربة المقبلة ستكون «أقوى وأعنف» مما حصل في أبريل (نيسان) عامي 2017 على الشعيرات وسط سوريا و2018 قرب دمشق ووسط سوريا.

10 – بالتوازي مع الحملة العسكرية، قادت واشنطن حملة دبلوماسية في مجلس الأمن بالدعوة إلى اجتماعات مخصصة لملف إدلب تضمن تحذيرات من المندوبة الأميركية نيكي هيلي وتحذيرها برد عسكري، تواصل مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو مع الكرملين والخارجية الروسية لـ«ردع» دمشق من الهجوم على إدلب. كما أن المبعوث الأميركي جيفري أبلغ المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في جنيف في 14 الشهر، بتمسك واشنطن برفض الوجود الإيراني في سوريا وتأكيده أن القوات الأميركية باقية شرق نهر الفرات وفي قاعدة التنف.

في ظهر يوم 17 سبتمبر، توصل بوتين وإردوغان في سوتشي إلى خريطة طريق لحل معضلة إدلب، تضمنت عناصر رئيسية بينها: إقامة منطقة عازلة بين قوات الحكومة وفصائل المعارضة بعرض بين 15 و20 كيلومترا، على أن تشكل المنطقة قبل منتصف الشهر المقبل وتنتشر الشرطة الروسية بخطوط التماس مع قوات الحكومة والجيش التركي من جهة المعارضة، إضافة إلى نزع السلاح الثقيل من هذه المنطقة مع بقاء المدنيين.

وتضمنت خريطة الطريق إعادة فتح طريقي حمص – حلب واللاذقية – حلب بحماية الجيشين الروسي والتركي، وأيضا محاربة الإرهابيين وإعطاءهم المجال للانسحاب إلى مناطق أخرى، إضافة إلى عودة رمزية للدولة السورية قبل منتصف ديسمبر (كانون الأول) المقبل.

ومساء 17 سبتمبر، شنت طائرات إسرائيلية غارات على مواقع عسكرية سورية غرب سوريا وقرب قاعدة حميميم الروسية. أعلنت موسكو عن إسقاط طائرة استطلاع روسية ومقتل 14 شخصا كانوا فيها فوق البحر المتوسط. وقالت لاحقا إن مضادات سورية مسؤولة عن إسقاط الطائرة الروسية، لكنها انتقدت «استفزازات» إسرائيل التي أبلغت الجانب الروسي قبل دقيقة فقط من بدء الغارات.

أمام كل ذلك، ترددت أنباء عن غضب في دمشق أول بسبب توصل بوتين وإردوغان إلى تسوية في شأن إدلب وغضب ثان بعد الغارات الإسرائيلية على غرب سوريا وغضب ثالث بعد إصابة طائرة روسية.

يوميات سورية: مواسم الحصرم

يوميات سورية: مواسم الحصرم

دمشق

وافق أمجد، الذي يعمل كـ”طورنجي” سيارات، على الالتحاق بالدراسة كطالب بالصف السابع رغم أن عمره تجاوز السابعة عشرة، فهو يدرك عدم إلمامه بالمعلومات الأساسية واللازمة للتقدم لامتحان الشهادة الإعدادية. وجد أمجد مكانه في صف دراسي بمركز تعليمي أعدته جمعية أهلية تراعي ظروف النازحين والمهجرين والمتسربين من التعليم، وتقدم لهم الدروس والمستلزمات المدرسية إضافة للحوافز لتشجيعهم على متابعة الدراسة.

الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالسوريين كافة تلعب دوراً أيضاً في زيادة حركة التسرّب من المدارس، والتي يحاول الأهالي والتجار التحايل عليها للاستمرار، ففي مواسم المدارس تبيع العديد من البقاليات الدفاتر والأقلام بالدين دونما فائدة (ليتم دفع المبالغ لاحقاً)، كما أن السوريين باتوا خبراء بتدوير ما لديهم وما يحتاجونه بمهارة عالية، كأن يشتري الأهل علبة أدوات هندسية واحدة لكافة أبنائهم الطلاب، وكذلك علب التلوين والمساطر الرقمية أو الآلات الحاسبة وسواها من المستلزمات المدرسية غالية الثمن.

تقول خلود وهي معلمة رسم بمدرسة ابتدائية حكومية، بأنها سألت تلميذا عن علبة الألوان الخاصة به، فاستأذنها ليحضرها من أخيه في الصف الأعلى، لأنهما يتشاركان علبة تلوين واحدة . “أذكر أيضاً طفلاً جاء إلى المكتبة ليبيع علبة الألوان التي منحوه إياها مجاناً في نادي للنشاطات، ليشتري بثمنها علبة من قطع الجبنة الصفراء.” تروي خلود مضيفة، “كان بمتسعه المحافظة عليها للموسم المدرسي، لكن الجوع أولى بتدابير إسعافيه تضحي بعلبة الألوان مقابل لفافة جبنة تحولت إلى حلم عصي على التحقيق، فليس المهم الوصول إلى الموارد وتصريح أن مليون طفل حصلوا على علب تلوين مجانية، بل المهم هو قدرة الطفل على التحكم بهذه الموارد وضمان ديمومتها.”

لا يبدو هذا خارج السياق العام في سوريا، ففي بلد يعاني ثمانون بالمئة من أهله من الفقر، ويصل متوسط الأجور لأقل من ثمانين دولاراً شهريا، يبدو منطقياً أن تغدو الحقيبة المدرسية حلما مترفا، لكن إن تمكن الأهل من التحايل على ابنهم الأصغر بحمل حقيبة الابن الأكبر، ماذا سيفعلون بالممحاة؟ الدفتر؟ قلم الرصاص؟ الألوان وغيرها…

في موسم المدارس، نشرت المؤسسة السورية للتجارة والمعروفة سابقاً باسم “المؤسسة العامة الاستهلاكية” إعلاناً تقدم فيه عرضاً بمنح قرض مقداره خمسون ألف ليرة دون فوائد يتم دفعه بالتقسيط لمدة عشرة أشهر، أي بواقع خمسة آلاف ليرة شهريا. آثار هذا الإعلان ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة أهالي الطلاب، وركزت التعليقات على فداحة الواقع الاقتصادي للطلاب وذويهم والذي يضطرهم للتقدم لهكذا قرض. كما تم اتهام الجهات المسؤولة بتجاهل الحال الرث الذي وصله الوضع الاقتصادي السوري، ليس للطلاب والتلاميذ وذويهم فحسب وإنما لمجمل السوريين الذين يمضون أيامهم بصعوبة، محاولين سد احتياجاتهم الأساسية، بينما تقوم طبقة صغيرة منهم بالنهب وصرف الملايين بطريقة باذخة واستعراضية تثير السخط والحقد معا.

وإضافة لإظهار القرض للعمق الحقيقي للأزمة الاقتصادية التي تعصف بالسوريين، فإنه يهدف لتسويق بضاعة مؤسسات السورية للتجارة، وكسر حالة الكساد التي تعاني منها نتيجة لضعف القوة الشرائية ونقص التسويق مما ينتج عنه العجز عن سداد رواتب وأجور العمالة الفائضة عن الحد في هذه المؤسسات، لذلك غالبا ما تلجأ تلك المؤسسات لعرض بعض مراكزها للاستثمار “الضمان” على تجار من خارج الوزارة وخاصة في منافذ بيع الخضار والبقالة التابعة للمؤسسة المذكورة. وغالباً ما تكون أسعار المواد فيها أعلى من السوق المحلية التي يتحكم تجارها بحركة خفض الأسعار حسب قوة العرض والطلب أو نقصهما.

ساهم هذا القرض أيضاً بزيادة صعوبة الوضع الإقتصادي على أصحاب المكتبات، يقول أبو أيمن وهو صاحب مكتبة معروفة في جرمانا الكثيفة السكان والطلاب “كان موسم المدارس العام الفائت خاسراً بامتياز.” فقد حرمه القرض  من الزبائن الطلاب من أبناء الموظفين والعاملين في الدولة. وامتنع تجار القرطاسية عن البيع بالتقسيط الأسبوعي نظرا لانخفاض سعر الدولار، وتخوفهم من ارتفاعات أو انخفاضات متتالية أو مفاجئة تغير من قيمة ما باعوه وتقلّص من قدرتهم على شراء المزيد، وتعويض المستودعات بما فقدته من استجرار كبير في الشهر الأول للعام الدراسي، والشهر الأول هو ذروة الموسم المكتبي والقرطاسية وملابس المدارس الموحدة. كما دفع التغير الحاصل بالقوة الشرائية العديد من أصحاب المحال والمكتبات لإغلاقها بشكل تام ونهائي.

يغفل القرض والمؤسسة أيضاً الجانب الإنساني  المرتبط بالتنمية، وهو حرية اختيار الدفاتر والأقلام والحقائب، وهو جانب ضروري لاكتساب شعور الرضا بالتعامل مع القلم والدفتر والممحاة، من أجل سلامة العملية التعليمية والتربوية. ففي منافذ بيع المؤسسة لا خيارات تذكر، كما سلة الإعانة، على الطالب وأهله شراء المتوفر جيداً كان أم سيئاً، مريحاً أم لا، لا خيار إذ عليك اختيار ما هو هنا ودفعة واحدة لكل ما يتوفر.

يقول البعض إن أجدادنا درسوا وهم يحملون كيساً من القماش “و أكبر بروة قلم الرصاص امتلكوها كانت بحجم الإصبع” متسائلين “لماذا كل هذا البطر الاستهلاكي؟”

إذن لماذا توزع المنظمات الأممية حقائب ملونة للطلاب بدلاً من أكياس طحين قماشية يحولها الأهل لحقائب؟ والموضوع هنا ليس للتندر، بل لتبيان حجم الهوة العميقة التي تصل حد الإدانة لكل من يبحث عن دعم وتطوير العملية التربوية والتعليمية شكلاً ومضموناً لتحقيق هدف التنمية في توسيع خيارات البشرية.

حاول البعض أن يوفر هذه الخيارات شخصياً، فبعض المغتربين أرسلوا مستلزمات مدرسية ملونة وأنيقة لأطفال قريتهم، كما قامت سيدة بإرسال مبلغ مائتي يورو كلفة مواد مدرسية لعشرة طلاب من مدينتها بعد أن وجهت دعوة على صفحتها على وسائل التواصل الاجتماعي، لكافة المغتربين أو القادرين للمبادرة لسد عوز الأطفال الآخرين.

المشكلة قائمة إذن، ولن يحلها قرض أو تقسيط أو منح أو حقيبة توزع أو تصريح يعج بأرقام بلا روح وبلا أفق. زاد من المشكلة أن الدوام المدرسي تزامن مع موسم المونة وفصل الشتاء المُكلفة للأسر السورية المتوسطة الدخل. هذا عدا عن المدارس الخاصة وتكاليفها التي تصل وسطيا إلى الثلاثمائة ألف ليرة سنويا لستة أشهر من أيام الدراسة الفعلية، إضافة لمشكلة تأمين مواصلات لنقل الطلاب في المدارس العامة والخاصة والتي تتراوح كلفتها مابين الخمسة آلاف والعشرة آلاف شهرياً عدا عن سوء هذه الخدمة وفقدان عوامل الأمان وزج الطلاب  وبأعداد مرتفعة في مكان ضيق.

ونحن نحترف غش أنفسنا بأننا نحيا، وبأننا في وضع ممتاز، والرسالة ظاهرة من العنوان، الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون، حتى الحصرم ولد هذا العام محروقا ويابسا، بفعل المطر الحامضي الذي أحرق المواسم كلها، لتصير وجبة الحصرم علقما واخزا وأوهاما  خادعة.

“الإعلام السوري الحكومي “لشو التغيير؟

“الإعلام السوري الحكومي “لشو التغيير؟

في عالم التطور التقني والرقمي ومع اتساع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، مازال الإعلام السوري الحكومي يحبو سعياً للتغير ومواكبة وسائل الإعلام المعاصرة، ورغم الجهود التي يبذلها في سبيل ذلك إلا أنه يبتعد يوماً بعد يوم عن إعادة بناء جسور الثقة التي هُدمت بينه وبين المتلقي المحلي منذ بداية الأزمة في سوريا.

تغييرات عديدة طالت وزارة الإعلام السورية أسوة بالتغيير الحكومي، ورغم تعاقب العديد من المسؤولين على إدارة الملف الإعلامي، إلا أن هذه التغييرات اقتصرت على تغيير الأشخاص وفشلت بإنعاش جثة الإعلام السوري التي رقدت في غياهب الزمن.

ومع التغيير الأخير لوزارة الإعلام، رفعت الوزارة شعارات “مكافحة الفساد الإعلامي” والامتناع عن توظيف من لا يمتلك الكفاءة الإعلامية والمهارات اللازمة للعمل بقطاع الإعلام، كما بدأت بتطبيق نظام “البصمة” لمراقبة حضور والتزام الموظفين، وأخيراً ابتكرت لجنة مختصة تقوم بمهمة “الدعم اللوجستي والتقييم الإداري”، تتبع هذه اللجنة لوزارة التنمية الإدارية . كما أدخلت الوزارة نظام العقوبات والذي ينص على فرض عقوبة تصل لخصم ٥٠٪ من أجر العاملين عند ارتكاب بعض المخالفات أثناء العمل، منها مثلاً التأخر عن موعد الاستراحة المحددة لشرب فنجان قهوة. ويطبق هذا القانون على كل العاملين في المؤسسة من الصحفيين وعاملي التنظيفات.

شغلت هذه التفاصيل الإدارية جوهر خطة التغيير للعمل الإعلامي الحكومي بدلاً من الاهتمام بتغيير المحتوى أو تطوير المضمون وإيصال رسالة إعلامية ترقى لحجم هموم ومتطلبات الشارع السوري. يضاف لهذا منع النقد سواء للحكومة أو للمسؤولين الذين سارعوا إلى تشريع قانون “الجريمة الإلكترونية” للاقتصاص من أي إعلامي تخوله نفسه الإبداء بأي نقد للعمل الحكومي أو فتح ملف فساد يطال شخصيات مسؤولة.

واليوم، بعد مضي ثمانية أشهر على التغييرات الأخيرة في وزارة الإعلام، أطل الإعلام السوري الحكومي بهوية بصرية جديدة. استهدف هذا التغيير الشكل فقط وقد “فشل” بحسب ما وصفه العديد من المشاهدين والعاملين في مجال الإعلام والصورة البصرية، ولم  يلق هذا التغيير صدى إيجابياً لدى المتلقي السوري، الذي أعرض عن متابعة إعلامه المحلي منذ انتشار “الفيس بوك”.

يعود هذا الإعراض لأن الإعلام المحلي فقد مصداقيته خلال الأزمة، وهو يصم آذانه عمن يخالف وجهة نظره أو يوجه له انتقاداً في مكان ما، وبالتالي فإن أي تغيير “للشكل” لا قيمة له مادامت العقليات الإدارية القائمة على الإعلام السوري ثابتة ولم تتقبل لغاية اليوم محاورة من يخالف آراءها رغم الحرب التي تعرضت لها سوريا، علماً أن عقلية المجتمع السوري تغيرت وهناك شريحة من السوريين في الداخل والخارج أصبحت قادرة على تقبل الرأي الآخر ومحاورته بعيداً عن مظاهر العنف والسلاح والإقصاء.

لكن الإعلام السوري المحلي عبر جميع وسائله وقنواته يصر على الاستمرار بعملية التطهير وإقصاء الآخر، حتى إن كان الاختلاف سطحياً كلون صبغة شعره، وهو ما حدث عندما منعت  قناة “الإخبارية ” إحدى الضيفات من الظهور على شاشتها بسبب لون شعرها غير المعتاد.

من المفترض أن تكون الهوية البصرية للإعلام شعاراً يترسخ في أذهان المتلقي فنياً ومهنياً ينطبع في ذاكرة المتلقي خاصة “اللوغو” الذي يمنح كل وسيلة إعلامية هوية فريدة تميزها عن غيرها، ومن المتعارف عليه أن هذا الشعار ثابت لا يمكن تغييره، لكن تجربة الإعلام السوري فريدة من نوعها فمثلاً “قناة الإخبارية السورية” ومنذ انطلاقتها لغاية اليوم غيرت شعاراتها وهويتها البصرية أكثر من ثلاث مرات واليوم وصل هذا التغيير للتلفزيون السوري وقنواته الفضائية، ليصبح لها “لوغو” موحد بألوان مختلفة.

ويشبه هذا اللوغو إلى حد كبير قطعة الكعك الحلو “البتيفور” وهو بعيد كل البعد عن الياسمين الدمشقي، حتى أن بعض المشاهدين ترحموا على لوغو “السيف الدمشقي” الذي ميز انطلاقة التلفزيون السوري.

أثبتت الانطلاقة الجديدة للإعلام السوري فشلها في تحقيق التميّز وإبداع أفكار وبرامج خلاقة قادرة على محاكاة الشارع السوري، ولن نقول العربي أو العالمي، لأن النجاح يبدأ من الداخل وهذا أمر فشل فيه الإعلام السوري الرسمي العام منه والخاص. وبالرغم من العدد القليل للقنوات التلفزيونية السورية إلا أن كل تغيير يجري في وزارة الإعلام، يلغي معه إنجازات السابقين، مثل ما حدث مع “قناة التلاقي” التي أغلقت بزعم قلّة المواد المالية، وقد يتبين لاحقاً بطلان هذه الإدعاءات، وبأن إغلاقها كان قراراً مبنياً على الأهواء والمزاجيات الشخصية.

إعلام حافل بالاستنساخ والتقليد، عاجز عن صناعة رؤيته الخاصة، وقد برهن مع الوقت بأن الخلل لا يتمثل بالكفاءات والمواهب السورية، التي تألقت في منابر الإعلام العربي، وإنما يكمن بالعقلية التي تدير الإعلام السوري والتي آخر صيحاتها استنساخ ما يعرف “بميثاق الشرف الإعلامي”.

أليس الأجدر قبل الغوص بمواثيق الشرف أن تعمل وزارة الإعلام على خلق منابر إعلامية وطنية حرة شاملة لجميع مكونات الشعب السوري بكافة أطيافه، وانتماءاته السياسية والفكرية والثقافية؟

هل يملك الإعلام السوري المحلي الجرأة لاستضافة معارضين وطنيين عبر شاشاته الإعلامية؟ وهل يجرؤ على توجيه نقد بناء لأي مسؤول، بدءاً من القائمين على إدارة الإعلام؟

ماذا عن الإنصات لما يقوله العاملون في أروقة الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون عن الإدارة الجديدة التي أقصت الكوادر القوية واستبدلتها بالموالين والمؤيدين للقائمين على الإدارة الإعلامية؟

أعتقد أن التغيير الحقيقي يبدأ من المضمون والمحتوى وتقبل الآخر دون الاقتصاص منه ومعاقبته، لكن بما أن الإعلام السوري الحكومي لا يمتلك هذه الذهنية فالتعليق المناسب على الرؤية البصرية الجديدة “لشو التغيير؟” هي أن التشويه البصري لا يصنع إعلاماً.