ضربات «النصرة» الاستباقية تعجل تنفيذ الاتفاق الروسي ـ التركي حول ادلب

ضربات «النصرة» الاستباقية تعجل تنفيذ الاتفاق الروسي ـ التركي حول ادلب

تنفيذ التفاهم الروسي – التركي – الإيراني لإدخال إدلب ضمن مناطق «خفض التصعيد»، كان ينتظر أمرين: الأول، اجتماع مجلس الأمن القومي التركي في 22 الشهر الحالي بعد عودة الرئيس رجب طيب إردوغان لإقرار خطة عسكرية تركية لدعم نحو خمسة آلاف من فصائل «الجيش الحر» والتوغل في إدلب بغطاء جوي تركي – روسي وإطلاق «حرب استنزاف» ضد «جبهة النصرة» وحلفائها. الآخر، اتفاق خبراء الأمن والجيش على خريطة انتشار نحو 1500 من المراقبين العسكريين الروس والأتراك والإيرانيين.

لكن «هيئة تحرير الشام» التي تضم فصائل، بينها «فتح الشام» (النصرة سابقاً) استعجلت تنفيذ الاتفاق بضربتين استباقيتين: سياسية، بدأت حملة لتشكيل مجلس مدني في إدلب قرب حدود تركيا وإعلان «حكومة داخلية» لإدارة محافظة إدلب الخاضعة لسيطرة «جيش الفتح» الذي يضم فصائل بينها «النصرة» و«أحرار الشام» منذ ربيع 2015 قبل أن تبتلع الأولى الثانية في الأسابيع الأخيرة. هذه الخطوة وضعت الدول المانحة والمعارضة السياسية السورية في الزاوية؛ ما تطلب اتخاذ موقف جرى التعبير عنه من الحكومة المؤقتة التابعة لـ«الائتلاف الوطني السوري» المعارض برفض هذه «الحكومة» وتشكيل هيئة أركان جديدة لفصائل معارضة.

كما دفعت «الضربة المدنية»، دولاً مانحة للتلويح بتجميد المساعدات والإغاثة عن إدلب التي تضم مليوني شخص، هجر عدد منهم مناطق أخرى. وقال المبعوث البريطاني إلى سوريا غاريث بايلي أمس: إن «قيادة (هيئة تحرير الشام) لم تغير طبيعتها المتطرفة، ويشكل وجودها في إدلب خطراً على الخدمات التي تساعد أهالي المنطقة». وزاد بايلي الذي تشكل بلاده إحدى الدول المانحة في إدلب: «حاولت (هيئة تحرير الشام) التقليل من شأن ارتباطها بتنظيم القاعدة لتقدم نفسها صديقا لأهالي إدلب لتحكمهم من خلال مؤسسات مدنية تشكلها، وهي تسعى لتمويه نفسها وإخفاء نواياها الحقيقية، لكن قيادتها لم تغيّر طبيعتها المتطرفة والتي تشكل تهديدا لكل من يقدّر التعددية ويحترم حقوق الإنسان».

الضربة الاستباقية الثانية من «هيئة تحرير الشام» كانت عسكرية بفتح معركة في الريف الشمالي لحماة المجاور لجنوب إدلب أمس. هدف المعركة هو فتح ممر آمن لـ«هيئة تحرير الشام» من ريف حماة باتجاه شرق حماة، وقد يصل إلى وادي الفرات للالتقاء بـ«داعش» الذي يتعرض لهزيمة مزدوجة في دير الزور من قوات النظام و«حزب الله» وميلشيات إيران بدعم روسي، وفي الرقة من «قوات سوريا الديمقراطية» بدعم أميركا، بحسب اعتقاد مسؤول غربي. وأضاف: «ما حصل أمس عجّل فتح المعركة ضد (هيئة تحرير الشام)».

كان مسؤولون روس وأتراك وإيرانيون عكفوا لأسابيع على عقد صفقة لإدخال إدلب إلى مناطق «خفض التصعيد» بعد اتفاقات غوطة دمشق وريف حمص وجنوب غربي سوريا. وتضمنت المحادثات تبادل معلومات استخباراتية عن مناطق انتشار عناصر «هيئة تحرير الشام» وصفقات تبادل أراض ومناطق سيطرة. وبحسب المسؤول الغربي، فإن الاتفاق الذي أنجز في آستانة قبل أيام تضمن منطقتين: «الأولى، بين سكة الحديد وطريق حلب – حمص، هي منطقة عمليات عسكرية لروسيا ضد (هيئة تحرير الشام) بحيث تضم هذه المنطقة إلى مناطق النظام. الأخرى، بين الطريق وريف اللاذقية غرباً هي منطقة خفض التصعيد». وكان لافتاً تقديم الجانب الروسي خريطة تفصيلية لمناطق انتشار «النصرة» وفصائل قريبة منها، بفضل طائرات الاستطلاع التي لم تغادر أجواء إدلب في السنتين الماضيتين.

ماذا يحصل في منطقة «خفض التصعيد»؟ بحسب المسؤول، تراوحت التقديرات المتطابقة من أن عدد عناصر «هيئة تحرير الشام» يبلغ بين 15 و16 ألفاً. (واشنطن تقدرهم بعشرة آلاف). الخطة تضمنت ثلاثة عناصر: عسكري، تقوم تركيا بحشد قواتها على الحدود لـ«الضغط» على قيادة «هيئة تحرير الشام» لدفعهم لحل التنظيم وإخراج القياديين الأجانب والتابعين لـ«القاعدة» إلى مناطق «داعش». مدني، تشكيل مجلس مدني بعيد من «النصرة» لإدارة إدلب. يختلف عن المجلس الذي تدعمه «النصرة» حالياً. إداري، تحويل فصائل «الجيش الحر» إلى شرطة مدنية تكون مرتبطة بتركيا، كما حصل في مناطق «درع الفرات» شمال حلب.

وكان مقرراً أن ينتشر المراقبون الأتراك بين غرب الطريق وسكة الحديد وريف اللاذقية بعدد يبلغ نحو 500 عنصر. وينتشر ألف عنصر من روسيا وإيران (وربما مصر والعراق وكازاخستان) للفصل بين فصائل المعارضة من جهة وقوات النظام في أرياف إدلب وحلب واللاذقية من جهة ثانية. واتفقت الدول الثلاث على محادثات إضافية لتنظيم مناطق انتشار «المراقبين». وتكفلت روسيا بنقل الملف إلى مجلس الأمن لإصدار قرار يبارك الاتفاق الثلاثي؛ ما سيحرج الدول الغربية، خصوصاً وسط اعتراض واشنطن على الدور الإيراني في عملية آستانة.

ماذا لو لم توافق «النصرة» على حل نفسها؟ قدمت تركيا «خطة ب» وتضمنت نسخ عملية «درع الفرات» التي جرت نهاية العام الماضي شمال حلب وتضمن تحرير ألفي كيلومتر مربع من «داعش». وفي إدلب، تضمنت تشكيل «جيش سوريا الوطني الموحد» ويضم 4 – 5 آلاف مقاتل من 40 فصيلا للقيام بعملية عسكرية ضد «النصرة» وقيام الطيران الروسي والتركي بجولات استطلاعية و«حرب استنزف» لهذا التنظيم والفصائل التابعة له والقيادات والمقرات التابعة لهذه التنظيمات والفصائل. وقال المسؤول: «معركة ريف حماة أمس عجّلت قصف روسيا مناطق المعارضة، بما في ذلك مستشفيات ومراكز للدفاع المدني. كما قامت طائرات تركيا بجولات استطلاع فوق إدلب، وشنّت إحداها غارة على ريف كفرنبل في جبل الزاوية في ريف إدلب».

لكن الملف العسكري الموسع، ينتظر عودة إردوغان إلى أنقرة لترؤس اجتماع مجلس الأمن القومي كي تعطي الحكومة التركية الضوء الأخضر للعملية العسكرية الموسعة بداية الأسبوع المقبل: فصائل معارضة وقوات تركية خاصة على الأرض وطائرات روسية – تركية فوق إدلب. ويساهم تنفيذ هذا الاتفاق في منع «وحدات حماية الشعب» الكردية التي تعتبرها أنقرة «تنظيماً إرهابياً» من التمدد من شمال حلب إلى البحر المتوسط، بحسب قناعة الجانب التركي، وإن كانت بعض المصادر التركية حذرت من «الغرق في المستنقع السوري وردود فعل المتطرفين من شمال سوريا».

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

[This article was originally posted on Aawsat.]

مياه الفرات ترسم خطوط النار بين حلفاء موسكو وواشنطن في سوريا

مياه الفرات ترسم خطوط النار بين حلفاء موسكو وواشنطن في سوريا

تتسابق القوى السورية وداعموها للسيطرة على تركة تنظيم الدولة الاسلامية / داعش في شرق سوريا بعد الانهيارات المستمرة في صفوف التنظيم الذي سيطر على تلك المناطق قبل حوالي اربع سنوات في مشهد يعيد إلى الأذهان ما حدث بعد الحرب الأولى عندما تبارزت كبريات الدول للفوز بحصة الأسد من تركة السلطنة العثمانية المنهارة.

السباق للسيطرة على المساحات الأكبر وآبار النفط الغنية بها المنطقة الشرقية وإن بدا للمتابع العادي بين القوات المحلية السوري فإن الحقيقة ليست كذلك مطلقا فالسباق أولا وأخيرا بطله الولايات المتحدة وروسيا التي نزلت كل منهما الى الميدان السوري ولم تكتف بمناصرة حلفائها سياسيا واقتصاديا.

ومع تقدم المعارك ضد داعش وتوغل الجيش السوري وحلفائه شرقا  يتضح أكثر فأكثر التقسيم الواضح لميدان كل فصيل أو قوة على الأرض الذي اعتمد عليه بخطوطه المتعرجة وفق جريان نهر الفرات حيث اصطلح ( شرق وغرب ) بحيث تكون مناطق شرق النهر مع تعرجات لها لقوات سورية الديمقراطية وغرب النهر للنظام السوري وفق تفاهم روسي امريكي ، فالولايات المتحدة التي تدعم على الارض وفي الجو قوات سورية الديمقراطية لا تريد وجودا للقوات الحكومية السورية شرق نهر الفرات وهذا ما يؤكده المتحدث باسم قوات سورية الديمقراطية العميد طلال سلو بقوله “لن نقبل دخول قوات النظام السوري إلى شرق الفرات.”

قوات النظام السوري التي اجتازت مساحات واسعة في عمق البادية السورية لتصل إلى مدينة دير الزور وتفك الحصار عنها بدت للوهلة الأولى أنها قادمة لاجتياح دير الزور مدينة وريفا قبل أن تغير مسارها وتتجه شرقا دون الدخول في متاهات أحياء المدينة الواقعة تحت سيطرة تنظيم الدولة وفي هذا السياق يقول اللواء في الجيش السوري سليم حربا.. “هدفنا التوجه شرقا لتحرير الميادين والبوكمال على التوالي بالتعاون مع أصدقائنا المتقدمين من الجنوب ما سيسهل علينا المهمة.”

تغيير مسار تقدم قوات النظام السوري تم الكشف عنه والتأكد منه بعد ساعات قليلة فقط على إعلان قوات سوريا الديمقراطية حملة أطلقت عليها “عاصفة الجزيرة” وهدفها بحسب العميد سلو “السيطرة على كل مناطق شرق الفرات بشكل كامل ولن نقبل دون ذلك ابدا.”

هذه التطورات المتسارعة تؤكد مرة جديدة عن تفاهم روسي أمريكي بخصوص مناطق السيطرة في المنطقة الشرقية وترجح فتح ملف مدينة الطبقة مجددا وتسليمها لقوات النظام السوري مع العديد من القرى والبلدات جنوب الرقة ليتحقق بذلك تقسيم مناطق النفوذ شرق سوريا بمسار نهر الفرات حصرا وجعله حاجزا مائيا طبيعيا. ويقلل اللواء حربا من أهمية عاصفة الجزيرة وخطورتها ويبرر في الوقت نفسه عدم تقدم الجيش داخل مدينة دير الزور أي غرب النهر بالقول.. “الأولوية الآن للريف الشرقي حيث مدينة الميادين والبوكمال وبالتالي قطع خطوط الإمداد بين التنظيم في المنطقة.” ويقر اللواء حربا بوجود شبه تفاهم على التقسيم بين غرب النهر وشماله معتبرا أن هذا الأمر ستتم معاجلته بطرق أخرى في وقت لاحق ملمحا إلى أن العشائر العربية التي تشكل السواد الأعظم من سكان غرب الفرات ستكون السلاح بيد النظام السوري لاستعادة السيطرة على هذه المنطقة وإنما في الوقت المناسب.

تفاهمات روسيا وأمريكا لا ترضي قوات سورية الديمقراطية الحليف الامريكي على الارض ورأس حربته لقتال داعش وحجة محاربة الارهاب، واطلاق حملة عاصفة الجزيرة يبدو لقطع الطريق على القوات الحكومية السورية وحلفائها من عبور نهر الفرات بعد نقل قاعدة حميميم جسوراً متحركة لنصبها في بعض مناطق دير الزور ويؤكد هنا نوري معمو وهو متحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية أنه “ليس هناك خط فاصل بين اي قوة في سوريا نحن نحارب ارهاب داعش نعمل على انهاء هذا الارهاب من اجل تهيئة الارضية من اجل حوار الديمقراطي” معتبرا أن في الوقت نفسه أن قوات قسد لن تنسحب من اي مكان لصالح اي قوة “لأننا نعمل من اجل سورية موحدة لكل الشعوب والثقافات والمعتقدات الموجودة فيها”.

حملة يشكك البعض في قدرتها على قتال داعش الذي يكون قتاله هذه المرة مسألة حياة او موت فلا منطقة امامه للانسحاب اليها بعد وصول الجيش السوري وحلفائه الى مدينة دير الزور والخطط العسكرية لمعارك الريف الشرقي وضعت ، وترى اوساط في المعارضة السورية في تركيا أن ” الهدف من عملية عاصفة الجزيرة اعلامي بل تنسيق روسي امريكي (النظام السوري – قسد) لتشتيت عناصر داعش في اربعة جبهات هي الرقة وريفها الجنوبي ومعركة مدينة دير الزور ومعركة شرق نهر الفرات وعدد القوات المشاركة في عاصفة الحزم لا تتجاوز 700 عنصر على الاكثر والهدف منها ليس تحرير ريف دير الزور شرق النهر ( الجزيرة ) بل حماية القاعدة الامريكية في مدينة الشدادي في ريف الحسكة الجنوبي وابعاد خطر داعش عنها قدر الامكان.”

بعدسة خليل الهملو: دير الزُّور

وترى اوساط المعارضة ان “وصول تلك القوات الى اطراف مدينة دير الزور ودخولها المدينة الصناعية بسبب الضربات الجوية التي تشنها الطائرات الامريكية تحرك بموازاة نهر الفرات  شرقاً ربما يكون بالتوازي مع تقدم الجيش السوري” الا ان محافظ دير الزور محمد سمرة يعتبر وصول الجيش السوري الى مدينة دير الزور وكسر الحصار عنها  “مهمة الجيش هي تحرير كل شبر من محافظة دير الزور شرقاً باتجاه الحدود السورية العراقية وعلى ضفتي نهر الفرات وبالنسبة لقوات سورية الديمقراطية والقوى الاخرى التي لها علاقات مريبة وارتباط مع التحالف الدولي وسوف يتم معالجة موضوع قوات سورية الديمقراطية والقوات الاخرى ولكن الجيش له اولويات اخرى حالياً.”

ضبابية المشهد واستمرار العمل الروسي الأمريكي في الكواليس من تحت الطاولة لم يستطع أن يخفي تفاصيل تفاهم إن لم نقل اتفاق موسكو وواشنطن وظهر ذلك بوضوح في نشر شرطة عسكرية روسية قبل أيام في بلدة تل رفعت وهي غرب النهر المتنازع عليها بين القوات الحكومية السورية وقسد وكتائب درع الفرات التابعة للجيش الحر وفق تفاهمات روسية امريكية.

اللهجة الحادة لتصريحات قوات سوريا الديمقراطية عن غرب الفرات تسببت بامتعاض النظام السوري الذي يحرص على التأكيد أنه لن يتوقف عند حد معين وسيتقدم في جميع الأراضي السورية وآخر هذه التأكيدات جاءت على لسان نائب وزير الخارجية فيصل المقداد “لا يوجد ما يمنع الجيش من الوصول إلى أي مكان يريد وكل مساحة سوريا هي مقدسة وسوريا ستبقى واحدة.”

هذه التصريحات رد عليها مصطفى بالي أحد المتحدثين باسم “قسد” نحن لا نؤمن بالحدود داخل بلادنا وسنلاحق الإرهاب إينما كان، والنظام جزء من المشكلة وليس جزء من الحل وقوات سوريا الديمقراطية لا تنسحب من المناطق التي حررتها بدماء مقاتليها.”

ويبدو التفاهم الامريكي الروسي واضحاً في محافظة الرقة التي ابتعدت القوات الحكومية جنوب مدينة الطبقة 50 كم غرب مدينة الرقة والتي تسيطر عليها قوات قسد وعندما تقدمت تلك القوات شمال مدينة الرصافة الاثرية 20 كم جنوب مدينة الطبقة في ريف الرقة الغربي حذرت الطائرات الامريكية تلك القوات التي واصلت تقدما باتجاه بلدة المنصورة 10 كم جنوب شرق الطبقة ما دفع مقاتل اف 16 الامريكية لإسقاط طائرة حربية سورية نهاية شمر تموز / يوليو الماضي الامر الذي دفع دمشق لوقف تقدم قواتها شمالاً والتوجه شرقاً الى ريف الرقة الجنوبي الشرقي ( غرب الفرات ).

مجمل التطورات والتصريحات تؤكد أن المعارك ضد داعش سواء من قوات النظام أو قسد خلال الأيام والأسابيع القادمة ستكون متسارعة الخطى وهذا ما سيسرع بالكشف عن المزيد من الحقائق عن التفاهم الأمريكي الروسي حول تقسيم شرق وغرب الفرات على الأقل في المرحلة الراهنة وربما بانتظار تفاهمات سياسية أخرى تجري في أروقة استانا وجنيف أو موسكو وواشنطن.

الغرب والسوريون: مبيعات الأسلحة الأمريكية والأوروبية للشرق الأوسط 2011- 2014

الغرب والسوريون: مبيعات الأسلحة الأمريكية والأوروبية للشرق الأوسط 2011- 2014

كَثُر الحديث في أوروبا والولايات المتحدة في العامين المنصرمين حول أعباء استضافة اللاجئين السوريين وغير السوريين، بينما غاب ذكر منحى آخر من تورط البلدان الأجنبية في الصراع ألا وهو حجم مبيعاتها للسلاح في الشرق الأوسط. فبين عامي 2011 و2014، وبناءً على تقديرات متحفظة، فقد كسبت أوروبا 21 بليون يورو من صفقات تجارة السلاح إلى الشرق الأوسط بينما اَنفقت 19 بليون على استضافة ما يقارب مليون لاجئ سوري. يجدر هنا السؤال: بالرغم من إدراكهم تبعات تدفق السلاح في إطالة الحرب، هل إختار السياسيون الغربيون المقايضة بين جني الأرباح لصالح صانعي السلاح مقابل تحميل دافعي الضرائب نفقات استضافة اللاجئين؟

على امتداد حقبة الحرب السورية، سهلت الدول الغربية الحصول على السلاح الغربي المنشأ لكافة فصائل المعارضة السورية التي تقاتل النظام السوري من جهة، ومن أجل تصفية الحسابات بين تلك الفصائل من جهة اخرى. على سبيل المثال، ذكرت تقارير صادرة في عام 2012 بأن الجماعات السورية استخدمت أسلحة سويسرية الصنع كانت بالأصل مباعة إلى الإمارات العربية المتحدة. ونتيجة لتلك التقارير خفضت بيرن من تصدير سلاحها إلى الإمارات من 132 مليون يورو عام 2012 إلى 10 ملايين يورو في العام 2013، لكنها عادت فزادت من صادراتها إلى 14 مليون يورو في العام 2014 . كذلك تم نقل أسلحة مصنعة في بلجيكا إلى مختلف الفصائل المتحاربة على الأرض السورية.

سويسرا التي تفخر بكونها رمزا للحِياد، بلغت فيها عائدات السلاح المُصَدر إلى المنطقة ما بين عامي 2011 و 2014 ضعف ونصف الضعف مما أنفقته على إيواء 13,000 لاجئ سوري على أراضيها. الأمر ذاته ينسحب على بلجيكا حيث بلغت مبيعات السلاح فيها إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ما يقارب 1.18 بليون يورو، بينما أنفقت بما قيمته 0.71 بليون يورو فقط على إيواء 16,000 لاجئ سوري على أراضيها. سيُظهر هذا التقرير لاحقا أن هذه النسب كبيرة بشكل مذهل عند باقي الدول المنتجة للسلاح.

تهدف هذه الدراسة الموجزة إلى تقييم مبيعات السلاح الرسمية إلى الشرق الأوسط بين عامي 2011 و2014. ستركز الدراسة على الصفقات المبرمة مع الأردن والإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت والسعودية وتركيا، تلك الدول التي كانت لها علاقات مقربة مع الفصائل السورية المعارضة. سيتم مقارنة عائدات بيع السلاح مع تكلفة إيواء اللاجئين السوريين الذين ينشدون الحماية في تلك الدول التي كانت ومازالت تساهم في تصدير السلاح 1-آخذين بعين الإعتبار أن مقارنة بيع السلاح مع إيواء اللاجئين لا تشرعن أو تخفف من عدم أخلاقية تلك التجارة. سنقوم بجدولة منتجي السلاح والدول المستوردة له تحت شعار “أصدقاء سورية” بالإشارة إلى المجموعة التي تم تشكيلها عام 2012 من قبل الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي والتي ضمت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا وتركيا والإمارات العربية المتحدة وقطر والسعودية ومصر والأردن وندرج باقي الدول المصدرة تحت “أوروبا الشرقية”. لا بد من التنويه هنا أن الدراسة تركز على البلدان الغربية ليس لأنها المسؤولة الوحيدة عن تجارة السلاح، و لكن بسبب صعوبة الحصول على مصادر موثقة عن صادرات السلاح من الصين وروسيا وايران. وسنسعى إلى تزويد بعض التقديرات المعقولة بحسب البيانات المتوفرة. غير أن عدم الأخذ بهذه الأرقام في حساباتنا لن يؤثر على الفكرة الأساسية لهذه الدراسة وهي العلاقة المتوقعة بين تدفق السلاح الغربي إلى منطقة الشرق الأوسط وموجة اللاجئين .

اعتَمدت هذه الدراسة على التقارير الوطنية الرسمية التي تحصي قيمة السلاح المرخص للتصدير وليس السلاح الذي تم بالفعل إنتاجه وشحنه إلى الدول المستوردة. يَكمُن الفرق هنا بأنه قد تتم الموافقة على رخص التصدير في عام محدد بينما قد يتأخر التسليم لعدة أعوام وذلك نتيجة دورة إنتاج السلاح. إضافة إلى ذلك، نشير إلى أن أرقام مبيعات السلاح الرسمية هي تقديرات متحفظة مع العلم أن اثنين بالمائة على الأقل من تجارة السلاح هي غير معلنة وتتم بصفقات من خلف الستار. و كما سنُظهر لاحقا، فإن هناك أدلة قوية تشير إلى أن بعض البلدان تُصَدر السلاح إلى الشرق الأوسط دون أن ينعكس ذلك في سجلاتها الرسمية.

في تقدير تكلفة إيواء اللاجئين اعتبارا من نيسان 2011 (2)، افترضنا أن الحكومات استمرت بدعم اللاجئين بدءا من قبول لجوئهم ولغاية نهاية فترة إعداد هذه الدراسة (تموز 2016) 3. كذلك، بحال عدم توفر البيانات الدقيقة لبعض الدول حول تكلفة استضافة اللاجئين، تبنينا التكلفة الأسبانية لإيواء الفرد علما أن التكاليف المعيشية في جنوب أوروبا تقارب مثيلاتها في أوروبا الشرقية 4. سوف نبني النقاش استنادا
إلى الجداول والرسومات البيانية والملحقات التالية المعدة من قبل المؤلف 5.

الجدول رقم 1 : تصنيف الدول

تصنيف الدول-التي تتعدى صادرات السلاح فيها 100 مليون يورو أو تلك التي يتجاوز طالبو اللجوء فيها 100,000 من حيث نسبة الدخل من تجارة السلاح بالمقارنة مع الإنفاق على اللاجئين في تلك الدول .

[1] بالنظر إلى أرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فإن صربيا قد سجلت رقما كبيرا وصل إلى 300 000 طلب لجوء بين عامي 2011 و 2016. يبدو أن الوضع في بلغراد يمثل حالة خاصة نجمت عن أن دول الجوار مثل هنغاريا وكرواتيا -المتموضعتين على طول الطريق المؤدي إلى أوروبا الغربية قد أغلقوا حدودهم مما لم يترك الخيار لصربيا إلا أن تقبل اللاجئين المتواجدين على أراضيها. بالمقارنة وتبعا لما قاله وزير الداخلية ستيفانوفي، هناك 500 لاجئ فقط طلبوا اللجوء، و250 اختاروا البقاء. بالرغم من ذلك، فإن تقارير منظمة العفو الدولية تشير إلى أن أعداد الأشخاص الذين تم ايقافهم وهم يعبرون الحدود الصربية- الهنغارية قد ارتفع أكثر من 2500% بين 2010 و 2015 ( من 2,370 إلى 60,602 ). نجم ذلك عن قفزة حادة في أعداد طالبي اللجوء في صربيا. لمواجهة هذه الأعداد، أعلن الاتحاد الأوروبي بأنه سيدعم صربيا بأكثر من 3.8 مليون يورو وذلك لتوسعة الملاجئ المؤقتة والأعتناء بالنفايات والصرف الصحي والحاجات الأخرى. مؤخرا صرح الرئيس الصربي توميسلاف نيكولك بأن صربيا تتوقع إيواء بين 5000 و 6000 مهاجر (من مختلف الجنسيات)، مشيرا أنه كما لم يكن الاتحاد الآوروبي غاضبا من هنغاريا على طريقة تعاملها مع المهاجرين،ف لن يكون غاضبا من صربيا أيضا.

[2] تظهر الإحصائيات الرسمية في كندا قيمة المعدات العسكرية المصدرة فعليا وليس رخص التصدير لتلك المعدات كما يتم في باقي الدول تحت الدراسة. يعكس ذلك أرقاما أصغر من باقي البلدان. لقد أضحت كندا في الواقع، ثاني أكبر مصدر إلى الشرق الأوسط في عام 2015 بعد الولايات المتحدة.

تبعا للحسابات التي أجريناها، فقد أنفقت أوروبا والولايات المتحدة وكندا منذ عام 2011 ما قيمته 20.1 بليون يورو لاستضافة مايقارب المليون لاجئ سوري خلال خمس سنوات. في الوقت ذاته، أمعنت مصانع السلاح الغربية بتزويد المعدات العسكرية إلى الشرق الأوسط والتي ذهب جزء كبير منها إلى الحرب السورية. وقد علق مدير المكتب الأوروبي للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR على هذه النقطة بنعت صناعة السلاح بانها “ تقتل وتخلق لاجئين“.

“أصدقاء سورية” أو الأنصار التقليديون لصناعة السلاح

المصدر الأول للسلاح في الشرق الأوسط يبقى بلا منازع الولايات المتحدة، و هي ترى نفسها الأقل اهتماما بالكوارث التي تسببها عبر الإقليم. ولأسباب جغرافية على أقل تقدير، فان أمواج اللاجئين الفارين من الصراعات في سوريا و الشرق الأوسط عموما، تبدو أيضا بعيدة عن الشواطئ الأمريكية! تأتي الديمقراطيات الأوروبية الرائدة في الدرجة الثانية بعد الولايات المتحدة في توريد السلاح للمنطقة (لغاية 2014) وهي سريعة في تلبية حاجة مشتري السلاح الكبار في الشرق الأوسط. وفي هذا الشأن، عندما يتعلق الأمر بتجارة السلاح، يبدو أن القانون الدولي والقوانين القومية بالغة المرونة في مصلحة إتمام الصفقات .

مع بداية ما يسمى “الربيع العربي”، أظهرت الحكومات الغربية ابتهاجها لانتشار الديمقراطية في الشرق الأوسط. بالرغم من ذلك، بعد عام واحد من إشراقة “الربيع العربي”، زادت تراخيص بيع السلاح للمنطقة من الإتحاد الأوروبي بنسبة 22% ومن الولايات المتحدة بنسبة 300%. أما الأنظمة الخليجية القلقة من المد الذي اجتاح المنطقة، فقد أطلقت حملة “الثورة المضادة” وانضم الغرب لدعم هذه الحملة وتزويدها بالتجهيزات العسكرية (من ضمن مساعدات أخرى). والحرب في سورية لم تُستثن من ذلك.

لقد تم انتقاد إدارة أوباما من جهات عدة لعدم تدخلها الفعال في سورية، فقد كان التدخل الرسمي المعلن للإدارة يدعي التركيز فقط على توريد السلاح غير القاتل إلى جماعات المعارضة. غير أن واشنطن تقوم بتوريد السلاح القاتل إلى شركائها العرب ، وتوافق في الوقت ذاته على إيصال هذه المعدات لسورية كموقع تسليم نهائي. وبالتالي، فان صواريخ تاو، المصنوعة في أميركا، والتي تم بيعها سابقا إلى السعودية وتركيا غالبا ما كانت تظهر في مقاطع فيديو يَنشرها مسلحون في سوريا .

بالنظر إلى الأرقام، فإن دول “أصدقاء سورية” قد غنمت ما قيمته 31.88 بليون يورو من مبيعات الأسلحة إلى الأردن والإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت السعودية وتركيا، بينما أنفقت ما قيمته 10.45 بليون يورو على إيواء اللاجئين السوريين. باستثناء الأرقام الألمانية، فإن الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا غنمت 27.92 بليون يورو من مبيعات السلاح مقارنة بما قيمته 1.18 بليون يورو اُنفِقَت على اللاجئين، أي أن هذه الدول كسبت 23 ضعفا من مبيعات السلاح.

يطرح المسؤولون في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية أسبابا عدة لتبرير مبيعاتهم للسلاح. بالنسبة للمستشارة الألمانية، سوق السلاح هو شأن استراتيجي: فقد دافعت عقيدة ميركل عن تصدير السلاح بحجة أنه أداة أساسية لحفظ السلام في البلدان التي لا يوجد فيها لألمانيا وجود فعال لكن حيث لها مصالح راسخة. وبناء على ذلك فقد طَلبت المستشارة باستمرار تسليم السلاح حتى يتمكن هؤلاء الحلفاء من إنجاز الأهداف المشتركة. أدى هذا، و في زمن المستشارة ميركل، إلى إتمام صفقة غير مسبوقة مقارنة بالحكوما ت المتعاقبة، وذلك ببيع 270 دبابة حديثة إلى السعودية، مع موافقة ضمنية من إسرائيل. علاوة على ذلك، بينما يدعي مراقبون ألمان أنه بحال امتنعت ألمانيا من توريد السلاح فستحل مكانها دول أخرى، فقد ناقش الصحافي الألماني يورغن غراسلين بأن عكس ذلك هو الصحيح: عندما رفض البرلمان الهولندي تصدير دبابات ليوبارد المستعملة إلى اندونيسيا، سارعت ألمانيا ووافقت على إتمام الصفقة ذاتها. وبالتزامن، فقد دعت مجموعات معارضة في ألمانيا إلى حظر شامل لمبيعات السلاح إلى السعودية بناء على انتهاكاتها في مجال حقوق الإنسان. دفع هذا ميركل ووزير الاقتصاد سيغمار غابرييل إلى إجراء “مراجعة نقدية” لمبيعات السلاح إلى الرياض وقرر في عام 2015 حصر الصادرات إلى السعودية بالأسلحة ذات الطابع الدفاعي فقط، متضمنة بذلك المركبات المدرعة الرباعية وأنظمة التزود بالوقود في الجو وقطع المقاتلات النفاثة وزوارق المراقبة والطائرات بدون طيار. بالرغم من حجم هذه المراجعات، ازدادت الصادرات الألمانية إلى السعودية من 179 مليون يورو إلى 484 مليون يورو في النصف الأول من عام 2016. إن استيعاب ألمانيا للجزء الأكبر من اللاجئين السوريين (نحو 400,000) لا يمنحها صك البراءة من الاستفادة من النزاعات في الشرق الأوسط وإطالة أمدها نتيجة توريد السلاح. إن عدم التطرق إلى هذه الحقيقة يكون مشابها ببيع الهيروين بالقرب من المدارس من ناحية، والتبجح في تحمل نفقات إعادة تأهيل بضعة أطفال من الإدمان من ناحية أخرى.

من الأسباب الأخرى التي تم التذرع بها لاستمرار تصدير السلاح هو التهديد الذي سيطال اليد العاملة المحلية بحال تطبيق القيود على تصدير السلاح. وتضافرت مراكز الأبحاث التابعة لتجارة السلاح مع وسائل إعلام التيار الرئيسي في دعم صريح لبيع السلاح: فقد أبدى مذيع الأخبار المخضرم وولف بليتزر من شبكة CNN الإخبارية قلقا غريبا من إمكانية إيقاف مبيعات السلاح إلى السعودية: ففي نظره، تبعات فقدان الوظائف لدى متعهدي الدفاع الأمريكيين تفوق أية حجة أخلاقية قد تثار في دعم السعودية في جرائم حربها في اليمن. وبغض النظر عن الناحية الأخلاقية، فإن وولف بليتزر يبالغ بتقدير إمكانية مصانع السلاح في خلق فرص العمل. في الواقع، في العديد من البلدان،يعاني قطاع صناعة السلاح لولا الدعم الحكومي : ففي ألمانيا مثلا، يعمل في صناعة السلاح 100,000 شخص بينما في قطاع الطاقة المتجددة، حيث يمكن استيعاب نفس المهارات، يتم خلق 300,000 فرصة عمل سنويا. وفي الولايات المتحدة، فإن تخصيص الإنفاق العام في الطاقة المتجددة اوقطاع الصحة اوالتعليم من شأنه أن يخلق فرص عمل أكثر ب 50 إلى 140 بالمائة مما لو كانت أُنفقت في القطاع الحربي.

من المُستغرب أن مسؤولين غربين آخرين يؤيدون بيع السلاح على أسس إنسانية: فقد قال وزير الخارجيةالبريطانية بوريس جونسون بأنه في حال توقفت بلاده عن تزويد السعودية بالسلاح، “فإن هناك عددا من الدول الغربية الأخرى سوف يسعدها أن تقوم بتزويدها دون أن يكون لديها معايير أو أي احترام للقانون الإنساني كما في بريطانيا”. أما بالنسبة لتقارير استخدام السعودية للأسلحة في جرائم حرب، فقد ادعى بعض الوزراء البريطانيون بشكل مثير للدهشة بأن التحقيقات الحكومية في السعودية (التي برأت الجيش السعودي) كافية ولا تستدعي المزيد من التحقيقات. وراح مسؤولون آخرون إلى أبعد من هذا في تبريراتهم، فقد قال مؤخرا وزير التجارة الأسبق في بريطانيا فينيس كابيل بأنه قد غرر به من قبل وزارة الدفاع ليوقع عقد بيع صواريخ بافواي 4 الموجهة بالليزر إلى السعودية لتستخدمها في قصفها لليمن. وقد أوقف فينيس كابيل الصفقة في البداية نظرا للمخاوف التي تشمل قتل المدنيين، لكنه عاد فسمح بها عندما وُعد بأنه سيتم التدقيق على الأهداف المحتملة، الشيء الذي تنفيه الآن وزارة الدفاع.

أخيرا، بالنسبة لبعض الساسة الأوروبيين، فإن مسألة تصدير السلاح يتم البت فيها على أساس نقدي بحت. فقد تفاخر رئيس الوزراء البريطاني السابق دايفد كاميرون بجهوده لمساعدة بيع “أشياء بارعة” مثل المقاتلات يوروفايتر تايفون إلى الرياض، في ذات اليوم الذي صوَت فيه البرلمان الأوروبي على حظر السلاح على السعودية نتيجة لقصفها اليمن. سارت خليفته تيريزا ماي على الخطى ذاتها في تصدير السلاح وقالت إن العلاقات الوثيقة بين لندن والرياض قد لعبت دورا حاسما في مكافحة الإرهاب وأن التعاون مع النظام السعودي “سيساعد على إبقاء الناس في شوارع بريطانيا بأمان“. ومن السخرية، أن السياسيين الذين يستخدمون واقع تدفق اللاجئين كأداة لزرع الخشية بين المواطنين، هم في الوقت ذاته الأكثر حماسا لصناعة الأسلحة: لا يسعنا هنا إلا استذكار رئيس حزب استقلال المملكة المتحدة UKIP في بريطانيا، نايجل فراج.

فيما يتعلق بفرنسا، تبدو العلاقات مع السعودية وطيدة على الدوام وقد قلد الرئيس هولاند الأمير محمد بن نايف وسام جوقة الشرف وذلك لقاء جهود الرياض ” في مكافحة الإرهاب والتطرف”. بحصيلة مبيعات السلاح التي فاقت 3 بليون يورو إلى السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت والأردن وتركيا، تكون فرنسا 6 قد أنفقت أقل من عشر هذا المبلغ (0.31 بليون يورو) على إيواء ما يقارب 12,000 لاجئ سوري. بالنسبة إلى إيطاليا، فقد اقترح رئيس الوزراء ماثيو رينزي إعفاء مصنعي المعدات العسكرية من دفع ضريبة القيمة المضافة وأن يتاح لهم التقديم على منح للأبحاث من الاتحاد الأوروبي. أحرزت إيطاليا رقما مذهلا بنسبة 24 ضعفا بين عائدات بيع السلاح وما أنفقته على 3,300 لاجئ سوري.

إن غالبية القادة الغربيين في البلدان المتقدمة في صناعة السلاح يدافعون بفخر عن شركاتهم المصنعة للسلاح. ويبدو إما أنهم مرتاحون لما يجري أو غافلون بسذاجة عن أية علاقة بين تصدير السلاح واللاجئين… فهم يرتعدون خوفا أمام أمواج اللاجئين غير المسبوقة على حدودهم. ولا بد أن نسأل: ماذا كان يمكن أن يتوقعوا؟

الأصدقاء الجدد، أو إحياء صناعة الأسلحة في أوروبا الشرقية

فتحت دول أوروبا الشرقية أبوابها على مخازن السلاح في يوغوسلافيا السابقة وأحيت صناعة الأسلحة المحلية لديها وذلك نتيجة الارتفاع الكبير في وتيرة تصدير السلاح إلى الشرق الأوسط. لكن وفي الوقت ذاته، فقد أبدت هذه الدول قدرا كبيرا من العنصرية حول اللاجئين الفارين من الحروب .

نشرت شبكة التحقيقات الصحافية البلقانية (BIRN) مع الOCCRP في تموز من عام 2016 تقريرا يفيد بأن بلدان أوروبا الشرقية الثمانية (البوسنة، بلغاريا، كرواتيا، تشيكيا، الجبل الأسود، سلوفاكيا، صربيا ورومانيا) قد وافقت على تصدير أسلحة وذخيرة منذ عام 2012 بما يقارب 1.2 بليون يورو إلى السعودية (806 مليون يورو)، الأردن (155 مليون يورو)، الإمارات العربية المتحدة (135 مليون يورو) وتركيا (87 مليون يورو).

يشير هذا التقرير أن صادرات هذه البلدان يتم توزيعها من قبل السعودية على حليفتيها الإقليميتين، الأردن وتركيا، اللتين تشرفان على مركزين لنقل السلاح عن طريق البر أو الجو إلى سورية. و بالتدريج، بدأت الأسلحة المصنعة في يوغوسلافيا السابقة تظهر بين أيدي العديد من المنظمات المسلحة حول مناطق النزاع في سورية. وقد تم توثيق توزيع هذه الأسلحة خلال حقبة النزاع من قبل اليوت هيغنز تحت اسم مستعار براون موزيس.

وفقا لذلك، أصبحت بلغراد وزغرب وبراتسلافا وصوفيا محاور رئيسية لتصدير السلاح إلى منطقة الشرق الأوسط. ففي العام 2015 بالتحديد، وافقت صربيا على تراخيص لتصدير ما قيمته 135 مليون يورو من السلاح إلى السعودية. بينما تم رفض طلبات مشابهة في عام 2013 وذلك تحت ذريعة الخوف من انتقال هذه الأسلحة إلى سورية. بناء على التقارير الصربية الرسمية، فان إجمالي قيمة تراخيص السلاح إلى السعودية التي تم رفضها في عام 2013 قد بلغت 22 مليون دولار7. وفي عام 2013 رفضت أيضاً الحكومة الصربية أربعة طلبات استيراد صفقات سلاح ومعدات عسكرية من المملكة المتحدة وبلغاريا وبيلاروسيا وجمهورية التشيك بما قيمته 9.9 مليون دولار كان من المزمع إعادة بيعها (عن طريق صادرات) إلى السعودية 8. بعد تحقيق أجرته شبكة الصحفيين الاستقصائيين في البلقان BIRN ظهر رئيس الوزراء الصربي الكسندر فوتتش في مؤتمر صحافي في آب 2016 وقال بأنه من خلال عمله كوزيرا للدفاع في عام 2013، كان “من الممكن” أن يكون قد تسلم تقارير استخباراتية بأن هذه الأسلحة قد تنتهي في سورية. وتابع قائلا: “لا تسألوني ماذا تغير. ففي عام 2015 لم أكن وزيرا للدفاع ولا أعلم [ماذا جرى]. وسوف أتحقق من ذلك”. وكان فوتتش صريحا في معرض قوله عن فوائد تجارة السلاح عندما قال في 2016: ” أنا أعشق عندما نصدر السلاح، يكون هذا تدفقاً للعملات الأجنبية”.

في العام 2015، ذكرت مؤسسة الإذاعة والراديو الوطنية في براتسلافا بأن “سلوفاكيا صدرت إلى السعودية 40,000 بندقية وأكثر من 1,000 مدفع هاون و14 قاعدة لإطلاق الصواريخ وما يقارب 500 مدفع رشاش ثقيل وأكثر من 1,500 RPG”. ودافع رئيس الوزراء عن صفقة السلاح هذه بقوله “إذا لم نبع لهم السلاح، فإن غيرنا سيبيعه، لكن لاتأتوا إلي متباكين إذا سبب النقص في الصفقات فقدان الوظائف”. رحبت سلوفاكيا فيما بعد بعدد ملفت من اللاجئين السوريين: 64 لاجئ فقط مما رتب عليها تكاليف بلغت 400 ألف يورو. بذلك يمكن لسلوفاكيا أن تحرز قصب السبق من حيث نسبة كلف اللاجئين إلى عائدات بيع السلاح والتي بلغت 284 ضعفا.

أظهرت البيانات الرسمية أن كرواتيا قد باعت بين 2013 و2014 بأكثر من 155 مليون يورو من الذخيرة والأسلحة الصغيرة إلى السعودية و أكثر من 115 مليون دولار إلى الأردن . وفقا للبيانات الرسمية لا يوجد تاريخ تجارة أسلحة بين كرواتيا و الأردن ففي الماضي اقتصرت هذه التجارة على بيع 15 مسدسا بقيمة 1053 دولار في 2001 إلى عمان. وفي حين لا تشير البيانات الرسمية إلى أي صادرات في 2012 بين كرواتيا و الأردن، وفق النيويورك تايمز تم تسجيل 36 رحلة جوية مكوكية بين العاصمتين خلال الفترة بين كانون الأول 2012 وشباط 2013 حيث نقلت طائرات الشحن الأردنية مشتريات سعودية ضخمة من زغرب إلى عمان. و وفقاَ لمشروع التغطية الصحفية لأخبار الجريمة المنظمة والفساد OCCRP فاقت قيمة الصادرات غير الرسمية إلى الأردن 6.5 مليون دولار في شهر كانون الأول 2012. يمكن بذلك أن نفترض بثقة عن واقع بيانات رسمية متحفظ جدا و عن وجود صفقات تتم من تحت الطاولة دون التصريح عنها البتة.

في السياق ذاته و كنقطة إضافية حول القوى غير المباشرة والفاعلة على المسرح السوري، فإن مجموعة CPR Impex 9 الصربية والشركة الإسرائيلية ATL Atlantic Technology قد اشتروا شركة الجبل الأسود لصناعات الدفاع MDI في شباط 2015 . واعتبارا من آب 2015 أبرمت MDI عدة صفقات تصدير أسلحة إلى السعودية شملت 250 طناً من الذخيرة و 10,000 من الأنظمة المضادة للدروع بما يفوق 2.7 مليون يورو. ونلفت الانتباه بأنه قبل 2015 ومنذ 2006 (تاريخ توفر التقارير)، لم تنجز الجبل الأسود أية صفقة أسلحة ذات أهمية مع الشرق الأوسط إلا لإسرائيل و اليمن في العام 2010.

أما بلغاريا، فقد سجل أكبر منتج حكومي للسلاح، مصنع VMZ-Sopot أرقاما قياسية : بعد أن أشهر إفلاسه عام 2008، راح المصنع يعمل بكامل طاقته منذ 2015 مسددا بذلك ديونه البالغة 11 مليون يورو ووفر من العام المذكور 1,200 فرصة عمل جديدة. إضافة إلى ذلك، فقد نمت المبيعات من قرابة 19 مليون يورو في النصف الأول من عام 2015 إلى 86 مليون يورو في النصف الأول من 2016. ارتفعت الأرباح الصافية لمصنع VMZ-Sopot إلى حوالي 600,000 يورو بعدما كان مديناً بمبلغ 35 مليون يورو. في حين استقبلت بلغاريا 18,000 لاجئ سوري، أظهر تقرير صادر عن المؤسسة الألمانية للاجئين بعنوان “الإذلال وسوء المعاملة وعدم الحماية” حقائق صادمة عن طالبي اللجوء في بلغاريا، حيث يتعرض اللاجئون لمعاملة غير إنسانية ومهينة من قبل الشرطة وحراس السجون متضمنا ذلك الابتزاز والتعذيب.

أما روسيا، وهي مورد أساسي للسلاح للحكومة السورية، فالبرغم من محدودية مصادر البيانات- نعلم أنه على الأقل 10 % من صادرات السلاح الروسي ذهبت إلى سورية: “يقال إن روسيا لديها عقود سلاح مع سورية بقيمة 1.5 بليون دولار لأنظمة صواريخ متعددة ولتحديث الدبابات والطائرات، و بهذا تضاعفت هذه الاستثمارات في الأسلحة الصغيرة منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية”. علاوة على ذلك، فإن التدريبات العسكرية الروسية التي تُزود بها سورية منذ بداية الصراع يجب أن تُؤخذ بالحسبان. وبالرغم من الدور المباشر الذي لعبته روسيا في الحرب السورية، فقد قبلت 1395 لاجئا سوريا فقط بشكل لجوء مؤقت، و حتى انها رحلت أحد اللاجئين لديها.

من خلال انتقال كميات من السلاح ليست بالقليلة إلى الجماعات السورية اكتسبت بلدان أوروبا الشرقية دورا غير متوقع لكن هام في الحرب السورية. وبالرغم من ذلك، فقد سارعت هذه البلدان بدفع اللاجئين باتجاه أوروبا الغربية بعد أن أخذوا حفنة مضحكة من طالبي اللجوء على أراضيهم.

 نقاش مضلل –بمجمله

فيما تحظى صناعة السلاح بالاستحسان نظرا لدفعها عجلة الاقتصاد في البلاد المُصنعة، لا شيء يذكر عن الدمار الذي تسببه هذه الصناعة في أمكنة أخرى من العالم. مؤخراً، ومع الكميات غير المسبوقة للسلاح المباع إلى الشرق الأوسط والمنقول إلى سوريا، فقد بدأت الحقيقة تتجلى مع تداعيات أقرب إلى عقر دار البلاد المُصنعة. وأصبح لابد من أن يطرح نقاش من نوع آخر.

برؤية مغايرة، فإن دولا أخرى مثل البرتغال تعتبر قدوم اللاجئين فرصة لإحياء بعض المقاطعات في البلاد. في الواقع فإن لشبونة قد عرضت قبول ما يقارب 5,800 لاجئ إضافة إلى 4,500 لاجئ تمت الموافقة عليهم كجزء من نظام حصص اللاجئين في الاتحاد الأوروبي. تجدر الإشارة هنا أن البرتغال باعت بما قيمته 500,000 يورو من الأسلحة إلى الشرق الأوسط.

وبحسب فيليب ليغران، المستشار الاقتصادي السابق لرئيس المفوضية الأوروبية، فإن اللاجئين في الواقع لن يؤثروا على تخفيض الرواتب أو ازدياد معدل البطالة لدى البلدان المُضيفة. في الحقيقة، تُظهر الحسابات بأنه بالرغم من أن استيعاب أفواج اللاجئين سوف يزيد من الدين العام لدول الاتحاد الأوروبي بما يقارب 69 بليون يورو بين عامي 2015 و 2020، فإن اللاجئين وفي خلال الفترة ذاتها سوف يساهمون في نمو الناتج المحلي الإجمالي GDP بقيمة 126.6 بليون يورو. في الواقع، فإن استثمار مبلغ 1 يورو في استقبال اللاجئين يمكن أن يجني ما يقارب 2 يورو في العوائد الاقتصادية خلال خمس سنوات . أوضح ليغران أيضا كيف يمكن للاجئين أن يساهموا في حل مشاكل ديمغرافية وشيكة في أوروبا.

النقاش حول تدفق اللاجئين وما يترتب عليه من أعباء ثقيلة على المجتمعات هو إذا خاطىء. ليس فقط في أنه يلقي باللائمة على اللاجئين وهروبهم من الحرب المشتعلة في بلادهم ورغبتهم في الاستقرار، بل يتجاهل تواطؤ البلدان الغربية في جني الأموال من الحروب التي يفر اللاجئون منها. وزيادة على ذلك، يبقى السؤال عن الرابح من تجارة السلاح ما بين الحكومات التي توافق على الصفقات أو الشركات المصنعة، علماً بأن الحكومات هي التي تغطي نفقات إعادة توطين اللاجئين. فبدلا من توجيه الغضب والاعتراض إلى اللاجئين، يجب توجيهه إلى شركات صناعة السلاح وعلاقتها بصانعي القرار والسياسات الداعمة للحروب التي ينتهجونها .

بينما تم التركيز في نقاشنا على قضية اللاجئين السوريين وعلى الأسلحة التي تغذي الحرب في سورية، هناك صراعات أخرى في الشرق الأوسط تستحق التمحيص ذاته. إن مبيعات السلاح من الولايات المتحدة وكندا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا والتي تغذي الصراعات في العراق واليمن وليبيا يجب أيضا أن تؤخذ بعين الاعتبار في احتساب مديونية الغرب إلى الشعوب في العراق واليمن وليبيا. إن السبب في عدم انضمام اليمنيين إلى اللاجئين السوريين في أوروبا وغيرها من البلدان الغربية هو أن بلادهم محاصرة بريا من السعودية من ناحية و من حظر بحري خانق من ناحية أخرى. يوجد حاليا 3 ملايين يمني نازح   داخليا و 14 مليون يمني يعاني من شح الأمن الغذائي.

[اضغط/ي هنا للنسخة الإنجليزية من المقال]

هوامش:

1. تحليلاتنا تعتمد على بيانات مأخوذة من أبحاث متاحة للجميع تشمل المقالات وبيانات رسمية للاتحاد الأوروبي وبيانات منظمة الاقتصاد والتعاون والتنمية بالإضافة الى أبحاث قامت بها مراكز الأبحاث والمنظمات غير الحكومية حول تجارة السلاح. نرحب بأية معلومات إضافية من القراء والتي قد لا تكون متاحة الى العامة .

2. بداية توفر البيانات من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بخصوص اللاجئين السورين في اوروبا.

3.من أجل تفاصيل الاحتساب الرجاء الإشارة الى الملحق رقم 2

4. بلغت تكلفة اسبانيا 3329 يورو لايواء لاجئ واحد لمدة عام وانسحب ذلك على بوسنيا وبلغاريا وكرواتيا والجمهورية التشيكية وقبرص واليونان ومالطا والجبل الأسود ورومانيا وصربيا وسلوفاكيا وسلوفينيا.

5. حول موضوع مساهمات الدول الغربية في البرنامج السنوي للأمم المتحدة لخطة الاستجابة الإقليمية للأزمة السورية (Regional Response Plan, RRP) تهدف هذه الخطة الى تغطية حاجات اللاجئين والجماعات المضيفة لهم في الجوار السوري (الأردن وتركيا ولبنان والعراق ومصر)والتي استقبلت نحو 4.8 مليون لاجئ. البيانات الموثوقة والمتناسقة حول حقيقة المساهمات الفعلية (مقارنة بالتعهدات) في هذا البرنامج محدودة وغير متكاملة لكافة الدول المانحة موضوع الدراسة خلال الفترة 2011 – 2016 وقد أدرجنا المساهمات الفعلية في الجدول رقم 1 أدناه معتمدين الأرقام المذكورة في خدمات التتبع المالي لدى
Financial Tracking Service OCHA. هذه المحدودية في البيانات لا تؤثر على حساباتنا التي تتناول مسألة إيواء اللاجئين في البلدان المصدرة للسلاح و ليس هؤلاء في بلدان الجوار السوري. في حين أن الضرائب في الغرب هي التي تمول النفقات في كلا الحالتين( دعم اللاجئين في الغرب وفي بلدان الجوار السوري )، لم تكن مسألة دعم لبنان والأردن وتركيا والعراق ومصر في استضافة اللاجئين مطروحة على بساط البحث في الغرب. بهذا المعنى، تهدف هذه الدراسة المساهمة في النقاش عن موجات اللاجئين في الغرب وعلى أرضه.

6. لقد لفت انتباهنا بأن أحد المصادر الحكومية الفرنسية أظهر أنه في عام 2014جنت فرنسا 3.6 بليون يورو في صفقات بيع السلاح إلى للسعودية بينما الرقم المعلن من قبل الحملة المناهضة لتجارة السلاح(CAAT) كان أقل من ذلك بكثير. بالرغم من أرقام أكثر تحفظاً لتلك المنظمة سوف نعتمدها في هذه الدراسة لإمكانية ودقة المقارنة مع باقي الدول .

“2013 Report On Performed Activities of Exports and Imports of Arms, Military Equipment, Dual Use Goods, Arms Brokering and Technical Assistance”, Serbian Ministry of Trade، Tourism and Telecommunications، Stockholm International Peace Research Institute, الملحق 10 صفحة 76

8. المرجع ذاته، الفقرة 11 الصفحة 27 والملحف 11، صفحة 77

9. تم توقيف صاحب شركة المدعو كوموغوراك في تموز 2014 من قبل البوليس الصربي بتهمة سوء الاستخدام المكتبي من خلال عدد من المناقصات العسكرية لتزويد معدات عسكرية فائضة خلال الفترة بين 2011 و 2013 . وقد اسقطت هذه الاتهامات فيما بعد، لكن من وقتها تم التحقيق معه من قبل الأمم المتحدة بزعم انتهاك عقوبات منع تجارة السلاح مع ليبيا.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]
اليأس كسلاح للاستبداد

اليأس كسلاح للاستبداد

«الراديكاليّة الحقّيقيّة هي أن تجعل الأمل ممكناً، لا أن تجعل اليأس مُقْنِعاً.» 

ريموند وليامز

تحل هذه الأيّام الذكرى السابعة لانطلاق الثورات العربيّة، والتي تسمّى أحياناً «الربيع العربي». ومهما اختلفنا حول كونها «ثورات» أو «انتفاضات»، فيستحسن  العزوف عن استخدام مصطلح «الربيع العربي». وذلك لأنه إشكاليّ ويرتبط بفرضيات خاطئة وبخطاب معيّن تترتب عليه تبعات سلبيّة سنتطرق لها. فلم يختر صانعو هذه الثورات هذا المصطلح ولا أطلقوه هم على ما قاموا به. بل جاء، عموماً، من «مراقبين» أجانب لم يفهم معظمهم جذور هذه الثورات ووقعها وآثارها. ولم يتعب هؤلاء أنفسهم بقراءتها ووضعها في سياقها التاريخي المحلّي الصحيح. وكان معظمهم قد شكّكوا، أصلاً، مثلهم مثل غالبية الأكاديميين والـ «خبراء» المختصّين، ولعقود، بإمكانية قيام ثورات كهذه في بلادنا. البلاد التي قيل لنا مراراً وتكراراً في كتب ومؤتمرات ودراسات ومقالات وبحوث شتّى أنّ تركيبتها الاجتماعية وثقافتها السياسيّة، وموروث دين الأغلبية فيها، مجتمعة كعوامل، مع غلبة الأخير، تجعلها أكثر تعايشاً مع الاستبداد، وغير مؤهلة، بل طاردة، للتحرّر بكافة نسخه، باستثناء تلك التي ترتبط بالدين وبالماضويّة. وبذلك ليست نزعات التحرّر الفاعلة هذه إلا انتقالاً من سجن الحاضر إلى سجن الماضي. كما أنّ مصطلح «الربيع» الذي سارع هؤلاء لإلصاقه بالثورات العربيّة يضع سلالة ومرجعيّة هذه الثورات في سياق تاريخي آخر ويجيّرها لصالح سرديّة رثّة، لكنها تظل تعمل بقوة. تُرجِع هذه السردية أصول كل انعطافة تاريخيّة، أو تغيّر مفصلي، أو حدث يقع أو سيقع في أي بقعة في العالم، إلى «غرب» جغرافيّ أو خطابيّ. وهكذا فإن الثورات العربيّة تفقد خصوصيتها باستعمال هذه المصطلح وتصبح محض «استكمال متأخّر» أو «لحاق» بركب التاريخ (الذي بدأ أوربيّاً، والإشارة هي إلى «الربيع» الذي أعقب انهيار الاتّحاد السوڤييتي)، وهي فكرة خاطئة بالطبع. ويجب أن نتذكر كيف كانت هناك محاولات لإسقاط وتهميش دور المواطنين الذين فجّروا هذه الثورات واختزال تاريخ من النضال وذاكرة ثورية متجذّرة بعزو هذه الثورات إلى الأدوات التي استخدمت فيها وخلطها بها وبالتكنولوجيا التي أنتجها وطورها «الغرب» (الفيسبوك، بصورة رئيسية، والتويتر). حتى أصبح طقس تبجيل وشكر مارك زوكربرغ فرض.اً وكأن الثورات لا تستخدم في كل عصر ما تيّسر من وسائل وأدوات. قد يقول قائل: ما أهميّة التوصيف الذي نستخدمه لهذه الثورات، والآن بالذات، بعد أن لم يبق منها شيء وبعد أن هُزِمت وتحوّلت إلى حروب أهليّة شردت الملايين ودمّرت المدن ومزّقت الخرائط، وأطلقت عنان داعش وأخواتها، أو قادت إلى عودة دكتاتوريّات عسكريّة أكثر تغوّلاً من الأنظمة التي أسقطتها، وصار «الربيع» خريفاً، بل شتاء طويلاً كما يردد البعض؟

للتوصيف أهميته الكبرى. فالكيفية التي نستوعب فيها أي حدث مفصلي، والسردية التاريخيّة التي سيتموضع فيها، ستحدّدان معناه في القاموس السياسي ومكانه في الوعي والذاكرة الجمعية. وبالتالي ما ينتج عن استعادته، والدور الذي يؤديه رمزياً كحدث ملهم أو بذرة لتغيير مستقبلي، مهما كان الحاضر معتماً. يستدعي الحديث عن الثورات بالضرورة الحديث عن نقيضها: الثورات المضادة. وانتصار الأخيرة، المؤقت، امتد من الميادين والشوارع إلى الحقل الخطابي ليتغلغل فيه. خطاب الثورات المضادة هو الذي يهيمن الآن على المشهد العام. ويمكن أن نرى ونقرأ أعراضه في كل مكان. لا يتّسع المجال هنا للاستفاضة، لكن يكفي أن نشير إلى ثيمات رئيسيّة يعاد تكرارها واجترارها. وهي تنتمي إلى ذات الخطاب الرثّ (أعني بذلك الخطاب الذي كان يؤكد استحالة قيام ثورات لأسباب ثقافويّة متهافتة) بل هي تنويعات عليه. ومنها القول الآن إن الثورات في هذه المنطقة لا تؤدي إلا إلى كوارث و«ليتها لم تكن» (وكأن الخيار كان متاحاً: ثورات أم لا!) أو أنه لا يمكن لها أن تنجح أبداً (لذات الأسباب التي ذكرت أعلاه). أو أنّ كل الثورات في هذه المنطقة تقود بالضرورة إلى الحروب الأهليّة وتطييف المجتمعات (المطيّفة أصلاً منذ زمن) أو إلى سيطرة الحركات الأصولية، أو إلى عودة أكثر شراسة للأنظمة الاستبداديّة. ويضاف إلى كل هذا خلاصة مفادها أن هذه الثورات لم تكن إلا مؤامرات حيكت في دوائر الاستخبارات الغربية لتدمير بلادنا. والمقولة الأخيرة تسخيف للواقع والتاريخ وكسل وعقم فكري. 

ليس سرّاً أن محاولة إحداث تغييرات ثورية في منطقة استراتيجيّة، واحتمال امتداد ووصول الموجة الثورية إلى ممالك النفط والغاز، بتحالفاتها المعروفة وأهميّتها الاستراتيجيّة الهائلة، شكّلت تهديداً بالغ الخطورة للنظام الاقتصادي العالمي السائد. وبذلك ليس سرّاً ولا مفاجأة أنه تم تجنيد كافة الوسائل المتاحة لإفشال المدّ الثوري منذ اللحظة الأولى. وذلك بهدف إضعافه، وكبح جماحه، وتشتيته، والتأثير عليه لتحويل زخمه وتمظهراته وتفاعلاته إلى فوضى، أو حروب أهلية يمكن التدخّل فيها والتأثير على مجرياتها. لكن هذا يختلف كثيراً جداً عن سرديّة المؤامرات الاختزاليّة. لست هنا في معرض التقليل من كارثيّة ما حدث من جراء قمع وذبح الثورات والدماء التي سالت والأرواح التي أزهقت، كما المعاناة البشرية المستمرة من جرّاء هزيمة المد الثوري. لكن اعتبار التوق الطبيعي إلى حياة أكثر عدالة ومساواة، والذي يبلوره الشعار الخالد: «خبز، حريّة، عدالة اجتماعيّة» وإلى تغيير أنظمة استبدادية مجرمة، اعتبار ذلك هو السبب في ما آلت إليه الثورات ليس إلا كسلاً فكرياً في أحسن الأحوال. فوحشيّة هذه الأنظمة ووحشيّة شبكة المصالح الاقتصادية الإقليمية والعالميّة التي تساندها في مواجهة هذه الثورات والتآمر عليها هي السبب الرئيسي  في ما آلت إليه الأحوال. لا يعني هذا، بالطبع، عدم توجيه النقد الضروري ودراسة الأسباب المعقّدة للإخفاق والفشل في استغلال اللحظة الاستثنائية وترجمتها إلى مكاسب سياسية. ولقد بدأ هذا وهو بالغ الضرورة للاستفادة مستقبلاً. ومن المهم أن نتذكّر أن الانتكاسات والهزائم، التي تعقب الثورات غالباً، لا تعني بالضرورة موت المثال الثوري الذي تجذّر في الذاكرة الجمعية، مهما بدا وكأن تراب الثورات المضادة وإعلامها وخطابها قد غطّاه كليّاً. من المهم أن نستعيد معنى هذه الثورات كأحداث هائلة حملت بذور التغيير الجذري وبشّرت بإمكان حدوثه وزرعت الأمل. وألّا ندع المنتصرين يزوّرون التاريخ ويفرضون روايتهم. اليأس، في النهاية، عتاد لأسلحة الاستبداد، بكافة أنواعه وتمظهراته، لإقناع المواطنين بأنّ التغيير مستحيل أو أنّه يقود دائماً إلى الأسوأ.  

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]
ذاكرة المستقبل

ذاكرة المستقبل

كنت جالساً البارحة بمفردي، وهذا بحد ذاته الآن شيء لا ينصح به لكل السوريين في المهجر، أتابع الأخبار. لا شغف ولا إثارة كانت تأتي من جميع القنوات الاخبارية أوصفحات التواصل الاجتماعي. على الرغم من أن معظم الأخبار كانت تركّز على مدينتي الجريحة. ليس فقط على المدينة، بل أكثر تحديداً على بعض الأحياء التي قضيت فيها سنين مراهقتي الشقية. السنين التي تعرفت فيها على عشيقتي التي قضيت معها ثلاثة عشر عاماً من الحب، حبيبتي حلب.

في سن الثالثة عشرة، اتخذت قراراً مبكراً بمغادرة قريتي البسيطة والذهاب إلى المدينة. حلب وقتها لم تكن غريبة علي وبنفس الوقت لم تكن ذلك المكان الذي آلفه جيداً أيضاً. حصل والدي الذي كان يعمل في المؤسسة العامة للاتصالات على منزل في حي سكني يدعى «مساكن هنانو». لم يكن والدي يعشق حياة المدينة ولكن قراره بالحصول على المنزل كان براغماتياً. القيمة الحقيقية للمنزل كانت أكثر بكثير من الأقساط الشهرية التي كان يدفعها والدي لمؤسسة الاسكان العسكرية وأيضاً فإن والدي قد رأى بأن هناك حركة هجرة متزايدة من الريف إلى المدينة لذلك فإن قيمة العقار سترتفع بدون أدنى شك. 

قرر أحد أشقائي أن يسكن في ذلك المنزل في الحي الجديد مع أسرته وبعد سنتين قررت الانضمام إليه بحكم أن قريتي الصغيرة لم تكن فيها مدرسة اعدادية ولم تكن تتسع لأحلامي الكبيرة حسب ما رأى أساتذتي في الابتدائية. كان حي مساكن هنانو وقتها جديداً ومميزاً تسكنه العديد من الفئات الاجتماعية المختلفة من طبقات وأديان واثنيات. يبدو أن والدي لم يكن الشخص البراغماتي الوحيد حينها. الكثير من الناس من الطبقة الوسطى من موظفين ومدرسين ومهندسين ومحامين قرروا استثمار مبلغ مادي بسيط للحصول على منزل في مساكن هنانو. الحي كان أيضاً يحتوي على أحياء سكنية للعاملين بقطاعات معينة مثل الجيش والشرطة وبعض مؤسسات الدولة الأخرى. 

هذه البنية الاجتماعية لم تستمر طويلاً مع الأسف إذ أن أغلب البراغماتيين بدأووا ببيع بيوتهم أو تأجيرها عندما أصبح ذلك ممكناً. وفي فترة معينة تحول الحي إلى مكان يسكنه أصحاب الدخل المحدود من عمال وموظفين. استمر الحي بالتغير جزئياً وفي مرحلة أخرى بدأ أصحاب الدخل المحدود أنفسهم بالتفكير بشكل رأسمالي يتماشى مع الأوتوقراطية الجديدة التي أوحت بها سياسات الرئيس الابن والتي كانت مليئة بالفساد والرشاوى وسياسات تحت الطاولة. بدأ العديد من الآباء من مساكن هنانو بشراء أراض مجاورة للحي الذي كان يشبه لدرجة كبيرة أي مستوطنة اشتراكية في بلدان الاتحاد السوفييتي السابقة حيث لايمكن لأكثر من عائلة صغيرة أن تسكن في الشقة. المنطقة الجديدة كانت تدعى «الأرض الحمرا». ومن الاسم نعرف بأنها كانت منطقة أراضي زراعية على الأغلب. 

اشترى أحد جيراننا قطعة صغيرة من الأرض ليبني بيتاً لولديه اللذين كانا من أصدقائي المقربين جداً وكانا وقتها في سن الزواج حسب العرف الشائع في المنطقة. كان ذلك قبل وقت قصير من مغادرتي للحي ورحلتي الشيقة للعيش في أحياء مختلفة في المدينة أثناء دراستي الجامعية.

 أتذكر تلك الأيام التي كنت أعود فيها منهكاً من العمل وبعد يوم دراسي شاق ثم أذهب لمساعدة صديقيّ في نقل القرميد وزق النحاتة البيضاء. كان لذلك معنى رمزياً كبيراً فأنا أساعد أصدقائي في بناء منزلهم. أما المعنى الآخر فكان هاجسي بأن أثبت لهما بأن ذهابي إلى الجامعة وقراري بترك الحي لن يغيرني ولن يغير طبيعة صداقتنا مهما كان الثمن. كان شباب الحي الدين قرروا البقاء، وربما شراء قطعة أرض في الأرض الحمرا متواجدين بشكل يومي لمساعدة صديقيّ. بالنسبة لهم ربما كان ذلك نوع من الإقرار الذي يجب أن يتخذوه ليشعروا بالطمأنينة والتعزيز للموقف الذي اتخذوه ببناء منازلهم والاستمرار بحياتهم هناك. شعور مفعم بالانتماء. لم أرغب حينها بأن أشعر بأنني الشخص الغريب أو الشخص الذي قرر الانسلاخ عن الحي وسكان الحي الذين كبر معهم وأصبحوا جزءاً من ذاكرته وتاريخه الشخصي.

البارحة كانت الكثير من الأخبار المصورة تأتي من حي مساكن هنانو وكيف تمكن الجيش النظامي من السيطرة عليه بعد أن دمّر العديد من المباني وألحق الضرر بالمباني الباقية وهجّــر من تبقى من أهله أو من أوى إليه بعد أن فقد منزله في مكان آخر. جاءت كل هذه الذكريات ثقيلة وكثيفة دفعة واحدة. حاولت أن أتمسك بها أوأضعها على الورق للتعبير عن موقفي وعن غضبي ولكنني عجزت عن إمساك القلم وظلّت الذكريات تسيل كالماءالمخلوط بالزيت من بين أصابعي التي تابعت ممارسة عجزها عن فعل الكتابة. 

اليوم عشت ساعات طويلة من التشويش الفكري الذي حجب عني قدرة النظر إلى الخلف. لم أعرف إن كان هذا فعلاً إرادياً من وعي مسيـــر أم أنه فقط ردة فعل من لاوعي قرر السير قدماً والنظر إلى الأمام. امتلاك ذاكرة في زمن الصراعات من هذا النوع هو أمر مرعب ومثير للإرباك! عندما تركّز على ماض كان جميلاً ثم تراه يختفي وأنت لا تستطيع فعل شيء، فإن شعورك اليومي بالعجز يتنامى لدرجة ترفض فيها أن تقبل بمطالبة تلك الذكريات بالعودة وبنفس الوقت، تمتلك رغبة جامحة بعدم خسارتها!

الشيء الذي أرهقني هو أنني تذكرت يوم قررت الرحيل، قررت أن أترك دفاتر قصائد المراهقة وكراسات القصص القصيرة التي لم أمل من قراءتها لأصدقائي في المدرسة على طريق العودة من حي الصاخور حتى عندما كان الطقس بارداً. قراري بترك تلك الدفاتر كان بياناً رسمياً بانتمائي للمكان. أتذكر وقتها بأنني فكرت فكرت طويلاً ثم قلت لنفسي بأنني أريد أن أترك جذوراً لي هنا. عندما أعود- لأنني سأعود يوماً- أريد أن أشعر بانتمائي لذكرى الأمكنة وقصص الخيال الذي منحتني إياه المدينة بأضواءها وأزقتها الضيقة وضحكات صباياها من خلف ستائر شبابيك الشتاء.

اليوم رأيت منزلي في مساكن هنانو مخرباً. صفعتني ذاكرة غريبة بدون وجه ومضت سريعاً. كان عندي قدرة هائلة بالتعرف وتذكرالحي والمبنى والشارع والمنزل رغم كل الدمار الذي حل بهم. سمعت صوت دفاتري القديمة وكان الصوت غريباً علي. خدر كثيف أصاب ذاكرتي لفترة ليست بقصيرة وعندما صحوت شعرت برفض تام بالعودة إلى الخلف. لم أفهم لماذا؟ مازلت غير قادر على تفسير هذا الشعور. الشيء الوحيد الذي أفكر به الآن، (ويزعجني ويضايقني بمجرد وجوده في حيز تفكيري)، هو ما سأقوله غداً لصديق يسألني عن حلب أو شريكة تحاول التخفيف عني أو حتى لطفل لا أتوقع قدومه حتى الآن. أريد ذاكرة للمستقبل ولكن كيف؟ لست أدري.

أجلس الآن في غرفتي الصغيرة في السكن الجامعي في بودابست. أحاول صرف انتباهي عن الذاكرة بسماع الموسيقى والتفكير بما سيأتي. أجلس وحيداً وأعرف أنه ليس الشيء الذي علي فعله الآن. أنظر إلى شاشتي الصغيرة وأضيع مجدداً في الأخبار القادمة من مدينتي من حينا ومن منزلي القديم. أرى الناس تهجــر قسرياً وتعود إلى دائرة الهتاف البعثي القديم وتخليد الابن بعد الأب والذود عنه بالروح وبالدم. أحاول أن أنظر في عيونهم عبر شاشتي الصغيرة. لا أرى أي تعابير. وجوههم أيضاً فقدت تعابيرها. ربما هم مثلي خسروا شيئاً من تاريخهم الشخصي أو ربما هم أفضل مني بكثير… فأنا مازلت جالساً هنا أشعر بالعجز وأمارس حياتي اليومية وأبني ذاكرة جديدة للمستقبل.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]
الجدل حول سوريا يصل إلى طريق مسدود

الجدل حول سوريا يصل إلى طريق مسدود

روايتان متصارعتان تهيمنان على النقاشات، وكلتاهما لا تقدمان حلا

يشعر كل المتتبعين لأخبار سوريا المؤلمة الآن بحالة من التشبع بالمعلومات والأرقام والتحليلات والمعلومات المضللة التي ظهرت منذ عام 2011 وحتى وقتنا الحالي. الكثير منا تبنى روايته الخاصة للأحداث وهذا هو الحال سواء كنا من المتابعين لسوريا خلال العقدين الماضيين أو بدأنا فجأة بمتابعتها منذ 2011. وللأسف، ففي ضوء الطبيعة المثيرة للجدل للمعلومات التي تصلنا عن هذا البلد، وخصوصا في الظروف الراهنة، فإن بلورة هذه الروايات قابلة بالتأكيد للشكوك أو لرأي منطقي مضاد.

أما الأسوأ من هذا فهو هذا الانجذاب المتزايد نحو روايتين محددتين : أ) تلك التي تتحدث عن “ثورة متماسكة ونقية”، و ب) والتي تتحدث عن “المؤامرة الخارجية”. كلا التفسيرين يحمل شيئا من الحقيقة، ولكن كليهما مثقل بمزاعم لا حد لها تجاه الآخر، وفيهما إغفال جوهري لجوانب من القضية مما يعرقل اللقاء بينهما على أرضية مشتركة ضرورية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، أو لانتقال محتمل للسلطة وكذلك يعرقل مصالحة ما بعد الحرب.

هذه الخلافات تبلورت في مؤسسات ومراكز بحثية، ودوائر سياسية، وانتشرت في أوساط الفنانين والصحفيين، ووسائل الإعلام والفضائيات في الشرق الأوسط والتي تعرض عادة صورا هزلية لوجهة النظر التي تفضلها. هذه المناظرة تحدث في كل مكان، وحتى على مائدة الطعام في المطبخ حيث تجتمع العائلة وكذلك بين الأصدقاء ولكن بنبرات صوت، وحدة في الكلام، وبعجالة تختلف من موقف لآخر.المفارقة هي أن الاستثناء الغريب والذي يدعو للأمل هنا يكمن في السوريين المقيمين في سوريا الذين أنهكتهم كل تلك المقاربات، والذين يملكون وجهة نظر أكثر متانة تأسست من المعاناة القاسية والقرب من أحداث أقل ما توصف به أنها تمثل مستوى متطرفاً من القسوة.

الرواية الأولى تصر على نقاء وتماسك الثورة التي بدأت عام 2011. وهدف هذا المقال سيكون التركيز بشكل أكبر على الحيز الخطابي الواسع الذي تقع فيه تلك النقاشات وبالذات في الانترنت عوضا عن التركيز على الخيارات التي تتحدث عن تدخل أمريكي أكبر في القضية السورية.

غالبا ما ترتبط الرواية التي تحكم رؤيتنا للأحداث مع السياسة، حتى لو جاء هذا بشكل انتهازي ومتأخر وهو السبب الأهم الذي يدفعنا لأخذ وجهات النظر تلك بشكل جدي وخصوصا السائد منها. وبما أن هدفي هنا هو أن أتجنب الجدل الشخصي العقيم فإنني لن أحدد أسماء شخصيات أو مؤسسات بعينها ترتبط بأي من الروايتين السابق ذكرهما. بل إن هدفي هنا هو أن أسهم في استعادة شيء من المسؤولية والتمييز.

ويجب هنا أن نؤكد أن هناك اختلافات حول نقاط معينة ضمن كل رواية للأحداث الأمر الذي يفسر بعض التقلبات وخصوصا بعد تجذر العنصر الجهادي في الانتفاضة. ولكن التركيز هنا هو على الافتراضات الأساسية التي صيغت حول كل رواية للأحداث.

تؤكد الرواية الأولى للأحداث على نقاء وتماسك الثورة التي بدأت عام 2011، وتؤكد على أن الثورة تسعى لإزالة ديكتاتورية بشعة لإقامة حكم أكثر عدلا وقبولا للمساءلة. الكثير من أنصار هذه الرواية يدركون المشاكل التي تكتنف هذه النظرة بدءاً بعسكرة وأصولية الانتفاضة وانتهاء بالتدخلات الخارجية. ولكن هذه الديناميكيات يجب ألا تؤثر على جوهر الثورة. ووفق هذه النظرة فإنه لا توجد درجة من العسكرة، أو الأصولية، أو الطائفية في هذه الانتفاضة كفيلة بإحداث تغيير جوهري في إمكانية أن تقوم هذه الانتفاضة بتغيير الحكم إلى حكم أكثر شفافية وقبولا للمساءلة في سوريا. وهكذا فإن هذه الرواية للأحداث تعترف أن الجهاديين هم رأس الحربة في المعركة ضد نظام الأسد. ومع ذلك فإن هذه الرواية تقوم، وبشكل متزامن، إما بإدانة النظرة الأصولية للعالم أو بإلغائهم باعتبارهم نتاجاً للقمع، و هي في كلتا الحالتين تضع مسافة بين الأصوليين و”الثورة”. هذه الرواية قد تشجب أيضاً خضوع الممثلين الرسميين للثورة لدول الخليج، وتركيا، وللولايات المتحدة أيضا بما في ذلك دورهم في تمويل وتسهيل دخول الجهاديين إلى سوريا. ولكنها مع ذلك لا تعي ما يترتب على هذا الشجب من عواقب. يقال دوما إن الثورة قادرة على أن تخرج نقية بلا أذى في نهاية المطاف، ورفض هكذا رؤية قد يرقى إلى ما يشبه الخيانة.

تقر الرواية الثانية للأحداث بقمعية النظام ولكنها لا ترى إلا المؤامرة الخارجية والجهاديين المحليين. تعترف هذه الرواية بالاضطهاد الذي يمارسه النظام والحاجة إلى التغيير. والمعتنقون لهذه الرؤية غالبا ما يعترفون بشرعية الاحتجاجات، على الأقل بشكل نظري. ولكن عندما نصل إلى الانتفاضة الحقيقية، فإنهم لا يرون إلا المؤامرة الخارجية والجهاديين المحليين. ووفق هذه الرواية فإن بقية المتظاهرين إما يختفون في أفق بعيد لا علاقة له بالأحداث، أو يتم استحضارهم كعملاء لقوى خارجية تسعى لإثارة المشاكل. وبحسب هذه الرواية للأمور فليس هناك وجود لناشطين علمانيين، ومعادين للإمبريالية لا زالوا يسعون للإطاحة بالنظام. هؤلاء الناشطون إما غير موجودين أساساً، أو أنهم أقل من أن يتم ذكرهم. وفي نفس الوقت فإن هذا الرواية تجعل تدمير النظام لسوريا أقل حضورا في سردها للأحداث عن طريق التركيز على القوى الإمبريالية التي تستفيد من هذا التدمير. يذهب البعض إلى أبعد من هذا ويضع الدمار الذي يقوم به النظام على قدم المساواة مع قوى المعارضة الأضعف كثيراً منه. وفق هذه الرؤية فإن سوريا ليست مسرحا لنزاع إقليمي وعالمي فقط، بل هي الحلبة التي يجب أن تتم فيها هزيمة المخطط الغربي أيا تكن التكلفة التي يدفعها السوريون. وهكذا فإن المشاركة في المعارضة تصبح نوعا من الخيانة ضد القوى المعادية للإمبريالية ( وضد البلد نفسه).

كلا الروايتين تفشلان في رؤية الحجج المشروعة للرواية المقابلة. فالمعتنقون لكلا الروايتين يرفضون السماح للحقائق والتطورات أن تغير من رؤاهم. الطرفان يتبنيان مواقف ناقدة بشدة للتدخلات. ووفق الرواية الأولى، فالتدخل الأمريكي يصبح جيداً إذا كان موجها ضد النظام فقط. وبالنسبة للرواية الثانية، فالتدخل الأجنبي جيد إذا كان يهدف لمساعدة النظام، فروسيا ليست قوة إمبريالية مثل الولايات المتحدة وفق هذه النظرة. وفق الرواية الأولى فإن المخاطر المحتملة لسقوط الدولة هي نقطة محل نقاش. أما وفق الرواية الثانية فإن سقوط الدولة أمر غير مقبول مهما ساءت الأمور. وفي نقطة سقوط الدولة ( التي تختلف عن سقوط النظام) فإنه لا يوجد موقف مبني على تحليل رصين أو اعتبار واضح للنتائج في كلا الروايتين. وعوضا عن هذا فإن الطرفين يبدآن بفرضية حول أي طرف يجب هزيمته أولا، ثم يقوم كل طرف بعكس حجته بما يلائم النهاية التي يبتغيها. وعادة ما ترتبط الرواية الأولى بالغرب والرواية الثانية بالنظام مع استعمال كل التلميحات التي تدين الطرف الآخر. وفي النهاية لا يبدو أي طرف راغبا في التوصل إلى تفاهم، فلا شيء يمكن قبوله أقل من الهزيمة الكاملة إما للنظام أو للمعارضة، مما يسد الطريق على عدة مخارج محتملة قد تمنع الفوضى.

* * *
إن الانتصار الكامل لأي طرف لن يعيد العافية للوضع السوري. لن تنعم سوريا بالاستقرار ما لم تؤخذ في الحسبان آمال الأغلبية من المواطنين، أيا تكن انتماءاتهم أو ميولهم. ولهذا، فإنه وبالرغم من القناعة التي يحملها معتنقو هاتين الروايتين للأحداث فإنه لا يمكن لأي منهما ، ونتحدث هنا عن الحد الأقصى لكل منهما، أن تكون كافية لانتشال سوريا من حافة الهاوية. إن المصالحة الوطنية، وبناء على تجارب تاريخية سابقة، هي عملية معقدة وغير مرضية. فكلا الطرفين يذهبان بعيداً في الحديث عن أي صيغة مستقبلية مما يفسر التصلب الذي نراه اليوم. أولئك الذين يأخذون أيا من هذا للجدل حول التعادل الأخلاقي بين الظالم والمظلوم يركزون على أنماط مثالية لا سياسية.

هناك مقاربات أكثر دقة في الاختلاف ولكن أنصارها عادة يوصفون بأنهم إما خونة للثورة، أو ساذجون سياسياً، أو مؤيدون للنظام، أو من أنصار النظام أو حتى من مؤيدي الجهاديين. أحيانا تكون عبارة ” مؤيدي المعارضة” مصدر لعنة على معتنقي الرواية الثانية بسبب هوية من يدعمون المعارضة. وبالمثل، ووفق الرواية الأولى، فإن عدم اتباع المعارضة الحالية يرقى إلى تأييد بشار الأسد.

وفي ظل هذا الجو المسموم فإن المراقبين يجدون أنفسهم مضطرين للاصطفاف مع جانب معين وإلا اعتبرهم أنصار الروايتين مشوشين وليس لهم موقف معتبر. حيث يبدو أنه من غير المقبول انتقاد المعارضة من قبل من يحملون وجهة نظر معادية للنظام بشدة. وبالتساوي مع هذا فإنه لا يمكن أن نكون مع المعارضة بدون أن يتم وضعنا في الخانة العريضة التي تحوي “مؤيدي الغرب الامبرياليين” أو “مؤيدي الصهيونية” أو في معسكر “مؤيدي الجهاديين” أو ربما الثلاث خانات سوية وفي الوقت ذاته رغم التناقضات الواضحة بينها. ولكن المفارقة الرئيسة هنا أننا جميعاً نتظاهر بأننا نتكلم بالنيابة عن كل السوريين تقريبا، بينما في الواقع نرى السوريين، الذين يناضلون كل يوم من أجل إبقاء مجتمعاتهم حية، أكثر دقة وتفصيلا من كلا المعسكرين.

بعض الذين يدعون إلى أرضية مشتركة قد لا يكون لهم صوت مسموع الآن إذا لا توجد في الوقت الحالي أية مؤسسات أو قنوات سياسية أو اجتماعية لتوضيح موقفهم. ولكن يجب علينا هنا ألا نسعى وراء أرضية مشتركة مجردة ولا سياسية، بل السعي نحو تصور لمخرج يحفظ الجميع في سوريا بغض النظر عما يفضلونه هو الطريقة الوحيدة للخروج من هذه العقدة. وهذا يتطلب كرما في التفهم ومرونة في الرؤية يبدو أنه لا أحد من معتنقي الروايتين يتحلى بهما الآن.

هذا المقال سوف يناقش الاتجاهين الأكثر شيوعا كطريقة لاستكشاف احتمالات لحلول تنهي الأزمة الحالية. هذه الحلول يجب أن تكون بالضرورة بعيدة عن تحقيق الحد الأعلى من المطالب حيث أنه من الواقعي القول إن التوصل إلى مصالحة حقيقية يعد وهما في الوقت الحالي.

وجهات النظر ولعبة إلقاء اللوم

وسط أصوات القنابل والقتل اليومي يستمر الكثيرون في الجدل حول الطرف المسؤول عن الكارثة الحالية، ويقع هذا في أكثر الأحيان على المستوى الشخصي. فقد أصاب التحزب والسياسات الجامدة عقولنا بالخدر، حيث يحاول الكثيرون تبرئة أو لوم هذا الطرف أو ذاك أو الحديث عن الأمور بشكل مطلق.

إن القتل الذي نشهده هذه الأيام يقوم به كل الأطراف، ولكن بشكل أوسع كثيرا على أيدي النظام السوري. إنه من الصعب أن نقسم اللوم بشكل دقيق ولكن الأمر ليس لغزاً لا حل له متى ما استعنّا بالتاريخ واستعملنا المنطق. من ناحية أخرى وبشكل أساسي، كيف يمكن لنا أن نبرئ النظام من المسؤولية؟ فجبهة النصرة أو قطر ليسا هما من حكم سوريا بقبضة من حديد في العقود الأربعة الماضية. إن الحديث عن اللاعبين الأساسيين الذين لعبوا دوراً أساسياً في إضعاف المعارضة عن طريق اختطاف الثورة وتشجيع المجموعات المسلحة لتحاول إسقاط النظام شيء، والتمسك بهذا المنطق لتغطية عقود من قمع النظام لشعبه، وسياساته الاقتصادية النيوليبرالية الضارة وعيوبه الأخرى شيء آخر. إن ما نشهده من قتل ودمار اليوم في حلب ومناطق أخرى يقوم به كل الأطراف ولكن يتحمل مسؤوليته بشكل أكبر النظام السوري. هذا الدمار ليس قطيعة مع عقيدة النظام بل بالأحرى تجسيد لها ولكن في ظروف مختلفة.

إن النظام في سوريا سوف يستجيب بنفس الأسلوب لأي تهديد لحكمه. فلا يمكن أن نتصور أن الأسد قد يتحمل معارضة نشأت محليا وبشكل مستقل، وذات توجهات علمانية ومعادية للامبريالية ومؤيدة لفلسطين ويسارية الانتماء سواء كانت مسلحة أو لا. الفرق الوحيد اليوم هو هوية وشخصية القوى التي تقف وراء المعارضة. وهذا هو الفرق الذي يعطي الأزمة بعدا جيوبوليتيكيا يستفيد منه النظام عن طريق تحديد ذكي وتلاعب بالمتناقضات التي تعاني منها المعارضة.

الخلاصة هنا أن أقل المزاعم تعقيداً بخصوص الوضع السوري، والذي يمكن معارضته بشكل مقنع هو مدى إجرام النظام. فالحجج المقابلة لهذا لا تنجح في اجتياز معايير التحليل الواقعي ناهيك عن المعايير الأخلاقية. إن أولئك الذين يتحدثون عن قتل المعارضة لعشرات الألوف من جنود الجيش السوري والعشرات من المدنيين الموالين للنظام أو الساكنين في مناطق تحت سلطته ليسوا بعيدين عن الحقيقة. ولكنهم أيضا لا يقتربون من مسؤولية النظام عن الكارثة في السابق والآن. وحين يتم الحديث عن وحشية النظام فإن المدافعين عن نظرية “المؤامرة” غالبا ما يعترفون بهذا ولكنهم سرعان ما يطرحونه بعيداً لصالح إلقاء اللوم على مجرمين أكبر منه وكأن هناك جريمة تلغي الأخرى أو كأن هذا الأمر يخفف معاناة الضحايا.

لقد قامت الحكومة منذ عام 2011، وبدعم من حلفائها الإقليميين والدوليين، بالتعامل بوحشية مع مواطنيها السوريين. ولكن الحقائق لا تعفي خصومها الإقليميين والدوليين من مسؤوليتهم في الإسهام البارز في هذه الفوضى. فقد علقت حركة احتجاج شرعية قام بها أغلب السوريين في شباك أغراض إمبريالية خارجية خبيثة لا علاقة لها بتعزيز معارضة مستقلة، ديمقراطية وذات أرضية واسعة، ولا يمكن لأي تفكير منطقي أن يتقدم بدون الاعتراف بهذه الحقيقة. العديد من المراقبين يعترفون بهذا بالفعل ولكنهم سيمتنعون عن تحديد تبعاته، بما في ذلك أنه يلطخ مفهومي ” المعارضة” و”الثورة”. هناك أيضا من هم غير راغبين في الاعتراف باستحالة فصل من يفترض أنهم الثوار الجيدون عن السيئين، وعلاقة هذين الطرفين بالقوى الخارجية التي أشعلت العنف الذي ذبح السوريين. جبهة النصرة، التي تسمى الآن فتح الشام، أصبحت عاملا يشبه الحنفية يمكن فتحه وقفله حسب السياق، وبموجب رواية “الثورة” فكل هذا الكلام هو وقود للنظام لكي يبرر القتل الذي يقوم به. ورغم أن هذا صحيح في أغلب الأحيان، إلا أن هذا المنطق ينظف صورة “المعارضة” أو “الثوار” ويبرئ بكل سذاجة القوى الخارجية التي تدعمهم، والتي تمتلك تاريخا بشعا في السياسات الداخلية والخارجية في المنطقة.

إن الاستهانة بالمزاعم المبالغ بها حول المؤامرة الخارجية لا يعني أنه لم يكن هناك توافق ضمن اللاعبين الاقليميين والدوليين (مثل السعودية، وقطر، وتركيا والولايات المتحدة). هذا التوافق كان حول الحاجة إلى تقليص حجم سوريا وحلفائها لأنهم يعرقلون سيطرة هذه القوى وحلفائها، وخصوصا إسرائيل، على المنطقة. العراق وسوريا هما القوتان الوحيدتان الباقيتان اللتان قد تمثلان أي تهديد للاحتلال الاسرائيلي لفلسطين والتطهير العرقي لها، حتى لو كان بشكل غير مباشر كما نرى في حزب الله بالنسبة لسوريا. هذه القوى ذاتها ربما أوقعت نفسها في عثرات حين اندفعت لتمويل واختطاف الانتفاضة السورية لخدمة أغراضها الخاصة. وسرعان ما اكتشفت هذه القوى وجود موانع حقيقية، وخصوصا إيران وروسيا وحتى الصين. كيف يمكن لنا إذا أن نبرئ القوى الإقليمية والدولية من توريط أنفسهم في الشؤون السورية بشكل أساسي؟

إضافة لهذا فإن هناك تاريخا من التطفل الذي يولد شعورا بالسخرية من أي دعم خارجي لرواية ” الثورة النقية المتسقة”. بماذا تخبرنا عقود من الدعم الذي قدمته نفس الدول البترولية الغنية للنظام السوري والتي هي نفسها من موّل عسكرة الانتفاضة السورية؟ وكيف ننظر إلى الاتفاقيات الموسعة للتعاون الاقتصادي بين الرئيس التركي أردوغان وسوريا الأسد قبل الانتفاضة وهل هذا شيء حدث في عالم مثالي؟ وكيف يمكن لنا أن نفسر الاهتمام الأمريكي بتأييد المعارضة السورية في الوقت الذي كانت فيه واشنطن تؤيد سحق الثورة البحرينية قبل أشهر قليلة من ذلك، وفي الوقت نفسه تقوم بالإشراف على الفوضى التي أطلقت من عقالها في الجارة العراق بعد الغزو الوحشي ذي الأسباب المزيفة عام 2003؟

إن أي مراقب مطلع يعلم أن سنوات من الفوضى، والحدود المفتوحة في العراق مع سوريا كان لها أثر في تنمية وبناء أغلب العناصر المسلحة في الانتفاضة السورية، مع ملاحظة الدعم الذي كان يقدمه النظام السوري نفسه في تسهيل بناء الشبكات وعبور العناصر الجهادية إلى داخل العراق في فترة ما بعد 2003. نفس هذا التاريخ البغيض يتكرر في اليمن اليوم. فنفس أولئك الذين يدعون إلى وقف القصف الروسي والسوري على حلب وتقديم الدعم الانساني للمدينة، ونعني هنا الولايات المتحدة والسعودية، هم ذاتهم من يقودون عمليات قصف المناطق التي يسيطر عليها الثوار في اليمن مما يسبب جرائم حرب مريعة.

لا شيء من هذا يبرر المذابح التي ترتكب في حلب اليوم، ولكنه يلقي بظلال من الشك على الدعم الذي يلقاه الجهاديون الذين يقودون المعارضة المسلحة في السنوات الخمس الأخيرة. فالنظام الآن في وضع عسكري أفضل بكثير بفضل تزايد الدعم الروسي والايراني، ومن طرف حزب الله، والميليشيات العراقية. ولكن حين لم يكن هذا الوضع العسكري الجيد موجودا في الأعوام 2012-2014 استمرت رواية ” الثورة النقية” في الاصرار على وجودها رغم أن الجهاديين استولوا عليها بدعم من “أصدقاء” الثورة.

نحتاج جميعاً إلى إعادة التفكير فيما حصل بالفعل. هل كانت الحجة هي كل شيء من أجل الثورة، أو كل شيء من أجل اسقاط النظام، وبهذا فنحن نحتاج إلى إعادة تعريف مفهوم الثورة أو اسقاط النظام بالنسبة للشعب السوري، وبضمنهم أولئك الذين يعتبرون النظام أقل اللاعبين شراً. ولأنه لا يوجد من يستطيع الاجابة عن هذا السؤال فنحن نجد الكثير من المعارضين النزيهين للنظام ممن لديهم تشخيص مختلف للأزمة.

إن النقاشات البناءة التي تحدث داخل وخارج سوريا ليست بين المؤيدين المطلقين للنظام القمعي وأولئك المؤيدين للمعارضة المفككة. ولكن النقاشات الجادة تحدث بين أولئك الذين يعارضون النظام بلا تحفظ وبشكل مبدئي ولكن من منطلق يتمحور حول التآمر أو الخضوع الذي تتعامل به فصائل هامة من المعارضة مع اللاعبين الخارجيين. في هذه النقاشات تظهر حقيقة أن مفهوم “الثورة” ودلالته الجيوسياسية في الأزمة السورية هو بأهمية حقيقة أن الانتفاضة بدأت كانتفاضة أصيلة ضد الديكتاتورية، ولا يوجد ببساطة أي مهرب خطابي أو عملي من هذا المأزق.

مأساة إقليمية

الأخبار القادمة من سوريا، وروسيا، وبريطانيا، والسعودية، وتركيا والعراق لا تنبئ بأي حل قريب للأزمة. إن الرغبة الانسانية التي تدفع باتجاه وقف لحمام الدم غالبا ما تقود إلى دعوات، ظهر إلحاحها أكثر خلال حصار حلب، لاتباع سياسات قد تضمن التصعيد من قبل القوى الغربية. وحتى نفهم هذا المأزق لا بد أن ننظر إلى الأزمة المترابطة إقليميا بشكل شامل. وفي تكرار للمأزق المزدوج لهذا المنطق، فإن كلا من الولايات المتحدة وروسيا عالقتان في الأزمة. فواشنطن لن تجلس متفرجة لوقت طويل لتشاهد موسكو تتفرد بإدارة الأزمة. ولكن أكثر الاقتراحات رواجاً في الولايات المتحدة، ألا وهو فرض منطقة حظر طيران أو قصف، لا بد أن يكون مصحوبا باستعداد واضح لمواجهة مباشرة مع روسيا كنتيجة حتمية لأي فرض جدي لمنطقة حظر طيران.

من ناحية أخرى نرى روسيا غارقة حتى أذنيها في الأزمة بذريعة التخلص من الجماعات “الإرهابية” ( كما تصف كل جماعات المعارضة المسلحة). هذه مهمة غير محددة وهي غطاء مخادع يخفي أهدافاً أكبر تتمثل في إعادة تأكيد الدور الروسي وهو أمر لن يتراجع عنه الرئيس بوتين بسهولة. إن المقترحات غير الناضجة التي نراها الآن تشبه ضمادات خفيفة للأزمة، وفي أسوأ الأحوال فقد تكون وصفة لحرب عالمية واسعة. فقد توسع الولايات المتحدة من تدخلها، ولكنه من غير المتوقع أن تتجه لتصعيد هذا التدخل بوجه الخطوات الروسية الثابته بالرغم من دعوات هيلاري كلينتون لفرض منطقة حظر طيران.

إن سوريا بحد ذاتها ليست لاعبا مهما أو جائزة عالية القيمة في مجال العلاقات الدولية. إن النظام السوري يقوم هو وروسيا بتسريع حملاتهما لتعزيز الوضع العسكري للنظام، إضافة لوضعه الاقتصادي قبل أن تأتي إدارة جديدة للبيت الأبيض في يناير المقبل. ولكن هناك بعداً آخر لهذا الأمر. وحتى نفهم السبب وراء هذا المأزق لا بد لنا أن نلقي على الموضوع نظرة شاملة تلم بكل الأزمات الاقليمية المترابطة. فالأزمة السورية تزداد ارتباطا يوماً بعد آخر بالتطورات الاقليمية من العراق إلى اليمن، إضافة إلى موضوع داعش. وفي الوقت الذي تقصف فيه روسيا حلب فإن السعودية تقصف اليمن بطائرات أمريكية الصنع تقوم واشنطن بإعادة تزويدها بالوقود، في الوقت الذي تتقدم فيه قطع البحرية الايرانية إلى السواحل اليمنية لتدافع عن الحوثيين. يقوم كل من روسيا، وسوريا، والثوار السوريون، والولايات المتحدة، وتركيا، والعديد من الفصائل الكردية، والعراق والحشد الشعبي فيه بقتال داعش، أو يزعم بعض منهم أنه يفعل ذلك. وقد بدأ آخر خمسة أطراف ممن ذكرناهم سابقاً بهجوم لاستعادة الموصل من داعش رغم أن الحكومة العراقية وتركيا منخرطتان في حرب كلامية حول من سيشترك في القتال من عدمه. وهناك الكثير من التعقيدات الاضافية قد تبرز، حتى إذا أهملنا النظر إلى المستقبل.

إن أي شخص يعتقد أنه يمكن التعامل مع الأزمة السورية بمعزل عن هذه المعارك فإنه لا يرى الصورة الكاملة. إن الجدول الزمني لكل طرف يختلف عن الآخر، وهكذا فإن سحق المعارضة في حلب قد يكون قريبا جدا بالنسبة للروس والنظام السوري. وسيكون هذا مرحلة ضمن جهد استراتيجي أوسع ستكون له آثار ارتدادية على المنطقة. مع كل هذه المتغيرات، فإن هناك تطورات غير متوقعة قد تعقد الموقف في سوريا أكثر، وكل هذا سيكون على حساب الشعب السوري.

مخارج غير مرضية

منذ فترة من الزمن لم تعد هناك مبادئ في هذه الأزمة، وأصبح مفهوم النصر والمنتصر غير ذي معنى. حتى الآن لا يوجد سوى ضحايا. إنه من الصعب أن نكتب ونفكر بهدوء في الوقت الذي يتدمر فيه البلد ويتمزق فيه المجتمع السوري، ولكن هذا يجب أن يكون دافعا لنا لنلج أماكن لم نفكر فيها من قبل.

يجب ألا يكون هناك من يزعم النصر المطلق وبضمن هؤلاء العناصر المسلحة المتصارعة. ولكن الكثيرين يرون منتصراً محتملا يمكن لهم أن يؤيدوه. البعض يريدون للنظام أن يختفي أولا بغض النظر عمن يقود الجهد لتحقيق هذا الهدف، فحجتهم هي أنه ” حينها فقط يمكننا التحاور، والبناء، والمصالحة”. وكأن النظام عبارة عن جسم منفصل بذاته عن الناس ويمكن فصله بعملية جراحية. أما التصور الآخر الذي لا يقل خيالية عن سابقه فهو الطلب بأن يتم سحق المعارضة أولا، وبعد هذا يمكن للنظام أن يعيد بشكل ما سيطرته على كامل سوريا ويضم ما تبقى من البلد ويعيد إنتاج ماضيه القمعي. وبعيداً عن المعايير الأخلاقية فإن كلا المطلبين خياليان.

إن الأساسيات ليست لغزاً. فلا يمكن العودة إلى أسلوب الحكم الذي كان قائما قبل 2011، ولا يهم هنا إن كان الروس يرغبون في هذا أو حتى الإرادة السماوية. وبشكل مشابه فإن المعارضة لن تطيح بالنظام وتبني سوريا علمانية، وديمقراطية تتمتع بعدالة اجتماعية لأنه لا أحد من الداعمين الخارجيين أو من الميليشيات القوية في الداخل يريد هذا. إن من يريدون سوريا علمانية وديمقراطية وعادلة مع مواطنيها موجودون على طرفي الانقسام الحاصل ولكن أصواتهم يتم اسكاتها.

رغم أن الظروف الحالية تبدو قاتمة، فإنه يمكننا على الأقل أن نجمع الأصوات اليائسة سوية تحت شعار النضال من أجل سوريا أفضل. ولكن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا وافقت جميع الأطراف على أنهم لا يمكن لهم الحصول على كل ما يريدون. أو على الأقل أن يتقبلوا الحاجة لإعادة تعريف الانتصار وفق حدود لا تقصي الآخرين وتشمل كل المجموعات السورية، وتحفظ مصالح السوريين جميعا وتفي بوعد تحقيق العدالة لكل من عانوا.

يجب على كل معارضي النظام، أيا كان منطلق معارضتهم، أن يجندوا طاقاتهم نحو بناء حركة أكثر استقلالية، وديمقراطية، وشمولية على أسس الأهداف الوطنية المشتركة، والمصالح المتداخلة حتى يمكن على الأقل إيقاف هذا العنف. هذه المهمة ستكون طويلة وشاقة، وفي خلالها يجب علينا أن ننظر بجدية في بعض الطروحات والمخاوف التي تتبناها كلا الروايتين اللتين ناقشهما المقال. الأهم من هذا أننا يجب ألا نقوم بهذا وفي مقصدنا نهاية محددة لهذه الأزمة. من المهم أن نبقي في حسباننا أن هناك حياة يمكن أن تبنى بعد الأزمة مما يتطلب بناء نقوم به بروح المسؤولية. يجب أن نبدأ الآن، وإلا فإن لاعبين آخرين أكثر قوة وأفضل تمويلا يمكنهم أن يسرقوا هذه اللحظة من الزمن مرة أخرى ويفرضوا نموذجا مخففا لسوريا قمعية واستغلالية.

الأخبار الجيدة هنا هي أن العديد من الجماعات والمنظمات داخل وحول سوريا قد بدأت بالفعل في بذل هذا الجهد، وهي واعية تماماً أن المنظمات الدولية، والمانحين، والدول ستتكالب على المشهد السوري حين يحين وقت إعادة البناء. هؤلاء اللاعبون الخارجيون الأغنياء، سواء كان البنك الدولي، أو مجلس التعاون الخليجي، أو الممولين أو غيرهم وبضمنهم الصين، قد بدأوا عملهم بالفعل في ترقب لنهاية للأزمة وهم يتمتعون بأفضلية تنظيمية فيما يخص رأس المال وشبكات العلاقات. يجب ألا يترك هؤلاء ليتحكموا منفردين في “فترة ما بعد الأزمة”. إن الجهود البديلة تستحق مساندتنا في الدفع باتجاه رواية مستقلة للأزمة، وباتجاه سوريا مستقلة واثقة الخطى.

قد يكون هذا الأمر بعيد المنال، ولكنها رؤية يمكن لنا أن نخلق منها أفكاراً منتجة لا تلغي إحداها الأخرى من أجل وجهات النظر الموجودة بالفعل والتي تعتبر أكثر صعوبة في التحقيق وأكثر دموية.

[ترجمة علي أديب عن الإنجليزية]

[اضغط/ي هنا للنسخة الإنجليزية من المقال]

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]