تفاهمات كبرى ومقايضات تحدد خرائط النفوذ في سوريا

تفاهمات كبرى ومقايضات تحدد خرائط النفوذ في سوريا

ترأس الرئيس الأميركي دونالد ترمب، اجتماعاً لمجلس الأمن القومي، أمس، لاتخاذ قرار نهائي بشأن الوجود العسكري الأميركي شرق سوريا. ويلتقي رؤساء روسيا فلاديمير بوتين، وتركيا رجب طيب إردوغان، وإيران حسن روحاني، في أنقرة، اليوم، لبحث ترتيبات عسكرية – سياسية لسوريا بينها مستقبل العملية العسكرية التركية في تل رفعت بعد سيطرة أنقرة وحلفائها على عفرين شمال حلب، إضافة إلى مستقبل التسوية السياسية.

يأتي ذلك بعد سيطرة قوات الحكومة السورية على غوطة دمشق، والوصول إلى اتفاقات لإجلاء نحو 100 ألف مقاتل وعائلاتهم، بينهم 60 ألفاً وعائلاتهم يُتوقع أن يشملهم اتفاق دوما، من شرق العاصمة إلى شمال سوريا وشمالها الغربي. وبات السؤال المطروح بعد الغوطة: هل تذهب قوات الحكومة إلى الجنوب أم إلى ريف حمص؟ لكن يبدو أن خطوط مناطق النفوذ ترتسم رويداً رويداً وسط مخاوف من تحول هذه المناطق تقسيماً للبلاد كأمر واقع.

«إقليم» شرق نهر الفرات

تسيطر «قوات سوريا الديمقراطية» التي تضم «وحدات حماية الشعب» الكردية وفصائل عربية، على مناطق شرق نهر الفرات التي تشكل نحو ثلث مساحة الأراضي السورية، لكن الأهم أنها تضم 90% من إنتاج النفط السوري، إضافة إلى 45% من إنتاج الغاز السوري، حسب تقدير خبراء.

وبلغ الإنتاج السوري من النفط قبل 2011 نحو 380 ألف برميل يومياً. وانخفض إلى 20 ألفاً ثم ارتفع إلى حدود 60 ألفاً، من آبار تنتشر في مناطق تحت سيطرة حلفاء واشنطن تُباع في معظمها لمناطق حلفاء موسكو!

وتغيّرت السيطرة على المصادر الطبيعية في السنوات السبع الماضية. إذ كانت فصائل إسلامية ومعارضة تسيطر على معظم آبار النفط والغاز ومحطات الكهرباء، لكن وقوع معظمها تحت سيطرة «داعش» أدى إلى تقاسم السيطرة بين «قوات سوريا الديمقراطية» من جهة وقوات النظام من جهة أخرى.

ويُنتج في سوريا حالياً نحو 60 ألف برميل، إذ يكلّف إنتاج البرميل 8 دولارات أميركية، يضاف دولاران لنقل كل برميل، و8 دولارات لمعالجة برميل النفط في مصفاة حمص الخاضعة لسيطرة القوات الحكومية وسط البلاد، ثم يباع بأكثر من ضعف المبلغ في الأسواق. وأشار إلى أن تجارة النفط باتت تشكل مصدراً رئيسياً لاقتصاد الحرب في البلاد، وأنها توفّر مليون دولار يومياً.

وكان التحالف الدولي ضد «داعش» بقيادة أميركا قد دعم «قوات سوريا الديمقراطية» لتحرير شرق البلاد من التنظيم الإرهابي، حيث تمت السيطرة على الرقة والحسكة وزاوية الحدود «السورية – التركية – العراقية». وجرى في مايو (أيار) الماضي التوصل إلى اتفاق أميركي – روسي تضمّن عدم عبور حلفاء موسكو إلى الضفة الشرقية للفرات باستثناء الذهاب إلى البوكمال والميادين، مقابل موافقة الجانب الروسي على العبور إلى الضفة الغربية، للسيطرة على مدينة الطبقة، خصوصاً سدها الاستراتيجي ومطارها العسكري، إضافة إلى السيطرة على منبج شمال شرقي حلب.

وأقام الجيش الأميركي، الذي يضم ألفَي عنصر ومئات من المقاتلين البريطانيين والفرنسيين والنرويجيين (سابقاً) عدداً من القواعد العسكرية، خصوصاً في عين العرب (كوباني). وبات حلفاء واشنطن يسيطرون عملياً على «سوريا المفيدة» اقتصادياً، حيث تقع ثروات النفط والغاز والزراعة والمياه والسدود. وبقي «مربعان أمنيان» للحكومة في القامشلي والحسكة، إضافة إلى تسيير رحلات للطيران المدني بين القامشلي ودمشق.

عليه، استمرت روسيا وحلفاؤها في اختبار أميركا التي وفّرت الدعم لـ«قوات سوريا الديمقراطية» للسيطرة على منشأة غاز بدأت شركة «كونوكو» الأميركية تشغيلها قبل 15 سنة، وتشمل خطين لإنتاج الغاز الحر والمرافق للاستخدام المنزلي، إضافة إلى توفير 145 مليون قدم يومياً لمحطة جندر للكهرباء قرب حمص لإنتاج 400 ميغاواط من الكهرباء، أي 40% من الكهرباء المنتجة من الشبكة السورية.

وكانت موسكو تريد السيطرة على المنشأة، وقصف الطيران الروسي مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» قرب كونوكو، تعبيراً عن الانزعاج. وفي بداية فبراير (شباط) هاجمت مجموعة من «المرتزقة» الروس يعملون ضمن «مجموعة فاغنر» المرتبطة برجل الأعمال يفغيني بريغوجين المقرب من الرئيس فلاديمير بوتين ويُعرف بأنه «طباخ بوتين»، موقعاً لحلفاء واشنطن للضغط باتجاه أكبر حقل نفطي. لكن الرد الأميركي كان حاسماً، إذ إن الجيش الأميركي قصف القافلة وقتل عشرات يعتقد أنه بينهم 195 من «المرتزقة» الروس.

وكانت تلك إشارة من واشنطن للدفاع عن شرق نهر الفرات في ضوء الاستراتيجية التي أعلنها وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون بـ«البقاء إلى أجل غير مسمى» شرق الفرات لتحقيق أهداف للمصالح الأميركية بينها: منع ظهور «داعش»، وتقليص النفوذ الإيراني، ومنع التواصل بين إيران و«حزب الله» عبر الحدود السورية – العراقية، والضغط على موسكو ودمشق وطهران لتحقيق انتقال سياسي في سوريا، وعودة اللاجئين والنازحين، ومنع استخدام السلاح الكيماوي.

وكررت واشنطن التزامها مع حلفائها لدى إرسالها قبل أسبوعين مسؤولين كباراً إلى منبج شمال شرقي حلب، كي تقول للجيش التركي إن التقدم إلى هناك أيضاً ممنوع حالياً، وسط استمرار المفاوضات بين أنقرة وواشنطن للوصول إلى ترتيبات حول منبج التي تضم دوريات عسكرية أميركية تفصل المقاتلين الأكراد عن حلفاء تركيا، كما تضم مركزاً عسكرياً روسياً في ريفها يفصل الأكراد عن قوات الحكومة السورية.

كان الجيش الأميركي قد قصف في مايو العام الماضي مرات عدة، مقاتلين موالين لدمشق، وأُسقطت طائرة سورية في إطار الدفاع عن قاعدة أقامها التحالف الدولي في معسكر التنف في زاوية الحدود «السورية – الأردنية – العراقية»، وحدد دائرة بقُطر 55 كيلومتراً لحمايتها من أي هجوم. وضمت فصائل معارضة لقتال «داعش» خضعوا لتدريبات على أيدي وحدات خاصة أميركية وبريطانية ونرويجية. لكن يبدو أن الاختبارات الروسية – الإيرانية لمدى التزام روسيا ستبقى قائمة، مع العلم أن «الحشد الشعبي» العراقي سيطر على الجبهة المقابلة من حدود سوريا.

جنوب هش… و«نصيحة» أميركية

إذا كانت واشنطن قد دافعت بوضوح عن التنف وشرق نهر الفرات وأرسلت إشارات لحماية منبج، فإن منطقة النفوذ الأميركية الرابعة جنوب سوريا تخضع لاعتبارات أخرى. إذ إنه في يوليو (تموز) الماضي، توصل الرئيسان دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في هامبورغ إلى اتفاق على «عدم وجود قوات غير سورية» في مناطق «هدنة الجنوب» في درعا والقنيطرة والسويداء، ما يعني إبعاد تنظيمات تدعمها إيران و«حزب الله» عن حدود الأردن وخط فك الاشتباك في الجولان المحتل.

وبعد مرور أشهر من اتفاق هامبورغ، وعلى هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (أبيك) في دانانغ في فيتنام، توصل وزيرا الخارجية الأميركي –حينها- ريكس تيلرسون، والروسي سيرغي لافروف إلى اتفاق، أُعلن باسم الرئيسين ترمب وبوتين في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) تضمّن عناصر، بينها أهمية «خفض التصعيد» في الجنوب باعتباره «خطوة مؤقتة» للحفاظ على وقف النار، وإيصال المساعدات الإنسانية.

وكانت قد وُقعت في عمان، في 8 نوفمبر، مذكرة تفاهم لتنفيذ اتفاق تموز، وتضمنت تأسيس مركز رقابة في عمان لتنفيذ الاتفاق «الروسي – الأميركي – الأردني» لاحتفاظ المعارضة بسلاحها الثقيل والخفيف، وتحديد خطوط القتال، وبدء تبادل تجاري مع مناطق النظام، وتشكيل مجلس محلي معارض، واحتمال عودة اللاجئين من الأردن أو نازحين قرب الحدود.

الخطة بالنسبة إلى أميركا، ترمي إلى «الخفض والقضاء النهائي على وجود القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب من المنطقة لضمان سلام أكثر استدامة»، في إشارة إلى عناصر الميليشيات الإيرانية و«حزب الله» المنتشرين. أما بالنسبة إلى موسكو، فالخطة تعني القضاء نهائياً على «جبهة النصرة» و«جيش خالد» التابع لـ«داعش» جنوب سوريا. ورفضت إسرائيل أن يقيِّد الاتفاق حركة طائراتها في قصف أهداف لـ«حزب الله» أو تنظيمات إيرانية قرب الجولان أو جنوب البلاد.

التزام الجانب الأميركي نهاية العام أوقف الدعم العسكري والمالي لـ35 ألف مقاتل معارض كانت تدعمهم «غرفة العمليات العسكرية» بقيادة «وكالة الاستخبارات الأميركية» (سي آي إيه). وطرحت أفكاراً بدعمهم لمحاربة «داعش» و«جبهة النصرة» في الجنوب.

ومع قرب انتهاء العمليات العسكرية في الغوطة، توجهت تعزيزات إلى ريف درعا وشنت غارات على مناطق مختلفة. وحسب مسؤول غربي، استعجلت واشنطن الدعوة إلى اجتماع في عمان لعقد محادثات روسية – أميركية، حيث تبادل الطرفان الاتهامات؛ واشنطن تقول: إن موسكو لم تلتزم إبعاد «القوات غير السورية» بين 5 و15 كيلومتراً في المرحلة الأولى، و20 كيلومتراً بالمرحلة الثانية. وموسكو تقول: إن واشنطن لم تلتزم محاربة «النصرة» و«جيش خالد».

وتشير مؤشرات إلى احتمال حصول ترتيبات جديدة في الجنوب السوري تشمل فتح الطريق التجارية والمعبر الحدودي مع الأردن، وعودة «رموز الدولة ومؤسساتها»، وسط حملة يشنها الجيش الروسي وأنصار دمشق للوصول إلى «تسويات ومصالحات».

لكن النصيحة الأميركية للمعارضة، كانت بعدم استفزاز قوات الحكومة وروسيا كي لا تتعرض لقصف وهجوم بري بدأت مؤشراته تظهر على الأرض. وهناك من يتحدث عن مقايضة جديدة تتضمن تثبيت أميركا شرق الفرات مقابل تخليها عن جنوب سوريا.

«سوريا مفيدة» عسكرياً

بالسيطرة على الغوطة، تكون قوات الحكومة سيطرت على نصف مساحة سوريا وأكثر من 65% من السوريين الباقين في البلاد (هناك 5 ملايين لاجئ في الدول المجاورة وأكثر من 6 ملايين نازح داخلي) وشرايين الطرق الرئيسية والمدن الكبرى بعد استعادة شرق حلب نهاية 2016، ووسط حمص في 2014، إضافة إلى مدينتَي حماة وتدمر وسط البلاد، ودير الزور على نهر الفرات، لكن الأهم هو تأسيس قاعدتين عسكريتين إحداهما على البحر المتوسط، ونشر منظومة صواريخ «إس – 400»، وتجريب نحو 200 سلاح جديد.

وفي الوسط السوري، بقي «جيب» ريف حمص تحت سيطرة فصائل معارضة، ويخضع لاتفاق خفض التصعيد برعاية روسية، وسط أسئلة عن مستقبله مقابل وجود تصميم روسي على السيطرة على شرايين الطرق الرئيسية.

وباعتبار أن مناطق قوات النظام تفتقر إلى الموارد الطبيعية، وأن الغاز والنفط شرق البلاد تحت سيطرة حلفاء أميركا، طُرحت تساؤلات عن إعادة الإعمار بسبب غياب القدرة المالية لحلفاء النظام في روسيا وإيران لتعويض كلفة الدمار التي تتجاوز 220 مليار دولار أميركي، علماً بأن موسكو قدرت كلفة الدمار بـ400 مليار دولار.

في المقابل، أعلنت 18 دولة في اجتماع بقيادة أميركية، عُقد في نيويورك في سبتمبر (أيلول) الماضي، أنها لن تشارك في إعمار سوريا ما لم يحصل حل سياسي ذو صدقية بناءً على تنفيذ القرار 2254.

عليه، بدأت بوادر معارك بين «أمراء الحرب» ورجال الأعمال الجدد الذي برزوا في اقتصاد الحرب، ويتنافسون على حصة في مستقبل البلاد، خصوصاً بضعة رجال برزوا من تجارة النفط من شرق البلاد إلى غربها. كما ظهر تنافس روسي – إيراني على ثروات غرب نهر الفرات.

وكان لافتاً أنه بعد توقيع طهران ودمشق اتفاقاً لاستثمار الفوسفات السوري قرب تدمر بداية العام الماضي، وقّعت وزارة النفط السورية عقداً مع شركة «ستروي ترانس غاز» الروسية لاستخراج الفوسفات في مدينة تدمر في ريف حمص الشرقي.

ونص الاتفاق على أن يتم تقاسم الإنتاج بين الطرفين لنصف قرن، بحيث تكون حصة دمشق 30% من كمية الإنتاج البالغ سنوياً 2.2 مليون طن من موقع يبلغ احتياطيه الجيولوجي 105 ملايين طن.

وحسب معلومات، تجري مفاوضات لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاق لتشغيل شركة ثالثة للهاتف النقال من قبل شركة إيرانية تابعة لـ«الحرس الثوري» الإيراني، واستثمار أراضٍ زراعية، وتأسيس ميناء نفطي صغير على البحر المتوسط، إضافة إلى أنباء عن قواعد عسكرية إيرانية قرب دمشق ووجود تنظيمات تضم عشرات آلاف العناصر التابعين لطهران.

إدلب… ملجأ المهجَّرين

في إدلب بين 2.5 و3 ملايين مدني وأكثر من 50 ألف مقاتل من فصائل إسلامية ومتشددة ومعتدلة، بينها أكثر من 10 آلاف في «هيئة تحرير الشام». وتضم إدلب أيضاً عشرات الآلاف من المقاتلين الذين تم إجلاؤهم على مراحل من مناطق مختلفة بموجب اتفاقات مع دمشق، آخرها من الغوطة الشرقية بإشراف روسي مباشر. لكن أنقرة نجحت سبتمبر الماضي في الوصول مع موسكو إلى حلولٍ وسط بضم إدلب الواقعة قرب الحدود التركية إلى اتفاق «خفض التصعيد». وتطبيقاً للاتفاق، انتشرت قوات تركية في 12 – 13 نقطة مراقبة داخل الحدود الإدارية لإدلب منذ مطلع العام. ويرى الباحث في مجموعة الأزمات الدولية سام هيلر، حسب وكالة الصحافة الفرنسية، أن هذا الانتشار منع «قوات دمشق من التوغل في إدلب».

وخسرت قوات النظام السوري محافظة إدلب (شمال غرب) منذ صيف عام 2015، إثر سيطرة تحالف فصائل متطرفة وإسلامية عليها، لكنه سرعان ما تفكك إثر جولات اقتتال داخلي تطورت إلى صراع على تقاسم النفوذ بين «الفصائل الإخوة».

وتسيطر «هيئة تحرير الشام» (النصرة سابقاً) حالياً على نحو 60% من إدلب، بينما تنتشر فصائل أخرى إسلامية منافسة لها في مناطق أخرى. وربط تقرير لمجموعة الأزمات الدولية، في فبراير الماضي، تماسك مكونات «الهيئة»، باعتبارها «اللاعب الأقوى في إدلب بالإضافة إلى كونها مصدراً مهماً للدخل والتوظيف». وتمكنت قوات الحكومة السورية مؤخراً من استعادة السيطرة على مطار أبو الضهور العسكري وعشرات القرى والبلدات في ريف إدلب الجنوبي الغربي شمال حماة.

ويرتبط مصير إدلب بقدرة أنقرة على توسيع سيطرتها شمال غربي سوريا وتقليص نفوذ «هيئة تحرير الشام»، اللاعب الأقوى ميدانياً. ويُجمع محللون على أن تركيا التي تشكل إعادة مئات آلاف اللاجئين السوريين الموجودين لديها إلى سوريا أحد أكبر هواجسها، والتي لطالما أيّدت وجود منطقة عازلة قرب أراضيها، غير مستعدة لاستقبال موجات جديدة من النازحين قد يتسبب بها أي هجوم محتمل للنظام السوري على إدلب المكتظة سكانياً. لكن تركيا التي تدعم الفصائل الإسلامية الموجودة في إدلب لا تتمتع بالنفوذ نفسه على «هيئة تحرير الشام».

وتُبقي «هيئة تحرير الشام»، حسب هيلر، «سيطرتها على مفاصل المنطقة الأكثر حيوية. وهي تمسك بالشريط الحدودي ومعبر باب الهوى، بالإضافة إلى مدينة إدلب، مركز المحافظة»، وتتحكم في الحواجز الحدودية مع تركيا التي تتدفق البضائع والسلع عبرها من وإلى إدلب، وتؤمِّن تمويلها من خلالها. وقالت الصحافة الفرنسية إن حكومة الإنقاذ الوطني التي شكلتها المعارضة قبل أشهر في إدلب، وتعد بمثابة الذراع المدنية لـ«الهيئة»، تحاول فرض سيطرتها على المجالس المحلية والمنشآت المدنية، وتتحكم في مصادر الدخل الرئيسية كالمعابر والمحروقات وتفرض الضرائب تباعاً على الأسواق والمحال التجارية.

وقبل أسابيع، انضوت حركة «أحرار الشام الإسلامية»، حليفة «هيئة تحرير الشام» سابقاً، مع «حركة نور الدين زنكي»، فصيل إسلامي معارض، تحت مسمى «جبهة تحرير سوريا»، وشن هذا التحالف المدعوم من تركيا قبل بضعة أسابيع، هجوماً على مواقع لـ«هيئة تحرير الشام» وتمكّن من طردها من عدد من المناطق أبرزها مدينتا أريحا ومعرة النعمان. لكن يبدو إلحاق الهزيمة بـ«هيئة تحرير الشام» من دون مشاركة تركية مباشرة إلى جانب الفصائل المعارضة في إدلب أمراً صعباً. وبالتالي، فإن حسم مصير إدلب قد يمر بقتال داخلي جديد، حسب «الصحافة الفرنسية». ولا تزال مؤشرات ذلك مستمرة بين اقتتال وهدنات بين الكتلتين.

«غضن زيتون» وبندقية تركية

بعد فشل محاولة الانقلاب في تركيا بدأ منعطف العلاقات بين أنقرة وموسكو. تطور تدريجياً. في نهاية 2016، أعطى الجيش الروسي الضوء الأخضر لنظيره التركي للقيام بعملية «درع الفرات» لانتزاع منطقة بين حلب وجرابلس بالتزامن مع دخول قوات الحكومة السورية إلى شرق حلب.

طموح تركيا كان تأسيس جيب يمنع التوصل بين إقليمين كرديين شرق نهر الفرات وإقليم عفرين. وكان طموحها السيطرة على 5 آلاف كيلومتر مربع، أي نصف مساحة لبنان، لكن موسكو لم تسمح إلا بنحو 2100 كيلومتر مربع.

وفي بداية العام الجاري، أعطت موسكو ضوءاً أخضر ثانياً لأنقرة بشن عملية «غضن الزيتون» للوصول إلى مدينة عفرين. كان طموح تركيا منع وصول الأكراد إلى البحر المتوسط. سيطر الجيش التركي على عفرين بالتزامن مع دخول قوات الحكومة السورية إلى جنوب غوطة دمشق.

عين الجيش التركي حالياً على تل رفعت المحاطة بالجيش الروسي وقوات دمشق، وتجري مفاوضات للاتفاق على ترتيبات الانتشار التركي بالتزامن مع قيام دورية تركية باستطلاع شمال حماة وجنوب إدلب بعمق 200 كيلومتر من حدود تركيا.

وستكون هذه التفاصيل على جدول القمة الثلاثية «الروسية – التركية – الإيرانية» في أنقرة، غداً. ويلمّح كثيرون، حسب الصحافة الفرنسية، إلى أن تدخل تركيا الذي أدى إلى انتزاع عفرين أخيراً من أيدي الأكراد يدخل ضمن إطار التفاهمات الروسية – التركية. ويندرج في إطار هدف آخر للمنطقة العازلة المطلوبة تركياً، وهو إبعاد الأكراد عن الحدود التركية.

ولوحظ قيام تركيا، التي تستضيف نحو 2.5 مليون لاجئ سوري، بربط مناطق تحت سيطرتها بالنظام الاقتصادي والإداري والخدمي التركي، بما فيها تدريب الشرطة وتوفير خدمات البريد والمجالس المحلية والكهرباء والإنترنت وتعليم التاريخ التركي. وأُعلن عن اتفاق بين وزارة الجمارك وولاية هاتاي على افتتاح معبر يربط عفرين بتركيا في قرية حمام التابعة لناحية جنديرس. وأُرسلت فرق لترميم سدود ومدارس وتوفير خدمات. كما شجعت أنقرة مجلساً محلياً في عفرين.

وحدة سوريا في تقسيمها

بالتوازي مع التفاهمات بين اللاعبين الخارجيين والمقايضات بين الأراضي السورية، هناك في الخطاب الرسمي لدمشق وموسكو وأنقرة وطهران وواشنطن، إجماع على الرغبة في «وحدة سوريا» و«السيادة السورية». أيضاً، هناك عبارة أخرى تتكرر أن «القرار سوري والعملية (السياسية) بقيادة سوريا» بالتزامن مع فرض الخارج تفاهماته على السوريين، حكومةً ومعارضةً.

دمشق تعلن رغبتها في خوض «معركة تحرير» وهي تعد الوجود الأميركي والتركي «غير شرعي»، الأمر الذي توافق عليه موسكو التي تطالب أنقرة وواشنطن بـ«التنسيق مع الحكومة الشرعية». وسيكون هذا جزءاً أساسياً من الخطاب السياسي المصادر من دمشق.

لكن عملياً، يبدو أن مناطق النفوذ الجغرافي باتت تُرسم بالدم والسلاح بتفاهمات الدول الخارجية، وتشمل سيطرة الحكومة على نصف مساحة البلاد وحلفاء أميركا على ثلثها وتقاسم المعارضة وتركيا الـ20% المتبقية. صحيح، أن اتفاق آستانة تحدث أن مناطق «خفص التصعيد» هي «مرحلية لستة أشهر»، لكن القلق مشروع من أن يتحول المؤقت إلى دائم بفعل الأمر الواقع وتراجع القدرة العسكرية والاقتصادية للسيطرة على كامل الأراضي السورية البالغة 185 ألف كيلومتر مربع، من دون دعم كامل لتنظيمات إيرانية أو تدخل بري روسي قوامه 100 ألف جندي.

عليه، يكتسب تحذير المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا من «كارثة التقسيم» الكثير من الشرعية، وأن تبقى سوريا «الرجل المريض» موحّدة في خرائط الجدران والمكاتب والمؤسسات الدولية. إذ قال في معهد الدراسات العليا في جنيف الأسبوع الماضي: «الحقيقة هي أن التقسيم الهادئ وطويل المدى لسوريا، الذي نشهده في اللحظة الراهنة في مناطق سيطرة مختلفة، سيكون كارثة ليس فقط على سوريا بل على المنطقة بأكملها». وأضاف: «من دون حل سياسي لا يُقصي أحداً، بما يشمل مَن تم استبعادهم، وتحديداً الأغلبية السنة، سيعود (داعش)».

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

البعث والهوية السورية

البعث والهوية السورية

عندما تتصاعد الأزمات الاجتماعية وتصل إلى المستوى السياسي العميق، كالثورات والحروب الناتجة عنها، يتصاعد الحديث عن شكل الدولة ودستورها، ويحضر نقاشٌ الهوية، والتي يجب أن تطابق هوية المجتمع حتى تعبّر عنه.

في الحالة السورية، استطال الصراع بين النظام والمعارضة، وتشابك وتعقد مع التدخلات الإقليمية والدولية؛ وبعد فشل الإيديولوجيا القومية البعثية في خلق هوية سورية جامعة، تبين أن لا هوية سورية ناجزة تعبّر عن كل الشعب، في ظل تصاعد هويات قديمة دينية وطائفية وعشائرية وقبلية، وأيضاً هويّات قومية.

هناك آراء عديدة ترى أن تلك الهويات القديمة المتصاعدة هي ميّزة من ميزات المجتمع السوري، أو ما اصطُلح تسميته بالنسيج السوري الفسيفسائي، وأن المجتمعات العربية غير قادرة على الولوج في عالم الحداثة وقيمه، وبالتالي يجب أن يطابق العقد الاجتماعي هذه الخاصية، أي يعترف في نصوصه بأن المجتمع طوائف وقوميات وعشائر وإثنيات، وأن الديمقراطية المناسبة لسورية هي ديمقراطية تمثيل هذه التصنيفات. أو هناك من يطرح فيدرالية الطوائف والقوميات، وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك، أي التقسيم على أساسها؛ وقد رأينا أن الطروحات الأخيرة سقطت، إذ لا إرادة دولية، لمجمل الدول المتحكمة، بتقسيم سوريا.

ورغم ترسيخ نظام البعث، واستغلاله المسألة الطائفية، لكنه لم يشجّع على تشكّل زعامات طائفية في سورية، وهي لم تكن موجودة من قبل كالحالة اللبنانية. هذا جزءٌ من سياسته في التفرد في الحكم، وليبقى هو الضامن الأوحد لتماسك تلك البنى القديمة، وتخويفها من التفجّر ضدّ بعضها.

الطوائف انشقاقات فكرية متقادمة عن الأديان، في المبادئ والقيم والعبادة، وقد تحولت إلى بنى مجتمعية مع انهيار الدولة العربية الإسلامية. لكن المنطقة لم تعرف استقراراً حقيقياً يؤدي إلى دخول مجتمعاتها في عالم الحداثة وقيمه السائدة في أوروبا، وبما يقطع مع تلك البنى القديمة ويعيد القصة الطائفية والدينية عموماً إلى الحيز الفكري والإيماني؛ فقد عاشت المنطقة تحت حكم الدولة العثمانية لفترة طويلة، حيث حافظت على تلك البنى، وتلاها الاحتلال الفرنسي الذي استغل الوضع الطائفي، ضمن سياساته في ترسيخ تخلف هذه الشعوب للسيطرة عليها. وتليها فترة عدم الاستقرار، في ظل سلسلة من الانقلابات العسكرية، مدعومة بالبرجوازيات المدينية المتنافسة، والتي لم تحمل مشروعاً نهضوياً حداثياً، كحال كل البرجوازيات العربية في الدول الكولونيالية.

ثم جاءت فترة استلام البعث القومي العربي الطويلة للسلطة، والتي رغم شعاراتها التقدّمية والاشتراكية والتحرّرية، لم تقطع مع البنى التقليدية للمجتمع، بل حافظت عليها، خاصة بعد السبعينات، عبر اعتماد تحاصص طائفي وعشائري وقومي في كل دوائر الدولة ونقاباتها وفي الحزب نفسه. واستغل النظام هذه البنى في قمع معارضيه مرات عديدة، في حرب الثمانينات ضد الإخوان، وفي انتفاضة الأكراد 2004، وفي الثورة السورية.

وصول البعث إلى الحكم جاء في سياق صعود الأحزاب القومية في البلدان العربية التي كانت تحت سيطرة الاستعمار القديم. فمنذ مطلع القرن العشرين، تصاعدت لدى العرب الهوية العروبية كرد فعل على سياسة التتريك العثمانية. ولم يكن هذا الصعود العربي مؤدلجاً، بل كان شعوراً جامعاً لأبناء المنطقة العربية، أساسه وجود لغة تواصل مشتركة، وبالتالي ثقافة وتقاليد مشتركة، مما ولّد شعوراً بوحدة المصير، ورغبة في الارتقاء، والتحرر من سلطة العثمانيين المتخلفة. وبالتالي لم تدخل الهوية العربية في صراع مع الهويات القومية الأخرى في المشرق العربي، إلا بعد تسلّم الأحزاب القومية الحكم، وما ترتّب على أدلجة الهوية القومية العربية في فكرها. لكن ترافَقَ صعود الهوية القومية العربية، ثم تشكل الأحزاب المؤدلجة لها، مع صعود تيارات إسلامية تتمسك بالخلافة، ومنها ظهرت جماعة الإخوان المسلمين في مصر وبقية دول المنطقة، لكنها حينها لم تكن مسيطرة، إذ كانت الرغبة العربية في التحرر من الاستعمار العثماني هي الطاغية.

حزب البعث العربي لم يكن يرى سورية إلّا وطناً مؤقتاً، وأنّه ناتج عن تقسيم المنطقة عبر سايكس بيكو، وهو ما كان يتوافق مع المشاعر العربية في سورية عموماً. لكن بعد السبعينات، أي بعد ترسيخ الديكتاتورية، بات كلّ فكر البعث مجرد شعارات، وباتت الهوية الوطنية تمنح أو تُسحب من الأفراد، حسب الولاء لنظام الأسد الأب، والذي بات شمولياً؛ أي يمكن القول أن الهوية السورية في ظل نظام الأسد باتت مبنية على الولاء، في دولة الولاء.

تمكن انقلاب البعث العسكري من تثبيت حكمه، بعكس الانقلابات التي سبقته، عبر أمرين أساسيين: الأول أنه حقق بعض التقدّم للفئات المهمّشة، وكسبَ ولاءها في الجيش والحزب وإدارة مؤسساته؛ والثاني في تحالفه مع الطبقة البرجوازية المتوسطة وجزء من القديمة.

حمل فكر البعث مشروعاً تقدمياً وتحررياً عروبياً بنكهة اشتراكية، تمثّل في تبنّيه القضية الفلسطينية، والتي كانت قضية العرب الكبرى، وفي قانون الإصلاح الزراعي وتأميم بعض الشركات، وإنشاء أخرى، وقوانين تتعلق بمجانية التعليم، والعمالة الكاملة، والطبابة المجانية… واستفادت منه الفئات المهمشة في الأرياف خاصة، والتي سارعت إلى الانتساب إلى الحزب والجيش والعمل في مؤسسات الدولة. لكن البعث لم يستمر فيما بدأ عليه؛ فمع استلام حافظ الأسد للسلطة، وميله إلى التفرد بها على مراحل، انتهى حكم البعث إلى حكم الدولة الأمنية، وما يرافقها من فساد وميل إلى النهب، خاصة من الفئات الحزبية التي أتت من أصول مهمشة وأصبحوا مسؤولين ومدراء عامين لفترات طويلة. فتلك الفئات كانت طامحة إلى تحسين وضعها، وأظهرت ميلاً أيضاً إلى النهب واستغلال المناصب، وبالتالي تفشّى الفساد والمحسوبية والبيروقراطية، التي كانت ضرورية لاستمرار هذا النهب، مع استمرار مراعاة التوزيع الطائفي ضمن مؤسسات الدولة. من هنا توقفت أية إمكانية للتطور والتحديث، وبالتالي بناء علاقات مجتمعية قائمة على الفرد (المواطن)، بدلاً من الطائفة والمذهب والعرق والقومية… ولم يتحقق القطع مع البنى التقليدية المتخلفة، وبات من السهل العودة إليها بقوة، وهو ما ظهر خلال الثورة السورية.

تحالُفُ البعث مع البرجوازية المتخلفة، والعاجزة عن تحقيق التقدم، منذ الحركة التصحيحة، له أثر كبير أيضاً في الحفاظ على البنى التقليدية. فقد كان هذا التحالف أساسياً في ترسيخ الحكم، لكنّه مشروط بالإبقاء على بناها القديمة؛ فهذه الطبقة مدينية، مترابطة عضوياً، عبر صلة القرابة، مع المؤسسات الدينية الكبرى المتقادمة في دمشق وحلب، والمسيطرة على المجتمع “السني” خصوصاً في تلك المدن. وهذه الارتباط العضوي المتحالف، مع المؤسسات الأمنية، مؤثر بشكل فعال في كل سياسات النظام الداخلية، خاصة الاقتصادية والاجتماعية. فإذا كانت رغبة الفئات الريفية، التي ساهمت في ترسيخ النظام، في تحقيق التقدم والارتقاء تجعلها قادرة على تقبّل قيم المواطنة والعلمانية، فإنّ شرط الفئات البرجوازية كان عكس ذلك، أي رفض العلمانية، والإبقاء على البنى القديمة، وهو ما يُفسّر أنّ دساتير البعث، وبالمثل ما سبقه من دساتير، اضطرت إلى الحفاظ على تفاصيل تدلّ على الهوية الإسلامية، كدين الرئيس، وأن الإسلام أحد مصادر التشريع. والواقع أنّ الإبقاء على الهوية الإسلامية في دساتير البعث هو ليس من باب تمسّك الأكثرية الطائفية بالهوية الإسلامية كما يحلو لكثيرين تفسيره، ولكنّه نزولٌ عند رغبة الفئات البرجوازية المشاركة في الحكم، والتي في نفس الوقت تموّل وتدعم المؤسسات الدينية. ومن هنا يمكن فهم تحالف نظام الأسد مع مؤسسة كفتارو مفتي النظام، ودعمه لها، مقابل مبادلتها الدعم أيضاً، كمصلحة متبادلة، وبالمثل علاقة النظام بالخزنويين ومنهم محمد سعيد رمضان البوطي، ولاحقاً تقارب بشار الأسد من جماعة زيد الدمشقية، التي كانت ممنوعة بسبب مشاركة أفراد منها في حرب الثمانينات إلى جانب الإخوان المسلمين، والسماح بعودتها، وزيارته لأحد زعمائها، الشيخ سارية الرفاعي.

إذاً بنية نظام البعث لم تكن طائفية، بل هو استغل كل تناقضات المجتمع السوري لترسيخ حكمه، وهو مجموعة من التحالفات السياسية والاقتصادية والأمنية، والتي تعرضت لإعادة هيكلة مع قدوم الأسد الإبن إلى الحكم. فقد ترافق ذلك مع انتقال النظام إلى المزيد من الانفتاح الاقتصادي وبشكل رسمي، بضغط من الفئات الإدارية القديمة، من حزبيين ووزراء ومدراء عامين، والتي رسملت بفعل النهب، وأرادت الاستثمار، عبر أقرباء لهم، في مجال الاقتصاد المكمّل لدورة رأس المال، أي المجال الريعي، وبالتالي تخلّت الدولة رسمياً عن دعم الزراعة والصناعة الوطنية، واضطرت إلى تقليص الدعم الحكومي؛ وتحول النظام بالكامل إلى حكم مافيا عائلية، تقيم التحالفات التي تحافظ على بقائها في الحكم. هذه الانتكاسة أدت إلى المزيد من عدم الإحساس بالأمان لدى الفئات المهمّشة بما فيها التي استفادت من فترة الستينيات، والتي ارتدّت إلى بناها التقليدية، من أجل الحصول على الأمان الاجتماعي، في ظل تراجع حجم إنفاق الدولة الاجتماعي، وعن تأمين فرص عمل للجميع. وبالتالي تصاعدت الهويات الدينية في ظل حكم بشار الأسد، سواء الطائفية أو الإسلامية، وكذلك تصاعدت الهويات القومية من غير العربية.

الهوية الكردية هي الأكثر تأزماً في سورية، فقد برزت بشكل صارخ خلال الثورة السورية. أكراد دمشق حصلوا على كامل حقوق العرب المدنية، بل استطاع النظام كسب تأييدهم عبر المؤسسات الدينية الكبرى التي تحالفت معه، ويقودها أكراد، كفتارو والبوطي. وبالتالي يمكن القول أن أكراد دمشق وبقية الداخل السوري مندمجون إلى حدّ كبير ضمن المجتمعات العربية، ولم يسبق أن طرحوا إشكالية الهوية القومية خارج ما يطرحه العرب.

في حين أن أكراد شمالي شرقي سوريا عانوا من التهميش ومنع الحقوق الثقافية، والحرمان من الجنسية، في ظل حكم البعث، والحكومات التي سبقته. وبالتالي ظلت الرغبة في الاستقلال أو في عودة الدولة الكردية مرافقة لهم، ولم يضيّعوا فرصة للمطالبة بها، وهو ما حصل في الانتفاضة الكردية 2004، بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، والذي استفاد من تهميش نظام البعث العراقي للأكراد، ليكونوا أدوات لأمريكا، حيث دعمت استقلالهم في إقليم كردستان؛ لكنها لم تدعم رغبتهم في الانفصال لاحقاً.

وبالمثل، لم تدعم أمريكا أو روسيا قوات البايادي في معركة الاحتفاظ بعفرين ضد التدخل التركي وما انضم تحت لوائه من قوات عربية. وبالتالي الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية جاء أيضاً في إطار تشغيل هذه الفصائل لخدمة النفوذ الأمريكي في مناطق شرق الفرات، حيث حقول النفط والقواعد العسكرية الأمريكية.

وقبل ذلك، في 2011، النظام نفسه استغل علاقته الجيدة مع حزب العمال الكردستاني في تركيا، وسمح لفرعه في سورية (البايادي) بقيادة صالح مسلم، بإقامة سلطة كردية في الشمال الشرقي، وذلك من أجل قمع الانتفاضة الكردية في عامودا، والتي كانت في سياق الانتفاضة السورية، ورفعت الأعلام الكردية إلى جانب العلم السوري، للتأكيد على الهويتين الكردية، والسورية (أي الوطنية)، وحملت شعارات التضامن مع مدنها، درعا وبانياس وحمص…، أي لم تكن تحمل شعارات انفصالية، أو حتى مطالبات بالفيدرالية، كما هي حال الخطابات الكردية مؤخراً.

عملية “غصن الزيتون” التركية، أزمت الوضع كثيراً، وأدت إلى انتكاسة حقيقية في الهوية الوطنية السورية للأكراد، ازدادت مع تكثيف الخطاب الإعلامي المدعوم من قوات البايادي ضد العرب، وما نتج عنه من خطاب عربي مضاد، وغالباً مترافق مع نفس إسلامي آت من تحريض يقوده أئمة مساجد تركيا الموالين لأردوغان. وبالمحصلة وصلت حدة التناحر العربي الكردي إلى أقصاها مع التدخلات الإقليمية والدولية، وتوافق تلك الدول مع تركية، رغم أن شرائح واسعة من المثقفين العرب يحاولون احتواء الموقف، واستيعاب حدة الخطاب الكردي.

العديد من النخب الليبرالية تطرح العودة إلى الهوية السورية “الوطنية” الجامعة لكل السوريين، وأن تبنى الدولة على أساس الديمقراطية والمواطنة، وفصل الدين عن الدولة، وأن يكون الدستور ملائماً لروح العصر، وللقيم الليبرالية السائدة لدى الغرب، أي احترام حقوق الإنسان، والحريات العامة والثقافية وحرية المعتقد.

لا مشكلة في هذه الطروحات، لكنها لا تكفي لتحقيق الاستقرار، ولا تؤسس لمشروع يقطع مع البنى التقليدية الاجتماعية المتخلفة. القطع معها يحتاج إلى أن تأخذ الدولة دورها في توفير الأمان الاجتماعي والاقتصادي لمواطنيها، وتأمين فرص عمل للجميع، وزيادة المكتسبات الاجتماعية للمواطن، الفرد. هذا يحتاج إلى صناعة متطورة ودعم الزراعة، ودعم البحث العلمي، ومجانية التعليم والرعاية الصحية، وعدم التخلي عن القضايا العربية ومنها القضية الفلسطينية. بالتأكيد تفتقد سوريا الآن، وكذلك بقية الدول العربية التي قامت بها ثورات، إلى قوىً سياسية تحمل تحقيق هذا الهمّ. وبالتالي ستشهد سوريا والمنطقة المزيد من حالة عدم الاستقرار، والمزيد من صعود الهويات المتقادمة، وتصارعها، خاصة في ظل الاحتلالات المتعددة، إلى حين تشكل تلك القوى.

سوريا في أسبوع ٢ نيسان

سوريا في أسبوع ٢ نيسان

الغوطة خالية من المعارضة
١ نيسان / ابريل

توصل “جيش الإسلام” المعارض وروسيا إلى اتفاق قضى بإجلاء المقاتلين والمدنيين الراغبين من مدينة دوما، آخر جيب تحت سيطرة المعارضة في الغوطة الشرقية لدمشق، بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان” الأحد.

وقال “المرصد” أن الاتفاق قضى “بخروج مقاتلي جيش الإسلام وعائلاتهم والمدنيين الراغبين إلى شمال سوريا، على أن تدخل الشرطة العسكرية الروسية الى المدينة” في خطوة أولى قبل أن “تعود المؤسسات الحكومية إليها.”

وتركزت المفاوضات التي تستمر منذ فترة، مؤخراً على وجهة “جيش الإسلام” لتنتهي بالاتفاق على خروجه إلى مناطق تسيطر عليها فصائل موالية لتركيا في ريف حلب الشمالي الشرقي.

وكانت قوات النظام عززت انتشارها في محيط دوما بالتزامن مع استمرار المفاوضات تمهيداً لعمل عسكري في حال لم يتم التوصل الى اتفاق مع فصيل “جيش الإسلام”. وطالما كرر قادة “جيش الإسلام” رفضهم أي حل يتضمن اجلاؤهم الى أي منطقة أخرى، وكانوا يأملون التوصل الى اتفاق يقضي ببقاء الفصيل المعارض في دوما مع دخول الشرطة العسكرية الروسية إليها.

ويأتي التوصل الى الاتفاق النهائي بعد اتفاق آخر لإجلاء مئات المدنيين من دوما، وفق “المرصد”، الذي قال إن بينهم “نشطاء وأطباء وعائلات من فصيل فيلق الرحمن” الذي خرج من الغوطة الشرقية خلال الأسبوع الماضي.

وإثر هجوم جوي عنيف بدأته في 18 شباط/فبراير ترافق لاحقاً مع عملية برية، ضيقت القوات الحكومية تدريجيا الخناق على الفصائل المعارضة، وقسمت الغوطة إلى ثلاثة جيوب. وبعدما ازداد الضغط عليها، دخلت كل من الفصائل منفردة في مفاوضات مباشرة مع موسكو، انتهت باجلاء من جيبي حرستا وجنوب الغوطة. وانتهت السبت عملية إجلاء عناصر “فيلق الرحمن” ومدنيين من جنوب الغوطة بخروج أكثر من 40 ألف شخص.

عفرين جزء من تركيا؟
٣١ آذار / مارس

قال المتحدث باسم “مؤتمر إنقاذ عفرين” حسن شندي السبت، إن “عفرين ستصبح تابعة لمدينة هاتاي (أنطاكيا) التركية.”

وعقد “مؤتمر إنقاذ عفرين” يوم 19 آذار/ مارس الجاري، بحضور 100 شخصية من الكرد والعرب والعلويين والإزيديين، أسفر عنه انتخاب مجلس مكون من 35  شخصية، بحسب شبكة “رووداو” الكردية.

وفي حديثه للقسم التركي من موقع “دي دابليو” قال شندي، إن “بين أعضاء المجلس 24 عضواً كردياً وثمانية عرب، وواحد من المكون العلوي وواحد من الكرد الإزيديين وواحد من التركمان، وسيبدأ أعماله المتعلقة  بإعادة إعمار عفرين وتسيير أمور المدينة.” وأضاف شندي أنهم “أرسلوا قائمة الأسماء المنتخبة لوزارة الخارجية  التركية، وستتضح الأمور خلال أسبوع أو 10 أيام، ومن ثم سيتوجه أعضاء المجلس إلى عفرين.”

وتابع المتحدث باسم “مؤتمر إنقاذ عفرين”، أن “تركيا ستعين والياً على عفرين ليتولى إدارة المدينة، لكننا لا نعلم من سيكون هذا الوالي، إلا أنه سيعين من جانب تركيا التي سترسل كذلك قائممقام إلى عفرين”، مشيراً إلى أنه “إلى جانب كشف ملامح إدارة عفرين، فقد اتخذت بعض الخطوات  المتعلقة بأمن المدينة أيضاً.” كما أوضح شندي أنه “تم تشكيل قوة شرطة في مدينة عفرين مؤلفة من 450  عنصراً.”

وكانت شخصيات سياسية وفعاليات مدنية من منطقة عفرين بكردستان سوريا، أعلنت تشكيل “مجلس عفرين المدني”، بهدف “إدارة  المنطقة من الناحية المدنية، وإعادة المهجرين”، على حدِّ وصفهم.

أميركا باقية ام مغادرة؟
٣١ اذار / مارس

طالب الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد  نائب رئيس الوزراء وزير الدفاع السعودي، بعدم انسحاب الوحدات الأميركية من سوريا.

وفي مقابلة مع مجلة “تايم” الأمريكية، نُشِرَتْ مساء الجمعة، قال ولي العهد:” نعتقد بأن على القوات الأميركية أن تبقى في سورية على الأقل على المدى المتوسط، إن لم يكن حتى على المدى  البعيد.”

وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان قد أعلن في كلمة  في ولاية أوهايو الخميس، على نحو مفاجئ، عن قرب انسحاب قوات  بلاده من سورية ” بعدما قضينا على داعش، فإننا سننسحب قريبا جدا من سوريا، لنترك الآخرين يعتنون بها.”

يذكر أن الولايات المتحدة تتزعم تحالفا دوليا في سورية يحارب “داعش”، ويقاتل إلى جانب التحالف الدولي، وحدات حماية الشعب الكردية (واي بي جي).

وأوضح ولي العهد السعودي أن الوجود الأميركي في سوريا هو المحاولة الأخيرة لمنع إيران من توسيع نطاق نفوذها في المنطقة، مشيرا إلى ان  إيران تعمل مع ميليشيات وحلفاء إقليميين على إنشاء طريق بري يبدأ من لبنان ويمر بسورية والعراق وصولا إلى العاصمة الإيرانية طهران. وتابع بن سلمان أن مثل هذا ” الهلال الشيعي” من شأنه أن يمنح إيران نفوذا أكبر في المنطقة.

وقال مسؤولان كبيران في الإدارة الأميركية الجمعة إن ترامب أبلغ مستشاريه رغبته في انسحاب قوات الولايات المتحدة مبكرا من سوريا. ومن المقرر أن يعقد مجلس الأمن الوطني اجتماعا في بداية هذا الأسبوع لبحث الحملة ضد “داعش”.

وكان ترامب امر وزارة الخارجية بتجميد أكثر من 200 مليون دولار من الأموال المخصصة لجهود التعافي في سوريا مع قيام إدارته بإعادة تقييم دور واشنطن في الحرب الدائرة هناك منذ فترة طويلة. وكان ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأميركي المُقال قد تعهد بتقديم هذا المبلغ خلال اجتماع للتحالف الدولي في الكويت في شباط/ فبراير.

فوسفات سوري لروسيا ام ايران؟
٢٨ اذار / مارس

صدق مجلس الشعب (البرلمان) السوري على عقد بين المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية وشركة “ستروي ترانس غاز” الروسية بخصوص استثمار واستخراج خامات الفوسفات من مناجم الشرقية في تدمر.

وبموجب الاتفاق المبرم سيتم تقاسم الإنتاج بين الطرفين، بحيث تكون حصة المؤسسة العامة للجيولوجيا نسبة 30 في المئة من كمية الإنتاج مع دفع قيمة حق الدولة عن كميات الفوسفات المنتجة إضافة لتحمل نفقات أخرى بحدود 2 في المئة، بحسب موقع “روسيا اليوم”. وتبلغ مدة العقد 50 عاما وبإنتاج سنوي قدره 2.2 مليون طن من قطاع يبلغ احتياطه الجيولوجي 105 ملايين طن.

وأشار وزير النفط السوري، علي غانم، بحسب تصريحات صحافية، إلى توفر احتياطي كبير جدا من خامات الفوسفات في منطقة مناجم فوسفات الشرقية يبلغ 1.8 مليارات طن، لافتا إلى أن الطاقة الإنتاجية للشركة العامة للفوسفات والمناجم، بلغت 3.5 ملايين طن سنويا قبل اندلاع الحرب على سوريا.

وكان مدير عام الشركة العامة للفوسفات والمناجم، غسان خليل، أكد عودة الشركة للإنتاج في مناجم فوسفات خنيفيس والمناجم الشرقية بعد تحريرها من تنظيم “داعش” الإرهابي.

يذكر أن “ستروي ترانس غاز” نفذت مشاريع في روسيا منها بناء الشركة محطة لمعالجة الغاز، كما تقوم حاليا ببناء محطة أخرى. وفي بداية العام ٢٠١٧، وقعت دمشق وطهران مذكرات للتعاون كان بينها استثمار إيران للفوسفات السوري. ويعكس الاتفاق الأخير سعي روسيا للحصول على امتيازات في الثروات الاستراتيجية لسوريا.

الخوف من الثورة بوصفها فضيحة للهوية المشوهة

الخوف من الثورة بوصفها فضيحة للهوية المشوهة

عندما كنت أغادر إحدى الخمارات في منطقة باب شرقي بدمشق القديمة، قبل الرحيل عن سورية أواخر العام 2015، كنت قد وصلت قرب الباب العتيق الفاصل بين الشارع المستقيم في المدينة القديمة والبيوت الدمشقية الجميلة وطريق السيارات العام، كنت أشاهد بحزن سحب الدخان الأسود والحرائق المتصاعدة من أطراف مدينة جوبر، ثم أعبر باب شرقي باتجاه موقع ميكروباص جرمانا عند مفترق طريق المليحة، عند الزاوية أمر بجانب جامع له مئذنة طويلة جداً، تطل على كل المدينة، تحت المئذنة تماماً ثمة باب للجامع وآخر لمقر يدعى “معهد الفتح الإسلامي”، وفيما بعد علمت أنه معهد “شرعي إسلامي” وتحت عين السلطات السورية ويساهم في تقديم حوافز دراسية مع تعزيز قدرات الطالب في الجانب “الإسلامي” وبقي السؤال يراودني: معهد للعلوم الدينية؟ ومعاهد الأسد لتحفيظ القرآن؟

والكثير من الجمعيات الخيرية والتنموية والدينية النشطة قبل الثورة، ترى ماذا قدمت للمجتمع السوري من تطور وتغيير؟ ما شأن الدين بالفتوحات الفكريّة التي ندعيها كبلد يعتبر مدنياً؟ لماذا لا يوجد معاهد للفتوحات الشعريّة والمسرحيّة والروائيّة والفنيّة؟ معاهد لتحفيظ الشّعر والقصص الأدبيّة؟ جمعية لنشر الكتب وتوزيع علوم الأدب من مختلف أنحاء العالم؟ لماذا كان للدين كلّ تلك الحفاوة؟ وكيف أصبح “إمام” الجّامع، قائداً لسمعة شباب الحارة؟! من وضع الوصاية وصكوك الأخلاق والتربية بيد عمّال الدّين؟ ولماذا ثِقل المدن السوريّة سكانياً هو أحياء عشوائيّة ومخالفات وينشط فيها الدّين على حساب الثقافة والفكر المتنوّر المتعدّد؟

الجّامع مفتاح الغضب ومقتله!

مع غياب أيّ دور سياسي فكري للمبادرات الأهليّة والشعبيّة في سورية منذ عقود، ظهر إلى السطح منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، شكل واحد للخصومة السياسة ضد السلطة، ألا وهو المرجع الدّيني، فتشكل الوعي الشعبي على ما يجتهد به الشيوخ والدّعاة من أفكار وتفاسير تخدم “الإسلام السّياسي” وتجعل تجريبه فرصة بعد وصول العسكر إلى الحكم عام 1963، والمقصود هنا عسكر حزب البعث، وفي الضفة المقابلة الشعبيّة نشطت الحركات الإسلاميّة في سورية وخصوصاً تلك القادمة من فكر جماعة الإخوان المسلمين، ولو نظرنا إلى المشهد السّياسي منذ تسلم العسكر الحكم تحت رعاية وزير الدفاع في حينها حافظ الأسد، سوف نكتشف أن كل أشكال الحياة السياسيّة رسم لها كيان ومبدأ واحد هو المرجعية العسكريّة، والتي برغم عنفها وقربها إلى سدّة الحكم، إلا أنها لم تكن توازي النّشاط الديني الذي راح ينمو بقوة في الأوساط الاجتماعيّة معتمداً على دعم الفقراء والطبقات المتوسطة، وبات للجامع تأثيره الأقوى في الشارع السوريّ، الأمر الذي دفع “البعث” لبناء منظومة دينيّة موازية تسبّح بَحمدِ القائد والجيش وتنشر الدّين الذي يليق باستقرار النّظام وتجذره، وهذا ما نلاحظه في مباهاة البعث المستمرة أنه يبني الجوامع ودور العبادة على اختلاف أطيافها ومذاهبها، ولكنه يغلق أي نادٍ ثقافيّ أو سياسيّ ما لم يكن قد حصل على الموافقة “الأمنيّة”، وبالتالي وجد لدينا ما يعرف بقانون الطوارئ الذي أنهى الحياة السياسية تماماً في سورية حتى انتقلت أي مبادرة معارضة وسلميّة إلى موضع الاتهام والخيانة لأنها تستحضر التاريخ الأسود الذي سطّرته أحداث الإخوان في الثمانينات إلى أذهان الناس، إبان عسكرة “الطليعة المقاتلة” للمعارضة في حماة، وحسب توجيه السّلطة وتصنيع “بعبع” العنف الإسلامي، وتلك الشماعة كانت أقوى أسلحة النظام لصبغ الهويّة السياسيّة بالدّين “غير المغضوب عليه” من القائد.

أصبح الجامع مكاناً للقاءات وتقارب الناس مع بعضها وفرصة للمخبرين لمعرفة توجهات الأهالي مع انتشار الأعداد الكبيرة من الجوامع في سورية بتوجيه مدروس من النظام، وعندما اشتعلت الثّورات العربية، لم نكن نرى مظاهرة تخرج من مسرح أو مقهى أو نادي سياسي، لم نكن نسمع شعارات ثورية بقدر ما هي ذات جذور دينيّة، وكذلك الأمر في سورية التي استيقظت فجأة على الغضب الشعبي، وراح الشارع ينادي “الله سورية حريّة وبس…!” شعار أنجبه الجامع وثقافته التي لا تقبل النقد، وتؤيد “الدعاة ممن يحفظون القرآن والسنن والأحاديث المحمدية!” وهي بطبيعة الحال ثقافة تنويم أصبحت فطريّة، يعتمد عليها الإسلام السّياسيّ لاستنهاض عواطف النّاس واستثمارها في أي انتفاضة شعبيّة ليكونوا في المقدمة، وتجربة إخوان مصر، خير دليل على ذلك الفشل السياسي! ولكن، هنا في سورية الأمر مختلف كلياً، فالنظام أسّس وساهم ببناء الجوامع والمعاهد الشرعية وجعل بذور “الجّهاد” حاضرة منذ غزو العراق، فتح باب التطوع تحت شعارات دينية، لكشف الجّهاديين في سورية من الإخوان وسواهم، وفيما بعد اعتقل كل من أفرزته تلك الثقافة من مقاتلين سياسيين، فور عودتهم من العمليات العسكرية ضد الجيش الأمريكي في العراق، وبقيت الثورة- المعارضة، رهن الدين والمرجعيات المزعومة التي توجهه.

لو افترضنا أن الثقافة كمفهوم ثوريّ تنويريّ، يطالب بالتغيير السلميّ ويحترم الخصومة السياسيّة، إذ لا يبحث هذا المفهوم عن ماهيّة الأديان، بل يعتبرها ثقافة اعتقادية روحانيّة خالصة وتخص الفرد وحده، لا تعمم على المجتمع، غير قابلة للتداول أو التّحشيد الشعبي، ولكن لطالما كان أصحاب الدين يعتقدون أنفسهم هم الصّواب والحلّ بالكتب المقدسة التي يؤمنون بها ويشرعون منها فقط! ولعل تجربة “تنظيم الدولة” و “جبهة النصرة” والفصائل الإسلاميّة “المعارضة” التي تقول بأنها سورية، قد أثبتت مساهمتها الكبيرة في تدمير الثورة وتشويه الهويّة السورية، هؤلاء كانوا يشترطون على الأتباع أن يؤمنوا غيبيّاً ومذهبيّاً، وأن تكون عقيدتهم تابعة لجملة من “مجالس الشورى” بينما نرى أن الثقافة لا تحتاج للدين كبوصلة لتقوم بالتّغيير، إنّما تحتاج للانفتاح على الجميع، بلا عنف جهاديّ عقائديّ، فقط بالحجة والدليل العقلي المادي الملموس، وبالمحصلة هي تعتمد على المعرفة وترحّب باختلاف الأديان، لأنها ترى الدين، كما أسلفنا، ثقافة روحانية منزلية لا يمكن المتاجرة بها وقيادة المجتمع عبرها.

حين تظاهر السوريون من الجوامع منذ اللّحظات الأولى، صبغوا الثورة بالشكل الديني، وأبعدوا المدنيّة عن طريقهم، فتنشّط الدعاة والشيوخ والجماعات الإسلامية للتدخل والبحث عن تمويل ودعم سياسي لاستثمار بيت أسرارها وصلتها مع الناس: الجامع! فكان ما كان، بدأت الثورة بالجامع ووصلت إلى فصائل متشدّدّة وأخرى تريد تحكيم شرع الله، وثالثة تعتقد أن هناك مدنية إسلامية معتدلة (…) فقط كي ترضي الآخرين، وحين تصل للحكم سوف تسحق كل من لا يؤمن بفكرها “الإخواني”.

ربّما قتل السوريين حلمهم حين كانت فرصة الانتفاضة تنادي بالحرية والعدالة والمساواة والمدنيّة، لأنهم طيلة العقود الماضية كانوا قد أصيبوا بالتدّجين الفكري، لا تجربة سياسية حقيقية وأحزاب تقود الحراك.

الجامع، معبد إسلاميّ لا يمكن أن يقود حراكاً سياسيّاً، لقد سَخِرت المعارضة والكثير من الشخصيات السياسية “الطارئة” من تعليق الشاعر السوري أدونيس حين قال: “لا أخرج في مظاهرة سياسية تخرج من الجامع” هو المقتل الواضح الذي نستنتج منه أن الدولة السورية حتى اليوم هي دولة قائمة على تشريعات الإسلام من دستورها إلى قوانين الأحوال الشخصية والنفوس والتربية والميراث ونظرة الدين للمرأة…إلخ، فكيف لا يكون الجامع هو بوصلة السّلطة لتنويم الشعب، لكن ذاك الجامع احتقن وألهب الشوارع السورية بالمظاهرات، لتصبح الثورة بعد أشهر تنادي “يا الله ما إلنا غيرك يا الله” أين السّياسية في ذلك يا سادة، أين الثورة في قاموس ينتظر من السماء أن تحل همومه؟ مع خالص احترامنا للإسلام والمسلمين، إلا أن ذلك لا علاقة له إلا بالقضاء على هوية المجتمع المدني، هوية المجتمع السوري، وذلك ما تم منذ العام 1963 ولا زال، والنتائج المدمرة الآن هي حاصل طبيعي لكل ذاك الاحتقان الديني وتراكم الجهل السياسي لكن بإضافة بسيطة هي خطاب “البعث الإسلامي”.

العنف وملعب الدين والمواجهة

أستغرب ممن يقول إنّ النظام السوري واجه المظاهرات بعنف شديد! هل كان النظام لطيفاً وحضاريّاً ومنفتحاً ويقبل الآخر- السلمي، قبل ذلك مثلاً، بالتأكيد: لا! وهذا لا يعني السكوت عن المواجهات الإجرامية بحق العزل أيام المظاهرات السلمية، إلاّ أنّ العسكرة التي تم جرّ الثورة السورية إليها، كانت غاية النّظام الأولى حتى يصبح لديه مبررات لسحق الاحتجاجات والمناطق الخارجة منها أمام الرأي العام وحلفائه الدوليين، معللاً ذلك بأنّ لديه “عصابات مسلّحة” غير قانونية وتثير الفوضى، يقتل باسمها ويعتقل وينشر التلفيقات والمفخخات التي يراها مناسبة لخدمة مصالح بقائه، ومع تلك التلفيقات نشط الدّين في جانبه الإسلاميّ، وخصوصاً بعد الإفراج من قبل النظام السوري عن مجموعة كبيرة من أخطر الشخصيات المتهمة بقضايا “سياسية” ولها مرجعية دينية متطرفة من جماعة الإخوان المسلمين والتيارات الجهادية والسلفية، وهي التي أسست الفصائل الإسلامية، وكان مقرها الجغرافي والأيديولوجي “سجن صيدنايا”.

هل لاحظتم أن المعتقلين السياسيين الذين ليس لهم انتماءات دينية تؤثر على نضالهم الفكري، قد بقوا في أقبية المخابرات؟ لأنهم يفكرون بلا عنف، ويعرفون معنى النضال الثوري السّلمي الذي حُرمت منه الثورة السورية بعد أشهر قليلة من انطلاقها، وذهبت إلى أيدي الجهاديين وأصحاب الأحزمة الانتحارية والعمليات “الانغماسية” إحدى أبرز هويات الإجرام لدى “النصرة” و “داعش”.

لم يكن يعلم الشارع السوري، ربّما أنّ رفع لافتة في الطريق والتظاهر دون سلاح هو أقوى ضربة يمكن أن توجه لنظام الحكم العسكري، لأن الذهنية السائدة هي مواجهة العنف بالعنف المفرط، وهذا ملعب العسكر الذين منذ تسلمهم البلاد وهم حريصون على لحظة تسلّح الخصوم بعد بناء جيش عقائدي حزبي، والتجذر الشديد بالدول المحورية في المنطقة، مع حلف الأنظمة التي تدعي “الاشتراكية” مثل روسيا الاتحادية! التي لاتزال تلعب ذات الدور في تسليح النظام ودعمه دولياً لأنه حليفها الأخير في الشرق الأوسط.

إذاً تعتمد السلطة في سورية منذ سنوات على مقابلة المشكلات السياسيّة، بافتعال تداعيات خطيرة في الشّارع، وجرّبت ذلك أثناء الثورة السورية، حتى أصبح الافتعال، واقعاً! والمقصود هنا الجماعات الإسلاميّة المرتهنة للدول الداعمة للإسلام السياسي تارة، وللبحث عن موطئ قدم لها في الحصة الجغرافية لبلاد الشام مثل الولايات المتحدة- إيران- تركيا- إسرائيل- وروسيا، هي دول فاعلة بقوة عبر المليشيات المتقاتلة على الأرض. ولكن المثير في الأمر أن تتماهى السلطة في سورية منذ بداية الثورة لكشف هوية المجتمع السوري الذي عملت على تعديل مخيلته ودفعه نحو التديّن، فوجدت الحلّ مثلاً بإطلاق قناة إسلامية من التلفزيون السوري الرسمي من وسط ساحة الأمويين وهي قناة “نور الشام” التي تبث أفكاراً دينية تخدم مصلحة النظام، على اعتبار أن الصراع بوجهة نظر الشارع والمجتمع هو صراع ديني، حسب رأي النظام! الأمر الذي يبرر الفتاوى المستمرة بقتال أبناء الديانة الواحدة الذين اختلفوا قليلاً بأمراض تدعى “المذاهب الدينية” وبالتالي أصبح المجتمع الذي اشتغل عليه حزب البعث مكشوفاً للهشاشة الفكرية ويتدخل في تسييره من يريد، ذلك أن النّواة الأساسية التي اعتمد عليها هذا الحزب هي الدين بالمرتبة الأولى وكسب الشخصيات الدينية في وزارة مخصّصّة لهم ضمن حكومته، هي “وزارة الأوقاف” وهنا نتذكر: أليست هي ذاتها الوزارة التي كانت تسمح لأئمة كانوا فيما مضى يقيمون “الدروس الإسلامية” والجلسات “الدعوية” عبر الراديو والتلفزيون الرسمي والجوامع والمراكز الدينية إياها التي تحدثنا عنها بداية، بينما الآن نراهم في تركيا يقفزون في المجالس “الشرعية” حيث تقود ما بقي من فصائل إسلامية في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية؟

الثورة فضيحة الهوية

لا بد من فِكر… نظرة للتجارب الثوريّة القائمة على أفكار يساريّة مثلاً، وتنظير ثوري جديد لقراءة الثورات؛ لا بد من مراجعة جديّة للثورة السورية من أجل الوقوف إلى جانب هذا الشعب العظيم الذي أنجب حضارات منذ آلاف السنوات ومع تقدم الزمن بدأ يعود -بفضل السياسيين والطغاة- إلى التخلف.

إن “الفتوحات الدينيّة” ليست فكراً، بقدر ما هي مرجعيّة لغيبيات روحيّة قد تجعل معظم الناس في راحة من أسئلة الوجود والهوية، وهي لا تحل مشكلات سياسية مرهونة بالحاضر وتبدلاته المستمرة؛ وفي سورية، السلطة الحاكمة اخترعت ديناً خاصاً بها، والشارع تمرّد عليه، فيما بعد، صنع ديناً خاصاً به، وسجون المتطرفين الذين كانوا تحت عين السلطة وجدوا من الشارع فرصة لتطرفهم وتسليحهم فسحقوا الحياة السورية في الداخل وشتتوا الشعب إلى جانب نظام لا يرى سوى البندقية والقائد قاموساً للحوار ولا هوية له إلا القتل والأنانية، القتل الذي أورثه لخصومه حتى أصبحنا في غابة وحوش كاسرة من معارضة ومولاة وحلفاء من دول العالم يمدونهم بالسلاح والمرتزقة.

بالمحصلة الدين يفشل أمام السياسة، لأن كل مفهوم قائم هو على طرف مغاير للآخر في الحياة، لا يمكن أن يلتقيا، وتوحيدهما في جسم اجتماعي واحد أوصلنا للذي نحن به الآن في سورية، الدين أصبح شُبهة وتشدد وتطرّف، لقد لوّثته الغايات السلطوية، والسياسة أصبحت عسكرة وتحالفات دولية ونسيت أن تطور المجتمع، والشعب أضاع هويته المشوهة، دفعها إلى الجحيم في ثورة لازالت تبحث عن قادتها السياسيين بعيداً عن الكتب المقدسة ومن يلحقها من تجار الدين.

ترتيبات” ثلاثية شمال سوريا”

ترتيبات” ثلاثية شمال سوريا”

تمسكت موسكو بمهلة خمسة أيام لـ«جيش الإسلام» كي يحسم موقفه التسوية في دوما شمال غوطة دمشق لإنجاز «اختراق» قبل القمة الروسية – التركية – الإيرانية الأربعاء المقبل؛ كي تتفرغ القمة لإقرار خرائط الانتشار في الشمال السوري، واختبار وجود أميركا والتحالف الدولي في منبج وشرق نهر الفرات، إضافة إلى إقرار القمة الثلاثية الانتقال من العمل العسكري إلى ملامح التسوية السياسية في سوريا.

مع استمرار إجلاء مقاتلين معارضين وأسرهم من وسط الغوطة وجنوبها ونزوح المدنيين باتجاه دمشق ليصل إجمالي الخارجين من شرق العاصمة لنحو 200 ألف شخص بينهم 150 ألف مدني، استمرت المفاوضات بين الجيش الروسي و«جيش الإسلام» لتقرير مصير دوما التي تضم معظم ما بقي من مدنيين في الغوطة.

موسكو تريد إخراج المقاتلين أو القيادات منهم. ولحل عقدة وجهة المقاتلين، طرح أخيراً خيار ذهابهم إلى منبج مع وجود تعقيدات في الطريق التي يمكن سلوكها من دمشق إلى شمال سوريا. كما عرض الجانب الروسي بقاء المدنيين في الغوطة وعودة «رموز الدولة» ومؤسساتها، وإزالة مظاهر المعارضة، إضافة إلى توفير عفو عن مطلوبين ومهلة سنة لتأجيل المطلوبين للخدمة العسكرية مع اشتراط تدمير السلاح الثقيل أو تسليمه.

في المقابل، رفض «جيش الإسلام» تسليم السلاح. وقال قياديون فيه: «تجربة النازحين في الغوطة عززت موقف القيادة الرافض لتسليم السلاح». كما تمسكوا بالبقاء في دوما ورفض المغادرة مع استعداد لتجديد اتفاق «خفض التصعيد» الذي أنجز في الصيف الماضي بوساطة مصرية وضمانة روسية. وتواصل قادة «جيش الإسلام» مع دول عربية للتوسط لدى موسكو لدعم خيار البقاء في دوما.

وطلب «جيش الإسلام» مهلة عشرة أيام مع الاستمرار بوقف النار، لكن الجانب الروسي أصر على خمسة أيام فقط بحيث «يطوى ملف الغوطة» قبل قمة الرؤساء، الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب إردوغان، والإيراني حسن روحاني للانتقال من المسار العسكري إلى السياسي.
دمشق تدفع لسحب موسكو إلى الذهاب إلى ريف حمص، في وقت تتأرجح موسكو بين الذهاب إلى الخيار العسكري في منطقة «خفض التصعيد» في ريف حمص وتكرار نموذج المصالحات عبر نزع السلاح. كما أن دمشق تكرر الخيار ذاته في الجنوب السوري؛ إذ مع استمرار وصول تعزيزات إلى الجنوب، جال ضباط روس ومن القوات الحكومية على مناطق في درعا لعرض تسوية، تضمنت قبول المعارضة «إزالة شعارات المسلحين من المباني» و«استرداد رموز الدولة» على أن تقوم المعارضة بـ«مساعدة الشرطة والسلطات المحلية وإدارات الدولة».

المعلومات تشير إلى أن ملف الجنوب مؤجل بسبب وجود ترتيبات روسية – أميركية – أردنية؛ ما يعني ارتباطه بإمكانية تطوير اتفاق «خفض التصعيد» لفتح معبر نصيب مع الأردن وتشغيل الخط التجاري.

لكن اللافت، أن القمة الثلاثية تبدو مهتمة أكثر بملف الشمال السوري والشمال الشرقي من الناحية العسكرية وبالملف السياسي العام. وأمام حديث الجانب الأميركي عن الانسحاب من شرق نهر الفرات والأزمة التركية – الفرنسية بعد استقبال الإليزيه وفداً كردياً سورياً، والبطء في إنجاز ملف منبج بين واشنطن وأنقرة، والأزمة القادمة بين إيران والغرب حول الملف النووي، والأزمة الروسية – الغربية حول «الجاسوس»، يتوقع أن تقر قمة بوتين – إردوغان – روحاني سلسلة من خطوات التفاهم في سوريا وخصوصاً في الشمال وشرق نهر الفرات.

وبين الملفات العالقة، مستقبل مدينة تل رفعت، حيث يريد الأتراك الدخول إليها بعد عفرين بضوء أخضر روسي، حيث جرى تبادل الخرائط لانتشار الجيش التركي وحلفائه السوريين، وبات الأمر مرتبطاً بطبيعة وجود «الدولة السورية» في تل رفعت. وفي حال تحقق ذلك، سيكون الجيش التركي في موقع أقوى للضغط على وضع منبج بعدما رفضت واشنطن مقترحات تركية لإخراج «وحدات حماية الشعب» الكردية. وقال مصدر: «أنقرة متمسكة بخروج الوحدات من منبج، ولن تقبل بعرض واشنطن تأجيل ذلك والاكتفاء بتسيير دوريات أميركية – تركية قرب منبج». ويبدو أن الملف الرئيسي سيكون مستقبل شرق نهر الفرات؛ إذ إن الجانب التركي يريد عبور نهر الفرات من الغرب إلى الشرق لملاحقة «وحدات حماية الشعب» الكردية، لكن واشنطن كانت تمنع ذلك. وقال دبلوماسي أمس: «القمة الثلاثية ستبحث في ترتيبات لوضع شرق نهر الفرات»، لافتاً إلى أن الموقف الأميركي الجديد سيترك منعكساته في المحادثات الثلاثية.

وينتشر شرق نهر الفرات ألفان من الجنود الأميركيين ومئات الجنود من التحالف الدولي المناهض لـ«داعش». وأعلنت واشنطن سابقاً، أن الجيش الأميركي «باق إلى أجل مفتوح شرق الفرات» لتحقيق خمسة أهداف: منع عودة «داعش»، تقليص نفوذ إيران، الدفع باتجاه حل سياسي في سوريا، عودة النازحين واللاجئين، ومنع استعمال الكيماوي. وبحسب المعلومات، فإن هذه الاستراتيجية الأميركية أقرت بعد مناقشات معمقة داخل المؤسسات الأميركية. لكن الرئيس دونالد ترمب أعلن نية الانسحاب كما جمد 200 مليون دولار مخصصة لإعادة الأعمار شرق سوريا. وجاء موقف ترمب قبل تسلم جون بولتون منصبه مستشاراً للأمن القومي في 9 أبريل (نيسان) وقبل تصديق الكونغرس مايك بومبيو وزيراً للخارجية خلفاً لريكس تيلرسون.

ويتوقع أن تتناول القمة الثلاثية هذه المعطيات لدى بحث «الترتيبات» شمال سوريا. وبحسب المعلومات، فإن القمة ستعطي إشارة لضرورة تحريك العملية السياسية في سوريا؛ إذ استبق المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا انعقاد القمة، وزار موسكو قبل يومين لحض الجانب الروسي على الذهاب إلى السياسة بعد الغوطة، وتسريع عملية إعادة النازحين من دمشق إلى شرقها.

ويتوقع أن تقر القمة الثلاثية تحريك تشكيل اللجنة الدستورية بموجب مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد في سوتشي نهاية يناير (كانون الثاني)؛ إذ إن الدول الثلاث لم تقدم إلى الآن قائمة مرشحيها إلى دي ميستورا الذي خول مؤتمر سوتشي تشكيل اللجنة. عليه، هناك توقعات بتقديم القائمة وإقرار مرجعياتها بحيث تبدأ اللجنة عملها في جنيف قريباً لإعطاء إشارة ثلاثية بـ«الانتقال إلى التسوية السياسية بعد الغوطة»، بحسب تصورات موسكو لهذه «التسوية».

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

أهالي دوما بين مطرقة النظام وسندان جيش الإسلام

أهالي دوما بين مطرقة النظام وسندان جيش الإسلام

مع سيطرة الجيش السوري على أغلب مساحة الغوطة الشرقية بعد خروج فصيلي ”أحرار الشام“ من حرستا، و“فيلق الرحمن“ من زملكا وجوبر وحزة وعربين، وهي المناطق التي بقيت تحت سيطرته في القطاع الأوسط، أصبح واضحاً بأن الوجود المسلح لفصائل المعارضة السورية أصبح محسوماً في تلك المنطقة، والتي شهدت أعنف حملة عسكرية عليها منذ بداية حصارها في نهاية عام ٢٠١٢.

لكن يبقى السؤال الأهم، ما هو مصير فصيل ”جيش الإسلام“ المحاصر في مثلث دوما، وبعهدته ما يقارب ١٤٠ ألف مدني؟

بدأت مفاوضات جيش الإسلام مع الجانب الروسي منذ بداية الحملة العسكرية على الغوطة في منتصف شباط ٢٠١٨، ومع استمرار تقدم الجيش السوري في مزارع الغوطة، من الناحية الشرقية، حيث الخاصرة الرخوة للمحاصرين، ثم محاصرة كل فصيل على حدة، بعد تراجعه إلى مركز سيطرته (جيش الاسلام في مدينة دوما مع امتداد حتى بلدة الريحان في الشمال الشرقي للغوطة، وأحرار الشام في مدينة حرستا، بينما تآكلت مناطق فيلق الرحمن وتصالحت مدنه مع ما فيها من مدنيين ومقاتلين مع النظام بشكل منفرد، وبالتالي أضحى محاصراً في مدن زملكا وجوبر وحزة وعربين) تقدَّم جيش الاسلام بعرض إلى الجانب الروسي، وكما رشح من بنود هذا العرض، والمحفوظة ضمن دائرة ضيقة في قيادته، أن يتحول جيش الإسلام إلى شرطة مدنية (بدل خدمة العلم الإلزامية في الجيش السوري) في مدينة دوما وما حولها، مع تسليم السلاح الثقيل، ودخول رمزي لمؤسسات الدولة، ورفع العلم السوري على الدوائر الحكومية، ودخول كتيبة شيشانية لتأمين المنطقة بدل دخول الجيش السوري وقوات النظام الرديفة.

ومع الحديث عن تواجد وساطة مصرية في دمشق تسعى للحفاظ على جيش الإسلام ومدينة دوما، كما تسرب من الصحافة، يبدو أن الجانب الروسي تعاطى بشكل ايجابي مع عرض جيش الإسلام في البداية، حيث دخلت المساعدات الإنسانية إلى مدينة دوما وحدها دون غيرها عدة مرات، وخرجت الكثير من الحالات المرضية والإصابات بالغة الخطورة من داخل مدينة دوما لتلقي العلاج في العاصمة دمشق، وأيضاً أعلن الجانب الروسي عن وقف إطلاق النار من جانب واحد على مدينة دوما فقط، وهذا أعطى جيش الإسلام قناعة بأنه يملك أوراق تفاوضية قوية ومختلفة عن فيلق الرحمن أو أحرار الشام، فهو لم يُخِل باتفاقية ”خفض التصعيد“ التي وقعها مع الجانب الروسي في ٢٢ تموز ٢٠١٧، على عكس فيلق الرحمن الذي ساند بشكل واضح أحرار الشام في معركة ”بأنهم ظلموا“ على إدارة المركبات في مدينة حرستا، ولم يقم أيضاً بقصف العاصمة دمشق كما كان يفعل سابقاً في مثل هذه الظروف، في حين أن فيلق الرحمن أمطرها بوابل من القذائف والصواريخ، مما أوقع العشرات من الإصابات والضحايا في صفوف المدنيين، وأيضاً يتباهى جيش الإسلام بأنه أول من حارب تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”داعش“ وذلك بعد أشهر من إعلان التنظيم عن قيام دولة خلافته، حيث اقتلعه تماماً من الغوطة الشرقية وقضى على وجوده فيها، ثم قاتله في جنوب دمشق، وفي جبال القلمون بالتعاون مع قوات أحمد العبدو المحلية هناك، وكذلك حربه ضد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) حيث دخل مراكز قيادتها في ٢٨ نيسان ٢٠١٧ بعد أن قتل وأسر العديد من قادتها وعناصرها، ولولا تدخّل فيلق الرحمن المتأخّر لحماية من تبقى منهم، لكان أنهى وجودها بشكل كامل في الغوطة الشرقية.

لكن يبدو بأن الجانب الروسي كان يملك اليد العليا في إدارة المعركة على الأرض ومن خلال التفاوض أيضاً، فهو أعطى نوعاً من الاطمئنان لقادة جيش الإسلام في رده على مطالبهم، ومن ثم بعد أن دخل الجيش السوري إلى القطاع الأوسط وبدأت مدنه وبلداته تُصالح منفردة، ومع تحوّل صمود أحرار الشام في حرستا إلى تفاوض بفعل ضغط الأهالي، تغير موقف الجانب الروسي فجأة، وقيل بأنه انسحب من تعهداته التي قدمها لجيش الإسلام، وهذا ظهر واضحاً من خلال تصرفات جيش الإسلام الذي حاول التلويح بأوراق تفاوضية جديدة، فاستعمل منظومة صواريخ الأوسا (9K33 Osa منظومة قاذفة، تحمل ستة صواريخ دفاع جوي محمولة على سيارات نقل بستة عجلات، ومدمج بها رادار في سيارة واحدة، وكان جيش الإسلام قد استولى عليها من قاعدة دفاع جوي بالقرب من دمشق في نهاية ٢٠١٢) للمرة الأولى خلال هذه الحملة، وأطلق صاروخين اثنين في اتجاه مروحييتين للجيش السوري دون إصابة أي منهما، وذلك في ١٧ آذار الماضي، وأيضاً قام باستعراض لبعض دباباته في وسط دوما، ثم فتح معركتين في مساء اليوم التالي، واحدة باتجاه حرستا بالتعاون مع أحرار الشام فيها، حيث قيل بأنه تسلّم سلاحهم الثقيل قبل إبرام اتفاقهم النهائي مع النظام السوري، وأخرى أحرز من خلالها تقدماً في مزارع بلدة مسرابا، فعاد القصف من جديد على مدينة دوما موقعاً العديد من الضحايا، وكان أشدها في ٢٣ آذار حين تم قصف المدينة بالنابالم والفوسفور الحارق.

مع عودة الهدوء النسبي وتوقف القصف على مدينة دوما، عاد جيش الإسلام إلى التفاوض من جديد، ولكن هذه المرة كان من خلال لجنة مدنية (تم انتقاء معظم أفرادها من المقربين منه) وعبر خط تفاوض جديد موازٍ لخط العسكر التفاوضي، ومع ذلك لم يتم تحقيق أي شئ يُذكر، فالموقف الروسي ثابت، خروج من دوما إلى محافظة إدلب أو جبال القلمون الشرقي، مع تسليم السلاح الثقيل، وتسوية أوضاع الراغبين في البقاء، مع إعطاء مهلة سنة كاملة قبل الالتحاق بالجيش للمتخلفين أو الفارين من خدمة العلم، وأن تكون الخدمة الإلزامية في الفرقة الخامسة (وهي فرقة ميكانيكية، تتموضع في الجنوب السوري ومسؤولة عن الجبهة الجنوبية، شاركت في حرب تشرين في ٧٣ وكانت أكثر الفرق نجاحا حيث وصلت إلى مشارف بحيرة طبريا) وكذلك أبدى الجانب الروسي استعداده للتفكير في إرسال كتيبة شيشانية إلى دوما، بدلاً من الجيش السوري وقوات النظام الرديفة، وبالتالي بقي الوضع معلّقاً مع جولات من التفاوض شبه اليومية وبحضور ممثل عن الأمم المتحدة المتواجدة في دمشق.

يعلم الجميع بأن ”جيش الإسلام“ قد انتهى، وهو يعلم ذلك، فخروجه إلى محافظة إدلب، يعني بأنه سيكون في مواجهة غير متكافئة مع هيئة تحرير الشام، على الرغم من تأكيد قيادة أحرار الشام في الشمال بتأمين الحماية اللازمة والكاملة لجيش الإسلام إن رغب في التوجه إلى محافظة إدلب، والجانب الأمريكي يرفض تماماً فكرة  توجه جيش الإسلام نحو الجنوب إلى درعا، والجانب التركي كذلك يرفض بشكل قاطع دخول أي مدني أو مسلّح إلى مناطق سيطرة درع الفرات، حتى أنه ومن معه من فصائل المعارضة السورية وضعوا ”فيتو“ على دخول ”فيلق الرحمن“ للقتال إلى جانبهم سواء في قيادة الأركان أو في درع الفرات، ويبدو أن جيش الإسلام قد أغضب الأتراك حين قبل بالوساطة المصرية عند توقيع اتفاقية خفض التصعيد، وبالتالي لم يبقَ أمام جيش الإسلام إلا منطقة جبال القلمون الشرقي، وهي منطقة مُحاصَرة بشكل أكثر سوءاً من مدينة دوما الآن، ناهيك عن عدم أهليتها لاستقبال هذا العدد من المقاتلين وعائلاتهم.

مع كثرة الشائعات والأقاويل، يتحرك الشارع المدني – المُغيّب تماماً عن تقرير مصيره – في دوما بشكل تصاعدي يوماً بعد يوم، مقابل خطاب خشبي يدعو إلى الصمود والمبايعة على الموت من قادة جيش الإسلام وشرعييهم، واستخدام ظالم للغة التخوين مع استدعاءات الأجهزة الأمنية لمن يخالفهم الرأي. لقد خرج من دوما حتى الآن أكثر من ٢٠ ألف مدني عبر معبر مخيم الوافدين إلى مراكز الإيواء الجماعية التي أعدّها النظام السوري لاستقبالهم، مجازفين بأنفسهم ودون وجود أي اتفاق يضمن مصيرهم، لكن يبدو أن جيش الإسلام لا زال يكابر مُعوّلاً على حظوظه في نجاح المفاوضات، دون أن يشرح على ماذا يستند ويراهن، متحدياً بذلك المنطق الذي يقول بأنّه لا يملك في المفاوضات ما يُعطيه مقابل ما يطلبه لنفسه، ربما يكون تعليل ذلك بأنّه مُحاصر في خياراته، ولا يملك سوى الصمود بقدر ما يستطيع. لكن هذا الصمود المستند على الخطاب الحماسي، سوف يدفعه في النهاية إلى تكرار ما حدث مع ”فيلق الرحمن“ حين خرجت المظاهرات مندّدة به، ثم انشقت جماعات متفرقة من عناصره، وتحولت إلى ”قوات دفاع وطني“ من خلال مصالحات مباشرة مع النظام.

في المقابل، يبقى الجانب الروسي متعنتاً في موقفه، وهو يعلم بأن ”جيش الإسلام“ لا يملك خياراً سوى التمسك بأرضه والمواجهة لأجل البقاء، وبالتالي من المفيد تقديم نموذج حميد نحو تحوّل بعض من فصائل المعارضة السورية – الأكثر اعتدالاً – إلى شرطة محلية (مكان خدمة العلم)، بدل تركها لتكون تابعة لمصالح وغايات دولية وإقليمية، أو الدخول في معارك معها سوف تُخلّف الكثير من الضحايا في صفوف المدنيين، مع دمار أصبح سمة رئيسية للمدن والبلدات السورية. ربما يكون النظام السوري هو المعطل لذلك كما تناقلت بعض الصحف، وربما لذلك يسعى الروس لكسب تأييد الأتراك في قبول صفقة ما لترحيل جيش الإسلام إلى جرابلس أو منبج، ويبدو أن مساعي الروس قد نجحت في تحقيق ذلك خلال الساعات الماضية، وبالتالي نبقى في انتظار الرد من جيش الإسلام على هذا الخيار الأخير.

على جانب آخر، تغيب مؤسسات ومنظمات الأمم المتحدة عن المشهد الحاصل في الغوطة الشرقية، وعندما تحضر تكون بطريقة ”رفع العتب“ دون تدخّل أو تأثير مباشر، فمجلس الأمن – وبعد تأجيل التصويت مرتين بسبب الاعتراض الروسي على صيغة القرار – يُخرج في ٢٤ شباط ٢٠١٨  القرار رقم ٢٤٠١ والقاضي بوقف الأعمال العدائية لمدة ٣٠ يوماً متتالية في جميع أنحاء سوريا، مستثنياً من ذلك تنظيم ”داعش“ و ”جبهة النصرة“ والكيانات الإرهابية كما حددها مجلس الأمن، مما أعطى روسيا والنظام السوري غطاءً دولياً ليفعلوا ما يشاؤون، بحجة وجود عناصر جبهة النصرة هناك، والذين لا يتجاوز عددهم الـ ٣٠٠ عنصر في القطاع الأوسط، وحين أعربت الفصائل الثلاث في رسالتها إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، وللرئیس الدوري لمجلس الأمن السفير الكويتي منصور العتيبي عن “التزامنا التام بإخراج مسلحي تنظيم هيئة تحرير الشام، وجبهة النصرة والقاعدة، وكل من ينتمي لهم وذويهم من الغوطة الشرقية لمدينة دمشق خلال ١٥ يوماً من بدء دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ الفعلي“ لم تتحرك الأمم المتحدة لايجاد آلية للتنفيذ، مما اضطر جيش الإسلام إلى الاتفاق بشكل مباشر مع وفد الأمم المتحدة الذي دخل مع القافلة الإغاثية في الخامس من آذار لأجل ترحيل الدفعة الأولى من عناصر هيئة تحرير الشام الموجودين في سجونه إلى محافظة إدلب، وأيضاً لم تُحرّك الأمم المتحدة ساكناً عندما قامت قوات أمن النظام السوري باستبعاد نحو ٧٠٪ من المساعدات الإنسانية ومن بينها المواد الطبية من قافلة المساعدات التي دخلت دوما يومها، ولا عندما اضطرت تلك القافلة للخروج مسرعة دون أن تفرغ تسع شاحنات من حمولتها، بسبب القصف المتواصل على المدينة أثناء عملية التفريغ، وأيضاً لم تتحرك مؤسسات الأمم المتحدة الإغاثية لتقديم المساعدة للمدنيين العالقين في مراكز الإيواء المؤقت في مناطق سيطرة النظام.

في النهاية، يبقى المدنيون هم المتضررون الأساسيون، فهم نقطة ضغط للمهاجمين، ودرع واق للمدافعين، حيث تسقط الإنسانية، ويُصادِر السلاح رغبة العاقل في الكلام، وتبقى معظم الاتفاقات والاعتبارات محصورة في السلاح ومن يحمله، وفي ذيل القائمة تجد بنداً يتحدث عن تأمين المدنيين، ومن سخرية الأحداث أن يُنقل بعض من عناصر ”هيئة تحرير الشام“ بأمان إلى محافظة إدلب، في حين يرفض الجانب الروسي أي اتفاقية تشمل خروج من يرغب من المدنيين نحو إدلب، إلا بعد الاتفاق مع فصيل جيش الإسلام.

*مصدر الصورة المرافقة للمقال: REUTERS/Omar Sanadiki