محاصصة دولية ـ إقليمية حول منبج وعفرين

محاصصة دولية ـ إقليمية حول منبج وعفرين

بدأت ملامح تفاهمات دولية – إقليمية لتوزيع شمال سوريا، بحيث تنتشر قوات أميركية – تركية في مدينة منبج وإخراج «وحدات حماية الشعب» الكردية إلى شرق نهر الفرات مقابل «وجود رمزي» لقوات النظام السوري في مدينة عفرين برعاية روسية.

وكشف قيادي كردي لـ«الشرق الأوسط» أمس أنه منذ بدء العمليات العسكرية التركية مع فصائل معارضة ضمن حملة «غصن الزيتون» أجرى قياديون في «وحدات حماية الشعب» الكردية اتصالات مع دمشق كي ترسل «حرس الحدود» للدفاع على الحدود السورية شمال البلاد، غير أن «الجواب من دمشق، كان أن موسكو تمنع حصول ذلك» على خلفية وجود تفاهم تركي – روسي سمح ببدء «غصن الزيتون» بمشاركة القوات البرية والطيران التركيين بعدما حصلت أنقرة من موسكو على «ضوء أخضر بالدفاع عن الأمن القومي شمال سوريا». كما سحب الجيش الروسي قواته من عفرين إلى مناطق أخرى.

ومع مرور الوقت و«التقدم البطيء» لعملية «غصن الزيتون» باتجاه عفرين وتعقد العلاقات الأميركية – التركية – الروسية، استمر التواصل بين قياديي «الوحدات» ودمشق. وقال مسؤول غربي: «اقترحت دمشق أن ترسل قواتها إلى عفرين وتسيطر عليها في شكل كامل كما حصل في أي منطقة معارضة أخرى وأن تتم السيطرة على الأسلحة الثقيلة للوحدات الكردية».

لكن قادة «الوحدات» رفضوا هذا الاقتراح لأن في عفرين «الكثير من المطلوبين للنظام ولا نأمن عدم تعرضهم للأذى». وحافظ قياديون في «الوحدات» على التواصل مع دمشق إلى أن أبلغوا رئيس مكتب الأمن القومي اللواء علي مملوك بقبول «دخول قوات سورية رمزية للجيش ومؤسسات أمنية إلى وسط عفرين، كما هو الحال في مناطق أخرى» في إشارة إلى القامشلي والحسكة شرق نهر الفرات، حيث توجد فروع لأجهزة الأمن وحواجز لقوات النظام والعلم الرسمي السوري. وقال مسؤول كردي أمس: «يبدو أن موسكو التي رفضت التعاون قبل أسبوعين، وافقت على صيغة جديدة تسمح بوجود الدولة في عفرين. ويتوقع أن تتوجه عناصر من قوات النظام من حلب إلى عفرين في الساعات المقبلة».

«عودة» أوجلان إلى دمشق

تزامن ذلك مع سماح دمشق لأكراد بالتظاهر في أحد أحياء العاصمة السورية حاملين صور قائد «حزب العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان وانتقاد «غصن الزيتون»، علما بأن أوجلان اعتقل قبل 19 سنة بعدما طردته دمشق بموجب تفاهم مع أنقرة، حيث اعتبر منذاك «العمال الكردستاني» تنظيماً إرهابياً وتعرض عناصره للملاحقة والاعتقال.

وكانت «وحدات حماية الشعب» الكردية سلمت مناطق في ريف حلب إلى قوات النظام في ريف حلب لقطع الطريق على قوات «درع الفرات» التي أطلقت عملية عسكرية تركي نهاية 2016 للسيطرة على مناطق شمال سوريا، للتوغل باتجاه منبج وشرق حلب. كما عقد تفاهم بين «الوحدات» الكردية وقوات النظام برعاية روسية للانتشار في حي الشيخ مقصود في حلب. وقال قائد «وحدات حماية الشعب» الكردية لـ«الشرق الأوسط» أمس: «هناك اعتداء من تركيا على الدولة السورية والأولوية الآن للحفاظ على السيادة السورية. ورغم الخلافات مع النظام على أمور أخرى، فإن المفهوم الوطني اقتضى التعاون في عفرين والسماح بوجود الدولة وتأجيل الخلافات الأخرى». وأضاف: «بعد ذلك، فإن أي اعتداء على عفرين من تركيا أو أي قصف عليها، سيتحول إلى موضوع إقليمي – دولي».

وكانت دمشق أعلنت نشر بطاريات صواريخ شمال البلاد. كما قال مسؤولون في دمشق إنهم سيستهدفون أي طائرة غير سورية بعد إسقاط طائرة «إف – 16» إسرائيلية السبت الماضي، مع العلم أن منظومة الدفاع الجوي السوري تحت سيطرة الروس في قاعدة حميميم.

وأبلغ قياديون أكراد «الشرق الأوسط» بأن الجيش الأميركي أبلغهم أكثر من مرة بأنه لا علاقة له بعفرين وهي خارج النفوذ الأميركي وتابعة لنفوذ روسيا، مشيرين إلى أنهم أطلعوا قادة في الجيش الأميركي شرق نهر الفرات بالاتصالات مع دمشق حول عفرين وأن «الأميركيين لم يكن لديهم مانع من حصول ذلك للحفاظ على وحدة سوريا وفق القرار 2254».

في حال أنجز هذا التفاهم حول عفرين، فإنه يتزامن مع تقدم لإنجاز تفاهم آخر حول منبج. إذ قالت مصادر تركية لـ«الشرق الأوسط» إن أنقرة اقترحت على واشنطن نشر قوات تركية – أميركية في منبج وإخراج «وحدات حماية الشعب» الكردية إلى شرق نهر الفرات.

ويعتقد أن روسيا جزء من هذا الحوار، ذلك أن قواتها تنتشر في منطقة عريما في ريف منبج مقابل القوات الأميركية المنتشرة في المدينة دعما لـ«قوات سوريا الديمقراطية» التي تضم «الوحدات» الكردية.

وكان مسؤول تركي أبلغ وكالة «رويترز» أن وزير الخارجية الأميركي ريكس تلرسون وعد الجانب التركي أمس بدرس اقتراح نشر قوات مشتركة في منبج التي تقع على بعد 100 كيلومتر شرق عفرين، وكان الرئيس رجب طيب إردوغان قال إن قواته ستتوغل باتجاهها. لكن الجيش الأميركي بعث كبار ضباطه إليها لطمأنة حلفائه الأكراد.

وأوضحت المصادر التركية أمس أنه في حال نفذ الاتفاق التركي – الأميركي في منبج سيكون خطوة لاستعادة الثقة والقيام بخطوات أخرى بين الجانبين، تشمل «التنسيق الكامل» في العمليات العسكرية شمال حلب بين القوات الأميركية و«درع الفرات» بين منبج واعزاز وجرابلس، إضافة إلى الانتقال إلى البند اللاحق المتعلق في بحث إقامة شريط أمني شمال سوريا على طول حدود تركيا. وذكرت أن موافقة الجانب الأميركي على ذكر رفض «التغيير الديموغرافي» سيكون أساسيا في التعاون بين الجانبين في منطقة شرق نهر الفرات الخاضعة لـ«قوات سوريا الديمقراطية» بدعم التحالف الدولي بقيادة أميركا. ونص البيان على تأكيد الطرفين «التزام الحفاظ على وحدة أراضي والوحدة الوطنية لسوريا ورفض إيجاد تغييرات ميدانية وتغيرات ديمغرافية» مقابل «التنسيق لإنجاز التحول السياسي والاستقرار في سوريا وفق القرار 2254 ومؤتمر جنيف».

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

الشمال السوري وقصة منطقة ”خفض التصعيد“ الرابعة

الشمال السوري وقصة منطقة ”خفض التصعيد“ الرابعة

تُعتبر منطقة الشمال السوري من أصعب المناطق التي يمكن التكلم عنها والبحث فيها، بسبب صراع المصالح الداخلية والخارجية وتوزع أماكن السيطرة والنفوذ، والذي أدّى في النهاية إلى تدخلات عسكرية خارجية سواء في وسط محافظة إدلب أو في مدينة عفرين شمال سوريا، صحيح بأن مدينة عفرين لم تدخل في مناطق” خفض التصعيد” إلا أنها متّصلة بشكل مباشر بما يحدث فيها، كونها جزءاً أساسياً في مثلث صراع المصالح الروسي – التركي – الأمريكي، والذي زاد من حدّته في الآونة الأخيرة.

تمت تسمية محافظة إدلب وبعض من امتداداتها داخل محافظتي حماه واللاذقية بمنطقة ”خفض تصعيد“ رابعة في سوريا، وجرى الاتفاق عليها في لقاء ”أستانة – ٦” بين الدول الثلاث الضامنة، روسيا وتركيا وإيران، وهي في معطياتها تشبه مناطق خفض التصعيد السابقة كما وصفها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “إذا أقيمت منطقة تخفيف التصعيد، فحينئذ لن يحلّق فوقها الطيران شرط ألا يسجَّل أي نشاط عسكري في تلك المناطق“ وأضاف ”إنّ محاربة التنظيمات الإرهابية مثل تنظيم “داعش” أو “جبهة فتح الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، ستتواصل رغم احتمال إقرار المناطق الآمنة“.

تحمل منطقة ”خفض التصعيد“ في محافظة إدلب صفتين خاصتين، أولهما أنها تشمل المنطقة الجغرافية المعنية وتستثني فصائل المعارضة المتواجدة فيها، حيث أن الاتفاق تم توقيعه بين الدول الثلاث الراعية لمؤتمر أستانة، وثانيهما أنه سيتم نشر قوات تركية في ١٢ نقطة مراقبة من جانب مناطق سيطرة فصائل المعارضة المسلحة، فيما سيتم نشر قوات مراقبة روسية وإيرانية من جانب سيطرة النظام السوري. وفعلاً بدأت عناصر القوات المسلحة التركية بإنشاء مراكز مراقبة اعتباراً من ١٢ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٧، حيث أقيمت ثلاث منها على محور إدلب – عفرين، قرب قرية صولة وقلعة سمعان، وتلة الشيخ عقيل، ومع وصول الجيش السوري وسيطرته على مطار ”أبو الضهور“ العسكري مؤخراً، وصلت قوة عسكرية تركية إلى ”تلة العيس“ لإنشاء نقطة مراقبة رابعة ملاصقة لأماكن تواجد الجيش السوري، كذلك أجرى وفد عسكري للقوات التركية مساء الثلاثاء الفائت، جولة استطلاعية داخل مطار تفتناز العسكري شمال شرق إدلب، تمهيداً لإقامة نقطة مراقبة خامسة في المنطقة. ورجّحت بعض المصادر التركية – بحسب وسائل إعلامية تركية – بأن تُنهي القوات التركية انتشارها في جميع النقاط الـ١٢ المُتفق عليها، في إدلب وأرياف حلب وحماة والساحل خلال عشرة أيام فقط، مما يعني تسريعاً في تنفيذ العملية وانتقاء نقاط المراقبة بالتزامن مع تقدم الجيش السوري والقوات الحليفة نحو سراقب ومعرة النعمان من الجهة الشرقية. مما يوحي بأنها تحديد لمناطق النفوذ أكثر منها للمراقبة، فلا معنى لمراقبة انتهاكات خفض التصعيد – التي كنّا نتطلّع إليها – مع كل هذا التصعيد في المنطقة.

لقد أصبحت تركيا حليفاً مهماً لروسيا في الشمال السوري، وبدونها لما استطاعت روسيا تحقيق نجاح عسكري في مدينة حلب، ولا إنتاج مناطق خفض التصعيد في سوريا، والتي كان من أهم نتائجها تحجيم مناطق سيطرة تنظيم داعش في دير الزور، وإنهاء تواجدها تماماً في البادية السورية (ضمن حصّة روسيا والجيش السوري في قتال داعش)، بالإضافة إلى حصر تواجد عناصر جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام حالياً) في منطقة إدلب وريفها، بعد اتفاقيات وعمليات نقلهم من مناطق الصراع المختلفة (عرسال لبنان وجبال القلمون غرب العاصمة دمشق، الغوطة الشرقية، مخيم اليرموك ومناطق جنوب دمشق، درعا). كما نتج من التعاون التركي الروسي عملية فصل لفصائل المعارضة المُصنفة معتدلة عن هيئة تحرير الشام، والتي طالبت بها روسيا كثيراً، ولم تستطِع أو ترغب القيادة الأمريكية في تحقيقها، ولكن تركيا استطاعت فعل ذلك، من خلال سحب فصائل معارضة من شرقي مدينة حلب وجعلهم إلى جانبها في عملية ”درع الفرات“ التي انطلقت إلى جرابلس لطرد تنظيم داعش، ثم توسعت لتشمل إبعاد المقاتلين الأكراد إلى شرق نهر الفرات، ومرة أخرى في سحب فصائل معارضة من محافظة إدلب وانخراطهم معها في عملية ”غصن الزيتون“ ضد وحدات حماية الشعب الكردي في مدينة عفرين، بالإضافة إلى تحييدها فصيل ”حركة أحرار الشام“ الذي شارك بصورة متأخرة في اجتماعات أستانة، ووافق على مخرجاتها بعد أن انقسم شاقولياً بين متشدّد انضم إلى هيئة تحرير الشام، ومعتدل اتّخذ من منطقة الغاب في الريف الحموي وبعض مناطق الريف الإدلبي مكاناً ثابتاً له.

كما هو ملاحظ، حققت تركيا الكثير من أهدافها من خلال هذا التعاون، فقد أصبحت تملك أكثر من قاعدة عسكرية في الشمال السوري حيث مناطق سيطرتها مع حلفائها من المعارضة، ونقاط مراقبة خفض تصعيد منتشرة في محافظة إدلب تحدد وتحمي مناطق نفوذها، بالإضافة إلى دخول جوي للأجواء السورية كان محظوراً عليها في السابق، مما مكّنها من التوغل في الأراضي السورية وحماية أمنها القومي كما تدّعي.

لكن هذا التعاون والتنسيق يحمل الكثير من تباين الرؤى بين الطرفين، فروسيا تنظر إلى الحل السوري بشكل كامل وشامل، ولكن من زاوية محدّدة تقتضي دعم الحليف ”النظام السوري“ وإقصاء جميع معارضيه، بينما تنظر تركيا إلى مصالحها من زاوية الطموح الكردي في الشمال السوري، إضافة لأطماع ومكاسب أصبح بالإمكان تحقيقها، وهذا خلق نوع من الندّية وبعض التصادم سياسياً وعسكرياً، وإن كان بطريقة غير مباشرة. فمثلاً استنكرت تركيا دعوة روسيا لممثلين من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ووحدات حماية الشعب الكردية لحضور مؤتمر ”الحوار الوطني“ في سوتشي، وعند دخول الجيش السوري المدعوم بالطيران الروسي إلى ريف إدلب وسيطرته على العديد من القرى والبلدات هناك، تصدّت بعض فصائل المعارضة الصغيرة لهذا التقدم السريع واستطاعت أن تحدّ منه وتسترجع الكثير من المناطق التي خسرتها، كانت كما يبدو بدعم وتسليح تركي، حتى أن صور المدرّعات التركية التي استخدمتها قوات المعارضة كانت واضحة في وسائل الإعلام وعلى وسائط التواصل الاجتماعي، ناهيك عن عملية استهداف الرتل العسكري التركي المتوجه إلى ”تلة العيس“ من مناطق سيطرة الجيش السوري والرد التركي عليها، ثم مؤخراً بعد بدء عملية ”غصن الزيتون“ بأيام قام الجيش السوري بنشر وحدات دفاع جوي جديدة وصواريخ مضادة للطائرات في الخطوط الأمامية في ريفي حلب وإدلب لتُغطّي كامل المجال الجوي في شمال سوريا.

أما بالنسبة لقوات سوريا الديمقراطية، فكما تبَيّن بأنهم منقسمون إلى فريقين، فريق يميل إلى التنسيق والدخول في الرؤية الروسية للحل مع توفّر ضمانات يجب تحقيقها ضمن الدولة السورية، وهذا كان واضحاً في تصريحات الرئيس المشترك لـ ”قوات سوريا الديمقراطية“ السيد رياض درار حول أن هذه القوات ستنضم للجيش السوري الذي سيتكفل بتسليحها عندما تتحقق التسوية السورية، وفريق – أكثر ترجيحاً – يميل نحو الانخراط في المشروع الأمريكي المأمول تحقيقه شرق الفرات، والذي أدى إلى رفض الطرح الروسي الذي يقترح دخول الجيش السوري إلى مدينة عفرين لوقف العملية العسكرية التركية فيها. رغم ذلك من الملاحظ بأن عملية ”غصن الزيتون“ لازالت في محيط المدينة، والجيش التركي – الذي دخل المعركة بالتنسيق مع الروس – غير منخرط فيها بشكل مباشر على الأرض، بل تقوم فصائل المعارضة السورية بالدور الأكبر في الهجوم البري، مع مساندة للمدفعية والمروحيات التركية، بالإضافة إلى الطيران الحربي، وهذا يدل بأن هناك متّسعاً من الوقت لتحقيق مخرج سياسي ما، وأن روسيا – التي لم تسحب كامل جنودها من عفرين – لا تزال متمسكة بالورقة الكردية في محاولة منها لإبعادهم عن المشروع الأمريكي الذي سوف يؤدي حتماً إلى تقسيم سوريا، وهذا يتناغم بشدة مع مصالح كل من تركيا وإيران اللتين تعملان جنباً إلى جنب مع الروس لمنع تحقيقه، رغم تضارب المصالح فيما بينهم. لكن يبدو أن ”الماكينة“ الروسية تعمل في أفضل حالاتها، فعين على المشروع الأمريكي شرق الفرات والقضية الكردية، وأخرى على مخاوف وطموح تركيا، ومتابعة التنسيق معها لأجل القضاء على هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) في إدلب وريفها، بالإضافة إلى متابعة تطور الوضع في الجنوب السوري وما يجري بين الايرانيين والإسرائيليين، كل ذلك ضمن سعيها لتطبيق الحل وفق رؤيتها، وبما يتوافق مع قرار مجلس الأمن رقم ٢٢٥٤ الخاص بسوريا.

لكن – رغم ذلك – تظهر بعض الأمور غير المتوقعة، فمع قدوم العام الجديد، وفي السادس من يناير/كانون الثاني، تعرّضت قاعدة حميميم الجوية العسكرية التابعة للقوات الروسية في سوريا، إلى هجوم هو الأول من نوعه، بعدما حلَّقت ١٣ طائرة من دون طيار مزودة بقنابل يدوية الصنع هاجمت القاعدة الجوية الروسية في حميميم والقاعدة البحرية الروسية في طرطوس، ولكن الهجوم فشل، بعد تصدي الدفاعات الأرضية لها، صحيح بأنه لم يعلن أي طرف مسؤوليته عن الهجوم، لكن بحسب وزارة الدفاع الروسية فإن الطائرات المسيّرة بدون طيار ”الدرونات“ انطلقت من جنوب غرب منطقة خفض التصعيد في محافظة إدلب، ولاحقاً مع التصعيد العسكري الأخير واشتداد القصف على مدينة سراقب في ريف إدلب، تمّ اسقاط طائرة سوخوي روسية بمضاد طيران محمول على الكتف، وهو سلاح محرّم على فصائل المعارضة امتلاكه منذ بداية الأزمة. لم تخرج روسيا حتى الآن بأي تصريح اتهامي، ولكنها طالبت بأجزاء طائرتها المحطمة لفحصها بغاية الكشف عن مصدر الصاروخ الذي أسقطها ونوعه، وأخيراً كان التصعيد الإسرائيلي في الجنوب بعد إسقاط مقاتلة F16 الإسرائيلية بمضادات طيران سورية، و ما تلاه من توعّد اسرائيلي لتواجد ايران في الجنوب السوري، ناهيك عن التصعيد الأمريكي – الغربي في مجلس الأمن ضد النظام السوري لاستخدامه غاز الكلور في الغوطة الشرقية وريف إدلب ضد معارضيه.

كل ذلك يرسم الكثير من علامات الاستفهام والقليل من الدلالات، فمن له مصلحة بقصف قاعدة حميميم ويملك هذه التقنية المتطورة؟ ومن سرّب لعناصر هيئة تحرير الشام مضاد الطيران المحمول على الكتف؟
هي أسئلة لا يمكن الإجابة عنها، ومن الصعب الجزم بها، لكن يمكن تبيّن بعض من ملامحها من خلال من يريد تعطيل الحل الذي تقترحه وتنفذه روسيا في ظل تضارب وتجاذب مثلث المصالح في الشمال السوري، طبعاً دون أن ننسى من استثمر كثيراً في” هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) وغاب عن المشهد مؤخراً لأسباب خارجة عن إرادته.

إن ما نلاحظه ونعمل على متابعته اليوم في الشمال السوري، قد نرى مثله في الجنوب مع اختلاف اللاعبين وتشابه المصالح وتشابكها، هي أيام عسيرة على سوريا والسوريين، لا يمكن التنبؤ بها، لكن ما هو واضح بأن من يدفع الثمن هو الشعب السوري وحده، بعيداً حتى عن التعاطف الكاذب الذي كان في بداية الأزمة، فمنظر الأطفال والنساء الذين يتم استخراجهم من تحت الركام لم يعد يحرّك مشاعر أحد، بل بات الأمر أكثر وقاحة في استثمار الدم السوري لتحقيق مصالح أكثر.

في الشعر السوري: الإيروس والثاناتوس والأقنعة الجنسية

في الشعر السوري: الإيروس والثاناتوس والأقنعة الجنسية

عندما نكتب عن الشعر السوري الجديد (وليس الحديث، فللجِدّة معيار وقتي، بينما للحداثة معايير فنية)، لا يمكننا أن نغفل أنه خطابٌ مرتبط بالموروث الثقافي العربي-الإسلامي ارتباطًا زمنيًّا (diachronic)، ومرتبط بالظروف السياسية والاجتماعية والثقافية لمرحلة الثورة/الحرب السورية ارتباطًا تزامنيًّا (synchronic). ومن الارتباط الأول تنشأ ثنائيات: التقليد والتجديد، التراث والحداثة، وجدالات غير مُنتِجة حول الأشكال الشعرية. ومن الارتباط الثاني تنشأ ثنائيات: الحرية والاستبداد، الحبّ والحرب، وجدالات غير مُنتِجة حول “دور المثقف”. سأبتعد عن كل ذلك، إذ لسنا بحاجة إلى المزيد من النقاشات المحكومة بمنطق الثنائيّات الإقصائي.

لا أعتقد أن الحديث عن الشعر السوري الحالي؛ مثيرٌ للاهتمام، سواءً لدى القارئ العادي أو المختصّ. إذ بات الـمُنتَج الشعري مطروحًا في السوق الأدبية مجانًا، وبكثرةٍ غير مسبوقة، مُتخلّيًا عن أيّ كرامةٍ عُرفَتْ عن الشعراء، وعن أي قداسةٍ وَسَـمَـتِ الشعر في العصور السابقة. لا بُدّ إنّ كثرة الـمُـنتَج الشعري دليلٌ على أزمة الشعر، لا على صِحّته. ولا بدّ أنّ كلّ تغييراتٍ كميّة سوف تؤدي حتمًا إلى تغييراتٍ نوعيّة، وتعود التغييرات النوعيّة بدورِها لتُحدِث تغييراتٍ في الكمّ من جديد. وبدلًا من محاكمة هذا الكمّ، من الأجدى فهمُه وفهمُ أسبابه، وفهمُ إنسان القرن الحادي والعشرين الذي لا يملك من الحقوق والحريات أكثر مما امتلك أسلافه، وذلك لأن النظام السياسي- الاقتصادي- الاجتماعي العالمي؛ قد غيَّـر أساليب الاستغلال والاستعباد، لكنه لم يغيّـر ماهيّتها. إنسانُ اليوم عاجزٌ عن الفعل، عاجز عن إحداث تغييرٍ حقيقي في أيّ مجالٍ وعلى أيّ مستوى، لكنه قادر على الكلام، ومسموحٌ لهُ أن يتكلّم نسبيًّا، لكي يُفرّغ الـحَصْر النفسي أولًا، ولأن الأقوال -مهما كثُرتْ- لن تُحدِثَ أثـرًا كالأفعال -مهما قلَّتْ-. تقول مايا آنجلو في هذا الشأن: “جناحاهُ مقصوصان/ قدماهُ موثقتان/ فليسَ لهُ سوى… أنْ يفتحَ حنجرته ويغـنّـي”.[1]

واستكمالًا  للحديث عن كثرة الـمُنتَج الشعري، أشيرُ إلى أنني سأتحدثُ عن الشعر السوري الجديد بعد قراءة ثلاثين مجموعة شعرية صادرة في السنوات الخمس الأخيرة، مع يقيني بأن عدد المجموعات الصادرة خلال هذه المدة يفوقُ ذلك بثلاثة أضعاف أو أكثر.

لكن، من أي زاوية سأقارب الشعر السوري الجديد؟

اليوم، في زمن الـ “ما بَعْدَات” (بعد الحداثة، بعد الكولونيالية، بعد النظرية الثقافية)، لم تعد موضوعات مثل: دور الشعر، المثقف العضوي، الأدب الملتزم، الأدب الثوري، أدب السجون، الحب والحرب، التراث والحداثة… مُغريةً للقارئ أو الدارس، ما هو مثيرٌ(sexy) حقًّا، هو الجنس (sex) نفسُه.[2]

الإيروس والثاناتوس

سأحاول مقاربة النصوص التي بين يديّ عبر ثنائية الإيروس (eros) والثاناتوس (thanatos)، فالأول هو الحب وغريزة الحياة، والثاني هو الكراهية وغريزة الموت. ولا يخفى على القارئ أن المصطلحين قادمان من النظرية الفرويدية، وكتاب “ما فوق مبدأ اللذة.” يرى فرويد أنّ كل إنسان يحمل في داخله غريزة الحياة وحفظ النسل والبقاء، وتُعزَّز هذه الغريزة بالحب والرغبة الجنسيّة (إيروس). وكذلك فإنّ كلّ إنسانٍ يحمل في داخله غريزة الموت والنزعة التدميرية، والرغبة بفناء المادة العضوية وتلاشيها (ثاناتوس) [3]. وهذه الثنائية ليست إقصائية فيما أرى، بل هي بنّاءة وتركيبية.[4]

صحيح أن دافع الحياة وحفظ النوع، وبشكله التصعيدي: الحب، موجود عند كل إنسان، لكنه يزداد إلحاحًا في زمن الحروب والكوارث. وما يعنينا هو كيف تناوله الشاعر السوري اليوم؛ هل استمرّ بالغناء عنه من بعيد؟ أم استبعده جانبًا، مُعطيًا اهتمامه الأكبر لاحتياجاتٍ أُخرى؟ أم تناوله كقضيّة مركزية ومهمة للبقاء؟

الإيروس:

ينطلق نصُّ  حسن ابراهيم الحسن من الأرض، من التراب الذي ما إنْ تتوطّد علاقة الإنسان السليمة معه، حتى يبدأ بالارتقاء درجةً إثر درجة حتى بلوغه قمة النقاء الروحي. ويكون حب الإنسان للإنسان، وعشق الرجل للمرأة، الدافع الأول للحياة، والسلَّم الأمثل للارتقاء من الماديات إلى الروحانيات:

“ليديكِ رائحةُ التراب (…)

مُسّينيْ لأنسى ذكرياتِ الحرب، (…)

ليديكِ رائحةُ البلادِ

وقهوةُ البدو،

احضُنينيْ…

كلُّ ما في الأرضِ بعدكِ باردٌ، (…)

ليديكِ رائحةُ البيادرِ

نملةٌ جوعيْ وقمحُكِ صاخبٌ جدًّا، (…)

مرةً قولي أحبّكَ علَّ ماءِ الروحِ يصفُو”. [5]

ومثلما يصيرُ الهوى ذليلًا “كلما ذلَّ للرجالِ جبينُ” حسب وصف القبّاني [6]، فإن الهوى وحدَه مَنْ يُعيد للرجل كرامتَه المهدورة في زمن الحرب. ويكون الترابطُ بين الهوى والكرامة عضويًّا، يسقطان معًا ويرتقيانِ معًا، إذ لا يمكن للنصر (أو الهزيمة) أنْ يقتصر على جناحٍ منهما دون الآخر. وفي هذا السياق يصفُ محمد طه العثمان كيف شاختْ نوارسه، وفقدت القدرة على التحليق. وكيف أنّ “نابَـهُ” بما يحمله من دلالات القوة (نَصْل السيف/ رأس الرمح) ودلالات الذكورة (القَرْن/الشارب المعقوف/ القضيب) مجروح! مجروح بزهر النهد، النهد الغائب، المرجَـوِّ قدومه ليشفي الجرح:

“مُرّيْ على جسدي

ولا تستدرجيْ حُـمّـى القصائد في غيابـيْ

مُـرّيْ

فكلُّ نوارسي شاختْ

وأوجَعَ زهرُ نهدكِ جرحَ نابـيْ”. [7]

أما الإيروس عند أنور عمران فليسَ دافعًا للحياة ومنقذًا من الموت فحسب، بل هو ما يجعل الإنسان إنسانًا، ومنه تستقي الأخلاقُ وبهِ تتهذّب، وإليه تُعزى منجزاتُ الحضارة في جانبها القِيَمي والـمُـثُـلي:

“لنفترضْ أنني لم أقدّم الماءَ للأعمى في محطة القطارات هذا الصباح،

ولم أساعد الطفلةَ الكسولةَ في تمارين الحساب…

لنفترضْ أنني لم أضَعِ الآسَ على صورة أصدقائي،

ولم أُشعلِ النارَ في خاطرِ جاري الذي يغمرُهُ الثلج،

أو أنني لم أكُنْ عكّازًا للمُسِـنّـةِ التي سألتْني عن موقع الصيدلية،

لنفترضْ أنني لم أتصرّفْ كما تصرّفتُ اليومَ

ما الذي كنتُ سأفعلُه بحبّكِ إذن؟!” [8]

وكأن الشاعر هنا، يستعيد حكاية أنكيدو بلغةٍ وفهمٍ حديثين.

الثاناتوس:

قلنا -نقلًا  عن فرويد- إنّ كل إنسان يحمل في داخله الإيروس (الحب وغريزة الحياة) إلى جانب الثاناتوس (النزعة التدميرية وغريزة الموت)، كما أنّ كل إيروس في الظاهر قد يخفي ثاناتوسًا في الباطن، والعكس بالعكس. ما يعنينا هنا؛ هل أوصلت الحربُ الإنسانَ السوري إلى حدّ الاستسلام واليأس من الحياة؟ هل أيقظتْ في داخله النزعة التدميرية الغافية، ورغبةَ المادة بالتلاشي؟ ما شكْلُ هذا الـمَوَات الجمعي وكيف تناوله الشعراء؟

في مجموعة رشا عمران “بانوراما الموت والوحشة” يتمدّد الموتُ على معظم الصفحات ويحاصر القارئ من كل الجهات، وهو ليس الموتَ بمعناه البيولوجي فحسب، إذ هو يشمل الأحياءَ والأموات، بل إنّ الأحياءَ أكثرُ موتًا من الموتى. فالشاعرة/الراوية تُعيد في آخر الليل “أعضاءَها المبعثرة إلى أمكنتها” لكي تستيقظ في الصباح “جثةً مكتملة”. وتقدّم في نصٍّ آخر صورةً سوريالية لموت الكائن الحيّ أثناء حياته، إذ مزّقتْه الحربُ وباعدتْ أشلاءه عن بعضها، لكنها أبقتْ على بصيص ضوءٍ في رأسه، يُوهمه أنه على قيد الحياة. وكأنها تقدّم صورةً معكوسةً للموت السريري، فالدماغ هنا هو “الحيّ”، بينما سائر الأعضاء الأخرى ممزّقة ومبعثرة:

“كنتُ أراقبُ أعضائي موزّعةً على البلاط…

تلك اليدُ أعرفُها جيدًا، وأعرفُ أصابع القدم اليسرى المبعثرة، وأعرف الشامةَ السوداء في أعلى الظهر، الشامة التي كنتُ أبرزها دائمًا كلما نسيتُ اسمي…

أعرفُ بقعةَ الدمِ أسفل الجدار، وأعرف السرّة الملقاة تحت السرير كمنديلٍ عتيق…

وحدَه الرأسُ بكلّ تفاصيله، الرأسُ المعلّق أمام الشاشةِ السوداءِ كمسمارٍ في فراغ الحائط

كان غريباً عني”. [9]

أما عند هنادي زرقة، فيصبح دافع الموت (ثاناتوس) شهوةً مُتملّكة، تحلُّ محلَّ الشهوة الجنسية أو هي نفسها لكنْ بصورة جديدة. وهنا أتدخّل وأشير إلى أن النزعة التدميرية كثيرًا ما تنصبُّ على الآخر، وفي هذه الحالة تُوصف بالسادية عندما ترافقها المتعة. في هذا المقطع تصف الشاعرة حالةَ صراعٍ بين شهوتين مُتعارضتين في الجذر والأهداف؛ شهوة نساء وشهوة رجال:

“يذهبُ الرجالُ إلى الحرب

وتفرَغُ الأسرّةُ من الشهوة

تاركينَ نساءً لا يكفُفْنَ عن الصُراخ

وضَرْبِ الأولاد،

يذهبُ الرجالُ إلى الحرب

الحربُ شهوةٌ أيضًا!” [10]

وفي السياق ذاته، وكتعبيرٍ عن حالة الموت العضوي والنفسي والاجتماعي، آخذُ نصًّا يُغني عن عديدٍ من النصوص، فهو يصوّر الحرب في أثرها الإنساني والواقعي المعيش، بعيدًا عن شعارات أمرائها وأحقاد تـجّارها، إنها الحرب في “بشريّـتها” إنْ صحَّ التعبير. يتميز النصُّ بأنه لا يصف الحرب وآثارها من بعيد، فيغصبُ أو يثور أو يرثي أو يندب، بل يصف حالة الموات/اليباب من الداخل، من صميمها ومن أدقِّ خلاياها. وهو نصّ/خطاب مُقتنعٌ بكونه جزءًا من الموت الجماعي، وراضٍ بكونه سائرًا في سيرورة التلاشي، إنه نصُّ الثاناتوس في أعلى صوره. تبدأ مناهل السَّـهْوي بوصف حالة الـمَوَات/اليباب من انقطاع العلاقات بين الجنسين:

“الثورةُ لا تمنحُنا رجالًا

لا الوطن،

ولا حتى المغصُ المقيتُ قبل العادة الشهرية”

في المستوى الثاني، تعمّقُ الشاعرة الحفرَ في الجرح الشخصي-العام، وتلمسُ اختلالَ ميزان الحياة بفعلِ تكاثُر كفّةٍ وتناقص الأُخرى، وتشير إلى رحلة سيزيفية بين الرمل والماء:

“نحنُ النساء نطرحُ الدم

كما تفعلُ الحروب 

ونتكاثر في المعارك،

نخرجُ من كلّ مكانٍ

كصغار السلاحف

تفقسُ في الرمل البارد

وتجري بفطرةٍ إلى الماء”

تزيد الشاعرة من تعميق معاناة المكان/الأرض/ الجسد، عندما تشير إلى أنّ الحياة مستمرة، لكن في مكانٍ/ أرض/ جسد آخر، فتصبح المقارنة الضمنيّة موجعةً بين الأرض/ الأم/ الحبيبة التي فقدتْ أبناءها وأحبّتها، والقارة العجوز التي كسبتْهم وهي لا تحبُّهم أو تستحقُّهم:

“يختفي رجالُنا 

عشاقُنا

وأبناؤنا

فمُ الحرب أكبرُ من شفتي بحرٍ

يدلقُهما على قارتين،

ما أكبرَ فمَ البحر حين شاهدناه من فوق!

يختفي الرجالُ الواحد تلو الآخر 

في الشفاه المفتوحة 

في القبلات الحارة،

يختفي الرجال 

كما لو أنّ البحرَ امرأةٌ تمتصُّ الرجالَ كلَّهم 

بجوعٍ مُعـمِّـر”

وفي النهاية، تؤكّد الشاعرة على موت “الإيروس”، وانعدام الرغبة بالحياة بكُلّيتها وتفاصيلها، ودخول الجميع في حالةٍ من “الثاناتوس”، في حالةٍ من السعي الجمعي إلى الفناء، يأخذ شكلَ الانتحار الجماعي أو الاستشهاد العبثيّ دون تحقيق الغاية المنشودة منه:

“نحن النساء في الحروب

لا نقصدُ اكتشافَ أطعمةٍ بديلة 

ولا تدفئةٍ بديلة 

ولا حركاتٍ شِعرية جديدة،

نحن فقط نجري نحو رائحة الزبد 

ونغرق…” [11]

والزبد بطبيعته كينونةٌ في طور التلاشي، ولهُ دلالاتُ الولادة والذكورة، فأفروديت وُلِدتْ من زبد البحر، وقد جاء هذا الزبد من خصيتي أورانوس (أسطورة إغريقية). لكنّ الزبدَ هنا لا يأتي بأيّ ولادةٍ جديدة، إنه محضُ سرابٍ ذكوريّ موهوم، يقودُ الساعي وراءَه نحو هلاكٍ وشيك.

الأقنعة الجنسيّة

ليس المقصود بالقناع هنا؛ التقنية الدرامية التي يستخدمها الشاعرُ للتخفيف من الغنائية والمباشرة، كأنْ يستعير شخصيةً تاريخية (نيرون، أيوب، المتنبي…) فيرتدي وجهَها ويأخذ ملامحها وصوتها، ليمرّرَ من خلالها -ومعها- مقولتَه وصوته. وهو ما يقابله الـ (mask) بالمصطلَح النقدي. المقصود بالقناع هنا هو الـ (persona) أي الوجه الذي يتقدّم به الإنسانُ إلى المجتمع، فنحن في حياتنا اليومية قد نجد ضرورةً لأنْ نغلّف الذات الحقيقية بغلاف خادع، ونلبسها قناعًا لتبدو في مظهرٍ لائقٍ ومقبولٍ من الجماعة. ولا يخفى على القارئ أن المصطلح قادم من نظرية ك.غ. يونغ.[12]

إذًا، يتألف القناعُ من وجهٍ ظاهر ومعنىً مخفي. أما من حيث إضافة القناع إلى الجنس، فلا بدّ من الإشارة إلى أن المنظومة السياسية-الدينية لم تستطع على مرّ العصور إلحاقَ الهزيمة بالموروث الوثني، بل أزاحتْه إلى الهوامش فقط، حيث بقيَ هناك، في الجانب المعتم والمحرّم، يزدهر ويتطوّر ويُلقي بظلاله على المركز المسيطر [13]. نحن في النهار كائنات اجتماعية، لكننا ننزلق في الليل إلى عالم الأحلام، حيث تتولى الفطرة مقاليد الأمور، فترمي التابوهات الاجتماعية جانبًا، وتعطي للغريزة والأنانية مقاليد الحكم. يقول شاعرنا العربي: “نهاري نهارُ الناسِ حتى إذا دَنَـا / ليَ الليلُ هـزَتْـنـيْ إليكِ المضاجعُ.”[14]

تتألف الأقنعة الجنسية من سلسلةٍ غير محدودة من الإشارات والرموز، تمتدُّ من الإنسان الاجتماعي إلى الإنسان البدائي. وتتشعّب هذه السلسلة في مجالات الأدب والموسيقى والمسرح وغيرها. لكنْ لماذا يلجأ الشاعر السوري اليوم إلى القناع؟ وما حدود حرية القول التي يتمتع بها؟ وهل للحرب دورٌ في إذكاء الحنين إلى العصور البائدة؟

الإلهة الأنثى:

استكمالًا  لما قلتُ عن استمرار الثقافة الوثنية في الهوامش، رغمَ إقصائها عن المركز السياسي-الديني لعدة قرون، نأخذ الإلهة-الأنثى موضوعًا للدرس. لقد استطاع الإسلامُ تحريمَ عبادة الأوثان، وهي تعودُ في غالبها إلى آلهةٍ مؤنثة، وأخرجها من مجال الممارسة الدينية والاجتماعية. لكنها ما لبثتْ أنْ عاودت الظهورَ في الأدب، فتحوّلتْ “ليليت” (أو اللات) إلى “ليلى”، وعادت ابتهالاتُ الشعراء تصبو إليها. ولا أحسبُ توظيفَ الأسطورة في الشعر الحديث غيرَ تَـمَظْهُرٍ (representation) جديدٍ للثقافة الوثنية.

يقدّم أحمد م. أحمد نصًّا إيروتيكيًّا طويلًا  بعنوان “بالقولِ تحبلُ الأنثى”، وفيه لا تظهر الإلهة-الأنثى بصورةٍ مفارقة للواقع، ولا تسكن في السماء أو تتجلّى في شمسٍ أو قمر. بل هي إلهةٌ أرضية وتجلّياتُها طبيعية وملموسة: “سآوي إلى البقايا: شِـقّ الرمّانة، رائحة السرو والطيّون في عـشِّـها/الورد-الملاذ”. ويكون التواصل بين العاشق الـمُبتهِل والمعشوقة الإلهة بالحواسّ البشرية الخمس، لا بلغة العشاق العُذريين أو الصوفيين:

“انظُريني ما أقرَبَـنـيْ إليكِ: أشـمُّكِ كغزالتي،

وأدورُ حولك، ويضوعُ عطرُكِ في الخصب العميم.

سأسمعُ بعد حينٍ شهيقك، وأضيعُ في حياة

الرغبة القصيّة عند سقفِ الموت اللذيذ…” [15]

وهنا لا يكون للقناع الجنسي دورُ إخفاء الجنس وتقديمه بصورة مقبولة اجتماعيًّا، فهو واضح وصريح. بل دور إخفاء طقوس الجنس الوثنية، وتقديمها بصورة مقبولة اجتماعيًّا، بصورة حبّ لا ديانة، مع أن الوثنية تشي بنفسها في عباراتٍ مثل “أدور حولك” و “الخصب العميم”، ويزلُّ لسانُها في مكانٍ آخرَ من النص: “الله الذي جبلْـتُه من مائك، وبَرقِ حلمتيك.” وليس كلُّ ذلك سوى هروبٍ فرديّ من الزمن الحالي نحو زمن الفطرة والبداءة، وإنكارٍ ضمنـيّ للمنظومة السياسية-الدينية-الاجتماعية القائمة.

وفي السياق ذاته، نجد شعراء آخرين قد وضعوا الحبّ قناعًا، يخفي الرغبةَ بالعودة إلى الوثنية وطقوسها. نقرأ عند واحدٍ منهم: “يا امرأةً… طالَ ركُوعي بين يديك” [16]، وعند آخر: “ألعقُ فخذيكِ طوال الليلِ كأنهما الماء” [17]، بينما يقول ثالث: “وكأنها المعنى الحقيقيُّ الأخير/ لما تجسَّدَ من زوالِ أُلوهةِ الأُنثى” [18]. لا يا صديقي! ألوهة الأنثى لم تزل، وها هو نصُّك يقول ذلك.

الإله الذكر:

أعتقد أنه لم توجدْ ثقافة أبويّة بالمطلق، ولا أموميّة بالمطلق. وكذلك يتعذّر وصفُ ثقافةٍ ما بالغربية الصافية أو الشرقية الصافية، وما ثقافتُنا إلا نتاجٌ من إسهاماتِ البشرية جمعاء. وفي الوقت الذي كانت فيه الثقافة العربية متمركزة حول المرأة (قبل الإسلام)، كانت الثقافة اليونانية متمركزة حول الرجل. فنُصبَتْ له التماثيل الضخمة، وتسلّلتْ رموزُهُ الجنسية في مختلف مظاهر الحضارة والسلطة، ليست الأعمدة الشاهقة والأبراج سوى بعضٍ منها. كل ذلك قبل اكتشاف حضارات الشرق القديم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ودخولها في الأدب العربي منتصف القرن العشرين.

من صفات الإله-الذكر/البعل المعتادة؛ أنه يسكن في السماء مقابلَ الأرض-الأنثى، وأنه يتجلّى على شكل مطر. هذا الارتباطُ بين الرجل والماء نطالعه في عديدٍ من النصوص حتى اليوم، إذ يحضر الماءُ حيث يحضر الرجل، كقول سارة حبيب: “الكتابةُ عنكَ تحت المطر/ بَـلَـلٌ مُضاعَف”، وفي مكانٍ آخر: “كلّما رفعتَ يدكَ من بعيد/ تحسَّسْتُ مائي” [19]. ويكون للماء وظيفةُ إخصابِ الأرض المؤنثة، لتعشبَ وتزهر من جديد، تقول بسمة شيخو: “مَنْ غيري/ تُنبِتُ العشبَ تحت أقدامك”، وفي النص ذاته: “مَنْ غيري/ لجسدها عناقيدُ/ تنتظرُ نظراتكَ لتعتّقها. وتفاحٌ مُـحـرّمٌ/ ينتظرُ أنْ تقبّـلَ وجنته” [20]. ونلحظ هنا أنّ استعادة الفردوس المفقود، وامتلاءَ الجسد الأنثوي/الأرض بالعناقيد والتفاح، لا يكونان إلّا  عند حضور الرجل/الماء، وقيامه بدوره “الزراعي”.

حتى في قصيدة المدينة، تظهر الرموز الوثنية تحت أقنعةٍ جنسية. فنطالع عند هنادي زرقة: “أكادُ أصطدمُ بالأشجار وأعمدةِ الإنارة/ وألعنُ سوءَ تنظيمِ هذه المدينة طيلة الوقت.” فهنا لا يشير الاصطدامُ بالأشجار والأعمدة إلى فوضى في الذهن فحسب، بل إلى فوضى في اللاوعي كذلك، إذ ليست الأشجار والأعمدة سوى رموز ذكورية لبستْ قناعًا مقبولًا  اجتماعيًّا، وهذا ما تشي به تتمةُ النص: “لديّ رغبةٌ بالوقوع في الحبّ/ لكنّ المدينةَ سوداءُ/ ورجالُها واجمونَ/ مثلَ صوتٍ جافّ” [21]. ولا نأتي بجديد إذ نقول إنّ الجفاف هو العقم ولا شيء غيره.

وكما أرى، ليست هذه الأقنعة سوى هروبٍ من زمن الحرب والموت والعقم، وتحليقٍ عكسَ الساعة إلى زمن الفطرة البدائية والحرية الحقيقية. وهي تُخفي (وتكشِفُ) موقفًا نفسيًّا يرفضُ المنظومة السياسية- الدينية- الاجتماعية القائمة، و “يكفُر” بها.

الهوامش:

  1. آنجلو، مايا: امرأة استثنائية. تر: عبد الكريم بدرخان، دار الأدهم، القاهرة 2015. ص 85.
  2. استعرتُ الجملة الأخيرة من تيري إيغلتون، من كتابه “ما بعد النظرية”.
  3. Freud, Sigmund: “Beyond the Pleasure Principle”. Bartleby. New York, 2010. P. 54-64.
  4. ليست ثنائية إقصائية في نظري، لأنّ فرويد اعتمد “مبدأ وحدة الأضداد وصراعها” كقانون ناظم لمبدأ اللذة، وهذا المبدأ قادم من الجدل الهيغيلي (أطروحة×نقيض=تركيب) مرورًا بالمادية الديالكتيكية، ما يعني أنها ثنائية بنّاءة وتركيبية. وهكذا يقوم مبدأ اللذة على بُنيان تتوحّدُ فيه الأضداد ضمن منظومةٍ متكاملة، يحكمها قانون عامّ للذة والألم. وهنا لا يكون الألمُ استثناءً من مبدأ اللذة، بل هو عنصرٌ مكمّل له. حيث أنّ كلّ سعي وراء اللذة يتضمّن تجنُّب الألم، وكلُّ هروبٍ من الألم يتضمّن رغبةً بتحقيق اللذة.
  5. الحسن، حسن إبراهيم: غامض مثل الحياة وواضح كالموت. جائزة دبي الثقافية للإبداع-الدورة الثامنة، دبي 2015. ص 33.
  6. من قصيدة “ترصيع بالذهب على سيف دمشقي”.
  7. العثمان، محمد طه: جاءت تربّي الضوء. دار فضاءات، عمّان 2016. ص 11.
  8. عمران، أنور: أسند ظهري إلى الرياح. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2017. ص 55.
  9. عمران، رشا: بانوراما الموت والوحشة. دار نون، رأس الخيمة 2014. ص 5.
  10. زرقة، هنادي: الحياة هادئة في الفيترين. دار النهضة العربية، بيروت 2016. ص 35.
  11. السهوي، مناهل: جوع النساء المعمّر. جريدة الديار، عدد 1/شباط/2017. ص 26.
  12. فتحي، إبراهيم: معجم المصطلحات الأدبية. المؤسسة العربية للناشرين المتحدين، صفاقس 1986. ص 279.
  13. للتوسع في الموضوع، أُحيل القارئ إلى ميشيل فوكو “إرادة المعرفة” أو نيتشه “مولد التراجيديا”، أو إلى أيّ دراسةٍ اعتمدتْ واحدًا من هذين المنهجين.
  14. يُنسَب إلى قيس بن الملوح.
  15. أحمد، أحمد م: أحرق سفنه إلا نعشًا. دار أرواد، طرطوس 2015. ص 124-127.
  16. عباس، د. موسى رحوم: فبَصَرُك اليوم حديد. دار فضاءات، عمّان 2014. ص 30.
  17. حمودة، إياد: بوسعي أن أرى الطائر كاملًا. دار أرواد، طرطوس 2015. ص 82.
  18. عثمان، أحمد شكري: كمآذن ألِـفَـتْ مراثي الريح. جائزة الشارقة للإبداع العربي، الشارقة 2017. ص 82.
  19. حبيب، سارة: النجاة حدث مملّ للغاية. دار أرواد، طرطوس 2017. ص 34-35.
  20. شيخو، بسمة: شهقة ضوء. مركز التفكير الحرّ، جدّة 2015. ص 86-87.
  21. زرقة، هنادي: نفسه. ص 41.

الأبحاث حول سوريا وما يريده السوريون: حوار لمجلة الوضع مع ربيع نصر

أجرى بسام حداد لمجلة “الوضع” هذا الحوار مع ربيع نصر المشارك في تأسيس المركز السوري لبحوث السياسات عن أنشطة وأبحاث المركز والمسائل الحساسة المتعلقة بالانتفاضة السورية بما فيه أسباب وأين يقف السوريون بعد ست سنوات.

نص البرنامج

بسام حداد: نحن سعيدون باستضافتك مرة ثانية لكن هذه المرة في واشنطن، وأود أن نتحدث معك عن الشأن السوري ومجموعة من الأمور الأخرى. ونحن نتحدث مع حضرتك الآن كأحد مؤسسي المركز السوري لبحوث السياسات.

ربيع نصر: أهلا وسهلا بسام، دائماً يسرنا اللقاء معك.

بسام حداد: نحن الآن في وضع سيء كالعادة في سوريا ونتحدث الآن في أواخر شهر نيسان ٢٠١٧ ونحب أن نتناول بعض الأمور التي لها علاقة بالوضع السوري. لكن قبل أن ننتقل إلى مواضيع أخرى أريد أن نتحدث عن مسألة الجو الخطابي الموجود حول سوريا سياسياً واجتماعياً، إلخ يستطيع المرء القول بسهولة إن الجو مسموم، لا يوجد إنتاجية، ولا جدوى من هذا الخطاب في كثير من الأوقات وينزلق إلى أمور في غاية التفاهة وغير مجدية ولذلك أنا من الأشخاص الذين يقدرون كثيراً في جو أو وضع كهذا ما يقوم به بعض الأشخاص مثلكم، وأُقدر عملكم في المؤسسة وعملنا نحن هنا في مؤسسة الدراسات العربية من أجل إنتاج معرفة وبحوث، الخ، فهل يمكن أن تحدثنا قليلاً عن الأبحاث التي تقومون بها منذ فترة والأمور التي يمكن أن يهتم بها المستمعون إلينا بالنسبة وخاصة الأبحاث الميدانية الذي قمتم بها.

ربيع نصر: طبعاً في هذا الوضع السوري المأساوي، وفي ظلّ نزاع مسلّح مرّ عليه سبع سنوات، إن الجزء الأساسي الذي يمكن أن يكون الحَكَم بالأخص بالنسبة للمجتمع السوري هو الوضع الذي يعيشه الناس والتصور المستقبلي الذي يمكن أن يكون المخرج لأفق مستقبلي.

في المركز نشتغل على القضية المعرفية في خدمة المجتمع وبالتالي استخدام كافة الأدوات الممكنة كباحثين وكذوات بحثية لخدمة الأولويات المجتمعية من أجل الخروج من النزاع المسلح بعيداً عن الاستقطاب السياسي أو البروباغندة الإعلامية التي يمكن أن تكون مترافقة مع الكثير من الحوادث. أكيد هذه عملية صعبة ومعقدة جداً، لكننا نرى الغرض منها رئيسياً، وذلك من أجل  أن يرى الناس المصلحة المشتركة، والقضايا الرئيسية التي يشتركون فيها والتي فيها استدامة لمستقبلها واستدامة للمجتمع وللتضامن الاجتماعي حتى يتمكن المجتمع من تجاوز المرحلة الصعبة التي يمر فيها.

إن أحد الأبحاث الأخيرة التي عملنا عليها هو بحث عن رأس المال الاجتماعي وعن مدى التصدع الاجتماعي الذي حدث. وكتير من النتائج تشير إلى أشياء مختلفة عن القضايا المطروحة كخطابات سياسية، هذا الظلم الذي تعرض له المجتمع السوري، والذي أدى إلى تفكك وانعدام الأمن وانعدام الثقة بين الأفراد نتيجة استخدام العنف إن كان بشكل مباشر من خلال القتل أو بشكل غير مباشر من خلال اقتصاديات الحرب واستغلال وابتزاز وحصار الناس، هذا كله  من خلال هكذا نوع من البحوث يمكن قياسه. والحقيقة إن إحدى أهم نتائج هذا البحث هو كيف تشترك قوى التسلط، إن كانت قوى تسلط سياسية أو عسكرية أو اقتصادية بحالات العنف وحالات الحرب، بظلم الناس واستبعادهم وهذا ما يفعله معظم المنخرطين بالحرب في سوريا.

هنا ترى أن هناك تغييباً لدور المجتمع، وتغييباً للمعاناة الموجودة في المجتمع ويوجد تركيز في الخطاب السياسي على من هو المسيطر أو كيف ندعم أحد الأطراف المسيطرة، المسيطرة من خلال الهيمنة والخوف طبعاً.

إن التحدي الرئيسي الموجود هو كيف نظهر معاناة الناس وكيف نرفع من أهمية الدور المجتمعي كي يعود عاملاً مؤثراً في صناعة السياسة وصناعة التنمية والمستقبل السوري وتقليص دور قوى التسلط والبروباغندة التي تطرحها كحل لسوريا.

هناك بعض الأطراف التي تطرح أن الاستبداد السياسي هو حل لمستقبل سوريا. وأن الهيمنة والاستبداد والدكتاتورية والتطرف لا مفر منهم بما أنهم أمر واقع موجود وكأنهم الحقيقة الوحيدة الموجودة في سوريا، فهذا نوع من الخطابات التي تتجاهل الكثير من البدائل التي يتمناها الكثير من الناس ويتطلعون إليها في سوريا الآن، وهذا تجاهل لجزء كبير من الحقيقة وخدمة لبرامج لا تتفق مع أولويات المجتمع.

بسام حداد: هل يمكن أن تحدّثنا عن بعض الأمور البحثية التي تشتغلون عليها حالياً، طبعاً أنا أعرف ما هي ونحن مشتركون في بعضها، هل يمكن أن تعطينا نبذة لو سمحت؟ وأعتذر أنني مهذب معك الآن وأتذكر أننا تحدثنا قبل اللقاء ولم نكن على درجة عالية من التهذيب.

ربيع نصر: تمام، نحن لا نعرف من الذي يسمع. كي يكون الموضوع واضحاً للجميع إن الفكرة الأساسية التي نعمل عليها هي فهم ديناميكة العنف من خلال الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من خلال جهد متواضع تقوم به مجموعة كبيرة من الباحثين معظمهم متطوعون. إن العمل الموجود هو كيف يمكن بناء مؤسسات مستقلة في ظل نوع كهذا من النزاعات، هذا هو التحدي الأساسي الذي نواجهه معاً لأن المجتمع بأمس الحاجة لمعرفة الأدلة على ما يحدث وعلى المستقبل، وكيف يمكن أن يكون أفضل على المدى البعيد، كيف يمكن الخروج من هذا الإطار خاصة في ظل هذا التركيز على أنه لا يوجد خيار لا على المستوى المحلي ولا على المستوى الدولي.

لدينا خطاب كبير يُطرح منذ ٢٠١٢ وهو أن حل القضية السورية ليس في أيدي السوريين، وحل القضية السورية موجود بين أميركا وروسيا، في هذا جزء من الحقيقة، لكن هناك جزء آخر، يتعلق بدور المجتمع السوري ودور الناس في سوريا، وهذا دور مغيب وهو الدور الضروري والأساسي لأي استدامة لتجاوز المأساة التي نمر فيها، فدور هكذا مراكز بحثية مستقلة هو التركيز على ما يريده الناس من أجل المستقبل. إن أحد الأشياء هو فهم هذه الديناميكيات، وكيف تغيرت الحالة في سوريا من حراك مجتمعي يهدف إلى العدالة والحرية والكرامة إلى عسكرة الحراك وصولاً إلى سيطرة اقتصاديات العنف.

لم يكن العامل الاقتصادي هو العامل الرئيسي. كان العامل السياسي والحرمان من المشاركة، كان في البداية عاملاً رئيسياً، وتمكنت كثير من القوى المنخرطة في النزاع المسلح من تحويل العامل الاقتصادي إلى عامل ضاغط على الناس لإخضاعهم أولاً ولانخراطهم بعمليات من الأنشطة الاقتصادية أو الأنشطة المرتبطة بها التي تجعلهم جزءاً من عملية العنف واستدامة العنف، هذا أولاً نوع البحث الذي نعمل عليه ويهدف إلى فهم هذه الديناميكية، كيف يمكن تفكيكها وكيف يمكن وضع بدائل لهذه القضية.

إن القضية الثانية التي نعمل عليها هي قضية النموذج التنموي البديل وهو ليس مشروع للمركز بل لعدد كبير من الباحثين وهو يتأسس حالياً وهدفه النظر إلى المستقبل بطريقة تعمل على تجاوز قضيتين رئيسيتين: القضية الأولى هي أن هناك مجموعة من السياسات السائدة على المستوى العالمي التي تضررت منها المنطقة وسوريا على نحو خاص قبل ٢٠١١ وأثناء المأساة التي يعيشها السوريون، هذه هي القضية أي ما هي السياسات التي يمكن أن تقترح للمستقبل والإجراءات والبرامج التي يمكن أن نتجاوز بها الاختلالات الكبيرة الموجودة في السياسات العالمية المطروحة: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كنموذج على السياسات التي يحاولون طرحها في المنطقة وعلى ما يتم طرحه على تصور عملية إعادة الإعمار في سوريا. القضية الثانية التي يحاول أن يجيب عليها المشروع في ظل هذا الحجم من العنف في سوريا وفي ظل المنطقة المتوترة كيف يمكن أن تكون هناك مبادرات لتجاوز هذا العنف بشكل مستدام. كيف يمكن أن يعود المجتمع كي يلعب دوراً أساسياً؟ في بناء دولة وبناء مجتمع وتحقيق الرفاه، هنا لدينا أمور للأسف نتيحة للغموض وغياب الدقة وعدم استخدام الأدلة تكون غامضة.

نحن نرى مثلاً أن هناك درسين رئيسيين استفدنا منهما: الأول لا يمكن للاستبداد أن يبني تنمية ويبني مجتمعات مهما كان شكله لأن هذا قهر لإمكانيات الناس، والثاني أنه لا يمكن للتطرف أن يبني مجتمعات ورفاه وتنمية مستدامة. إذا لم نستفد من هذين الدرسين في إمكانية الحل السياسي لا يمكن التنبؤ كيف يمكن أن يكون المستقبل غير عنفي أو صحي أو قابل للاستدامة. إن هذين النوعين من الأبحاث مظلة عريضة لشغلنا التفصيلي الذي نقوم به في المركز ويتفرع عنهما عدد كبير من المحاور كدراستنا عن الفقر، وعن القطاع غير المنظم، وعن رأس المال الاجتماعي، وعن  تركيبة وطبيعة المؤسسات الموجودة فعلياً على الأرض في سوريا، والتفكك المرتبط بقضايا اقتصاديات الحرب والعلاقات الاجتماعية. وهذا نطاق واسع من البحوث لكن الغرض الرئيسي منه تأمين بدائل في المستقبل للرأي العام بالدرجة الأولى وفي مرحلة أخرى لبقية الفاعلين في سوريا.

بسام حداد: كل من يتحدثون عن الوضع السوري يتحدثون عن السوريين وماذا يريد السوريون وكيف يفكر السوريون، طبعاً الجميع يتحدث عنهم كأنهم يفكرون مثل المتحدث. نحب أن نسمع منك كشخص عاش حياته كلها في سوريا، وعلى المستوى الميداني، فهل يمكن أن تقدم لنا نبذة من خلال تجربتك عن الإشكالية التي يواجهها المرء حين يتحدث باسم السوريين، لأن الوضع الحالي، إذا تتبعت النقاشات، مزر فعلياً، والكل يتحدث بثقة تامة، وهناك قسم كبر من المحللين يتحدثون بثقة تامة، لكن لا يوجد فهم حتى للضبابية الموجودة عند السوريين إزاء الوضع الراهن وهناك فرق ما بين حين تسمع جواباً من شخص حين تسأله ما موقفك وأنت مع من، وبين ما يقوله أشخاص والأمور التي يفكرون بها داخلياً،هناك فصل بين هذين الاثنين، هناك جواب واحد على السؤال لكن الأفكار التي تدور في أذهان السوريين كثيرة وثمة تحليلات كثيرة وأفكار كثيرة وحسابات كثيرة، فهل يمكن أن تلقي الضوء على هذه المسألة؟

ربيع نصر: أتصور أن هذه إحدى القضايا المعقدة جداً وقد تم استخدامها لزيادة الاستقطاب بين السوريين. إن الفكرة الأولى هي فكرة التمثيل، من يمثّل السوريين ومن قام من السوريين بتفويض إحدى القوى السياسية الموجودة؟ ونحن نستخدم من ناحية بحثية مجموعة من الحجج التي تتحدث تحديداً عن هذه القضية. القضية الأولى هي أنه لا يمكن معرفة رأي السوريين تحت الخوف، وهذه هي الأداة الرئيسية المستخدمة من خلال العنف والنزاع المسلح، أي استخدام الخوف واستخدام إخضاع  المجتمع دون أي نوع من أنواع المشاركة.

كان هذا موجوداً كنوع من القمع قبل ٢٠١١، القمع السياسي، وهذا أحد أهم العوامل في جذور الحراك كما نعتقد لكن القضية الرئيسية هي استخدام العنف المباشر لتخويف الناس وعدم قدرتهم على التعبير عن ما يريدونه أو نقاشهم الذي هو جزء أساسي من معرفة كيف يريدون المستقبل، هذا النوع من القمع لنوع كهذا من النقاشات المفتوحة بين السوريين نحن نعتبره الحاجز الأول أمام معرفة ما يريده السوريون، لا يمكن الحديث عن تمثيل إلا بأدوات انتخابية أو أدوات تفويض وهذا غير موجود في ظل العنف. فالحل الذي نراه هو فتح نقاشات عامة لمعرفة على ماذا تركز هذه الآراء بين السوريين وفي مناخ آمن وهذا غائب، ثمة غياب لإمكانية تعبير السوريين عن أنفسهم، وللأسف ليس فقط داخل سوريا، وهذه قضية أخرى يتم تجاهلها بحكم أن المانحين لا يريدون أن يغضبوا الدول المستقبلة للجوء، ففي دول الجوار مثلاً مثل لبنان والأردن وتركيا لا يمتلك اللاجئون قدرة على فتح حوارات جدية أو تطوير تمثيل حول ما الذي يريدونه للمستقبل أو كيف يريدونه لأن هناك خوفاً من أن تتشكل مجتمعات اللاجئين ككتلة سياسية وبالتالي تهدد الأنظمة الموجودة في بقية الدول. لا يوجد أقنية حقيقية للسوريين كي يقوموا بهذا الحوار الذي يعبر عنهم. طبعاً هناك جزء رئيسي يجب أن نتحدث عنه يتعلق بالأدوات التي يتم استخدامها في العنف، منها الاستقطاب، وخطاب الكراهية، فبث خطاب الكراهية والحقد واستخدام الأدوات منها القتل المباشر والخطف وصولاً للتحريض الطائفي والمناطقي والعرقي، هذا يقود إلى عدم إمكانية أخذ الآراء من الناس المعرضين للألم لهذه الدرجة الذي استخدمته نفس أدوات الاستبداد، ونفس القوى المتسلطة، فلا يمكن لشخص هو ضحية مثلاً تعرّض أحد أقربائه للقتل وتسأله هل تعيش مع الآخر؟ فهذه الأسئلة بهذه الطريقة لا تعبر عن آراء كيف يرى السوريون الحل للمستقبل أو كيف يرون أولوياتهم على المدى البعيد.

إن البديل الذي يستخدمه المركز والذي نعتقد أنه أقرب إلى أولويات السوريين هو البحث التشاركي، أي القيام ببحوث مستقلة وتشاركية وهو أحد الأدوات الرئيسية التي تتجاوز هذا الاختناق. بالتالي من خلال هكذا نوع من الأبحاث المحترفة تعرف بماذا يفكر السوريون على المدى البعيد، وكيف تكون طبيعة الأسئلة والحوارات من خلال البحث التشاركي واسع النطاق وهذا يؤدي إلى فهم ماذا يمكن أن يكون الحل للمستقبل، وبالتالي نخرج من ردود الفعل: هل أنت مع الضرية الأميركية أم أنت ضدها؟ هل أنت مع التدخل الروسي أم أنت ضد التدخل الروسي؟ هناك قضايا يتفق عليها السوريون حين يكون الطرح موضوعياً وبحثياً يلامس مشاكلهم بدون أن يكون تحريضياً يزيد الاستقطاب بدل أن يخففه. بالتالي أعتقد أن فكرة التمثيل يمكن تعويضها بفكرة البحث الرصين المستقل.

بسام حداد: هناك كثير من الناس يمكن أن يسمعوا الذي تقوله ويقولون لماذا تحكي أنت حين تتحدث عن ضرورة الحوار حتى يعرف المرء ما يحدث لأن ما يحدث واضح وخاصة  للأشخاص الموجودين خارج سوريا الذين يقولون هذا: إن الوضع مفهوم: هناك نظام سلطوي إشكالي وهناك معارضة، والأغلبية السورية الساحقة، غير التي مع النظام، هم مع المعارضة ولا أحد في الوسط، ولا أحد مرتبك، ولا يوجد إلا قلة قليلة ترى الأمور بخلاف هذا، بالطبع يحدث تحريض وتخويف بالطريقة التي يُحكى بها عن الموضوع، إن الشخص إذا كان ناقداً لاذعاً للنظام السوري لأسباب واضحة لكن إذا لم يكن متفقاً مع خط المعارضة يعتبر أنه لا محل له في سوريا وأصلاً لا يوجد مثلك أنت فالعالم “إما هيك أو هيك”، لماذا إذاً نفتح النقاشات ونتحدث أليست الأمور واضحة جداً؟

ربيع ناصر: طبعاً فنحن نتحدث عن قضية من أعقد القضايا الموجودة في العالم، الأزمة السورية أو النزاع السوري أو النزاع العالمي في سوريا. فتبسيط الأمور واختصارها واختزالها هو من الفشل الذي له سبع سنوات هذا الفشل الذي تراكم وأدى إلى خسارة معظم النخبة الثقافية إذا سميناها نخبة والقيادات من مختلف الأطراف مصداقيتها أمام المجتمع وهذا هو الشيء الذي يمكن أن يكون هناك أدلة عليه واضحة للعيان.

هل كان هناك هوامش للحريات في المناطق التي كانت المعارضة مسيطرة عليها؟ داعش أو الأكراد أو النظام؟ لدينا فشل متعدد الأبعاد الشيء الواضح فيه هو حجم التسلط أو حجم قمع الحريات، الظلم للمجتمع الموجود، هذا لدينا كثير من الأدلة عليه. إذ لا يوجد لدينا منطقة في سوريا فيها ما كان يتمناه السوريون منذ ٢٠١١ للأسف. فأن نفترض أن القضية واضحة في سوريا كما كنا نتمنى جميعاً أن يكون عليه الأمر، أن هناك انتفاضة وحراكاً مجتمعياً للوصول إلى دولة تعددية وديمقراطية تحترم أبناءها فيها مؤسسات تمثيلية وتضمينية وفيها تنمية وفيها ثقافة متنوعة أتوقع أن هذا تبسيط، إذا كنا نريد التحدث عن الوضع الحالي وما قامت به مختلف الأطراف فهذا عبارة عن تبسيط.

نستطيع أن نتحدث بطريقة مختلفة: إذا كان هناك كل هذا الفشل موجوداً في سوريا فمن هي الجهة التي قامت بمراجعة حقيقية للأخطاء التي ارتكبتها وقدمتها للسوريين. من الذي قال أنا أخطأت استراتيجياً في ثلاثة محاور وأقول للمجتمع السوري كطبقة سياسية أو فئة مثقفة أن هذه الاختلالات بحاجة للتصحيح ويجب إما الانسحاب كي يقوم آخرون بالحوار والنقاش أو التطوير أو إعادة النظر بالاستراتيجية السابقة من خلال العلاقة مع الخارج أو من خلال العلاقة مع المجتمع السوري نفسه.

إن هذا التهميش لدور المجتمع ولدور الناس الموجودين نراه كسمة مشتركة موجودة في سورية. إن الوصول إلى الفكرة التي تعتبرها أنت أو الآخرون واضحة جداً حول طبيعة الصراع الموجودة في سوريا هي ترتكز أولاً إلى الحوار، وذلك كي نعرف أن الشخص الموجود في إدلب والرقة والشام وحمص ودير الزور وغيرها، ما هي المظلومية التي يعيشها الآن، لا يمكن معرفة هذا الآن من خلال مناخ يسوده الخوف، هو يحاول حتى الآن إما أن ينزح أو يهاجر، أو أن يكون مغيباً أو مغترباً بما فيه الناس الذين يقاتلون. هل الذي يقاتل يقاتل لأن لديه قضية هو مقتنع بها؟ إذا كان هذا الكلام موجوداً لدى كل الذين يقاتلون في سوريا، السؤال هو لماذا يقاتلون أطرافاً قريبة منهم بالفكر وبالرؤية للمستقبل؟ ويتركون الأعداء بين قوسين أو الآخر؟ إن كيفية معرفة كيف يفكر الناس بالمستقبل وكيفية مقاربتهم للحلول يمكن أن نلمسها لدى السوريين من خلال عدم رضاهم عن أداء مختلف الأطراف السياسية. وأتوقع أن هذا يمكن إثباته بأكثر من دليل لكن الشي الذي يجب أن نقوله هو أنه لمعرفة ما يحتاجه السوريون نحتاج إلى حوارات معمقة مع السوريين بشكل مفتوح، بشكل بعيد عن الخوف، وهذا يجب أن يكون أهم بند بأي خطوة أولى بالمصالحة أو الحل، هو تعلم الدرس من الضرر من التنازل للاستبداد السياسي أو التطرف، فسح المجال للسوريين كي يقوموا بحوار، كي يقوموا بمناقشات جدية لمعرفة الأخطاء ورسم تصور للمستقبل. أتوقع أن هذه أول خطوة بعيداً عن أوهام إنشاء صناديق انتخابية يسيطر عليها الاستقطاب أو المال أو التخويف، بالنسبة للخروج من الوضع الحالي باتجاه المستقبل.

بسام حداد: ما هي الخطوة الأولى، نحن نسمع عن أشخاص يتحدثون أو يدعون إلى الحوار، وفي الوقت نفسه يتحدثون عن الوضع السائد بأنه وضع واضح كما تحدثنا ويعتبرون أن البلد مقسومة بشكل عام إلى قسمين، لنضع داعش جانباً الآن، لأنه غير معنى بالطريقة التي تفكر بها المعارضة وغير معني بالنظام، لديه مشروع آخر.ما هي نقطة البداية في ظل حديث البعض أن في سوريا لا يوجد إلا جماعة موالية للنظام وجماعة موالية للمعارضة بشقيها العسكري والمدني، يرفضون أن يروا أن هناك سوريين وبشكل واضح، وخاصة منذ ٢٠١٣، خاصة أن أي شخص يدرس ويسمع ويحلل ويقرأ أموراً خارجة من سوريا وليس على الإنترنت وليس من مؤسسات الأبحاث الأميركية أو غيرها هناك قسم كبير من السوريين لديهم موقف ناقد على نحو عميق ورافض للنظام لكنهم اعتزلوا المعارضة أو تركوها كما هي الآن لكن لم يتركوا مفهوم المعارضة أو مفهوم الثورة، كيف يمكن أن يكون هناك نقطة بداية، هناك قسم كبير من السوريين في هذه الخانة، بغض النظر عن موقفها بالتحديد هي ضد النظام وأكيد أنها ليست مع المعارضة، أو أن هذا الإطار غير سليم.

ربيع نصر: أنا برأيي الموضوع سليم، لكن لدينا قضية رئيسية هي ما يدعى بالاستثمار في العصبيات، فالاستثمار في العصبيات وكراهية الآخر هي وقود للعنف واستمرار القتال والذبح وقد امتهن هذا عدة أطراف لديها رغبة في استمرار القتال واستمرار التسليح، لكن هل السوريون إذا كنا في نقاش طبيعي معهم ضمن المناطق التي يسيطر عليها النظام أو المعارضة، هل هؤلاء إذا اجتمعوا سيرغبون أن يكون ٩٠٪ منهم فقراء، أو ٩٠٪ منهم مهمشين تحت وطأة التهديد للانخراط في قتال هم غير راغبين به؟ هل هذا الموضوع الموجود في سوريا من أي طرف يساهم حالياً في العسكرة أو يساهم في القتال هل يرضي الناس في المنطقة التي يتحكم بها؟ فأنت تبقي الناس خائفين من الآخر ويرضون بشروط غير إنسانية وغير موضوعية هذا شيء، وأن تقول إن الناس قابلون بهذا الكلام أو هذا خيارهم فهذا شيء ثاني، هذا الخوف الذي تزرعه لدى الناس بأن الآخر سيقتلك أو أن أداء الآخر لم يكن أهلاً للثقة كي يكون مختلفاً عن هذا التصور، فتأتي وتستخدم هذا الخوف لإخضاع الناس، حينها يعتزلون فعلاً أنهم سيقومون بالتغيير السلمي أو سيقومون بالمناقشات لوضع تصور لسوريا الجديدة وينكفئون وينسحبون، فهذا الاغتراب عن العنف تراه في كثير من شرائح المجتمع، فالعلاقة الباردة بين المجتمع السوري والمشاركين في القتال واضحة. هذا واضح من خلال الانخفاض الكبير في عدد الراغبين  في القتال إلى جانب المعارضة المسلحة والنظام، انخفاض كبير في عدد الراغبين بالدعم، حتى الدعم الفكري والثقافي لأطراف النزاع. هذا الانسحاب هو ناتج عن فشل حكم قوى تسلط بما فيه التطرف في حالته القصوى المتمثلة في داعش أو بمعنى الهيمنة السياسية أو التسلط السياسي من جهة النظام، الذي يطرح خياراً وحيداً هو إما أن يرضى الجميع بالاستبداد السياسي بصرف النظر عن كل الخسائر التي حدثت أو الذهاب باتجاه التطرف، لكن الحقيقة ليست هكذا، هذا ما يريد المتسلط أن يقنع به الآخرين: أنه لا خيار ثالثاً أمامكم.

بسام حداد: لكن الأشخاص الذين يتحدثون عن التسلط والتطرف يتحدثون عنه من قبل النظام وداعش، لكن الذين يقولون إن داعش ليست جزءاً من المعارضة، والذين يتحدثون فقط عن المعارضة، يحددون أن المشكلة فقط موجودة في داعش وبالنظام لكن كل فصائل المعارضة بشكل عام ليست فقط جزءاً من الثورة، لكن رغم تطرف بعضها وتصرفاتها تعتبر أنه على الأقل لا تشوه أو لا تجعلنا نعيد النظر في مفهوم الثورة السائدة وليس الثورة المجردة أو فكرة الثورة. هذه هي المجموعة التي تعتبر أنه لا يوجد سوريون إلا مع المعارضة أو مع النظام، وإذا لم تكن مع المعارضة فهذا يعني بالضرورة أنك مع النظام، وهذا جزء كبير من الأحاديث وللأسف معظمها تافهة لكنها تسيطر على العقول وعلى الخطاب خاصة خارج سوريا.

ربيع نصر: هناك دائماً رومانسية الثورة وهي الرغبة بتصوير أن هناك قوى مناضلة تسعى للحرية والتحرر، وهذه القوى هي التي يجب أن تنتصر في النهاية، للأسف ما نقوله هو أمنية ٢٠١١ لكن هذه الأمنية سقطت مع التسلح. لم يكن التسلح عفوياً، كان يرفض الخطاب الديمقراطي، لدينا عدة أجساد سياسية، وهناك أجساد ترددت في طرح القضية الديمقراطية لأن هناك حساسية، حساسية من من؟ هذه الحساسية التي ظهرت في الفصائل المسلحة، نحن لا نتحدث عن داعش. نحن نتحدث عن الفصائل المسلحة الرئيسية التي رفضت أن تطرح فكرة الديمقراطية كفكرة لمستقبل سوريا. هل هذا ما يتمناه السوريون؟ هل كان السوريون في ٢٠١١ سيقبلون بدل المحاكم المدنية الراقية التي ستوجد كنتيجة للثورة بمحاكم شرعية تأخذ المعايير حسب ما ترتئيه كل فئة من الفئات من التفسير والفقه وتفرض هذه الخيارات على المجتمع؟ هل كان هذا فعلاً خيار المستقبل السوري؟ هذا نكوص إلى الوراء، وهذا موجود إذا أخذنا محافظة إدلب مثالاً على ذلك، فهل المجتمع في إدلب يمتلك حرية النقاش والحوار وتطوير المؤسسات التي هو فيها؟

أكيد نحن نشاهد حجم المأساة التي نعيشها، إن كنا معارضين يريدون تغيير سوريا وإن كنا أشخاصاً لا يمتلكون الخيار الحالي، الخيار السياسي الواضح، هل التصرف أوالسلوك أو حتى الطرح النظري الموجود لدى أي من القوى المسلحة الحالية الموجودة على الأرض، هل هي تطرح هذا المستقبل التعددي المتنور المتنوع؟ أعتقد هنا يكمن الإحباط الكبير.

حاول البعض أن يدافع من ناحية الاستقطاب، أننا في معركة ويجب الوقوف مع أحد الأطراف حتى النهاية لأن المعركة لا تقبل إلا هزيمة الطرف الآخر. أتخيل أن هذا الخطاب كان الفشل الرئيسي للحراك في ٢٠١٢ نتيجة للدفع نحو التسلح كخيار رئيسي مهما كانت كلفة التسلح، مهما كانت الكلفة على المجتمع من خلال استخدام التطرف المطلوب للاستمرار في القتال، وكل الدعم غير النزيه للاستمرار في القتال. طبعاً هذا ينطبق على كل الأطراف بما فيها النظام، بما فيها الأكراد، هذا ينطبق على أي من الأطراف التي استخدمت أي نوع من الدعم، أي نوع من الثقافة المطلوبة لكراهية الآخر من أجل السيطرة، هذا عدو المجتمع.

إذا كانت هناك طروحات تريد أن تعيد الاعتبار للمجتمع فالعنوان ليس بالمسيطرين الذين يستخدمون القوة لتخويف المجتمع. أتصور أن هذه هي نقطة البداية في أي حوار مع أي طرف. الفكرة هي لدينا عدو واضح، لدينا أعداء واضحون، فإذا لم نعترف بالأعداء بكتلتهم الكبيرة واعتبرنا أن التدخل الأميركي غير التدخل الروسي أو الضربة في منطقة معينة غير القتل بالمنطقة الأخرى هذا أولاً هو فقدان مصداقية من الناحية المعرفية، ثانياً فقدان مصداقية من ناحية الناس لأن الناس يعرفون أن  قتل الأبرياء في أي مكان جريمة، وقهر الناس هو جريمة، ليس جزءاً من المستقبل المرغوب. قد يكون ممكناً أن يكون المستقبل على الطريقة البراغماتية الأميركية، لكننا نقول أكثر من هذا، إن المجتمع حتى لو كان فيه حل غير عادل لن يهدأ، فهذا المجتمع الذي تعرض لكل هذا الظلم، لن يكون في دولة مستقراً ومغيّباً لمدة طويلة لأن هذا المجتمع، بكل هذا الظلم الذي تعرض له، لن يقبل الظلم لفترات طويلة وبالتالي سيؤدي هذا إلى تفجير نوع جديد من الحراك في المستقبل.

بسام حداد: طيب، إن قال أحد ما إن ما تقوله منطقي وسليم على صعيد نقد جميع الأطراف التي تقتل الأبرياء أو تستخدم العنف، وتحرض على الكراهية. هذا سليم بشكل عام لكنهم سينتقدونك، فالخطاب سائد خارج سوريا، لأن الأشخاص الذين يعيشون خارج سوريا هم غير الأشخاص الذين يعيشون في الداخل. فالذين يعيشون في الداخل يعرفون لعقود ما هي المشكلة الأساسية علي الأرجح، لكن من يعيش خارج سوريا، يريد أن يسمع، أنت تقول كل هذا الكلام وأنت تعيش في سوريا ومن الأشخاص الراغبين بالتغيير الجذري، سيشعرون أنك تساوي ما بين الظالمين، أي تساوي مثلاً بين النظام والمعارضة، وحتى المعارضة المتطرفة، وهذا موقف غير مقبول أخلاقياً لأنهم يعتبرون أنك وأنت تتحدث هكذا يجب أن تفرق وإذا لم تفرق فإن موقفك ليس على صواب، وقد تُتَهم بأنه لديك عواطف أو موال للنظام، ولست ضد النظام بما يكفي. هذا هو الخطاب الموجود لدى الناس خارج سوريا، بصراحة، وحتى وسط أقسام في بيروت، والذين هم أيضاً خارج سوريا.

ربيع نصر: هناك أكثر من محور. المحور الأول، وهذا ما بدأت الحديث عنه على سبيل المثال، قبل ٢٠١١ والحراك المجتمعي، كان من الواضح أهمية الاستبداد السياسي كعامل جوهري بالنسبة للحراك الاجتماعي المحق والتغيير باتجاه… وهنا يكمن الجوهر: باتجاه ماذا؟ باتجاه حرية وعدالة وديمقراطية؟ باتجاه حماية الإنسان وتمثيله ومشاركته؟ هذا هو الطرح الموجود. إن تغيير هذا الطرح يجب أن نواجهه بنفس الجرأة التي نريدها لهذا التغيير وإلا ستكون أنت ترسم الصورة الخاطئة.

فعلاً إن العامل الأقوى أو الفاعل الأقوى داخل سوريا هو النظام وبيده الحل أكثر من غيره، هذا صحيح، لكن السؤال بصرف النظر عن ماذا يتهم وماذا لا يتهم، هذا الخطاب الاستقطابي لا يؤدي إلى نتيجة، أعني الخطاب الاستقطابي الذي ينتظر من الآخر، أن يبين ما هو، أو لديه جزء من الميول، أو هو قريب من النصرة أكثر مما هو قريب من أحرار الشام، أو قريب من قوى معينة ضد أخرى، هذا الاستقطاب لا يفيدنا الحديث عنه في أي شيء نحن الذي نفكر بطريقة مستقلة منحازة للإنسان وللمجتمع بشكل كامل، إذاً ما هي الإشكالية الرئيسية في الطرح الموجود: هي أن لدي طرح مستقبلي. عندما تقدم قوى من المعارضة – دع داعش جانباً- طرحاً مستقبلياً غير ديمقراطي وغير تضميني لا يلائم فرص السوريين إذاً كيف نزين المساواة أو الوزن: هل قتل النظام أكثر؟ أم قتلت جبهة النصرة أكثر؟ أم قتلت أحرار الشام أكثر؟ نحن نتحدث عن المستقبل. إن الوعد الذي تقدمه للناس غير مناسب لحراك الناس، نوعياً هذا عبارة عن خصم للمجتمع. تقول لي لكن ذلك الإجرام أكبر، أقول لك نعم، لكن هل هذا يعني أنني يجب أن أنحاز للجهة الأقل إجراماً. هل هذا الجهة أقل إجراماً حتى نظرياً يطرح حلاً مقبولاً للسوريين. أتصور أن هذه هي نقطة البداية. من هي الجهة المساهمة في القتال التي تطرح مستقبلاً مختلفاً وتقول سأستخدم الخوف والخضوع والسلاح لمرحلة مؤقتة لكن سأفتح للديمقراطية وسأفتح للتنمية التضمينية وسأفتح البنى المجتمعية للمشاركة في المستقبل. هذا ما هو مفقود، وبالتالي ينطبق على القوى الفاعلة الموجودة في سوريا، فمن أجل الراغبين في الدخول في سأسميه هرطقات بعيداً عن وجع المجتمع لماذا يوجد حالياً برود في العلاقات بين المجتمع وقوى المعارضة المسلحة؟ وهذا يمتد من إدلب إلى درعا.

بسام حداد: لكن هناك من يرفضون هذا الأمر؟

ربيع نصر: أنا قدمت مثالاً صغيراً.لن أذكر الهجرة والنزوح، أذكر فقط الانضمام، التطوع للقتال، منذ ٢٠١٤ هناك انخفاض في هذا، وهذا واضح جداً في ٢٠١٥. هناك انخفاض في التطوع للقتال في عديد من فصائل المعارضة. ثانياً هناك المؤشرات التي قمنا بإجراء بعض المسوح حولها التي لها علاقة برأس المال الاجتماعي، لها علاقة بدور المؤسسات المسيطرة في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وبرأي الناس فيها من ناحية الفساد أو الاستبداد أو من ناحية التشارك، فيها مؤشرات سلبية جداً وخطيرة وتعبرعن عدم الوصول إلى أفق مطلوب.

يوجد أدلة على هذا، وإذا كانت هذه الأدلة غير كافية، نحن مستعدين، إذا كانت هناك مساحة لحوار مفتوح،  في أي من هذه الأماكن، لإطلاق حوار مفتوح  حول الاختلالات الأساسية الموجودة في برنامج هذه القوى ورؤيتها للمستقبل ومدى مطابقة ذلك لأولويات المجتمع.

بسام حداد: في النهاية إذا أراد المرء أن يستمر في البحث كما تفعل مؤسستكم ، ونحن كمجموعة نحاول أن نشتغل على أمور بحثية هل يا ترى من المهم حسم مسألة أو تسمية ما يجري بأنه عدم قدرتنا أو قدرة البعض على التفاهم على أن ما يحدث ثورة أم ليس ثورة، وكم من الناس كانوا منخرطين في الثورة وتركوا جزءاً من الثورة، وما هو مصير الثورة؟ ويا ترى هل هذه الأسئلة عائق أمام بحث جدي أو ميداني أو غير مهمة أبداً، أو كيف يستطيع أن يقوم المرء بمقاربة أسئلة كهذه على صعيد البحث الجدي برأيك؟

ربيع نصر: أتخيل أولاً أن لتشخيص الظواهر أصولاً سواء كانت معرفية أو علمية أو من خلال القبول المجتمعي. ويمكن أن يكون هذا جزءاً من البحث التشاركي، وأنا أرى إن جزءاً من الاستقطاب هي أن تقبل برموز وخطاب وكلمات الشخص المُسْتَقطَب وهذا أبعد شيء عن البحث العلمي. إن البحث العلمي لخدمة المجتمع يجب أن يبتعد عن الاستقطاب.

إن القضية في سوريا في ٢٠١١ مختلفة عن ٢٠١٣ ومختلفة عن ٢٠١٥ وعن ٢٠١٧، الوضع الذي نمر فيه حالياً. ما يحدث في المنطقة التي تحت السيطرة التركية المباشرة بين جرابلس وأعزاز يختلف عن المقاربة في إدلب ويختلف عن المقاربة في دوما، وعن المقاربة في دمشق وعن المقاربة في الحسكة. إن إحدى الطروحات لأحد المسؤولين في الحسكة مغلوطة، تكلم قائلاً إننا نتبع طريقة ديمقراطية فالمكون العربي يديره عرب والمكون الكردي يديره أكراد. وهذا تناقض صريح وشاسع مع فكرة الديمقراطية.

أعتقد أن الأهم هو وضع الحقائق، من خلال تجربتنا في المركز كلما كنا نقدم الأدلة بشكل موضوعي ونركز على أولويات المجتمع لاقى ذلك قبولاً أكبر من المجتمع وشرائحه، فالغرض الرئيسي ليس التسمية، فالناس المستقطبون قد يكونون  لفترة مؤقتة أو لفترة أطول، لكن هذا هو المطلوب من المؤسسة السياسية التي تعمل أنت بها أو المؤسسة العسكرية التي تدعمها، وهل هذا هو المطلوب لصالح سوريا المستقبل؟ هذا السؤال هو أولاً مواجهة داخلية مع النفس، أن يكون الأشخاص قادرين على مواجهة الأخطاء التي ارتُكبت والانحرافات التي حدثت وأعتقد أن هذا يتطور حالياً فهناك نَفَس نقدي أوسع حالياً وأتمنى أن يزداد في المستقبل حتى لا نقع ضحية للتصنيف حسب لون العلم أو حسب رؤيتك لكلمة الثورة أو الحراك أو الأزمة وأعتقد أن الهدف هو أبعد من ذلك. ويوماً بعد يوم بعد تعقيد الكارثة السورية أعتقد أن هذا يتطور ومن ناحية علمية أعتقد أنه يجب تصنيف المراحل كما هي.

إن حجم التدخل الخارجي كبير حالياً ومباشر، وهذه مرحلة تحتاج إلى تحليل مختلف تماماً عن المراحل السابقة، دور الأجانب إلى جانب السوريين في القتال، هذه مرحلة مختلفة، ما قبل العسكرة والحراك السلمي أكيد مرحلة مختلفة. أعتقد يجب أن نعتني بتحليل ذلك من وجهة نظر موضوعية.

بسام حداد: إذا أردنا أن نعرف ما يحدث في سوريا الآن، الوضع السوري، بالنسبة لموقف الشرائح العديدة في سوريا، هل يا ترى يوجد برأيك رغبة بالاستمرار على النحو الذي كان موجوداً من جهة المعارضة (المعارضة بين قوسين) لأن المعارضة تتألف الآن من مجموعات وأصلاً الأمور مكتوبة في منشورات وكتب ويقولون ويعرفون عن المعارضة بشكل مختلف من داخل المعارضة نفسها، لكن البعض يقول لك إن المعارضة بالنسبة لي هي المدنيون الذين يعارضون النظام لكن لا علاقة لهم بالقتل وهناك شريحة أخرى تقول أنا بالنسبة لي تتضمن المعارضة بعض الشرائح والمجموعات التي تقاتل لكن ليس تلك المجموعات، نركز على الجيش السوري الحر لكن لا علاقة لنا بالفصائل الأخرى، لكن بشكل عامل هل برأيك هناك استعداد للاستمرار بخطة مختلفة، باستراتيجية مختلفة؟ أو هل هناك برأيك استعداد لتغيير المسار كله والتفكير بطرق أخرى يمكن ألا تتضمن الفئات التي تقاتل أي الفصائل؟ طبعاً هذا السؤال يعتبر أن مسألة نظام أو بقاء نظام مسألة إشكالية ضخمة، ومن الطبيعي ألا يكون هذا رغبة السوريين حتى لو كانوا يعيشون تحت سيطرة نظام.هل في الوضع الراهن استعداد لتغيير مفهوم فكرة المعارضة؟ وكيف ترى الأمور من خلال علاقاتك ومعارفك ودراستك، ماذا يمكن أن يحدث الآن لإعادة مفهوم أفضل وأمثل أو شفاف أو ديمقراطي تضميني للحراك؟

ربيع نصر: لدينا أكثر من عامل محبط، فعلى الصعيد الدولي لديك وصول ترمب إلى سدة الحكم، والدور الروسي مع بوتين، هذا أحد العوامل التي يمكن أن نفكر بها أنها ستطيل من الكارثة السورية.

أما الأطراف القوية الفاعلة في المنطقة  فمن الواضح أنها متحمسة لاستمرار النزاع ولفترات طويلة، لا يوجد طروحات جدية للمخرج حتى الآن، هذا على صعيد رؤية ليست متشائمة على الأقل لكن ما يمكن أن يبدو في السنوات القليلة القادمة كبناء على تحليل القوى وفاعليتها ورغبتها بحل جدي في سوريا، لا رغبة بحل في سوريا، حتى بحل غير عادل لكن يبدو أن الأفق مسدود، لكن من جهة أخرى ما يمكن أن نستثمر به من أجل المستقبل هو إعادة الاعتبار لدور المجتمع، هذا يتطلب عدة مراحل من العمل أهمها إعادة دور المجتمع في رسم بدائل مستقبلية في معرفة وجود خيارات والضغط، ليس الضغط للتخلص من قوى التسلط، وليست القضية بهذا الشكل الحالم، لكن هي إعادة انتزاع مساحة من المفاوضات نحو تغيير أكثر عدالة، إعادة التركيز على أهمية الحل العادل للمجتمع ومعرفة عدم قابلية نجاح قوى التسلط في حربها، في استدامتها للمستقبل، لا يمكن الحسم العسكري مهما كان شكله أن يبقي القوى التي تحسم عسكرياً مستمرة في المستقبل في بلد على فوهة بركان يعيش في الخوف والظلم وقابلية الانفجار مرة ثانية.

إن أهمية الحل على المستوى المجتمعي وعلى مستوى التقرب من الناس في سوريا هو مصلحة لكل من يريد أن يكون جزءاً من مستقبل سوريا وهذا ليس شيئاً ينتمي إلى الحلم بل واقعي، لأن البلد التي ستكون قلقة ولا يوجد فيها حل عادل سيكون المجتمع بشكل كامل غير مستقر وسيهدد أي سلطة موجودة أو أي حكم موجود. إن الحل العادل أساسي وضغطنا كسوريين، كمجتمع سوري، كناشطين سوريين، في إعادة رسم خيار والتركيز عليه من  حوار السوريين المفتوح، إلى احترام حقوق الإنسان، وكرامة الإنسان، والوصول إلى نقطة تغيير في الشكل مستفيدين من الدروس التي أدى إليها كل هذا العنف والنزاع.

أعتقد أن هذا مفصل أولاً للانتقال إلى مرحلة سياسية انتقالية جدية، ثانياً للاستدامة في المستقبل. وهذا يحتاج إلى جهد مختلف عن الجهد السابق والصدق في التعامل مع الناس. إن التعامل مع الناس بلا مبالاة وخاصة من قبل القوى السياسية، وحتى من قبل بعض قوى المجتمع المدني التي تأثرت كثيراً باستراتيجيات المانحين وتأثرت بإمكانيات الوصول، وبطبيعة استقطابها السياسي.

هذا وقت مراجعة جدية لكيفية الوصول لأكبر شريحة من الناس وتفعيل دورهم من جديد حتى يكون هناك أثر أكبر على التفكير بالمستقبل. لكن إذا أخذنا صورة كبيرة، ونحن نتحدث على الأجل المتوسط، نستطيع القول أنه ما سيستمر هو الكارثة وليس حلها.

بسام حداد: أشكرك على هذا التفاؤل ، أنت متفائل أكثر مني.

ربيع نصر: عموماً يقال عني متفائل.

بسام حداد: سنكتفي بهذا القدر الآن، لكن سنناقش في المستقبل ملفات أخرى تتعلق ببداية الحراك وكيف تحول من منظور شخص عاشه بكل بتفاصيله داخل سوريا، وأيضاً عن الأمور المستقبلية والبدائل الموجودة التي تعكس مشروعاً نعمل عليه معاً مع عدة أشخاص ومؤسسات أخرى، وأمور عديدة أخرى حول ما يحدث في سوريا وكيف تغير المجتمع السوري من جراء القتل والتهجير والدمار وغياب مؤسسات التعليم التي كانت موجودة وتلك التي غيرت توجهها ومناهجها  وهذا سيؤثر في مستقبل سوريا، فهناك في الرقة من لم يتعلم لخمس سنوات وهناك الأمور مختلفة جداً حتى عن السوريين الذين يعيشون في مناطق المعارضة. فداعش لديها منهح مختلف وكما أعرف حتى المعارضة في ظل أحرار الشام أو جبهة النصرة لم يغيروا المنهج بالشكل الكلي الذي تغير به في الرقة بشكل عام، أحب أن نتحدث عن هذه المواضيع ونتمنى أن تكون معنا هنا أو في بيروت وإن شاء الله في سوريا.رغم أنه من الصعب أن أدخل أنا إلى سوريا الآن، شكراً ربيع، استمتعت بالحديث معك.

ربيع نصر: وأنا استمتعت. شكراً لك. والسلام عليكم.

[تم نشر هذا المقال ضمن اتفاقية شراكة مع الوضع.]

الدواء… شكل آخر للموت السوري

الدواء… شكل آخر للموت السوري

دمشق

ليس بالرصاص وحده يموت السوريون، فغياب الدواء الفعال لانخفاض فعالية المواد الداخلة في تركيبته الكيميائية بسبب الحصار الاقتصادي أولاً وبسبب ارتفاع سعر صرف الدولار في مقابل الليرة السورية ثانياً، سبب أساسي لموت كثير من السوريين حالياً.

ويذكر هنا مثال شركة دوائية تكتسب أدويتها مصداقية عالية في الجودة والفعالية لدى السوريين وللعلم مازالت تنتج بعض أصنافها الدوائية بمراقبة من الشركة الأم صاحبة الترخيص، إلا أن الشركة الأم كشفت بأن الشركة المحلية قد تجاوزت حدود الأمانة العلمية والمصداقية العملية. فقد أنتجت أضعاف العبوات من دواء محدد ومشهور ومطلوب وهو صاد حيوي. بدليل أن المادة الدوائية المسلمة من قبل الشركة الأم للشركة المحلية تكفي لتصنيع أربعة آلاف عبوة تحديداً بينما الموجود في الأسواق يتجاوز ذلك بأضعاف وليس ضعفاً واحداً أو اثنين من المنتج المذكور. كما أن غالبية معامل الأدوية والشركات المنتجة باتت تستخدم المواد الأولية المستوردة من الهند والباكستان لرخص أسعارها في محاولة لسد الفجوة بين الكلفة الحقيقية للمنتجات وبين السعر الرسمي المحدد من وزارة الصحة. مما يقلل وبصورة واضحة فعالية تلك الأدوية.

وتتعاظم حاجة المرضى لشراء إما دواء داعم لتوفير قيم العلاج المحددة والمطلوبة للتعافي أو مضاعفة الكمية مما يرهق الجيب والقلب، أو اللجوء للدواء الأجنبي وهو بحد ذاته قضية تستحق التوقف عندها ملياً بسبب الغش والتزوير الذي قد يحصل من قبل مزورين محترفين والدواء المستجلب من لبنان أكبر دليل على ذلك نظراً لارتفاع ثمنه وكلفة نقله إلى داخل سورية.

هذا وقد أثر ارتفاع أسعار الأدوية عالمياً وانخفاض الأرصدة المخصصة لدعم السوريين من قبل المنظمات الدولية بما فيها منظمة الصحة العالمية لاسيما بعد أن تعاظمت الحاجة إليه لزيادة عدد المرضى والمصابين وانعدام الأمن الدوائي وخروج عدد كبير من المنشآت الصحية التي كانت تقدم دواء مجانياً عن الخدمة؛ كل هذه الأمور دفعت حتى المنظمات الدولية لإرسال الأقل سعراً إلى السوريين. وأبلغ مثال على ذلك هو لقاح الشلل الذي تتضارب الأقوال حول مصدره فيما يقول البعض بأنه هندي بينما يقول البعض الآخر بأنه كوبي وقد أثار هذا اللقاح والذي تتم عملياته التنفيذية الآن بحملة تحت وطنية (أي ليس على كامل الجغرافية السورية) لخمس محافظات فقط نتيجة اكتشاف أربع وسبعين حالة شلل جديدة بينها سبع وأربعون حالة في دير الزور وحدها. أثار هذا اللقاح ارتكاسات مضاعفة عند الأطفال تراوحت ما بين ارتفاع الحرارة الشديد والوهن العام وقلة الشهية وثقل في مرونة الساق الملقحة. وهي رد فعل طبيعي لكنها مضاعفة وظاهرة بوضوح جلي بعد استعمال هذا المنتج.

كما أن رفع أسعار الدواء وبقرار حكومي رسمي والذي تكرر ثلاث مرات متتالية، ضاعف من حدة الأزمة. فمثلاً وعبر هذه الارتفاعات ارتفع المنتج الدوائي الذي يوصف لعلاج قصور الغدة الدرقية (الثيروكسين) من ١٨٠ ليرة إلى ٩٠٠ ليرة مع الإشارة إلى أنه مرض منتشر بكثرة وقد أجرت منظمة الصحة العالمية اختبارات ومسوح خاصة به نظراً لارتفاع نسبة السوريين الذين يعانون منه ويحتاجه المرضى بصورة يومية ودائمة.

هذا عدا عن ارتفاع أسعار أدوية الصرع حوالي الستة أضعاف وبعض أدوية الضغط والسكري مع الإشارة إلى أن الحكومة ما زالت ملتزمة بتوزيع أدوية السكري والمحاقن الخاصة بها وهنا المقصود حقن الأنسولين وليس الحبوب.  لكن بات من الضروري إبراز إخراج قيد أو ورقة من المختار أو فاتورة كهرباء أو ما يثبت ملكية البيت أو عقد الإيجار للتأكد من وجود المريض الفعلي في نفس المنطقة الجغرافية للمركز المسؤول عن التوزيع. وذلك حصل بفعل زيادة عدد المرضى وبسبب أعداد الوافدين والنازحين لمدينة دمشق وأيضاً بسبب قلة الكمية المرصودة أو المرسلة من منظمة الصحة العالمية والتي قد تتأخر إرسالياتها لشهور مما يوقع المرضى في دوامة الدواء المهرب أو الاقتراض أو التحايل.

لابد من الإشارة إلى أن خروج عدد كبير من المعامل الدوائية وخاصة في مدينة حلب قد ضاعف الفاقد الدوائي وقد وافقت الحكومة على ترخيص ثلاثة وعشرين معملاً دوائياً جديداً إلا أن عدداً كبيراً منها لم يصل طور الإنتاج حتى الآن. ومازالت معاناة السوريين تشتد خاصة في ظل التعامل غير المنضبط من قبل مستودعات الأدوية التي تكاثر عددها ولكنها تتحكم في عملية التوزيع وتفرض على الصيادلة أنواعاً أخرى غير رائجة أو مطلوبة مثل معاجين الأسنان الطبية والتي باتت ترفاً بالغاً لا يملكه الكثير من السوريون إذ يصل ثمن العبوة الواحدة منه إلى ٩٢٥ ليرة. وكمثال يوجد دواء لمرضى تسرع القلب الاشتدادي اسمه Inderal وموجود بعيارين ١٠ ملغ و ٤٠ ملغ. ونظراً لارتفاع كلفة المستحضر لارتفاع ثمن المادة الأولية الأساسية الداخلة في تركيبته وهي مستوردة مما يعيق إنتاج كمية كافية تغطي حاجة جميع المرضى خاصة وأن الدواء المذكور لا يعوض كلفته الحقيقية حتى بالأسعار الجديدة بعد عملية الرفع  فإن مستودعات الأدوية تفرض على الصيادلة شراء أربع عبوات معجون أسنان مع كل عشر قطع من هذا الدواء مما يضاعف كلفته الحقيقية على الصيدلاني الذي يرفض شراءه أصلاً وقد يلجأ بعض الصيادلة إلى شرح الواقع للمرضى فمن قبل منهم بشراء معجون الأسنان كان الدواء له.

كما أنه لابد من ضرورة الإشارة إلى ارتفاع كلفة نقل الأدوية بسبب ارتفاع ثمن المحروقات والإتاوات على الحواجز التي قد تصل إلى صندوق  كامل من شراب للسعال مثلاً أو آلاف الليرات، كما أن الحالة النفسية وخاصة للشباب دفعت بهم لشراء الأدوية المنومة أو المخدرة مما دفع لظهور ما يشبه السوق السوداء لهذه الأدوية عدا عن أن وصفة الطبيب غير كافية لتجاوب الصيدلاني فمثلاً اللكسوتان (lexotan) بات حاجة يومية للمكلومات والموجوعين والمعذبين ولكنه وإن توفرت الوصفة فبعض الصيادلة يبيع الظرف الواحد بألف ليرة بينما سعر العلبة المكونة من ظرفين لا يتجاوز المائتي ليرة. كما أن حوادث السطو وتهديد الصيادلة من قبل بعض المدمنين بات خطراً حقيقياً على سلامة الصيادلة والمرضى في الوقت ذاته.

هذا غيض من فيض. لا الأرقام كافية لتبيان الوضع الدوائي المزري والخانق ولا القلق الدولي قد يتحول إلى جرعات من الأمل بسلامة المرضى ولا التقارير الإخبارية التي تصوّر الموت بالرصاص وحسب تمارس مصداقية رصد أسباب الموت بكافة تعييناته وتفاصيله. بات الموت الدموي والناري جرعة عنف مطلوبة ومدفوع لها بسخاء، لكن الموت اليومي بفعل الحاجة لحبة دواء وإن وجدت فلا يوجد في الجيب ثمناً لها وإن وجد الثمن فأبسط حقوق الفعالية والسلامة غائبة.

أجل ليس بالرصاص وحده يموت السوريون.

خلفية الهجوم التركي على الخاصرة الكردية

خلفية الهجوم التركي على الخاصرة الكردية

رغم القصف والدمار الذي خلفه الهجوم التركي على قرى مدينة عفرين، وبعد ستة عشر يوماً خرج الآلاف من أهالي المدينة بالغناء والموسيقا يتحدون المدفعية والطيران التركي منددين بهذا العدوان الهمجي على الأهالي.

تكاتف عرب المدينة وكردها يداً بيد لمواجهة هذه الهجمة البربرية التي استهدفت منازل المدنيين ومحلاتهم. هناك يقين أنّ هذا الهجوم بتعاون فصائل تدعمها تركيا ليس فقط ضد حزبٍ بعينه كما تزعم أجهزة اعلام تركية وأنصارها؛ وإنما هو امتداد لمشروعٍ عثماني جديد بالتحالف مع جماعات كالإخوان المسلمين في سوريا لاستهداف مواطني عفرين وكردها. اذ ان تاريخ هذه الهجمة لم يكن مفاجئاً لأهل عفرين الذين كانوا شهود عيان على هجوم فصائل معارضة (كجبهة النصرة وغرباء الشام) في بداية الثورة السورية بقيادة نواف البشيرالعائد لحضن نظام الأسد مؤخراًعلى مدينة رأس العين في محافظة الحسكة. رسخت تلك الهجمة بالنسبة لأهالي المنطقة أنّ تركيا صاحبة مشروع توسعي يستهدف الكيان الكردي بغض النظر عن تواجد ميليشيات كردية في المنطقة.

ربما كان أغلب السياسيين والمثقفين الكرد على دراية كاملة بأن روسيا ستعقد الصفقة الملائمة لها آجلاً أم عاجلاً مع أي طرف للاستغناء عن عفرين التي كانت من حصتها مقابل انتشار القوات الأمريكية في كوباني (عين العرب) والقامشلي، وبذلك لم يكن انسحاب النقطة العسكرية الروسية من كفرجنة/عفرين أمراً غريباً، وخاصة أن الروس لم يكونوا يوماً ما حلفاءً جديين للأكراد في الشرق الأوسط، وبذلك كان الضوء الأخضر الروسي والرمادي الأمريكي للتركي كافياً بتوريطه بمقتلة محتومة في عفرين، تلك الخاصرة الرخوة دولياً جغرافيا التي لجأت تركيا لضربها بتحالف مع مقاتلين سوريين. من هنا كانت المعادلة واضحة بالنسبة لأهالي عفرين ونظرتهم وموقفهم من الهجمة التركية بالبقاء والمقاومة، حيث أن جنديرس، الناحية التي تقع على بعد ما يقارب ١٥ كلم من مركز المدينة، كانت لهاحصة الأسد” من هذا الاستهداف العشوائي التركي، حيث دمر الطيران والمدفعية التركية أجزاء كبيرة من الناحية، وكان الاستهداف بشكل عشوائي ينطلق من المركز أو النقطة التي خصصت بين روسيا وتركيا لخفض التصعيد في مناطق التوتر، وهي النقطة المطلة على جنديرس من طرف جبل الزاوية، حيث استخدمت لقصف الأهالي بالمدفعية وتدمير ما يقارب ٤٠ في المئة من ناحية جنديرس الخالية من المقرات العسكرية.

رغم ذلك أصرّ بعض أهالي المنطقة على الصمود والبقاء في أقبية منازلهم هرباً من القصف العشوائي، هنا يقول أحد سكان جنديرس من المكون العربي: “كنا نعيش بسلام مع أهالي المنطقة من السكان الأصليين والنازحين إليها من ريف حلب، لكن المدفعية التركية ولا أدري لماذا كل هذا الحقد استهدفتنا بشكل قبيح فدمرت كل منازلنا ومحلاتنا، رغم ذلك لم نغادر بيوتنا لأننا سكانها وأهلها، ولن تستطيع المدفعية التركية أن تنزع منا حق الحياة فيها، سندافع عنها بأشجارنا وزيتوناتنا، ونقول لكل العالم أننا طلاب حرية وسلام، ولسنا طلاب القتل والإجرام.”

تزامنت الهجمة التركية الشنيعة مع حصارٍ كامل على المدينة، فبالإضافة إلى حصار فصائل معارضة والجيش التركي للمدينة، لم يسمح النظام لأهالي عفرين بالعبور باتجاه محافظة حلب عبر الممر الوحيد الذي يربط عفرين بحلب، فكان شريكاً للتركي بذلك في قمع الأهالي ودفعهم إلى الهلاك والموت. إلا أن إرادة الحياة كانت أقوى لدى هؤلاء، ففتحت المنازل وأقبية المحلات في مركز عفرين لتستقبل النازحين من القرى التي تتعرض للقصف، وقامت المشافي والعيادات الطبية باستقبال الجرحى والضحايا من المدنيين بإمكاناتهم المتواضعة، وليصل عدد الجرحى في مشافي عفرين حتى تاريخ ٥ شباط\فبراير إلى ما يُقارب ١٧٠ جريحاً و٧٠ قتيلاً، هذا كله وسط كادر طبي قليل كان يداوم ٢٤ ساعة. ورغم عدم توفر المعدات الطبية اللازمة بسبب الحصار المفروض عليها وتخاذل منظمات الإغاثة الدولية، يقول الدكتور خليل صبري، مدير مشفى عفرين: “اكتظ مشفى آفرين بالجرحى والمصابين، ووصل بنا الحال أن نستخدم كل مرافق المشفى لمداواة الجرحى وتأمين العلاج اللازم لهم، ولكن رغم مناشداتنا منذ أول عدة أيام من الهجمة للمنظمات الطبية الدولية بالتدخل وتقديم المعونة لم يتعاون أحد معنا، واستطعنا بقدراتنا البسيطة علاج ما يزيد عن ١٥٠ جريحاً ماعدا الذين قتلوا في هذه الهجمة على المدينة.”

بعد مرور ستة عشر يوما على الهجوم خرج أهالي المدينة إلى شوارع عفرين المركز حاملين آلة البزق والطبول يغنون منددين بالهجوم التركي، ورافعين شعار الزيتون سلاماً لكل أهالي المنطقة، يقول أحمد أحد المشاركين المستقلين في مظاهرة عفرين: “نحن خرجنا اليوم لنرفع صوتنا عالياً بأن أصوات قذائف الدبابات التركية وشعارات الإسلاميين المهاجمين على منازلنا لن تخيفنا، لقد دخلوا القرى الآمنة الخالية من المواقع العسكرية ونهبوا منازلها واحتجزوا أهلها، وكل ذلك يمدنا بالكثير من المقاومة والعزيمة للدفاع عن كرامتنا وأرضنا كرداً وعرباً، نحن أهالي عفرين ولن نسمح لبعض المرتزقة بدعم جوي تركي هدم منازلنا وهدر المزيد من الدماء.”

في الواقع مستوى التكافل الاجتماعي الموجود حالياً في عفرين ليس له علاقة بطبيعة الكرد أو سكان المنطقة، بل هي قناعة راسخة بأن المحتل التركي والمرتزقة من الكتائب السورية المتحالفة معهم لن يجلبوا سوى الدم والقتل لأهل عفرين بكافة طوائفهم ومشاربهم الدينية والحزبية، وخاصة مع تزامن ذلك مع تصرفات المهاجمين في القرى التي احتلوها في الأيام الأولى من الهجمة، باحتجاز الشباب وتكسير محلات الكحول ونهب معاصر الزيتون، كان كافياً لتشكيل صورة بأن القادم ليس لديه نية سوى القضاء على المنطقة بمن فيها، فكانت المقاومة من العسكر والمدنيين.

الأيام القادمة ستكون كفيلة بتوضيح الصورة بشكل أكبر، ولا سيما أن الضغط الروسي –  التركي يركز على تسليم المنطقة لقوات النظام لو بشكل جزئي من خلال الدوائر الرسمية ورفع علم النظام في المنطقة، لكن من المؤكد أن أهالي عفرين لن يسمحوا باحتلال التركي لأراضيهم التي زرعت منذ مئات الأعوام بأشجار الزيتون رمزاً للحب والسلام فيها.