البعث والهوية السورية

البعث والهوية السورية

عندما تتصاعد الأزمات الاجتماعية وتصل إلى المستوى السياسي العميق، كالثورات والحروب الناتجة عنها، يتصاعد الحديث عن شكل الدولة ودستورها، ويحضر نقاشٌ الهوية، والتي يجب أن تطابق هوية المجتمع حتى تعبّر عنه.

في الحالة السورية، استطال الصراع بين النظام والمعارضة، وتشابك وتعقد مع التدخلات الإقليمية والدولية؛ وبعد فشل الإيديولوجيا القومية البعثية في خلق هوية سورية جامعة، تبين أن لا هوية سورية ناجزة تعبّر عن كل الشعب، في ظل تصاعد هويات قديمة دينية وطائفية وعشائرية وقبلية، وأيضاً هويّات قومية.

هناك آراء عديدة ترى أن تلك الهويات القديمة المتصاعدة هي ميّزة من ميزات المجتمع السوري، أو ما اصطُلح تسميته بالنسيج السوري الفسيفسائي، وأن المجتمعات العربية غير قادرة على الولوج في عالم الحداثة وقيمه، وبالتالي يجب أن يطابق العقد الاجتماعي هذه الخاصية، أي يعترف في نصوصه بأن المجتمع طوائف وقوميات وعشائر وإثنيات، وأن الديمقراطية المناسبة لسورية هي ديمقراطية تمثيل هذه التصنيفات. أو هناك من يطرح فيدرالية الطوائف والقوميات، وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك، أي التقسيم على أساسها؛ وقد رأينا أن الطروحات الأخيرة سقطت، إذ لا إرادة دولية، لمجمل الدول المتحكمة، بتقسيم سوريا.

ورغم ترسيخ نظام البعث، واستغلاله المسألة الطائفية، لكنه لم يشجّع على تشكّل زعامات طائفية في سورية، وهي لم تكن موجودة من قبل كالحالة اللبنانية. هذا جزءٌ من سياسته في التفرد في الحكم، وليبقى هو الضامن الأوحد لتماسك تلك البنى القديمة، وتخويفها من التفجّر ضدّ بعضها.

الطوائف انشقاقات فكرية متقادمة عن الأديان، في المبادئ والقيم والعبادة، وقد تحولت إلى بنى مجتمعية مع انهيار الدولة العربية الإسلامية. لكن المنطقة لم تعرف استقراراً حقيقياً يؤدي إلى دخول مجتمعاتها في عالم الحداثة وقيمه السائدة في أوروبا، وبما يقطع مع تلك البنى القديمة ويعيد القصة الطائفية والدينية عموماً إلى الحيز الفكري والإيماني؛ فقد عاشت المنطقة تحت حكم الدولة العثمانية لفترة طويلة، حيث حافظت على تلك البنى، وتلاها الاحتلال الفرنسي الذي استغل الوضع الطائفي، ضمن سياساته في ترسيخ تخلف هذه الشعوب للسيطرة عليها. وتليها فترة عدم الاستقرار، في ظل سلسلة من الانقلابات العسكرية، مدعومة بالبرجوازيات المدينية المتنافسة، والتي لم تحمل مشروعاً نهضوياً حداثياً، كحال كل البرجوازيات العربية في الدول الكولونيالية.

ثم جاءت فترة استلام البعث القومي العربي الطويلة للسلطة، والتي رغم شعاراتها التقدّمية والاشتراكية والتحرّرية، لم تقطع مع البنى التقليدية للمجتمع، بل حافظت عليها، خاصة بعد السبعينات، عبر اعتماد تحاصص طائفي وعشائري وقومي في كل دوائر الدولة ونقاباتها وفي الحزب نفسه. واستغل النظام هذه البنى في قمع معارضيه مرات عديدة، في حرب الثمانينات ضد الإخوان، وفي انتفاضة الأكراد 2004، وفي الثورة السورية.

وصول البعث إلى الحكم جاء في سياق صعود الأحزاب القومية في البلدان العربية التي كانت تحت سيطرة الاستعمار القديم. فمنذ مطلع القرن العشرين، تصاعدت لدى العرب الهوية العروبية كرد فعل على سياسة التتريك العثمانية. ولم يكن هذا الصعود العربي مؤدلجاً، بل كان شعوراً جامعاً لأبناء المنطقة العربية، أساسه وجود لغة تواصل مشتركة، وبالتالي ثقافة وتقاليد مشتركة، مما ولّد شعوراً بوحدة المصير، ورغبة في الارتقاء، والتحرر من سلطة العثمانيين المتخلفة. وبالتالي لم تدخل الهوية العربية في صراع مع الهويات القومية الأخرى في المشرق العربي، إلا بعد تسلّم الأحزاب القومية الحكم، وما ترتّب على أدلجة الهوية القومية العربية في فكرها. لكن ترافَقَ صعود الهوية القومية العربية، ثم تشكل الأحزاب المؤدلجة لها، مع صعود تيارات إسلامية تتمسك بالخلافة، ومنها ظهرت جماعة الإخوان المسلمين في مصر وبقية دول المنطقة، لكنها حينها لم تكن مسيطرة، إذ كانت الرغبة العربية في التحرر من الاستعمار العثماني هي الطاغية.

حزب البعث العربي لم يكن يرى سورية إلّا وطناً مؤقتاً، وأنّه ناتج عن تقسيم المنطقة عبر سايكس بيكو، وهو ما كان يتوافق مع المشاعر العربية في سورية عموماً. لكن بعد السبعينات، أي بعد ترسيخ الديكتاتورية، بات كلّ فكر البعث مجرد شعارات، وباتت الهوية الوطنية تمنح أو تُسحب من الأفراد، حسب الولاء لنظام الأسد الأب، والذي بات شمولياً؛ أي يمكن القول أن الهوية السورية في ظل نظام الأسد باتت مبنية على الولاء، في دولة الولاء.

تمكن انقلاب البعث العسكري من تثبيت حكمه، بعكس الانقلابات التي سبقته، عبر أمرين أساسيين: الأول أنه حقق بعض التقدّم للفئات المهمّشة، وكسبَ ولاءها في الجيش والحزب وإدارة مؤسساته؛ والثاني في تحالفه مع الطبقة البرجوازية المتوسطة وجزء من القديمة.

حمل فكر البعث مشروعاً تقدمياً وتحررياً عروبياً بنكهة اشتراكية، تمثّل في تبنّيه القضية الفلسطينية، والتي كانت قضية العرب الكبرى، وفي قانون الإصلاح الزراعي وتأميم بعض الشركات، وإنشاء أخرى، وقوانين تتعلق بمجانية التعليم، والعمالة الكاملة، والطبابة المجانية… واستفادت منه الفئات المهمشة في الأرياف خاصة، والتي سارعت إلى الانتساب إلى الحزب والجيش والعمل في مؤسسات الدولة. لكن البعث لم يستمر فيما بدأ عليه؛ فمع استلام حافظ الأسد للسلطة، وميله إلى التفرد بها على مراحل، انتهى حكم البعث إلى حكم الدولة الأمنية، وما يرافقها من فساد وميل إلى النهب، خاصة من الفئات الحزبية التي أتت من أصول مهمشة وأصبحوا مسؤولين ومدراء عامين لفترات طويلة. فتلك الفئات كانت طامحة إلى تحسين وضعها، وأظهرت ميلاً أيضاً إلى النهب واستغلال المناصب، وبالتالي تفشّى الفساد والمحسوبية والبيروقراطية، التي كانت ضرورية لاستمرار هذا النهب، مع استمرار مراعاة التوزيع الطائفي ضمن مؤسسات الدولة. من هنا توقفت أية إمكانية للتطور والتحديث، وبالتالي بناء علاقات مجتمعية قائمة على الفرد (المواطن)، بدلاً من الطائفة والمذهب والعرق والقومية… ولم يتحقق القطع مع البنى التقليدية المتخلفة، وبات من السهل العودة إليها بقوة، وهو ما ظهر خلال الثورة السورية.

تحالُفُ البعث مع البرجوازية المتخلفة، والعاجزة عن تحقيق التقدم، منذ الحركة التصحيحة، له أثر كبير أيضاً في الحفاظ على البنى التقليدية. فقد كان هذا التحالف أساسياً في ترسيخ الحكم، لكنّه مشروط بالإبقاء على بناها القديمة؛ فهذه الطبقة مدينية، مترابطة عضوياً، عبر صلة القرابة، مع المؤسسات الدينية الكبرى المتقادمة في دمشق وحلب، والمسيطرة على المجتمع “السني” خصوصاً في تلك المدن. وهذه الارتباط العضوي المتحالف، مع المؤسسات الأمنية، مؤثر بشكل فعال في كل سياسات النظام الداخلية، خاصة الاقتصادية والاجتماعية. فإذا كانت رغبة الفئات الريفية، التي ساهمت في ترسيخ النظام، في تحقيق التقدم والارتقاء تجعلها قادرة على تقبّل قيم المواطنة والعلمانية، فإنّ شرط الفئات البرجوازية كان عكس ذلك، أي رفض العلمانية، والإبقاء على البنى القديمة، وهو ما يُفسّر أنّ دساتير البعث، وبالمثل ما سبقه من دساتير، اضطرت إلى الحفاظ على تفاصيل تدلّ على الهوية الإسلامية، كدين الرئيس، وأن الإسلام أحد مصادر التشريع. والواقع أنّ الإبقاء على الهوية الإسلامية في دساتير البعث هو ليس من باب تمسّك الأكثرية الطائفية بالهوية الإسلامية كما يحلو لكثيرين تفسيره، ولكنّه نزولٌ عند رغبة الفئات البرجوازية المشاركة في الحكم، والتي في نفس الوقت تموّل وتدعم المؤسسات الدينية. ومن هنا يمكن فهم تحالف نظام الأسد مع مؤسسة كفتارو مفتي النظام، ودعمه لها، مقابل مبادلتها الدعم أيضاً، كمصلحة متبادلة، وبالمثل علاقة النظام بالخزنويين ومنهم محمد سعيد رمضان البوطي، ولاحقاً تقارب بشار الأسد من جماعة زيد الدمشقية، التي كانت ممنوعة بسبب مشاركة أفراد منها في حرب الثمانينات إلى جانب الإخوان المسلمين، والسماح بعودتها، وزيارته لأحد زعمائها، الشيخ سارية الرفاعي.

إذاً بنية نظام البعث لم تكن طائفية، بل هو استغل كل تناقضات المجتمع السوري لترسيخ حكمه، وهو مجموعة من التحالفات السياسية والاقتصادية والأمنية، والتي تعرضت لإعادة هيكلة مع قدوم الأسد الإبن إلى الحكم. فقد ترافق ذلك مع انتقال النظام إلى المزيد من الانفتاح الاقتصادي وبشكل رسمي، بضغط من الفئات الإدارية القديمة، من حزبيين ووزراء ومدراء عامين، والتي رسملت بفعل النهب، وأرادت الاستثمار، عبر أقرباء لهم، في مجال الاقتصاد المكمّل لدورة رأس المال، أي المجال الريعي، وبالتالي تخلّت الدولة رسمياً عن دعم الزراعة والصناعة الوطنية، واضطرت إلى تقليص الدعم الحكومي؛ وتحول النظام بالكامل إلى حكم مافيا عائلية، تقيم التحالفات التي تحافظ على بقائها في الحكم. هذه الانتكاسة أدت إلى المزيد من عدم الإحساس بالأمان لدى الفئات المهمّشة بما فيها التي استفادت من فترة الستينيات، والتي ارتدّت إلى بناها التقليدية، من أجل الحصول على الأمان الاجتماعي، في ظل تراجع حجم إنفاق الدولة الاجتماعي، وعن تأمين فرص عمل للجميع. وبالتالي تصاعدت الهويات الدينية في ظل حكم بشار الأسد، سواء الطائفية أو الإسلامية، وكذلك تصاعدت الهويات القومية من غير العربية.

الهوية الكردية هي الأكثر تأزماً في سورية، فقد برزت بشكل صارخ خلال الثورة السورية. أكراد دمشق حصلوا على كامل حقوق العرب المدنية، بل استطاع النظام كسب تأييدهم عبر المؤسسات الدينية الكبرى التي تحالفت معه، ويقودها أكراد، كفتارو والبوطي. وبالتالي يمكن القول أن أكراد دمشق وبقية الداخل السوري مندمجون إلى حدّ كبير ضمن المجتمعات العربية، ولم يسبق أن طرحوا إشكالية الهوية القومية خارج ما يطرحه العرب.

في حين أن أكراد شمالي شرقي سوريا عانوا من التهميش ومنع الحقوق الثقافية، والحرمان من الجنسية، في ظل حكم البعث، والحكومات التي سبقته. وبالتالي ظلت الرغبة في الاستقلال أو في عودة الدولة الكردية مرافقة لهم، ولم يضيّعوا فرصة للمطالبة بها، وهو ما حصل في الانتفاضة الكردية 2004، بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، والذي استفاد من تهميش نظام البعث العراقي للأكراد، ليكونوا أدوات لأمريكا، حيث دعمت استقلالهم في إقليم كردستان؛ لكنها لم تدعم رغبتهم في الانفصال لاحقاً.

وبالمثل، لم تدعم أمريكا أو روسيا قوات البايادي في معركة الاحتفاظ بعفرين ضد التدخل التركي وما انضم تحت لوائه من قوات عربية. وبالتالي الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية جاء أيضاً في إطار تشغيل هذه الفصائل لخدمة النفوذ الأمريكي في مناطق شرق الفرات، حيث حقول النفط والقواعد العسكرية الأمريكية.

وقبل ذلك، في 2011، النظام نفسه استغل علاقته الجيدة مع حزب العمال الكردستاني في تركيا، وسمح لفرعه في سورية (البايادي) بقيادة صالح مسلم، بإقامة سلطة كردية في الشمال الشرقي، وذلك من أجل قمع الانتفاضة الكردية في عامودا، والتي كانت في سياق الانتفاضة السورية، ورفعت الأعلام الكردية إلى جانب العلم السوري، للتأكيد على الهويتين الكردية، والسورية (أي الوطنية)، وحملت شعارات التضامن مع مدنها، درعا وبانياس وحمص…، أي لم تكن تحمل شعارات انفصالية، أو حتى مطالبات بالفيدرالية، كما هي حال الخطابات الكردية مؤخراً.

عملية “غصن الزيتون” التركية، أزمت الوضع كثيراً، وأدت إلى انتكاسة حقيقية في الهوية الوطنية السورية للأكراد، ازدادت مع تكثيف الخطاب الإعلامي المدعوم من قوات البايادي ضد العرب، وما نتج عنه من خطاب عربي مضاد، وغالباً مترافق مع نفس إسلامي آت من تحريض يقوده أئمة مساجد تركيا الموالين لأردوغان. وبالمحصلة وصلت حدة التناحر العربي الكردي إلى أقصاها مع التدخلات الإقليمية والدولية، وتوافق تلك الدول مع تركية، رغم أن شرائح واسعة من المثقفين العرب يحاولون احتواء الموقف، واستيعاب حدة الخطاب الكردي.

العديد من النخب الليبرالية تطرح العودة إلى الهوية السورية “الوطنية” الجامعة لكل السوريين، وأن تبنى الدولة على أساس الديمقراطية والمواطنة، وفصل الدين عن الدولة، وأن يكون الدستور ملائماً لروح العصر، وللقيم الليبرالية السائدة لدى الغرب، أي احترام حقوق الإنسان، والحريات العامة والثقافية وحرية المعتقد.

لا مشكلة في هذه الطروحات، لكنها لا تكفي لتحقيق الاستقرار، ولا تؤسس لمشروع يقطع مع البنى التقليدية الاجتماعية المتخلفة. القطع معها يحتاج إلى أن تأخذ الدولة دورها في توفير الأمان الاجتماعي والاقتصادي لمواطنيها، وتأمين فرص عمل للجميع، وزيادة المكتسبات الاجتماعية للمواطن، الفرد. هذا يحتاج إلى صناعة متطورة ودعم الزراعة، ودعم البحث العلمي، ومجانية التعليم والرعاية الصحية، وعدم التخلي عن القضايا العربية ومنها القضية الفلسطينية. بالتأكيد تفتقد سوريا الآن، وكذلك بقية الدول العربية التي قامت بها ثورات، إلى قوىً سياسية تحمل تحقيق هذا الهمّ. وبالتالي ستشهد سوريا والمنطقة المزيد من حالة عدم الاستقرار، والمزيد من صعود الهويات المتقادمة، وتصارعها، خاصة في ظل الاحتلالات المتعددة، إلى حين تشكل تلك القوى.

سوريا في أسبوع ٢ نيسان

سوريا في أسبوع ٢ نيسان

الغوطة خالية من المعارضة
١ نيسان / ابريل

توصل “جيش الإسلام” المعارض وروسيا إلى اتفاق قضى بإجلاء المقاتلين والمدنيين الراغبين من مدينة دوما، آخر جيب تحت سيطرة المعارضة في الغوطة الشرقية لدمشق، بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان” الأحد.

وقال “المرصد” أن الاتفاق قضى “بخروج مقاتلي جيش الإسلام وعائلاتهم والمدنيين الراغبين إلى شمال سوريا، على أن تدخل الشرطة العسكرية الروسية الى المدينة” في خطوة أولى قبل أن “تعود المؤسسات الحكومية إليها.”

وتركزت المفاوضات التي تستمر منذ فترة، مؤخراً على وجهة “جيش الإسلام” لتنتهي بالاتفاق على خروجه إلى مناطق تسيطر عليها فصائل موالية لتركيا في ريف حلب الشمالي الشرقي.

وكانت قوات النظام عززت انتشارها في محيط دوما بالتزامن مع استمرار المفاوضات تمهيداً لعمل عسكري في حال لم يتم التوصل الى اتفاق مع فصيل “جيش الإسلام”. وطالما كرر قادة “جيش الإسلام” رفضهم أي حل يتضمن اجلاؤهم الى أي منطقة أخرى، وكانوا يأملون التوصل الى اتفاق يقضي ببقاء الفصيل المعارض في دوما مع دخول الشرطة العسكرية الروسية إليها.

ويأتي التوصل الى الاتفاق النهائي بعد اتفاق آخر لإجلاء مئات المدنيين من دوما، وفق “المرصد”، الذي قال إن بينهم “نشطاء وأطباء وعائلات من فصيل فيلق الرحمن” الذي خرج من الغوطة الشرقية خلال الأسبوع الماضي.

وإثر هجوم جوي عنيف بدأته في 18 شباط/فبراير ترافق لاحقاً مع عملية برية، ضيقت القوات الحكومية تدريجيا الخناق على الفصائل المعارضة، وقسمت الغوطة إلى ثلاثة جيوب. وبعدما ازداد الضغط عليها، دخلت كل من الفصائل منفردة في مفاوضات مباشرة مع موسكو، انتهت باجلاء من جيبي حرستا وجنوب الغوطة. وانتهت السبت عملية إجلاء عناصر “فيلق الرحمن” ومدنيين من جنوب الغوطة بخروج أكثر من 40 ألف شخص.

عفرين جزء من تركيا؟
٣١ آذار / مارس

قال المتحدث باسم “مؤتمر إنقاذ عفرين” حسن شندي السبت، إن “عفرين ستصبح تابعة لمدينة هاتاي (أنطاكيا) التركية.”

وعقد “مؤتمر إنقاذ عفرين” يوم 19 آذار/ مارس الجاري، بحضور 100 شخصية من الكرد والعرب والعلويين والإزيديين، أسفر عنه انتخاب مجلس مكون من 35  شخصية، بحسب شبكة “رووداو” الكردية.

وفي حديثه للقسم التركي من موقع “دي دابليو” قال شندي، إن “بين أعضاء المجلس 24 عضواً كردياً وثمانية عرب، وواحد من المكون العلوي وواحد من الكرد الإزيديين وواحد من التركمان، وسيبدأ أعماله المتعلقة  بإعادة إعمار عفرين وتسيير أمور المدينة.” وأضاف شندي أنهم “أرسلوا قائمة الأسماء المنتخبة لوزارة الخارجية  التركية، وستتضح الأمور خلال أسبوع أو 10 أيام، ومن ثم سيتوجه أعضاء المجلس إلى عفرين.”

وتابع المتحدث باسم “مؤتمر إنقاذ عفرين”، أن “تركيا ستعين والياً على عفرين ليتولى إدارة المدينة، لكننا لا نعلم من سيكون هذا الوالي، إلا أنه سيعين من جانب تركيا التي سترسل كذلك قائممقام إلى عفرين”، مشيراً إلى أنه “إلى جانب كشف ملامح إدارة عفرين، فقد اتخذت بعض الخطوات  المتعلقة بأمن المدينة أيضاً.” كما أوضح شندي أنه “تم تشكيل قوة شرطة في مدينة عفرين مؤلفة من 450  عنصراً.”

وكانت شخصيات سياسية وفعاليات مدنية من منطقة عفرين بكردستان سوريا، أعلنت تشكيل “مجلس عفرين المدني”، بهدف “إدارة  المنطقة من الناحية المدنية، وإعادة المهجرين”، على حدِّ وصفهم.

أميركا باقية ام مغادرة؟
٣١ اذار / مارس

طالب الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد  نائب رئيس الوزراء وزير الدفاع السعودي، بعدم انسحاب الوحدات الأميركية من سوريا.

وفي مقابلة مع مجلة “تايم” الأمريكية، نُشِرَتْ مساء الجمعة، قال ولي العهد:” نعتقد بأن على القوات الأميركية أن تبقى في سورية على الأقل على المدى المتوسط، إن لم يكن حتى على المدى  البعيد.”

وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان قد أعلن في كلمة  في ولاية أوهايو الخميس، على نحو مفاجئ، عن قرب انسحاب قوات  بلاده من سورية ” بعدما قضينا على داعش، فإننا سننسحب قريبا جدا من سوريا، لنترك الآخرين يعتنون بها.”

يذكر أن الولايات المتحدة تتزعم تحالفا دوليا في سورية يحارب “داعش”، ويقاتل إلى جانب التحالف الدولي، وحدات حماية الشعب الكردية (واي بي جي).

وأوضح ولي العهد السعودي أن الوجود الأميركي في سوريا هو المحاولة الأخيرة لمنع إيران من توسيع نطاق نفوذها في المنطقة، مشيرا إلى ان  إيران تعمل مع ميليشيات وحلفاء إقليميين على إنشاء طريق بري يبدأ من لبنان ويمر بسورية والعراق وصولا إلى العاصمة الإيرانية طهران. وتابع بن سلمان أن مثل هذا ” الهلال الشيعي” من شأنه أن يمنح إيران نفوذا أكبر في المنطقة.

وقال مسؤولان كبيران في الإدارة الأميركية الجمعة إن ترامب أبلغ مستشاريه رغبته في انسحاب قوات الولايات المتحدة مبكرا من سوريا. ومن المقرر أن يعقد مجلس الأمن الوطني اجتماعا في بداية هذا الأسبوع لبحث الحملة ضد “داعش”.

وكان ترامب امر وزارة الخارجية بتجميد أكثر من 200 مليون دولار من الأموال المخصصة لجهود التعافي في سوريا مع قيام إدارته بإعادة تقييم دور واشنطن في الحرب الدائرة هناك منذ فترة طويلة. وكان ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأميركي المُقال قد تعهد بتقديم هذا المبلغ خلال اجتماع للتحالف الدولي في الكويت في شباط/ فبراير.

فوسفات سوري لروسيا ام ايران؟
٢٨ اذار / مارس

صدق مجلس الشعب (البرلمان) السوري على عقد بين المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية وشركة “ستروي ترانس غاز” الروسية بخصوص استثمار واستخراج خامات الفوسفات من مناجم الشرقية في تدمر.

وبموجب الاتفاق المبرم سيتم تقاسم الإنتاج بين الطرفين، بحيث تكون حصة المؤسسة العامة للجيولوجيا نسبة 30 في المئة من كمية الإنتاج مع دفع قيمة حق الدولة عن كميات الفوسفات المنتجة إضافة لتحمل نفقات أخرى بحدود 2 في المئة، بحسب موقع “روسيا اليوم”. وتبلغ مدة العقد 50 عاما وبإنتاج سنوي قدره 2.2 مليون طن من قطاع يبلغ احتياطه الجيولوجي 105 ملايين طن.

وأشار وزير النفط السوري، علي غانم، بحسب تصريحات صحافية، إلى توفر احتياطي كبير جدا من خامات الفوسفات في منطقة مناجم فوسفات الشرقية يبلغ 1.8 مليارات طن، لافتا إلى أن الطاقة الإنتاجية للشركة العامة للفوسفات والمناجم، بلغت 3.5 ملايين طن سنويا قبل اندلاع الحرب على سوريا.

وكان مدير عام الشركة العامة للفوسفات والمناجم، غسان خليل، أكد عودة الشركة للإنتاج في مناجم فوسفات خنيفيس والمناجم الشرقية بعد تحريرها من تنظيم “داعش” الإرهابي.

يذكر أن “ستروي ترانس غاز” نفذت مشاريع في روسيا منها بناء الشركة محطة لمعالجة الغاز، كما تقوم حاليا ببناء محطة أخرى. وفي بداية العام ٢٠١٧، وقعت دمشق وطهران مذكرات للتعاون كان بينها استثمار إيران للفوسفات السوري. ويعكس الاتفاق الأخير سعي روسيا للحصول على امتيازات في الثروات الاستراتيجية لسوريا.

الخوف من الثورة بوصفها فضيحة للهوية المشوهة

الخوف من الثورة بوصفها فضيحة للهوية المشوهة

عندما كنت أغادر إحدى الخمارات في منطقة باب شرقي بدمشق القديمة، قبل الرحيل عن سورية أواخر العام 2015، كنت قد وصلت قرب الباب العتيق الفاصل بين الشارع المستقيم في المدينة القديمة والبيوت الدمشقية الجميلة وطريق السيارات العام، كنت أشاهد بحزن سحب الدخان الأسود والحرائق المتصاعدة من أطراف مدينة جوبر، ثم أعبر باب شرقي باتجاه موقع ميكروباص جرمانا عند مفترق طريق المليحة، عند الزاوية أمر بجانب جامع له مئذنة طويلة جداً، تطل على كل المدينة، تحت المئذنة تماماً ثمة باب للجامع وآخر لمقر يدعى “معهد الفتح الإسلامي”، وفيما بعد علمت أنه معهد “شرعي إسلامي” وتحت عين السلطات السورية ويساهم في تقديم حوافز دراسية مع تعزيز قدرات الطالب في الجانب “الإسلامي” وبقي السؤال يراودني: معهد للعلوم الدينية؟ ومعاهد الأسد لتحفيظ القرآن؟

والكثير من الجمعيات الخيرية والتنموية والدينية النشطة قبل الثورة، ترى ماذا قدمت للمجتمع السوري من تطور وتغيير؟ ما شأن الدين بالفتوحات الفكريّة التي ندعيها كبلد يعتبر مدنياً؟ لماذا لا يوجد معاهد للفتوحات الشعريّة والمسرحيّة والروائيّة والفنيّة؟ معاهد لتحفيظ الشّعر والقصص الأدبيّة؟ جمعية لنشر الكتب وتوزيع علوم الأدب من مختلف أنحاء العالم؟ لماذا كان للدين كلّ تلك الحفاوة؟ وكيف أصبح “إمام” الجّامع، قائداً لسمعة شباب الحارة؟! من وضع الوصاية وصكوك الأخلاق والتربية بيد عمّال الدّين؟ ولماذا ثِقل المدن السوريّة سكانياً هو أحياء عشوائيّة ومخالفات وينشط فيها الدّين على حساب الثقافة والفكر المتنوّر المتعدّد؟

الجّامع مفتاح الغضب ومقتله!

مع غياب أيّ دور سياسي فكري للمبادرات الأهليّة والشعبيّة في سورية منذ عقود، ظهر إلى السطح منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، شكل واحد للخصومة السياسة ضد السلطة، ألا وهو المرجع الدّيني، فتشكل الوعي الشعبي على ما يجتهد به الشيوخ والدّعاة من أفكار وتفاسير تخدم “الإسلام السّياسي” وتجعل تجريبه فرصة بعد وصول العسكر إلى الحكم عام 1963، والمقصود هنا عسكر حزب البعث، وفي الضفة المقابلة الشعبيّة نشطت الحركات الإسلاميّة في سورية وخصوصاً تلك القادمة من فكر جماعة الإخوان المسلمين، ولو نظرنا إلى المشهد السّياسي منذ تسلم العسكر الحكم تحت رعاية وزير الدفاع في حينها حافظ الأسد، سوف نكتشف أن كل أشكال الحياة السياسيّة رسم لها كيان ومبدأ واحد هو المرجعية العسكريّة، والتي برغم عنفها وقربها إلى سدّة الحكم، إلا أنها لم تكن توازي النّشاط الديني الذي راح ينمو بقوة في الأوساط الاجتماعيّة معتمداً على دعم الفقراء والطبقات المتوسطة، وبات للجامع تأثيره الأقوى في الشارع السوريّ، الأمر الذي دفع “البعث” لبناء منظومة دينيّة موازية تسبّح بَحمدِ القائد والجيش وتنشر الدّين الذي يليق باستقرار النّظام وتجذره، وهذا ما نلاحظه في مباهاة البعث المستمرة أنه يبني الجوامع ودور العبادة على اختلاف أطيافها ومذاهبها، ولكنه يغلق أي نادٍ ثقافيّ أو سياسيّ ما لم يكن قد حصل على الموافقة “الأمنيّة”، وبالتالي وجد لدينا ما يعرف بقانون الطوارئ الذي أنهى الحياة السياسية تماماً في سورية حتى انتقلت أي مبادرة معارضة وسلميّة إلى موضع الاتهام والخيانة لأنها تستحضر التاريخ الأسود الذي سطّرته أحداث الإخوان في الثمانينات إلى أذهان الناس، إبان عسكرة “الطليعة المقاتلة” للمعارضة في حماة، وحسب توجيه السّلطة وتصنيع “بعبع” العنف الإسلامي، وتلك الشماعة كانت أقوى أسلحة النظام لصبغ الهويّة السياسيّة بالدّين “غير المغضوب عليه” من القائد.

أصبح الجامع مكاناً للقاءات وتقارب الناس مع بعضها وفرصة للمخبرين لمعرفة توجهات الأهالي مع انتشار الأعداد الكبيرة من الجوامع في سورية بتوجيه مدروس من النظام، وعندما اشتعلت الثّورات العربية، لم نكن نرى مظاهرة تخرج من مسرح أو مقهى أو نادي سياسي، لم نكن نسمع شعارات ثورية بقدر ما هي ذات جذور دينيّة، وكذلك الأمر في سورية التي استيقظت فجأة على الغضب الشعبي، وراح الشارع ينادي “الله سورية حريّة وبس…!” شعار أنجبه الجامع وثقافته التي لا تقبل النقد، وتؤيد “الدعاة ممن يحفظون القرآن والسنن والأحاديث المحمدية!” وهي بطبيعة الحال ثقافة تنويم أصبحت فطريّة، يعتمد عليها الإسلام السّياسيّ لاستنهاض عواطف النّاس واستثمارها في أي انتفاضة شعبيّة ليكونوا في المقدمة، وتجربة إخوان مصر، خير دليل على ذلك الفشل السياسي! ولكن، هنا في سورية الأمر مختلف كلياً، فالنظام أسّس وساهم ببناء الجوامع والمعاهد الشرعية وجعل بذور “الجّهاد” حاضرة منذ غزو العراق، فتح باب التطوع تحت شعارات دينية، لكشف الجّهاديين في سورية من الإخوان وسواهم، وفيما بعد اعتقل كل من أفرزته تلك الثقافة من مقاتلين سياسيين، فور عودتهم من العمليات العسكرية ضد الجيش الأمريكي في العراق، وبقيت الثورة- المعارضة، رهن الدين والمرجعيات المزعومة التي توجهه.

لو افترضنا أن الثقافة كمفهوم ثوريّ تنويريّ، يطالب بالتغيير السلميّ ويحترم الخصومة السياسيّة، إذ لا يبحث هذا المفهوم عن ماهيّة الأديان، بل يعتبرها ثقافة اعتقادية روحانيّة خالصة وتخص الفرد وحده، لا تعمم على المجتمع، غير قابلة للتداول أو التّحشيد الشعبي، ولكن لطالما كان أصحاب الدين يعتقدون أنفسهم هم الصّواب والحلّ بالكتب المقدسة التي يؤمنون بها ويشرعون منها فقط! ولعل تجربة “تنظيم الدولة” و “جبهة النصرة” والفصائل الإسلاميّة “المعارضة” التي تقول بأنها سورية، قد أثبتت مساهمتها الكبيرة في تدمير الثورة وتشويه الهويّة السورية، هؤلاء كانوا يشترطون على الأتباع أن يؤمنوا غيبيّاً ومذهبيّاً، وأن تكون عقيدتهم تابعة لجملة من “مجالس الشورى” بينما نرى أن الثقافة لا تحتاج للدين كبوصلة لتقوم بالتّغيير، إنّما تحتاج للانفتاح على الجميع، بلا عنف جهاديّ عقائديّ، فقط بالحجة والدليل العقلي المادي الملموس، وبالمحصلة هي تعتمد على المعرفة وترحّب باختلاف الأديان، لأنها ترى الدين، كما أسلفنا، ثقافة روحانية منزلية لا يمكن المتاجرة بها وقيادة المجتمع عبرها.

حين تظاهر السوريون من الجوامع منذ اللّحظات الأولى، صبغوا الثورة بالشكل الديني، وأبعدوا المدنيّة عن طريقهم، فتنشّط الدعاة والشيوخ والجماعات الإسلامية للتدخل والبحث عن تمويل ودعم سياسي لاستثمار بيت أسرارها وصلتها مع الناس: الجامع! فكان ما كان، بدأت الثورة بالجامع ووصلت إلى فصائل متشدّدّة وأخرى تريد تحكيم شرع الله، وثالثة تعتقد أن هناك مدنية إسلامية معتدلة (…) فقط كي ترضي الآخرين، وحين تصل للحكم سوف تسحق كل من لا يؤمن بفكرها “الإخواني”.

ربّما قتل السوريين حلمهم حين كانت فرصة الانتفاضة تنادي بالحرية والعدالة والمساواة والمدنيّة، لأنهم طيلة العقود الماضية كانوا قد أصيبوا بالتدّجين الفكري، لا تجربة سياسية حقيقية وأحزاب تقود الحراك.

الجامع، معبد إسلاميّ لا يمكن أن يقود حراكاً سياسيّاً، لقد سَخِرت المعارضة والكثير من الشخصيات السياسية “الطارئة” من تعليق الشاعر السوري أدونيس حين قال: “لا أخرج في مظاهرة سياسية تخرج من الجامع” هو المقتل الواضح الذي نستنتج منه أن الدولة السورية حتى اليوم هي دولة قائمة على تشريعات الإسلام من دستورها إلى قوانين الأحوال الشخصية والنفوس والتربية والميراث ونظرة الدين للمرأة…إلخ، فكيف لا يكون الجامع هو بوصلة السّلطة لتنويم الشعب، لكن ذاك الجامع احتقن وألهب الشوارع السورية بالمظاهرات، لتصبح الثورة بعد أشهر تنادي “يا الله ما إلنا غيرك يا الله” أين السّياسية في ذلك يا سادة، أين الثورة في قاموس ينتظر من السماء أن تحل همومه؟ مع خالص احترامنا للإسلام والمسلمين، إلا أن ذلك لا علاقة له إلا بالقضاء على هوية المجتمع المدني، هوية المجتمع السوري، وذلك ما تم منذ العام 1963 ولا زال، والنتائج المدمرة الآن هي حاصل طبيعي لكل ذاك الاحتقان الديني وتراكم الجهل السياسي لكن بإضافة بسيطة هي خطاب “البعث الإسلامي”.

العنف وملعب الدين والمواجهة

أستغرب ممن يقول إنّ النظام السوري واجه المظاهرات بعنف شديد! هل كان النظام لطيفاً وحضاريّاً ومنفتحاً ويقبل الآخر- السلمي، قبل ذلك مثلاً، بالتأكيد: لا! وهذا لا يعني السكوت عن المواجهات الإجرامية بحق العزل أيام المظاهرات السلمية، إلاّ أنّ العسكرة التي تم جرّ الثورة السورية إليها، كانت غاية النّظام الأولى حتى يصبح لديه مبررات لسحق الاحتجاجات والمناطق الخارجة منها أمام الرأي العام وحلفائه الدوليين، معللاً ذلك بأنّ لديه “عصابات مسلّحة” غير قانونية وتثير الفوضى، يقتل باسمها ويعتقل وينشر التلفيقات والمفخخات التي يراها مناسبة لخدمة مصالح بقائه، ومع تلك التلفيقات نشط الدّين في جانبه الإسلاميّ، وخصوصاً بعد الإفراج من قبل النظام السوري عن مجموعة كبيرة من أخطر الشخصيات المتهمة بقضايا “سياسية” ولها مرجعية دينية متطرفة من جماعة الإخوان المسلمين والتيارات الجهادية والسلفية، وهي التي أسست الفصائل الإسلامية، وكان مقرها الجغرافي والأيديولوجي “سجن صيدنايا”.

هل لاحظتم أن المعتقلين السياسيين الذين ليس لهم انتماءات دينية تؤثر على نضالهم الفكري، قد بقوا في أقبية المخابرات؟ لأنهم يفكرون بلا عنف، ويعرفون معنى النضال الثوري السّلمي الذي حُرمت منه الثورة السورية بعد أشهر قليلة من انطلاقها، وذهبت إلى أيدي الجهاديين وأصحاب الأحزمة الانتحارية والعمليات “الانغماسية” إحدى أبرز هويات الإجرام لدى “النصرة” و “داعش”.

لم يكن يعلم الشارع السوري، ربّما أنّ رفع لافتة في الطريق والتظاهر دون سلاح هو أقوى ضربة يمكن أن توجه لنظام الحكم العسكري، لأن الذهنية السائدة هي مواجهة العنف بالعنف المفرط، وهذا ملعب العسكر الذين منذ تسلمهم البلاد وهم حريصون على لحظة تسلّح الخصوم بعد بناء جيش عقائدي حزبي، والتجذر الشديد بالدول المحورية في المنطقة، مع حلف الأنظمة التي تدعي “الاشتراكية” مثل روسيا الاتحادية! التي لاتزال تلعب ذات الدور في تسليح النظام ودعمه دولياً لأنه حليفها الأخير في الشرق الأوسط.

إذاً تعتمد السلطة في سورية منذ سنوات على مقابلة المشكلات السياسيّة، بافتعال تداعيات خطيرة في الشّارع، وجرّبت ذلك أثناء الثورة السورية، حتى أصبح الافتعال، واقعاً! والمقصود هنا الجماعات الإسلاميّة المرتهنة للدول الداعمة للإسلام السياسي تارة، وللبحث عن موطئ قدم لها في الحصة الجغرافية لبلاد الشام مثل الولايات المتحدة- إيران- تركيا- إسرائيل- وروسيا، هي دول فاعلة بقوة عبر المليشيات المتقاتلة على الأرض. ولكن المثير في الأمر أن تتماهى السلطة في سورية منذ بداية الثورة لكشف هوية المجتمع السوري الذي عملت على تعديل مخيلته ودفعه نحو التديّن، فوجدت الحلّ مثلاً بإطلاق قناة إسلامية من التلفزيون السوري الرسمي من وسط ساحة الأمويين وهي قناة “نور الشام” التي تبث أفكاراً دينية تخدم مصلحة النظام، على اعتبار أن الصراع بوجهة نظر الشارع والمجتمع هو صراع ديني، حسب رأي النظام! الأمر الذي يبرر الفتاوى المستمرة بقتال أبناء الديانة الواحدة الذين اختلفوا قليلاً بأمراض تدعى “المذاهب الدينية” وبالتالي أصبح المجتمع الذي اشتغل عليه حزب البعث مكشوفاً للهشاشة الفكرية ويتدخل في تسييره من يريد، ذلك أن النّواة الأساسية التي اعتمد عليها هذا الحزب هي الدين بالمرتبة الأولى وكسب الشخصيات الدينية في وزارة مخصّصّة لهم ضمن حكومته، هي “وزارة الأوقاف” وهنا نتذكر: أليست هي ذاتها الوزارة التي كانت تسمح لأئمة كانوا فيما مضى يقيمون “الدروس الإسلامية” والجلسات “الدعوية” عبر الراديو والتلفزيون الرسمي والجوامع والمراكز الدينية إياها التي تحدثنا عنها بداية، بينما الآن نراهم في تركيا يقفزون في المجالس “الشرعية” حيث تقود ما بقي من فصائل إسلامية في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية؟

الثورة فضيحة الهوية

لا بد من فِكر… نظرة للتجارب الثوريّة القائمة على أفكار يساريّة مثلاً، وتنظير ثوري جديد لقراءة الثورات؛ لا بد من مراجعة جديّة للثورة السورية من أجل الوقوف إلى جانب هذا الشعب العظيم الذي أنجب حضارات منذ آلاف السنوات ومع تقدم الزمن بدأ يعود -بفضل السياسيين والطغاة- إلى التخلف.

إن “الفتوحات الدينيّة” ليست فكراً، بقدر ما هي مرجعيّة لغيبيات روحيّة قد تجعل معظم الناس في راحة من أسئلة الوجود والهوية، وهي لا تحل مشكلات سياسية مرهونة بالحاضر وتبدلاته المستمرة؛ وفي سورية، السلطة الحاكمة اخترعت ديناً خاصاً بها، والشارع تمرّد عليه، فيما بعد، صنع ديناً خاصاً به، وسجون المتطرفين الذين كانوا تحت عين السلطة وجدوا من الشارع فرصة لتطرفهم وتسليحهم فسحقوا الحياة السورية في الداخل وشتتوا الشعب إلى جانب نظام لا يرى سوى البندقية والقائد قاموساً للحوار ولا هوية له إلا القتل والأنانية، القتل الذي أورثه لخصومه حتى أصبحنا في غابة وحوش كاسرة من معارضة ومولاة وحلفاء من دول العالم يمدونهم بالسلاح والمرتزقة.

بالمحصلة الدين يفشل أمام السياسة، لأن كل مفهوم قائم هو على طرف مغاير للآخر في الحياة، لا يمكن أن يلتقيا، وتوحيدهما في جسم اجتماعي واحد أوصلنا للذي نحن به الآن في سورية، الدين أصبح شُبهة وتشدد وتطرّف، لقد لوّثته الغايات السلطوية، والسياسة أصبحت عسكرة وتحالفات دولية ونسيت أن تطور المجتمع، والشعب أضاع هويته المشوهة، دفعها إلى الجحيم في ثورة لازالت تبحث عن قادتها السياسيين بعيداً عن الكتب المقدسة ومن يلحقها من تجار الدين.

ترتيبات” ثلاثية شمال سوريا”

ترتيبات” ثلاثية شمال سوريا”

تمسكت موسكو بمهلة خمسة أيام لـ«جيش الإسلام» كي يحسم موقفه التسوية في دوما شمال غوطة دمشق لإنجاز «اختراق» قبل القمة الروسية – التركية – الإيرانية الأربعاء المقبل؛ كي تتفرغ القمة لإقرار خرائط الانتشار في الشمال السوري، واختبار وجود أميركا والتحالف الدولي في منبج وشرق نهر الفرات، إضافة إلى إقرار القمة الثلاثية الانتقال من العمل العسكري إلى ملامح التسوية السياسية في سوريا.

مع استمرار إجلاء مقاتلين معارضين وأسرهم من وسط الغوطة وجنوبها ونزوح المدنيين باتجاه دمشق ليصل إجمالي الخارجين من شرق العاصمة لنحو 200 ألف شخص بينهم 150 ألف مدني، استمرت المفاوضات بين الجيش الروسي و«جيش الإسلام» لتقرير مصير دوما التي تضم معظم ما بقي من مدنيين في الغوطة.

موسكو تريد إخراج المقاتلين أو القيادات منهم. ولحل عقدة وجهة المقاتلين، طرح أخيراً خيار ذهابهم إلى منبج مع وجود تعقيدات في الطريق التي يمكن سلوكها من دمشق إلى شمال سوريا. كما عرض الجانب الروسي بقاء المدنيين في الغوطة وعودة «رموز الدولة» ومؤسساتها، وإزالة مظاهر المعارضة، إضافة إلى توفير عفو عن مطلوبين ومهلة سنة لتأجيل المطلوبين للخدمة العسكرية مع اشتراط تدمير السلاح الثقيل أو تسليمه.

في المقابل، رفض «جيش الإسلام» تسليم السلاح. وقال قياديون فيه: «تجربة النازحين في الغوطة عززت موقف القيادة الرافض لتسليم السلاح». كما تمسكوا بالبقاء في دوما ورفض المغادرة مع استعداد لتجديد اتفاق «خفض التصعيد» الذي أنجز في الصيف الماضي بوساطة مصرية وضمانة روسية. وتواصل قادة «جيش الإسلام» مع دول عربية للتوسط لدى موسكو لدعم خيار البقاء في دوما.

وطلب «جيش الإسلام» مهلة عشرة أيام مع الاستمرار بوقف النار، لكن الجانب الروسي أصر على خمسة أيام فقط بحيث «يطوى ملف الغوطة» قبل قمة الرؤساء، الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب إردوغان، والإيراني حسن روحاني للانتقال من المسار العسكري إلى السياسي.
دمشق تدفع لسحب موسكو إلى الذهاب إلى ريف حمص، في وقت تتأرجح موسكو بين الذهاب إلى الخيار العسكري في منطقة «خفض التصعيد» في ريف حمص وتكرار نموذج المصالحات عبر نزع السلاح. كما أن دمشق تكرر الخيار ذاته في الجنوب السوري؛ إذ مع استمرار وصول تعزيزات إلى الجنوب، جال ضباط روس ومن القوات الحكومية على مناطق في درعا لعرض تسوية، تضمنت قبول المعارضة «إزالة شعارات المسلحين من المباني» و«استرداد رموز الدولة» على أن تقوم المعارضة بـ«مساعدة الشرطة والسلطات المحلية وإدارات الدولة».

المعلومات تشير إلى أن ملف الجنوب مؤجل بسبب وجود ترتيبات روسية – أميركية – أردنية؛ ما يعني ارتباطه بإمكانية تطوير اتفاق «خفض التصعيد» لفتح معبر نصيب مع الأردن وتشغيل الخط التجاري.

لكن اللافت، أن القمة الثلاثية تبدو مهتمة أكثر بملف الشمال السوري والشمال الشرقي من الناحية العسكرية وبالملف السياسي العام. وأمام حديث الجانب الأميركي عن الانسحاب من شرق نهر الفرات والأزمة التركية – الفرنسية بعد استقبال الإليزيه وفداً كردياً سورياً، والبطء في إنجاز ملف منبج بين واشنطن وأنقرة، والأزمة القادمة بين إيران والغرب حول الملف النووي، والأزمة الروسية – الغربية حول «الجاسوس»، يتوقع أن تقر قمة بوتين – إردوغان – روحاني سلسلة من خطوات التفاهم في سوريا وخصوصاً في الشمال وشرق نهر الفرات.

وبين الملفات العالقة، مستقبل مدينة تل رفعت، حيث يريد الأتراك الدخول إليها بعد عفرين بضوء أخضر روسي، حيث جرى تبادل الخرائط لانتشار الجيش التركي وحلفائه السوريين، وبات الأمر مرتبطاً بطبيعة وجود «الدولة السورية» في تل رفعت. وفي حال تحقق ذلك، سيكون الجيش التركي في موقع أقوى للضغط على وضع منبج بعدما رفضت واشنطن مقترحات تركية لإخراج «وحدات حماية الشعب» الكردية. وقال مصدر: «أنقرة متمسكة بخروج الوحدات من منبج، ولن تقبل بعرض واشنطن تأجيل ذلك والاكتفاء بتسيير دوريات أميركية – تركية قرب منبج». ويبدو أن الملف الرئيسي سيكون مستقبل شرق نهر الفرات؛ إذ إن الجانب التركي يريد عبور نهر الفرات من الغرب إلى الشرق لملاحقة «وحدات حماية الشعب» الكردية، لكن واشنطن كانت تمنع ذلك. وقال دبلوماسي أمس: «القمة الثلاثية ستبحث في ترتيبات لوضع شرق نهر الفرات»، لافتاً إلى أن الموقف الأميركي الجديد سيترك منعكساته في المحادثات الثلاثية.

وينتشر شرق نهر الفرات ألفان من الجنود الأميركيين ومئات الجنود من التحالف الدولي المناهض لـ«داعش». وأعلنت واشنطن سابقاً، أن الجيش الأميركي «باق إلى أجل مفتوح شرق الفرات» لتحقيق خمسة أهداف: منع عودة «داعش»، تقليص نفوذ إيران، الدفع باتجاه حل سياسي في سوريا، عودة النازحين واللاجئين، ومنع استعمال الكيماوي. وبحسب المعلومات، فإن هذه الاستراتيجية الأميركية أقرت بعد مناقشات معمقة داخل المؤسسات الأميركية. لكن الرئيس دونالد ترمب أعلن نية الانسحاب كما جمد 200 مليون دولار مخصصة لإعادة الأعمار شرق سوريا. وجاء موقف ترمب قبل تسلم جون بولتون منصبه مستشاراً للأمن القومي في 9 أبريل (نيسان) وقبل تصديق الكونغرس مايك بومبيو وزيراً للخارجية خلفاً لريكس تيلرسون.

ويتوقع أن تتناول القمة الثلاثية هذه المعطيات لدى بحث «الترتيبات» شمال سوريا. وبحسب المعلومات، فإن القمة ستعطي إشارة لضرورة تحريك العملية السياسية في سوريا؛ إذ استبق المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا انعقاد القمة، وزار موسكو قبل يومين لحض الجانب الروسي على الذهاب إلى السياسة بعد الغوطة، وتسريع عملية إعادة النازحين من دمشق إلى شرقها.

ويتوقع أن تقر القمة الثلاثية تحريك تشكيل اللجنة الدستورية بموجب مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد في سوتشي نهاية يناير (كانون الثاني)؛ إذ إن الدول الثلاث لم تقدم إلى الآن قائمة مرشحيها إلى دي ميستورا الذي خول مؤتمر سوتشي تشكيل اللجنة. عليه، هناك توقعات بتقديم القائمة وإقرار مرجعياتها بحيث تبدأ اللجنة عملها في جنيف قريباً لإعطاء إشارة ثلاثية بـ«الانتقال إلى التسوية السياسية بعد الغوطة»، بحسب تصورات موسكو لهذه «التسوية».

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

أهالي دوما بين مطرقة النظام وسندان جيش الإسلام

أهالي دوما بين مطرقة النظام وسندان جيش الإسلام

مع سيطرة الجيش السوري على أغلب مساحة الغوطة الشرقية بعد خروج فصيلي ”أحرار الشام“ من حرستا، و“فيلق الرحمن“ من زملكا وجوبر وحزة وعربين، وهي المناطق التي بقيت تحت سيطرته في القطاع الأوسط، أصبح واضحاً بأن الوجود المسلح لفصائل المعارضة السورية أصبح محسوماً في تلك المنطقة، والتي شهدت أعنف حملة عسكرية عليها منذ بداية حصارها في نهاية عام ٢٠١٢.

لكن يبقى السؤال الأهم، ما هو مصير فصيل ”جيش الإسلام“ المحاصر في مثلث دوما، وبعهدته ما يقارب ١٤٠ ألف مدني؟

بدأت مفاوضات جيش الإسلام مع الجانب الروسي منذ بداية الحملة العسكرية على الغوطة في منتصف شباط ٢٠١٨، ومع استمرار تقدم الجيش السوري في مزارع الغوطة، من الناحية الشرقية، حيث الخاصرة الرخوة للمحاصرين، ثم محاصرة كل فصيل على حدة، بعد تراجعه إلى مركز سيطرته (جيش الاسلام في مدينة دوما مع امتداد حتى بلدة الريحان في الشمال الشرقي للغوطة، وأحرار الشام في مدينة حرستا، بينما تآكلت مناطق فيلق الرحمن وتصالحت مدنه مع ما فيها من مدنيين ومقاتلين مع النظام بشكل منفرد، وبالتالي أضحى محاصراً في مدن زملكا وجوبر وحزة وعربين) تقدَّم جيش الاسلام بعرض إلى الجانب الروسي، وكما رشح من بنود هذا العرض، والمحفوظة ضمن دائرة ضيقة في قيادته، أن يتحول جيش الإسلام إلى شرطة مدنية (بدل خدمة العلم الإلزامية في الجيش السوري) في مدينة دوما وما حولها، مع تسليم السلاح الثقيل، ودخول رمزي لمؤسسات الدولة، ورفع العلم السوري على الدوائر الحكومية، ودخول كتيبة شيشانية لتأمين المنطقة بدل دخول الجيش السوري وقوات النظام الرديفة.

ومع الحديث عن تواجد وساطة مصرية في دمشق تسعى للحفاظ على جيش الإسلام ومدينة دوما، كما تسرب من الصحافة، يبدو أن الجانب الروسي تعاطى بشكل ايجابي مع عرض جيش الإسلام في البداية، حيث دخلت المساعدات الإنسانية إلى مدينة دوما وحدها دون غيرها عدة مرات، وخرجت الكثير من الحالات المرضية والإصابات بالغة الخطورة من داخل مدينة دوما لتلقي العلاج في العاصمة دمشق، وأيضاً أعلن الجانب الروسي عن وقف إطلاق النار من جانب واحد على مدينة دوما فقط، وهذا أعطى جيش الإسلام قناعة بأنه يملك أوراق تفاوضية قوية ومختلفة عن فيلق الرحمن أو أحرار الشام، فهو لم يُخِل باتفاقية ”خفض التصعيد“ التي وقعها مع الجانب الروسي في ٢٢ تموز ٢٠١٧، على عكس فيلق الرحمن الذي ساند بشكل واضح أحرار الشام في معركة ”بأنهم ظلموا“ على إدارة المركبات في مدينة حرستا، ولم يقم أيضاً بقصف العاصمة دمشق كما كان يفعل سابقاً في مثل هذه الظروف، في حين أن فيلق الرحمن أمطرها بوابل من القذائف والصواريخ، مما أوقع العشرات من الإصابات والضحايا في صفوف المدنيين، وأيضاً يتباهى جيش الإسلام بأنه أول من حارب تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”داعش“ وذلك بعد أشهر من إعلان التنظيم عن قيام دولة خلافته، حيث اقتلعه تماماً من الغوطة الشرقية وقضى على وجوده فيها، ثم قاتله في جنوب دمشق، وفي جبال القلمون بالتعاون مع قوات أحمد العبدو المحلية هناك، وكذلك حربه ضد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) حيث دخل مراكز قيادتها في ٢٨ نيسان ٢٠١٧ بعد أن قتل وأسر العديد من قادتها وعناصرها، ولولا تدخّل فيلق الرحمن المتأخّر لحماية من تبقى منهم، لكان أنهى وجودها بشكل كامل في الغوطة الشرقية.

لكن يبدو بأن الجانب الروسي كان يملك اليد العليا في إدارة المعركة على الأرض ومن خلال التفاوض أيضاً، فهو أعطى نوعاً من الاطمئنان لقادة جيش الإسلام في رده على مطالبهم، ومن ثم بعد أن دخل الجيش السوري إلى القطاع الأوسط وبدأت مدنه وبلداته تُصالح منفردة، ومع تحوّل صمود أحرار الشام في حرستا إلى تفاوض بفعل ضغط الأهالي، تغير موقف الجانب الروسي فجأة، وقيل بأنه انسحب من تعهداته التي قدمها لجيش الإسلام، وهذا ظهر واضحاً من خلال تصرفات جيش الإسلام الذي حاول التلويح بأوراق تفاوضية جديدة، فاستعمل منظومة صواريخ الأوسا (9K33 Osa منظومة قاذفة، تحمل ستة صواريخ دفاع جوي محمولة على سيارات نقل بستة عجلات، ومدمج بها رادار في سيارة واحدة، وكان جيش الإسلام قد استولى عليها من قاعدة دفاع جوي بالقرب من دمشق في نهاية ٢٠١٢) للمرة الأولى خلال هذه الحملة، وأطلق صاروخين اثنين في اتجاه مروحييتين للجيش السوري دون إصابة أي منهما، وذلك في ١٧ آذار الماضي، وأيضاً قام باستعراض لبعض دباباته في وسط دوما، ثم فتح معركتين في مساء اليوم التالي، واحدة باتجاه حرستا بالتعاون مع أحرار الشام فيها، حيث قيل بأنه تسلّم سلاحهم الثقيل قبل إبرام اتفاقهم النهائي مع النظام السوري، وأخرى أحرز من خلالها تقدماً في مزارع بلدة مسرابا، فعاد القصف من جديد على مدينة دوما موقعاً العديد من الضحايا، وكان أشدها في ٢٣ آذار حين تم قصف المدينة بالنابالم والفوسفور الحارق.

مع عودة الهدوء النسبي وتوقف القصف على مدينة دوما، عاد جيش الإسلام إلى التفاوض من جديد، ولكن هذه المرة كان من خلال لجنة مدنية (تم انتقاء معظم أفرادها من المقربين منه) وعبر خط تفاوض جديد موازٍ لخط العسكر التفاوضي، ومع ذلك لم يتم تحقيق أي شئ يُذكر، فالموقف الروسي ثابت، خروج من دوما إلى محافظة إدلب أو جبال القلمون الشرقي، مع تسليم السلاح الثقيل، وتسوية أوضاع الراغبين في البقاء، مع إعطاء مهلة سنة كاملة قبل الالتحاق بالجيش للمتخلفين أو الفارين من خدمة العلم، وأن تكون الخدمة الإلزامية في الفرقة الخامسة (وهي فرقة ميكانيكية، تتموضع في الجنوب السوري ومسؤولة عن الجبهة الجنوبية، شاركت في حرب تشرين في ٧٣ وكانت أكثر الفرق نجاحا حيث وصلت إلى مشارف بحيرة طبريا) وكذلك أبدى الجانب الروسي استعداده للتفكير في إرسال كتيبة شيشانية إلى دوما، بدلاً من الجيش السوري وقوات النظام الرديفة، وبالتالي بقي الوضع معلّقاً مع جولات من التفاوض شبه اليومية وبحضور ممثل عن الأمم المتحدة المتواجدة في دمشق.

يعلم الجميع بأن ”جيش الإسلام“ قد انتهى، وهو يعلم ذلك، فخروجه إلى محافظة إدلب، يعني بأنه سيكون في مواجهة غير متكافئة مع هيئة تحرير الشام، على الرغم من تأكيد قيادة أحرار الشام في الشمال بتأمين الحماية اللازمة والكاملة لجيش الإسلام إن رغب في التوجه إلى محافظة إدلب، والجانب الأمريكي يرفض تماماً فكرة  توجه جيش الإسلام نحو الجنوب إلى درعا، والجانب التركي كذلك يرفض بشكل قاطع دخول أي مدني أو مسلّح إلى مناطق سيطرة درع الفرات، حتى أنه ومن معه من فصائل المعارضة السورية وضعوا ”فيتو“ على دخول ”فيلق الرحمن“ للقتال إلى جانبهم سواء في قيادة الأركان أو في درع الفرات، ويبدو أن جيش الإسلام قد أغضب الأتراك حين قبل بالوساطة المصرية عند توقيع اتفاقية خفض التصعيد، وبالتالي لم يبقَ أمام جيش الإسلام إلا منطقة جبال القلمون الشرقي، وهي منطقة مُحاصَرة بشكل أكثر سوءاً من مدينة دوما الآن، ناهيك عن عدم أهليتها لاستقبال هذا العدد من المقاتلين وعائلاتهم.

مع كثرة الشائعات والأقاويل، يتحرك الشارع المدني – المُغيّب تماماً عن تقرير مصيره – في دوما بشكل تصاعدي يوماً بعد يوم، مقابل خطاب خشبي يدعو إلى الصمود والمبايعة على الموت من قادة جيش الإسلام وشرعييهم، واستخدام ظالم للغة التخوين مع استدعاءات الأجهزة الأمنية لمن يخالفهم الرأي. لقد خرج من دوما حتى الآن أكثر من ٢٠ ألف مدني عبر معبر مخيم الوافدين إلى مراكز الإيواء الجماعية التي أعدّها النظام السوري لاستقبالهم، مجازفين بأنفسهم ودون وجود أي اتفاق يضمن مصيرهم، لكن يبدو أن جيش الإسلام لا زال يكابر مُعوّلاً على حظوظه في نجاح المفاوضات، دون أن يشرح على ماذا يستند ويراهن، متحدياً بذلك المنطق الذي يقول بأنّه لا يملك في المفاوضات ما يُعطيه مقابل ما يطلبه لنفسه، ربما يكون تعليل ذلك بأنّه مُحاصر في خياراته، ولا يملك سوى الصمود بقدر ما يستطيع. لكن هذا الصمود المستند على الخطاب الحماسي، سوف يدفعه في النهاية إلى تكرار ما حدث مع ”فيلق الرحمن“ حين خرجت المظاهرات مندّدة به، ثم انشقت جماعات متفرقة من عناصره، وتحولت إلى ”قوات دفاع وطني“ من خلال مصالحات مباشرة مع النظام.

في المقابل، يبقى الجانب الروسي متعنتاً في موقفه، وهو يعلم بأن ”جيش الإسلام“ لا يملك خياراً سوى التمسك بأرضه والمواجهة لأجل البقاء، وبالتالي من المفيد تقديم نموذج حميد نحو تحوّل بعض من فصائل المعارضة السورية – الأكثر اعتدالاً – إلى شرطة محلية (مكان خدمة العلم)، بدل تركها لتكون تابعة لمصالح وغايات دولية وإقليمية، أو الدخول في معارك معها سوف تُخلّف الكثير من الضحايا في صفوف المدنيين، مع دمار أصبح سمة رئيسية للمدن والبلدات السورية. ربما يكون النظام السوري هو المعطل لذلك كما تناقلت بعض الصحف، وربما لذلك يسعى الروس لكسب تأييد الأتراك في قبول صفقة ما لترحيل جيش الإسلام إلى جرابلس أو منبج، ويبدو أن مساعي الروس قد نجحت في تحقيق ذلك خلال الساعات الماضية، وبالتالي نبقى في انتظار الرد من جيش الإسلام على هذا الخيار الأخير.

على جانب آخر، تغيب مؤسسات ومنظمات الأمم المتحدة عن المشهد الحاصل في الغوطة الشرقية، وعندما تحضر تكون بطريقة ”رفع العتب“ دون تدخّل أو تأثير مباشر، فمجلس الأمن – وبعد تأجيل التصويت مرتين بسبب الاعتراض الروسي على صيغة القرار – يُخرج في ٢٤ شباط ٢٠١٨  القرار رقم ٢٤٠١ والقاضي بوقف الأعمال العدائية لمدة ٣٠ يوماً متتالية في جميع أنحاء سوريا، مستثنياً من ذلك تنظيم ”داعش“ و ”جبهة النصرة“ والكيانات الإرهابية كما حددها مجلس الأمن، مما أعطى روسيا والنظام السوري غطاءً دولياً ليفعلوا ما يشاؤون، بحجة وجود عناصر جبهة النصرة هناك، والذين لا يتجاوز عددهم الـ ٣٠٠ عنصر في القطاع الأوسط، وحين أعربت الفصائل الثلاث في رسالتها إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، وللرئیس الدوري لمجلس الأمن السفير الكويتي منصور العتيبي عن “التزامنا التام بإخراج مسلحي تنظيم هيئة تحرير الشام، وجبهة النصرة والقاعدة، وكل من ينتمي لهم وذويهم من الغوطة الشرقية لمدينة دمشق خلال ١٥ يوماً من بدء دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ الفعلي“ لم تتحرك الأمم المتحدة لايجاد آلية للتنفيذ، مما اضطر جيش الإسلام إلى الاتفاق بشكل مباشر مع وفد الأمم المتحدة الذي دخل مع القافلة الإغاثية في الخامس من آذار لأجل ترحيل الدفعة الأولى من عناصر هيئة تحرير الشام الموجودين في سجونه إلى محافظة إدلب، وأيضاً لم تُحرّك الأمم المتحدة ساكناً عندما قامت قوات أمن النظام السوري باستبعاد نحو ٧٠٪ من المساعدات الإنسانية ومن بينها المواد الطبية من قافلة المساعدات التي دخلت دوما يومها، ولا عندما اضطرت تلك القافلة للخروج مسرعة دون أن تفرغ تسع شاحنات من حمولتها، بسبب القصف المتواصل على المدينة أثناء عملية التفريغ، وأيضاً لم تتحرك مؤسسات الأمم المتحدة الإغاثية لتقديم المساعدة للمدنيين العالقين في مراكز الإيواء المؤقت في مناطق سيطرة النظام.

في النهاية، يبقى المدنيون هم المتضررون الأساسيون، فهم نقطة ضغط للمهاجمين، ودرع واق للمدافعين، حيث تسقط الإنسانية، ويُصادِر السلاح رغبة العاقل في الكلام، وتبقى معظم الاتفاقات والاعتبارات محصورة في السلاح ومن يحمله، وفي ذيل القائمة تجد بنداً يتحدث عن تأمين المدنيين، ومن سخرية الأحداث أن يُنقل بعض من عناصر ”هيئة تحرير الشام“ بأمان إلى محافظة إدلب، في حين يرفض الجانب الروسي أي اتفاقية تشمل خروج من يرغب من المدنيين نحو إدلب، إلا بعد الاتفاق مع فصيل جيش الإسلام.

*مصدر الصورة المرافقة للمقال: REUTERS/Omar Sanadiki

سجالات الهوية الوطنية وغياب دور الدولة

سجالات الهوية الوطنية وغياب دور الدولة

تتميّز الهوية الوطنية بارتباطها الوثيق بمفهوم الدولة الحديثة وحقوق المواطنة المتساوية التي تصنع شعبا، عن مفهوم الهوية بشكل عام والتي تنداح بين الهوية الشخصية أو العائلية التي تقوم على النسب وتستمر في القبيلة والعشيرة وصولا إلى القومية، مرورا بالعصبيات التي تقوم على انتماءات مناطقية ما دون الدولة الحديثة، أو تلك الانتماءات ذات البعد الديني المذهبية والعقائدية، وصولا لانتماءات أيديولوجية وسياسية ليس بالضرورة أن تتوافق مع الهوية الوطنية.

والهوية بشكل عام تميّز مجموعة بشرية عن المجموعات الأخرى، وبداية التميّز التي عرفتها الشعوب وجدت في عصبية النسب أو الدم، التي تطورت داخل مفهوم العشيرة أو القبيلة للوصول إلى عصبية القوم، وفق ابن خلدون “1332- 1406” الذي درس في الجزء الثالث من مقدمة كتابه الأول “الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية”، نشوء العصبية كرابطة نسب أو قرابة، وقد تكون بالولاء أيضاً، مؤكدا أن مفهوم العصبية يتصل أو ينتهي بالضرورة إلى السلطة، حتى قبل نشوء الدولة بالمفهوم الحديث للعقد الاجتماعي، مرورا بكل التطورات اللاحقة التي تطرأ على العمران البدوي أو الحضري، معتبرا أن جميع هذه الصيرورات تمر بأربع مراحل هي الدورة الزمنية التي تستغرقها العصبية بين طور النشوء وطور النهاية، والتي جاءت وفق تقديراته بأربعة أجيال متعاقبة، حسبها بقرابة 120 سنة.

المهم في اجتهاد ابن خلدون، وبغض النظر عن دقة التقدير الزمني، تأكيده على مفهوم الدورة الزمنية، بحيث أن تلك العصبيات التي تتخلق وتؤسس سلطاناً وممالكَ، ستضمر لاحقا وتتلاشى في ظرف ما، مع اضمحلال أو تلاشي تلك العصبية، بمعنى أنه لاوجود لعصبيات أو هويات ميتافيزيقية ثابتة، كالتي نادى بها حزب البعث في شعاره “أمة عربية واحدة … ذات رسالة خالدة”، فهذا الخلود الميتافيزيقي الذي شكل هوس أيدولوجيا وحزب ورئيس خالد، هو مسألة خارج المنطق أو البرهان العلمي، ككل المشاعر والعواطف الشخصية والأيديولوجية.

الهويات في بلاد الشام

ولو نظرنا بمعيار التاريخية إلى “مفهوم العروبة” كهوية مثلا، سنلاحظ أنها اقتصرت في التاريخ القديم على شبه الجزيرة العربية، مع اختلاف التفسيرات في كون اللفظة تشير إلى معنى “البداوة” في اللغات السامية، بينما ينسبها البعض إلى “يعرب بن قحطان” في اليمن، باعتباره وفق الأسطورة الشفاهية أول من نطق العربية، وهذا تعبير خاطئ لمفهوم اللغة وتطورها بالمعنى العلمي والتاريخ أيضا، فيما جاءت لفظة “العرب” في الكتابات العبرية باعتبارها مرادفاً لأولاد إسماعيل وفق الأسطورة التوراتية.

في حين جاءت كلمة “العربية” أوضح في الثقافة الإغريقية “Arabia أو Aravia”، من خلال ربطها بالجغرافيا، إذ استخدمت كبادئة لثلاث مناطق في شبه الجزيرة العربية، وهي: الصحراء العربية “Arabia Deserta”، ومنطقة البتراء “Arabia Petraea” جنوب سوريا، والعربية السعيدة “Arabia Felix”ويقصد بها اليمن السعيد.

لكن الفتح الروماني لبلاد الشام عام 64 ق.م، ساهم بإحلال الهوية السورية مكان الهوية العربية فيما يتعلق بهذه الجغرافيا، حيث تأسست ولاية “سورية “SYRIA، والتي استمرت في ظل الدولة الرومانية ومن ثم البيزنطية لسبعمائة سنة، حتى جاء الفتح الإسلامي عام 637 م، الذي أرخى بظلاله الأيديولوجية الإيمانية على المنطقة، والتي لا تزال تحكم الكثير من الديناميات والصراعات السياسية والاجتماعية فيها.

شكل الفتح الإسلامي قوة صاعدة، استطاعت أن تسيطر إضافة إلى المنطقة العربية المعروفة حاليا، على أجزاء واسعة من افريقيا وآسيا وحتى داخل أوربا أيضا، وشكل الإسلام كدين هوية صاعدة حاولت جبَّ الكثير من الهويات السابقة لها، وأصبح الانتماء للعقيدة الدينية/الأيديولوجيا هو الأساس، “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.”

غير أن الكثير من العصبيات القبلية والعشائرية والأقوامية استمرت داخل الثقافة الإسلامية، بل حكمت الكثير من الصراعات السياسية والمذهبية في فضائها، وما تزال حتى عصرنا الراهن. فالكثير من التناقضات الطائفية والصراعات السياسية التي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى، ليست أكثر من أصداء تلك العصبيات التي حافظت على مكوناتها ما قبل الدولة الحديثة.  

ولو توقفنا مع الخلافة العثمانية التي حكمت المنطقة باسم الإسلام لأربعمائة عام تقريبا، نجد أنها اتكأت على الهوية الدينية/ الإسلام، كما اتكأت على الهوية الجغرافية/ تركيا، لكنها احتفظت بالعصبية القبلية/ العثمانيين، وكانت الجزيرة العربية في عهدهم تكنى باسم “بلاد العرب أو عربستان”، والتي تضم كلاً من بلاد الشام وبلاد اليمن وبلاد العراق. بينما أغلب سكان بلاد الشام كانوا يُعرفون بالهوية السورية.

إشكالية أغلب الإمبراطوريات ومنها العثمانية، أنها حكمت أقواما ودولا وشعوبا غير متجانسة، لذلك كانت العصبية دوما للسلالة الحاكمة التي تمتلك سلطة إخضاع الجميع، وإن استظلت في حالة الدولة العثمانية بالخلافة الإسلامية، حيث كانت كبقية الهويات الكبرى تُخضع أو تؤوي في أحشائها الكثير من الهويات الصغرى كبعض الطوائف والمذاهب، أو بعض الإثنيات والشعوب الأصلية أو المهاجرة، ناهيك عن الانتماءات القبلية والعشائرية، التي تعايشت جميعها في إطار الهوية الإسلامية حتى يومنا.

قررت الخلافة العثمانية في أواخر أيامها عام 1865، دمج ولاية صيدا مع ولاية دمشق لتشكيل ولاية كبيرة، استعادت فيها لأول مرة في العهد العثماني اسم “ولاية سورية”، التي ضمت معظم سورية الحالية وفلسطين وشرق الأردن، والتي تشكل مجتمعة ما يعرف ببلاد الشام، فيما أطلق على المهاجرين من بلاد الشام الذين قصدوا العالم الجديد، وبشكل خاص أمريكا الجنوبية، في ذات الحقبة، لقب “تركو” بمعنى التركي، نسبة إلى دولة الخلافة في تركيا، بينما كان العرب داخل الدولة العثمانية يتوزعون على الكثير من الهويات الصغرى، بعض منها الهوية العربية والسورية، وبعض منها عشائري وقبلي، إضافة لوجود العديد من الأقوام الأخرى التي استقرت في المنطقة تاريخيا بحكم الهجرات أو بدواعي الحروب.

والمفارقة أن أغلب سكان بلاد الشام في تلك الفترة كانوا يعتبرون أنفسهم سوريين، مستعيدين اسم ولاية سورية العثماني، ومن قبله الروماني/ البيزنطي، الذي شكل انتماء لجغرافيا أكثر منه ارتباطا بدولة، ففي ذلك الزمن لم تكن قد عرفت بعد الدول الحديثة في المنطقة، وأغلب سكانها كانوا يكنون بالسوريين أو بالشاميين، فهذا التاريخ أصبح معطى سابقاً، يمكن أن نقرأه أو نحاول تفسيره، لكن لن نستطيع تغييره قط.

الدولة الحديثة

نضطر في حديثنا عن الهوية لاستخدام تعبير “الدولة الحديثة”، والمقصود به هو الحداثة السياسية، وليس الحداثة الزمنية أو العمرانية فقط، لأن السلطة في الدولة الحديثة تستمد مشروعيتها من الشعب الذي يمارس حق الانتخابات والديمقراطية في اختيار ممثليه وحكوماته، وليس من قوة العصبية أو من القوة العسكرية التي تفرض على السكان الطاعة والولاء، لذلك لا يمكن النظر إلى أي من الامبراطوريات أو الممالك التي فرضت ولاء السكان بالقوة، أو أخضعت شعوبا ودولا أخرى لسلطانها، وحتى دول المنظومة الاشتراكية التي حكمت بظل النفوذ الشيوعي، ومن ضمنها مجموعة الدول التي أُلحقت بهيمنتها تحت يافطة حركات التحرر العالمي كدول حديثة، لأن شرعية هذه الدول والأنظمة كلها – تُستمد من القوة التي تُخضع السكان والشعوب، إذ لم تعرف مفهوم الشعب إلا باعتباره رعية أو قطيعاً، لا حق له في الحرية في التعبير أو في الانتخاب، ولم تعترف بمبدأ تداول السلطة، أو دور الانتخابات في التعبير عن الإرادة السياسية.

ظهرت الدولة الحديثة في كنف البرجوازية التي حطمت العلاقات الإقطاعية القديمة في أوروبا، وشكلت رافعة للتحولات الليبرالية الاقتصادية والسياسية لاحقا، وفي إطارها جرى فصل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية عن بعضها، لتبدأ صيغة من الديمقراطية تقوم على تبادل السلطة عبر الانتخابات، والاعتراف لأول مرة بالشعب كمصدر للشرعية، وإحلال علاقات المواطنة التي تنص بالدستور على حقوق وواجبات كل الأفراد والجماعات المنضوية في كنف الدولة، التي تحولت إلى دولة مواطنين متساوين بالحقوق والواجبات، وبذلك يصبحون شعبا، وبالتالي فإن الدولة الحديثة هي دولة المواطنة بامتياز، بعكس كل الدول البائدة أو المعاصرة التي تستمد شرعيتها من سلطة القوة التي تُخضع بها الرعية أو السكان.

تقوم الدولة الحديثة أيضا على ضمان الحياد تجاه المكونات الدينية أو العرقية أو الثقافية، من خلال تأكيد مفهوم الديمقراطية وحقوق الشعب والمواطنة التي أبرزتها نظرية “العقد الاجتماعي”، فيما ظلت دولة الخلافة العثمانية بعيدة عن هذه التأثيرات، بل قاومت رياح التغيير والتحديث حتى بعد هزيمتها في نهاية الحرب العالمية الأولى، وشهدت تردياً مزرياً في الأوضاع الاقتصادية والأمنية بشكل عام.

في لحظة تردي الخلافة العثمانية نشطت الجمعيات والأحزاب التي تعبر عن يقظة الشعوب المنضوية بالقوة تحت سيطرتها، لمقاومة الاستبداد الحميدي، ومن ثم سياسة التتريك التي قادتها الحكومة الاتحادية، واستفادت من المتغيرات السياسية ونشاط البعثات التبشيرية ودور القنصليات التجارية، وصولا إلى المدارس الأجنبية أو الوطنية، وكانت أبرزها الكلية الإنجيلية في لبنان والتي تحولت عام 1922 إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، وبدأ وَسْمُ “السورية” أو “العربية” يظهران في الكثير من المطبوعات والكتب، وحتى في أسماء الجمعيات والنوادي والأحزاب السياسية التي طورت بسرعة من أنشطتها الثقافية المتعلقة بنشر الكتب والمخطوطات العربية، إضافة للاهتمام باللغة العربية والتعليم وإحياء التراث، إلى أنشطة تنويرية وتحررية تذهب باتجاه المطالبة بالاستقلال، وهو ما ساهم ببلورة الوعي القومي لدى السوريين والعرب، دون تناقضات تذكر بين الهويتين السورية والعربية اللتين اتفقتا في مواجهة الدولة العثمانية وسياسة التتريك، كما تميزت هذه اليقظة القومية بإجماع كل رموزها على نبذ الطائفية والتفرقة الدينية، إذ كنت تجد بين أعضائها مختلف الانتماءات المذهبية.

لكن، توجب على تلك الجمعيات والأحزاب التي طالبت بالاستقلال عن الخلافة العثمانية، أن تنتظر نهاية الحرب العالمية الأولى، كي تنطلق باتجاه أحلامها التي أجهضتها محاولات الاستعمار الأنكلو فرنسي الذي جاء يتقاسم تلك البلدان وفق خرائط سايكس بيكو المعدة سلفا، بحيث لم تعرف أغلب هذه الدول الاستقلال الحقيقي إلا مع نهاية الحرب الكونية الثانية.

سورية بعد الاستقلال

خلال ذلك سعت الدول العربية المستقلة حديثا لإقامة مؤسساتها الوطنية ورموزها، فاكتسبت كل منها خريطة وعلما، إضافة للنشيد الوطني والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ووضعت الدساتير، كما سنت القوانين الخاصة بها، والتي تمنح الحقوق وتعيّن الواجبات على كل مواطني هذه الدول، ليصبحوا شعبا تستمد الدولة شرعيتها منه، فتلك المؤسسات والرموز هي التي تغذي الانتماء، وتخلق هوية وطنية للسكان الذين يفترض أن يتحولوا إلى شعب، فالدولة الحديثة كما رأينا تحتاج إلى مؤسسات ودستور يضمن حقوق الأفراد وجميع المكونات، ويسهم بتحولهم إلى شعب في دولة المواطنة المتساوية.

الاستعصاء الذي عرفته سورية وبعض دول المنطقة، أنها انزلقت سريعا باتجاه الانقلابات العسكرية، مؤسسةً شرعيتها على قوة العسكر، الذين دخلوا سوق السياسة كجيش عقائدي مهمته حماية سلطة وهيمنة الحزب الواحد، والذي انتهى إلى سلطة فرد وعائلة حاكمة، تتبنى أيديولوجية قومية شوفينية، رفضت الاعتراف بالأقليات القومية الأخرى التي تتعايش معها داخل الدولة، وابتدعت دمجا مريعا بين القومية والجنسية، بحيث يكتب في خانة الجنسية على هوية أي شخص في سوريا عبارة “عربي سوري”، وهو ما اتكأ عليه وزير الإعلام السابق مهدي دخل الله ليقول على الفضائيات: نحن في سورية لا توجد عندنا بالأساس مشكلة كردية، لأننا نكتب على الهوية لكل السوريين عبارة: “عربي سوري”! وكأن هذه العبارة تكفي لمحو الانتماء الأصلي لكل المكونات في سوريا كالكرد والتركمان والآشوريين والسريان وصولا للأرمن والشركس وسواهم بحيث يصبحون جميعهم عرباً؟

هذا الدمج بين القومية والجنسية قضى أول شيء على إحساس المواطنة، دون أن ندخل في الكثير من التفاصيل الإجرائية، التي حرمت جزءا من السكان، الكرد تحديد، حتى من الهوية الشخصية، بالمقابل نجد أغلب الدول العربية الأخرى تكتفي بذكر اسم الدولة في خانة الجنسية، وهذا يجعل الأرمني على سبيل المثال في دولة كلبنان، ودون الدخول في تفاهة المحاصصة السياسية طائفيا، قادرا على الاعتزاز بهويته اللبنانية، دون أن يضطر لإنكار كونه أرمنياً، فالمواطنة تحوّل الدول إلى وعاء يستوعب كل المكونات. كما الحال في سويسرا مثلاً، فالمواطنة هي تعبير عن انتماء الأفراد للدولة، وهذا الانتماء لا يسلب أيا من الأفراد أو المجموعات المكونة للشعب هوياتهم القومية، وانتماءاتهم الأخرى.

الهوية الوطنية ليس بالضرورة أن تتطابق مع الهوية القومية، كما هو حال الشعب الألماني أو العربي، وحتى الشعب الكردي، فهذه الهويات تتوزع على أكثر من دولة، بالمقابل نجد في كثير من الدول تعدد الهويات والانتماءات، وهذه التعددية لا يمكن صون وحدتها وتحويلها إلى شعب إلا بالمواطنة التي يقرها ويحميها الدستور، بحيث يكون لزاما أن يصون الدستور حقوق جميع الأفراد والقوميات والأديان بغض النظر عن النسب العددية لهم، وهذا ما يُعرف بحياد الدولة تجاه جميع مكوناتها.  

إشكالية الأيديولوجيا البعثية أنها لم تستطع أن تطور “عصبية النَسبْ” التي تحدث عنها ابن خلدون، بل مسختها إلى “النظرية الرحمية” على يد زكي الأرسوزي، المنظر الأول للبعث، الذي اشتق “الأمة” من لفظ “الأم”، واعتبر علاقة الفرد بالأمة كعلاقم الجنين بأمه في “الرحم”، لا يريد له ولادة وعيشا مستقلا، ولا يريد له خيارات واعية ومستقلة بعد الولادة.

الأخطر من ذلك أن هذه الأيديولوجيا الشوفينية، وجدت فضاء يحميها في لحظة صعود حركات التحرر الوطنية في العالم، فمنحها ذلك القدرة على ادعاء أنها ثورية وتقدمية، الأمر الذي يَسّر لها ارتكاب كل موبقات الفساد والدكتاتورية تحت غطاء الشرعية الثورية، المدعومة من الاتحاد السوفيتي السابق في ظل الحرب الباردة، بحيث تحولت تلك الشرعية إلى سلالة حاكمة استولت بقوة الجيش العقائدي على السلطة، ومنحت لذاتها كل الحقوق في الوصاية على البلاد والعباد، والتحكم بهم.

فبررت سلطة البعث ممارساتها الديكتاتورية، كونها تقود مشروعا تحرريا، ألغى حرية الشعب لصالح الحاكم فقط، وبررت الفساد كونها تبني وطنا وجيشا عقائديا، لكنها في الحقيقة لم تبنِ أكثر من آليات نهب لخيرات البلد، ورفعت شعار الديمقراطية الاجتماعية مقابل الديمقراطية الليبرالية، وحرية الأمة مقابل حرية الأفراد، لتتمكن من قمع كل صوت لا يدخل في جوقة الفساد البيروقراطية التي عممتها باسم الدولة والقانون، وأي مطالبة خارج ذلك تعتبر خيانة وطنية!

ولم تحل الأيديولوجيا البعثية دون اتكاء سلطة الأسد على كل موروث التخلف والطائفية، وآليات الفساد والبيروقراطية، في سبيل إخضاع المكونات الاجتماعية وأي صوت معارض لديكتاتوريتها، كما هربت من كل استحقاقات التنمية والتحديث وتطوير البنى الاجتماعية والسياسية إلى فضاءات المقاومة الأيديولوجية والشعاراتية التي أفرغت البلد من كل طاقاتها، ونهبت خيراتها واستنزفت قدراتها الاقتصادية، فأثرت العائلة الحاكمة وحاشيتها، فيما اُفقر باقي الشعب، حتى كادت تتلاشى الطبقة الوسطى باعتبارها خزان الطاقات الشعبية القادرة على التغيير، وغابت الهوية الوطنية لصالح أوهام أيديولوجية وقومية تحلق في فضاءات لا تنتمي للواقع السوري.

تحتاج الهوية إلى شعور بالانتماء والقبول، الأمر الذي لا يمكن فرضه بالقوة، فالقوة العسكرية يمكن لها أن تخضع الآخرين شعوبا وأفرادا، لكنها تبقى عاجزة عن تخليق هذا الانتماء والقبول بالمشروع السلطوي، وهذا يفسر فشل كل محاولات النظام الشوفينية لصهر المكونات القومية الأخرى وقمع معارضيه، بل يمكن التأكيد أن فساد النظام وتعسفه في التعامل مع المعارضة أديا إلى عكس ما أراد بالضبط، حيث ساهم ذلك الفساد والتعسف مع سياسات الافقار والتهميش في إيقاظ وتعزيز تلك النزعات القومية والتحررية المقموعة لدى باقي السوريين، وأعتقد أن هذا الأمر شكل أحد أهم أسباب الانفجار الذي حصل في آذار عام 2011، بالتزامن مع الانفجارات التي حدثت في تونس ومصر وامتدت لاحقا إلى كل من ليبيا واليمن.

ما حدث في هذا الانفجار الذي عُرف بـ”الربيع العربي” هو ثورة شعب هبّ بكل أطيافه يطالب بالحرية والعدالة وإسقاط أنظمة الاستبداد التي حكمته لعقود طويلة، ثورة شعب أراد أن يتظاهر بسلمية مطلقة ضد الفساد والديكتاتوريات التي ألغت كل الحقوق في سبيل الحفاظ على سلطتها بالقوة، ونقول عنها ثورة، ونحن ندرك المآلات المأساوية التي قاد نظام الأسد وحلفاؤه إليها عبر فرض العسكرة والتطييف على سورية والسوريين، نظام لم يتورع عن استخدام كل أسلحة القتل والتدمير وما زال، وأخطر هذه الأسلحة كان تمزيق النسيج الاجتماعي للسوريين، لأنه كنظام لم يكن في يوم ما معنيا ببلورة الهوية الوطنية فحسب، بل على العكس، كان يستشعر الخطر على سلطته من تعبيرات الشعب أو الديمقراطية أو الحقوق. وأكبر خطأ يمكن لباحث أن يقع فيه هو مجرد النظر إلى هذه المآلات التي نتابعها يوميا في سورية، بغض النظر عن القوى والآليات التي دفعت باتجاهها.

لم تكن سلطة البعث في سورية معنية بتطوير الهوية الوطنية وحمايتها كإحدى وظائف الدولة، بل على العكس حاربتها بقوة، كما حاربت كل الانتماءات الدينية والقومية، باعتبارها سلطة حزب تقدمي وعلماني، وكانت تمنع في إعلامها أي ذكر للطوائف أو الطائفية، لكنها كسلطة ديكتاتورية عجزت عن بناء وحماية هوية وطنية جامعة لكل مكونات الدولة، بل هي لم تُرد ذلك أصلا، وليس سرا أن انتخابات حزب البعث والمنظمات الملحقة به وحتى تشكيل الوزارات وتعيين رؤساء التحرير كانت تدار كلها على أسس المحاصصة الطائفية أولا، والقبلية أو العشائرية في بعض المحافظات والمدن.

وبعد أن دمر الأسد الصغير سورية، وقتل وشرد نصف السوريين، عملا بشعار “الأسد أو نحرق البلد”، لم يكتف بالاحتماء في كنف الطائفية، كحامي للأقليات، بل استورد كل المخزون الطوائفي في المنطقة والعالم، ليقاتل معه وضده أيضا، من أجل إثبات أن ما يجري في سوريا هو مؤامرة يقودها متطرفون إسلاميون للقضاء على نظامه العلماني التقدمي.

وبكل أسف كانت استجابة الإسلاميين عالية في سوريا لخوض صراع عسكري مع هذا النظام ال، وكانت أغلب، إن لم يكن كل الفصائل المقاتلة في سوريا مع النظام وضده دون الهوية الوطنية، فالأسلمة والعسكرة أخرجت السوريين نظاما ومعارضة وشعبا من المعادلة، وبات الصراع في سورية وعلى سورية رهن الإرادات والمصالح وتصفية الحسابات الدولية والإقليمية، وإن كان ثمن هذه الصراعات دمار سورية ودماء السوريين.

السوريون كأي شعب ليس لهم مصلحة باستمرار القتل في كل الجغرافيا السورية، والنظام الذي ارتهن لموسكو وإيران لا يطمح لأكثر من بقائه في السلطة، والمعارضة بكل فصائلها السياسية والعسكرية الآن، بما فيهم وحدات حماية الشعب P.Y.D لم يرتقوا لتمثيل سوريا ومصالح السوريين بالمعنى الوطني، رغم رفضنا القاطع لدخول تركيا إلى عفرين، فإذا كان لتركيا مشاكل مع أكرادها، فإن كرد عفرين سيبقون جزءاً من الشعب السوري، رغم أن الصراعات الدموية التي باتت عنوانا لما يحدث في سورية، أفقدت الناس أية أوهام بشأن الانتصار، حتى الانتصارات العسكرية التي يحققها الروس والإيرانيون، لن تمنح النظام أي أمل  يعيد له شرعية حكم سورية، إذ بات ذلك شبه مستحيل في هذا الصراع المتشابك إقليميا ودوليا في المدى المنظور. والسوريون وحدهم، وبكل مكوناتهم، من يدفع ثمن هذه الحرب وتلك الصراعات.

هذه الرمادية المحبطة دفعت الكثير من السوريين للبحث عن هويات أصغر أو أكبر، ودخل بعضهم في تحالفات خارجية لم تزد أمرهم إلا تعقيدا، ولن يجدينا استجداء الحلول من روسيا أو أمريكا أو تركيا، لا بخصوص وقف الحرب، ولا بشأن الدستور أو غيره، فالسياسة بالنسبة للدول الخارجية هي مجرد مصالح، وهذا مازال يعرقل حتى الآن ظهور أي مشروع وطني حقيقي يعيد لسورية وللسوريين انتماءهم وأحلامهم التي صدحوا بها في بداية الثورة “واحد واحد واحد … الشعب السوري واحد”.

هل يمكن للسوريين استعادة ذلك المشروع الوطني السلمي الذي يطالب بدولة المواطنة والمساواة والديمقراطية، التي تحترم حقوق كل مكوناتها الفردية والقومية، وتؤسس لدستور يصون حياد الدولة تجاه تلك المكونات وتجاه الأفراد؟ وهل يملك السوريون بعيدا عن هذا الحل أية إمكانية حقيقية لوقف القتل والدمار؟ وهل يمكننا بعيدا عن الهوية الوطنية الواحدة أن نستعيد إمكانية العيش المشترك في سورية؟

الهوية مسألة تنمو مع الأفراد والشعوب، وتتخلق في مشاعر وانتماءات وجدانية يصعب القضاء عليها بالعنف، وإن تم كبتها لفترة ما، وهي غير عقلانية بمعنى أنها لا تخضع لمعيار الصح والخطأ، فلكل منا هوياته المتعددة الصغرى والكبرى، ابتداء بالهوية الشخصية والعائلية والقبلية، واستمرار بهويات مناطقية أو هويات مذهبية دينية وعقائدية أو أيديولوجية، وفي كثير من الأحيان تتصارع هذه الهويات في دواخلنا وأفكارنا، وتتصالح أحيانا، كما تتشابك في العالم الموضوعي فتتناقض وتتصارع أو تتصالح.

ربما في لحظة الصراع التي أشرنا إليها يخال البعض أن بمقدوره التخلي عن هوية ما، وكثيرا ما يحدث ذلك، إلا أن المعيار الجمعي يُصر على إبقاء هؤلاء الأفراد ضمن منظور الهوية المسبقة التي اكتسبت عبر الزمن، فهويتك ليس ما تعتقده أنت فقط، بل ما يُنظر به إليك، وكثيرا ما يُعاني المثقفون من هذه الأزمة، وحتى بعض الدول التي غادرت قطار الماركسية قبل أن يصل غودو، كما حصل في روسيا الاتحادية، إذ نجد الكثير من اليسار الدوغمائي لايزال يعتبرها وريثة الاتحاد السوفيتي!  

الحل لا يكون بإلغاء الهويات الكبرى أو الصغرى، بل يكون باحترام كل الهويات والانتماءات والعقائد في إطار دولة المواطنة المتساوية والمشروع الوطني الوحيد الذي يحيلنا من مجموعات إلى شعب، عندها فقط يمكن لنا أن نفكر جديا ببناء مستقبل أفضل.