تدريباتنا

حلب، روحاً وتاريخاً في رواية “خاتم سليمى” للروائية ريما بالي

بواسطة | فبراير 21, 2024

“إن حياة الإنسان يا سلمى لا تبتدئ في الرحم، كما أنها لا تنتهي أمام القبر، وهذا الفضاء الواسع المملوء بأشعّة القمر والكواكب لا يخلو من الأرواح المتعانقة بالمحبّة والنفوس المُتضامنة بالتفاهم”. نعم الأرواح أثيرية لا تنتهي بالقبر ولا تبدأ بالرحم، تستلهم ريما بالي هذا المعنى من جبران خليل جبران في روايتها “خاتم سليمىالصادرة عن تنمية لعام 2022، والتي دخلت بالقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لعام 2024 لتوحي لنا منذ البداية أنها تأخذنا إلى عالم الروحانيات الصوفي، أجواء وظفتها لوصف عبق المدينة وإرثها الحي وكل ما تذخر به ذاكرتها عن مدينة حلب ورائحة التوابل والغار وحبة البركة والزنجبيل، إلى آثارها؛ قلعة حلب؛ الخانات وأزقتها وحاراتها، إلى صناعاتها التقليدية كالسجاد اليدوي والصابون، كما تعرج على عاداتها وتقاليدها وموسيقاها، عادات الأكل والملبس وما تتميز به من تنوع ثقافي وعرقي واجتماعي، فحلب تجمع  فسيفساء بشرياً متناغماً مع أصولها العريقة كأقدم مدينة مأهولة في التاريخ ، دون أن تغفل عن الواقع الذي انقلب، كيف خربت الحرب المجنونة كل هذا الجمال، الحرب التي دارت رحاها في السنوات الأخيرة وتسببت بكل ذلك الخراب والموت والتهجير لناسها وأبنائها وما خلفته من شرخ عميق في البنيان المجتمعي الذي كان تعدده أحد أهم ميزاته وخصاله البارزة.  

تعلن بالي في منجزها حضور المكان بكل تفاصيله وجماليته إذ يبرز بطلًا أساسيًا في لعبتها السردية، وهو يختزن عبق التاريخ وبخوره وروائحه التي تشي بملامح حلب الثقافية وطقوسها حيث الموسيقا؛ السياحة التراثية؛ تقاليد حلب في الإفطار والسحور أيام رمضان، وأصناف الطعام الشهيرة ذات النكهة المميزة لحلب من الكبة للفتوش للمحمرة إضافة لإضاءتها على واقع الصناعات الشعبية التراثية مثل السجاد والتحف والأنتيكات لتعرج بعدها على الحرب والدمار الذي لحق بمناطقها الأثيرة ذات التاريخ والحضارة، فكل حرب خاسرة مهما كبرت أوهام النصر لدى أي طرف كان، كانت حلب المدينة التي تنزف وتحترق وكل ما عداها تفاصيل قد نتفق حولها وقد نختلف.

هذا الإسهاب في الوصف كان عميقًا وحميميًا لتبيان ذلك التناقض الحاد بين الثنائيات المتعارضة بين ما كان وما صار، بين الجمال وبين القبح، بين أيام الحرب وأيام الدعة والسلام.

من عنوان العمل يتضح أنها توظف حكاية خاتم سليمان بالقص التوراتي “خاتم سليمان منحه الرب لنبيه سليمان، خاتم ذو قدرات خارقة أهمها التحكم في الجن والتحدث مع الحيوانات إلى أن حدثت واقعة سرقة كبير الشياطين للخاتم وتشكله بصورة الملك سليمان وجلوسه مكانه على العرش”. تسقط الكاتبة الحكاية على قصة الحب التي تعيشها البطلة سلمى بين المستشرق شمس الدين الذي استوطن حلب وعشقها ولوكاس الإسباني من جذور يهودية والخاتم الذي يتحرك بينهما، مع تخوم ضائعة الدلالة لرمزية كل منها لتنهي العمل بذلك الالتباس الذي يصيب القارئ بالحيرة والتساؤل وبذلك تكون أدخلته في شرك لوثة الخاتم أهو مع شمس الدين أم مع لوكاس، من فيهما القديس ومن هو الشيطان، من هو الحي ومن هو الميت، من منهما الأثير إلى النفس ومن منهما الخيار الأفضل.

تتركنا الكاتبة في فضاء التخمين والتخيل في تقصي لعبتها التي تفضي أخيرًا لضياع الخاتم، الخاتم الذي ينتظر القرين المناسب في رمزية الحبيب والمنقذ للحبيبة والمدينة.

 ريما بالي الذي حفل رصيدها السردي بأربع روايات هي “غدي الأزرق” و”ميلاجرو” (المعجزة بالإسبانية) و “ناي في التخت الغربي”كانت “خاتم سليمى” قبل الأخيرة منها لم تلتزم فيها بالترتيب المتسلسل للأحداث فكل حكاية ترصدها في زمن سابق أو لاحق ليكون على القارئ عبء لملمة الحكاية وترتيب أحداثها وفق تصوره وخياله مشركة إياه في تساؤلات عدة نلحظها من خلال حوارات أبطالها كشمس الدين العارف الذي يعرف كل شيء ولوكاس الذي لا يعرف، وكيف يعرف المرء نفسه، وماذا يريد وهل تعرف سلمى نفسها وهل المعرفة نهائية يا ترى، إذ نعرف أن الذات نفسها متغيرة نتيجة تفاعلها مع الظروف المحيطة وحسب تبدلات الزمان والمكان، وقد تتطور وتتقدم إلى الأمام وقد يحصل العكس، وتساؤل آخر عن ماهية الحب وهل هو وهم أم حقيقة، ليأتي الجواب الصادم من قبل شمس الدين بأنه كيميا، يأتي نتيجة تفاعلات بين عناصر معينة، هذه الإجابة التي جاءت بعيدة عن منطقه الصوفي فعلى الرغم من أن الصوفية توهان في ماورائيات وتجليات لاستنارة روحانية جاء تفسيره أقرب للعلم والمنطق وربما لنفسر عدم تجاوبه مع مشاعرها وجعلها قيد انتظار الزمن بالنزعة النرجسية له فلأننا نحب أنفسنا نحب استمرار عشق الآخرين لنا ومن ناحية أخرى قد نفسر الأمر بخوفه من تكرار تجربة أمه بهروبها مع شخص آخر بعد انتهاء أحاسيسها تجاه أبيه،  ما جعله يبعد الصبية عنه بشكل جزئي.

من اللافت للنظر إصرار بالي على طرح نماذج لشخصيات لأمهات لا تحكمها العاطفة مثل (لولا –أم لولا –أم شمس الدين-جدتها القاسية التي لم تلتقها إلا عندما فقدت ذاكرتها) في فكرة التخلي عن الأبناء لصالح عشق أو قناعة ما، وهذا يقودنا إلى طرح التساؤل التالي: ماذا عن الآخر الأب وماذا عن مسؤوليته كذلك وما دوره وهل نفهم أنها نزعة ذكورية لدى الكاتبة؟

قضايا اجتماعية متعددة تثيرها ابنة حلب أهمها الزواج المختلط لتعطي فكرة عن الأنساق الثقافية السائدة وجانب آخر للتنوع المجتمعي غير المتصالح مع بعضه والذي يرفض اقتران طائفة من طائفة أخرى بقضية النسب والمصاهرة، وهو شرخ تم استخدامه للتفريق بين أطياف المجتمع لاختراقه بالحرب الكارثية التي اشتعلت بالبلد حيث الروايات خزان التاريخ الذي لم يدون بعد ولكننا نلتقطه في ثنايا الحكاية.

تجري الكاتبة  تناصاً مع موروث الحكايا الشعبية وتوظفها لصالح العمل في نوع من المحاكاة لقصة السندباد وبساطه الطائر في متخيلها عن سجاجيدها اليدوية وفضاءات العالم الذي نسجته المتأرجح بين الواقع والخيال،  فما أن يستلقي الشخص  على سجادة منها يرافقه اشتعال شمعة إلى نهايتها، حتى يبحر في عالم لازوردي تهويمي من الأحلام والآمال، ما يكاد أشبه بنبوءة أو نوع من الإشارة لما سيحدث؛ أو نوع من الاستخارة لمشكلة أو موضوع أو رأي، هذه السجادة التي يطير فيها المستلقي على أعنة الحلم والخيال كنوع من المشابهة بين  بساط سندباد الطائر الذي يطير به وينقذه من خطر محدق أو يسارع به بالوصول لإنقاذ أحد ما، ليكون بوابة التحليق في الخيال لصالح نبوءة أو رأي ويأتي حلًا لأمر مؤرق.

تحمل خيوط السرد بالتناوب على لساني لوكاس وسلمى، وتأتي قفلة العمل إبداعاً آخر مبلبلاً لانتباه القارئ ومشتتًا لقناعته في لملمة أطراف الحكاية المسرودة، عندما تخاتله في الفهم الملتبس بين الحياة والموت، بين لوكاس وشمس الدين، من الذي بقي ومن الذي مات لتبقى النهاية مجهولة وليبقى الاحتمال معلقًا ومفتوحًا وفق رؤى تبقي الحوار قائمًا حول الفكرة والقضية ولا تنتهي بانتهاء العمل.

*ملاحظة: تم حديثاً اختيار رواية “خاتم سُليم” ضمن القائمة القصيرة لـ “الجائزة العالمية للرواية العربية” (بوكر العربية) في دورتها الـ17، وسيُعلن عن الرواية الفائزة في أبو ظبي، بتاريخ الـ28 من نيسان|إبريل 2024.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

تدريباتنا