تدريباتنا

الأمومة واقع جديد واحتفالات مشتتة

بواسطة | مارس 21, 2023

 تغيرت الصورة، يبدو المشهد العام مشوشاً، والأمهات يقفن على أعتاب القهر بصمت شديد، باتت الأمومة مخلباً يجرح القلوب ويوقظ ذاكرة القلب الموجوع بالغياب، فينساب التعب ملوثاً بشوق عصي على الاستجابة.

طالما كان عيد الأم مناسبة لهدية مميزة، ضخمة وغالية الثمن، ولطالما سعى الأبناء والبنات وبمشاركة الزوج أحياناً لشراء هدية جماعية وإن سعى البعض لشراء الذهب حسب مقدرتهم. لكن الغالبية توافقت فيما يشبه العرف على شراء هدية منزلية مثل طقم من القدور أو غسالة أو مجموعة كبيرة من الصحون وأدوات المطبخ.

تلعب الصورة النمطية لأدوار النساء الاجتماعية دوراً بالغاً في تضمين عيد الأم لمعنى وشكل الهدية، هي هدية تبعية متضمنة حكماً للقالب الاجتماعي التوصيفي لمهام النساء، كالطبخ والتموين وإعداد الولائم في المناسبات العائلية والغسيل وسواه من أدوار الرعاية المنزلية. المؤسف أن الهدايا رحلت مع البيوت وبقي الدور الوظيفي للنساء كما هو بفارق بسيط لكنه مؤلم وهو تشتت شمل العائلة. رحلت البيوت بهداياها وما ابتلعته الحرب أكمل عليه الزلزال، وما تبقى من البشر بعد قضم الحجر ابتلعته الهجرات.

تحتفل الأمهات اليوم بأعيادهن على شاشات الهواتف الجوالة، يستقبلن أحفادهن الذين ولدوا بعيداً جداً وخارج أسوار البلد العصي على استقبالهم على شاشات الهواتف الجوالة أيضاً. أعراس الأبناء والبنات، نجاحاتهم واحتفالات تخرجهم، رحلاتهم، مواعديهم العاطفية، وحتى لقاءات الأخوة والأخوات ببعضهم في بلدانهم الجديدة المختلفة تتابعها الأمهات عبر الشاشات الموصوفة بالذكاء والغارقة في الهجران والقسوة والاغتراب.

يتعامل الأبناء مع المستجدات اليومية بعين حذرة، يعرفون كل ما يحدث في بلدهم، أخطاء طبية بالجملة، فقدان الدواء، عجز الأمهات الجلي والواضح عن تأمين احتياجاتهن اليومية بسبب الغلاء أولاً وبسبب تردي أنواع الخدمات المقدمة وغياب أهمها كالكهرباء والماء والمواصلات.

قررت سمر أنها ستهدي أمها في يوم عيدها دعوة إلى الغداء تجتمع فيه مع شقيقاتها. يعتقد الأبناء والبنات أن تلك الدعوة هي هدية مميزة وغير تقليدية وتسعد الأمهات، لكن الأمهات لا يفكرن بالدعوات ولا يرغبن بها، يردن لقاء حقيقياً، احتضاناً شغوفاً واقعياً يمتزج فيه الجسد بالجسد وتحدق العيون بالعيون وتسمع الآذان صوت الأنفاس وصدى العواطف، باتت جملة: (المهم أنتم بخير) كذبة كبيرة ملت الأمهات من ترديدها وملّ الأبناء والبنات من سماعها.

بالأمس حصلت مرام على قسيمة تموينية بقيمة مائتي ألف ليرة كهدية مسبقة لعيد الأم من شقيقها المقيم في ألمانيا، لم تفرح بها لأنها لا تغني عن جوع تعانيه مرام مع طفلها الوحيد، تسكن في منطقة بعيدة جداً عن مركز المدينة، والمواصلات متقطعة، ما اضطرها لمغادرة بيتها في الثامنة صباحاً لتتمكن من الوصول والعودة قبل العتمة وقبل توقف المواصلات بسبب البعد وشح المازوت، اصطحبت معها طفلها، وفي مركز استلام مواد القسيمة، أعلنت لطفلها أنه حر في اختيار كل ما يشتهيه، تركت له حرية اختيار المواد التي تغطيها القسيمة، وكأنها تمنحه تعويضاً عن قسوة الحياة والحرمان الذي يعيشه. حدثٌ سيقول الجميع بأنه خاطئ ومفرط في عاطفيته وسذاجته، لكنه محاولة بائسة لإسعاد طفل محروم من الأب ومن السند العائلي ومن الأساسيات الضرورية للعيش ولتنشئة طفل ضئيل الحجم وبلا مدرسة أو رعاية وفاقد للاحتياجات الأساسية.

ثمة عنف جديد يحاصر الأمهات، في مراكز الإيواء التي ضمت الأمهات وأطفالهن الهاربين من الزلزال بعد فقدان المنازل أو تصدعها، تحولت الأمهات إلى مشاجب تحمل أخطاء أبنائها في بيئة محصورة وضيقة وخانقة. تم تأطير النساء هنا وخاصة الأمهات بأطر تقييمية قاسية يفرضها الأقوى والمتحكم بالمكان. ارتبطت كل الأخطاء بالأمهات حكماً، من بكى ابنها فهو طفل لم تضبط أمه مشاعره ولم تقوّم سلوكه كما ينبغي كي تحوز على رضى المجتمع، ومن بكت من الأمهات وصفت بأنها امرأة عاطفية وضعيفة وهشة وغير جديرة بأن تكون أماً مسؤولة عن حماية وتربية أبنائها وبناتها. ومن سرق طفلها قطعة من البسكويت أو تفاحة أو ضرب طفلاً آخر وصفت الأم بأنها هي من علمته أو دفعته للسرقة أو للاعتداء على طفل آخر.

ثمة واقع جديد تفرضه تفاصيل العيش غير الآدمية التي يعيشها الأبناء والأمهات معاً. في الحافلة الصغيرة تجلس أم وابنتها التي ولدت طفلاً مريضاً ويخضع الآن للعلاج في المنفسة، بدلاً من تهدئة الابنة تعبر الوالدة عن فرحتها بأنهم وجدوا جمعية تتبنى علاج الطفل لعجزهم عن علاجه. تقول الأم لابنتها: “الحفاضات من نوع ليبرو، وهي الحفاضات الأغلى ثمناً بين أنواع الحفاضات لجودتها.” في بلد تلجأ فيه الأمهات إلى استعمال الحفاضات التي تباع فرطاً وبالقطعة ومن النخب الثالث وربما الخامس وهي غير معقمة أصلاً والمطاط المحيط بها قاس ويسبب الحساسية لبشرة الأطفال الرقيقة.

تُعبر البنت عن قلقها بدموع محبوسة، لكن الأم تمنعها من البكاء بذريعة أن ذلك يوازي التشكيك بعدم نجاة الطفل، هكذا إذن تحرم الأمهات حتى من التعبير عن القلق على أطفالهن بغطاء من قيم تقليدية تشكك بالدعاء أو بالإرادة الغيبية المهيمنة.

والأمهات الوحيدات كيف يحتفين بيومهن؟ باتت كل الاحتفالات مكروهة، مناسبة لتذكر ماض لم يكن وردياً لكنه أفضل من أحوالهن اليوم. واقع بلا أي ضمان ولا أمل أو ثقة بأنهن سيبقين محميات أو سالمات أو أنهن سيمتن بحضور الأبناء والبنات والأحبة. تعبر أمل صراحة عن سعادتها الغامرة بسفر أولادها، تغص بدموع الشوق، لكنها تتابع قائلة: “أنا عاجزة حتى عن إعداد قالب كاتو منزلي، لا غاز ولا كهرباء ولا قدرة  مادية على شراء مكوناته، سأحتفل بنفسي وحيدة كي أضمن بقائي متمكنة من شراء حاجاتي الأساسية.” وتضيف: “العيد مجرد ذكرى ومشاعر داخلية عليها ألا تهدر مقتنياتي الشحيحة.”

 تغدو الأمومة بحد ذاتها إطاراً قاسياً ومجهداً للنساء، يُفرض على البعض ولادات جديدة رغم أن لهن عدداً كافياً من الأبناء أو البنات، وتحرم أخريات منه لأنهن زوجات لرجال متزوجين، تزوجن وقبلن زواجاً عرفياً أو سرياً طلباً للمأوى أو للدخل وربما فقط للحماية من استبداد أفراد العائلة والأقارب أو من المتحرشين والمستغلين والمتحكمين بالموارد وحتى بلقمة الطعام.

يتحول الأبناء فجأة إلى حوامل للضغط على الأمهات والنساء، تضطر النساء وخاصة الأمهات لاستنزاف طاقتهن وعواطفهن وقدراتهن الجسدية والنفسية لحماية الأبناء والبنات. تصير الأمومة مصدراً للقهر والخوف والتعب، تغدو الأمومة كما الحياة عملاً شاقاً في إطار عام غير إنساني وعنيف ينحدر بسرعة نحو الدرك الأسفل، درك مضيع للحقوق وهادر لمقومات العيش اللائق بالأمهات وبالأبناء وبالجميع. تتحول الاحتفالات مهما تغيرت لتلبية الاحتياجات الكبيرة والمتجددة، إلى مناسبات للبكاء وتأكيد الفقدان وتثبيت العجز، عجز شامل ومتمكن وهادر للقوة ولأمل.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

تدريباتنا